حياة الامام الحسين عليه السلام الجزء ١

حياة الامام الحسين عليه السلام13%

حياة الامام الحسين عليه السلام مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 442

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 442 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 169964 / تحميل: 6206
الحجم الحجم الحجم
حياة الامام الحسين عليه السلام

حياة الامام الحسين عليه السلام الجزء ١

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

العظيم بعد عزله الوليد بن عقبة ؛ لاقترافه جريمة شرب الخمر ، وقد استقبل الكوفيون واليهم الجديد بالكراهية وعدم الرضى ؛ لأنه كان شاباً مترفاً متهوّراً لا يتحرّج من المنكر. يقول المؤرّخون : إنّه قال مرّة في رمضان : مَنْ رأى منكم الهلال؟ فقام الصحابي العظيم هاشم بن عتبة المرقال فقال : أنا رأيته. فلم يعنَ به وإنما وجَه إليه منكر القول وأقساه ، قائلاً :

بعينك هذه العوراء رأيته؟!

فالتاع هاشم وانبرى منكراً عليه قائلاً : تعيّرني بعيني وإنما فُقئت في سبيل الله! وكانت عينه اُصيبت يوم اليرموك.

وأصبح هاشم مفطراً ؛ عملاً بقول رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : «صوموا لرؤيته ، وأفطروا لرؤيته». وفطر الناس لإفطاره ، وانتهى الخبر إلى سعيد ، فأرسل إليه وضربه ضرباً مبرحاً وحرق داره ، وقد أثار ذلك حفائظ النفوس ونقم عليه الناس ؛ لأنه اعتدى بغير حق على علم من أعلام الجهاد في الإسلام(١) .

وكان سعيد في منتهى الطيش والغرور ، فقد اُثر عنه أنه قال : إنما السواد ـ يعني سواد الكوفة ـ بستان لقريش. وأثار ذلك عليه موجة من الغضب والاستياء ؛ فقد اندفع زعيم الأحرار مالك الأشتر راداً عليه قائلاً : أتجعل مراكز رماحنا وما أفاء الله علينا بستاناً لك ولقومك؟! والله ، لو رامه أحد لقرع قرعاً يتصأصأ منه.

وهكذا اتّخذ الحكم المنحرف الذي فرض على الاُمّة بقوة السيوف خيرات المجتمع بستاناً لقريش التي ناهضت الإسلام وناجزته الحرب.

وانضم قرّاء المصر وفقهاؤهم إلى الزعيم مالك الأشتر مؤيدين مقالته ، ومنكرين

__________________

(١) حياة الإمام الحسن (عليه السّلام) ١ / ٢٤٠.

٣٤١

على الوالي غروره وطيشه ، وغضب مدير شرطة سعيد فرد عليهم رداً غليظاً فبادروا إليه فضربوه ضرباً عنيفاً حتّى أغمي عليه ، وقاموا من مجلسه وأطلقوا ألسنتهم بنقده ، وذكر مثالب عثمان وسيئاته ، وأخذوا يذيعون سيئات قريش وجرائم بني اُميّة ، ورفع سعيد من فوره رسالة إلى عثمان أخبره فيها بشأن القوم ، فأجابه عثمان بأن ينفيهم إلى الشام ، وكتب في نفس الوقت رسالة إلى معاوية يأمره فيها باستصلاحهم.

ولم يرتكب هؤلاء الأحرار إثماً أو فساداً ، ولم يقترفوا جرماً حتّى يقابلوا بالاضطهاد والنفي ، وإنما نقدوا أميرهم ؛ لأنه قال غير الحقِّ ، وشذّ عن الطريق القويم ، وقد منح الإسلام الحرية التامة لنقد الحاكمين والمسؤولين إذا شذّوا في سلوكهم وجاروا على رعيتهم ، وجعل هذه الحرية حقّاً ذاتياً لكلِّ مواطن ، وألزم الدولة برعايتها وتوفيرها للناس.

وعلى أي حال ، فقد قامت السلطة بإخراجهم بالعنف والقهر من أوطانهم وأرسلتهم إلى الشام ، فتلقّاهم معاوية وأمر بإنزالهم في كنيسة ، وأجرى لهم بعض الرزق ، وجعل يناظرهم ويعظهم ، ويحبّذ لهم مسالمة السلطة والرضى بسياستها ، إلاّ أنهم لم يستجيبوا له ، وأنكروا عليه ما قاله سعيد : من أن السواد بستان لقريش ، معلنين على أنه لا ميزة للقبائل القرشية على غيرها حتّى تختصّ بخيرات البلاد.

ولما يئس منهم معاوية كتب إلى عثمان يستعفيه من بقائهم في الشام ؛ خوفاً من أن يفسدوا أهلها عليه ، فأعفاه عثمان وأمره بردّهم إلى الكوفة ، فلمّا عدوا إليها انطلقت ألسنتهم بالنقد في ذكر مثالب الاُمويِّين ومساوئهم ، ورفع سعيد أمرهم إلى عثمان ثانياً ، فأمره بنفيهم عن وطنهم إلى حمص والجزيرة ، فأخرجهم من وطنهم إلى حمص ، فقابلهم واليها عبد الرحمان بن خالد بأعنف القول وأقساه ، وسامهم سوء العذاب ، وأمعن في إرهاقهم

٣٤٢

والتنكيل بهم ، فكان فيما يقول الرواة : إذا ركب أمر بهم ليسيروا حول ركابه مبالغة في إذلالهم واحتقارهم ، ولما رأوا تلك القسوة أظهروا الطاعة والإذعان للسلطة ، وكتب إلى عثمان في شأنهم ، فأجابه إلى ذلك وأمره بردّهم إلى الكوفة ، ولما نزحوا عن حمص جعلوا طريقهم إلى يثرب لمقابلة عثمان ، فلما انتهوا إليها قابلوه وعرضوا عليه ما عانوه من التنكيل والإرهاق.

ولم يلبثوا قليلاً حتّى فاجأهم سعيد ، فقد جاء في مهمّة رسمية إلى عثمان ، فوجد القوم عنده يشكونه ويسألونه عزله ، إلاّ أنّه أعرض عنهم ولم يستجب لهم ، وألزمهم بالانصياع إلى أوامر واليهم ، كما أمره أن يرجع ويزاول عمله.

وقفل القوم قبله راجعين إلى مصرهم وقد سبقوه إليه ، فقاموا باحتلاله ، وأقسموا أن لا يدخله سعيد ما حملوا سيوفهم ، ثم خرجوا في جماعة مسلّحين بقيادة الزعيم مالك الأشتر حتّى انتهوا إلى (الجرعة) ، فرابطوا فيها ليحولوا بين سعيد وبين دخوله إلى الكوفة ، وأقبل سعيد فقاموا إليه وعنّفوه أشدّ العنف ، وحرموا عليه دخول مصرهم ، فولّى منهزماً إلى عثمان يشكوهم إليه ، ولم يجد عثمان بدّاً من عزله ، فعزله وولّى غيره مكانه على كره منه(١) .

وعلى أي حال ، فإنّ عثمان قد نكل بالناقدين لسعيد بن العاص ، وهم قرّاء المصر وفقهاؤه ، ونفاهم عن أوطانهم من أجل شاب طائش متهوّر ؛ لأنه من اُسرته وذويه ، وكان ذلك من موجبات النقمة عليه لا في الكوفة وإنما في جميع الأقاليم الإسلاميّة التي انتهى إليها أمرهم.

٢ ـ عبد الله بن عامر :

وعبد الله بن عامر بن كريز هو ابن خال عثمان ، وقد ولاّه إمارة

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ / ٨٥ ، تاريخ أبي الفداء ١ / ٦٨ ، الأنساب ٥ / ٣٩ ـ ٤٣.

٣٤٣

البصرة بعد أن عزل عنها أبا موسى الأشعري ، وكان عمره أربعاً أو خمساً وعشرين سنة(١) ، وقد اختاره لولاية هذا المصر العظيم ، وكان الأولى أن يختار له من ثقاة الصحابة وخيارهم ؛ لتستفيد الناس من هديه وصلاحه وتقواه ، وتستمد منه الخير والرشاد ، ولكنه لم يعن بذلك ، وإنما عمد إلى ولايته ؛ لأنه ابن خاله.

وقد سار ـ فيما يقول الرواة ـ سيرة ترف وبذخ ، فكان ولاّجاً خرّاجاً كما وصفه الأشعري(٢) ؛ فهو أول مَنْ لبس الخز في البصرة ، وقد لبس جبة دكناء ، فقال الناس : لبس الأمير جلد دب! فغيّر لباسه ولبس جبة حمراء(٣) . وقد أنكر عليه سياسته وسيرته عامر بن عبد الله التميمي ، كما عاب على عثمان سلوكه وسيرته.

وقد روى الطبري أنه اجتمع ناس من المسلمين فتذاكروا أعمال عثمان ، فاجتمع رأيهم أن يبعثوا إليه رجلاً يكلّمه ويخبره بأحداثه ، واختاروا عامر بن عبد الله لمقابلته ، ولمّا التقى به قال له : إن ناساً من المسلمين اجتمعوا فنظروا في أعمالك فوجدوك قد ركبت اُموراً عظاماً ، فاتّقِ الله عزّ وجلّ وتب إليه وانزع عنها.

فاحتقره عثمان وأعرض عنه ، وقال لمَنْ حوله : انظروا إلى هذا! فإنّ الناس يزعمون أنه قارئ ، ثم هو يجيء فيكلّمني في المحقرات ، فوالله ما يدري أين الله.

وما هي المحقرات التي كلّمه بها؟ إنّه لم يكلّمه إلاّ بتقوى الله والعدل في الرعية ، وإيثار مصلحة المسلمين ، واتّباع سيرة النبي (صلّى الله عليه وآله) ، ولكن عثمان شق عليه ذلك واعتبر نصيحته من المحقرات.

__________________

(١) الاستيعاب المطبوع على هامش الإصابة ٢ / ٢٥٣.

(٢) الكامل ٣ / ٣٨.

(٣) اُسد الغابة ٣ / ١٩٢.

٣٤٤

والتفت إليه عامر فقال ساخراً منه : أنا لا أدري أين الله؟!

ـ نعم.

ـ إني لأدري إن الله بالمرصاد.

وغضب عثمان فأرسل إلى مستشاريه وعمّاله فعرض عليهم نقمة المعارضين له ، ونقل لهم حديث عامر معه ، وطلب منهم الرأي في ذلك ، فأشار عليه ابن خاله عبد الله بن عامر قائلاًَ : رأي لك يا أمير المؤمنين أن تأمرهم بجهاد يشغلهم عنك ، وأن تجمهرهم في المغازي حتّى يذلّوا لك ، فلا يكون همّة أحدهم إلاّ نفسه ، وما هو فيه من دبر دابته وقمل فروته.

وأشار عليه آخرون بخلاف ذلك ، إلاّ أنه استجاب لرأي عبد الله الداعي إلى مقابلة الناقمين عليه بالعسف والعنف وردّ عماله ، وأمرهم بالتضييق على المعارضين له ، كما أمرهم بتجمير الناس في البعوث ، وعزم على تحريم عطائهم حتّى يشيع الفقر والبؤس فيهم فيضطروا إلى طاعته(١) .

ولمّا قفل عبد الله بن عامر إلى البصرة عمد إلى التنكيل بعامر بن عبد الله ، وأوعز إلى عملائه أن يشهدوا عليه شهادة زور وبهتان بأنه قد خالف المسلمين في اُمور أحلّها الله ، وأنه لا يأكل اللحم ، ولا يرى الزواج ، ولا يشهد الجمعة(٢) ، ودوّن شهادتهم بذلك ورفعها إلى عثمان ، فأمره بنفيه إلى الشام ، وحمله على قتب حتّى يشقّ عليه السفر.

ولمّا انتهى إلى الشام أنزله معاوية (الخضراء) ، وبعث إليه بجارية لتكون عيناً عليه ، وتنقل له أخباره وشؤونه ، وأشرفت عليه الجارية فرأته يقوم في الليل متعبّداً ،

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ / ٩٤ ، تاريخ ابن خلدون ٢ / ٣٩.

(٢) الفتنة الكبرى ١ / ١١٦.

٣٤٥

ويخرج من السحر فلا يعود إلاّ بعد العتمة ، ولا يتناول من طعام معاوية شيئاً ، وكان يتناول كسراً من الخبز ويجعلها في الماء تحرّجاً من أن يدخل جوفه شيء من الحرام ، وانبرت الجارية فأخبرت معاوية بشأنه ، فكتب إلى عثمان بأمره فأوعز إليه بصلته(١) .

وقد نقم المسلمون على عثمان ، وعابوا عليه ما ارتكبه في شأن هذا الرجل الصالح الذي أمره بتقوى الله والعدل في الرعية.

وظلّ عبد الله بن عامر والياً على البصرة يسير فيها بسيرة لم يألفها المسلمون ، فلم يتحرّج عن الإثم والبغي والاعتداء ، ولمّا قتل عثمان نهب ما في بيت المال وسار إلى مكة فوافى بها طلحة والزبير وعائشة فانضمّ إليهم ، وأمدّهم بالأموال ليستعينوا بها على مناجزة الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) ، وهو الذي أشار عليهم بالنزوح إلى البصرة والانصراف عن الشام(٢) .

٣ ـ الوليد بن عقبة :

وعهد عثمان بولاية الكوفة إلى الوليد بن عقبة بعد أن عزل عنها سعد بن أبي وقاص الزهري ، وأجمع المؤرّخون على أنه كان من فسّاق بني أمية ومن أكثرهم مجوناً وانحرافاً عن الإسلام ، وهو ممّن أخبر النبي (صلّى الله عليه وآله) بأنه من أهل النار(٣) ، وكان أبوه عقبة من ألدّ أعداء رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، فكان يأتي بالفروث فيطرحه على بابه(٤) ، وقد بصق في وجه النبي (صلّى الله عليه وآله) ، فهدّده (صلّى الله عليه وآله) بأنه إن وجده خارجاً من جبال مكّة يأمر بضرب عنقه ، فلمّا كانت واقعة بدر امتنع من الخروج ، فأصرّ عليه أصحابه بالخروج معهم

__________________

(١) الإصابة ٣ / ٨٥.

(٢) اُسد الغابة ٣ / ١٩٢.

(٣) مروج الذهب ٢ / ٢٢٣.

(٤) طبقات ابن سعد ١ / ١٨٦.

٣٤٦

فأخبرهم بمقالة النبي (صلّى الله عليه وآله) له ، فأغروه وخدعوه ، وقالوا له : لك جمل أحمر لا يدرك ، فلو كانت الهزيمة طرت عليه.

فاستجاب لهم ، وخرج لحرب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فلمّا هزم الله المشركين حمل به جمله في جدود من الأرض فأخذه المسلمون ، وجاؤوا به أسيراً ، فأمر علياً بضرب عنقه ، فقام إليه وقتله(١) .

وقد اُترعت نفس الوليد بالحقد على النبي (صلّى الله عليه وآله) ؛ لأنه قد وتره بأبيه ، وقد أسلم مع مَن أسلم من كفّار قريش ؛ خوفاً من حدّ السيف الذي نزع روح أبيه.

وقد لقبّه القرآن الكريم بالفاسق ، ويقول المؤرّخون والمفسّرون : إنه نزلت آيتان في فسقه :

الاُولى : قوله تعالى :( إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ) (٢) . وكان سبب نزول هذه الآية أنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) أرسله إلى بني المصطلق لأخذ الصدقة ، فعاد إليه وأخبره بأنهم منعوه عنها ، فخرج (صلّى الله عليه وآله) إليهم غازياً فتبيّن له كذبه ونزلت الآية معلنة فسقه.

الثانية : قوله تعالى :( أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا ) (٣) . وسبب نزولها أنّه جرت مشادّة بينه وبين الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) ، فقال له الوليد : اسكت فإنك صبي وأنا شيخ ؛ والله إنّي أبسط منك لساناً ، وأحدّ منك سناناً ، وأشجع منك جناناً ، وأملأ منك حشواً في الكتيبة.

فقال له علي (عليه السّلام) :

__________________

(١) الغدير ٨ / ٢٧٣.

(٢) سورة الحجرات / ٦ ، يقول ابن عبد البر في الاستيعاب ٢ / ٦٢ : لا خلاف بين أهل العلم بتأويل القرآن فيما علمت أنّ الآية نزلت في الوليد.

(٣) سورة السجدة / ١٨.

٣٤٧

«اسكت فإنك فاسق». فأنزل الله فيهما هذه الآية ، ونظم الحادثة حسان بن ثابت بقوله:

أنزل اللهُ والكتابُ عزيزٌ

في عليٍّ وفي الوليدِ قرانا

فتبوّا الوليدُ من ذاك فسقاً

وعليٌّ مبوّأٌ إيمانا

ليس مَن كان مؤمناً عرف اللهَ

كمَن كان فاسقاً خوّانا

فعليٌّ يلقى لدى الله عزّاً

ووليدٌ يلقى هناك هوانا

سوف يُجزى الوليد خزياً وناراً

وعليٌّ لا شكّ يُجزى جنانا(١)

ولمّا عهد إليه عثمان بولاية الكوفة كان يشرب الخمر جهاراً ، وقد دخل قصره وهو ثمل يتمثّل بأبيات لتأبط شراً.

ولستُ بعيداً عن مدامٍ وقَينةٍ

ولا بصفاً صلدٍ عن الخيرِ معزلِ

ولكنني أروي من الخمرِ هامتي

وأمشى الملا بالساحبِ المتسلسلِ(٢)

ويقول الرواة : إنه كان يستمع إلى الغناء ويظل يسمر مع ندمائه ومغنّيه سكراناً من أوّل الليل إلى الصباح ، وكان يؤثر بمنادمته صديقاً له من نصارى تغلب هو أبو زبيد الطائي ، وقد أنزله داراً على باب المسجد ، ثمّ وهبها له ، فكان الطائي يخرج من منزله حتّى يشقّ الجامع إليه فيسمر عنده ويشرب ، فيشقّ المسجد وهو سكران(٣) .

ويقول المؤرّخون : إنه شرب الخمر فصلّى بالناس وهو ثمل صلاة الصبح أربع ركعات ، وصار يقول في ركوعه وسجوده : اشرب واسقني ، ثمّ قاء في المحراب وسلّم ، وقال للمصلّين خلفه : هل أزيدكم؟ فقال له ابن مسعود : لا زادك الله خيراً ، ولا مَن

__________________

(١) تذكرة الخواصّ / ١١٥.

(٢) الأخبار الطوال / ١٥٦.

(٣) الأغاني ٥ / ١٢٢ ، مروج الذهب ١ / ٢٣٢ ، العقد الفريد ٦ / ٣٤٨.

٣٤٨

بعثك إلينا ، وأخذ فروة نعله وضرب بها وجهه ، وحصبه الناس فدخل القصر والحصباء تأخذه وهو ثمل مترنّح(١) . وفي فضائحه ومخازيه يقول الحطيئة جرول بن أوس العبسي :

شهد الحطيئةُ يومَ يلقى ربّهُ

أنّ الوليدَ أحقُّ بالغدرِ

نادى وقد تمّت صلاتُهمُ

أأزيدكمُ؟ ثَمِلاً ولا يدري

ليزيدهمْ خيراً ولو قبلوا

منهُ أزادهمُ على عشرِ

فأبَوا أبا وهبٍ ولو فعلوا

لقرنتَ بين الشفع والوترِ

حبسوا عنانَكَ إذ جريت

ولو خلّوا عنانَكَ لم تزل تجري(٢)

ويقول فيه الحطيئة مرة اُخرى :

تكلّمَ في الصلاةِ وزاد فيها

علانيةً وجاهر بالنفاقِ

ومج الخمر عن سنن المصلي

ونادى والجميع إلى افتراق

أأزيدكم على أن تحمدوني

فما لكم ومالي من خلاق(٣)

وأسرع جماعة من خيار الكوفيين وصلحائهم إلى يثرب يشكون الوليد إلى عثمان ، وقد صحبوا معهم خاتمه الذي انتزعوه منه في حالة سكره ، ولمّا قابلوا عثمان وشهدوا عنده بما رأوه من شرب الوليد للخمر زجرهم عثمان ، وقال لهم :

ما يدريكم أنه شرب الخمر؟

ـ هي الخمر التي كنّا نشربها في الجاهليّة.

وأعطوه خاتمه الذي انتزعوه منه في حال سكره لتأييد شهادتهم ، وغضب عثمان وقام فدفع في صدورهم ، وقابلهم بأخبث القول وأقساه ،

__________________

(١) السيرة الحلبيّة ٢ / ٣١٤.

(٢) الأغاني ٤ / ١٧٨ ـ ١٧٩.

(٣) الأغاني ٤ / ١٧٨.

٣٤٩

فخرجوا منه وقد ملك الذعر إهابهم ، وانطلقوا إلى الإمام أمير المؤمنين وأخبروه بما ألمّ بهم ، فانبرى الإمام إلى عثمان فقال له : «دفعت الشهود وأبطلت الحدود؟».

وهدأ عثمان وخاف من عواقب الاُمور ، فاتّجه نحو الإمام قائلاً بصوت خافت : ما ترى؟

ـ «أرى أن تبعث إلى صاحبك ، فإن أقاما الشهادة في وجهه ولم يدلِ بحجّة أقمت عليه الحدّ».

ولم يجد عثمان بدّاً من الإذعان لقول الإمام ، فكتب إلى الوليد يأمره بالشخوص إليه ، ولمّا وصلت إلى الوليد رسالة عثمان نزح من الكوفة إلى يثرب ، ولمّا مثل بين يدي عثمان دعا بالشهود فأقاموا عليه الشهادة ، فلم يدلِ بأيّة حجّة ، وبذلك خضع لإقامة الحدِّ.

ولم ينبرِ إليه أحد لإقامة الحدّ عليه ؛ خوفاً من عثمان ، فقام الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) ودنا منه ، فسبّه الوليد وقال : يا صاحب مكس(١) . وقام إليه عقيل فردّ سبّه ، وجعل الوليد يروغ عن الإمام فاجتذبه وضرب به الأرض وعلاه بالسّوط ، وتميّز عثمان غيظاً وغضباً ، فصاح بالإمام : ليس لك أن تفعل به هذا.

فأجابه الغمام بمنطق الشرع قائلاً : «بلى وشرٌّ من هذا إذا فسق ، ومنع حق الله أن يؤخذ منه»(٢) .

ودلّت هذه البادرة على تهاون عثمان بحدود الله ، وعدم اكتراثه بإقامتها. وعلّق الاُستاذ العلائلي على هذه البادرة بقوله :

__________________

(١) المكس : النقص والظلم.

(٢) مروج الذهب ٢ / ٢٢٥.

٣٥٠

هذه القصة تضع بين أيدينا شيئاً جديداً ، غير العطاء الذي يرجع إلى مكان العاطفة ، تضع بين أيدينا صورة من الإغضاء عن مجاوزة السلطة للقانون والإغضاء في واقعة دينية ، بحيث يجب على الخليفة أن يكون أوّل مَن يغار عليها ، وإلاّ هدد مكانه وأفسح للناس مجال التقوّل والتجريح ، وبالأخص حين جاءت حكومته عقيب حكومة عمر التي عرفت بالشدّة فيما يتعلّق بالحدود الدينية حتّى لو كان من أقرب ذوي القربى.

إذاً فهذه المبالغة في الإغضاء والصفح والمجاوزة لا ترجع إلى مكان العاطفة وحدها إن كانت ، بل إلى الحزبية أيضاً حتّى تتناصر مجتمعة(١) .

وعلى أيّ حال فإن الوليد قد ترك أثراً سيّئاً في الكوفة ، فقد تأثّرت بمجونه فكانت سيرته نقطة تحوّل في هذه المدينة ـ التي كانت تضمّ الصحابة والتابعين ـ إلى مدينة المجّان واللاهين ؛ فقد أعزى الوليد الناس إلى الاندفاع نحو المتع واللهو ، واُسّست في الكوفة دور للغناء والطرب ، وانتشر فيها المجّان ، وكان من المغنّين فيها عبد الله بن هلال الذي لقّب بصاحب إبليس(٢) ، وحنين الخيري الشاعر النصراني(٣) .

٤ ـ عبد الله بن سعد :

واستعمل عثمان أخاه من الرضاعة عبد الله بن سعد بن أبي سرح على مصر فجعل بيده صلاته وخراجه(٤) ، وكان من أخطر المشركين وأكثرهم عداءً للنبي (صلّى الله عليه وآله) وسخرية منه ، وكان يقول مستهزئاً بالنبي (صلّى الله عليه وآله) : إنّي أصرفه حيث اُريد ، وقد أهدر النبي (صلّى الله عليه وآله) دمه وإن وجد متعلّقاً بأستار

__________________

(١) الإمام الحسين (عليه السّلام) / ٣٣.

(٢) الأغاني ٢ / ٣٥١.

(٣) الأغاني ٢ / ٣٤٩.

(٤) الولاة والقضاة / ١١.

٣٥١

الكعبة ، وقد هرب بعد فتح مكّة فاستجار بعثمان فغيّبه ، وبعد ما اطمأنّ أهل مكة أتى به عثمان إلى النبي (صلّى الله عليه وآله) فصمت (صلّى الله عليه وآله) طويلاً ثمّ آمنه وعفا عنه ، فلمّا انصرف عثمان التفت النبي (صلّى الله عليه وآله) إلى أصحابه ، وقال لهم : «ما صمتُّ إلاّ ليقوم إليه بعضكم ليضرب عنقه».

فقال له رجل من الأنصار : هلاّ أومأت إليّ يا رسول الله؟ فقال : «إنّ النبي لا ينبغي أن تكون له خائنة الأعين»(١) .

ولمّا ولي عبد الله مصر ساس المصريين سياسة عنف وجور وكلّفهم فوق ما يطيقون ، وأظهر الكبرياء والجبروت ، فضجروا منه ، فخفّ خيارهم إلى عثمان يشكونه إليه ، فبعث إليه رسالة يستنكر فيها سيرته وسياسته في القطر ، ولم يستجب ابن أبي سرح لعثمان ، وراح مصرّاً على غيّه واعتدائه على الناس ، وعمد إلى مَن شكاه لعثمان فقلته.

وشاع التذمّر والسخط عليه ، فتشكّل وفد كبير من المصريِّين وكان عددهم ـ فيما يقول الرواة ـ سبعمئة شخص ، فخفّوا إلى عثمان ، وقد نزلوا في الجامع وشكوا إلى الصحابة ما صنع بهم ابن أبي سرح ، فانبرى طلحة إلى عثمان فكلّمه بكلام قاسي ، وأرسلت إليه عائشة تطالبه بإنصاف القوم ، وكلّمه الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) فقال له : «إنما يسألك القوم رجلاً مكان رجل ، وقد ادّعوا قبله دماً ، فاعزله عنهم واقضِ بينهم ؛ فإن وجب عليه حقّ فأنصفهم منه».

واستجاب على كره للقوم ، وقال لهم : اختاروا رجلاً أوليه عليكم مكانه. فأشار الناس عليه بمحمد بن أبي بكر ، فكتب عهده إلى مصر ووجّه معه عدّة من المهاجرين والأنصار ينظرون فيما بينهم وبين

__________________

(١) تفسير القرطبي ٧ / ٤٠ ، سنن أبي داود ٢ / ٢٢٠.

٣٥٢

ابن أبي سرح(١) ، ونزحوا عن المدينة فلمّا بلغوا إلى الموضع المعروف (بحمس) ، وإذا بقادم من يثرب ، تأمّلوه فإذا هو ورش غلام عثمان ، فتفحّصوا عنه وفتّشوه ، وإذا به يحمل رسالة من عثمان إلى ابن أبي سرح يأمره فيها بالتنكيل بالقوم ، وتأمّلوا في الكتاب فإذا به بخطّ مروان ، فقفلوا راجعين إلى يثرب وقد صمموا على خلع عثمان أو قتله(٢) .

٥ ـ معاوية بن أبي سفيان :

لم يستعمل عثمان معاوية على الشام والياً وإنما استعمله عمر وأقرّه عثمان عليها ، ولكنه زاد في نفوذه وبسط في سلطانه ، ومهّد له الطريق في نقل الخلافة الإسلاميّة إليه ، يقول طه حسين :

وليس من شكّ في أنّ عثمان هو الذي مهّد لمعاوية ما اُتيح له من نقل الخلافة ذات يوم إلى آل أبي سفيان ، وتثبيتها في بني اُميّة ، فعثمان هو الذي وسّع على معاوية في الولاية فضمّ إليه فلسطين وحمص وأنشأ له وحدة شامية بعيدة الأرجاء ، وجمع له قيادة الأجناد الأربعة ، فكانت جيوشه أقوى جيوش المسلمين ، ثمّ مدّ له في الولاية أثناء خلافته كلّها كما فعل عمر ، وأطلق يده في اُمور الشام أكثر مما أطلقها عمر. فلمّا كانت الفتنة نظر معاوية فإذا هو أبعد الاُمراء بالولاية عهداً ، وأقواهم جنداً ، وأملكهم لقلب الرعية(٣) .

إنّ عثمان هو الذي مدّ في سلطان معاوية ، وزاد في سعة ولايته ، وبسط له النفوذ حتّى كان من أقوى الولاة وأعظمهم نفوذاً ، وأصبح قطره من أهمّ الأقطار الإسلاميّة وأمنعها ، وأكثرها هدوءاً واستقراراً.

__________________

(١) أنساب الأشراف ٥ / ٢٦.

(٢) حياة الإمام الحسن (عليه السّلام) ١ / ٢٥٠.

(٣) الفتنة الكبرى ١ / ١٢٠.

٣٥٣

هؤلاء بعض ولاة عثمان وكلّهم من بني اُميّة وآل أبي معيط ، ولم يمنحهم الحكم إلاّ إثرة ومحاباة ، وتقوية لنفوذ الاُمويِّين وحملهم على رقاب المسلمين.

وقد علّق السّيد مير علي الهندي على ولاة عثمان بقوله : كان هؤلاء هم رجال الخليفة المفضّلين ، وقد تعلّقوا بالولايات كالعقبان الجائعة ، فجعلوا ينهشونها ، ويكدّسون الثروات منها بوسائل الإرهاق التي لا ترحم(١) .

سياسته الماليّة :

لم تكن سياسة عثمان المالية إلاّ امتداداً لسياسة عمر(٢) ، فليس لعثمان منهج خاص في السياسة المالية سوى الذي سنّه عمر ، من إيجاد الطبقية وتقديم بعض الناس على بعض في العطاء ، وقد شذّت هذه السياسة عمّا قنّنه الإسلام من لزوم المساواة ووجوب الإنفاق على المرافق العامة ، وإصلاح الحياة الاقتصادية ومكافحة الفقر ، والقيام بإعالة الضعيف والمحتاج ، وليس لولاة الاُمور أن يصطفوا منها أي شيء ، وليس لهم أن يمنحوها لدعم حكمهم وسلطانهم ، وقد تحرّج الإسلام في ذلك أشدّ الحرج ، يقول رسول الله (صلى الله عليه وآله) : «إنّ رجالاً يتخوّضون في مال الله بغير حقٍّ فلهم النار يوم القيامة»(٣) .

وكتب الإمام أمير المؤمنين رائد الحق والعدالة في الأرض إلى قثم بن العباس عامله على مكة كتاباً ألقى فيه الأضواء على السياسة المالية التي انتهجها الإسلام وهذا نصّه :

__________________

(١) روح الإسلام / ٩٠.

(٢) تاريخ العراق في ظل الحكم الاُموي / ٢٢.

(٣) صحيح البخاري ٥ / ١٧.

٣٥٤

«انظر إلى ما اجتمع عندك من مال الله فاصرفه إلى مَن قبلك من ذوي العيال والمجاعة ، مصيباً به مواضع الفاقة والخلاّت ، وما فضل عن ذلك فاحمله إلينا لنقسمه فيمَن قبلنا»(١) .

هذا هو اتّجاه الإسلام في أموال الدولة ، فهو يلزم ولاة الاُمور بإنفاقها على مواضع الفاقة والمحتاجين ؛ لئلاّ يبقى بائس أو محروم في البلاد ، ولكن عثمان لم يعنِ بذلك ، وإنما أنفق الأموال العامة على الأشراف والوجوه وبني اُميّة وآل أبي معيط ، فتكدّست عندهم الأموال وحاروا في صرفها.

لقد أصبحت الأموال الهائلة التي تتدفّق على الخزينة المركزية تمنح للاُمويِّين ، وادّعوا أنّ المال إنما هو ملكهم لا مال الدولة ، وأنها ملك لبني اُميّة ، فقد منحوا نفوسهم بجميع الامتيازات(٢) ، وفيما يلي قائمة في الأموال التي منحها لهم ولغيرهم :

عطاياه للاُمويِّين :

وخصّ عثمان بني اُميّة بالأموال ، ومنحهم الهبات الضخمة ، وهي كما يلي :

١ ـ الحارث بن الحكم :

ووهب عثمان الحارث صهره من عائشة ما يلي :

أ ـ ثلاثمئة ألف درهم(٣) .

ب ـ وهبه إبل الصدقة التي وردت إلى المدينة.

__________________

(١) نهج البلاغة ـ محمد عبده ٢ / ١٢٨.

(٢) العقيدة والشريعة في الإسلام / ٥٣.

(٣) أنساب الأشراف ٥ / ٥٢.

٣٥٥

ج ـ أقطعه سوقاً في يثرب يعرف بنهروز بعد أن تصدّق به النبي (صلّى الله عليه وآله) على جميع المسلمين(١) .

٢ ـ أبو سفيان :

ووهب عثمان إلى أبي سفيان ـ رأس المنافقين ـ مئتي ألف من بيت المال(٢) .

٣ ـ سعيد بن العاص :

ومنح عثمان سعيد بن العاص مئة ألف درهم(٣) .

٤ ـ عبد الله بن خالد :

وتزوّج عبد الله بن خالد بن أسيد بنت عثمان فأمر له بستمئة ألف درهم ، وكتب إلى عبد الله بن عامر واليه على البصرة أن يدفعها إليه من بيت المال(٤) .

٥ ـ الوليد بن عقبة :

الوليد بن عقبة أخو عثمان من اُمّه استقرض من عبد الله بن مسعود أموالاً طائلة من بيت المال فأقرضه ، وطلبها منه عبد الله فأبى أن يدفعها ، ورفع رسالة إلى عثمان يشكوه إليه ، فكتب عثمان إلى عبد الله رسالة جاء فيها : إنما أنت خازن لنا فلا تعرض للوليد فيما أخذ من المال. فغضب ابن مسعود ، وطرح مفاتيح بيت المال وقال : كنت أظنّ أنّي خازن للمسلمين ؛ فأمّا إذا كنت خازناً لكم فلا حاجة لي في ذلك. وأقام بالكوفة بعد أن استقال من منصبه(٥) .

__________________

(١) أنساب الأشراف ٥ / ٢٨.

(٢) شرح نهج البلاغة ١ / ٦٧.

(٣) أنساب الأشراف ٥ / ٢٨.

(٤) تاريخ اليعقوبي ٢ / ١٤٥.

(٥) الأنساب ٥ / ٣٠.

٣٥٦

فبيت المال في عرف السياسة العثمانية ملك للاُمويِّين وليس ملكاً للمسلمين ، ونترك هذا الحكم إلى القرّاء.

٦ ـ الحكم بن أبي العاص :

كان هذا الرجس الخبيث من ألدّ أعداء رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وقد نفاه (صلّى الله عليه وآله) إلى الطائف ، وقال : «لا يساكنني». ولم يزل منفيّاً هو وأولاده طيلة خلافة الشيخين ، ولمّا انتهى الحكم إلى عثمان أصدر عنه العفو فقَدِم إلى يثرب وهو يسوق تيساً ، وعليه ثياب خلقة ، فدخل على عثمان فكساه جبّة خز وطيلسان(١) ، ووهبه من الأموال مئة ألف(٢) ، وولاه على صدقات قضاعة فبلغت ثلاثمئة ألف فوهبها له(٣) .

وأدّت هباته للحَكَم إلى شيوع التذمّر والنقمة عليه من جميع الأوساط الإسلاميّة.

٧ ـ مروان بن الحكم :

امّا مروان بن الحكم فهو وزيره ومستشاره الخاص ، وجميع مقدّرات الدولة تحت تصرّفه ، وقد منحه الثراء العريض ووهبه من الأموال ما يلي :

أ ـ أعطاه خمس غنائم أفريقية وقد بلغت خمسمئة ألف دينار ، وقد عيب عليه في ذلك ، وهجاه الشاعر الثائر عبد الرحمان بن حنبل بقوله :

سأحلفُ بالله جهدَ اليميـ

ـنِ ما ترك الله أمراً سُدى

ولكنْ خُلقتَ لنا فتنةً

لكي نُبتلى بك أو تُبتلى

فإن الأمينين قد بيّنا

منارَ الطريق عليه الهُدى

فما أخذا درهماً غيلةً

وما جعلا درهماً في الهوى

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ / ٤١.

(٢) المعارف / ٨٤.

(٣) الأنساب ٥ / ٢٨.

٣٥٧

دعوت اللعينَ فأدنيتَهُ

خلافاً لسّنة مَن قد قضى

وأعطيت مروانَ خُمسَ العبا

دِ ظلماً لهم وحميت الحمى(١)

ب ـ أعطاه ألف وخمسين أوقية ، لا نعلم أنها من الذهب أو الفضة ، وهي من الاُمور التي أشاعت التذمّر والنقمة عليه(٢) .

ج ـ أعطاه مئة ألف من بيت المال ، فجاء زيد بن أرقم خازن بيت المال بالمفاتيح فوضعها بين يدي عثمان وجعل يبكي فنهره عثمان وقال له : أتبكي إن وصلت رحمي؟

ولكن أبكي لأنّي أظنّك أنّك أخذت هذا المال عوضاً عمّا كنت أنفقته في سبيل الله في حياة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، لو أعطيت مروان مئة درهم لكان كثيراً.

فصاح به عثمان : القِ المفاتيح يابن أرقم ، فإنا سنجد غيرك(٣) .

د ـ أقطعه فدكاً(٤) .

هـ ـ كتب له بخُمس مصر(٥) .

هذه بعض صلاته للاُمويِّين ، وقد نقم عليه المسلمون وسخط عليه الأخيار والأحرار ، فإن هذه الاُسرة هي التي عادت الله ورسوله وحاربت الإسلام ، وليس من الحقّ ولا من العدل أن تستأثر بأموال المسلمين وفيئهم ، في حين قد شاعت الحاجة في جميع أنحاء البلاد.

__________________

(١) تاريخ أبي الفداء ١ / ١٦٨.

(٢) سيرة الحلبي ٢ / ٨٧.

(٣) شرح ابن أبي الحديد ١ / ٦٧.

(٤) تاريخ أبي الفداء ١ / ١٦٨ ، المعارف / ٨٤.

(٥) طبقات ابن سعد ٣ / ٢٤.

٣٥٨

منحه للأعيان :

ووهب عثمان الوجوه والأعيان ممّن يخاف سطوتهم ، وقد أعطى من الشخصيات ما يلي :

١ ـ طلحة :

وأوصل طلحة بمئتي ألف دينار(١) ، وكانت له عليه خمسون ألفاً ، فقال له طلحة : تهيّأ مالك فاقبضه. فوهبه له وقال : هو لك يا أبا محمد على مروءتك(٢) .

٢ ـ الزبير :

ومنح الزبير بن العوام ستمئة ألف ، ولمّا قبضها حار فيها فجعل يسأل عن خير المال ليستغل صلته ، فدلّ على اتخاذ الدور في الأقاليم والأمصار(٣) ؛ فبنى إحدى عشرة داراً بالمدينة ، ودارين بالبصرة ، وداراً بالكوفة ، وداراً بمصر(٤) .

٣ ـ زيد بن ثابت :

ووهب أموالاً ضخمة لزيد بن ثابت ، حتّى بلغ به الثراء العريض أنّه لمّا توفّي خلّف من الذهب والفضة ما يكسر بالفؤوس ، عدا ما ترك من الأموال والضياع ما قيمته مئة ألف(٥) .

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ / ١٣٩.

(٢) تاريخ الطبري ٥ / ١٣٩.

(٣) طبقات ابن سعد.

(٤) صحيح البخاري ٥ / ٢١.

(٥) مروج الذهب ١ / ٣٤٤.

٣٥٩

ومنح أموالاً اُخرى للمؤيّدين لسياسته كحسان بن ثابت وغيره ، وقد ذكرها المؤرّخون بالتفصيل ، وهي تذكّرنا بأصحاب الملايين في عصرنا الحديث.

لقد اتّسع الثراء العريض بشكل فاحش عند بعض الصحابة حتّى أنّ بعضهم خاف أن يقلّل الله ثوابه في الدار الآخرة ، يقول خباب بن الأرت : لقد رأيتني مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ما أملك ديناراً ولا درهماً ، وإنّ في ناحية بيتي في تابوتي لأربعين ألف واف(١) ، ولقد خشيت أن تكون عجلت طيّباتنا في حياتنا الدنيا(٢) .

ويرى (فان فلوتن) : إنّ هذه السياسة الاقتصادية أدّت إلى انتشار الترف والفساد(٣) .

إقطاع الأراضي :

وأقطع عثمان أراضي في الكوفة ، مع العلم أنها ملك للمسلمين ؛ لأنها مما فتحت عنوة ، فقد أقطع أراضي في داخل الكوفة وخارجها ؛ أمّا التي في داخل الكوفة فقد أقيمت فيها الدور والمساكن ، وسمّيت (مساكن الوجوه) ، وقد أقطع لجماعة من الصحابة وهم :

طلحة وسمّيت دار الطلحيِّين وكانت في الكناسة ، وأقطع عبيد الله بن عمر وسمّيت (كويفة ابن عمر) ، وأقطع اُسامة بن زيد ، وسعد ، وابن أخيه هاشم بن عتبة ، وأبا موسى الاشعري ، وحذيفة العبسي ، وعبد الله بن مسعود ، وسلمان الباهلي ، والمسيب الفزاري ، وعمرو بن حريث المخزومي ، وجبير بن مطعم الثقفي ، وعتبة بن عمر الخزرجي ، وأبا جبير

__________________

(١) الوافي : درهم وأربعة دوانق. القاموس (مادة دوق).

(٢) طبقات ابن سعد ٦ / ٨.

(٣) السّيادة العربية / ٢٢.

٣٦٠

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

فإنّ قيل: فمن علماء المذهب مَنْ لم يجوّز اللعن على يزيد مع علمهم بأنّه يستحقّ ما يربو على ذلك ويزيد.

قلنا: تحامياً عن أن يرتقي إلى الأعلى فالأعلى كما هو شعار الروافض على ما يُروى في أدعيتهم، ويجري في أنديتهم.

فرأى المعتنون بأمر الدين إلجام العوام بالكلية؛ طريقاً إلى الاقتصاد في الاعتقاد وبحيث لا تزلّ الأقدام على السواء، ولا تضلّ الأفهام بالأهواء، وإلاّ فمَنْ يخفى عليه الجواز والاستحقاق؟! وكيف لا يقع عليه الاتفاق؟!(١) .

كلام الربيع بن نافع الحلبي حول معاوية

وهما بذلك يجريان على سنن أبي توبة الربيع بن نافع الحلبي حيث يقول: معاوية سترٌ لأصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فإذا كشف الرجل الستر اجترأ على ما وراءه(٢) .

وقد أقرّه على ذلك غير واحد، لكنّهم غفلوا أو تغافلوا عن أنّ مبانيهم ومباني أهل مذهبهم في احترام هؤلاء وتقديسهم، وشرعية خلافتهم لو كانت محكمة الأساس قوّية البرهان، ولم تكن هشّة تنهار بالبحث والتحقيق لما خافوا عليها من طريقة الشيعة وشعارهم، ولما اضطروا من أجل الحفاظ عليها إلى إلجام العوام بالكلية، وإلى تحريم لعن الظالمين وكشف فضائحهم مع وضوح استحقاقهم لهما، ولما يزيد عليهما( قُلْ فَللّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ) (٣) .

____________________

١ - شرح المقاصد في علم الكلام ٢/٣٠٦ - ٣٠٧.

٢ - البداية والنهاية ٨/١٤٨ أحداث سنة ستين من الهجرة، ترجمة معاوية، واللفظ له، تاريخ دمشق ٥٩/٢٠٩ في ترجمة معاوية بن صخر أبي سفيان.

٣ - سورة الأنعام/١٤٩.

٤٢١

موقف الغلاة لم يمنع الشيعة من ذكر كرامات أهل البيت (عليهم السّلام)

ولذا نرى الشيعة قد امتحنوا بالغلاة الذين يرتفعون بأئمّة أهل البيت (صلوات الله عليهم) عن مراتبهم التي رتّبهم الله تعالى فيها إلى كونهم أنبياء أو آلهة.

وقد استغل ذلك أعداء الشيعة فجعلوا الغلو والغلاة وسيلة للتشنيع على الشيعة والتشيّع والتشهير بهم من دون إنصاف ولا رحمة.

لكنّ الشيعة - مع شدّة موقفهم من الغلاة، ومباينتهم لهم، وتصريحهم بكفرهم - لم يمنعهم ذلك من التركيز على رفعة مقام أهل البيت (صلوات الله عليهم) وبيان كراماتهم ومعاجزهم، ولم يحذروا أن يجرّهم ذلك للغلو، أو يكون سبباً للتشنيع عليهم.

وذلك لأنّهم على ثقة تامّة من قوّة عقيدتهم بحدودها المباينة للغلو، وقوّة أدلتها بحيث لا يخشون من أن ينجرّوا من ذلك للغلو، أو يلتبس الأمر على جمهورهم بنحو يفقدهم السيطرة عليه.

ولو فرض أن حصل لبعض الناس نحو من الإيهام والالتباس سهل على علماء الشيعة السيطرة على ذلك، وكشف الالتباس، ودفع الشبهة.

كما لا يهمهم تشنيع أعدائهم عليهم بذلك بعد ثقتهم بسلامة عقيدتهم وقوّة أدلتها، وشعورهم بأنّ التهريج والتشنيع أضعف من أن يوهن ذلك، بل هو نتيجة شعور الطرف المقابل بضعفه في مقام الاستدلال والحساب المنطقي.

محاولة كثير من الجمهور الدفاع للظالمين

بل إنّ كثيراً من الجمهور - من حيث يشعرون أو لا يشعرون - قد جرّتهم عقدة الحذر من قوّة التشيّع - نتيجة الظلامات التي وقعت عليه، خصوصاً فاجعة الطفّ - إلى الدفاع عن جماعة من الظالمين لأهل البيت (عليهم السّلام) ولشيعتهم،

٤٢٢

قد أمعنوا في الجريمة، وضجّت الدنيا بفضائحهم بحيث سقطوا عن الاعتبار، وصاروا في مزابل التاريخ، كيزيد بن معاوية وأمثاله حتى قد يبلغ الأمر ببعضهم إلى تبنّي هؤلاء واحترامهم وتبجيلهم.

الدفاع عن الظالمين يصبّ في صالح التشيّع

وهم لا يدركون - بسبب هذه العقدة - أنّ هذا الدفاع والتبنّي لا ينفعان هؤلاء المجرمين، ولا يرفعان من شأنهم، ولا يضرّان الشيعة، بل يترتب عليهما أمران لهما أهميتهما في صالح الشيعة والتشيّع:

الأوّل: إنّ المدافعين والمتبنين لهؤلاء قد أسقطوا اعتبار أنفسهم؛ لأنّ هؤلاء الظلمة قد بلغوا من السقوط والجريمة بحيث يبرأ منهم مَنْ يحترم نفسه، ويشعر بكرامتها عليه.

كما إنّ مَنْ يدافع عنهم أو يتبنّاهم يتلوّث بجرائمهم، ويهوي للحضيض معهم. فهو كمَنْ يحاول أن ينتشل شخصاً من مستنقع فيهوي في ذلك المستنقع معه.

الثاني: إنّ ذلك يكشف عن نصب هؤلاء النفر - من المتبنين والمدافعين - لأهل البيت (صلوات الله عليهم)، وإنّه لا داعي لهم للدفاع والتبنّي لهذه النماذج المتميزة في الجريمة، والتي صارت في مزابل التاريخ إلّا بغض أهل البيت (عليهم السّلام).

وكفى الشيعة فخراً أن يهوي خصومهم للحضيض، وأن تنكشف حقيقتهم، وأنّهم في الواقع خصوم لأهل البيت (صلوات الله عليهم) ونواصب لهم، كما يكفي ذلك محفّزاً للشيعة على التمسّك بحقهم والاعتزاز به، وفي قوّة بصيرتهم في أمرهم، وإصرارهم على حقّهم.

فهؤلاء بموقفهم من الشيعة نظير المشركين في موقفهم من النبي صلى الله عليه وآله وسلم

٤٢٣

حيث سلاه الله (عزّ وجلّ) بقوله:( قَدْ نَعْلَمُ أنّه لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فإنّهم لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ ) (١) .

مضافاً إلى أن ذلك يستبطن الاعتراف عملياً بارتباط خط الخلافة عند الجمهور بعضه ببعض، بحيث يتحمل السابق تبعة اللاحق، ولا يسهل فصل بعضه عن بعض، كما يؤكد الشيعة على ذلك، تبعاً لأئمتهم (صلوات الله عليهم). والحمد لله رب العالمين.

____________________

١ - سورة الأنعام/٣٣.

٤٢٤

المقام الثالث

في الإعلام والإعلان عن دعوة التشيّع ونشر ثقافته

إنّ فظاعة فاجعة الطفّ حقّقت الأرضية الصالحة لاستثمارها لصالح مذهب التشيّع، وذلك برثاء سيّد الشهداء (عليه الصلاة والسّلام) والتفجّع له، وزيارته والتأكيد على ظلامته.

وانطلق الشيعة من ذلك لبيان ظلامة أهل البيت (صلوات الله عليهم)، والتأكيد على رفعة مقامهم، وعظيم شأنهم، وعلى جور ظالميهم وخبثهم وسوء منقلبهم، ثمّ الاهتمام بإحياء المناسبات المتعلّقة بأهل البيت جميعاً.

اهتمام الشيعة بإحياء الفاجعة وجميع مناسبات أهل البيت (عليهم السّلام)

وإذا كان أثر فاجعة الطفّ قد خفّ في نفوس عموم المسلمين بمرور الزمن، أو أدرك المخالفون لخطّ أهل البيت ضرورة تناسيها وتجاهلها؛ نتيجة لما سبق، فإنّ الشيعة - وبدفع من أئمّتهم (صلوات الله عليهم) - قد حاولوا التشبّث بها والتركيز عليها، واستثمارها بالنحو المتقدّم، ولم تمضِ مدّة طويلة حتى صار ذلك من سمات الشيعة المميّزة لهم والتي يقوم عليها كيانهم.

ويشدّ من عزائمهم ما ورد عن أئمّتهم (صلوات الله عليهم) من عظيم أجر ذلك وجزيل ثوابه، وما يلمسونه - على طول الخطّ - من المدّ الإلهي والكرامات المتعاقبة التي تزيدهم بصيرة في أمرهم، وتمنحهم قوّة وطاقة على

٤٢٥

المضي فيه، وتحمّل المتاعب والمصاعب في سبيله.

منع الظالمين من إحياء مناسبات أهل البيت (عليهم السّلام)

وقد أثار ذلك حفيظة الظالمين؛ فجدّوا في منعهم والتنكيل بهم، وحفيظة كثير من المخالفين فجدّوا في الإنكار والتشنيع عليهم بمختلف الأساليب.

وذلك وإن كان قد يعيقهم عن بعض ما يريدون في الفترات المتعاقبة، إلّا إنّه يتجلّى لهم به ظلامة أهل البيت (صلوات الله عليهم) على طول الخطّ، وظلامة شيعتهم تبعاً لهم.

حتى قال الشاعر تعريضاً بمواقف المتوكّل العباسي حينما هدم قبر الإمام الحسين (صلوات الله عليه)، ومنع الناس من زيارته، واشتدّ في ذلك:

تاللهِ إن كانت أمية قد أتت

قتلَ ابنَ بنتِ نبيّها مظلوما

فلقد أتاهُ بنو أبيهِ بمثله

هذا لعمركَ قبرهُ مهدوما

أسفوا على أن لا يكونوا شاركوا

في قتلهِ فتتبّعوهُ رميما(١)

وقد جرى الخلف على سنن السلف وإن اختلفت الأساليب والصور، والمبرّرات والحجج.

أثر المنع المذكور على موقف الشيعة

وبذلك يتأكّد ولاء الشيعة لأهل البيت (صلوات الله عليهم)، وإصرارهم على إحياء أمرهم، وصاروا يستسهلون المصاعب، ويتحمّلون المصائب في سبيل ذلك؛ تعاطفاً معهم (عليهم السّلام)، وأداءً لعظيم حقّهم عليهم.

____________________

١ - وفيات الأعيان ٣/٣٦٥ في ترجمة البسامي الشاعر، واللفظ له، تاريخ الإسلام ١٧/١٩ أحداث سنة خمس وثلاثين ومئتين من الهجرة، هدم قبر الحسين، البداية والنهاية ١١/١٤٣ أحداث سنة أربع وثلاثمئة، وغيرها من المصادر.

٤٢٦

كما يتجلّى لهم أهمية هذه الممارسات والشعائر في تثبيت وجودهم، وتأكيد هويتهم، وإغاظة عدوهم، فيزيدهم ذلك تمسّكاً به، وإصراراً عليه؛ كردّ فعل لمواقف أعدائهم معهم، وظلامتهم لهم.

وبمرور الزمن وتعاقب المحن، واستمرار الصراع وتفاقمه صارت هذه الشعائر جزءاً من كيان الشيعة وتجذّرت في أعماقهم، وأخذت شجرتها تنمو وتورق وتخفق بظلالها عليهم.

وكان لها أعظم الأثر لصالح دعوتهم في أمور:

أثر إحياء المناسبات المذكورة في حيوية الشيعة ونشاطهم

الأوّل : حيويتهم ونشاطهم؛ لأنّ فعالياتهم وممارساتهم في إحيائها نشيطة جدّاً، وملفتة للنظر كما هو ظاهر للعيان.

مضافاً إلى ما أشرنا إليه آنفاً من أنّها فتحت الباب لإحياء جميع مناسبات أهل البيت (صلوات الله عليهم)، وهي كثيرة جدّاً على مدار السُنّة وذلك يجعل جمهور الشيعة في عطاء مستمر، وحركة دائمة، والحركة دليل الحياة كما قيل.

أثر هذا الإحياء في جمع شمل الشيعة وتقوية روابطهم

الثاني : جمع شملهم وتماسكهم، وتثبيت وحدتهم، وتقوية روابطهم حيث يذكّرهم ذلك بمشتركاتهم الجامعة بينهم؛ من موالاة أهل البيت (صلوات الله عليهم)، وموالاة أوليائهم، ومعاداة أعدائهم، وما يتفرّع على ذلك من أحزان وأفراح يقومون بإحيائها بتعاون ودعم مشترك.

وإنّ الأموال التي تُنفق في سبيل ذلك من الكثرة بحدّ يلفت النظر؛ سواءً كانت مشاريع ثابتة - كالحسينيات والأوقاف ونحوها - أم نفقات مصروفة

٤٢٧

لسدّ الحاجيات المتجدّدة، كالإطعام والاستضافة وسائر الخدمات، ومكافآت الخطباء والذاكرين وغيره.

ويقوم بذلك جمهور الشيعة وخاصّتهم حسبما يتيسّر لكلّ أحد ويقتنع به بكامل الاختيار، بل الرغبة، وقد يصل الأمر إلى الإصرار؛ نتيجة الالتزام الشرعي - بسبب النذر -، أو وفاءً بالوعد والالتزام النفسي، أو جرياً على العادة المستحكمة... إلى غير ذلك.

ومن الطبيعي أن يكون ذلك كلّه سبباً في إثارة العواطف وتبادلها بين أفرادهم وجماعاتهم، وتخفيف حدّة الخلاف بينهم؛ بسبب وحدة المصيبة والسعي والهدف، والشعور بشرف الروابط وسموّها.

أثر الإحياء المذكور في تثبيت هوية الشيعة

الثالث : تثبيت هويتهم في تولّي أهل البيت (صلوات الله عليهم) ومَنْ والاهم، والبراءة من أعدائهم وظالميهم وأتباعهم كما تطفح بذلك الزيارات الواردة عن الأئمّة (صلوات الله عليهم) التي يتلونها، وتعجّ به مجالس العزاء والأفراح التي يقيمونها بمختلف صورها، وأشعار المدح والرثاء التي يكثرون من إنشائها وإنشادها. وقد أشار إلى ذلك سعد الدين التفتازاني في كلامه المتقدّم في المقام الثاني(١) .

نشر الثقافة العامّة والدينية بسبب الإحياء المذكور

الرابع : تثقيف جمهورهم بالثقافة العامّة، والثقافة الدينية والمذهبية الخاصّة وتعميقها فيهم، فإنّ إحياء تلك المناسبات وإن كان الهدف منه بالدرجة الأولى

____________________

(١) تقدم في ص: ٤٢٠.

٤٢٨

هو عرض الجانب العاطفي الذي يخصّ المناسبة التي يراد إحياؤها وما يناسب ذلك، إلّا إنّه كثيراً ما تكون منبراً للثقافة العامّة، والثقافة الدينية والمذهبية خاصة.

وبذلك أمكن نشر الثقافة الدينية والشيعية نسبياً بين جمهور الشيعة بعد أن كان التثقيف العام في غالب الدول والمناطق التي يتواجد فيها الشيعة غير شيعي، بل هو على الطرف النقيض للثقافة الشيعية.

وربما كان جمهور الشيعة وعوامهم أثقف نسبياً من جمهور وعوام غيرهم ببركة تلك المناسبات الشريفة، ولما سبق من اهتمام علماء الجمهور بإبعاد جمهورهم عن تراثهم، لما فيه من الثغرات المنبهة لحق التشيّع.

تأثير إحياء تلك المناسبات في إصلاح الشيعة نسبياً

كما قد تكون المناسبات المذكورة سبباً في تأثر جمهور الشيعة نسبياً بأخلاق أهل البيت (صلوات الله عليهم) الرفيعة؛ في الصدق والأمانة، وسجاحة الخلق ولين الجانب، وغير ذلك من الصفات الحميدة.

فإنّ الشيعة - كأفراد - وإن لم يخلوا عن سلبيات كثيرة في هذا الجانب، إلّا إنّه بمقارنتهم مع غيرهم قد يبدو الفرق واضحاً؛ نتيجة نشر ثقافة أهل البيت (صلوات الله عليهم) عند إحياء المناسبات المذكورة حيث تترك آثارها في أنفسهم وبصماتها في سلوكهم، ويتفاعلون بها نسبياً.

وقد أشار إلى بعض جوانب ذلك ابن أبي الحديد حيث قال في ترجمته لأمير المؤمنين (صلوات الله عليه): وأمّا سجاحة الأخلاق، وبشر الوجه، وطلاقة المحيّى والتبسّم فهو المضروب به المثل فيه حتى عابه بذلك أعداؤه. قال عمرو بن العاص لأهل الشام: إنّه ذو دعابة شديدة....

وعمرو بن العاص إنّما أخذها عن عمر بن الخطاب؛ لقوله لما عزم على

٤٢٩

استخلافه: لله أبوك، لولا دعابة فيك. إلّا إنّ عمر اقتصر عليه، وعمرو زاد فيها وسمجه.

قال صعصعة بن صوحان وغيره من شيعته وأصحابه: كان فينا كأحدنا، لين جانب، وشدّة تواضع، وسهولة قياد. وكنّا نهابه مهابة الأسير المربوط للسياف الواقف على رأسه....

وقد بقي هذا الخلق متوارثاً متناقلاً في محبيه وأوليائه إلى الآن، كما بقي الجفاء والخشونة والوعورة في الجانب الآخر. ومَنْ له أدنى معرفة بأخلاق الناس وعوائدهم يعرف ذلك(١) .

إيصال مفاهيم التشيّع بإحياء تلك المناسبات

الخامس: رفع رايتهم وإسماع دعوتهم لغيرهم؛ لأنّ تميّزهم بإحياء تلك المناسبات، ومواظبتهم على رفع شعائر الحبّ والولاء فيه، وتأكيدهم على ظلامة أهل البيت (صلوات الله عليهم)، واستثارتهم للعواطف بمناسبة ذلك يلفت أنظار الآخرين إليهم، ويحملهم على الاحتكاك بهم، والتعرّف على ما عندهم، ولاسيّما أنّ إحياء هذه المناسبات يكون غالباً بنحو مثير وملفت للنظر.

وكثيراً ما يكون ذلك سبباً لهداية الآخرين وتقبّلهم لدعوتهم ودخولهم في حوزتهم؛ لتفاعلهم بتلك المناسبات بنحو يكون محفّزاً لسماع أدلّة الشيعة والنظر في حجّتهم، ثمّ الاستجابة لهم؛ لما ذكرناه في المقام الأوّل من قوّة أدلّة الشيعة، وموافقة دعوتهم للمنطق السليم، ولاسيما أنّها قد تدعم بالمدّ الإلهي، وظهور الكرامات الباهرة التي تأخذ بالأعناق.

والظاهر أنّ انتشار التشيّع في كثير من بقاع المعمورة، وظهور دعوته

____________________

١ - شرح نهج البلاغة ١/٢٥ - ٢٦.

٤٣٠

وتوسّعها بمرور الزمن إنّما كانت بسبب إحياء فاجعة الطفّ، وإصرار الشيعة على ذلك، والانفتاح منها على بقيّة مناسبات أهل البيت (صلوات الله عليهم) وعلى ثقافتهم؛ فإنّهم لا يملكون من القوى المادية ما ينهض بهذا العبء الثقيل، ويحقّق هذه النتائج الرائعة.

خلود دعوة التشيّع بإحياء هذه المناسبات

السادس: إنّ دعوة التشيّع (أعزها الله تعالى) وإن تعهد الله (عزّ وجلّ) ببقائها ظاهرة مسموعة الصوت؛ لتقوم بها الحجّة على الناس، إلّا إنّ الظاهر أنّ لفاجعة الطفّ أعظم الأثر في بقائها رغم الضغوط الكثيرة التي تعرّضت لها.

وذلك لأنّ تفاعل الجمهور بالفاجعة واهتمامهم بإحيائها لا يتوقّف على دفع الخاصة لهم - كرجال الدين أو غيرهم - وتشجيعهم إيّاهم؛ ليسهل على العدو القضاء عليها بتحجيم دور الخاصة، بالترغيب والترهيب، وصنوف التنكيل حتى التصفية الجسدية كما حصل ذلك قديماً وحديثاً.

بل هي قد أخذت موقعها من نفوس الجمهور على اختلاف طبقاتهم، وتجذّرت في أعماقهم بحيث يهتمون بإحيائها بأنفسهم، ويندفعون لذلك بطبعهم، وكأنّها جزء من كيانهم.

ولا تزيدهم الضغوط في اتجاه منعه، أو التخفيف منه إلّا إصراراً وتمسّكاً حيث يرون فيها تعدّياً على حقّهم الذي يؤمنون به، وتحدّياً لهم كأمّة، وتجاهلاً لشخصيتهم، وجرحاً لشعورهم وعواطفهم، ونيلاً من كرامتهم.

ولو اضطرتهم الضغوط للتوقّف عن الإعلان بممارساتهم في إحيائها فلا يؤثّر ذلك على موقعها من نفوسهم، وتفاعلهم بها، بل يزيدهم ذلك تعلّقاً

٤٣١

بها، وانشداداً لها، ونقمة على الظالمين مع الإصرار على إحيائها سرّاً بما يتيسّر، ويضحّون في سبيل ذلك بالغالي والنفيس.

وحيث لا يتيسّر القضاء على الجمهور لكثرتهم، تبقى الجذوة كامنة في نفوسهم، والعواطف محتدمة حتى إذا سنحت الفرصة تدفّق المخزون العاطفي فكان النشاط مضاعفاً، والفعاليات مكثفة؛ تعويضاً عمّا سبق، وتحدّياً للظالمين؛ ولذا كان مصير الضغوط عبر التاريخ الفشل الذريع والخيبة الخاسرة.

ولمّا كان إحياء هذه المناسبة الشريفة بمختلف وجوهها رمزاً للتشيّع، وسبباً في رسوخ قدمه وتماسكه وتثبيت هويته - كما سبق - كان لاستمرار جمهور الشيعة فيها، وإصرارهم عليها بالوجه المذكور أعظم الأثر في بقاء التشيّع والحفاظ عليه، بل قد يكون هو الدرع الواقي له، والقلعة الحصينة التي تعصمه.

فاجعة الطفّ نقطة تحول مهمة في صالح التشيّع

وقد ظهر من جميع ما سبق أنّ نهضة الإمام الحسين (صلوات الله عليه) التي ختمت بفاجعة الطفّ صارت نقطة تحوّل مهمة في مذهب التشيّع؛ حيث صار لها أعظم الأثر في قوّته، ورسوخ قدمه وبقائه، ووضوح حجّته وسماع دعوته، وتوسّعه بمرور الزمن رغم الضغوط الكثيرة، والصراع العنيف، ويأتي في الفصل الثالث من المقصد الثالث ما ينفع في المقام إن شاء الله تعالى.

قال عزّ من قائل:( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء * تُؤْتِي أُكُلَهَا كلّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَ... ) (١) .

وهو المناسب لحجم التضحية التي أقدم عليها الإمام الحسين (صلوات الله عليه) صابراً محتسباً، راضياً بقضاء الله تعالى وقدره، مستجيباً لأمره، واثقاً

____________________

١ - سورة إبراهيم/٢٤ - ٢٥.

٤٣٢

بتسديده ونصره.

وبذلك يتّضح وجه قوله (صلوات الله عليه) في كتابه المتقدّم: «أمّا بعد فإنّ مَنْ لحق بي استشهد، ومَنْ لم يلحق بي لم يدرك الفتح»(١) .

فجزاه الله تعالى عن الدين وأهله أفضل جزاء المحسنين، وصلّى الله عليه وعلى آبائه وأبنائه الطيبين الطاهرين، وعلى أصحابه الميامين الذين استشهدوا معه، والذين سمعوا الداعي فأجابوه، ووثقوا بالقائد فاتّبعوه، ولم تأخذهم في الله لومة لائم، ولا عاقهم عن أداء واجبهم عائق مهما بلغ.

و( الْحَمْدُ للهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللهُ ) (٢) ، وله الشكر أبداً دائماً سرمداً، ونسأله أن يثبّتنا بالقول الثابت في الدنيا وفي الآخرة، ويزيدنا إيماناً وتسليماً إنّه أرحم الراحمين، وولي المؤمنين، وهو حسبنا ونعم الوكيل. نعم المولى ونعم النصير.

____________________

١ - تقدّمت مصادره في/٤٦.

٢ - سورة الأعراف/٤٣.

٤٣٣

٤٣٤

الفصل الثاني

في العبر التي تستخلص من فاجعة الطفّ

ويحسن التعرّض لها هنا من أجل أن يسترشد بها الناس عامّة، والذين يحاولون الإصلاح خاصّة.

والكلام هنا في مقامين:

المقام الأوّل

في آليّة العمل

إنّ الناظر في نهضة الإمام الحسين (صلوات الله عليه) يرى بوضوح الحفاظ في هذه النهضة المباركة على المبادئ الشريفة والمثل السامية، ووضوح الهدف، والبعد عن اللف والدوران كما يظهر من كثير ممّا تقدّم وغيره.

سلامة آليّة العمل وشرفه

١- فالإمام الحسين (صلوات الله عليه) يعلن من يومه الأوّل في وصيته لأخيه محمد بن الحنفية المتقدّمة أنّ هدفه الإصلاح في الأُمّة والسير بسيرة جدّه وأبيه (صلوات الله عليهما وآلهما)(١) ، وإن كانت هذه السيرة لا تعجب الكثيرين على ما أشرنا إليه آنفاً.

____________________

١ - تقدّم في/٤١٢.

٤٣٥

٢- كما إنّه يعلن فيها عن أنّ موقفه ممّن يردّ عليه ذلك هو الصبر وانتظار حكم الله تعالى من دون أن يهدّد بالعنف والانتقام منه، أو يلجأ للشتم والتهريج والتشنيع(١) .

٣- ويعلن في كتابه إلى بني هاشم أنّ مصير مَنْ يتبعه الشهادة؛ ليكونوا على بصيرة من أمرهم من دون أن يلوّح لهم بأمل النجاح العسكري من أجل حثّهم على الالتحاق به ونصره(٢) .

٤- وبنحو ذلك يعلن في خطبته في مكة المكرّمة المتقدّمة عندما عزم على الخروج إلى العراق حيث أعلن (عليه السّلام) أنّه سوف يُقتل، وأنّه لا بدّ لمَنْ يتبعه أن يكون باذلاً في أهل البيت (صلوات الله عليهم) مهجته، موطّناً على لقاء الله (عزّ وجلّ) نفسه(٣) .

٥- ولما أرسل (صلوات الله عليه) مسلم بن عقيل (عليه السّلام) إلى الكوفة لم يمنه النصر، بل قال له: «إنّي موجّهك إلى أهل الكوفة، وسيقضي الله في أمرك ما يحبّ ويرضى، وأنا أرجو أن أكون أنا وأنت في درجة الشهداء...»(٤) .

٦- وحينما بلغه (عليه السّلام) في الطريق مقتل مسلم بن عقيل وهاني بن عروة وعبد الله بن يقطر، وخذلان أهل الكوفة له، خطب مَنْ معه وأعلمهم بذلك، وأذن لهم بالانصراف.

فانصرف عنه كثير ممّن تبعه في الطريق؛ لظنّهم أنّه يأتي بلداً أطاعه أهله،

____________________

١ - تقدّم في/٤١٢.

٢ - تقدّم في/٤٦.

٣ - تقدّم في/٢٧.

٤ - مقتل الحسين - للخوارزمي ١/١٩٦ في مقتل مسلم بن عقيل، واللفظ له، الفتوح - لابن أعثم ٥/٣٦ ذكر كتاب الحسين بن علي إلى أهل الكوفة.

٤٣٦

فكره (صلوات الله عليه) أن يسيروا معه إلّا على علم بما يقدمون عليه(١) .

٧- ولما طلبوا من سفيره مسلم بن عقيل أن يغتال ابن زياد حينما جاء لزيارة شريك في دار هاني بن عروة لم يفعل ما أرادوا منه، ولما سُئل عن ذلك كان في جملة عذره حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي قال فيه: «إنّ الإيمان قيد الفتك»(٢) .

٨- وفي شراف أمر الإمام الحسين (صلوات الله عليه) فتيانه أن يستكثروا من الماء، وسقى به جيش الحرّ بن يزيد الرياحي تفضّلاً منه عليهم؛ لتحلّيه بمكارم الأخلاق مع أنّهم في صف أعدائه، وقد جاؤوا ليأخذوه ومَنْ معه أسرى إلى ابن زياد؛ ليمضي حكمه فيهم(٣) .

٩- ولما منعه الحرّ من النزول في نينوى أو الغاضرية أو شفية قال زهير بن القين (رضوان الله تعالى عليه) للإمام الحسين (عليه السّلام): إنّه لا يكون والله بعد ما ترون إلّا ما هو أشدّ منه يابن رسول الله، وإنّ قتال هؤلاء الساعة أهون علينا من قتال مَنْ يأتينا من بعدهم؛ فلعمري، ليأتينا من بعد مَنْ ترى ما لا قِبَل لنا به. فقال له الإمام الحسين (صلوات الله عليه): «ما كنت لأبدأهم بالقتال»(٤) .

وذلك منه (عليه السّلام) غاية في التنزّه عن البغي والعدوان، أو عن أن يتّهم بشيء

____________________

١ - مقتل الحسين - للخوارزمي ١/٢٢٩ واللفظ له، الكامل في التاريخ ٤/٤٣ أحداث سنة ستين من الهجرة، ذكر مسير الحسين إلى الكوفة، تاريخ الطبري ٤/٣٠١ أحداث سنة إحدى وستين من الهجرة، الفصول المهمة ٢/٨٠٦ - ٨٠٧ الفصل الثالث، فصل في ذكر مخرجه (عليه السّلام)، وقريب منه في البداية والنهاية ٨/١٨٢ أحداث سنة ستين من الهجرة، صفة مخرج الحسين إلى العراق، وغيرها من المصادر.

٢ - مقاتل الطالبيين/٦٥ مقتل الحسين بن علي (عليه السّلام)، تاريخ الطبري ٤/٢٧١ أحداث سنة ستين من الهجرة، ذكر الخبر عن مراسلة الكوفيين الحسين (عليه السّلام)، الكامل في التاريخ ٤/٢٧ أحداث سنة ستين من الهجرة، ذكر الخبر عن مراسلة الكوفيين الحسين (عليه السّلام).

٣ - تقدّمت مصادره في/٣١.

٤ - تقدّمت مصادره في/٣٤.

٤٣٧

من ذلك تحريفاً للواقع، وتشويهاً للحقيقة، وتهريجاً عليه.

١٠- ومثله ما ورد من أنّ أصحاب الإمام الحسين (عليه السّلام) لما أشعلوا النار في الحطب في الخندق الذي حفروه حولهم عندما حوصروا، نادى الشمر: يا حسين، استعجلت النار في الدنيا قبل يوم القيامة.

فقال مسلم بن عوسجة (رضوان الله عليه) للإمام الحسين (عليه السّلام): يابن رسول الله جعلت فداك، ألا أرميه بسهم؟ فإنّه قد أمكنني، وليس يسقط سهم. فالفاسق من أعظم الجبّارين.

فقال له الإمام الحسين (صلوات الله عليه): «لا ترمه؛ فإنّي أكره أن أبدأهم»(١) .

١١- ولما حوصر (عليه السّلام) وهُدّد بالمناجزة والقتال، خطب أصحابه ليلة العاشر من المحرّم وقال في جملة ما قال: «أمّا بعد، فإنّي لا أعلم أصحاباً أوفى ولا أخير من أصحابي، ولا أهل بيت أبرّ ولا أوصل من أهل بيتي، فجزاكم الله عنّي خيراً. ألا وإنّي لأظنّ يومنا من هؤلاء الأعداء غداً، وإنّي قد أذنت لكم جميعاً فانطلقوا في حِلّ ليس عليكم منّي ذمام. هذا الليل قد غشيكم فاتّخذوه جملاً، وليأخذ كلّ رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي. فجزاكم الله جميعاً خيراً. ثمّ تفرّقوا في البلاد في سوادكم ومدائنكم حتى يفرّج الله؛ فإنّ القوم يطلبونني، ولو أصابوني لهوا عن طلب غيري»(٢) .

كلّ ذلك من أجل أن يكون موقف أصحابه معه عن قناعة تامّة غير مشوبة بإحراج أو حياء أو نحو ذلك ممّا قد يستغلّه المصلحيون، خصوصاً في مثل هذه الظروف الحرجة؛ حيث قد يسلكون فيها الطرق الملتوية ويتشبّثون بالذرائع الواهية في محاولة تكثير الأعوان، وضمان نصرتهم له.

____________________

١ - تاريخ الطبري ٤/٣٢٢ أحداث سنة إحدى وستين من الهجرة.

٢ - الكامل في التاريخ ٤/٥٧ - ٥٨ أحداث سنة إحدى وستين من الهجرة، ذكر مقتل الحسين (رضي الله عنه)، واللفظ له، تاريخ الطبري ٤/٣١٧ أحداث سنة إحدى وستين من الهجرة.

٤٣٨

١٢- ومثل ذلك ما عن الأسود بن قيس العبدي قال: قيل لمحمد بن بشير الحضرمي: قد أُسر ابنك بثغر الرّي. قال: عند الله أحتسبه ونفسي. ما كنت أحبّ أن يؤسر، ولا أن أبقى بعده. فسمع قوله الحسين (عليه السّلام)، فقال له: «رحمك الله. أنت في حلّ من بيعتي، فاعمل في فكاك ابنك». قال: أكلتني السباع حيّاً إن فارقتك. قال: «فاعط ابنك هذه الأثواب البرود يستعين بها في فداء أخيه»، فأعطاه خمسة أثواب قيمتها ألف دينار(١) ... إلى غير ذلك ممّا يجده الناظر في تاريخ هذه النهضة المقدّسة ممّا يشهد بالتزام المبادئ والدين والخلق الرفيع فيها.

وهو الذي جرى عليه أئمّة أهل البيت (صلوات الله عليهم) في جميع مواقفهم ونشاطاتهم، وعُرف عنهم، وكان سبباً في فرض احترامهم على العدو والصديق، بل تقديسهم لهم.

على مدّعي الإصلاح التزام سلامة آليّة العمل

فاللازم على مدّعي الإصلاح التمسّك بذلك، والحفاظ عليه.

أوّلاً : لأنّ ذلك هو اللازم في نفسه، لشرف تلك المبادئ، وسمو تلك المثل.

وثانياً : لتكون الوسيلة مناسبة للهدف؛ حيث يكشف ذلك عن صدق مدّعي الإصلاح في دعواه، وسلامة هدفه وغايته.

وأمّا ما قد يُدّعى من أنّ ذلك قد يُعيق عملية الإصلاح؛ حيث قد يستغل الطرف الآخر ذلك من أجل الالتفاف على المصلح، والقضاء على مشروعه كما حصل كثيراً.

____________________

١ - تاريخ دمشق ١٤/١٨٢ في ترجمة الحسين بن علي بن أبي طالب، واللفظ له، تهذيب الكمال ٦/٤٠٧ في ترجمة الحسين بن علي بن أبي طالب، ترجمة الإمام الحسين (عليه السّلام) من طبقات ابن سعد/٧١ ح ٢٩٢.

٤٣٩

فهو مرفوض أوّلاً؛ لأنّ التخلّي عن مشروع الإصلاح والالتزام بتعذّره، أو الاكتفاء منه بالقليل الممكن مع الحفاظ على المبادئ المذكورة أهون بكثير من الخروج في وسيلة الإصلاح عن الدين والمبادئ الشريفة والمثل السامية، كما قال أمير المؤمنين (صلوات الله عليه): «لا أرى إصلاحكم بفساد نفسي»(١) .

وثانياً : لأنّ الحفاظ في الأوقات الحرجة على الدين والمبادئ الشريفة هو بنفسه إصلاح للمجتمع على الأمد البعيد؛ لأنّه يذكر بالدين والمبادئ المذكورة، وينّبه إلى أهميته، وإلى أنّ هذه المبادئ عملية قابلة للتطبيق، ولا يتخلّى عنها أهلها مهما كلّفتهم من تضحيات، وليست هي فرضيات صرفة، أو شعارات برّاقة لإقناع الناس واصطياد الأتباع.

وذلك في حقيقته حثّ عملي عليها يوجب تركزها في النفوس، وله أعظم الأثر في إصلاح المجتمع ورفع مستواه الخلقي.

لا يتابع مدّعي الإصلاح مع عدم سلامة آليّة العمل

ويترتب على ما ذكرنا أنّه لا ينبغي لعموم الناس التجاوب مع مدّعي الإصلاح إذا لم يلتزم بالمبادئ والمثل، وسوّغ لنفسه الخروج عليها.

لأنّ ذلك يكشف إمّا عن كذبه في دعوى الإصلاح، أو عن ضعفه أمام المغريات والمبرّرات المزعومة بنحو لا يؤمَن عليه من الانحراف في نهاية المطاف، فيكون التعاون معه تغريراً وتفريطاً لا يُعذر صاحبه فيه.

والحذر ثمّ الحذر من أن تجرّ شدّة الانفعال من الفساد، والرغبة العارمة في الإصلاح إلى مواقف انفعالية عاطفية يفقد الإنسان بها رشده، فيتخلّى في سبيل

____________________

١ - أنساب الأشراف ٣/٢١٥ غارة بسر بن أبي أرطاة القرشي، الإرشاد ١/٢٧٣، الأمالي - للمفيد/٢٠٧، بحار الأنوار ٣٤/١٤.

٤٤٠

441

442