حياة الامام الحسين عليه السلام الجزء ١

حياة الامام الحسين عليه السلام0%

حياة الامام الحسين عليه السلام مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 442

حياة الامام الحسين عليه السلام

مؤلف: باقر شريف القرشي
تصنيف:

الصفحات: 442
المشاهدات: 159072
تحميل: 5193


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 442 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 159072 / تحميل: 5193
الحجم الحجم الحجم
حياة الامام الحسين عليه السلام

حياة الامام الحسين عليه السلام الجزء 1

مؤلف:
العربية

العظيم بعد عزله الوليد بن عقبة ؛ لاقترافه جريمة شرب الخمر ، وقد استقبل الكوفيون واليهم الجديد بالكراهية وعدم الرضى ؛ لأنه كان شاباً مترفاً متهوّراً لا يتحرّج من المنكر. يقول المؤرّخون : إنّه قال مرّة في رمضان : مَنْ رأى منكم الهلال؟ فقام الصحابي العظيم هاشم بن عتبة المرقال فقال : أنا رأيته. فلم يعنَ به وإنما وجَه إليه منكر القول وأقساه ، قائلاً :

بعينك هذه العوراء رأيته؟!

فالتاع هاشم وانبرى منكراً عليه قائلاً : تعيّرني بعيني وإنما فُقئت في سبيل الله! وكانت عينه اُصيبت يوم اليرموك.

وأصبح هاشم مفطراً ؛ عملاً بقول رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : «صوموا لرؤيته ، وأفطروا لرؤيته». وفطر الناس لإفطاره ، وانتهى الخبر إلى سعيد ، فأرسل إليه وضربه ضرباً مبرحاً وحرق داره ، وقد أثار ذلك حفائظ النفوس ونقم عليه الناس ؛ لأنه اعتدى بغير حق على علم من أعلام الجهاد في الإسلام(1) .

وكان سعيد في منتهى الطيش والغرور ، فقد اُثر عنه أنه قال : إنما السواد ـ يعني سواد الكوفة ـ بستان لقريش. وأثار ذلك عليه موجة من الغضب والاستياء ؛ فقد اندفع زعيم الأحرار مالك الأشتر راداً عليه قائلاً : أتجعل مراكز رماحنا وما أفاء الله علينا بستاناً لك ولقومك؟! والله ، لو رامه أحد لقرع قرعاً يتصأصأ منه.

وهكذا اتّخذ الحكم المنحرف الذي فرض على الاُمّة بقوة السيوف خيرات المجتمع بستاناً لقريش التي ناهضت الإسلام وناجزته الحرب.

وانضم قرّاء المصر وفقهاؤهم إلى الزعيم مالك الأشتر مؤيدين مقالته ، ومنكرين

__________________

(1) حياة الإمام الحسن (عليه السّلام) 1 / 240.

٣٤١

على الوالي غروره وطيشه ، وغضب مدير شرطة سعيد فرد عليهم رداً غليظاً فبادروا إليه فضربوه ضرباً عنيفاً حتّى أغمي عليه ، وقاموا من مجلسه وأطلقوا ألسنتهم بنقده ، وذكر مثالب عثمان وسيئاته ، وأخذوا يذيعون سيئات قريش وجرائم بني اُميّة ، ورفع سعيد من فوره رسالة إلى عثمان أخبره فيها بشأن القوم ، فأجابه عثمان بأن ينفيهم إلى الشام ، وكتب في نفس الوقت رسالة إلى معاوية يأمره فيها باستصلاحهم.

ولم يرتكب هؤلاء الأحرار إثماً أو فساداً ، ولم يقترفوا جرماً حتّى يقابلوا بالاضطهاد والنفي ، وإنما نقدوا أميرهم ؛ لأنه قال غير الحقِّ ، وشذّ عن الطريق القويم ، وقد منح الإسلام الحرية التامة لنقد الحاكمين والمسؤولين إذا شذّوا في سلوكهم وجاروا على رعيتهم ، وجعل هذه الحرية حقّاً ذاتياً لكلِّ مواطن ، وألزم الدولة برعايتها وتوفيرها للناس.

وعلى أي حال ، فقد قامت السلطة بإخراجهم بالعنف والقهر من أوطانهم وأرسلتهم إلى الشام ، فتلقّاهم معاوية وأمر بإنزالهم في كنيسة ، وأجرى لهم بعض الرزق ، وجعل يناظرهم ويعظهم ، ويحبّذ لهم مسالمة السلطة والرضى بسياستها ، إلاّ أنهم لم يستجيبوا له ، وأنكروا عليه ما قاله سعيد : من أن السواد بستان لقريش ، معلنين على أنه لا ميزة للقبائل القرشية على غيرها حتّى تختصّ بخيرات البلاد.

ولما يئس منهم معاوية كتب إلى عثمان يستعفيه من بقائهم في الشام ؛ خوفاً من أن يفسدوا أهلها عليه ، فأعفاه عثمان وأمره بردّهم إلى الكوفة ، فلمّا عدوا إليها انطلقت ألسنتهم بالنقد في ذكر مثالب الاُمويِّين ومساوئهم ، ورفع سعيد أمرهم إلى عثمان ثانياً ، فأمره بنفيهم عن وطنهم إلى حمص والجزيرة ، فأخرجهم من وطنهم إلى حمص ، فقابلهم واليها عبد الرحمان بن خالد بأعنف القول وأقساه ، وسامهم سوء العذاب ، وأمعن في إرهاقهم

٣٤٢

والتنكيل بهم ، فكان فيما يقول الرواة : إذا ركب أمر بهم ليسيروا حول ركابه مبالغة في إذلالهم واحتقارهم ، ولما رأوا تلك القسوة أظهروا الطاعة والإذعان للسلطة ، وكتب إلى عثمان في شأنهم ، فأجابه إلى ذلك وأمره بردّهم إلى الكوفة ، ولما نزحوا عن حمص جعلوا طريقهم إلى يثرب لمقابلة عثمان ، فلما انتهوا إليها قابلوه وعرضوا عليه ما عانوه من التنكيل والإرهاق.

ولم يلبثوا قليلاً حتّى فاجأهم سعيد ، فقد جاء في مهمّة رسمية إلى عثمان ، فوجد القوم عنده يشكونه ويسألونه عزله ، إلاّ أنّه أعرض عنهم ولم يستجب لهم ، وألزمهم بالانصياع إلى أوامر واليهم ، كما أمره أن يرجع ويزاول عمله.

وقفل القوم قبله راجعين إلى مصرهم وقد سبقوه إليه ، فقاموا باحتلاله ، وأقسموا أن لا يدخله سعيد ما حملوا سيوفهم ، ثم خرجوا في جماعة مسلّحين بقيادة الزعيم مالك الأشتر حتّى انتهوا إلى (الجرعة) ، فرابطوا فيها ليحولوا بين سعيد وبين دخوله إلى الكوفة ، وأقبل سعيد فقاموا إليه وعنّفوه أشدّ العنف ، وحرموا عليه دخول مصرهم ، فولّى منهزماً إلى عثمان يشكوهم إليه ، ولم يجد عثمان بدّاً من عزله ، فعزله وولّى غيره مكانه على كره منه(1) .

وعلى أي حال ، فإنّ عثمان قد نكل بالناقدين لسعيد بن العاص ، وهم قرّاء المصر وفقهاؤه ، ونفاهم عن أوطانهم من أجل شاب طائش متهوّر ؛ لأنه من اُسرته وذويه ، وكان ذلك من موجبات النقمة عليه لا في الكوفة وإنما في جميع الأقاليم الإسلاميّة التي انتهى إليها أمرهم.

2 ـ عبد الله بن عامر :

وعبد الله بن عامر بن كريز هو ابن خال عثمان ، وقد ولاّه إمارة

__________________

(1) تاريخ الطبري 5 / 85 ، تاريخ أبي الفداء 1 / 68 ، الأنساب 5 / 39 ـ 43.

٣٤٣

البصرة بعد أن عزل عنها أبا موسى الأشعري ، وكان عمره أربعاً أو خمساً وعشرين سنة(1) ، وقد اختاره لولاية هذا المصر العظيم ، وكان الأولى أن يختار له من ثقاة الصحابة وخيارهم ؛ لتستفيد الناس من هديه وصلاحه وتقواه ، وتستمد منه الخير والرشاد ، ولكنه لم يعن بذلك ، وإنما عمد إلى ولايته ؛ لأنه ابن خاله.

وقد سار ـ فيما يقول الرواة ـ سيرة ترف وبذخ ، فكان ولاّجاً خرّاجاً كما وصفه الأشعري(2) ؛ فهو أول مَنْ لبس الخز في البصرة ، وقد لبس جبة دكناء ، فقال الناس : لبس الأمير جلد دب! فغيّر لباسه ولبس جبة حمراء(3) . وقد أنكر عليه سياسته وسيرته عامر بن عبد الله التميمي ، كما عاب على عثمان سلوكه وسيرته.

وقد روى الطبري أنه اجتمع ناس من المسلمين فتذاكروا أعمال عثمان ، فاجتمع رأيهم أن يبعثوا إليه رجلاً يكلّمه ويخبره بأحداثه ، واختاروا عامر بن عبد الله لمقابلته ، ولمّا التقى به قال له : إن ناساً من المسلمين اجتمعوا فنظروا في أعمالك فوجدوك قد ركبت اُموراً عظاماً ، فاتّقِ الله عزّ وجلّ وتب إليه وانزع عنها.

فاحتقره عثمان وأعرض عنه ، وقال لمَنْ حوله : انظروا إلى هذا! فإنّ الناس يزعمون أنه قارئ ، ثم هو يجيء فيكلّمني في المحقرات ، فوالله ما يدري أين الله.

وما هي المحقرات التي كلّمه بها؟ إنّه لم يكلّمه إلاّ بتقوى الله والعدل في الرعية ، وإيثار مصلحة المسلمين ، واتّباع سيرة النبي (صلّى الله عليه وآله) ، ولكن عثمان شق عليه ذلك واعتبر نصيحته من المحقرات.

__________________

(1) الاستيعاب المطبوع على هامش الإصابة 2 / 253.

(2) الكامل 3 / 38.

(3) اُسد الغابة 3 / 192.

٣٤٤

والتفت إليه عامر فقال ساخراً منه : أنا لا أدري أين الله؟!

ـ نعم.

ـ إني لأدري إن الله بالمرصاد.

وغضب عثمان فأرسل إلى مستشاريه وعمّاله فعرض عليهم نقمة المعارضين له ، ونقل لهم حديث عامر معه ، وطلب منهم الرأي في ذلك ، فأشار عليه ابن خاله عبد الله بن عامر قائلاًَ : رأي لك يا أمير المؤمنين أن تأمرهم بجهاد يشغلهم عنك ، وأن تجمهرهم في المغازي حتّى يذلّوا لك ، فلا يكون همّة أحدهم إلاّ نفسه ، وما هو فيه من دبر دابته وقمل فروته.

وأشار عليه آخرون بخلاف ذلك ، إلاّ أنه استجاب لرأي عبد الله الداعي إلى مقابلة الناقمين عليه بالعسف والعنف وردّ عماله ، وأمرهم بالتضييق على المعارضين له ، كما أمرهم بتجمير الناس في البعوث ، وعزم على تحريم عطائهم حتّى يشيع الفقر والبؤس فيهم فيضطروا إلى طاعته(1) .

ولمّا قفل عبد الله بن عامر إلى البصرة عمد إلى التنكيل بعامر بن عبد الله ، وأوعز إلى عملائه أن يشهدوا عليه شهادة زور وبهتان بأنه قد خالف المسلمين في اُمور أحلّها الله ، وأنه لا يأكل اللحم ، ولا يرى الزواج ، ولا يشهد الجمعة(2) ، ودوّن شهادتهم بذلك ورفعها إلى عثمان ، فأمره بنفيه إلى الشام ، وحمله على قتب حتّى يشقّ عليه السفر.

ولمّا انتهى إلى الشام أنزله معاوية (الخضراء) ، وبعث إليه بجارية لتكون عيناً عليه ، وتنقل له أخباره وشؤونه ، وأشرفت عليه الجارية فرأته يقوم في الليل متعبّداً ،

__________________

(1) تاريخ الطبري 5 / 94 ، تاريخ ابن خلدون 2 / 39.

(2) الفتنة الكبرى 1 / 116.

٣٤٥

ويخرج من السحر فلا يعود إلاّ بعد العتمة ، ولا يتناول من طعام معاوية شيئاً ، وكان يتناول كسراً من الخبز ويجعلها في الماء تحرّجاً من أن يدخل جوفه شيء من الحرام ، وانبرت الجارية فأخبرت معاوية بشأنه ، فكتب إلى عثمان بأمره فأوعز إليه بصلته(1) .

وقد نقم المسلمون على عثمان ، وعابوا عليه ما ارتكبه في شأن هذا الرجل الصالح الذي أمره بتقوى الله والعدل في الرعية.

وظلّ عبد الله بن عامر والياً على البصرة يسير فيها بسيرة لم يألفها المسلمون ، فلم يتحرّج عن الإثم والبغي والاعتداء ، ولمّا قتل عثمان نهب ما في بيت المال وسار إلى مكة فوافى بها طلحة والزبير وعائشة فانضمّ إليهم ، وأمدّهم بالأموال ليستعينوا بها على مناجزة الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) ، وهو الذي أشار عليهم بالنزوح إلى البصرة والانصراف عن الشام(2) .

3 ـ الوليد بن عقبة :

وعهد عثمان بولاية الكوفة إلى الوليد بن عقبة بعد أن عزل عنها سعد بن أبي وقاص الزهري ، وأجمع المؤرّخون على أنه كان من فسّاق بني أمية ومن أكثرهم مجوناً وانحرافاً عن الإسلام ، وهو ممّن أخبر النبي (صلّى الله عليه وآله) بأنه من أهل النار(3) ، وكان أبوه عقبة من ألدّ أعداء رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، فكان يأتي بالفروث فيطرحه على بابه(4) ، وقد بصق في وجه النبي (صلّى الله عليه وآله) ، فهدّده (صلّى الله عليه وآله) بأنه إن وجده خارجاً من جبال مكّة يأمر بضرب عنقه ، فلمّا كانت واقعة بدر امتنع من الخروج ، فأصرّ عليه أصحابه بالخروج معهم

__________________

(1) الإصابة 3 / 85.

(2) اُسد الغابة 3 / 192.

(3) مروج الذهب 2 / 223.

(4) طبقات ابن سعد 1 / 186.

٣٤٦

فأخبرهم بمقالة النبي (صلّى الله عليه وآله) له ، فأغروه وخدعوه ، وقالوا له : لك جمل أحمر لا يدرك ، فلو كانت الهزيمة طرت عليه.

فاستجاب لهم ، وخرج لحرب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فلمّا هزم الله المشركين حمل به جمله في جدود من الأرض فأخذه المسلمون ، وجاؤوا به أسيراً ، فأمر علياً بضرب عنقه ، فقام إليه وقتله(1) .

وقد اُترعت نفس الوليد بالحقد على النبي (صلّى الله عليه وآله) ؛ لأنه قد وتره بأبيه ، وقد أسلم مع مَن أسلم من كفّار قريش ؛ خوفاً من حدّ السيف الذي نزع روح أبيه.

وقد لقبّه القرآن الكريم بالفاسق ، ويقول المؤرّخون والمفسّرون : إنه نزلت آيتان في فسقه :

الاُولى : قوله تعالى :( إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ) (2) . وكان سبب نزول هذه الآية أنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) أرسله إلى بني المصطلق لأخذ الصدقة ، فعاد إليه وأخبره بأنهم منعوه عنها ، فخرج (صلّى الله عليه وآله) إليهم غازياً فتبيّن له كذبه ونزلت الآية معلنة فسقه.

الثانية : قوله تعالى :( أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا ) (3) . وسبب نزولها أنّه جرت مشادّة بينه وبين الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) ، فقال له الوليد : اسكت فإنك صبي وأنا شيخ ؛ والله إنّي أبسط منك لساناً ، وأحدّ منك سناناً ، وأشجع منك جناناً ، وأملأ منك حشواً في الكتيبة.

فقال له علي (عليه السّلام) :

__________________

(1) الغدير 8 / 273.

(2) سورة الحجرات / 6 ، يقول ابن عبد البر في الاستيعاب 2 / 62 : لا خلاف بين أهل العلم بتأويل القرآن فيما علمت أنّ الآية نزلت في الوليد.

(3) سورة السجدة / 18.

٣٤٧

«اسكت فإنك فاسق». فأنزل الله فيهما هذه الآية ، ونظم الحادثة حسان بن ثابت بقوله:

أنزل اللهُ والكتابُ عزيزٌ

في عليٍّ وفي الوليدِ قرانا

فتبوّا الوليدُ من ذاك فسقاً

وعليٌّ مبوّأٌ إيمانا

ليس مَن كان مؤمناً عرف اللهَ

كمَن كان فاسقاً خوّانا

فعليٌّ يلقى لدى الله عزّاً

ووليدٌ يلقى هناك هوانا

سوف يُجزى الوليد خزياً وناراً

وعليٌّ لا شكّ يُجزى جنانا(1)

ولمّا عهد إليه عثمان بولاية الكوفة كان يشرب الخمر جهاراً ، وقد دخل قصره وهو ثمل يتمثّل بأبيات لتأبط شراً.

ولستُ بعيداً عن مدامٍ وقَينةٍ

ولا بصفاً صلدٍ عن الخيرِ معزلِ

ولكنني أروي من الخمرِ هامتي

وأمشى الملا بالساحبِ المتسلسلِ(2)

ويقول الرواة : إنه كان يستمع إلى الغناء ويظل يسمر مع ندمائه ومغنّيه سكراناً من أوّل الليل إلى الصباح ، وكان يؤثر بمنادمته صديقاً له من نصارى تغلب هو أبو زبيد الطائي ، وقد أنزله داراً على باب المسجد ، ثمّ وهبها له ، فكان الطائي يخرج من منزله حتّى يشقّ الجامع إليه فيسمر عنده ويشرب ، فيشقّ المسجد وهو سكران(3) .

ويقول المؤرّخون : إنه شرب الخمر فصلّى بالناس وهو ثمل صلاة الصبح أربع ركعات ، وصار يقول في ركوعه وسجوده : اشرب واسقني ، ثمّ قاء في المحراب وسلّم ، وقال للمصلّين خلفه : هل أزيدكم؟ فقال له ابن مسعود : لا زادك الله خيراً ، ولا مَن

__________________

(1) تذكرة الخواصّ / 115.

(2) الأخبار الطوال / 156.

(3) الأغاني 5 / 122 ، مروج الذهب 1 / 232 ، العقد الفريد 6 / 348.

٣٤٨

بعثك إلينا ، وأخذ فروة نعله وضرب بها وجهه ، وحصبه الناس فدخل القصر والحصباء تأخذه وهو ثمل مترنّح(1) . وفي فضائحه ومخازيه يقول الحطيئة جرول بن أوس العبسي :

شهد الحطيئةُ يومَ يلقى ربّهُ

أنّ الوليدَ أحقُّ بالغدرِ

نادى وقد تمّت صلاتُهمُ

أأزيدكمُ؟ ثَمِلاً ولا يدري

ليزيدهمْ خيراً ولو قبلوا

منهُ أزادهمُ على عشرِ

فأبَوا أبا وهبٍ ولو فعلوا

لقرنتَ بين الشفع والوترِ

حبسوا عنانَكَ إذ جريت

ولو خلّوا عنانَكَ لم تزل تجري(2)

ويقول فيه الحطيئة مرة اُخرى :

تكلّمَ في الصلاةِ وزاد فيها

علانيةً وجاهر بالنفاقِ

ومج الخمر عن سنن المصلي

ونادى والجميع إلى افتراق

أأزيدكم على أن تحمدوني

فما لكم ومالي من خلاق(3)

وأسرع جماعة من خيار الكوفيين وصلحائهم إلى يثرب يشكون الوليد إلى عثمان ، وقد صحبوا معهم خاتمه الذي انتزعوه منه في حالة سكره ، ولمّا قابلوا عثمان وشهدوا عنده بما رأوه من شرب الوليد للخمر زجرهم عثمان ، وقال لهم :

ما يدريكم أنه شرب الخمر؟

ـ هي الخمر التي كنّا نشربها في الجاهليّة.

وأعطوه خاتمه الذي انتزعوه منه في حال سكره لتأييد شهادتهم ، وغضب عثمان وقام فدفع في صدورهم ، وقابلهم بأخبث القول وأقساه ،

__________________

(1) السيرة الحلبيّة 2 / 314.

(2) الأغاني 4 / 178 ـ 179.

(3) الأغاني 4 / 178.

٣٤٩

فخرجوا منه وقد ملك الذعر إهابهم ، وانطلقوا إلى الإمام أمير المؤمنين وأخبروه بما ألمّ بهم ، فانبرى الإمام إلى عثمان فقال له : «دفعت الشهود وأبطلت الحدود؟».

وهدأ عثمان وخاف من عواقب الاُمور ، فاتّجه نحو الإمام قائلاً بصوت خافت : ما ترى؟

ـ «أرى أن تبعث إلى صاحبك ، فإن أقاما الشهادة في وجهه ولم يدلِ بحجّة أقمت عليه الحدّ».

ولم يجد عثمان بدّاً من الإذعان لقول الإمام ، فكتب إلى الوليد يأمره بالشخوص إليه ، ولمّا وصلت إلى الوليد رسالة عثمان نزح من الكوفة إلى يثرب ، ولمّا مثل بين يدي عثمان دعا بالشهود فأقاموا عليه الشهادة ، فلم يدلِ بأيّة حجّة ، وبذلك خضع لإقامة الحدِّ.

ولم ينبرِ إليه أحد لإقامة الحدّ عليه ؛ خوفاً من عثمان ، فقام الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) ودنا منه ، فسبّه الوليد وقال : يا صاحب مكس(1) . وقام إليه عقيل فردّ سبّه ، وجعل الوليد يروغ عن الإمام فاجتذبه وضرب به الأرض وعلاه بالسّوط ، وتميّز عثمان غيظاً وغضباً ، فصاح بالإمام : ليس لك أن تفعل به هذا.

فأجابه الغمام بمنطق الشرع قائلاً : «بلى وشرٌّ من هذا إذا فسق ، ومنع حق الله أن يؤخذ منه»(2) .

ودلّت هذه البادرة على تهاون عثمان بحدود الله ، وعدم اكتراثه بإقامتها. وعلّق الاُستاذ العلائلي على هذه البادرة بقوله :

__________________

(1) المكس : النقص والظلم.

(2) مروج الذهب 2 / 225.

٣٥٠

هذه القصة تضع بين أيدينا شيئاً جديداً ، غير العطاء الذي يرجع إلى مكان العاطفة ، تضع بين أيدينا صورة من الإغضاء عن مجاوزة السلطة للقانون والإغضاء في واقعة دينية ، بحيث يجب على الخليفة أن يكون أوّل مَن يغار عليها ، وإلاّ هدد مكانه وأفسح للناس مجال التقوّل والتجريح ، وبالأخص حين جاءت حكومته عقيب حكومة عمر التي عرفت بالشدّة فيما يتعلّق بالحدود الدينية حتّى لو كان من أقرب ذوي القربى.

إذاً فهذه المبالغة في الإغضاء والصفح والمجاوزة لا ترجع إلى مكان العاطفة وحدها إن كانت ، بل إلى الحزبية أيضاً حتّى تتناصر مجتمعة(1) .

وعلى أيّ حال فإن الوليد قد ترك أثراً سيّئاً في الكوفة ، فقد تأثّرت بمجونه فكانت سيرته نقطة تحوّل في هذه المدينة ـ التي كانت تضمّ الصحابة والتابعين ـ إلى مدينة المجّان واللاهين ؛ فقد أعزى الوليد الناس إلى الاندفاع نحو المتع واللهو ، واُسّست في الكوفة دور للغناء والطرب ، وانتشر فيها المجّان ، وكان من المغنّين فيها عبد الله بن هلال الذي لقّب بصاحب إبليس(2) ، وحنين الخيري الشاعر النصراني(3) .

4 ـ عبد الله بن سعد :

واستعمل عثمان أخاه من الرضاعة عبد الله بن سعد بن أبي سرح على مصر فجعل بيده صلاته وخراجه(4) ، وكان من أخطر المشركين وأكثرهم عداءً للنبي (صلّى الله عليه وآله) وسخرية منه ، وكان يقول مستهزئاً بالنبي (صلّى الله عليه وآله) : إنّي أصرفه حيث اُريد ، وقد أهدر النبي (صلّى الله عليه وآله) دمه وإن وجد متعلّقاً بأستار

__________________

(1) الإمام الحسين (عليه السّلام) / 33.

(2) الأغاني 2 / 351.

(3) الأغاني 2 / 349.

(4) الولاة والقضاة / 11.

٣٥١

الكعبة ، وقد هرب بعد فتح مكّة فاستجار بعثمان فغيّبه ، وبعد ما اطمأنّ أهل مكة أتى به عثمان إلى النبي (صلّى الله عليه وآله) فصمت (صلّى الله عليه وآله) طويلاً ثمّ آمنه وعفا عنه ، فلمّا انصرف عثمان التفت النبي (صلّى الله عليه وآله) إلى أصحابه ، وقال لهم : «ما صمتُّ إلاّ ليقوم إليه بعضكم ليضرب عنقه».

فقال له رجل من الأنصار : هلاّ أومأت إليّ يا رسول الله؟ فقال : «إنّ النبي لا ينبغي أن تكون له خائنة الأعين»(1) .

ولمّا ولي عبد الله مصر ساس المصريين سياسة عنف وجور وكلّفهم فوق ما يطيقون ، وأظهر الكبرياء والجبروت ، فضجروا منه ، فخفّ خيارهم إلى عثمان يشكونه إليه ، فبعث إليه رسالة يستنكر فيها سيرته وسياسته في القطر ، ولم يستجب ابن أبي سرح لعثمان ، وراح مصرّاً على غيّه واعتدائه على الناس ، وعمد إلى مَن شكاه لعثمان فقلته.

وشاع التذمّر والسخط عليه ، فتشكّل وفد كبير من المصريِّين وكان عددهم ـ فيما يقول الرواة ـ سبعمئة شخص ، فخفّوا إلى عثمان ، وقد نزلوا في الجامع وشكوا إلى الصحابة ما صنع بهم ابن أبي سرح ، فانبرى طلحة إلى عثمان فكلّمه بكلام قاسي ، وأرسلت إليه عائشة تطالبه بإنصاف القوم ، وكلّمه الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) فقال له : «إنما يسألك القوم رجلاً مكان رجل ، وقد ادّعوا قبله دماً ، فاعزله عنهم واقضِ بينهم ؛ فإن وجب عليه حقّ فأنصفهم منه».

واستجاب على كره للقوم ، وقال لهم : اختاروا رجلاً أوليه عليكم مكانه. فأشار الناس عليه بمحمد بن أبي بكر ، فكتب عهده إلى مصر ووجّه معه عدّة من المهاجرين والأنصار ينظرون فيما بينهم وبين

__________________

(1) تفسير القرطبي 7 / 40 ، سنن أبي داود 2 / 220.

٣٥٢

ابن أبي سرح(1) ، ونزحوا عن المدينة فلمّا بلغوا إلى الموضع المعروف (بحمس) ، وإذا بقادم من يثرب ، تأمّلوه فإذا هو ورش غلام عثمان ، فتفحّصوا عنه وفتّشوه ، وإذا به يحمل رسالة من عثمان إلى ابن أبي سرح يأمره فيها بالتنكيل بالقوم ، وتأمّلوا في الكتاب فإذا به بخطّ مروان ، فقفلوا راجعين إلى يثرب وقد صمموا على خلع عثمان أو قتله(2) .

5 ـ معاوية بن أبي سفيان :

لم يستعمل عثمان معاوية على الشام والياً وإنما استعمله عمر وأقرّه عثمان عليها ، ولكنه زاد في نفوذه وبسط في سلطانه ، ومهّد له الطريق في نقل الخلافة الإسلاميّة إليه ، يقول طه حسين :

وليس من شكّ في أنّ عثمان هو الذي مهّد لمعاوية ما اُتيح له من نقل الخلافة ذات يوم إلى آل أبي سفيان ، وتثبيتها في بني اُميّة ، فعثمان هو الذي وسّع على معاوية في الولاية فضمّ إليه فلسطين وحمص وأنشأ له وحدة شامية بعيدة الأرجاء ، وجمع له قيادة الأجناد الأربعة ، فكانت جيوشه أقوى جيوش المسلمين ، ثمّ مدّ له في الولاية أثناء خلافته كلّها كما فعل عمر ، وأطلق يده في اُمور الشام أكثر مما أطلقها عمر. فلمّا كانت الفتنة نظر معاوية فإذا هو أبعد الاُمراء بالولاية عهداً ، وأقواهم جنداً ، وأملكهم لقلب الرعية(3) .

إنّ عثمان هو الذي مدّ في سلطان معاوية ، وزاد في سعة ولايته ، وبسط له النفوذ حتّى كان من أقوى الولاة وأعظمهم نفوذاً ، وأصبح قطره من أهمّ الأقطار الإسلاميّة وأمنعها ، وأكثرها هدوءاً واستقراراً.

__________________

(1) أنساب الأشراف 5 / 26.

(2) حياة الإمام الحسن (عليه السّلام) 1 / 250.

(3) الفتنة الكبرى 1 / 120.

٣٥٣

هؤلاء بعض ولاة عثمان وكلّهم من بني اُميّة وآل أبي معيط ، ولم يمنحهم الحكم إلاّ إثرة ومحاباة ، وتقوية لنفوذ الاُمويِّين وحملهم على رقاب المسلمين.

وقد علّق السّيد مير علي الهندي على ولاة عثمان بقوله : كان هؤلاء هم رجال الخليفة المفضّلين ، وقد تعلّقوا بالولايات كالعقبان الجائعة ، فجعلوا ينهشونها ، ويكدّسون الثروات منها بوسائل الإرهاق التي لا ترحم(1) .

سياسته الماليّة :

لم تكن سياسة عثمان المالية إلاّ امتداداً لسياسة عمر(2) ، فليس لعثمان منهج خاص في السياسة المالية سوى الذي سنّه عمر ، من إيجاد الطبقية وتقديم بعض الناس على بعض في العطاء ، وقد شذّت هذه السياسة عمّا قنّنه الإسلام من لزوم المساواة ووجوب الإنفاق على المرافق العامة ، وإصلاح الحياة الاقتصادية ومكافحة الفقر ، والقيام بإعالة الضعيف والمحتاج ، وليس لولاة الاُمور أن يصطفوا منها أي شيء ، وليس لهم أن يمنحوها لدعم حكمهم وسلطانهم ، وقد تحرّج الإسلام في ذلك أشدّ الحرج ، يقول رسول الله (صلى الله عليه وآله) : «إنّ رجالاً يتخوّضون في مال الله بغير حقٍّ فلهم النار يوم القيامة»(3) .

وكتب الإمام أمير المؤمنين رائد الحق والعدالة في الأرض إلى قثم بن العباس عامله على مكة كتاباً ألقى فيه الأضواء على السياسة المالية التي انتهجها الإسلام وهذا نصّه :

__________________

(1) روح الإسلام / 90.

(2) تاريخ العراق في ظل الحكم الاُموي / 22.

(3) صحيح البخاري 5 / 17.

٣٥٤

«انظر إلى ما اجتمع عندك من مال الله فاصرفه إلى مَن قبلك من ذوي العيال والمجاعة ، مصيباً به مواضع الفاقة والخلاّت ، وما فضل عن ذلك فاحمله إلينا لنقسمه فيمَن قبلنا»(1) .

هذا هو اتّجاه الإسلام في أموال الدولة ، فهو يلزم ولاة الاُمور بإنفاقها على مواضع الفاقة والمحتاجين ؛ لئلاّ يبقى بائس أو محروم في البلاد ، ولكن عثمان لم يعنِ بذلك ، وإنما أنفق الأموال العامة على الأشراف والوجوه وبني اُميّة وآل أبي معيط ، فتكدّست عندهم الأموال وحاروا في صرفها.

لقد أصبحت الأموال الهائلة التي تتدفّق على الخزينة المركزية تمنح للاُمويِّين ، وادّعوا أنّ المال إنما هو ملكهم لا مال الدولة ، وأنها ملك لبني اُميّة ، فقد منحوا نفوسهم بجميع الامتيازات(2) ، وفيما يلي قائمة في الأموال التي منحها لهم ولغيرهم :

عطاياه للاُمويِّين :

وخصّ عثمان بني اُميّة بالأموال ، ومنحهم الهبات الضخمة ، وهي كما يلي :

1 ـ الحارث بن الحكم :

ووهب عثمان الحارث صهره من عائشة ما يلي :

أ ـ ثلاثمئة ألف درهم(3) .

ب ـ وهبه إبل الصدقة التي وردت إلى المدينة.

__________________

(1) نهج البلاغة ـ محمد عبده 2 / 128.

(2) العقيدة والشريعة في الإسلام / 53.

(3) أنساب الأشراف 5 / 52.

٣٥٥

ج ـ أقطعه سوقاً في يثرب يعرف بنهروز بعد أن تصدّق به النبي (صلّى الله عليه وآله) على جميع المسلمين(1) .

2 ـ أبو سفيان :

ووهب عثمان إلى أبي سفيان ـ رأس المنافقين ـ مئتي ألف من بيت المال(2) .

3 ـ سعيد بن العاص :

ومنح عثمان سعيد بن العاص مئة ألف درهم(3) .

4 ـ عبد الله بن خالد :

وتزوّج عبد الله بن خالد بن أسيد بنت عثمان فأمر له بستمئة ألف درهم ، وكتب إلى عبد الله بن عامر واليه على البصرة أن يدفعها إليه من بيت المال(4) .

5 ـ الوليد بن عقبة :

الوليد بن عقبة أخو عثمان من اُمّه استقرض من عبد الله بن مسعود أموالاً طائلة من بيت المال فأقرضه ، وطلبها منه عبد الله فأبى أن يدفعها ، ورفع رسالة إلى عثمان يشكوه إليه ، فكتب عثمان إلى عبد الله رسالة جاء فيها : إنما أنت خازن لنا فلا تعرض للوليد فيما أخذ من المال. فغضب ابن مسعود ، وطرح مفاتيح بيت المال وقال : كنت أظنّ أنّي خازن للمسلمين ؛ فأمّا إذا كنت خازناً لكم فلا حاجة لي في ذلك. وأقام بالكوفة بعد أن استقال من منصبه(5) .

__________________

(1) أنساب الأشراف 5 / 28.

(2) شرح نهج البلاغة 1 / 67.

(3) أنساب الأشراف 5 / 28.

(4) تاريخ اليعقوبي 2 / 145.

(5) الأنساب 5 / 30.

٣٥٦

فبيت المال في عرف السياسة العثمانية ملك للاُمويِّين وليس ملكاً للمسلمين ، ونترك هذا الحكم إلى القرّاء.

6 ـ الحكم بن أبي العاص :

كان هذا الرجس الخبيث من ألدّ أعداء رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وقد نفاه (صلّى الله عليه وآله) إلى الطائف ، وقال : «لا يساكنني». ولم يزل منفيّاً هو وأولاده طيلة خلافة الشيخين ، ولمّا انتهى الحكم إلى عثمان أصدر عنه العفو فقَدِم إلى يثرب وهو يسوق تيساً ، وعليه ثياب خلقة ، فدخل على عثمان فكساه جبّة خز وطيلسان(1) ، ووهبه من الأموال مئة ألف(2) ، وولاه على صدقات قضاعة فبلغت ثلاثمئة ألف فوهبها له(3) .

وأدّت هباته للحَكَم إلى شيوع التذمّر والنقمة عليه من جميع الأوساط الإسلاميّة.

7 ـ مروان بن الحكم :

امّا مروان بن الحكم فهو وزيره ومستشاره الخاص ، وجميع مقدّرات الدولة تحت تصرّفه ، وقد منحه الثراء العريض ووهبه من الأموال ما يلي :

أ ـ أعطاه خمس غنائم أفريقية وقد بلغت خمسمئة ألف دينار ، وقد عيب عليه في ذلك ، وهجاه الشاعر الثائر عبد الرحمان بن حنبل بقوله :

سأحلفُ بالله جهدَ اليميـ

ـنِ ما ترك الله أمراً سُدى

ولكنْ خُلقتَ لنا فتنةً

لكي نُبتلى بك أو تُبتلى

فإن الأمينين قد بيّنا

منارَ الطريق عليه الهُدى

فما أخذا درهماً غيلةً

وما جعلا درهماً في الهوى

__________________

(1) تاريخ اليعقوبي 2 / 41.

(2) المعارف / 84.

(3) الأنساب 5 / 28.

٣٥٧

دعوت اللعينَ فأدنيتَهُ

خلافاً لسّنة مَن قد قضى

وأعطيت مروانَ خُمسَ العبا

دِ ظلماً لهم وحميت الحمى(1)

ب ـ أعطاه ألف وخمسين أوقية ، لا نعلم أنها من الذهب أو الفضة ، وهي من الاُمور التي أشاعت التذمّر والنقمة عليه(2) .

ج ـ أعطاه مئة ألف من بيت المال ، فجاء زيد بن أرقم خازن بيت المال بالمفاتيح فوضعها بين يدي عثمان وجعل يبكي فنهره عثمان وقال له : أتبكي إن وصلت رحمي؟

ولكن أبكي لأنّي أظنّك أنّك أخذت هذا المال عوضاً عمّا كنت أنفقته في سبيل الله في حياة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، لو أعطيت مروان مئة درهم لكان كثيراً.

فصاح به عثمان : القِ المفاتيح يابن أرقم ، فإنا سنجد غيرك(3) .

د ـ أقطعه فدكاً(4) .

هـ ـ كتب له بخُمس مصر(5) .

هذه بعض صلاته للاُمويِّين ، وقد نقم عليه المسلمون وسخط عليه الأخيار والأحرار ، فإن هذه الاُسرة هي التي عادت الله ورسوله وحاربت الإسلام ، وليس من الحقّ ولا من العدل أن تستأثر بأموال المسلمين وفيئهم ، في حين قد شاعت الحاجة في جميع أنحاء البلاد.

__________________

(1) تاريخ أبي الفداء 1 / 168.

(2) سيرة الحلبي 2 / 87.

(3) شرح ابن أبي الحديد 1 / 67.

(4) تاريخ أبي الفداء 1 / 168 ، المعارف / 84.

(5) طبقات ابن سعد 3 / 24.

٣٥٨

منحه للأعيان :

ووهب عثمان الوجوه والأعيان ممّن يخاف سطوتهم ، وقد أعطى من الشخصيات ما يلي :

1 ـ طلحة :

وأوصل طلحة بمئتي ألف دينار(1) ، وكانت له عليه خمسون ألفاً ، فقال له طلحة : تهيّأ مالك فاقبضه. فوهبه له وقال : هو لك يا أبا محمد على مروءتك(2) .

2 ـ الزبير :

ومنح الزبير بن العوام ستمئة ألف ، ولمّا قبضها حار فيها فجعل يسأل عن خير المال ليستغل صلته ، فدلّ على اتخاذ الدور في الأقاليم والأمصار(3) ؛ فبنى إحدى عشرة داراً بالمدينة ، ودارين بالبصرة ، وداراً بالكوفة ، وداراً بمصر(4) .

3 ـ زيد بن ثابت :

ووهب أموالاً ضخمة لزيد بن ثابت ، حتّى بلغ به الثراء العريض أنّه لمّا توفّي خلّف من الذهب والفضة ما يكسر بالفؤوس ، عدا ما ترك من الأموال والضياع ما قيمته مئة ألف(5) .

__________________

(1) تاريخ الطبري 5 / 139.

(2) تاريخ الطبري 5 / 139.

(3) طبقات ابن سعد.

(4) صحيح البخاري 5 / 21.

(5) مروج الذهب 1 / 344.

٣٥٩

ومنح أموالاً اُخرى للمؤيّدين لسياسته كحسان بن ثابت وغيره ، وقد ذكرها المؤرّخون بالتفصيل ، وهي تذكّرنا بأصحاب الملايين في عصرنا الحديث.

لقد اتّسع الثراء العريض بشكل فاحش عند بعض الصحابة حتّى أنّ بعضهم خاف أن يقلّل الله ثوابه في الدار الآخرة ، يقول خباب بن الأرت : لقد رأيتني مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ما أملك ديناراً ولا درهماً ، وإنّ في ناحية بيتي في تابوتي لأربعين ألف واف(1) ، ولقد خشيت أن تكون عجلت طيّباتنا في حياتنا الدنيا(2) .

ويرى (فان فلوتن) : إنّ هذه السياسة الاقتصادية أدّت إلى انتشار الترف والفساد(3) .

إقطاع الأراضي :

وأقطع عثمان أراضي في الكوفة ، مع العلم أنها ملك للمسلمين ؛ لأنها مما فتحت عنوة ، فقد أقطع أراضي في داخل الكوفة وخارجها ؛ أمّا التي في داخل الكوفة فقد أقيمت فيها الدور والمساكن ، وسمّيت (مساكن الوجوه) ، وقد أقطع لجماعة من الصحابة وهم :

طلحة وسمّيت دار الطلحيِّين وكانت في الكناسة ، وأقطع عبيد الله بن عمر وسمّيت (كويفة ابن عمر) ، وأقطع اُسامة بن زيد ، وسعد ، وابن أخيه هاشم بن عتبة ، وأبا موسى الاشعري ، وحذيفة العبسي ، وعبد الله بن مسعود ، وسلمان الباهلي ، والمسيب الفزاري ، وعمرو بن حريث المخزومي ، وجبير بن مطعم الثقفي ، وعتبة بن عمر الخزرجي ، وأبا جبير

__________________

(1) الوافي : درهم وأربعة دوانق. القاموس (مادة دوق).

(2) طبقات ابن سعد 6 / 8.

(3) السّيادة العربية / 22.

٣٦٠