حياة الامام الحسين عليه السلام الجزء ١

حياة الامام الحسين عليه السلام0%

حياة الامام الحسين عليه السلام مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 442

حياة الامام الحسين عليه السلام

مؤلف: باقر شريف القرشي
تصنيف:

الصفحات: 442
المشاهدات: 159019
تحميل: 5192


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 442 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 159019 / تحميل: 5192
الحجم الحجم الحجم
حياة الامام الحسين عليه السلام

حياة الامام الحسين عليه السلام الجزء 1

مؤلف:
العربية

إلى ما يريدون ، وأقبل الإمام تحفّ به البقيّة الطيّبة من صحابة الرسول (صلّى الله عليه وآله) فقوبل بموجة من الهتافات المؤيّدة له ، وقد أعلنوا عن رغبتهم الملحّة في أن يتولّى شؤون المسلمين ، واعتلى الإمام أعواد المنبر فخاطب الجماهير قائلاً : «أيها الناس ، إنّ هذا أمركم ليس لأحد فيه حقّ إلاّ مَن أمّرتم ، وقد افترقنا بالأمس وكنت كارهاً لأمركم فأبيتم إلاّ أن أكون عليكم ، ألا وأنه ليس لي أن آخذ درهماً دونكم ، فإن شئتم قعدت لكم وإلاّ فلا أأخذ على أحد».

وألقى الإمام (عليه السّلام) الأضواء على سياسته المالية النيّرة ، فهو يحتاط كأشدّ ما يكون الاحتياط بأموال الدولة ، فلا يستأثر بأيّ شيء منها ، ولا ينفق درهماً على مصالحه وشؤونه الخاصة ، وهو يشير بذلك إلى الذين تمرّغوا في أموال الخزينة المركزية أيّام الحكم المباد فنهبوا الأموال ، وأخذوها بغير حلّها ، وإنه إذا تولّى شؤون المسلمين فسوف يحرمون منها ويعاملون كبقية أفراد الشعب ، ويعود المال حسب ما يريد الله للاُمّة لا للحاكم.

وتعالت الهتافات من جميع جنبات المسجد وهي تعلن الإصرار الكامل على انتخابه ، قائلين بلسان واحد : نحن على ما فارقناك عليه بالأمس.

وتدافعت الجماهير كالموج المتلاطم إلى البيعة ، وتقدّم طلحة بيده الشلاّء التي سرعان ما نكث بها عهد الله فبايع ، فتطيّر منه الإمام (عليه السّلام) وطفق يقول : «ما أخلقه أن ينكث»(1) .

وتوالت الجماهير تبايع الإمام ، وهي إنما تبايع الله ورسوله ، وبايعته القوات المسلحة من المصريِّين والعراقيِّين ، وبايعه عرب الأمصار وأهل

__________________

(1) العقد الفريد 3 / 93.

٤٠١

بدر والمهاجرين والأنصار عامّة(1) . ولم يظفر أحد من الخلفاء بمثل هذه البيعة في شمولها واتّساعها ، وعمّت الأفراح والمسرّات جميع المسلمين ، وقد وصف الإمام (عليه السّلام) مدى ابتهاج الناس وسرورهم ببيعته بقوله : «وبلغ من سرور الناس ببيعتهم أن ابتهج بها الصغير ، وهدج(2) إليها الكبير ، وتحامل نحوها العليل ، وحسرت إليها الكعاب»(3) .

لقد ابتهج المسلمون بهذه البيعة التي تحقق أهدافهم ، وتحقق ما يصبون إليه من العزّة والكرامة ، وقد كانت بيعته يوم السبت لإحدى عشر ليلة بقيت من ذي الحجة(4) .

وقد انبرى أعلام الصحابة فأعلنوا أمام جماهير الاُمّة عن تأييدهم الشامل ودعمهم الكامل لحكومة الإمام ، وقد ذكرنا ذلك بصورة مفصّلة في كتابنا (حياة الإمام الحسن) ، كما ذكرنا فيه عرضاً للوفود التي أقبلت من أغلب مناطق العالم الإسلامي وهي تشارك المسلين فرحتهم ، وتعلن عن دعمها لبيعة الإمام.

تطهير جهاز الدولة :

وأوّل عمل قام به الإمام فور توليته لمنصب رئاسة الدولة هو عزل ولاة عثمان الذين سخّروا جهاز الحكم لمصالحهم الخاصة ، واثروا ثراءً فاحشاً مما اختلسوه من بيوت المال ، وقد عزل معاوية بن أبي سفيان ، ويقول

__________________

(1) أنساب الأشراف 5 / 22.

(2) هدج : الشيخ الكبير الذي يمشي في ارتعاش.

(3) حياة الإمام الحسن (عليه السّلام) 1 / 376 ، الطبعة الثالثة.

(4) أنساب الأشراف 1 ق 1.

٤٠٢

المؤرّخون : إنّه أشار عليه جماعة من المخلصين بإبقائه في منصبه ريثما تستقر الأوضاع السياسية ثمّ يعزله فأبى الإمام ، وأعلن أنّ ذلك من المداهنة في دينه ، وهو مما لا يقره ضميره الحيّ الذي لا يسلك أيّ طريق يبعده عن الحقّ ، ولو أبقاه ساعة لكان ذلك تزكيةً له وإقراراً بعدالته ، وصلاحيته للحكم. لقد تحرّج الإمام أشدّ ما يكون التحرّج في أيّام حكومته فابتعد عن جميع ألوان السياسة المبتنية على الخداع والتضليل.

تأميم الأموال المختلسة :

وانطلق رائد العدالة الإسلاميّة يقيم في ربوع الدولة الإسلاميّة حكم الله ويرفع راية الحق ، وقد أصدر قراره الحاسم بتأميم الأموال المختلسة التي نهبها الحكم المباد ، وبادرت السلطة التنفيذية بوضع اليد على القطائع التي أقطعها عثمان لذوي قرباه ، والأموال التي استأثر بها عثمان ، وقد صودرت أمواله حتّى سيفه ودرعه ، وأضافها الإمام (عليه السّلام) إلى بيت المال ، وقد فزع بنو اُميّة كأشدّ ما يكون الفزع ، واندفعوا إلى الإنكار على الإمام (عليه السّلام).

يقول الوليد بن عقبة يعاتب بني هاشم ، وينكر عليهم ذلك يقول :

بني هاشمٍ ردّوا سلاحَ ابنِ اُختكُمْ

ولا تنهبوهُ لا تحلُّ مناهبُهْ

بني هاشمٍ كيف الهوادةُ بيننا

وعند عليٍّ درعُهُ ونجائبُهْ

بني هاشمٍ كيف التوددُ منكمُ

وبزّ ابن أروى فيكمُ وحرائبُهْ

بني هاشمٍ ألاّ تردّوا فإننا

سواءٌ علينا قاتليه وسالبُهْ

بني هاشمٍ إنّا وما كان منكمُ

كصدعِ الصفا لا يشعب الصدعَ شاعبُهْ

قتلتمْ أخي كيما تكونوا مكانَهُ

كما غدرتْ يوماً بكسرى مرازبُهْ

٤٠٣

وألمّت هذه الأبيات بالتوتر والأحقاد التي أترعت بها نفوس الاُمويِّين ، فهم يرون الإمام هو الذي قام بالحركة الانقلابية التي أطاحت بحكومة عثمان ، وهم يطالبون الهاشميِّين بردّ سيف عثمان ودرعه وسائر ممتلكاته التي صادرتها حكومة الإمام (عليه السّلام) ، وقد شاع هذا الشعر وردّدته الأندية وحفظه الناس ، وقد ردّ عليه عبد الله بن أبي سفيان بن الحارث بأبيات منها :

فلا تسألونا سيفكُمْ إنّ سيفكُمْ

اُضيع وألقاهُ لدى الروعِ صاحبُهْ

وشبّهتهُ كِسرى وقد كان مثلَهُ

شبيهاً بكسرى هديهُ وضرائبُهْ(1)

وطعن هذا الشاعر بشخصية عثمان فقد رماه بالخور ، وأنه ألقى سيفه لدى الروع حينما هجم عليه الثوار ، فلم يذبّ به عن نفسه ، ولم يقُم بأيّ دور في الحماية والدفاع عنه ، وإنما استسلم لسيوف الثوار التي تناهبت شلوه.

فزع القرشيّين :

وفزعت القبائل القرشية وأصابها الذهول فقد أيقنت أنّ الإمام سيصادر الأموال التي منحها لهم عثمان بغير حق ، فقد كتب عمرو بن العاص رسالة إلى معاوية جاء فيها : ما كنت صانعاً فاصنع إذا قشرك ابن أبي طالب من كل مال تملكه ، كما تقشر عن العصا لحاها(2) .

لقد خافت قريش على ثرواتها ، وخافت على نفوذها ومكانتها ، فقد عرفت الإمام وعرفت مخططاته الهادفة إلى إقامة الحق والعدل ، وتحطيم الامتيازات الغير المشروعة ، وأنه سيعاملهم كبقية أفراد الشعب ؛ فلذا أظهرت

__________________

(1) حياة الإمام الحسن (عليه السّلام) 1 / 343 ، الطبعة الثانية.

(2) الغدير 8 / 288.

٤٠٤

أحقادها البالغة على حكومته ، وقد وصف ابن أبي الحديد مدى فزعهم واضطرابهم بقوله :

كأنها حاله لو أفضت الخلافة إليه يوم وفاة ابن عمّه من إظهار ما في النفوس ، وهيجان ما في القلوب حتّى الأحلاف من قريش ، والأحداث والفتيان الذين لم يشهدوا وقائعه وفتكاته في أسلافهم وآبائهم ، فعلوا ما لو كانت الأسلاف أحياء لقصرت عن فعله(1) .

لقد راح الحسد ينهش قلوب القرشيّين ، والأحقاد تنخر ضمائرهم ، فاندفعوا إلى إعلان العصيان والتمرّد على حكومة الإمام ، وسنذكر لذلك عرضاً في البحوث الآتية.

التياع الإمام (عليه السّلام) :

وامتحن الإمام (عليه السّلام) امتحاناً عسيراً من الاُسر القرشية ، وقد عانى منها أشدّ ألوان المحن والخطوب في جميع أدوار حياته ، يقول (ع) : «لقد أخافتني قريش صغيراً ، وأنصبتني كبيراً ، حتّى قبض الله رسوله فكانت الطامة الكبرى ، والله المستعان على ما تصفون»(2) .

وتحدّث (عليه السّلام) في رسالته إلى أخيه عقيل عن إجماعهم على حربه ، كما أجمعوا على حرب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، يقول : «فدع عنك قريشاً في الضلال ، وتجوالهم في الشقاق ، وجماحهم في التيه ، فإنهم قد أجمعوا على حرب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قبلي ، فجزت قريشاً

__________________

(1) شرح نهج البلاغة.

(2) شرح نهج البلاغة 4 / 108.

٤٠٥

عنّي الجوازي ؛ فقد قطعوا رحمي ، وسلبوني سلطان ابن اُمّي»(1) .

ولم يعن بهم الإمام ، وانطلق يؤسس معالم سياسته العادلة ، ويحقق للاُمّة ما تصبوا إليه من العدالة الاجتماعية ، وقد أجمع رأيه على أن يقابلهم بالمثل ، ويسدّد لهم الضربات القاصمة إن خلعوا الطاعة وأظهروا البغي ، يقول (عليه السّلام) : «ما لي ولقريش! لقد قتلتهم كافرين ، ولأقتلنّهم مفتونين. والله لأبقرنّ الباطل حتّى يظهر الحقّ من خاصرته ، فقل لقريش فلتضجّ ضجيجها»(2) .

لقد جهدت قريش على إطفاء نور الله ، وتدمير المثُل الإسلاميّة بكل قواها ، في محاربة الإمام والإطاحة بحكومته ، كما جهدت من قبل على حرب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وردّ رسالة الإسلام لمصدرها.

سياسة الإمام (عليه السّلام) :

لا أعرف حاكماً سياسياً أو مصلحاً اجتماعياً تبنّى العدل بجميع رحابه ومفاهيمه كالإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) ، فقد بنى حكمه على الحقِّ الخالص والعدل المحض ، وتبنّى مصالح المظلومين والمضطهدين على اختلاف قوميّاتهم وأديانهم ، وقد أجهد نفسه وكلّفها رهقاً فيما بسطه من صنوف العدل والمساواة ؛ فكان يشرف على كل بادرة في رقاع دولته ، ويتفقّد جميع شؤون رعيّته ؛ فكان يطيل التفكير في البؤساء والضعفاء في جميع أرجاء دولته الممتدّة الأطراف ، وقد رأى أن يشاركهم في جشوبة العيش ، وخشونة اللباس ، ويبيت طاوياً ؛ إذ لعلّ بالحجاز أو اليمامة مَن لا عهد له بالقوت ،

__________________

(1) شرح نهج البلاغة 16 / 36.

(2) حياة الإمام الحسن (عليه السّلام) 1 / 341.

٤٠٦

ولا طمع له بالشبع ؛ لذلك ضيّق على نفسه ، وحرّم عليها جميع متع الحياة وحملها على الجهد والحرمان ، واتجه فكره النيّر وضميره الحي إلى إسعاد الناس ، ونشر الدعة والرفاهية فيهم وفيما يلي عرضاً موجزا لسياسته.

سياسته المالية :

أمّا السياسة المالية التي انتهجها الإمام (عليه السّلام) فإنما هي امتداد لسياسة الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) ، الذي عنى بتطوير الحياة الاقتصادية ، وإنعاش الحياة العامة في جميع أنحاء البلاد ، بحيث لا يبقى فقير أو بائس أو محتاج ، وذلك بتوزيع ثروات الاُمّة توزيعاً عادلاً على جميع القطعات الشعبية.

أمّا مظاهر تلك السياسة الاقتصادية الخلاّقة فهي :

1 ـ المساواة في التوزيع والعطاء ، فليس لأحد على أحد فضل أو امتياز ، وإنما الجميع على حدّ سواء ، فلا فضل للمهاجرين على الأنصار ولا لاُسرة النبي (صلّى الله عليه وآله) وأزواجه على غيرهم ، ولا للعربي على غيره ، وقد طبّق الإمام (عليه السّلام) هذه الجهة بصورة دقيقة وشاملة فكان ـ فيما أجمع عليه المؤرّخون ـ قد ساوى بين المسلمين في العطاء ، ولم يميّز قوماً على آخرين ؛ فقد وفدت إليه سيّدة قرشية من الحجاز طالبة منه الزيادة في عطائها ، وقد التقت قبل أن تصل إليه بعجوز فارسية كانت مقيمة في الكوفة فسألتها عن عطائها فإذا به يساوي ما خصص لها ، فأمسكت بها وجاءت بها إليه ، وقد رفعت عقيرتها قائلة : هل من العدل أن تساوي بيني وبين هذه الأمة الفارسيّة؟!

فرمقها الإمام (عليه السّلام) بطرفه ، وتناول قبضة من التراب وجعل ينظر إليه ويقلّبه بيده وهو يقول :

٤٠٧

«لم يكن بعض هذا الترب أفضل من بعض». وتلا قوله تعالى :( إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ) .

وقد أثارت هذه العدالة في التوزيع غضب الرأسماليين من القرشيين وغيرهم ، فأعلنوا سخطهم على الإمام ، وقد خفّت إليه جموع من أصحابه تطالبه بالعدول عن سياسته ، فأجابهم الإمام : «أَ تَأْمُرُونِّي أَنْ أَطْلُبَ النَّصْرَ بِالْجَوْرِ فِيمَنْ وُلِّيتُ عَلَيْهِ؟ وَاللَّهِ لا أَطُورُ بِهِ مَا سَمَرَ سَمِيرٌ ، وَمَا أَمَّ نَجْمٌ فِي السَّمَاءِ نَجْماً. لَوْ كَانَ الْمَالُ لِي لَسَوَّيْتُ بَيْنَهُمْ فَكَيْفَ وَإِنَّمَا الْمَالُ مَالُ اللَّهِ؟! أَلا وَإِنَّ إِعْطَاءَ الْمَالِ فِي غَيْرِ حَقِّهِ تَبْذِيرٌ وَإِسْرَافٌ ، وَهُوَ يَرْفَعُ صَاحِبَهُ فِي الدُّنْيَا وَيَضَعُهُ فِي الآخِرَةِ ، وَيُكْرِمُهُ فِي النَّاسِ وَيُهِينُهُ عِنْدَ اللَّهِ»(1) .

لقد كان الإمام يهدف في سياسته المالية إلى إيجاد مجتمع لا تطغى فيه الرأسمالية ، ولا تحدث فيه الأزمات الاقتصادية ، ولا يواجه المجتمع أيّ حرمان أو ضيق في حياته المعاشية.

لقد أدّت هذه السياسة المشرقة ، المستمدّة من واقع الإسلام وهديه ، إلى إجماع القوى الباغية على الإسلام أن تعمل جاهدة على إشاعة الفوضى والاضطراب في البلاد ، مستهدفة بذلك الإطاحة بحكومة الإمام.

ويرى المدائني : إنّ من أهمّ الأسباب التي أدّت إلى تخاذل العرب عن الإمام اتّباعه لمبدأ المساواة ، حيث كان لا يفضل شريفاً على مشروف في العطاء ، ولا عربياً على عجمي(2) . لقد ورمت آناف اُولئك الطغاة من سياسة الإمام (عليه السّلام) التي

__________________

(1) نهج البلاغة ـ محمد عبده 25 / 10.

(2) شرح ابن أبي الحديد 1 / 180.

٤٠٨

هدّمت الحواجز ، وألغت الطبقية ، وساوت بين جميع أبناء المسلمين لا في العطاء فقط وإنما في جميع الحقوق والواجبات.

2 ـ الإنفاق على تطوير الحياة الاقتصادية وإنشاء المشاريع الزراعية ، والعمل على زيادة الإنتاج الزراعي الذي كان العمود الفقري للاقتصاد العام في تلك العصور ، وقد أكّد الإمام في عهده لمالك الأشتر على رعاية إصلاح الأرض قبل أخذ الخراج منها ، يقول (عليه السّلام) : «وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج ؛ لأن ذلك لا يدرك إلاّ بالعمارة ، ومَن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد وأهلك العباد ، ولم يستقم أمره إلاّ قليلاً»(1) .

لقد كان أهم ما يعني به الإمام (عليه السّلام) في سياسته الاقتصادية زيادة الدخل الفردي ، ونشر الرفاهية والرخاء بصورة شاملة في جميع أنحاء العالم الإسلامي ، وقد حفلت رسائله إلى ولاته بالاهتمام في هذه الجهة ، فقد أكّد عليهم لزوم الإنفاق على تطوير الاقتصاد العام حتّى لا يبقى أيّ شبح للفقر والحرمان في البلاد.

3 ـ عدم الاستئثار بأيّ شيء من أموال الدولة ، فقد تحرّج الإمام فيها كأشدّ ما يكون التحرّج ، وقد أثبتت المصادر الإسلاميّة بوادر كثيرة من احتياطه البالغ فيها ، فقد وفد عليه أخوه عقيل طالباً منه أن يمنحه الصلة ، ويرفّه عليه حياته المعاشية ، فأخبره الإمام : إنّ ما في بيت المال للمسلمين ، وليس له أن يأخذ منه قليلاً ولا كثيراً ، وإذا منحه شيء فإنه يكون مختلساً ، فلم يفقه عقيل ذلك وأخذ يلحّ عليه ويجهد في مطالبته ، فأحمى له الإمام (عليه السّلام) حديدة وأدناها منه ، وكاد أن يحترق من ميسمها ، وضجّ ضجيج ذي

__________________

(1) نهج البلاغة ـ محمد عبده 3 / 106.

٤٠٩

دنف ، فلمّا أفاق أجمع رأيه على الالتحاق بمعاوية ، لينعم بصلاته وهباته التي يختلسها من أموال المسلمين.

لقد أجمع المؤرّخون على أنّ الإمام (عليه السّلام) قد أجهد نفسه وأرهقها من أمره عسراً ، فلم ينعم هو ولا أهل بيته من خيرات الدولة ، ولم يصطفِ منها أي شيء ، وقد نفر منه ذوو الأطماع ، وراح يوصي بعضهم بعضاً في الابتعاد عن الإمام.

يقول خالد بن معمر الأوسي لعلباء بن الهيثم ـ وكان من أصحاب علي ـ : اتق الله يا علباء في عشيرتك ، وانظر لنفسك ولرحمك ماذا تؤمل عند رجل أردته على أن يزيد في عطاء الحسن والحسين دريهمات يسيرة ريثما يرأبان بها ظلف عيشهما فأبى وغضب ، فلم يفعل(1) ؟!

إنّ الإنسانية على ما جرّبت من تجارب ، وبلغت من رقي وإبداع في الأنظمة الاقتصادية فإنها بأي حال لم تستطع أن تنشأ مثل هذا النظام الاقتصادي الذي انتهجه الإمام ؛ فإنه يرتبط بواقع الحياة ، ولا يشذّ عن سننها ، وهو يهدف قبل كل شيء إلى عدالة التوزيع وبسط الرفاهية على الجميع ، والقضاء على الحاجة والحرمان.

وعلى أيّ حال فإن السياسة الاقتصادية الخلاّقة التي تبنّاها الإمام قد ثقلت على القوى المنحرفة عن الإسلام ، فانصرفوا عن الإمام وأهل بيته ، والتحقوا بالمعسكر الاُموي الذي يضمن لهم الاستغلال والنهب ، وسلب قوت الشعب والتلاعب باقتصاد البلاد.

وقد كان قادة الجيش الذي خفّ لحرب ريحانة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) من ذوي الثروات الطائلة ، كعمرو بن حريث(2) ، وشبث بن ربعي ، وحجار بن أبجر وغيرهم ممن منحتهم الحكومة

__________________

(1) شرح ابن أبي الحديد 10 / 250.

(2) تاريخ الطبري 1 / 5 / 2600 ، وجاء فيه : إنّ عمرو بن حريث كان أكثر أهل الكوفة مالاً.

٤١٠

الاُمويّة الثراء العريض ، فاندفعوا إلى حرب الإمام ؛ حفظاً على مصالحهم الشخصية ، وإبقاءً على ثرواتهم التي تكوّنت بغير وجه مشروع ؛ فقد أيقنوا أنّ الإمام الحسين (عليه السّلام) إذا استتبّ له الأمر فإنه لا يشذّ عن منهج أبيه وسياسته ، وأنهم سيفقدون المنح والهبات التي تغدقها عليهم الحكومة الاُمويّة ، وسنذكر ذلك مشفوعاً بالتفصيل في البحوث الآتية ، وبهذا ينتهي بنا الحديث عن سياسته المالية.

سياسته الداخليّة :

وأجهد الإمام (عليه السّلام) نفسه على أن يحقق بين الناس العدل الاجتماعي والعدل السياسي ، ويحملهم على الطريق الواضح الذي لا التواء فيه ، ويسير فيهم بسياسة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) الهادفة إلى تطبيق العدل ، وبسط الحقّ بين القريب والبعيد ، بحيث لا يسمع أنين لمظلوم أو محروم ، ولا يعد ظل للحاجة والبؤس حسبما يريده الله في الأرض. لقد عنى الإمام (عليه السّلام) بإزالة جميع أسباب التخلّف والانحطاط ، وتحقيق حياة كريمة يجد فيها الإنسان جميع متطلّبات حياته من الدعة والأمن والرخاء والاستقرار ، ونلمع فيما يلي إلى بعض مظاهرها :

المساواة :

أمّا المساواة بين الناس فهي من العناصر الذاتية في سياسة الإمام (عليه السّلام) وقد تبنّاها في جميع أدوار حكومته ، ورفع شعارها عالياً حتّى عُرف برائد العدل والمساواة في الأرض ؛ أمّا مظاهرها فهي :

٤١١

1 ـ المساواة في الحقوق والواجبات.

2 ـ المساواة في العطاء.

3 ـ المساواة أمام القانون.

وقد ألزم الإمام عمّاله وولاته بتطبيق المساواة بين الناس على اختلاف قومياتهم وأديانهم ، يقول (عليه السّلام) في بعض رسائله إلى عمّاله : «واخفض للرعيّة جناحك ، وابسط لهم وجهك ، وألن لهم جنابك ، وآس بينهم في اللحظة والنظرة ، والإشارة والتحيّة ؛ حتّى لا يطمع العظماء في حيفك ، ولا ييأس الضعفاء من عدلك»(1) .

ولم تقنّن في أيّ دين أو مذهب اجتماعي مثل هذه المساواة المشرقة التي تنشد كرامة الإنسان وعزّته ، وتؤلف ما بين المشاعر والعواطف ، وتجمع الناس على صعيد من المحبّة والإخاء.

الحريّة :

أمّا الحرية عند الإمام فهي من الحقوق الذاتية لكل إنسان ، ويجب أن تتوفّر للجميع ، شريطة أن لا تستغل في الاعتداء والإضرار بالناس. وكان من أبرز معالمها هي :

الحريّة السياسة :

ونعني بها أن تتاح للناس الحرية التامّة في اعتناق أيّ مذهب سياسي دون أن تفرض عليهم السلطة رأياً معاكساً لما يذهبون إليه ، وقد منح الإمام هذه الحرية بأرحب مفاهيمها للناس ، وقد منحها لأعدائه وخصومه الذين تخلّفوا عن بيعته كسعد بن أبي وقاص ، وعبد الله بن عمر ، وحسان بن

__________________

(1) نهج البلاغة ـ محمد عبده 2 / 10.

٤١٢

ثابت ، وكعب بن مالك ، ومسلمة بن مخلد ، وأبي سعيد الخدري(1) ، وأمثالهم من أنصار الحكم المباد الذين كان يغدق عليهم عثمان بصلاته وهباته ، فلم يجبرهم الإمام (عليه السّلام) ، ولم يتخذ معهم أيّ إجراء حاسم كما اتخذه أبو بكر ضدّه حينما تخلّف عن بيعته.

كان الإمام يرى أنّ الناس أحرار ، ويجب على الدولة أن توفّر لهم حرّيتهم ما دام لم يخلّوا بالأمن ، ولم يعلنوا التمرّد والخروج على الحكم القائم ، وقد منح (عليه السّلام) الحرية للخوارج ولم يحرمهم عطاءهم ، مع العلم أنهم كانوا يشكّلون أقوى حزب معارض لحكومته ، فلمّا سعوا في الأرض فساداً ، وأذاعوا الذعر والخوف بين الناس انبرى إلى قتالهم ؛ حفظاً على النظام العام ، وحفظاً على سلامة المواطنين. ويتفرّع على هذه السياسة ما يلي :

1 ـ حرية القول :

ومن مظاهر الحرية الواسعة التي منحها الإمام للناس حرية القول ، وإن كان في غير صالح الدولة ما لم يتعقّبه فساد ، فالعقاب يكون عليه. فقد روى المؤرّخون : إنّ أبا خليفة الطائي لمّا رجع من النهروان التقى مع جماعة من إخوانه ، وكان فيهم أبو العيزار الطائي ، وكان من الخوارج ، فقال لعدي بن حاتم : يا أبا طريف ، أغانم سالم أم ظالم آثم؟

ـ بل غانم سالم.

ـ الحكم ذاك إليك.

وأوجس منه خيفة الأسود بن زيد والأسود بن قيس ، فألقيا القبض عليه وجاءا به مخفوراً إلى الإمام (عليه السّلام) ، ونقلا له حديثه المنطوي على الشرّ والتمرّد ، فقال (عليه السّلام) لهما :

__________________

(1) حياة الإمام الحسن (عليه السّلام) 2 / 383.

٤١٣

«ما أصنع؟».

ـ تقتله.

ـ «أقتل مَن لا يخرج عليّ؟!».

ـ تجسّسه.

ـ «ليست له جناية ، خلّيا سبيل الرجل»(1) .

ولم تمنح مثل هذه الحرية للمواطنين في جميع المذاهب الاجتماعية ، فلم يحاسب الإمام الناس على ما يقولون ، وإنما تركهم وشأنهم لهم حرية القول والفكر ، ولم يفرض عليهم رقابة تحول بينهم وبين حرّياتهم.

2 ـ حرية النقد :

وكان من مظاهر الحرية السياسية التي منحها الإمام للناس هي حرية النقد للحكم ، وعدم التعرّض للناقدين بسوء أو مكروه ، يقول المؤرّخون : إنه كان يقرأ في صلاته وخلفه جماعة من أصحابه ، فقرأ أحدهم معارضاً لقراءته :( إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ ) . فردّ عليه الإمام معارضاً :( فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لاَ يُوقِنُونَ ) (1) .

ولم يتخذ معه أيّ إجراء وإنما عفا عنه وخلى عن سبيله ، لقد كان يرى للناس الحق في الحرية الواسعة ، فلم يفرض على أحد أمراً ، ولم يستكره أحداً على الطاعة ، ولم يرغم الناس على ما لا يحبّون.

هذه بعض مظاهر الحرية التي أعطاها الإمام للناس في أيّام حكمه ، وقد حققت العدل الاجتماعي والعدل السياسي بين الناس.

العدل الشامل :

وكان العدل الشامل هو الشعار الذي رفعه الإمام (عليه السّلام) عالياً ، وتبنّاه في جميع

__________________

(1) شرح نهج البلاغة 3 / 73.

٤١٤

أدوار حكومته ، فقد جهد نفسه على إقامة العدل ورفع مناره ، وكان ـ فيما يقول المؤرّخون ـ أوّل حاكم في الإسلام بنى بيتاً للمظالم ، يضع فيه المظلومون والمعتدى عليهم رقاعاً يذكرون فيها ما أصابهم من اعتداء أو مكروه ، وكان بنفسه يتولّى الإشراف عليها ، فيأخذ لهم بحقّهم ، ويدفع عنهم غائلة ما أصابهم من أذى أو مكروه(1) .

لقد عنى الإمام عناية بالغة ببسط العدل ونشره بين الناس ، وكان ـ فيما أجمع عليه المؤرّخون ـ قد وجّه جميع أجهزة حكومته للقضاء على الظلم وتدمير أصوله ومحو أثره ، وقد قال (عليه السّلام) : «الذليل عندي عزيز حتّى آخذ الحق له ، والقوي عندي ضعيف حتّى آخذ الحق منه».

وقد عزل أحد ولاته حينما أخبرته سودة بنت عمارة بأنه قد جارَ في حُكمه ، فجعل الإمام يبكي ويقول بحرارة : «اللّهمّ أنت الشاهد عليّ وعليهم أنّي لم آمرهم بظلم خلقك ، ولا بترك حقّك». ثمّ عزله في الوقت(2) .

ونقل المؤرّخون بوادر كثيرة من صور عدله بين الناس بما لم يشاهد له مثيل في جميع أدوار التاريخ.

وحدة الاُمّة :

وجهد الإمام كأكثر ما يكون الجهد والعناء على العمل على توحيد صفوف الاُمّة ونشر الاُلفة والمحبّة بين أبنائها ، واعتبر الاُلفة الإسلاميّة من نِعَم الله الكبرى على هذه الاُمّة ، يقول (ع) : «إنّ الله سبحانه قد

__________________

(1) صبح الأعشى.

(2) العقد الفريد 1 / 211.

٤١٥

امتنّ على جماعة هذه الاُمّة فيما عقد بينهم من حبل هذه الاُلفة التي ينتقلون في ظلّها ويأوون إلى كنفها ، بنعمة لا يعرف أحد من المخلوقين لها قيمة ؛ لأنها أرجح من كلِّ ثمن ، وأجلّ من كلِّ خطر»(1) .

وناهض كل مَن يدعو إلى التفرقة وتصديع الشمل ، وأمر بأن يعلا وجهه بالسيف ـ على حدّ تعبيره ـ وقاوم العصبية التي هي من أسباب التفرقة والبغضاء بين الناس ، ودعا إلى التعصّب لمكارم الأخلاق ، يقول (عليه السّلام) : «فإن كان لا بدّ من العصبية فليكن تعصّبكم لمكارم الخصال ، ومحامد الأفعال ، ومحاسن الاُمور التي تفاضلت فيها المجداء والنجداء من بيوتات العرب ويعاسيب القبائل بالأخلاق الرغيبة ، والأحلام العظيمة ، والأخطار الجليلة ، والآثار المحمودة ؛ فتعصّبوا لخلال الحمد من الحفظ للجوار ، والوفاء بالذمام ، والطاعة للبر ، والمعصية للكبر ، والأخذ بالفضل ، والكفّ عن البغي ، والإعظام للقتل ، والإنصاف للخلق ، والكظم للغيظ ، واجتناب الفساد في الأرض»(2) .

لقد عنى الإمام بوحدة الاُمّة وتبنّى جميع الأسباب التي تؤدي إلى تماسكها واجتماع كلمتها ، وقد حافظ على هذه الوحدة في جميع أدوار حياته ؛ فقد ترك حقه وسالم الخلفاء صيانة للأمة من الفرقة والاختلاف.

التربية والتعليم :

ولم يعهد عن أحد من الحلفاء أنه عنى بالناحية التربوية أو بشؤون التعليم كالإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) ، وإنما عنوا بالشؤون العسكرية ، وعمليات الحروب ،

__________________

(1) نهج البلاغة ـ محمد عبده 2 / 180.

(2) نهج البلاغة 2 / 175.

٤١٦

وتوسيع رقعة الدولة الإسلاميّة ، وبسط نفوذها على أنحاء العالم ، ومن ثم كانت حقول التربية الدينية ضعيفة للغاية ؛ الأمر الذي أدّى إلى انتشار القلق الديني وقلّة الوعي الإسلامي ، وكان من نتائجه ظهور الحركات الإلحاديّة والمبادئ الهدّامة في العصر الاُموي والعباسي ، كما كان من نتائجه شيوع الخلاعة والمجون في كثير من أنحاء البلاد ، أمّا بيوت الخلفاء والوزراء فكانت من مراكز اللهو والدعارة والتفسّخ.

وقد أولى أمير المؤمنين (عليه السلام) المزيد من اهتمامه بهذه الناحية ؛ فاتّخذ جامع الكوفة معهداً يلقي فيه محاضراته الدينية والتوجيهية ، وكان يشغل أكثر أوقاته بالدعوة إلى الله ، وإظهار فلسفة التوحيد ، وبث الآداب والأخلاق الإسلاميّة ؛ مستهدفاً من ذلك نشر الوعي الديني ، وخلق جيل يؤمن بالله إيماناً عقائدياً لا تقليدياً ، وكانت مواعظه تهزّ أعماق النفوس خوفاً ورهبة من الله. وقد تربى في مدرسته جماعة من خيار المسلمين وصلحائهم ؛ أمثال : حجر بن عدي ، وميثم التمار ، وكميل بن زياد ، وغيرهم من رجال التقوى والصلاح في الإسلام.

وكانت وصاياه إلى ولديه الحسن والحسين (عليهما السّلام) وسائر تعاليمه من أهم الاُسس التربوية في الإسلام ؛ فقد قُنّنت اُصول التربية ، ووُضعت مناهجها على أساس تجريبية كانت من أثمن ما يملكه المسلمون في هذا المجال. أما التعاليم فقد كان الإمام (عليه السّلام) هو المعلم والباعث للروح العلمية ، فهو الذي فتق أبواب العلوم في الإسلام ؛ كعلم الفلسفة ، والكلام ، والتفسير ، والفقه ، والنحو ، وغيرها من العلوم التي تربو على ثلاثين علماً ، وإليه تستند ازدهار الحركة العلمية في العصور الذهبية في الإسلام حسب ما نص عليه المحققون.

لقد كان الإمام (عليه السّلام) المؤسس الأعلى للعلوم والمعارف في دنيا الإسلام ،

٤١٧

وقد بذل جميع جهوده على إشاعة العلم ونشر الآداب والثقافة بين المسلمين ، وكان دوماًُ يذيع بين أصحابه قوله : «سلوني قبل أن تفقدوني ، سلوني عن طرق السماء فإني أبصر بها من طرق الأرض».

ومن المؤسف والمحزن حقاً أنهم لم يستغلّوا وجود هذا العملاق العظيم فيسألوا منه عن حقيقة الفضاء والمجرّات التي تسبح فيه ، وغيرها من أسرار الطبيعة التي استمد معارفها من الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) ، لم يسألوا عن أي شيء من ذلك ، وإنما راحوا يهزؤون ، وقد قال بعضهم بسخرية : كم طاقة في رأسي من شعر؟

لقد عاش الإمام غريباً في وسط ذلك المحيط الجاهل الذي لم يعِ أي شيء من أهدافه ومثله ، ولم يعرف حق قيمته ، ولم يثمن عبقرياته ومواهبه.

وعلى أي حال ، فإن الإمام أقام حكومته على تطوير الحياة الفكرية والعلمية ، وبث المعارف والآداب بين جميع الأوساط.

ولاته وعمّاله :

واحتاط الإمام أشدّ ما يكون الاحتياط في الولاة والعمّال ، فلم يستعمل أحداً على قطر من الأقطار الإسلاميّة أو يعهد إليه بعمل إلاّ بعد إحراز الثقة بدينه والكفاءة بقدراته الإدارية ، ولم يستعمل أحداً محاباة أو إثرة وإنما استعمل خيار المسلمين وصلحاءهم ؛ أمثال مالك الأشتر ، ومحمد بن أبي بكر ، وسهل بن حنيف ، وحبر الاُمّة عبد الله بن عباس ، ونظرائهم من الذين توّفرت فيهم الخبرة التامة في شؤون الحكم والإدارة ، وقد زوّدهم برسائل مهمّة عرض فيها لشؤون الحكم وسياسة الدولة ، كما حددت من صلاحياتهم ومسؤولياتهم.

وكان من أروع تلك الوثائق السياسية عهده لمالك الأشتر ،

٤١٨

فقد حفل بتشريع ضخم لإصلاح الحياة السياسية والاقتصادية والعسكرية ، وهو أرقى وثيقة سياسية تهدف إلى ارتقاء المجتمع وتحقيق مصالحه ، ولولا الخروج عن الموضوع لوضعنا بنوده موضع التحليل.

مراقبة الولاة :

وكان فيما أجمع عليه المؤرّخون يتفقد شؤون ولاته وعمّاله ، ويرسل العيون لتحرّي أعمالهم ؛ فإن رأى منهم خيانة أو تقصيراً في واجبات أحد منهم عزله وأنزل به أقصى العقوبات. وقد بلغه أن ابن هرمة قد خان سوق الأهواز فكتب إلى عامله : «إذا قرأت كتابي فنح ابن هرمة عن السوق ، وأوقفه للناس واسجنه وناد عليه ، واكتب إلى أهل عملك تعلمهم رأيي فيه ، ولا تأخذك فيه غفلة ولا تفريط فتهلك عند الله ، وأعزلك أخبث عزلة ـ وأعيذك منه ـ. فإذا كان يوم الجمعة فأخرجه من السجن ، واضربه خمسة وثلاثين سوطاً ، وطف به إلى الأسواق ، فمَنْ أتى عليه بشاهد فحلفه مع شاهده ، وادفع إليه من مكسبه ما شهد به عليه ، ومر به إلى السجن مهاناً مقبوحاً منبوحاً»(1) .

إنها صرامة العدل التي تحسم الخيانة ، وتقضي على الرشوة ، ولا تدع أي مجال للسرقة من الشعب ؛ وقد تحرّى كل بادرة تصدر من ولاته وقد بلغه أن عامله على البصرة قد دعي إلى وليمة قوم من أهلها ، فكتب إليه يلومه على ذلك ، وقد جاء في رسالته : «أما بعد يابن حُنيف ، فقد بلغني أن رجلاً من فتية أهل البصرة دعاك إلى مأدبة فأسرعت إليها ؛ تُستطاب لك الألوان ، وتُنقل إليك الجنان ، وما ظننت أنك تجيب إلى طعام قوم عائلهم مجفو ، وغنيّهم مدعو ، فانظر

__________________

(1) البحار 16 / 26.

٤١٩

إلى ما تقضمه من هذا المقضم ، فما اشتبه عليك علمه فالفظه ، وما أيقنت بطيب وجوهه فنل منه»(1) .

إنّ الإنسانية على ما جربت من تجارب وبلغت من رقي وإبداع في أنظمة الحكم والإدارة فإنها لم تستطع أن تنشأ مثل هذا النظام الذي يدعو الموظّف إلى الترفع ورفض كل دعوة توجّه إليه ؛ خوفاً من تركه للحقِّ ، واستجابته لدواعي الخيانة والغرور.

إقصاء الانتهازيِّين :

ولم يقرب الإمام أحداً من الانتهازيين الذين لا يخلصون للحقِّ ، وإنما يسعون وراء أطماعهم ومصالحهم ، ولا يفقهون المصالح العامة ؛ فإنهم عون للسلطة على الباطل لا على العدل. وكان المجتمع الكوفي يضم طائفة كبيرة منهم كالأشعث بن قيس ، وعمرو بن حريث ، وشبث بن ربعي ، وأمثالهم من الذي ضربت مصالحهم في عهد الإمام (عليه السّلام) ، فاتصلوا بحكومة دمشق ، وقاموا بدور العمالة لها ، فراحوا يعقدون المؤامرات لإفساد جيش الإمام وشعبه ؛ مستهدفين من ذلك الإطاحة بحكومته.

وقد كانوا ـ فيما يقول المؤرّخون ـ قادة الجيش الذي اقترف أبشع جريمة في التاريخ ، وهي قتل سيد الشهداء (عليه السّلام) ؛ فقد أيقنوا أنه إذا استتب له الأمر فإنه سيدمّر مصالحهم ، فإنّ سياسته إنما هي امتداد لسياسة أبيه التي لا ظل فيها للخونة والمجرمين.

إبعاد الطامعين :

ويرى الإمام (عليه السّلام) أنّ الإمارة وسيلة من وسائل الإصلاح الاجتماعي لا يجوز

__________________

(1) نهج البلاغة ـ محمد عبده 3 / 78.

٤٢٠