حياة الامام الحسين عليه السلام الجزء ١

حياة الامام الحسين عليه السلام0%

حياة الامام الحسين عليه السلام مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 442

حياة الامام الحسين عليه السلام

مؤلف: باقر شريف القرشي
تصنيف:

الصفحات: 442
المشاهدات: 159043
تحميل: 5192


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 442 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 159043 / تحميل: 5192
الحجم الحجم الحجم
حياة الامام الحسين عليه السلام

حياة الامام الحسين عليه السلام الجزء 1

مؤلف:
العربية

المكوّنات التربويّة

٤١
٤٢

وتوفّرت في سبط الرسول (صلّى الله عليه وآله) وريحانته الإمام الحسين (عليه السّلام) جميع العناصر التربوية الفذّة التي لم يظفر بها غيره ، فأخذ بجوهرها ولبابها وقد أعدّته لقيادة الاُمّة ، وتحمّل رسالة الإسلام بجميع أبعادها ومكوّناتها ، كما أمدّته بقوى روحية لا حدّ لها من الإيمان العميق بالله ، والخلود إلى الصبر على ما انتابه من المحن والخطوب ، التي لا يطيقها أي كائن حي من بني الإنسان.

أمّا الطاقات التربوية التي ظفر بها ، وعملت على تقويمه وتزويده بأضخم الثروات الفكرية والإصلاحية فهي :

الوراثة :

حدّدت الوراثة بأنها مُشابَهة الفرع لأصله ، ولا تقتصر على المشابهة في المظاهر الشكلية وإنّما تشمل الخواص الذاتية ، والمقوّمات الطبيعية ، كما نصّ على ذلك علماء الوراثة وقالوا : إنّ ذلك أمر بيّن في جميع الكائنات الحيّة فبذور القطن تخرج القطن ، وبذور الزهرة تخرج الزهرة ، وهكذا غيرها ، فالفرع يحاكي أصله ويساويه في خواصّه ، وأدقّ صفاته ، يقول (مندل) :

إنّ كثيراً من الصفات الوراثية تنتقل بدون تجزئة أو تغيّر من أحد الأصلين أو منهما إلى الفرع.

وأكّد هذه الظاهرة (هكسلي) بقوله :

إنّه ما أثَر أو خاصة لكائن عضوي إلاّ ويرجع إلى الوراثة أو إلى البيئة ، فالتكوين الوراثي يضع الحدود لِما هو محتمل ، والبيئة تقرر أنّ هذا

٤٣

الاحتمال سيتحقق ، فالتكوين الوراثي إذاً ليس إلاّ القدرة على التفاعل مع أيّة بيئة بطريق خاص.

ومعنى ذلك أنّ جميع الآثار والخواص التي تبدو في الأجهزة الحسّاسة من جسم الإنسان ترجع إلى العوامل الوراثية وقوانينها ، والبيئة تقرّر وقوع تلك المميّزات وظهورها في الخارج ، فإذاً ليست البيئة إلاّ عاملاً مساعداً للوراثة ، حسب البحوث التجربية التي قام بها الاختصاصيّون في بحوث الوراثة.

وعلى أيّ حال فقد أكّد علماء الوراثة ـ بدون تردّد ـ : إنّ الأبناء والأحفاد يَرِثون معظم صفات آباءهم وأجدادهم النفسية والجسمية ، وهي تنتقل إليهم بغير إرادة ولا اختيار ، وقد جاء هذا المعنى صريحاً فيما كتبه الدكتور (الكسيس كارل) عن الوراثة بقوله : يمتد الزمن مثلما يمتد في الفرع إلى ما وراء حدوده الجسمية وحدوده الزمنية ليست أكثر دقّة ولا ثباتاً من حدوده الاتّساعية ، فهو مرتبط بالماضي والمستقبل ، على الرغم من أنّ ذاته لا تمتد خارج الحاضر.

وتأتي فرديّتنا ـ كما نعلم ـ إلى الوجود حينما يدخل الحويمن في البويضة ، ولكن عناصر الذات تكون موجودة قبل هذه اللحظة ومبعثرة في أنسجة أبوينا وأجدادنا وأسلافنا البعيدين جداً ؛ لأنّا مصنوعون من مواد آبائنا واُمّهاتنا الخلوية ، وتتوقف في الماضي على حالة عضوية لا تتحلل ونحمل في أنفسنا قطعاً ضئيلة لأعداد من أجسام أسلافنا ، وما صفاتنا ونقائصنا إلاّ امتداداً لنقائصهم وصفاتهم(1) .

وقد اكتشف الإسلام قبل غيره هذه الظاهرة ، ودلّل على فعّاليتها في التكوين النفسي والتربوي للفرد ، وقد حثّ بإصرار بالغ على

__________________

(1) النظام التربوي في الإسلام / 61 ـ 62.

٤٤

أن تقوم الرابطة الزوجية على أساس وثيق من الاختيار والفحص عن سلوك الزوجين ، وسلامتهما النفسية والخُلقية من العيوب والنقص ، ففي الحديث : «تخيّروا لنطفتكم فإنّ العرق دسّاس». وأشار القرآن الكريم إلى ما تنقله الوراثة من أدقّ الصفات ، قال تعالى حكاية عن نبيّه نوح :( رَبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنْ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً ) (1) . فالآية دلّت بوضوح على انتقال الكفر والإلحاد بالوراثة من الآباء إلى الأبناء ، وقد حفلت موسوعات الحديث بكوكبة كبيرة من الأخبار التي أثرت عن أئمة أهل البيت (عليهم السّلام) ، وهي تدلّل على واقع الوراثة وقوانينها ، وما لها من الأهمية البالغة في سلوك الإنسان وتقويم كيانه.

على ضوء هذه الظاهرة التي لا تشذّ في عطائها نجزم بأنّ سبط الرسول (عليه السّلام) قد ورث من جدّه الرسول (صلّى الله عليه وآله) صفاته الخُلقية والنفسية ، ومكوّناته الروحيّة التي امتاز بها على سائر النبيّين ، وقد حدّدت كثير من الروايات مدى ما ورثه هو وأخوه الإمام الحسن من الصفات الجسمية من جدّهما النبي (صلّى الله عليه وآله) ؛ فقد جاء عن علي (عليه السّلام) أنّه قال : «مَن سرّه أن ينظر إلى أشبه الناس برسول الله (صلّى الله عليه وآله) ما بين عنقه وشعره فلينظر إلى الحسن ، ومَن سرّه أن ينظر إلى أشبه الناس برسول الله (صلّى الله عليه وآله) ما بين عنقه إلى كعبه خُلقاً ولوناً فلينظر إلى الحسين»(2) . وفي رواية : أنّه كان أشبه النبي ما بين سرّته إلى قَدمه(3) . وكما ورث هذه الظاهرة من جدّه فقد ورث منه مثُله وسائر نزعاته وصفاته.

__________________

(1) سورة نوح / 26 ـ 27.

(2) المعجم الكبير ـ للطبراني ، مخطوط بخطّ العلاّمة السّيد عزيز الطباطبائي اليزدي.

(3) المنمق في أخبار قريش / 499.

٤٥

الاُسرة :

الاُسرة(1) من العوامل المهمّة في إيجاد عملية التطبيع الاجتماعي ، وتشكيل شخصية الطفل ، وإكسابه العادات التي تبقى ملازمة له طوال حياته ، فهي البذرة الاُولى في تكوين النموّ الفردي ، والسلوك الاجتماعي ، وهي أكثر فعالية في إيجاد التوازن في سلوك الشخص من سائر العوامل التربوية الاُخرى ، فمنها يتعلّم الطفل اللغة ، ويكتسب القِيَم والتقاليد الاجتماعية.

والاُسرة إنّما تنشأ أطفالها نشأة سليمة متّسمة بالاتّزان والبُعد عن الشذوذ والانحراف فيما إذا شاع في البيت الاستقرار والمودّة والطمأنينة ، وابتعد عن ألوان العنف والكراهية ، وإذا لم ترعَ ذلك فإنّ أطفالها تصاب بعُقد نفسية خطيرة ، تسبّب لهم كثيراً من المشاكل والمصاعب ، وقد ثبت في علم النفس أنّ أشدّ العُقد خطورة ، وأكثرها تمهيداً للاضطرابات الشخصية هي التي تكون في مرحلة الطفولة الباكرة خاصّةً من صلة الطفل بأبويه(2) .

كما أنّ من أهمّ وظائف الاُسرة الإشراف على تربية الأطفال ؛ فإنها مسؤولة عن عمليات التنشئة الاجتماعية ، التي يتعلّم الطفل من خلالها خبرات الثقافة وقواعدها في صورة تؤهّله في مستقبل حياته من المشاركة التفاعلية مع غيره من أعضاء المجتمع.

وأهمّ وظائف الاُسرة عند علماء التربية هي ما يلي :

__________________

(1) الاُسرة عند علماء الاجتماع : هي الرابطة الاجتماعية التي تتكوّن من زوج وزوجة وأطفالها وتشمل الجدود والأحفاد. انظر علم الاجتماع / 92.

(2) الأمراض النفسية والعقلية (ص ب).

٤٦

أ ـ إعداد الأطفال بالبيئة الصالحة لتحقيق حاجاتهم البيولوجية والاجتماعية.

ب ـ إعدادهم للمشاركة في حياة المجتمع والتعرّف على قِيَمه وعاداته.

ج ـ توفير الاستقرار والأمن والحماية لهم.

د ـ إمدادهم بالوسائل التي تهيّئ لهم تكوين ذواتهم داخل المجتمع(1) .

ه ـ تربيتهم بالتربية الأخلاقية والوجدانية والدينية(2) .

وعلى ضوء هذه البحوث التربوية الحديثة عن الاُسرة ومدى أهمّيتها في تكوين الطفل ، وتقويم سلوكه نجزم بأنّ الإمام الحسين (عليه السّلام) كان وحيداً في خصائصه ومقوّماته ، التي استمدّها من اُسرته ، فقد نشأ في اُسرة تنتهي إليها كل مكرمة وفضيلة في الإسلام ، فما أظلّت قبّة السماء اُسرة أسمى ولا أزكى من اُسرة آل الرسول (صلّى الله عليه وآله) لقد نشأ الإمام الحسين (عليه السّلام) في ظلّ هذ الاُسرة ، وتغذّى بطباعها وأخلاقها ، ونعرض ـ بإيجاز ـ لبعض النقاط المضيئة النابضة بالتربية الفذّة ، التي ظفر بها الحسين (عليه السّلام) في ظلّ الاُسرة النبويّة.

التربية النبويّة :

وقام الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) بدوره بتربية سبطه وريحانته ، فأفاض عليه بمكرماته ومثُله ، وغذّاه بقِيَمه ومكوّناته ؛ ليكون صورة عنه ، ويقول الرواة : إنّه كان كثير الاهتمام والاعتناء بشأنه ، فكان يصحبه معه في أكثر أوقاته فيشمّه عرفه وطيبه ، ويرسم له محاسن أفعاله ، ومكارم أخلاقه ، وقد علّمه وهو في غضون الصبا سورة التوحيد(3) ، ووردت إليه من تمر الصدقة

__________________

(1) النظام التربوي في الإسلام.

(2) نظام الاُسرة في الإسلام.

(3) تاريخ اليعقوبي 2 / 319.

٤٧

فتناول منها الحسين (عليه السّلام) تمرة وجعلها في فيه ، فنزعها منه الرسول (صلّى الله عليه وآله) وقال له : «لا تحلّ لنا الصدقة»(1) ، وقد عوّده وهو في سنه المبكر بذلك على الإباء ، وعدم تناول ما لا يحل له ، ومن الطبيعي أن إبعاد الطفل عن تناول الأغذية المشتبه فيها أو المحرّمة لها أثرها الذاتي في سلوك الطفل وتنمية مداركه حسب ما دللت عليه البحوث الطبيّة الحديثة ؛ فإنّ تناول الطفل للأغذية المحرّمة مما يوقف فعالياته السلوكية ، ويغرس في نفسه النزعات الشريرة ؛ كالقسوة والاعتداء والهجوم المتطرّف على الغير، وقد راعى الإسلام باهتمام بالغ هذه الجوانب فألزم بإبعاد الطفل عن تناول الغذاء المحرّم(2) ، وكان إبعاد النبي (صلى الله عليه وآله) لسبطه الحسين عن تناول تمر الصدقة التي لا تحل لأهل البيت (عليهم السلام) تطبيقاً لهذا المنهج التربوي الفذ. وسنذكر المزيد من ألوان تربيته له عند عرض ما أثر عنه (صلى الله عليه وآله) في حقه (عليه السلام).

تربية الإمام (عليه السّلام) له :

أما الإمام علي (عليه السلام) فهو المربّي الأول الذي وضع اُصول التربية ، ومناهج السلوك وقواعد الآداب ، وقد ربّى ولده الإمام الحسين (عليه السلام) بتربيته المشرقة فغذّاه بالحكمة ، وغذّاه بالعفة والنزاهة ، ورسم له مكارم الأخلاق والآداب ، وغرس في نفسه معنوياته المتدفقة فجعله يتطلّع إلى الفضائل حتى جعل اتجاهه السليم نحو الخير والحق ، وقد زوده بعدّة وصايا حافلة بالقيم الكريمة والمثل الإنسانية ومنها هذه الوصية القيّمة الحافلة بالمواعظ والآداب الاجتماعية وما يحتاج إليه الناس في سلوكهم ، وهي من أروع

__________________

(1) مسند الإمام أحمد 1 / 201.

(2) النظام التربوي في الإسلام / 92 ـ 93.

٤٨

ما جاء في الإسلام من الاُسس التربوية التي تبعث على التوازن والاستقامة في السلوك. قال (عليه السلام) :

«يا بُني ، اُوصيك بتقوى الله عزّ وجلّ في الغيب والشهادة ، وكلمة الحق في الرضى(1) ، والقصد في الغنى والفقر ، والعدل في الصديق والعدو ، والعمل في النشاط والكسل ، والرضى عن الله تعالى في الشدّة والرخاء.

يا بُني ، ما شرٌّ بعده الجنّة بشرٍّ ، ولا خيرٌ بعده النار بخير. وكل نعيم دون الجنّة محقور ، وكل بلاء دون النار عافية اعلم يا بُني ، أنّ مَنْ أبصر عيب نفسه شُغل عن غيره ، ومَنْ رضى بقسم الله تعالى لم يحزن على ما فاته ، ومَنْ سلّ سيف البغي قُتل به ، ومَنْ حفر بئراً وقع فيها ، ومَنْ هتك حجاب غيره انكشفت عورات بيته ، ومَنْ نسي خطيئته استعظم خطيئة غيره ، ومَنْ كابد الاُمور عطب ، ومَنْ اقتحم البحر غرق ، ومَنْ اُعجب برأيه ضلّ ، ومَنْ استغنى بعقله زلّ ، ومَنْ تكبّر على الناس ذلّ ، ومَنْ سفه عليهم شُتم ، ومَنْ دخل مداخل السوء اتُّهم ، ومَنْ خالط الأنذال حُقّر ، ومَنْ جالس العلماء وُقّر ، ومَنْ مزح استُخفّ به ، ومَنْ اعتزل سَلم ، ومَنْ ترك الشهوات كان حُرّاً ، ومَنْ ترك الحسد كان له المحبّة من الناس.

يا بُني ، عزّ المؤمن غناء عن الناس ، والقناعة مال لا ينفد ، ومَنْ أكثر ذكر الموت رضي من الدنيا باليسير ، ومَنْ علم أنّ كلامه من عمله قلّ كلامه إلاّ فيما ينفعه. العجب ممّن خاف العقاب ورجا الثواب فلم يعمل. الذكر نور ، والغفلة ظلمة ، والجهالة ضلالة ، والسعيد مَنْ وُعظ بغيره ، والأدب خير ميراث ، وحُسن الخلق خير قرين.

يا بُني ، ليس مع قطيعة الرحم نماء ، ولا مع الفجور غنى. يا بُني ، العافية عشرة أجزاء ؛ تسعة منها في الصمت إلاّ بذكر الله ، وواحد في ترك

__________________

(1) في نسخة : في الرضى والغضب.

٤٩

مجالسة السفهاء. ومَنْ تزيّن بمعاصي الله عزّ وجلّ في المجالس ورثته ذلاً. من طلب العلم عَلِم.

يا بُني ، رأس العلم الرفق ، وآفته الخرق. ومن كنوز الإيمان الصبر على المصائب. العفاف زينة الفقر ، والشكر زينة الغنى ، ومَنْ أكثر من شيء عُرف به ، ومَنْ كثر كلامه كثر خطؤه ، ومَنْ كثر خطؤه قلّ حياؤه ، ومَنْ قلّ حياؤه قلّ ورعه ، ومَنْ قلّ ورعه مات قلبه ، ومَنْ مات قلبه دخل النار.

يا بُني ، لا تؤيسن مذنباً ؛ فكم من عاكف على ذنبه خُتم له بالخير ، ومن مقبل على عمله مفسد له في آخر عمره صار إلى النار. مَنْ تحرّى القصد خفّت عليه الاُمور.

يا بُني ، كثرة الزيارة تورث الملالة. يا بُني ، الطمأنينة قبل الخبرة ضد الحزم. إعجاب المرء بنفسه دليل على ضعف عقله.

يا بُني ، كم من نظرة جلبت حسرة ، وكم من كلمة جلبت نعمة. لا شرف أعلا من الإسلام ، ولا كرم أعلا من التقوى ، ولا معقل أحرز من الورع ، ولا شفيع أنجح من التوبة ، ولا لباس أجمل من العافية ، ولا مال أذهب للفاقة من الرضى بالفوت ، ومَنْ اقتصر على بلغة الكفاف تعجّل الراحة ، وتبوأ حفظ الدعة. الحرص مفتاح التعب ، ومطية النصب ، وداع إلى التقحّم في الذنوب. والشرّ جامع لمساوئ العيوب. وكفى أدباً لنفسك ما كرهته من غيرك. لأخيك مثل الذي عليك(1) لك ، ومَنْ تورّط في الاُمور من غير نظر في الصواب فقد تعرّض لمفاجأة النوائب. التدبير قبل العمل يؤمنك الندم. مَنْ استقبل وجوه العمل والآراء عرف مواقع الخطأ. الصبر جُنّة من الفاقة. في خلاف النفس رشدها. الساعات

__________________

(1) هكذا في الأصل ولعل الصواب (عليه).

٥٠

تنقص الأعمار. ربّك للباغين من أحكم الحاكمين ، وعالم بضمير المضمرين. بئس الزاد للمعاد العدوان على العباد. في كلّ جرعة شرق ، وفي كلّ أكلة غصص. لا تنال نعمة إلاّ بفراق اُخرى. ما أقرب الراحة من التعب ، والبؤس من النعيم ، والموت من الحياة ؛ فطوبى لمَنْ أخلص لله تعالى علمه وعمله ، وحبّه وبغضه ، وأخذه وتركه ، وكلامه وصمته. وبخ بخ لعالم علم فكفّ ، وعمل فجدّ ، وخاف التباب(1) فأعد واستعدّ ؛ إن سُئل أفصح ، وإن تُرك سكت ؛ كلامه صواب ، وصمته من غير عيٍّ عن الجواب ، والويل كل الويل لمَنْ بُلي بحرمان وخذلان وعصيان ، واستحسن لنفسه ما يكرهه لغيره. مَنْ لانت كلمته وجبت محبّته. مَنْ لم يكن له حياءٌ ولا سخاء فالموت أولى به من الحياة. لا تتم مروءة الرجل حتى لا يبالي أي ثوبيه لبس ، ولا أي طعاميه أكل»(2) .

وحفلت هذه الوصية بآداب السلوك وتهذيب الأخلاق ، والدعوة إلى تقوى الله التي هي القاعدة الاُولى في وقاية النفس من الانحراف والآثام ، وتوجيهها الوجهة الصالحة التي تتّسم بالهدى والرشاد.

تربيةُ فاطمة (عليها السّلام) له :

وعنت سيدة النساء (عليها السلام) بتربية وليدها الحسين (عليه السّلام) ، فغمرته بالحنان والعطف ؛ لتكون له بذلك شخصيته الاستقلالية ، والشعور بذاتياته ، كما

__________________

(1) التباب : الهلال والخسران ، ومنه قوله تعالى :( تَبّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ ) .

(2) الإعجاز والإيجاز / 33.

٥١

غذته بالآداب الإسلامية ، وعوّدته على الاستقامة ، والاتّجاه المطلق نحو الخير. يقول العلائلي :

والذي انتهى إلينا من مجموعة أخبار الحسين (عليه السّلام) أنّ أمّه عنيت ببث المثل الإسلامية الاعتقادية ؛ لتشيع في نفسه فكرة الفضيلة على أتم معانيها ، وأصح أوضاعها ؛ ولا بدع فإنّ النبي (صلى الله عليه وآله) أشرف على توجيهه أيضاً في هذا الدور الذي يشعر الطفل فيه بالاستقلال.

فالسيدة فاطمة (عليها السّلام) أنمت في نفسه فكرة الخير ، والحبّ المطلق والواجب ، ومدّدت في جوانحه وخوالجه أفكار الفضائل العليا ؛ بأن وجّهت المبادئ الأدبية في طبيعته الوليدة من أن تكون هي نقطة دائرتها إلى الله الذي هو فكرة يشترك فيها الجميع.

وبذلك يكون الطفل قد رسم بنفسه دائرة محدودة قصيرة حين أدار هذه المبادئ الأدبية على شخص والدته ، وقصرها عليها وما تجاوز بها إلى سواها من الكوائن ، ورسمت له والدته دائرة غير متناهية حين جعلت فكرة الله نقطة الارتكاز ، ثم أدارت المبادئ الأدبية والفضائل عليها ؛ فاتّسعت نفسه لتشمل وتستغرق العالم بعواطفها المهذّبة ، وتأخذه بالمثل الأعلى للخير والجمال(1) .

لقد نشأ الإمام الحسين (عليه السلام) في جو تلك الاُسرة العظيمة التي ما عرف التاريخ الإنساني لها نظيراً في إيمانها وهديها ، وقد صار (عليه السلام) بحكم نشأته فيها من أفذاذ الفكر الإنساني ومن أبرز أئمة المسلمين.

__________________

(1) الإمام الحسين (عليه السّلام) / 289.

٥٢

البيئة :

وأجمع المعنيون في البحوث التربوية والنفسية على أن البيئة من أهم العوامل التي تعتمد عليها التربية في تشكيل شخصية الطفل وإكسابه الغرائز والعادات ، وهي مسؤولة عن أي انحطاط أو تأخّر للقيم التربوية ، كما أن استقرارها وعدم اضطراب الاُسرة لهما دخل كبير في استقامة سلوك النشء ووداعته. وقد بحثت مؤسسة اليونسكو في هيئة الاُمم المتّحدة عن المؤثرات الخارجة عن الطبيعة في نفس الطفل ، وبعد دراسة مستفيضة قام بها الاختصاصيّون قدّموا هذا التقرير :

مما لا شك فيه أن البيئة المستقرة سيكولوجياً ، والاُسرة الموحّدة التي يعيش أعضاؤها في جو من العطف المتبادل هي أول أساس يرتكز عليه تكيف الطفل من الناحية العاطفية ، وعلى هذا الأساس يستند الطفل فيما بعد في تركيز علاقاته الاجتماعية بصورة مرضية ، أما إذا شوّهت شخصية الطفل بسوء معاملة الوالدين فقد يعجز عن الاندماج في المجتمع(1) .

إنّ استقرار البيئة وعدم اضطرابها من أهم الأسباب الوثيقة في تماسك شخصية الطفل وازدهار حياته ، ومناعته من القلق ، وقد ذهب علماء النفس إلى أن اضطراب البيئة وما تحويه من تعقيدات ، وما تشتمل عليه من أنوار الحرمان كل هذا يجعل الطفل يشعر بأنه يعيش في عالم متناقض مليء بالغش والخداع والخيانة والحسد وأنه مخلوق ضعيف لا حول له ولا قوة تجاه

__________________

(1) أثر الاُسرة والمجتمع في الأحداث الذين هم دون الثالثة عشرة ـ مؤسسة اليونسكو / 35.

٥٣

هذا العالم العنيف(1) وقد عنى الإسلام بصورة إيجابية في شؤون البيئة فأرصد لإصلاحها وتطورها جميع أجهزته وطاقاته ، وكان يهدف قبل كل شيء أن تسود فيها القيم العليا من الحق والعدل والمساواة ، وأن تتلاشى فيها عوامل الانحطاط والتأخر من الجور والظلم والغبن ، وأن تكون آمنة مستقرة خالية من الفتن والاضطراب حتى تمد الأمة بخيرة الرجال وأكثرهم كفاءة ، وانطلاقاً في ميادين البر والخير والإصلاح.

وقد أنتجت البيئة الإسلامية العظماء والأفذاذ والعباقرة المصلحين الذين هم من خيرة ما أنتجته الإنسانية في جميع مراحل تاريخها كسيدنا الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) وعمار بن ياسر ، وأبي ذر وأمثالهم من بناة العدل الاجتماعي في الإسلام.

لقد نشأ الإمام الحسين (عليه السلام) في جو تلك البيئة الإسلامية الواعية التي فجّرت النور وصنعت حضارة الإنسان ، وقادت شعوب الأرض لتحقيق قضاياها المصيرية ، وأبادت القوى التي تعمل على تأخير الإنسان وانحطاطه ، تلك البيئة العظيمة التي هبت إلى ينابيع العدل تعب منها فتروي وتروي الأجيال الظامئة.

وقد شاهد الإمام الحسين (عليه السّلام) وهو في غضون الصبا ما حققته البيئة الإسلامية من الانتصارات الرائعة في إقامة دولة الإسلام ، وتركيز اُسسها وأهدافها ، وبثّ مبادئها الهادفة إلى نشر المودّة والدعة والأمن بين الناس.

هذه بعض المكونات التربوية التي توفرت للإمام الحسين (عليه السلام) ، وقد أعدّته ليكون الممثل الأعلى لجدّه الرسول (صلى الله عليه وآله) في الدعوة إلى الحق ، والصلابة في العدل.

__________________

(1) التكيف النفسي / 22.

٥٤

في ظلال القرآن والسنّة

٥٥
٥٦

وعنى الإسلام كتاباًَ وسنّة بشأن الإمام الحسين (عليه السّلام) ، وأولاه المزيد من العناية والاهتمام ؛ لأنّه من مراكز القيادة العليا في الإسلام التي تطلّ على هذا الكون ، فتشرق على معالمه ، وتصلح من شأن الإنسان ، وتدفعه إلى السلوك النيّر والمنهج السليم.

لقد قابل الإسلام بكل تكريم واحتفاء الإمام الحسين (عليه السّلام) كما عنى به مع أبويه وأخيه ؛ فرفع ذكرهم ، وحثّ بإصرار على اتّباع سلوكهم والاقتداء بهم ، وضمن للاُمّة أن لا تزيغ عن طريق الهدى إذا لم تتقدم عليهم في مجالات الحكم والتشريع وغيرهما. ونشير بإيجاز إلى بعض ما اُثر في الكتاب والسنّة في حقّهم :

في ظلال القرآن :

أما كتاب الله العظيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، فقد أعلن فضل الإمام الحسين في إطار أهل البيت (عليهم السلام) ، وله في كتاب الله غنى عن مدح المادحين ووصف الواصفين ، وهذه بعض الآيات الناطقة في فضلهم :

آية التطهير :

قال تعالى :( إِنّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً ) (1) . ولا بدّ لنا من وقفة قصيرة للبحث عن هذه الآية.

__________________

(1) سورة الأحزاب / 22.

٥٧

أ ـ مَنْ هُم أهل البيت؟

أجمع المفسّرون وثقاة الرواة(1) أنّ أهل البيت هم الخمسة أصحاب الكساء ، وهم : سيد الكائنات الرسول (صلى الله عليه وآله) ، وصنوه الجاري مجرى نفسه أمير المؤمنين (عليه السلام) ، وبضعته الطاهرة عديلة مريم بنت عمران سيدة النساء فاطمة الزهراء التي يرضى الله لرضاها ويغضب لغضبها ، وريحانتاه من الدنيا سبطاه الشهيدان الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة. ولم يشاركهم أحد من الصحابة وغيرهم في هذه الآية ، ويدلّ على هذا الاختصاص ما يلي :

أولاً : أنّ اُمّ سلمة قالت : نزلت هذه الآية في بيتي ، وفي البيت فاطمة وعلي والحسن والحسين (عليهم السّلام) ، فجلّلهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) بكساء كان عليه ، ثم قال : «اللّهمّ هؤلاء أهل بيتي ، فاذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً». يكرر ذلك واُمّ سلمة تسمع وترى ، فقالت : وأنا معكم يا رسول الله؟ ورفعت الكساء لتدخل ، فجذبه منها وقال لها : «إنّك على خير»

__________________

(1) تفسير الفخر 6 / 783 ، النيسابوري في تفسير سورة الأحزاب ، صحيح مسلم 2 / 331 ، ما نزل من القرآن في أهل البيت / 41 ، من المخطوطات المصوّرة في مكتبة الإمام الحكيم نُقلت من الخزانة المستنصريّة سنة (666 هـ) ، تأليف الحسين بن الحكم الخنزي ، الخصائص الكبرى 2 / 264 ، الرياض النضرة 2 / 188 ، خصائص النسائي ، تفسير ابن جرير 22 / 5 ، مسند أحمد بن حنبل 4 / 107 ، سنن البيهقي 2 / 150 ، مشكل الآثار 1 / 334. وقد أورد جلال الدين السيوطي في (الدر المنثور) عشرين رواية من طرق مختلفة في اختصاص الآية بأهل البيت (عليهم السّلام) ، وأورد ابن جرير في تفسيره خمس عشرة رواية بأسانيد مختلفة في قصر الآية عليهم بالخصوص.

٥٨

وتواترت الصحاح بذلك(1) ، وهي حسب رواية اُمّ سلمة تدلّ بوضوح على الحصر بهم ، وامتيازهم عن غيرهم بهذه المأثرة المشرفة.

ثانياً : أنّ الرسول (صلى الله عليه وآله) قد سلك كل مسلك في إعلان اختصاص الآية بهم ؛ فقد روى ابن عباس قال : شهدت رسول الله (صلى الله عليه وآله) سبعة أشهر ، يأتي كل يوم باب علي بن أبي طالب عند وقت كل صلاة فيقول : «السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أهل البيت ، إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً. الصلاة يرحمكم الله». كل يوم خمس مرات(2) .

وروى أنس بن مالك أن النبي (صلى الله عليه وآله) كان يمرّ ببيت فاطمة (عليها السّلام) ستّة أشهر ، إذا خرج إلى الفجر فيقول : «الصلاة يا أهل البيت ، إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً»(3) .

وروى أبو برزة قال : صلّيت مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) سبعة أشهر ، فإذا خرج من بيته أتى باب فاطمة (عليها السلام) فقال : «السلام عليكم ، إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً»(4) .

وقد أكّد النبي (صلى الله عليه وآله) اختصاص الآية بأهل بيته ، ونفاها عن غيرهم ؛ إرشاداً للاُمّة ، وإلزاماً باتّباعهم وتسليم قيادتها لهم.

ثالثاً : احتجاج العترة الطاهرة على اختصاص الآية بهم ؛ فقد قال الإمام الحسن الزكي (عليه السّلام) في بعض خطبه :

«وأنا من أهل البيت الذي كان جبرئيل ينزل إلينا ، ويصعد من

__________________

(1) مستدرك الحاكم 2 / 416 ، اُسد الغابة 5 / 521.

(2) الدر المنثور 5 / 199.

(3) مجمع الزوائد 9 / 169 ، أنساب الأشراف 1 ق 1 / 157.

(4) ذخائر العقبى / 24.

٥٩

عندنا ، وأنا من أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً»(1) .

وتواترت الأخبار من طرق العترة الطاهرة معلنة اختصاص الآية بالخمسة من أصحاب الكساء ، وعدم تناولها لغيرهم من اُسرة النبي (صلّى الله عليه وآله).

ب ـ خروج نساء النبي (ص) :

وليس لنساء النبي (صلّى الله عليه وآله) أيُّ نصيب في هذه الآية ؛ فقد خرجن عنها موضوعاً أو حكماً كما يقول علماء الاُصول. وللتدليل على ذلك نذكر ما يلي :

1 ـ إنّ الأهل في اللغة موضوع لعشيرة الرجل وذوي قرباه(2) ، ولا يشمل الزوجة. وأكّد هذا المعنى زيد بن أرقم حينما سُئل عن أهل بيت النبي (صلّى الله عليه وآله) هل يشمل زوجاته؟ فأنكر ذلك ، وقال : لا وايم الله ، إنّ المرأة تكون مع الرجل العصر من الدهر ، ثمّ يطلّقها فترجع إلى أبيها وقومها أهل بيته أصله وعصبته الذين حُرموا الصدقة بعده(3) .

2 ـ إنّا لو سلّمنا أنّ الأهل يشمل الزوجة ويطلق عليها فلا بدّ من تخصيصه بالأخبار المتقدّمة ؛ فإنها توجب التخصيص من دون شكّ ، فقد بلغت حدّ التواتر اللفظي أو المعنوي.

ج ـ مزاعم عكرمة ومقاتل :

وهناك جماعة من صنائع بني اُميّة ودعاة الخوارج حاولوا صرف الآية عن العترة الطاهرة واختصاصها بنساء النبي (صلّى الله عليه وآله) ؛ متمسّكين بسياق الآية. ومن الذاهبين إلى ذلك عكرمة ، ومقاتل بن سليمان. وكان عكرمة من

__________________

(1) مستدرك الحاكم 3 / 172.

(2) القاموس المحيط 1 / 331 ، أقرب الموارد.

(3) تفسير ابن كثير 3 / 486 ، صحيح مسلم 2 / 238.

٦٠