حياة الامام الحسين عليه السلام الجزء ١

حياة الامام الحسين عليه السلام0%

حياة الامام الحسين عليه السلام مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 442

حياة الامام الحسين عليه السلام

مؤلف: باقر شريف القرشي
تصنيف:

الصفحات: 442
المشاهدات: 159006
تحميل: 5192


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 442 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 159006 / تحميل: 5192
الحجم الحجم الحجم
حياة الامام الحسين عليه السلام

حياة الامام الحسين عليه السلام الجزء 1

مؤلف:
العربية

أشدّ الناس تحاملاً على أصحاب الكساء ، وكان ينادي بذلك في السوق(1) ، وبلغ من إصراره وعناده أنه كان يقول : مَن شاء باهلته أنّها نزلت في أزواج النبي(2) . ومن الطبيعي أنّ نداءه في السوق ، وعرضه للمباهلة إنّما يدلّ على بغضه الشديد للعترة الطاهرة التي هي عديلة القرآن الكريم ، ولا بدّ لنا من النظر في شؤون عكرمة ومقاتل حتى يتبيّن اندفاعهما لِما زعماه.

عكرمة في الميزان :

عكرمة البربري : هو أبو عبد الله المدني ، أصله من البربر ، كان مولى للحصين بن أبي الحر العنبري ، فوهبه لابن عباس لمّا ولي البصرة من قِبَل الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) ، وبقى رقّاً حتى توفّي ابن عباس ، فباعه علي بن عبد الله ثمّ استردّه(3) . وقد جُرح في عقيدته واتّهم في سلوكه ؛ فقد ذكر المترجمون له ما يلي :

1 ـ أنّه كان من الخوارج(4) ، وقد وقف على باب المسجد فقال : ما فيه إلاّ كافر(5) ؛ لأنّ الخوارج ذهبوا إلى كفر المسلمين. أمّا موقفهم من الإمام أمير المؤمنين فمعروف بالنصب والعداء.

2 ـ أنّه عُرف بالكذب ، وعدم الحريجة منه ، وقد اشتهر بهذه الظاهرة. فعن ابن المسيّب أنه قال لمولاه برد : لا تكذب عليّ كما كذب عكرمة على ابن عباس(6) . وعن عثمان بن مرة أنّه قال للقاسم : إنّ

__________________

(1) أسباب النزول ـ للواحدي / 268.

(2) الدر المنثور 5 / 198.

(3) تهذيب التهذيب 7 / 263.

(4) ميزان الاعتدال 3 / 95 ، طبقات القرّاء 1 / 15 ، طبقات ابن سعد 5 / 216.

(5) ميزان الاعتدال 3 / 95.

(6) ميزان الاعتدال 3 / 96.

٦١

عكرمة حدّثنا عن ابن عباس كذا ، فقال القاسم : يابن أخي ، إنّ عكرمة كذّاب ؛ يحدّث غدوة حديثاً يخالفه عشيّاً(1) .

ومع اتّهامه بالكذب لا يمكن التعويل على أيّ رواية من رواياته ؛ فإنّ اقتراف الكذب من أظهر الأسباب التي توجب القدح في الراوي.

3 ـ أنّه كان فاسقاً يسمع الغناء ، ويلعب بالنرد ، ويتهاون في الصلاة ، وكان خفيف العقل(2) .

4 ـ أنّ المسلمين قد نبذوه وجفوه ، وقد توفّي هو وكثير عزة في يوم واحد ، فشهد الناس جنازة كثير ولم يشهدوا جنازته(3) .

ومع هذه الطعون التي احتفت به كيف يمكن الاعتماد على روايته والوثوق بها؟ وقد اعتمد عليه البخاري وتجنّبه مسلم(4) . قال البخاري : ليس أحد من أصحابنا إلاّ وهو يحتجّ بعكرمة(5) . ومن الغريب أنّ البخاري يعتمد في رواياته على عكرمة وأمثاله من المطعونين في دينهم ، ويتحرّج من رواية العترة الطاهرة التي هي عديلة القرآن الكريم.

مقاتل بن سليمان :

أمّا مقاتل بن سليمان بن بشير الأزدي الخراساني ، فهو كصاحبه عكرمة كان متّهماً في دينه ، وذكر المترجمون له ما يلي :

1 ـ أنّه كان كذّاباً. قال النسائي : كان مقاتل يكذب(6) ، وكذلك

__________________

(1) معجم الأدباء.

(2) تهذيب التهذيب 7 / 263.

(3) تهذيب التهذيب 7 / 271.

(4) ميزان الاعتدال 3 / 93.

(5) تهذيب التهذيب 7 / 271.

(6) ميزان الاعتدال 4 / 173.

٦٢

قال وكيع: وقال إسحاق بن إبراهيم الحنظلي : أخرجت خراسان ثلاثة لم يكن لهم نظير ـ يعني في البدعة والكذب ـ : جهم ، ومقاتل ، وعمر بن صبح. وقال خارجة بن مصعب : كان جهم ومقاتل عندنا فاسقَين فاجرين(1) ومع اتّهامه بالكذب لا يصحّ الاعتماد على روايته ، ويسقط حديثه عن الاستدلال به.

2 ـ أنّه كان متّهماً في دينه ، وكان يقول بالتشبيه. قال ابن حبان : كان مقاتل يأخذ عن اليهود والنصارى علم القرآن الذي يوافق كتبهم ، وكان مُشبّهاً يشبّه الرب سبحانه بالمخلوقين ، وكان يكذب في الحديث(2) . وقد استحلّ بعض الأخيار دمه. يقول خارجة : لم استحلّ دم يهودي ولا ذمّي ، ولو قدرت على مقاتل بن سليمان في موضع لا يرانا فيه أحد لقتلته(3) .

3 ـ عُرف مقاتل بالنصب والعداء لأمير المؤمنين (عليه السّلام) ، وكان دأبه صرف فضائل الإمام (عليه السّلام) ، وقد اُثر عن الإمام أنّه كان يقول : «سلوني قبل أن تفقدوني». فأراد مقاتل أن يجاريه في ذلك ، فكان يقول : سلوني عمّا دون العرش. فقام إليه رجل فقال له : أخبرني عن النملة أين أمعاؤها؟ فسكت ولم يطق جواباً(4) . وقال مرة : سلوني عمّا دون العرش. فقام إليه رجل فقال له : أخبرني مَن حلق رأس آدم حين حجّ؟ فحار ولم يطق جواباً(5) .

__________________

(1) تهذيب التهذيب 10 / 281.

(2) تهذيب التهذيب 10 / 284 ، ميزان الاعتدال 4 / 175.

(3) تهذيب التهذيب 10 / 281.

(4) تهذيب التهذيب 10 / 283.

(5) وفيات الأعيان.

٦٣

وهذه البوادر تدلّ على فساد آرائه ، وعدم التعويل على أيّ حديث من أحاديثه.

وَهْن استدلالهما :

واستدلّ عكرمة ومقاتل بسياق الآية على أنّها نزلت في نساء النبي (صلى الله عليه وآله) ولا تشمل أهل بيته ، وقد عرض الإمام شرف الدين بصورة موضوعية إلى إبطال ذلك. قال رحمه الله : ولنا في ردّه وجوه :

الأوّل : إنّه اجتهاد في مقابل النصوص الصريحة ، والأحاديث المتواترة الصحيحة.

الثاني : إنّها لو كانت خاصّة في النساء كما يزعم هؤلاء لكان الخطاب في الآية بما يصلح للإناث ، ولَقال عزّ مَن قائل : عنكنّ ، ويطهّركنّ ، كما في غيرهما في آياتهن ؛ فتذكير ضمير الخطاب فيها دون غيرها من آيات النساء كافٍ في ردّ تضليلهم.

الثالث : إنّ الكلام البليغ يدخله الاستطراد والاعتراض ، وهو تخلّل الجملة الأجنبية بين الكلام المتناسق ، كقوله تعالى في حكاية خطاب العزيز لزوجته إذ يقول لها :( إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ * يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ ) . فقوله :( يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا ) مستطرد بين خطابيه معها كما ترى. ومثله قوله تعالى :( إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ * وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ ) . فقوله :( وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ ) مستطرد من جهة الله تعالى بين كلام بلقيس. ونحوه قوله عزّ مَن قائل :( فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ لَقُرْآنٌ

٦٤

كَرِيمٌ ) . تقديره أفلا أقسم بمواقع النجوم ، إنّه لقرآن كريم ، وما بينهما استطراد على استطراد ، وهذا كثير في الكتاب والسنّة وكلام العرب وغيرهم من البلغاء.

وآية التطهير من هذا القبيل جاءت مستطردة بين آيات النساء ، فتبيّن بسبب استطرادها أنّ خطاب الله لهنّ بتلك الأوامر والنواهي والنصائح والآداب لم يكن إلاّ لعناية الله تعالى بأهل البيت ـ أعني الخمسة ـ ؛ لئلاّ ينالهم ـ ولو من جهتهن ـ لَوم ، أو ينسب إليهم ـ ولو بواسطة ـ هناة ، أو يكون عليهم للمنافقين ـ ولو بسببهن ـ سبيل. ولولا هذا الاستطراد ما حصلت النكتة الشريفة التي عظمت بها بلاغة الذكر الحكيم ، وكمل إعجازه الباهر كما لا يخفى(1) .

ورأي الإمام شرف الدين رأي وثيق فقد قطع به تأويل المتأوّلين ، ودحض به أوهام المعاندين ، وتمّت به الحجّة على المناوئين.

دلالتها على العصمة

ودلّت الآية بوضوح على عصمة الخمسة من أهل البيت (عليهم السّلام) ؛ فقد أذهب تعالى عنهم الرجس ـ أي المعاصي ـ وطهّرهم منها تطهيراً ، وهذا هو واقع العصمة وحقيقتها.

وقد تصدّرت الآية للدلالة على ذلك بكلمة (إنّما) التي هي من أقوى أدوات الحصر ، ويضاف إليه دخول اللام في الكلام الخبري ، وتكرار لفظ الطهارة ، وكل ذلك يدل ـ بحسب الصناعة ـ على الحصر والاختصاص وإرادة الله في ذلك إرادة تكوينية يستحيل فيها تخلّف المراد عن الإرادة ، (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ).

ويقول الإمام شرف الدين : إنّها دلّت بالالتزام على إمامة أمير المؤمنين

__________________

(1) الكلمة الغرّاء في تفضيل الزهراء (عليها السّلام) / 196 ـ 197.

٦٥

(عليه السّلام) لأنّه ادّعى الخلافة لنفسه ، وادّعاها له الحسنان وفاطمة (عليهم السّلام) ، ولا يكونون كاذبين ؛ لأن الكذب من الرجس الذي أذهبه الله عنهم وطهّرهم منه تطهيراً(1) .

آية المودّة :

وفرض الله على المسلمين مودّة أهل البيت (عليهم السّلام). قال تعالى :( قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ ) (2) .

ذهب جمهور المسلمين إلى أنّ المراد بالقربى هم : علي وفاطمة وابناهما الحسن والحسين (عليهم السّلام) ، وإنّ اقتراف الحسنة إنّما هي في مودّتهم ومحبّتهم. وفيما يلي بعض ما أثر في ذلك :

1 ـ روى ابن عباس قال : لمّا نزلت هذه الآية قالوا : يا رسول الله ، مَن قرابتك هؤلاء الذين أوجبت علينا مودّتهم؟ قال (صلّى الله عليه وآله) : «علي وفاطمة وابناهما»(3) .

2 ـ روى جابر بن عبد الله قال : جاء أعرابي إلى النبي (صلّى الله عليه وآله) فقال : يا محمد ، اعرض عليّ الإسلام. فقال (صلّى الله عليه وآله) : «تشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له ، وأنّ محمداً عبده ورسوله». قال الأعرابي : تسألني عليه أجراً؟

__________________

(1) الكلمة الغرّاء في تفضيل الزهراء (عليها السّلام) / 201.

(2) سورة الشورى / 23.

(3) مجمع الزوائد 7 / 103 ، ذخائر العقبى / 25 ، نور الأبصار / 101 ، الدر المنثور.

٦٦

قال (صلّى الله عليه وآله) : «لا ، إلاّ المودّة في القربى».

الأعرابي : قرباي أمْ قرباك؟

الرسول (صلّى الله عليه وآله) : «قرباي».

الأعرابي : هات اُبايعك ؛ فعلى مَن لا يحبّك ولا يحبّ قرباك لعنة الله.

قال (صلّى الله عليه وآله) : «آمين»(1) .

3 ـ روى ابن عباس قال : لمّا نزل قوله تعالى :( قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) ، قال قوم في نفوسهم : ما يريد إلاّ أن يحثّنا على قرابته من بعده ، فأخبر جبرئيل النبي (صلّى الله عليه وآله) أنهم اتّهموه ، فأنزل :( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ) ، فقال القوم : يا رسول الله ، إنّك صادق. فنزل :( وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ ) (2) .

4 ـ احتجاج العترة الطاهرة بأنها نزلت فيهم ؛ فقد خطب سبط الرسول (صلى الله عليه وآله) الأوّل وريحانته الإمام الحسن (عليه السّلام) ، فقال في جملة خطابه : «وأنا من أهل البيت الذين افترض الله مودّتهم على كل مسلم ، فقال تبارك وتعالى :( قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا ) ، فاقتراف الحسنة مودّتنا أهل البيت»(3) .

واحتجّ بها سيّد الساجدين والعابدين الإمام علي بن الحسين (عليه السّلام) لمّا جيء به أسيراً إلى الطاغية يزيد ، واُقيم على درج دمشق ، انبرى إليه رجل من أهل الشام فقال له:

الحمد لله الذي قتلكم واستأصلكم وقطع قرني الفتنة.

__________________

(1) حلية الأولياء 3 / 201.

(2) الصواعق المحرقة / 102.

(3) حياة الإمام الحسن 1 / 68.

٦٧

فنظر إليه الإمام (عليه السّلام) فرآه مغفّلاً قد خدعته الدعايات المضللة ، وحادت به عن الطريق القويم ، فقال له : «أقرأت القرآن؟».

ـ نعم.

ـ «أقرأت آل حم؟».

ـ قرأت القرآن ولم أقرأ آل حم.

ـ «ما قرأت( لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) ؟».

فذُهل الرجل ، ومشت الرعدة بأوصاله وسارع يقول : وإنّكم لأنتم هم؟

ـ «نعم»(1) .

وقال الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) : «فينا آل حم ، آية لا يحفظ مودّتنا إلاّ كل مؤمن». ثمّ قرأ : «قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى»(2) .

كلمة الفخر الرازي.

وعلّق الفخر الرازي على هذه الآية مشيداً بآل النبي (صلّى الله عليه وآله) ، قال ما نصّه :

وإذا ثبت هذا ـ يعني اختصاص الآية بآل البيت (عليهم السّلام) ـ وجب أن يكونوا مخصوصين بمزيد التعظيم. قال : ويدلّ عليه وجوه :

الأوّل : قوله تعالى :( إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) . ووجه الاستدلال به ما سبق ، وهو ما ذكره من قبل أنّ آل محمد (صلّى الله عليه وآله) هم الذين يؤول أمرهم إليه ، فكل مَن كان أمرهم إليه أشدّ وأكمل كانوا هم الآل ، ولا شكّ أنّ فاطمة وعلياً والحسن والحسين (عليهم السّلام) كان التعلّق بهم وبين رسول الله (ص)

__________________

(1) تفسير الطبري 25 / 16.

(2) كنز العمال 1 / 218 ، الصواعق المحرقة / 101.

٦٨

أشدّ التعلّقات ، وهذا كالمعلوم بالنقل المتواتر ، فوجب أن يكونوا هم الآل.

الثاني : لا شكّ أنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) كان يحب فاطمة (عليها السّلام) ، قال (صلّى الله عليه وآله) : «فاطمة بضعة منّي يؤذيني ما يؤذيها». وثبت بالنقل المتواتر عن محمد (صلّى الله عليه وآله) أنّه كان يحبّ علياً والحسن والحسين (عليهم السّلام) ، وإذا ثبت ذلك وجب على كل الاُمة مثله ؛ لقوله تعالى :( وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ) ، ولقوله تعالى :( فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِه ) ، ولقوله :( قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ ) ، ولقوله سبحانه :( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ) .

الثالث : إنّ الدعاء للآل منصب عظيم ؛ ولذلك جعل هذا الدعاء خاتمة التشهّد في الصلاة ، وهو قوله : اللّهمّ صلِّ على محمد وعلى آل محمد ، وارحم محمداً وآل محمد ، واجب(1) .

إنّ مودّة أهل البيت (عليهم السّلام) من أهمّ الواجبات الإسلامية ، ومن أقدس الفروض الدينية ، يقول الإمام محمد بن إدريس الشافعي :

يا أهلَ بيتِ رسولِ الله حبّكمُ

فرضٌ من الله في القرآن أنزلهُ

كفاكُمُ من عظيمِ القدرِ أنّكُمُ

مَن لم يصلِّ عليكُمْ لا صلاة لهُ(2)

وقال ابن العربي :

رأيتُ ولائي آل طه فريضةً

على رغمِ أهل البُعد يورثني القربى

فما طلب المبعوثُ أجراً على الهدى

بتبليغِهِ إلاّ المودّة في القربى

ويقول شاعر الإسلام الكميت :

وجدنا لكُمْ في آل حم آيةً

تأوّلها منّا تقيٌ ومعربُ

إنّ في مودّة آل البيت (عليهم السّلام) أداءً لأجر الرسالة ، وصلة للرسول

__________________

(1) تفسير الرازي في ذيل تفسير آية المودة في سورة الشورى.

(2) الصواعق المحرقة / 88.

٦٩

الأعظم (صلّى الله عليه وآله) ، وشكراً له على ما لاقاه من عظيم العناء والجهد في سبيل إنقاذ المسلمين من الشرك ، وتحرير عقولهم من الخرافات ، وقد جعل تعالى حقّ نبيّه العظيم على هذه الأمّة أن توالي عترته ، وتكنّ لها المودّة والولاء.

آية المباهلة :

من آيات الله البيّنات التي أعلنت فضل أهل البيت (عليهم السّلام) آية المباهلة ، قال تعالى :( فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ) (1) .

واتّفق المفسّرون ورواة الحديث أنّها نزلت في أهل البيت (عليهم السّلام)(2) .

وإنّ (أَبْنَاءَنَا) إشارة إلى الحسَنَين (عليهما السّلام) ، (وَنِسَاءَنَا) إشارة إلى فاطمة (عليها السّلام) ، (وَأَنْفُسَنَا) إلى علي. نزلت الآية الكريمة في واقعة تاريخية بالغة الخطورة جرت بين قوى الإسلام وبين القوى الممثّلة للنصارى ، وموجز هذه الحادثة : إنّ وفداً من نصارى نجران قَدِموا على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ليناظروه في الإسلام ، وبعد حديث دار بينهم وبين النبي (صلّى الله عليه وآله) اتّفقوا على الابتهال أمام الله ، ليجعل لعنته وعذابه على الكاذبين والحائدين على الحق ، وعيّنوا

__________________

(1) سورة آل عمران / 60.

(2) تفسير الرازي 2 / 699 ، تفسير البيضاوي / 76) ، تفسير الكشاف 1 / 49 ، تفسير روح البيان 1 / 457 ، تفسير الجلالين 1 / 35 ، صحيح الترمذي 2 / 166 ، سنن البيهقي 7 / 63 ، صحيح مسلم ـ كتاب فضائل الصحابة ، مسند أحمد بن حنبل 1 / 185 ، مصابيح السنّة للبغوي 2 / 201 ، سير أعلام النبلاء 3 / 193.

٧٠

وقتاً خاصّاً لذلك ، وانصرف وفد النصارى على موعد للعودة للمباهلة حتّى يستبين أمر الله ويظهر الحقّ ويزهق الباطل ، وقد هامت نفوسهم بتيّارات من الهواجس والأحاسيس ، لا يعلمون أنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) بمَن يباهلهم.

وفي اليوم الذي اتّفقا عليه خرج النبي (صلّى الله عليه وآله) وقد اختار للمباهلة أفضل الناس وأكرمهم عند الله ، وهو باب مدينة علمه ، وأبو سبطيه الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) ، وبضعته فاطمة الزهراء سيّدة نساء العالمين ، والحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنة.

وأقبل (صلّى الله عليه وآله) وقد احتضن الحسين ، وأمسك بيده الاُخرى الحسن ، وسارت خلفه الزهراء مغشاة بملاءة من نور الله ، يسير خلفها الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) وهو باد الجلال.

وخرج السيّد والعاقب بولديهما وعليهما الحلي والحلل ، ومعهم نصارى نجران وفرسان بني الحرث على خيولهم ، وهم على أحسن هيئة واستعداد ، واحتشدت الجماهير وقد اشرأبت الأعناق تراقب الحادث الخطير ، وساد الوجوم وصار الكلام همساً ، ولمّا رأت النصارى هيئة الرسول مع أهل بيته ، وهي تملأ العيون وتعنو لها الجباه ، امتلأت نفوسهم رعباً وهلعاً من هيبة الرسول وروعة طلعته ، وجثا النبي (صلى الله عليه وآله) للمباهلة بخضوع ، فتقدم إليه السّيد والعاقب وقد سرت الرعدة في نفوسهم قائلين :

يا أبا القاسم ، بمَن تباهلنا؟

فأجابهم (صلّى الله عليه وآله) بكلمات تمثّلت فيها روعة الإيمان والخشية من الله قائلاً : «اُباهلكم بخير أهل الأرض ، وأكرمهم إلى الله». وأشار إلى علي وفاطمة والحسنين.

وانبريا يسألان بتعجّب قائلين :

٧١

لِمَ لا تباهلنا بأهل الكرامة والكبر ، وأهل الشارة ممن آمن بك واتّبعك؟!

فانطلق الرسول (صلّى الله عليه وآله) يؤكّد لهم أنّ أهل بيته أفضل الخلق عند الله قائلاً : «أجل ، اُباهلكم بهؤلاء خير أهل الأرض وأفضل الخلق».

فذهلوا وعرفوا أنّ الرسول (صلّى الله عليه وآله) على حقّ ، وقفلوا راجعين إلى الأسقف زعيمهم يستشيرونه في الأمر قائلين له : يا أبا حارثة ، ماذا ترى في الأمر؟

ـ أرى وجوهاً لو سأل الله بها أحد أن يزيل جبلاً من مكانه لأزاله.

ولا يكتفي بذلك ، وإنّما دعم قوله بالبرهان واليمين قائلاً : أفلا تنظرون محمداً رافعاً يديه ، ينظر ما تجيئان به؟! وحقِّ المسيح ، إن نطق فوه بكلمة لا نرجع إلى أهل ولا إلى مال.

وجعل ينهاهم عن المباهلة ويهتف فيهم قائلاً : ألا ترون الشمس قد تغيّر لونها ، والاُفق تنجع فيه السحب الداكنة ، والريح تهبّ هائجة سوداء حمراء ، وهذه الجبال يتصاعد منها الدخان؟! لقد أطلّ علينا العذاب! انظروا إلى الطير وهي تقيء حواصلها ، وإلى الشجر كيف تتساقط أوراقها ، وإلى هذه الأرض كيف ترجف تحت أقدامنا!

لقد غمرتهم تلك الوجوه العظيمة ، رأوا بالعيان ما لها من مزيد الفضل والكرامة عند الله ، ويتدارك النصارى الأمر فأسرعوا إلى النبي (صلى الله عليه وآله) قائلين : يا أبا القاسم ، أقلنا أقال الله عثرتك.

ويخضعون لِما شرطه النبي (صلّى الله عليه وآله) عليهم ، وأعلن بعد ذلك أنّهم لو استجابوا للمباهلة لهلكت النصارى قائلاً :

٧٢

والذي نفسي بيده ، إنّ العذاب تدلّى على أهل نجران ، ولو لاعَنوا لمُسخوا قردة وخنازير ، ولاضطرم عليهم الوادي ناراً ، ولاستأصل الله نجران وأهله ، حتّى الطير على الشجر ، وما حالَ الحَول على النصارى كلّهم(1) .

وأوضحت هذه الحادثة الخطيرة مدى أهمّية أهل البيت (عليهم السّلام) ، وأنّهم لا مثيل لهم في المجتمع الإسلامي الحافل آنذاك بالمجاهدين والمكافحين في سبيل الإسلام ، ولو أنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) وجَدَ مَن هو خير منهم ورعاً وتقوى لاختارهم للمباهلة ، بل لو كان هناك مَن يساويهم في الفضل لامتنع أن يقدّم أهل بيته عليهم ؛ لقبح الترجيح بلا مرجّح ـ كما يقول علماء الاُصول.

كما أنّه (صلّى الله عليه وآله) لم ينتدب للمباهلة أحداً من عشيرته الأقربين فلم يدعُ صنو أبيه وعمّه العباس بن عبد المطلب ، ولم يدعُ أحداً من أبناء الهاشميّين ليضمّه إلى سبطيه ، وكذلك لم يدعُ واحدةً من اُمّهات المؤمنين وهنّ كنّ في حجراته ، بل لم يدعُ شقيقة أبيه صفية ولا غيرها ليضمّها إلى بضعته سيّدة نساء العالمين. ولم يدعُ غيرها من عقائل الشرف وخفرات عمرو العلا وشيبة الحمد ، ولا واحدة من نساء الخلفاء الثلاثة وغيرهم من المهاجرين والأنصار ، وجميع اُسرته كانوا بمرأى منه ومسمع ؛ والغرض من ذلك التدليل على فضل أهل بيته وعظيم شأنه عند الله :( ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ) .

يقول الإمام شرف الدين (رحمه الله) : وأنت تعلم أنّ مباهلته (صلّى الله عليه وآله) بهم والتماسه منهم التأمين على دعائه بمجرده لفضل عظيم ، وانتخابه إيّاهم لهذه المهمّة العظيمة ، واختصاصهم بهذا الشأن الكبير ، وإيثارهم فيه على مَن سواهم من أهل السوابق ، فضل على فضل لم يسبقهم إليه سابق ولن

__________________

(1) نور الأبصار / 100.

٧٣

يلحقهم فيه لاحق ، ونزول القرآن العزيز آمراً بالمباهلة بهم بالخصوص فضل ثالث ، يزيد فضل المباهلة ظهوراً ، ويضيف إلى شرف اختصاصهم بها شرفاً ، وإلى نوره نوراً(1) .

كما دلّت الآية بوضوح على أنّ الإمام أمير المؤمنين هو نفس رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، ورسول الله أفضل من جميع خلق الله ؛ فعلي كذلك بمقتضى المساواة بينهما. وقد أدلى بهذا الفخر الرازي في تفسيره الكبير قال : كان في الري رجل يُقال له محمد بن الحسن الحمصي ، وكان معلم الاثني عشرية ، وكان يزعم أنّ علياً أفضل من جميع الأنبياء سوى محمد (صلّى الله عليه وآله) ، واستدلّ على ذلك بقوله تعالى :( وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ) ؛ إذ ليس المراد بقوله :( وَأَنْفُسَنَا ) نفس محمد (صلّى الله عليه وآله) ؛ لأنّ الإنسان لا يدعو نفسه بل المراد غيرها ، وأجمعوا على أنّ ذلك الغير كان علي بن أبي طالب ، فدلّت الآية على أنّ نفس علي هي نفس محمد.

ولا يمكن أن يكون المراد أنّ هذه النفس هي عين تلك ، فالمراد أنّ هذه النفس مثل تلك النفس ، وذلك يقتضي المساواة بينهما في جميع الوجوه ، تركنا العمل بهذا العموم في حقّ النبوّة ، وفي حقّ الفضل بقيام الدلائل على أنّ محمداً (صلّى الله عليه وآله) كان نبيّاً ، وما كان علي كذلك ، ولانعقاد الإجماع على أنّ محمداً (صلّى الله عليه وآله) كان أفضل من علي فبقي ما وراءه معمولاً به ، ثمّ الإجماع دلّ على أنّ محمداً (صلّى الله عليه وآله) كان أفضل من سائر الأنبياء (عليهم السّلام) ، فيلزم أن يكون علي أفضل من سائر الأنبياء(2) .

__________________

(1) الكلمة الغرّاء / 184.

(2) تفسير الرازي 2 / 488.

٧٤

آية الأبرار :

من آيات الله الباهرات التي أشادت بفضل العترة الطاهرة آية الأبرار ، قال تعالى :( إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراًًً * عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراًً * يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً ) (1) .

روى جمهور المفسّرين والمحدّثين أنّها نزلت في أهل البيت (عليهم السّلام)(2) ، وكان السبب في ذلك أنّ الحسن والحسين (عليهما السّلام) مرضا فعادهما جدّهما الرسول (صلى الله عليه وآله) مع كوكبة من أصحابه ، وطلبوا من علي أن ينذر لله صوماً إن عافاهما مما ألمّ بهما من السقم ، فنذر أمير المؤمنين صوم ثلاثة أيّام ، وتابعته الصديقة (عليها السّلام) وجاريتها فضة في ذلك. ولمّا [شُفي] الحسنان من المرض صاموا جميعاً ، ولم يكن عند الإمام في ذلك الوقت شيء من الطعام ليجعله إفطاراً لهم ، فاستقرض (سلام الله عليه) ثلاث أصواع من الشعير ، فعمدت الصدّيقة في اليوم الأوّل إلى صاع فطحنته وخبزته ، فلمّا آنَ وقت الإفطار وإذا بمسكين يطرق الباب يستمنحهم شيئاً من الطعام ، فعمدوا جميعاً إلى هبة قوتهم إلى المسكين ، واستمرّوا في صيامهم لم يتناولوا سوى الماء.

وفي اليوم الثاني عمدت بضعة النبي (صلّى الله عليه وآله) إلى تهيئة الطعام الذي

__________________

(1) سورة الإنسان / 5 ـ 7.

(2) تفسير الفخر الرازي 8 / 392 ، أسباب النزول للواحدي / 133 النيسابوري في تفسير سورة هل أتى ، روح البيان 6 / 546 ، الدر المنثور ، ينابيع المودة 1 / 93 ، الرياض النضرة 2 / 227 ، إمتاع الأسماع للمقريزي / 502.

٧٥

كان قوامه خبز الشعير ، ولمّا حان وقت الغروب وإذا بيتيم قد أضناه الجوع وهو يطلب الإسعاف منهم ، فتبرّعوا جميعاً بقوتهم ، ولم يتنالوا سوى الماء.

وفي اليوم الثالث قامت سيّدة النساء فطحنت ما فضل من الطعام وخبزته ، فلمّا حان وقت الإفطار قدّمت لهم الطعام ، وسرعان ما طرق الباب أسير قد ألمّ به الجوع فسحبوا أيديهم من الطعام ومنحوه له.

سبحانك اللّهمّ أيّ مبرّة أعظم من هذه المبرة! أيّ إيثار أبلغ من هذا الإيثار! إنه إيثار ما قصد به إلاّ وجه الله الكريم.

ووفد عليهم رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في اليوم الرابع فرآهم ، ويا لهول ما رأى! رأى أجساماً مرتعشة من الضعف ، ونفوساً قد ذابت من الجوع ، فتغيّر حاله وطفق يقول : «واغوثاه! أهل بيت محمد يموتون جياعاً!».

ولم ينهِ الرسول كلامه حتّى هبط عليه أمين الوحي وهو يحمل المكافأة العظمى لأهل البيت والتقييم لإيثارهم الخالد إنها مكافأة لا توصف بكيف ولا تقدّر بكم ، فهي مغفرة ورحمة ورضوان من الله ليس لها حدّ ، فقد (جَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً * مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً * وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلاَلُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً * وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ * قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً * وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً).

إنّه عطاء سمح وجزيل ؛ فقد حباهم ربّهم في الدار الآخرة من عظيم النِعَم والكرامات ، وأجزل لهم المزيد من مغفرته ورضوانه.

وبهذا ينتهي بنا الحديث عن بعض الآيات الكريمة التي نزلت في أهل البيت (عليهم السّلام) ، ومما لا شكّ فيه أنّ الإمام الحسين (عليه السّلام) من المعنيين

٧٦

بتلك الآيات الكريمة النازلة من السماء ، وقد أبرزت مدى مقامه العظيم عند الله.

في ظلال السنّة :

في السنّة النبوية كوكبة ضخمة من الأحاديث نطق بها الرسول العظيم (صلى الله عليه وآله) أبرزت معالم شخصية الإمام الحسين (عليه السّلام) ، وحدّدت أبعاد فضله على سائر المسلمين وقد تضافرت النصوص بذلك ، وتواترت وهي على طوائف بعضها ورد في أهل البيت (عليهم السّلام) مما هو شامل للإمام الحسين قطعاً ، وبعضها الآخر ورد فيه وفي أخيه الحسن (عليه السّلام) ، وطائفة ثالثة وردت فيه خاصة ، وفيما يلي ذلك :

الطائفة الاُولى :

أمّا ما أثر عن النبي (صلّى الله عليه وآله) في فضل عترته ولزوم مودّتهم فطائفة كبيرة من الأخبار ، وفيما يلي بعضها :

1 ـ روى أبو بكر قال : رأيت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) خيّم خيمة وهو متكئ على قوس عربية ، وفي الخيمة علي وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السّلام) ، فقال : «معشر المسلمين ، أنا سلم لمَن سالم أهل الخيمة ، وحرب لمَن حاربهم ، وولي لمَن والاهم. لا يحبّهم إلاّ سعيد الجدّ ، ولا يبغضهم إلاّ شقي الجدّ رديء الولادة»(1) .

2 ـ روى زيد بن أرقم أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال لعلي وفاطمة

__________________

(1) الرياض النضرة 2 / 252.

٧٧

والحسن والحسين (عليهم السلام) : «أنا حرب لمَن حاربتم ، وسلمٌ لمَن سالمتم»(1) .

3 ـ روى أحمد بن حنبل بسنده أنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) أخذ بيد الحسن والحسين وقال : «مَن أحبّني وأحبّ هذين ، وأباهما واُمّهما كان معي في درجتي يوم القيامة»(2) .

4 ـ روى جابر ، قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ذات يوم بعرفات وعلي تجاهه : «ادنُ منّي يا علي. خُلقتُ أنا وأنت من شجرة ؛ أنا أصلها ، وأنت فرعها ، والحسن والحسين أغصانها ، فمَن تعلّق بغصن منها أدخله الله الجنة»(3) .

5 ـ روى ابن عباس قال : قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : «النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق ، وأهل بيتي أمان لاُمّتي من الاختلاف ، فإذا خالفتها قبيلة من العرب اختلفوا فصاروا حزب إبليس»(4) .

__________________

(1) صحيح الترمذي 2 / 319 ، وروى ابن ماجة في سُننه 1 / 52 أنّه (صلّى الله عليه وآله) قال : «أنا سلم لمَن سالمتم ، وحرب لمَن حاربتم». ومثله رواه الحاكم في مستدركه 3 / 149 ، وابن الأثير في اُسد الغابة 5 / 523 ، ورواه أحمد في مسنده 2 / 442 بسنده عن أبي هريرة ، وكذلك رواه الخطيب البغدادي في تاريخه 7 / 36.

(2) مسند أحمد 1 / 77 ، صحيح الترمذي 2 / 301 ، وجاء في تهذيب التهذيب 10 / 430 أنّ نصر بن علي حدّث بهذا الحديث ، فأمر المتوكّل بضربه ألف سوط ، فكلّمه فيه جعفر بن عبد الواحد ، وجعل يقول له : هذا من أهل السنّة ، فلم يزل به حتّى تركه.

(3) مسند أحمد 1 / 77.

(4) مستدرك الحاكم 3 / 149 ، وفي كنز العمال 6 / 116 ، والصواعق المحرقة / 111 أنّه (صلّى الله عليه وآله) قال : «النجوم أمان لأهل الأرض ، وأهل

٧٨

6 ـ روى زيد بن أرقم قال : قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : «إنّي تارك فيكم الثقلين ما إن تمسّكتم بهما لن تضلوا بعدي ، أحدهما أعظم من الآخر ؛ كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض ، وعترتي أهل بيتي ، ولن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض ، فانظروا كيف تخلّفوني فيهما»(1) .

إنّ حديث الثقلين من أروع الأحاديث النبويّة وأكثرها ذيوعاً وانتشاراً بين المسلمين ، وقد تكرّر هذا الحديث من النبي (صلّى الله عليه وآله) في مواضع كثيرة نشير إلى بعضها :

أ ـ أعلن (صلّى الله عليه وآله) ذلك وهو في حجّة يوم عرفة فقد روى جابر بن عبد الله الأنصاري قال : رأيت رسول الله في حجّته يوم عرفة وهو على ناقته القصوى يخطب ، فسمعته يقول : «يا أيها الناس ، إنّي تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا ؛ كتاب الله وعترتي أهل بيتي»(2) .

ب ـ إنّه (صلّى الله عليه وآله) أدلى بذلك في يوم الغدير ، فقد روى زيد بن أرقم قال : نزل رسول الله (صلّى الله عليه وآله) (الجحفة) ، ثمّ أقبل على الناس فحمد الله وأثنى عليه ، ثمّ قال : «إنّي لا أجد النبي إلاّ نصف عمر الذي قبَله ، وإنّي اُوشك أن اُدعى فأجيب ، فما أنتم قائلون؟».

قالوا : نصحت.

قال : «أليس تشهدون أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمداً عبده ورسوله ، وأنّ الجنّة حقّ ، وأنّ النار حق؟».

قالوا : نشهد.

__________________

بيتي أمان لاُمّتي». ورواه المناوي في فيض القدير 6 / 297 ، والهيثمي في مجمعه 9 / 174.

(1) صحيح الترمذي 2 / 308 ، اُسد الغابة 2 / 12.

(2) كنز العمال 1 / 48 ، صحيح الترمذي 2 / 308.

٧٩

فرفع (صلّى الله عليه وآله) يده فوضعها على صدره ، ثمّ قال : «وأنا أشهد معكم». والتفت (صلّى الله عليه وآله) إليهم فقال :

«ألا تسعمون؟».

ـ نعم.

ـ «فإنّي فرط على الحوض ، وأنتم واردون على الحوض ، وإنّ عرضه ما بين صنعاء وبصرى ، فيه أقداح عدد النجوم من فضة ، فانظروا كيف تخلّفوني في الثقلين».

فناداه مناد : وما الثقلان يا رسول الله؟

قال (صلّى الله عليه وآله) : «كتاب الله ، طرف بيد الله عزّ وجلّ وطرف بأديكم فتمسّكوا به ، والآخر عشيرتي(1) ، وأنّ اللطيف الخبير نبّأني أنهّما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض ، فسألت ذلك لهما ربّي ؛ فلا تقدِموهما فتهلكوا ، ولا تقصروا عنهما ، ولا تعلّموهما فهم أعلم منكم». ثمّ أخذ بيد علي (عليه السّلام) فقال : «مَن كنت أولى به من نفسه فعلي وليه ، اللّهمّ وال مَن والاه وعاد مَن عاداه»(2) .

ج ـ أعلن (صلّى الله عليه وآله) ذلك وهو على فراش الموت ، فقد التفت (صلّى الله عليه وآله) إلى أصحابه فقال لهم : «أيها الناس ، يوشك أن اُقبض قبضاً سريعاً فينطلق بي ، وقد قدّمت إليكم القول معذرة إليكم ، إلاّ أنّي مخلّف فيكم كتاب ربّي عزّ وجلّ ، وعترتي أهل بيتي». ثم أخذ بيد علي (عليه السّلام) فرفعها ، فقال : «هذا علي مع القرآن ، والقرآن مع علي ، لا يفترقان حتّى يردا عليّ الحوض ، فأسألهما ما خلّفت فيهما»(3) .

__________________

(1) في كنز العمال 1 / 48 لفظ (عترتي).

(2) مجمع الزوائد للهيثمي 9 / 163.

(3) الصواعق المحرقة / 75.

٨٠