حياة الامام الحسين عليه السلام الجزء ٢

حياة الامام الحسين عليه السلام8%

حياة الامام الحسين عليه السلام مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 471

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 471 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 260748 / تحميل: 5239
الحجم الحجم الحجم
حياة الامام الحسين عليه السلام

حياة الامام الحسين عليه السلام الجزء ٢

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

وهدمت هذه السياسة قواعد العدل والمساواة التي جاء بها الإسلام ؛ فإنّه لمْ يفرّق بين المسلمين ، وجعلهم سواسية كأسنان المشط.

سياسةُ الخداع :

وأقام معاوية دولته على المخاتلة والخداع ، فلا ظل للواقع في أي تحرّك مِن تحركاته السياسية ، فما كان مثل ذلك الضمير المتحجّر أنْ يعي الواقع أو يفقه الحقّ ، وقد حفل التاريخ بصور كثيرة مِن خداعه ، وهذه بعضها :

١ ـ لمّا دسّ معاوية السمّ إلى الزعيم الكبير مالك الأشتر أقبل على أهل الشام فقال لهم : إنّ علياً وجّه الأشتر إلى مصر فادعوا الله أنْ يكفيكموه. فكان أهل الشام يدعون عليه في كلّ صلاة ، ولمّا أُخبر بموته أنبأ أهل الشام بأنّ موته نتج عن دعائهم ؛ لأنّهم حزب الله ، ثمّ همس في أُذن ابن العاص قائلاً له : إنّ لله جنوداً مِن عسل(١) .

٢ ـ ومِن خداع معاوية وأضاليله أنّ جرير البجلي لمّا أوفده الإمام (عليه السّلام) إلى معاوية يدعوه إلى بيعته ، طلب معاوية حضور شرحبيل الكندي ، وهو مِن أبرز الشخصيات في الشام ، وقد عهد إلى جماعة مِن أصحابه أنْ ينفرد كلّ واحد منهم به ، ويلقي في روعه أنّ علياً هو الذي قتل عثمان بن عفان.

ولمّا قدم عليه شرحبيل أخبره معاوية بوفادة جرير وأنّه يدعوه إلى بيعة الإمام ، وقد حبس نفسه في البيعة حتّى يأخذ رأيه ؛ لأنّ الإمام قد قتل عثمان. وطلب منه شرحبيل أنْ يمهله لينظر في الأمر ، فلمّا خرج التقى به القوم كلّ على انفراده ، وأخبروه أنّ الإمام هو المسؤول

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ٢ / ٢٣.

١٤١

عن إراقة دم عثمان ، فلم يشك الرجل في صدقهم ، فانبرى إلى معاوية وهو يقول له :

يا معاوية ، أين الناس؟ ألا إنّ علياً قتل عثمان. والله إنْ بايعت لنخرجنّك مِن شامنا ولنقتلنّك. فقال معاوية مخادعاً له :

ما كنت لاُخالف عليكم ، ما أنا إلاّ رجل من أهل الشام(١) .

بمثل هذا الخداع والبهتان أقام دعائم سلطانه ، وبنى عليه عرش دولته.

٣ ـ ومن ألوان خداعه لأهل الشام أنّه لمّا راسل الزعيم قيس بن سعد يستميله ويمنيه بسلطان العراقيين وبسلطان الحجاز لِمَنْ أحبّ مِن أهل بيته إنْ صار معه ، فردّ عليه قيس بأعنف القول ، فأظهر معاوية لأهل الشام أنّه قد بايع ، وأمرهم بالدعاء له ، واختلق كتاباً نسبه إليه وقد قرأه عليهم ، وهذا نصّه : أمّا بعد ، إنّ قتل عثمان كان حدثاً في الإسلام عظيماً ، وقد نظرت لنفسي وديني فلمْ أرَ بوسعي مظاهرة قومٍ قتلوا إمامهم ، مسلماً محرماً ، براً تقيّاً ، فنستغفر الله لذنوبنا. ألا وإنّي قد ألقيت لكم بالسّلام ، وأحببت قتال قتلة إمام الهدى المظلوم ، فاطلب منّي ما أحببت مِن الأموال والرجال أعجّله إليك(٢) .

وبهذه الأساليب المنكرة خدع أهل الشام ، وزج بهم لحرب وصيِّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وباب مدينة علمه.

٤ ـ لقد كان الخداع من ذاتيّات معاوية ، ومن العناصر المقوّمة لسياسته ، وقد بهر ولده يزيد حينما بويع ، وكان الناس يمدحونه ، فقال لأبيه :

__________________

(١) شرج نهج البلاغة ١ / ١٢٩.

(٢) شرح نهج البلاغة ٢ / ٢٣.

١٤٢

يا أمير المؤمنين ، ما ندري ، أنخدع الناس أم يخدعوننا؟! فأجابه معاوية : كلّ مَنْ أردت خديعته فتخادع له حتّى تبلغ منه حاجتك ، فقد خدعته(١) .

لقد جرّ معاوية ذيله على الخداع ، وغذّى به أهل مملكته حتّى نشأ جيل كانت هذه الظاهرة مِن أبرز ما عرف منه.

إشاعةُ الانتهازيّة :

وعملت حكومة معاوية على إشاعة الانتهازية والوصولية بين الناس ، ولم يعد ماثلاً عند الكثيرين منهم ما جاء به الإسلام مِن إيثار الحقّ ونكران الذات. ومِن مظاهر ذلك التذبذب ما رواه المؤرّخون : أنّ يزيد بن شجرة الرهاوي قد وفد على معاوية ، وبينما هو مقبلٌ على سماع حديثه إذ أصابه حجَرٌ عاثر فأدماه ، فأظهر تصنعاً عدم الاعتناء به ، فقال له معاوية : لله أنت! ما نزل بك؟

ـ ما ذاك يا أمير المؤمنين؟

ـ هذا دم وجهك يسيل.

ـ إنّ حديث أمير المؤمنين ألهاني حتّى غمز فكري ، فما شعرت بشيء حتّى نبّهني أمير المؤمنين.

فبُهر معاوية وراح يقول : لقد ظلمك مَنْ جعلك في ألف مِن العطاء ، وأخرجك مِن عطاء أبناء المهاجرين وكماة أهل صفين. وأمر له بخمسمئة ألف درهم ،

__________________

(١) الكامل للمبرد ١ / ٣٠٥.

١٤٣

وزاد في عطائه ألف درهم(١) .

وكانت هذه الظاهرة سائدة في جميع أدوار الحكم الاُموي ، فقد ذكر المؤرّخون : أنّ إسماعيل بن يسار كان زبيري الهوى ، فلمّا ظفر آلُ مروان بآل الزبير انقلب إسماعيل عن رأيه وأصبح مروانياً ، وقد استأذن على الوليد فأخّره ساعة ، فلمّا أذن له دخل وهو يبكي ، فسأله الوليد عن سبب بكائه ، فقال : أخّرتني وأنت تعلم مروانيتي ومروانية أبي! وأخذ الوليد يعتذر منه ، وهو لا يزداد إلاّ إغراقاً في البكاء ، فهّون عليه الوليد وأحسن صلته. فلمّا خرج تبعه شخص ممّن يعرفه ، فسأله عن مروانيته التي ادّعاها متى كانت ، فقال له : بغضنا لآل مروان ، وهي التي حملت أباه يسار في حال موته أنْ يتقرّب إلى الله بلعن مروان بن الحكم ، وهي التي دعت أُمّه أنْ تلعن آلَ مروان مكان ما تتقرّب به إلى الله مِن التسبيح(٢) .

ونقل المؤرّخون بوادر كثيرة مِن ألوان هذا الخداع الذي ساد في تلك العصور ، وهو مِن دون شكّ مِن مُخلّفات سياسة معاوية الذي ربّى جيله على التذبذب والانحراف عن الحقّ.

الخلاعةُ والمجون :

وعُرِفَ معاوية بالخلاعة والمجون. يقول ابن أبي الحديد : كان معاوية أيّام عثمان شديد التهتك ، موسوماً بكلّ قبيح ، وكان في أيّام عمر يستر نفسه قليلاً خوفاً منه ، إلاّ إنّه كان يلبس الحرير والديباج ، ويشرب في

__________________

(١) التاج في أخلاق الملوك / ٥٥.

(٢) الأغاني ٤ / ١٢٠.

١٤٤

آنية الذهب والفضة ، ويركب البغلات ذوات السروج المحلات بها ـ أي بالذهب ـ وعليها جلال الديباج والوشي ، وكان حينئذ شاباً وعند نزق الصبا ، وآثر الشبيبة وسكر السلطان والإمرة. ونقل الناس عنه في كتب السيرة أنّه كان يشرب الخمر في أيّام عثمان في الشام.

ولا خلاف في أنّه سمع الغناء وطرب عليه ، ووصل عليه أيضاً. وتأثر به ولده يزيد فكان مدمناً خليعاً مستهتراً ، وتأثر بهذا السلوك جميع خلفاء بني أُميّة. يقول الجاحظ : وكان يزيد ـ يعني ابن معاوية ـ لا يمسي إلاّ سكراناً ، ولا يصبح إلاّ مخموراً ، وكان عبد الملك بن مروان يسكر في كلّ شهر مرّة حتّى لا يعقل في السماء هو أو في الماء ، وكان الوليد بن عبد الملك يشرب يوماً ويدع يوماً ، وكان سليمان بن عبد الملك يشرب في كلّ ثلاث ليال ليلة ، وكان هشام يشرب في كلّ جمعة ، وكان يزيد بن الوليد والوليد بن يزيد يدمنان اللهو والشراب ؛ فأمّا يزيد بن الوليد فكان دهره بين حالتي سكر وخمار ، ولا يوجد أبداً إلاّ ومعه إحدى هاتين ، وكان مروان بن محمّد يشرب ليلة الثلاثاء وليلة السبت(١) .

وولّى هشام بن عبد الملك الوليد على الحجّ سنة (١١٩ هـ) ، فحمل معه كلاباً في صناديق فسقط منها صندوق وفيه كلب ، وحمل معه قبّة عملها على قدر الكعبة ليضعها عليها ، وحمل معه خمراً ، وأراد أن ينصب القبّة على الكعبة ويجلس فيها ، فخوّفه أصحابه وقالوا له : لا نأمن الناس عليك وعلينا ، فترك(٢) .

ووفد علي بن عباس على الوليد بن يزيد في خلافته ، وقد اُتي بابن شراعة مِن الكوفة ، فبادره قائلاً :

والله ، ما بعثت إليك لأسألك عن كتاب الله وسنّة رسوله.

__________________

(١) التاج في أخلاق الملوك / ١٥١.

(٢) تاريخ الطبري ٨ / ٢٨٨.

١٤٥

فضحك ابن شراعة وقال : إنّك لو سألتني عنهما لوجدتني حماراً.

ـ أنا أرسلت إليك لأسالك عن القهوة ـ أي الخمر ـ ، أخبرني عن الشراب؟

ـ يسأل أمير المؤمنين عمّا بدا له.

ـ ما تقول في الماء؟

ـ لا بدّ منه والحمار شريكي فيه.

وأخذ يسأله عن المشروبات حتّى انتهى إلى الخمر فقال له : ما تقول في الخمر؟

ـ أوآه تلك صديق روحي.

ـ أنت والله صديق روحي(١) .

وأرسل الوليد إلى عامله على الكوفة يطلب منه أنْ يبعث إليه الخُلعاء والشعراء الماجنين ليستمع ما يلهو به مِن الفسق والمجون ، وقد سخّر جميع أجهزة دولته للذاته وشهواته ، وكتب إلى واليه على خراسان أنْ يبعث إليه ببرابط وطنابير ، وقال أحد شعراء عصره ساخراً منه :

أبشر يا أمين الله

أبشر بتباشيرِ

بإبل يُحمل المالُ

عليها كالأنابير(٢)

بغالٌ تحمل الخمرَ

حقائبْها طنابيرُ

فهذا لك في الدنيا

وفي الجنّة تحبيرُ(٣)

وسادت اللذة واللهو في المجتمع العربي ، وتهالك الناس على الفسق

__________________

(١) نهاية الإرب ٤ / ٩٣ ، العقد الفريد ٣ / ١٨٤.

(٢) الأنابير : أكداس من الطعام.

(٣) تاريخ الطبري ٨ / ٢٩٨.

١٤٦

والفجور. ومِن طريف ما ينقل في هذا الموضوع : أنّه اُوتي بشيخ إلى هشام بن عبد الملك وكان معه قيان وخمر وبربط ، فقال : اكسروا الطنبور على رأسه. فبكى الشيخ ، فقال له أحد الجالسين : عليك بالصبر. فقال له الشيخ : أتراني أبكي للضرب؟ إنّما أبكي لاحتقاره البربط إذ سمّاه طنبوراً!(١) .

لقد كانت سيرة الاُمويِّين في جميع أدوارهم امتداداً لسيرة معاوية الذي أشاع حياة اللهو والخلاعة في البلاد ؛ للقضاء على أصالة الأُمّة ، وسلب وعيها الديني والاجتماعي.

إشاعةُ المجون في الحرمين :

وعمد معاوية إلى إشاعة الدعارة والمجون في الحرمين ؛ للقضاء على قدسيتهما ، وإسقاط مكانتهما الاجتماعية في نفوس المسلمين. يقول العلائلي : وشجّع الاُمويّون حياة المجون في مكّة والمدينة إلى حدّ الإباحة ؛ فقد استأجر طوائف مِن الشعراء والمخنّثين مِن بينهم عمر بن أبي ربيعة لأجل أنْ يمسحوا عاصمتي مكّة والمدينة بمسحة لا تليق ، ولا تجعلهما صالحتين للزعامة الدينية.

وقد قال الأصمعي : دخلت المدينة فما وجدت إلاّ المخنثين ، ورجلاً يضع الأخبار والطرف(٢) ، وقد شاعت في يثرب مجالس الغناء ، وكان الوالي يحضرها ويشارك فيها(٣) ، وانحسرت بذلك روح الأخلاق ، وانصرف الناس عن المُثل العليا التي جاء بها الإسلام.

__________________

(١) تاريخ الطبري ٨ / ٢٨٥.

(٢) سمو المعنى في سمو الذات / ٣٠.

(٣) العقد الفريد ٣ / ٢٤١.

١٤٧

الاستخفافُ بالقيم الدينيّة :

واستخفّ معاوية بكافة القيم الدينية ، ولمْ يعن بجميع ما جاء به الإسلام مِن الأحكام ، فاستعمل أواني الذهب والفضة ، وأباح الربا ، وتطيّب في الإحرام ، وعطّل الحدود(١) ، وقد أُلغيت معظم الأحكام الإسلاميّة في أغلب أدوار الحكم الاُموي ، وفي ذلك يقول شاعر الإسلام الكميت :

وعُطِلَتِ الأحكام حتّى كأنّنا

على ملّةٍ غير التّي نتنحّلُ

أأهلُ كتابٍ نحنُ فيه وأنتمُ

على الحقّ نقضي بالكتابِ ونعدلُ

كأنّ كتابَ الله يعني بأمرِه

وبالنهي فيه الكوذني المركّلُ(٢)

فتلك ملوكُ السُوء قد طال ملكُهمْ

فحتّامَ حتّامَ العناءُ المطوّلُ

وما ضَرَبَ الأَمثَالَ في الجَورِ قَبلَنا

لأَجوَرَ من حُكَّامِنا المُتَمَثِّلُ(٣)

واستخف معاوية بالمقدّسات الإسلاميّة واحتقرها. يقول الرواة : إنّه لمّا تغلّب قيل له : لو سكنت المدينة ؛ فهي دار الهجرة ، وبها قبر النّبي (صلّى الله عليه وآله). فقال : (قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنْ الْمُهْتَدِينَ)(٤) .

واقتدى به في ذلك جميع بني أُميّة ، فقد انبرى يحيى بن الحكم إلى عبد الله بن جعفر فقال له : كيف تركت الخبيثة؟ ـ يعني مدينة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ـ فأنكر عليه ابن جعفر وصاح به :

__________________

(١) ذكرنا مصادر هذه الأحداث في الجزء الثاني مِن كتابنا (حياة الإمام الحسن (عليه السّلام».

(٢) الكوذني : البليد.

(٣) الهاشميات / ١١١.

(٤) المناقب والمثالب ـ القاضي نعمان المصري / ٧٠.

١٤٨

سمّاها رسول الله (صلّى الله عليه وآله) طيبة وتسمّيها خبيثة! قد اختلفتما في الدنيا ، وستختلفان في الآخرة.

قال يحيى : والله ، لأنْ أموت وأُدفن بأرض الشام المقدّسة أحبّ إليّ مِن أنْ أُدفن بها. فقال له : اخترت مجاورة اليهود والنصارى على مجاورة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) والمهاجرين!(١) .

استلحاقُ زياد :

ومِنْ مظاهر استخفاف معاوية بالقيم الإسلاميّة استلحاقه زياد بن عبيد الرومي وإلصاقه بنسبه مِن دون بيّنة شرعية ، وإنّما اعتمد على شهادة أبي مريم الخمّار ، وهو ممّا لا يثبت به نسب شرعي ، وقد خالف بذلك قول رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : «الولد للفراش وللعاهر الحجر». لقد قام بذلك انطلاقاً وراء أهدافه السياسية ، وتدعيماً لحكمه وسلطانه.

ومِن طريف ما يُنقل في الموضوع : أنّ نصر بن حجّاج خاصم عبد الرحمن بن خالد بن الوليد عند معاوية في عبد الله مولى خالد بن الوليد ، فأمر معاوية حاجبه أنْ يؤخّرهما حتّى يحتفل مجلسه ، فلمّا اكتمل مجلسه ، أمر بحَجَرٍ فأُدني منه وألقى عليه طرفاً مِن ثيابه ، ثمّ أذن لهما ، فترافعا عنده في شأن عبد الله ، فقال له نصر : إنّ أخي وابن أبي عهد إليّ أنّه ـ يعني عبد الله ـ منه. وقال عبد الرحمن : مولاي وابن عبد أبي وأمته ولد على فراشه.

__________________

(١) أنساب الأشراف ١ / ق ١.

١٤٩

وأصدر معاوية الحكم في المسألة ، فقال : يا حرسي ، خُذ هذا الحَجرَ فادفعه إلى نصر بن حجّاج ، فقد قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : «الولد للفراش وللعاهر الحَجَر».

وانبرى نصر فقال : أفلا أجريت هذا الحكم في زياد؟! فقال معاوية : ذلك حكم معاوية ، وهذا حكم رسول الله(١) .

إنكارُ الإمام الحُسين (عليه السّلام) :

وأنكر الإمام الحُسين (عليه السّلام) على معاوية هذا الاستلحاق الذي خالف به قول رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، فكتب إليه مذكّرة تضمّنت الأحداث الجسام التي اقترفها معاوية ، وقد جاء فيها : «أوَلستَ المدّعي زياد بن سُميّة المولود على فراش عبيد ثقيف ، فزعمت أنّه ابن أبيك وقد قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : الولد للفراش وللعاهر الحجر. فتركت سُنّة رسول الله تعمّداً ، واتّبعت هواك بغير هدىً مِن الله؟!».

لقد أثار استلحاق معاوية لزياد موجةً مِن الغضب والاستياء عند الأخيار والمتحرّجين في دينهم ، وقد بسطنا الكلام في ذلك في كتابنا (حياة الإمام الحسن (عليه السّلام».

الحقدُ على النّبي (صلّى الله عليه وآله) :

وحقدَ معاوية على النّبي (صلّى الله عليه وآله) ، فقد مكث في أيّام خلافته أربعين

__________________

(١) تاريخ الطبري ١٠ / ٤٨٠ ، العقد الفريد ٦ / ١٣٣.

١٥٠

جمعة لا يصلّي عليه ، وسأله بعض أصحابه عن ذلك ، فقال : لا يمنعني عن ذكره إلاّ أنْ تشمخ رجال بآنافها(١) .

وسمع المؤذن يقول : أشهد أنْ لا إله إلاّ الله ، وأنّ محمّداً رسول الله ، فلم يملك إهابه واندفع يقول : لله أبوك يا ابن عبد الله! لقد كنت عالي الهمّة ، ما رضيت لنفسك إلاّ أنْ يُقرنَ اسمك باسم ربِّ العالمين!(٢) .

ومِن مظاهر حقده على الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) ما رواه مطرف بن المغيرة قال : وفدت مع أبي على معاوية ، فكان أبي يتحدّث عنده ثمّ ينصرف إليّ وهو يذكر معاوية وعقله ، ويعجب بما يرى منه. وأقبل ذات ليلة وهو غضبان ، فأمسك عن العشاء ، فانتظرته ساعة وقد ظننت أنّه لشيء حدث فينا أو في عملنا ، فقلت له : مالي أراك مغتماً منذ الليلة؟

ـ يا بُني ، جئتك مِن أخبث الناس.

ـ ما ذاك؟!

ـ خلوت بمعاوية فقلت له : إنّك قد بلغت مُناك يا أمير المؤمنين ، فلو أظهرت عدلاً وبسطت خيراً ؛ فإنّك قد كبُرت ، ولو نظرت إلى إخوتك مِن بني هاشم فوصلت أرحامهم ، فوالله ما عندهم اليوم شيء تخافه.

فثار معاوية واندفع يقول : هيهات هيهات! مَلَكَ أخو تيم فعدل ، وفعل ما فعل ، فوالله ما عدا أنْ هلكَ فهلكَ ذكره ، إلاّ أنْ يقول قائل : أبو بكر. ثمّ مَلَكَ أخو عديّ فاجتهد وشمّر عشر سنين ، فوالله ما عدا أنْ هلكَ فهلكَ ذكره إلاّ أنْ يقولَ قائل : عمر. ثمّ مَلَكَ أخونا عثمان فمَلَكَ رجلٌ لمْ يكن أحدٌ في مثل نسبه ،

__________________

(١) النصائح الكافية / ٩٧.

(٢) نهج البلاغة ١٠ / ١٠١.

١٥١

فعُمل به ما عُمل ، فوالله ما عدا أنْ هلكَ فهلكَ ذكره. وإنّ أخا هاشم يُصرخ به في كلّ يوم خمس مرات : أشهد أنّ محمّداً رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، فأيّ عمل يبقى بعد هذا ـ لا أُمّ لك ـ إلاّ دفناً دفناً؟!(١) .

ودلّت هذه البادرة على مدى زعزعة العقيدة الدينية في نفس معاوية ، وإنّها لمْ تكن إلاّ رداءً رقيقاً يشف عمّا تحته مِن حبّ الجاهلية والتأثر بها إلى حدٍّ بعيد. وكانت النزعة الإلحادية ماثلة عند أغلب ملوك الاُمويِّين.

يقول الوليد في بعض خمرياته منكراً للبعث والنشور :

أدِر الكأس يميناً

لا تدِرها ليسارِ

اسقِ هذا ثمّ هذا

صاحبَ العود النضارِ

مِن كميتٍ عتّقوها

منذُ دهرٍ في جرارِ

ختموها بالأماويـ

ـه(٢) وكافور وقارِ

فلقد أيقنت أنّي

غيرُ مبعوثٍ لنارِ

سأروض الناس حتّى

يركبوا دين الحمارِ

وذروا مَنْ يطلب الـ

جنّة يسعى لتبارِ(٣)

وتأثّر الكثيرون مِن ولاتهم بهذه النزعة الإلحادية ، فكان الحجّاج يخاطب الله أمام الجماهير الحاشدة قائلاً : أرسولك أفضل أمْ خليفتك؟ يعني أنّ عبد الملك أفضل مِن النّبي العظيم (صلّى الله عليه وآله)(٤) . وكان ينقم على الذين يزورون قبر رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ويقول : تبّاً لهم! إنّما يطوفون بأعواد

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ٢ / ٢٩٧.

(٢) الأماويه : مِن أنواع الطيب.

(٣) رسالة الغفران / ١٤٥.

(٤) النزاع والتخاصم للمقريزي / ٢٧ ، رسائل الجاحظ / ٢٩٧ ، العقد الفريد ٣ / ٣٥٥.

١٥٢

ورمّة بالية ، هلاّ طافوا بقصر أمير المؤمنين عبد الملك! ألا يعلمون أنّ خليفة المرء خير مِن رسوله؟!(١) .

وهكذا كان جهاز الحكم الاُموي في كثيرٍ مِن أدواره ، فقد تنكّر للرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) وازدرى برسالته.

تغييرُ الواقع الإسلامي :

وعمد معاوية إلى تغيير الواقع الإسلامي المشرق الذي تبنّى الحركات النضالية والقضايا المصيرية لجميع الشعوب ، فأهاب بالمسلمين أنْ لا يقرّوا على كظّةِ ظالم ، ولا سغب مظلوم. وقد تبنّى هذا الشعار المقدّس الصحابي العظيم أبو ذر الغفاري الذي فهم الإسلام عن واقعه ، فرفع راية الكفاح في وجه الحكم الاُموي ، وطالب عثمان ومعاوية بإنصاف المظلومين والمضطهدين ، وتوزيع ثروات الأُمّة على الفقراء والمحرومين.

لقد أراد معاوية إقبار هذا الوعي الديني ، وإماتة الشعور بالمسؤولية ، فأوعز إلى لجان الوضع التي ابتدعها أنْ تفتعل الأحاديث على لسان المحرّر العظيم الرسول (صلّى الله عليه وآله) في إلزام الأُمّة بالخضوع للظلم ، والخنوع للجور ، والتسليم لما يقترفه سلطانها مِن الجور والاستبداد. وهذه بعض الأحاديث :

١ ـ روى البخاري بسنده عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أنّه قال لأصحابه : (إنّكم سترون بعدي إثرةً واُموراً تنكرونها). قالوا : فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال : (أدّوا إليهم حقّهم ، واسألوا الله حقّكم)(٢) .

٢ ـ روى البخاري بسنده عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أنّه قال : (مَنْ

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ١٥ / ٢٤٢.

(٢) صحيح البخاري ٨ / ٨٧.

١٥٣

رأى مِن أميره شيئاً يكره فليصبر عليه ؛ فإنّه مَنْ فارق الجماعة فمات مات ميتةً جاهليّة)(١) .

٣ ـ روى البخاري بسنده عن مسلمة بن زيد الجعفي أنّه سأل رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، فقال له : يا نبي الله ، أرأيت إنْ قامت علينا أُمراء يسألونا حقّهم ويمنعونا حقّنا ، فما ترى؟ فأعرض (صلّى الله عليه وآله) عنه ، فسأله ثانياً وثالثاً والرسول معرضٌ ، فجذبه الأشعث بن قيس ، فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : (اسمعوا وأطيعوا ، فإنّ عليهم ما حُمّلوا وعليكم ما حُمّلتم)(٢) .

٤ ـ روى البخاري بسنده عن عجرفة قال : سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول : (إنّه ستكون هِنات وهِنات ، فمَنْ أراد أنْ يفرّق أمر هذه الأُمّة وهي جمع فاضربوه بالسّيف كائناً ما كان)(٣) . إلى غير ذلك مِن الموضوعات التي خدّرت الأُمّة ، وشلّت حركتها الثورية ، وجعلتها قابعة ذليلة تحت وطأة الاستبداد الاُموي وجوره.

وقد هبّ الإمام الحُسين (عليه السّلام) الثائر الأوّل في الإسلام إلى إعلان الجهاد المقدّس ؛ ليوقظ الأُمّة مِن سُباتها ، ويُعيد للإسلام نضارته وروحه النضالية التي انحسرت في عهد الحكم الاُموي.

مع أهل البيت (عليهم السّلام) :

وسخّر معاوية جميع أجهزته للحطّ مِن قيمة أهل البيت (عليهم السّلام) ، الذين هم وديعة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، والعصب الحسّاس في هذه الأُمّة ، وقد

__________________

(١) صحيح البخاري ٨ / ٨٧.

(٢) صحيح البخاري ٢ / ١١٩.

(٣) صحيح البخاري ٢ / ١٢١.

١٥٤

استخدم أخطر الوسائل في محاربتهم وإقصائهم عن واقع الحياة الإسلاميّة ، وكان مِن بين ما استخدمه في ذلك ما يلي :

١ ـ تسخير الوعّاظ :

وسخّر معاوية الوعّاظ في جميع أنحاء البلاد ليحوّلوا القلوب عن أهل البيت (عليهم السّلام)(١) ، ويذيعوا الأضاليل في انتقاصهم ؛ تدعيماً للحكم الاُموي.

٢ ـ استخدامُ معاهد التعليم :

واستخدم معاوية معاهد التعليم وأجهزة الكتاتيب لتغدية النشء ببغض أهل البيت (عليهم السّلام) ، وخَلْقِ جيلٍ مُعادٍ لهم(٢) ، وقد قامت تلك الأجهزة بدور خطير في بثّ روح الكراهية في نفوس النشء لعترة النّبي (صلّى الله عليه وآله).

٣ ـ افتعال الأخبار.

وأقام معاوية شبكةً لوضع الأخبار تعدّ مِن أخطر الشبكات التخريبية في الإسلام ، فعهد إليها بوضع الأحاديث على لسان النّبي (صلّى الله عليه وآله) ؛ للحطّ مِن قيمة أهل البيت (عليهم السّلام) ، أمّا الأعضاء البارزون في هذه اللجنة فهم :

١ ـ أبو هريرة الدوسي.

٢ ـ سمرة بن جندب.

٣ ـ عمرو بن العاص.

٤ ـ المغيرة بن شعبة.

وقد افتعلوا آلاف الأحاديث على لسان النّبي (صلّى الله عليه وآله) ، وكانت عدّة طوائف مختلفة حسب التخطيط السياسي للدولة وهي :

الطائفة الأولى : وضع الأخبار في فضل الصحابة لجعلهم قبال أهل البيت (عليهم السّلام) ، وقد عدّ الإمام الباقر (عليه السّلام) أكثر مِن مئة حديث ، منها :

__________________

(١) حياة الإمام الحسن (عليه السّلام) ٢ / ١٦١ الطبعة الثانية.

(٢) المصدر نفسه.

١٥٥

أ ـ أنّ عمر مُحدّث ـ بصيغة المفعول ـ أي تحدّثه الملائكة.

ب ـ أنّ السكينة تنطق على لسان عمر.

ج ـ أنّ عمر يلقّنه المَلَك.

د ـ أنّ الملائكة لتستحي مِن عثمان(١) .

إلى كثير مِن أمثال هذه الأخبار التي وُضعت في فضل الصحابة.

يقول المحدّث ابن عرفة المعروف بنفطويه : إنّ أكثر الأحاديث الموضوعة في فضائل الصحابة افتُعِلَتْ في أيّام بني أُميّة ؛ تقرّباً إليهم بما يظنون أنهم يرغمون بها اُنوف بني هاشم(٢) . كما وضعوا في فضل الصحابة الأحاديث المماثلة للأحاديث النّبويّة في فضل العترة الطاهرة ، كوضعهم : (إنّ سيّدَي كهول أهل الجنّة أبو بكر وعمر) ، وقد عارضوا بذلك الأحاديث المتواترة : «الحسنُ والحسين سيدا شباب أهل الجنّة»(٣) .

الطائفة الثانية : وضع الأخبار في ذمّ العترة الطاهرة والحطّ مِن شأنها ، فقد أعطى معاوية سمرة بن جندب أربعمئة ألف على أنْ يخطب في أهل الشام ، ويروي لهم أنّ الآية الكريمة نزلت في علي ، وهي قوله تعالى :( وَمِنَ النّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى‏ مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلّى‏ سَعَى‏ فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبّ الْفَسَادَ ) (٤) . فروى لهم سمرة ذلك ، وأخذ العوض الضخم مِن بيت مال المسلمين(٥) . وممّا رووا أنّ النّبي (صلّى الله عليه وآله) قال في آل

__________________

(١) حياة الإمام الحسن (عليه السّلام) ٢ / ١٦٢ الطبعة الثانية.

(٢) النصائح الكافية / ٧٤.

(٣) حياة الإمام الحسن (عليه السّلام) ٢ / ١٦٢.

(٤) سورة البقرة / ٢٠٣ ـ ٢٠٤.

(٥) النصائح الكافية / ٢٥٣.

١٥٦

أبي طالب : إنّ آل أبي طالب ليسوا بأولياء لي ، إنّما وليّ الله وصالح المؤمنين(١) . وروى الأعمش : أنّه لمّا قدِم أبو هريرة العراق مع معاوية عام الجماعة سنة (٤١ هـ) جاء إلى مسجد الكوفة ، فلمّا رأى كثرة مَنْ استقبله مِن الناس جثا على ركبتيه ، ثمّ ضرب صلعته مراراً وقال : يا أهل العراق ، أتزعمون أنّي أكذب(٢) على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وأحرقُ نفسي بالنار؟! لقد سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول : «إنّ لكلّ نبي حرماً ، وإنّ حرمي بالمدينة ما بين عير إلى ثور ، فمَنْ أحدث فيهما حدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين» ، وأشهد بالله أنّ علياً أحدث فيها. فلمّا بلغ معاوية قوله أجازه وأكرمه ، وولاّه إمارة المدينة(٣) .

إلى كثير مِن أمثال هذه الموضوعات التي تقدح في العترة الطاهرة ، التي هي مصدر الوعي والإحساس في العالم الإسلامي.

الطائفة الثالثة : افتعال الأخبار في فضل معاوية لمحو العار الذي لحقه ولحق أباه وأُسرته في مناهضتهم للإسلام ، وإخفاء ما أُثر عن النّبي (صلّى الله عليه وآله) في ذمّهم.

وهذه بعض الأخبار المفتعلة :

١ ـ قال (صلّى الله عليه وآله) : معاوية بن أبي سفيان أحلم أُمّتي وأجودها(٤) .

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ٣ / ١٥.

(٢) علّق على ذلك العلاّمة فقيد الإسلام الشيخ محمود أبو رية في كتابه (أبو هريرة / ٢٣٦) ، بقوله : يدلّ هذا القول على أنّ كذب أبي هريرة على النّبي (صلّى الله عليه وآله) كان قد اشتهر حتّى عمّ الآفاق ، وأصبح الناس يتحدّثون به في كل مكان.

(٣) شرح نهج البلاغة ١ / ٣٥٩.

(٤) البداية والنهاية ٨ / ١٢١ ، تطهير الجنان المطبوع على هامش الصواعق المحرقة / ٢٦.

١٥٧

٢ ـ قال (صلّى الله عليه وآله) : صاحب سرّي معاوية بن أبي سفيان(١) .

٣ ـ قال (صلّى الله عليه وآله) : اللهمّ علّمه ـ يعني معاوية ـ الكتاب ، وقِه العذاب ، وأدخله الجنة(٢) .

٤ ـ قال (صلّى الله عليه وآله) : إذا رأيتم معاوية يخطب على منبري فاقبلوه(٣) ؛ فإنّه أمين هذه الاُمّة(٤) .

إلى غير ذلك مِن الأحاديث الموضوعة التي تعكس الصراع الفكري ضد الإسلام عند معاوية ، وإنّه حاول جاهداً محو هذا الدين والقضاء عليه.

حديثُ مفتعل على الحُسين (عليه السّلام) :

مِن الأحاديث الموضوعة على الإمام الحُسين (عليه السّلام) ما روي : أنّه وفد على معاوية زائراً في يوم الجمعة ، وكان قائماً على المنبر خطيباً ، فقال له رجل مِن القوم : ائذن للحُسين يصعد المنبر. فقال له معاوية : ويلك! دعني افتخر. ثمّ حمد الله وأنثى عليه ، ووجّه خطابه للحُسين (عليه السّلام) قائلاً له : سألكتك يا أبا عبد الله ، أليس أنا ابن بطحاء مكة؟

ـ إي والذي بعث جدّي بشيراً.

ـ سألتك يا أبا عبد الله ، أليس أنا خال المؤمنين؟

ـ إي والذي بعث جدّي نبيّاً.

__________________

(١) تطهير الجنان / ٢٦.

(٢) المصدر نفسه.

(٣) وضع هذه الأحاديث لمعارضة الحديث الصحيح المروي عن النبي (صلّى الله عليه وآله) : «إذا رأيتم معاوية يخطب على منبري فاضربوا عنقه».

(٤) تاريخ بغداد.

١٥٨

ـ سألتك يا أبا عبد الله أليس أنا كاتب الوحي؟

ـ أي والذي بعتث جدي نذيراً.

ثم نزل معاوية عن المنبر ، فصعد الحسين فحمد الله بمحامد لم يحمده الأولون والآخرون بمثلها ثم قال : حدثني أبي عن جدي عن جبرائيل عن الله تعالى أن تحت قائمة كرسي العرش ورقة آس من خضراء مكتوب عليها : لا إله إلا الله محمد رسول الله ، يا شيعة آل محمد لا يأتي أحدكم يوم القيامة إلا أدخله الله الجنة.

فقال له معاوية : سألتك يا أبا عبد الله من شيعة آل محمد؟

فقال (عليه السلام) : الذين لا يشتمون الشيخين أبا بكر وعمر ، ولا يشتمون عثمان ولا يشتمونك يا معاوية.

وعلّق الحافظ ابن عساكر على هذا الحديث بقوله : هذا حديث منكر ولا أرى سنده متصلاً إلى الحسين(١) .

وقد امتحن المسلمون امتحاناً عسيراً بهذا الموضوعات التي دونت في كتب السنة ، وظن الكثيرون من المسلمين أنها حق ، فأضفوا على معاوية ثوب القداسة ، وألحقوه بالرعيل الأول من الصحابة المتحرجين في دينهم وهم من دون شك لو علموا واقعها لتبرؤا منها كما قال المدايني(٢) .

ولم تقتصر الموضوعات على تقديس معاوية والحط من شأن أهل البيت (عليهم السلام) وإنما تدخلت في شؤون الشريعة فألصقت بها المتناقضات والمستحيلات مما شوهت الواقع الإسلامي وأفسدت عقائد المسلمين.

__________________

(١) تأريخ ابن عساكر ٤ / ٣١٣.

(٢) شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ٣ / ١٦.

١٥٩

سب الإمام أمير المؤمنين :

وتمادى معاوية في عدائه للإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) فأعلن سبّه ولعنه في نواديه العامّة والخاصّة وأوعز إلى جميع عمّاله وولاته أن يذيعوا سبّه بين الناس ، وسرى سبّ الإمام في جميع أنحاء العالم الإسلامي ، وقد خطب معاوية في أهل الشام فقال لهم : أيها الناس ، إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال لي : إنك ستلي الخلافة من بعدي فاختر الأرض المقدّسة ـ يعني الشام ـ فإن فيها الأبدال ، وقد اخترتكم فالعنوا أبا تراب.

وعجّ أهل الشام بسب الإمام(١) وخطب في أولئك الوحوش فقال لهم : ما ظنكم برجل ـ يعني علياً ـ لا يصلح لأخيه ـ يعني عقيلاً ـ يا أهل الشام ، إنّ أبا لهب المذموم في القرآن هو عم علي بن أبي طالب(٢) .

ويقول المؤرخون : إنّه كان إذا خطب ختم خطابه بقوله : اللهم إنّ أبا تراب ألحد في دينك وصد عن سبيلك فالعنه لعناً وبيلاً ، وعذّبه عذاباً إليماً.

وكان يشاد بهذه الكلمات على المنابر(٣) ولما ولي معاوية المغيرة بن شعبة إمارة الكوفة كان أهم ما عهد إليه أن لا يتسامح في شتم الإمام (عليه السلام) والترحّم على عثمان ، والعيب لأصحاب علي وإقصاءهم ، وأقام المغيرة

__________________

(١) النصائح الكافية / ٧٢.

(٢) شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ٣ / ٣٦١.

(٣) النصائح الكافية.

١٦٠

والياً على الكوفة سبع سنين وهو لا يدع ذم علي والوقوع فيه(1) . وقد أراد معاوية بذلك أن يصرف القلوب عن الإمام (عليه السلام) وأن يحول بين الناس وبين مبادئه التي أصبحت تطارده في قصوره.

يقول الدكتور محمود صبحي : لقد أصبح علي جثة هامدة لا يزاحمهم في سلطانهم ، ويخيفهم بشخصه ، ولا يعني ذلك ـ أي سبّ الإمام ـ إلا أنّ مبادئه في الحكم وآراءه في السياسة كانت تنغّص عليهم في موتهم كما كانت في حياته(2) .

لقد كان الإمام رائد العدالة الإنسانية والمثل الأعلى لهذا الدين ، يقول الجاحظ : لا يعلم رجل في الأرض متى ذكر السبق في الإسلام والتقدم فيه ، ومتى ذكر النخوة والذب عن الإسلام ، ومتى ذكر الفقه في الدين ، ومتى ذكر الزهد في الأمور التي تناصر الناس عليها كان مذكوراً في هذه الخلال كلها إلا في علي(3) .

ويقول الحسن البصري : والله ، لقد فارقكم بالأمس رجل كان سهماً صائباً من مرامي الله عز وجل ، رباني هذه الأمة بعد نبيها (صلى الله عليه وآله) وصاحب شرفها وفضلها وذا القرابة القريبة من رسول الله (صلى الله عليه وآله) غير مسؤم لأمر الله ، ولا سروقة لمال الله أعطى القرآن عزائمه فأورده رياضاً مونقة ، وحدائق مغدقة ذلك علي بن أبي طالب(4) .

لقد عادت اللعنات التي كان يصبها معاوية وولاته على الإمام بإظهار فضائله ؛ فقد برز الإمام للناس أروع صفحة في تأريخ الإنسانية كلها ، وظهر للمجتمع أنّه المنادي الأول بحقوق الإنسان ، والمؤسس الأول للعدالة الاجتماعية

__________________

(1) تأريخ الطبري 6 / 141 طبع أوربا.

(2) نظرية الإمامة لدى الشيعة الإثنى عشرية / 282.

(3) الإسلام والحضارة العربية 2 / 145.

(4) مناقب ابن المغازلي / رقم الحديث 69.

١٦١

في الأرض. لقد انطوت السنون والأحقاب واندكت معالم تلك الدول التي ناوئت الإمام ، سواء أكانت من بني أمية أم من بني العباس ، ولم يبقَ لها أثر ، وبقي الإمام (عليه السلام) وحده قد احتل قمّة المجد فها هو رائد الإنسانية الأول وقائدها الأعلى وإذا بحكمه القصير الأمد يصبح طغراءً في حكام هذا الشرق ، وإذا الوثائق الرسمية التي أثرت عنه تصبح مناراً لكل حكم صالح يستهدف تحقيق القضايا المصيرية للشعوب ، وإذا بحكم معاوية أصبح رمزاً للخيانة والعمالة ورمزاً لاضطهاد الشعوب واحتقارها.

ستر فضائل أهل البيت :

وحاول معاوية بجميع طاقاته حجب فضائل أهل البيت (عليهم السلام) وستر مآثرهم عن المسلمين ، وعدم إذاعة ما أثر عن النبي (صلى الله عليه وآله) في فضلهم.

يقول المؤرخون : إنّه بعد عام الصلح حج بيت الله الحرام فاجتاز على جماعة فقاموا إليه تكريماً ولم يقم إليه ابن عباس ، فبادره معاوية قائلاً : يابن عباس ما منعك من القيام؟ كما قام أصحابك إلا لموجدة علي بقتالي إياكم يوم صفين! يابن عباس ، إنّ ابن عمي عثمان قتل مظلوماً!

فردّ عليه ابن عباس ببليغ منطقه قائلاً : فعمر بن الخطاب قد قُتل مظلوماً ، فسلم الأمر إلى ولده ، وهذا ابنه ـ وأشار إلى عبد الله بن عمر ـ.

أجابه معاوية بمنطقه الرخيص :

إنّ عمر قتله مشرك.

فانبرى ابن عباس قائلاً :

فمَنْ قتل عثمان؟

١٦٢

ـ قتله المسلمون.

وأمسك ابن عباس بزمامه فقال له : فذلك أدحض لحجتك إن كان المسلمون قتلوه وخذلوه فليس إلاّ بحق.

ولم يجد معاوية مجالاً للردّ عليه ، فسلك حديثاً آخر أهم عنده من دم عثمان فقال له : إنّا كتبنا إلى الآفاق ننهي عن ذكر مناقب علي وأهل بيته فكف لسانك يابن عباس.

فانبرى ابن عباس بفيض من منطقه وبليغ حجته يسدد سهاماً لمعاوية قائلاً : فتنهانا عن قراءة القرآن؟

ـ لا.

ـ فتنهانا عن تأويله؟

ـ نعم.

ـ فنقرأه ولا نسأل عما عنى الله به؟

ـ نعم.

ـ فأيهما أوجب علينا قراءته أو العمل به؟

ـ العمل به.

ـ فكيف نعمل به حتى نعلم ما عنى الله بما أنزل علينا؟

ـ سل عن ذلك ممن يتأوله على غير ما تتأوله أنت وأهل بيتك.

ـ إنما نزل القرآن على أهل بيتي ، فأسأل عنه آل أبي سفيان وآل أبي معيط؟!

ـ فاقرؤوا القرآن ، ولا ترووا شيئاً مما أنزل الله فيكم ، ومما قاله رسول الله (صلى الله عليه وآله) فيكم ، وارووا ما سوى ذلك.

١٦٣

وسخر منه ابن عباس ، وتلا قوله تعالى :( يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلّا أَن يُتِمّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ) .

وصاح به معاوية : اكفني نفسك وكفّ عنّي لسانك ، وإن كنت فاعلاً فليكن سرّاً ولا تسمعه أحداً علانية(1) .

ودلّت هذه المحاورة على عمق الوسائل التي اتّخذها معاوية في مناهضته لأهل البيت وإخفاء مآثرهم.

وبلغ الحق بمعاوية على الإمام أنّه لما ظهر عمرو بن العاص بمصر على محمد بن أبي بكر وقتله ، استولى على كتبه ومذكراته وكان من بينها عهد الإمام له ، وهو من أروع الوثائق السياسية فرفعه ابن العاص إلى معاوية فلما رآه قال لخاصته : إنّا لا نقول هذا من كتب علي بن أبي طالب ولكن نقول هذا من كتب أبي بكر التي كانت عنده(2) .

التحرج من ذكر الإمام :

وأسرف الحكم الأموي إلى حد بعيد في محاربة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) فقد عهد بقتل كل مولود يسمى علياً ، فبلغ ذلك علي بن رباح فخاف ، وقال : لا أجعل في حل من سماني علياً فإن اسمي علي ـ بضم العين ـ(3) .

ويقول المؤرخون : إنّ العلماء والمحدثين تحرجوا من ذكر الإمام علي والرواية عنه خوفاً من بني أمية فكانوا إذا أرادوا أن يرووا عنه يقولون :

__________________

(1) حياة الإمام الحسن 2 / 343.

(2) شرح النهج 2 / 28.

(3) تهذيب التهذيب 7 / 319.

١٦٤

روى أبو زينب(1) ، وروى معمر عن الزهري عن عكرمة عن ابن عباس قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : «إنّ الله عز وجل منع بني إسرائيل قطر السماء لسوء رأيهم في أنبيائهم ، واختلافهم في دينهم ، وإنّه أخذ على هذه الأمّة بالسنين ، ومنعهم قطر السماء ببغضهم علي بن أبي طالب».

قال معمر : حدثني الزهري في مرضة مرضها ، ولم اسمعه يحدث عن عكرمة قبلها ولا بعدها فلما أبل من مرضه ندم على حديثه لي وقال : يا يماني اكتم هذا الحديث ، واطوه دوني فإن هؤلاء ـ يعني بني أميّة ـ لا يعذرون أحداً في تقريض علي وذكره.

قال معمر : فما بالك عبت علياً مع القوم وقد سمعت الذي سمعت؟!

قال الزهري : حسبك يا هذا إنّهم أشركونا مهامهم فاتبعناهم في أهوائهم(2) .

وقد امتحن المسلمون امتحاناً عسيراً في مودتهم للإمام وتحرجوا أشدّ التحرّج في ذلك ، يقول الشعبي : ماذا لقينا من علي إن أحببناه ذهبت دنيانا وإن بغضناه ذهب ديننا.

ويقول الشاعر :

حبّ علي كله ضرب بر

جفّ من تذكاره القلب

هذه بعض المحن التي عاناها المسلمون في مودتهم لأهل البيت (عليهم السلام) التي هي جزء من دينهم.

__________________

(1) شرح النهج 11 / 14.

(2) مناقب ابن المغازلي / رقم الحديث 149.

١٦٥

مع الشيعة :

واضطهدت الشيعة أيام معاوية اضطهاداً رسمياً في جميع أنحاء البلاد ، وقوبلوا بمزيد من العنف والشدّة ، فقد انتقم منهم معاوية كأشدّ ما يكون الانتقام قسوة وعذاباً ، فقد قاد مركبة حكومته على جثث الضحايا منهم ، وقد حكى الإمام الباقر (عليه السلام) صوراً مريعة من بطش الأمويين بشيعة آل البيت (عليهم السلام) يقول : «وقتلت شيعتنا بكل بلدة ، وقطعت الأيدي والأرجل على الظنّة ، وكان من يذكر بحبنا والانقطاع إلينا سجن أو نهب ماله أو هدمت داره»(1) .

وتحدّث بعض رجال الشيعة إلى محمد بن الحنفية عمّا عانوه من المحن والخطوب بقوله : فما زال بنا الشين في حبكم حتى ضُربت عليه الأعناق ، وأبطلت الشهادات ، وشردنا في البلاد ، وأوذينا حتى لقد هممت أن أذهب في الأرض قفراً ، فأعبد الله حتى ألقاه ، لولا أن يخفى عليّ أمر آل محمد (صلى الله عليه وآله) وحتى هممت أن أخرج مع أقوام(2) شهادتنا وشهادتهم واحدة على أمرائنا فيخرجون فيقاتلون(3) .

لقد كان معاوية لا يتهيب من الإقدام على اقتراف أية جرية من أجل أن يضمن ملكه وسلطانه ، وقد كانت الشيعة تشكّل خطراً على حكومته فاستعمل معهم أعنف الوسائل وأشدها قسوة من أجل القضاء عليهم ، ومن بين الإجراءات القاسية التي استعملها ضدهم ما يلي :

__________________

(1) شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد 3 / 15.

(2) الأقوام : هم الخوارج.

(3) طبقات ابن سعد 5 / 95.

١٦٦

القتل الجماعي

وأسرف معاوية إلى حد كبير في سفك دماء الشيعة ، فقد عهد إلى الجلادين من قادة جيشه بتتبع الشيعة وقتلهم حيثما كانوا ، وقد قتل بسر بن أبي أرطأة بعد التحكيم ثلاثين ألفاً عدا مَنْ أحرقهم بالنار(1) ، وقتل سمرة بن جندب ثمانية آلاف من أهل البصرة(2) ، وأمّا زياد بن أبيه فقد ارتكب أفظع المجازر فقطع الأيدي والأرجل وسمل العيون ، وأنزل بالشيعة من صنوف العذاب ما لا يوصف لمرارته وقسوته.

إبادة القوى الواعية :

وعمد معاوية إلى إبادة القوى المفكرة والواعية من الشيعة ، وقد ساق زمراً منهم إلى ساحات الإعدام ، وأسكن الثكل والحداد في بيوتهم ، وفيما يلي بعضهم :

1 ـ حجر بن عدي :

لقد رفع حجر بن عدي علم النضال ، وكافح عن حقوق المظلومين والمضطهدين ، وسحق إرادة الحاكمين من بني أميّة الذين تلاعبوا في مقدرات الأمّة وحولوها إلى مزرعة جماعية لهم ولعملائهم وأتباعهم.

لقد استهان حجر من الموت وسخر من الحياة ، واستلذّ الشهادة في سبيل عقيدته ، فكان أحد المؤسسين لمذهب أهل البيت (عليه السلام).

__________________

(1) شرح النهج 2 / 6.

(2) الطبري 6 / 32.

١٦٧

وامتحن حجر كأشدّ ما تكون المحنة قسوة حينما رأى السلطة تعلن سب الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) وترغم الناس على البراءة منه فأنكر ذلك ، وجاهر بالردّ على ولاة الكوفة ، واستحلّ زياد بن أبيه دمه فألقى عليه القبض ، وبعثه مخفوراً مع كوكبة من إخوانه إلى معاوية ، وأوقفوا في (مرج عذراء) فصدرت الأوامر من دمشق بإعدامهم ، ونفذ الجلادون فيهم حكم الإعدام فخرت جثثهم على الأرض وهي ملفعة بدم الشهادة والكرامة وهي تضيء للناس معالم الطريق نحو حياة أفضل لا ظلم فيها ، ولا طغيان.

مذكرة الإمام الحسين

وفزع الإمام الحسين حينما وافته الأنباء بمقتل حجر فرفع مذكرة شديدة اللهجة إلى معاوية ذكر فيها أحداثه وبدعه ، والتي كان منها قتله لحجر والبررة من أصحابه ، وقد جاء فيها : «ألست القاتل حجراً أخا كندة والمصلّين العابدين الذين كانوا ينكرون الظلم ويستعظمون البدع ، ولا يخافون في الله لومة لائم. قتلتهم ظلماً وعدواناً من بعد ما كانت أعطيتهم الأيمان المغلّظة ، والمواثيق المؤكّدة أن لا تأخذهم بحدث كان بينك وبينهم ولا بإحنة تجدها في نفسك عليهم؟!»(1)

واحتوت هذه المذكّرة على ما يلي :

1 ـ الإنكار الشديد على معاوية لقتله حجراً وأصحابه من دون أن يقترفوا أو يحدثوا فساداً في الأرض.

2 ـ إنها أشادت بالصفات البطولية في هؤلاء الشهداء من إنكار الظلم ،

__________________

(1) حياة الإمام الحسن 2 / 365.

١٦٨

ومقاومة الجور ، واستعظام البدع والمنكرات التي أحدثتها حكومة معاوية ، وقد هبّوا إلى ميادين الجهاد ، لإقامة الحقّ ، ومناهضة المنكر.

3 ـ إنّها أثبتت أنّ معاوية قد أعطى حِجْرَاً وأصحابه عهداً خاصاً في وثيقة وقّعها قبل إبرام الصلح أنْ لا يعرض لهم بأي إحنة كانت بينه وبينهم ، ولا يصيبهم بأي مكروه ، ولكنّه قد خاس بذلك فلمْ يفِ به ، كما لمْ يفِ للإمام الحسن بالشروط التي أعطاها له ، وإنّما جعلها تحت قدميه ، كما أعلن ذلك في خطابه الذي ألقاه في النُّخيلة.

لقد كان قتلُ حِجْر مِن الأحداث الجسام في الإسلام ، وقد توالت صيحات الإنكار على معاوية مِن جميع الأقاليم الإسلامية ، وقد ذكرناها بالتفصيل في كتابنا (حياة الإمام الحسن (عليه السّلام».

2 ـ رشيد الهجري :

وفي فترات المحنة الكبرى التي مُنِيَتْ بها الشيعة في عهد ابن سُميّة تعرّض رشيد الهجري لأنواع المِحن والبلوى ، فقد بعث زياد شرطته إليه ، فلمّا مَثُلَ عنده صاح به (ما قال لك خليلك ـ يعني علياً ـ أنّا فاعلون بك؟).

فأجابه بصدق وإيمان : (تقطعون يدي ورجلي ، وتصلبوني) ، وقال الخبيث مستهزءاً وساخراً :

(أما والله لأكذبنَّ حديثه ، خلّوا سبييله). وخلّت الجلاوزة سراحه ، وندم الطاغية فأمر بإحضاره فصاح به :

(لا نجد شيئاً أصلح ممّا قال صاحبك : إنّك لا تزال تبغي لنا سوءاً إنْ بقيت ، اقطعوا يديه ورجليه).

وبادر الجلادون فقطعوا يديه ورجليه ، وهو غير حافل بما يعانيه مِن الآلام.

ويقول المؤرخون : إنّه أخذ يذكر مثالب بني أُميّة ، ويدعو إلى إيقاظ الوعي والثورة ، ممّا غاظ ذلك زياداً فأمر بقطع

١٦٩

لسانه(1) الذي كان يطالب بالحقّ والعدل ، وينافح عن حقوق الفقراء والمحرومين.

3 ـ عمرو بن الحمق الخزاعي :

ومِن شهداء العقيدة : الصحابي العظيم عمرو بن الحمق الخزاعي الذي دعا له النّبي (صلّى الله عليه وآله) أنْ يمتّعه الله بشبابه ، واستجاب الله دعاء نبيه ، فقد أخذ عمرو بن حمق الثمّانين عاماً ولمْ ترَ في كريمته شعرة بيضاء(2) ، وتأثر عمرو بهدي أهل البيت ، وأخذ مِن علومهم ، فكان مِن أعلام شيعتهم.

وفي أعقاب الفتنة الكبرى التي مُنِيَتْ بها الكوفة في عهد الطاغية زياد بن سُميّة شعر عمرو بتتبع السلطة له ، ففرّ مع زميله رفاعة بن شدّاد إلى الموصل ، وقبل أنْ ينتهيا إليه كمنا في جبل ليستجما فيه ، وارتابت الشرطة فبادرت إلى إلقاء القبض على عمرو.

أمّا رفاعة ، ففرّ ولمْ تستطع أنْ تُلقي عليه القبض ، وجيئ بعمرو مخفوراً إلى حاكم الموصل عبد الرحمن الثقفي ، فرفع أمره إلى معاوية ، فأمره بطعنه تسع طعنات بمشاقص(3) ، لأنّه طعن عثمّان بن عفان ، وبادرت الجلاوزة إلى طعنه فمات في الطعنة الأولى ، واحتُزّ رأسه الشريف ، وأُرسل إلى طاغية دمشق ، فأمر أنْ يُطاف به في الشام.

ويقول المؤرخون : إنّه أوّل رأس طيف به في الإسلام ، ثمّ أمر به معاوية أنْ يُحمل إلى زوجته السيّدة آمنة بنت شريد ، وكانت في سجنه ، فلمْ تشعر إلاّ ورأس زوجها قد وضع في حجرها ، فذعرت وكادت أنْ تموت ، وحُمِلَتْ مِن السجن إلى معاوية ، وجرت بينها وبينه محادثات دلّت على ضِعة معاوية ، واستهانته بالقيم العربية والإسلامية ، القاضية بمعاملة المرأة معاملةً كريمةً ، ولا تؤخذ بأي ذنب يقترفه زوجها أو غيره.

__________________

(1) سفينة البحار 1 / 522.

(2) الإصابة 2 / 526.

(3) المشاقص : ـ جمع مفردة مشقص ـ النصل العريض أو سهم فيه نصل عريض.

١٧٠

مذكّرة الإمام الحُسين :

والتاع الإمام الحًسين (عليه السّلام) أشدّ ما تكون اللوعة حينما علم بقتل عمرو ، فرفع مذكرةً إلى معاوية عدّد فيها أحداثه ، وما تعانيه الأُمّة في عهده من الاضطهاد والجور ، وجاء فيما يخص عمرو :

«أوَ لستَ قاتل عمرو بن الحمق ، صاحب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، العبد الصالح ، الذي أبلته العبادة ، فنحل جسمه ، واصفرّ لونه ، بعدما أمِنته ، وأعطيته مِن عهود الله ومواثيقه ما لو أعطيته طائراً لنزل إليك مِن رأس الجبل ، ثمّ قتلته جراءة على ربّك ، واستخفافاً بذلك العهد»(1) .

لقد خاس معاوية بما أعطاه لهذا الصحابي الجليل ـ بعد الصلح ـ مِن العهد والمواثيق بأنْ لا يعرض له بسوء ولا مكروه.

4 ـ أوفى بن حصن :

وكان أوفى بن حصن مِن خيار الشيعة ـ في الكوفة ـ وأحد أعلامهم النابهين ، وهو مِن أشدّ الناقمين على معاوية ، فكان يذيع مساوءه وأحداثه.

ولمّا علم به ابن سُميّة أوعز إلى الشرطة بإلقاء القبض عليه ، ولمّا علم أوفى بذلك اختفى ، وفي ذات يوم استعرض زياد الناس فاجتاز عليه أوفى ، فشك في أمره ، فسأل عنه فأُخبر باسمه ، فأمر بإحضاره ، فلمّا مَثُل عنده سأله عن سياسته فعابها وأنكرها ، فأمر زياد بقتله ، فهوى الجلادون عليه بسيوفهم وتركوه جثة هامدة(2) .

__________________

(1) حياة الإمام الحسن.

(2) تاريخ ابن الأثير 3 / 180 ، الطبري 6 / 130 ـ 132.

١٧١

5 ـ الحضرمي مع جماعته :

وكان عبد الله الحضرمي مِن أولياء الإمام أمير المؤمنين ، ومِن خلّص شيعته ، كما كان مِن شرطة الخميس ، وقد قال له الإمام يوم الجمل :

«أبشر يا عبد الله ، فإنّك وأباك مِن شرطة الخميس ، لقد أخبرني رسول الله باسمك واسم أبيك في شرطة الخميس ، ولمّا قُتِلَ الإمام جزع عليه الحضرمي ، وبنى له صومعة يتعبّد فيها ، وانضمّ إليه جماعة مِن خيار الشيعة ، فأمر ابن سُميّة بإحضارهم ، ولمّا مَثُلوا عنده أمر بقتلهم ، فقتلوا صبراً(1) .

لقد كانت فاجعة عبد الله كفاجعة حِجْر بن عدي ، فكلاهما قُتِلَ صبراً ، وكلاهما أُخِذَ بغير ذنب ، سوى الولاء لعترة رسول الله (صلّى الله عليه وآله).

إنكار الإمام الحُسين :

وفزع الإمام الحُسين كأشدّ ما يكون الفزع ألماً ومحنةً على مقتل الحضرمي وجماعته الأخيار ، فأنكر على معاوية في مذكرته التي بعثها له ، وقد جاء فيها.

«أوَ لستَ قاتل الحضرمي ، الذي كتب فيه إليك زياد أنّه على دين علي (عليه السّلام) ، فكتبت إليه أنْ اقتلْ كلّ مَنْ كان على دين علي ، فقتلهم ومثّل فيهم بأمرك ، ودين علي هو دين ابن عمّه (صلّى الله عليه وآله) الذي أجلسك مجلسك الذي أنت فيه ، ولولا ذلك لكان شرفك وشرف آبائك تجشم الرحلتين رحلة الشتاء والصيف».

ودلّت هذه المذكّرة ـ بوضوح ـ على أنّ معاوية قد عهد إلى زياد بقتل كلّ مَنْ كان على دين علي (عليه السّلام) ، الذي هو دين رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، كما دلّت على أنّ زياداً قد مثّل بهؤلاء البررة بعد قتلهم ، تشفياً منهم لولائهم لعترة

__________________

(1) بحار الانوار 10 / 101.

١٧٢

رسول الله (صلّى الله عليه وآله).

6 ـ جويرية العبدي :

ومِنْ عيون شيعة الإمام جويرية بن مسهر العبدي ، وفي فترات المحنة الكبرى التي امتحنت بها الشيعة أيّام ابن سُميّة ، بعث خلفه فأمر بقطع يده ورجله ، وصلبه على جذع قصير(1) .

7 ـ صيفي بن فسيل :

ومِنْ أبطال العقيدة الإسلامية صيفي بن فسيل ، الذي ضرب أروع الأمثلة للإيمان ، فقد سُعيَ به إلى الطاغية زياد ، فلمّا جيء به إليه صاح به :

ـ يا عدو الله ما تقول في أبي تراب؟

ـ ما أعرف أبا تراب(2)

ـ ما أعرفك به؟

ـ أما تعرف علي بن أبي طالب؟

ـ بلى

ـ فذاك أبو تراب.

ـ كلا ذاك أبو الحسن والحسين.

وانبرى مدير شرطة زياد منكراً عليه :

ـ يقول لك الأمير : هو أبو تراب ، وتقول : أنت ل :! ، فصاح به البطل العظيم مستهزءاً منه ، ومِن أميره.

ـ وإنْ كذب الأمير أتريد أنْ أكذب؟ وأشهد على باطل ، كما شهد

__________________

(1) شرح ابن أبي الحديد.

(2) كان الأمويون يرمزون بهذه الكتبية إلى جعل الإمام كقاطع طريق ، جاء ذلك في التاريخ السياسي للدولة العربية 2 / 75 ، وجاء في الأغاني 13 / 168 أنّ زياداً كان يحتقر الشيعة ويسميهم الترابية.

١٧٣

وتحطم كبرياء الطاغية ، فضاقت به الأرض ، وقال له :

ـ وهذا أيضاً مع ذنبك ، وصاح بشرطته عليّ بالعص ، فأتوه به ، فقال له :

ـ ما قولك؟ ، وانبرى البطل بكلّ بسالة وإقدام غير حافل به قائلاً :

ـ أحسن قول أنا قائله في عبد مِنْ عباد الله المؤمنين ...

وأوعز السفّاك إلى جلاديه بضرب عاتقه حتّى يلتصق بالأرض ، فسعوا إليه بهراواتهم فضربوه ضرباً مبرحاً حتّى وصل عاتقه إلى الأرض ، ثمّ أمرهم بالكفّ عنه ، وقال له :

ـ إيه ما قولك في علي؟

وحسب الطاغية أنّ وسائل تعذيبه سوف تقلبه عن عقيدته ، فقال له :

والله لو شرحتني بالمواسي والمدى ، ما قلت إلاّ ما سمعت منّي

وفقد السفّاك إهابه ، فصاح به ، لتلعنه أو لأضربن عنقك ...

وهتف صيفي يقول :

ـ إذاً تضربها والله قبل ذلك ، فإنْ أبيت إلاّ أنْ تضربها رضيت بالله وشقيت أنت ...

وأمر به أنْ يوقرَ في الحديد ، ويلقى في ظلمات السجون(1) ، ثمّ بعثه مع حِجْر بن عدي فاستشهد معه(2) .

8 ـ عبد الرحمن :

وكان عبد الرحمن العنزي مِن خيار الشيعة ، وقد وقع في قبضة جلاوزة

__________________

(1) الطبري 4 / 198.

(2) حياة الإمام الحسن 2 / 362.

١٧٤

زياد ، فطلب منهم مواجهة معاوية ، لعلّه أنْ يعفو عنه ، فاستجابوا له وأرسلوه مخفوراً إلى دمشق ، فلمّا مَثُلَ عند الطاغية قال له :

(إيهٍ أخا ربيعة ، ما تقول في علي؟)

(دعني ولا تسألني فهو خير لك).

(والله لا أدعك).

فانبرى البطل الفذ يُدلي بفضائل الإمام ، ويشيد بمقامه قائلاً : (أشهد أنّه كان مِن الذاكرين الله كثيراً ، والآمرين بالحقّ ، والقائمين بالقسط ، والعافين عن الناس).

والتاع معاوية فعرّج نحو عثمّان ، لعلّه أنْ ينال منه فيستحلّ إراقة دمه ، فقال له : (ما قولك في عثمّان؟)

فأجابه عن انطباعاته عن عثمّان ، فغاظ ذلك معاوية وصاح به :

(قتلت نفسك) ، بل إيّاك قتلت ، ولا ربيعة بالوادي.

وظنّ عبد الرحمن أنّ أُسرته ستقوم بحمايته وإنقاذه ، فلمْ ينبرِ إليه أحدٌ ، ولمّا أمِنَ منهم معاوية بعثه إلى الطاغية زياد ، وأمره بقتله ، فبعثه زياد إلى (قس الناطف)(1) فدفنه وهو حي(2) .

لقد رفع هذا البطل العظيم راية الحقّ ، وحمل معول الهدم على قلاع الظلم والجور ، واستشهد منافحاً عن أقدس قضية في الإسلام.

هؤلاء بعض الشهداء مِن أعلام الشيعة ، الذين حملوا مشعل الحرية ، وأضاءوا الطريق لغيرهم مِن الثوار الذين أسقطوا هيبة الحكم الأموي ، وعملوا على إنقاضه.

__________________

(1) قس الناطف : موضع قريب مِن الكوفة.

(2) الطبري 6 / 155.

١٧٥

المروّعون مِن أعلام الشيعة :

وروّع معاوية طائفة كبيرة مِن الشخصيات البارزة مِن رؤساء الشيعة ، وفيما يلي بعضهم :

1 ـ عبد الله بن هاشم المرقال.

2 ـ عَدِي بن حاتم الطائي.

3 ـ صعصعة بن صوحان.

4 ـ عبد الله بن خليفة الطائي.

وقد أرهق معاوية هؤلاء الأعلام إرهاقاً شديداً ، فطاردتهم شرطته ، وأفزعتهم إلى حدٍّ بعيدٍ ، وقد ذكرنا ماعانوه مِن الخطوب في كتابنا (حياة الإمام الحسن).

ترويع النّساء :

ولمْ يقتصر معاوية في تنكيله على السّادة مِنْ رجال الشيعة ، وإنّما تجاوز ظلمه إلى السّيدات مِنْ نسائهم ، فأشاع فيهم الذعر والإرهاب ، فكتب إلى بعض عمّاله بحمل بعضهنّ إليه ، فحُمِلَتْ له هذه السّيدات :

1 ـ الزرقاء بنت عَدِي.

2 ـ أُمّ الخير البارقية.

3 ـ سودة بنت عمارة.

4 ـ أُمّ البرّاء بنت صفوان.

١٧٦

5 ـ بكارة الهلالية.

6 ـ أروى بنت الحارث.

7 ـ عكرش بنت الأطرش.

8 ـ الدارمية الحجونية.

وقد قابلهن معاوية بمزيد مِن التوهين والاستخفاف ، وأظهر لهنّ الجبروت والقدرة على الانتقام ، غير حافلٍ بوهن المرأة وضعفها ، وقد ذكرنا ما جرى عليهن في مجلسه مِن التحقير في كتابنا (حياة الإمام الحسن)

هدم دور الشيعة :

وأوعز معاوية إلى جميع عمّاله بهدم دور الشيعة ، فقاموا بنقضها(1) .

وتركوا شيعة آل البيت (عليه السّلام) بلا مأوى يأوون إليه ، ولمْ يكن هناك أي مُبرر لهذه الإجراءات القاسية ، سوى تحويل الناس عن عترة رسول الله (صلّى الله عليه وآله).

حرمان الشيعة مِن العطاء :

ومِن المآسي الكئيبة التي عانتها الشيعة في أيّام معاوية أنّه كتب إلى جميع عمّاله نسخةً واحدةً جاء فيها : (انظروا إلى مَنْ قامت عليه البيّنة أنّه يُحبّ علياً وأهل بيته فامحوه مِن الديوان ، واسقطوا عطاءه ورزقه)(2) ، وبادر عمّاله في الفحص في سجلاتهم ، فمَنْ وجدوه محبّاً لآل البيت (عليه السّلام) محوا اسمه ، وأسقطوا عطاءه.

__________________

(1) شرح النهج 11 / 44.

(2) شرح النهج 11 / 44.

١٧٧

عدم قبول شهادة الشيعة :

وعمد معاوية إلى إسقاط الشيعة اجتماعياً ، فعهد إلى جميع عمّاله بعدم قبول شهادتهم في القضاء وغيره(1) مبالغة في إذلالهم وتحقيرهم.

إبعاد الشيعة إلى الخراسان :

وأراد زياد بن أبيه تصفية الشيعة مِن الكوفة ، وكسر شوكتهم فأجلى خمسين ألفاً منهم إلى خراسان ـ المقاطعة الشرقية في فارس(2) ـ ، وقد دقّ زياد بذلك أوّل مسمار في نعش الحكم الأموي ، فقد أخذت تلك الجماهير التي أُبعدت إلى فارس تعمل على نشر التشيع في تلك البلاد ، حتى تحوّلت إلى مركز للمعارضة ضد الحكم الأموي ، وهي التي أطاحت به تحت قيادة أبي مسلم الخراساني.

هذا بعض ما عانته الشيعة في عهد معاوية مِنْ صنوف التعذيب والإرهاب ، وكان ما جرى عليهم مِن المآسي الأليمة مِن أهم الأسباب في ثورة الإمام الحسين ، فقد رفع علم الثورة لينقذهم مِن المحنة الكبرى التي امتحنوا بها ، ويُعيد لهم الأمن والاستقرار.

البيعة ليزيد :

وختم معاوية حياته بأكبر إثم في الإسلام ، وأفظع جريمة في التاريخ ،

__________________

(1) حياة الإمام الحسن.

(2) تاريخ الشعوب الإسلامية 1 / 147.

١٧٨

فقد أقدم غير متحرّج على فرض خليعه يزيد خليفة على المسلمين يعيث في دينهم ودنياهم ، ويخلد لهم الويلات والخطوب ، وقد استخدم معاوية شتى الوسائل المنحطّة في جعل المُلْك وراثة في أبنائه. ويرى الجاحظ أنّه تشبّه بملوك الفرس البزنطيين فحوّل الخلافة إلى مُلْكٍ كسروي وعصبٍ قيصري. وقبل أنْ نعرض إلى تلك البيعة المشومة ، وما رافقها مِن الأحداث ، نذكر عرضاً موجزاً لسيرة يزيد ، وما يتّصف به مِن القابليات الشخصية التي عجّت بذمها كتب التاريخ مِنْ يومه حتّى يوم الناس هذا ، وفيما يلي ذلك :

ولادة يزيد :

ولد يزيد سنة (25) أو (26 هـ)(1) ، وقد دهمت الأرض شعلة مِنْ نار جهنم وزفيرها ، تحوط به دائرةُ السَوءِ وغضبٌ مِن الله ، وهو أخبث إنسان وجِدَ في الأرض ، فقد خُلِقَ للجريمة والإساءة إلى الناس وأصبح علماً للانحطاط الخُلُقي والظلم الاجتماعي ، وعنواناً بغيضاً للاعتداء على الأُمّة وقهرَ إرادتها في جميع العصور.

يقول الشيخ محمّد جواد مغنية : أمّا كلمة يزيد فقد كانت مِنْ قبل اسماً لابن معاوية ، أمّا هي الآن عند الشيعة فإنّها رمز للفساد والاستبداد والتهتّك والخلاعة ، وعنوان للزندقة والإلحاد ، فحيث يكون الشرّ والفساد فثمَّ اسم يزيد ، وحيثما يكون الخير والحقّ والعدل فثمَّ اسم الحُسين(2) .

وقد أثر عن النّبي (صلّى الله عليه وآله) أنّه نظر إلى معاوية يتبختر في بردة حبرة وينظر إلى عطفَيه ، فقال (صلّى الله عليه وآله) : «أي يوم لأُمّتي منك ، وأي يوم سُوء

__________________

(1) تاريخ القضاعي من مصوّرات مكتبة الإمام الحكيم العامّة.

(2) الشيعة في الميزان / 455.

١٧٩

لذريتي منّك ، مِن جرو يخرج مِن صُلبك ، يتّخذ آيات الله هُزُوا ويستحلّ مِن حرمتي ما حرم الله عز وجل»(1) .

نشأته :

نشأ يزيد عند أخواله في البادية مِن بني كلاب الذين كانوا يعتنقون المسيحية قبل الإسلام ، وكان مُرسَل العِنان مع شبابهم الماجنين فتأثر بسلوكهم إلى حدٍّ بعيدٍ ، فكان يشرب معهم الخمر ويلعب معهم بالكلاب.

يقول العائلي : إذا كان يقيناً أو يشبه اليقين أنّ تربية يزيد لمْ تكن إسلامية خالصة ، أو بعبارة أخرى : كانت مسيحية خالصة ، فلمْ يبقَ ما يستغرب معه أنْ يكون متجاوزاً مستهتراً مستخفّاً بما عليه الجماعة الإسلامية ، لا يحسب لتقاليدها واعتقاداتها أي حساب ولا يقيم لها وزناً ، بل الذي نستغرب أنْ يكون على غير ذلك(2) .

والذي نراه أنّ نشأته كانت نشأة جاهلية بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة ، ولا تحمل أي طابعٍ مِن الدين مهما كان ؛ فإنّ استهتاره في الفحشاء وإمعانه في المنكر والإثم ممّا يوحي إلى الاعتقاد بذلك.

صفاته :

أمّا صفاته الجسمية : فقد كان شديد الأدمة بوجهه آثار الجدري(3)

__________________

(1) المناقب والمثالب ـ للقاضي نعمان المصري / 71.

(2) سمو المعنى في سمو الذات / 59.

(3) تاريخ القضاعي.

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471