حياة الامام الحسين عليه السلام الجزء ٢

حياة الامام الحسين عليه السلام16%

حياة الامام الحسين عليه السلام مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 471

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 471 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 260836 / تحميل: 5243
الحجم الحجم الحجم
حياة الامام الحسين عليه السلام

حياة الامام الحسين عليه السلام الجزء ٢

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

وداعه لقبر أُمّه وأخيه (عليهما السّلام) :

وتوجّه الحُسين في غلس الليل البهيم إلى قبر أُمّه وديعة النّبي (صلّى الله عليه وآله) وبضعته ، ووقف أمام قبرها الشريف مليّاً وهو يُلقي عليه نظرات الوداع الأخير ، وقد ثمثّلت أمامه عواطفها الفيّاضة وشدّة حنوّها عليه ، وقد ودّ أنْ تنشقّ الأرض لتواريه معها ، وانفجر بالبكاء وودّع القبر وداعاً حاراً ، ثمّ انصرف إلى قبر أخيه الزكي أبي محمّد ، فأخذ يروّي ثرى القبر مِنْ دموع عينيه وقد ألمّت به الآلام والأحزان ، ثمّ رجع إلى منزله وهو غارق بالأسى والشجون(١) .

فزع الهاشميّات :

ولمّا عزم الإمام على مغادرة يثرب واللّجوء إلى مكّة اجتمعْنَ السيّدات مِنْ نساء بني عبد المطّلب ، وقد جاشت عواطفهنَّ بالأسى والحزن ، فقد تواترت عليهنَّ الأنباء عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) عن مقتل ولده الحُسين ، وجعلْنَ ينحْنَ وتعالت أصواتهنَّ بالبكاء وكان منظراً مفزعاً ، وانبرى إليهنَّ الحُسين وهو رابط الجأش ، فقال لهنَّ : «أُنشدكنَّ الله أنْ تبدينَ هذا الأمر معصيةً لله ولرسوله».

فذابت نفوسهنَّ ، وصحنَ : لمَنْ نستبقي النياحة والبكاء؟ فهو عندنا كيوم مات فيه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وعلي وفاطمة والحسن ، جعلنا الله فداك يا حبيب الأبرار.

__________________

(١) الفتوح ٥ / ٢٩.

٢٦١

وأقبلت عليه بعض عمّاته وهي شاحبة اللون ، فقالت بنبرات منقطّعة بالبكاء : لقد سمعت هاتفاً يقول :

وإنّ قتيلَ الطفِّ مِنْ آلِ هاشمٍ

أذلّ رقاباً مِنْ قريشٍ فذلّتِ

وجعل الإمام (عليه السّلام) يُهدِّئ أعصابها ويأمرها بالخلود إلى الصبر ، كما أمر سائر السيّدات مِنْ بني عبد المطّلب بذلك(١) .

مع أخيه ابن الحنفيّة :

وفزع محمّد بن الحنيفة إلى الحُسين ، فجاء يتعثّر في خطاه وهو لا يُبصر طريقه مِنْ شدّة الحزن والأسى ، ولمّا استقر به المجلس أقبل على الحُسين فقال له بنبرات مشفوعة بالإخلاص والحنوّ عليه : يا أخي ، فدتك نفسي ، أنت أحبّ الناس إليّ وأعزّهم عليّ ، ولست والله ، أدّخر النصيحة لأحد من الخلق ، وليس أحد أحقّ بها مِنك ؛ فإنّك كنفسي وروحي وكبير أهل بيتي ، ومَنْ عليه اعتمادي وطاعته في عنقي ؛ لأنّ الله تبارك وتعالى قد شرّفك وجعلك مِنْ سادات أهل الجنّة ، وإنّي أُريد أنْ أُشير عليك برأيي فاقبله منّي.

لقد عبّر محمّد بهذا الحديث الرقيق عن عواطفه الفيّاضة المترعة بالولاء والإكبار لأخيه ، وأقبل عليه الإمام فقال له محمّد : أُشير عليك أن تتنح ببيعتك عن يزيد بن معاوية وعن الأمصار ما استطعت ، ثمّ ابعث برسلك إلى الناس ، فإنْ بايعوك حمدت الله على ذلك ، وإنْ اجتمعوا على غيرك لمْ ينقص الله بذلك دينك ولا عقلك ، ولمْ تذهب مروءتك ولا فضلك ، وإنّي أخاف عليك أنْ تدخل مصراً مِنْ هذه

__________________

(١) مقتل الحسين ـ للمقرم / ١٤٨.

٢٦٢

الأمصار فيختلف الناس بينهم ، فطائفة معك وأخرى عليك فيقتتلون فتكون لأوّل الأسنّة غرضاً ، فإذا خير هذه الأُمّة كلّها نفساً وأباً وأُمّاَ أضيعها دماً وأذلّها أهلاً.

وبادر الإمام الحُسين فقال له : «أين أذهب؟».

ـ تنزل مكّة فإن اطمأنت بك الدار وإلاّ لحقت بالرمال وشعب الجبال ، وخرجت مِنْ بلد إلى آخر حتّى ننظر ما يصير إليه أمر الناس ، فإنّك أصوب ما تكون رأياً وأحزمهم عملاً حتّى تستقبل الأمور استقبالاً ، ولا تكون الأمور أبداً أشكل عليك منها حتّى تستدبرها استدباراً(١) .

وانطلق الإمام وهو غير حافل بالأحداث ، فأخبره عن عزمه وتصميمه الكامل على رفض البيعة ليزيد قائلاً : «يا أخي ، لو لمْ يكن في الدنيا ملجأً ولا مأوى لما بايعت يزيد بن معاوية».

وانفچر ابن الحنفيّة بالبكاء ، فقد أيقن بالرزء القاصم ، واستشفّ ماذا سيجري على أخيه من الرزايا والخطوب ، وشكر الإمام نصيحته وقال له : «يا أخي ، جزاك الله خيراً ، لقد نصحت وأشرت بالصواب ، وأنا عازم على الخروج إلى مكّة ، وقد تهيّأتُ لذلك أنا وإخوتي وبنو أخي وشيعتي ؛ أمرهم أمري ورأيهم رأيي. وأمّا أنت فلا عليك أنْ تُقيم بالمدينة فتكون لي عيناً لا تُخفِ عنّي شيئاً مِنْ اُمورهم»(٢) .

__________________

(١) تاريخ الطبري ٦ / ١٩١.

(٢) الفتوح ٥ / ٣٢.

٢٦٣

وصيته لابن الحنفيّة :

وعهد الإمام بوصيته الخالدة إلى أخيه ابن الحنفيّة ، وقد تحدّث فيها عن أسباب ثورته الكبرى على حكومة يزيد ، وقد جاء فيها بعد البسملة : «هذا ما أوصى به الحُسين بن علي إلى أخيه محمّد بن الحنفيّة ، إنّ الحُسين يشهد أنْ لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له ، وأنّ محمّداً عبده ورسوله جاء بالحقّ مِنْ عنده ، وأنّ الجنّة حقّ ، والنار حقّ ، وأنّ الساعة آتية لا ريب فيها ، وأنّ الله يبعث مَنْ في القبور.

وإنّي لمْ أخرج أشِرَاً ولا بطراً ، ولا مفسداً ولا ظالماً ، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أُمّة جدّي (صلّى الله عليه وآله) ؛ أُريد أنْ آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر ، وأسير بسيرة جدّي وأبي علي بن أبي طالب ، فمَنْ قبلني بقبول الحقّ فالله أولى بالحقّ ، ومَنْ ردّ عليّ أصبر حتّى يقضي الله بيني وبين القوم وهو خير الحاكمين. وهذه وصيتي إليك يا أخي ، وما توفيقي إلاّ بالله عليه توكّلت وإليه أُنيب»(١) .

من أجل هذه الأهداف النبيلة فجّر الإمام ثورته الخالدة ، فهو لمْ يخرج أشِرَاً ولا بطراً ، ولمْ يبغِ أيّ مصلحة مادية له أو لأُسرته ، وإنّما خرج على حكم الظلم والطغيان ، يريد أنْ يُقيمَ صروح العدل بين الناس ، وما أروع قوله : «فمَنْ قبلني بقبول الحقّ فالله أولى بالحقّ ، ومَنْ ردّ عليّ أصبر حتّى يقضي الله بيني وبين القوم وهو خير الحاكمين».

لقد حدّد الإمام خروجه بأنّه كان من أجل إحقاق الحقّ ، وإماتة الباطل

__________________

(١) الفتوح ٥ / ٣٣ ، مقتل الخوارزمي ١ / ١٨٨.

٢٦٤

ودعا الأُمّة باسم الحقّ إلى الالتفاف حوله ؛ لتحمي حقوقها وتصون كرامتها وعزّتها التي انهارت على أيدي الاُمويِّين ، وإذا لمْ تستجب لنصرته فسيواصل وحده مسيرته النضالية بصبر وثبات في مناجزة الظالمين والمعتدين حتّى يحكم الله بينه وبينهم بالحقّ وهو خير الحاكمين.

كما حدّد الإمام خروجه بأنّه يريد أنْ يسير على منهاج جدّه وأبيه ، وليس على منهاج أيّ أحدٍ من الخلفاء. وهذه الوصية من البنود التي نرجع إليها في دراستنا عن أسباب ثورته (عليه السّلام).

وتهيّأ الإمام بعد وصيته لأخيه محمّد إلى السفر إلى مكّة ؛ ليلتقي بحجّاج بيت الله الحرام وغيرهم ، ويعرض عليهم الأوضاع الراهنة في البلاد ، وما تعانيه الأُمّة من الأزمات والأخطار في عهد يزيد.

وقبل أنْ يغادر الإمام (عليه السّلام) يثرب متّجهاً إلى مكّة دخل مسجد جدّه الرسول (صلّى الله عليه وآله) وهو غارق في الأسى والشجون ، فألقى عليه نظرة الوداع الأخير ، وقد نظر إلى محراب جدّه (صلّى الله عليه وآله) ومنبره فطافت به ذكريات ذلك العطف الذي كان يفيضه عليه جدّه (صلّى الله عليه وآله) حينما كان في غضون الصّبا ، فلمْ ينسَ الحسين في جميع فترات حياته ذلك الحنان الذي أغدقه عليه جدّه حينما يقول فيه : «حسين منّي وأنا مِنْ حسين ، أحبّ الله مَنْ أحبّ حُسيناً. حُسين سبط مِن الأسباط».

وتذكّر كيف كان النّبي (صلّى الله عليه وآله) يفرغ عليه ما انطوت عليه نفسه الكبيرة من المُثل العليا التي كان بها خاتم النبين وسيد المرسلين ، وأيقن أنّه لمْ يكن يشيع ذلك في نفسه بمحض العاطفة ، بل بشعور آخر هو الإبقاء على رسالته ومبادئه ، ورأى أنّه لا بد أنْ يقدّم التضحية الرهيبة التي تصون

٢٦٥

رسالة الإسلام مِنْ عبث الناقمين عليه. ويقول المؤرّخون : إنّه دخل المسجد بين أهل بيته ، وهو يعتمد في مشيه على رَجُلَين ، ويتمثّل بقول يزيد بن مفرغ :

لا ذُعرتُ السَّوام في فلق الصبحِ

مغيراً ولا دُعيت يزيدا

يوم اُعطي مِن المهانةِ ضيماً

والمنايا ترصدنني أنْ أحيدا(١)

ويقول أبو سعيد : لمّا سمعت هذين البيتين قلت في نفسي : إنّه ما تمثّل بهما إلاّ لشيء يريده ، فما مكثت إلاّ قليلاً حتّى بلغني أنّه سار إلى مكة(٢) . لقد صمّم على التضحية والفداء ليغيّر مجرى الحياة ، ويرفع كلمة الله وفكرة الخير في الأرض.

أمّا يثرب مهد النّبوة فإنّه حينما أُذيع فيها مغادرة الحُسين عنها علتها الكآبة ، وخيّم على أهلها الحزن والذعر ، فقد أيقنوا بالخسارة الفادحة التي ستحلّ بهم ، فسيغيب عنهم قبس من نور الرسالة الذي كان يضيء لهم الحياة ، وحزنت البقية الباقية مِنْ صحابة النّبي (صلّى الله عليه وآله) كأعظم ما يكون الحزن ، فقد كانوا يرون في الحُسين امتداداً لجدّه الرسول (صلّى الله عليه وآله) الذي أنقذهم من حياة التّيْه في الصحراء.

__________________

(١) تاريخ ابن الأثير ٣ / ٢٦٥.

(٢) تاريخ ابن عساكر ٤ / ٣٢٩ ، تاريخ الطبري.

٢٦٦

الثورة الحسينيّة

أسبابها ومخططاتها

٢٦٧
٢٦٨

ولمْ يفجّر الإمام الحُسين (عليه السّلام) ثورته الكبرى أشِرَاً ولا بطرَاً ، ولا ظالماً ولا مفسداً ـ حسب ما يقول ـ وإنّما انطلق ليؤسس معالم الإصلاح في البلاد ، ويحقّق العدل الاجتماعي بين الناس ، ويقضي على أسباب النكسة الأليمة التي مُنِي بها المسلمون في ظلّ الحكم الأموي الذي ألحق بهم الهزيمة والعار.

لقد انطلق الإمام ليصحّح الأوضاع الراهنة في البلاد ، ويُعيد للأُمّة ما فقدته من مقوّماتها وذاتياتها ، ويُعيد لشراينها الحياة الكريمة التي تملك بها إرادتها وحريتها في مسيرتها النضالية لقيادة أُمم العالم في ظلّ حكم متوازن تُذاب فيه الفوارق الاجتماعية ، وتُقام الحياة على أسس صلبة من المحبّة والإخاء ، إنّه حكم الله خالق الكون وواهب الحياة ، لا حكم معاوية الذي قاد مركبة حكومته على إماتة وعي الإنسان وشلّ حركاته الفكرية والاجتماعية.

لقد فجّر الإمام (عليه السّلام) ثورته الكبرى التي أوضح الله بها الكتاب ، وجعلها عبرة لأولي الألباب ، فأضاء بها الطريق وأوضح بها القصد وأنار بها الفكر ، فانهارت بها السّدود والحواجز التي وضعها الحكم الاُموي أمام التطوّر الشامل الذي يريده الإسلام لأبنائه ، فلمْ يعد بعد الثورة أيّ ظلّ للسلبيات الرهيبة التي أقامها الحكم الاُموي على مسرح الحياة الإسلاميّة ، فقد انتفضت الأُمّة ـ بعد مقتل الإمام ـ كالمارد الجبّار وهي تسخر مِن الحياة وتستهزأ بالموت ، وتزجّ بأبنائها في ثورات متلاحقة حتّى أطاحت بالحكم الاُموي واكتسحت معالم زهوه.

ولمْ يقدم الإمام على الثورة إلاّ بعد أنْ انسدّت أمامه جميع الوسائل ، وانقطع كلّ أمل له في إصلاح الأُمّة ، وإنقاذها مِن السلوك في المنعطفات ، فأيقن أنّه لا طريق للإصلاح إلاّ بالتضحية الحمراء ، فهي وحدها التي

٢٦٩

تتغيّر بها الحياة ، وترتفع راية الحقّ عالية في الأرض.

وفيما أعتقد أنّ أهم ما يتطلّبه القرّاء لأمثال هذه البحوث الوقوف على أسباب الثورة الحسينيّة ومخططاتها ، وفيما يلي ذلك :

أسباب الثورة :

وأحاطت بالإمام (عليه السّلام) عدّة من المسؤوليات الدينية والواجبات الاجتماعية وغيرها ، فحفّزته إلى الثورة ودفعته إلى التضحية والفداء ، وهذه بعضها :

١ ـ المسؤولية الدينيّة :

وأعلن الإسلام المسؤولية الكبرى على كلّ مسلم عمّا يحدث في بلاد المسلمين من الأحداث والأزمات التي تتنافي مع دينهم ، وتتجافى مع مصالحهم ، فإنّه ليس من الإسلام في شيء أنْ يقف المسلم موقفاً يتّسم بالميوعة واللامبالات أمام الهزّات التي تدهم الأُمّة وتدمّر مصالحها.

وقد أعلن الرسول (صلّى الله عليه وآله) هذه المسؤولية ، يقول (صلّى الله عليه وآله) : «كلّكم راعٍ ، وكلّكم مسؤول عن رعيته». فالمسلم مسؤول أمام الله عن رعاية مجتمعه ، والسّهر على صالح بلاده والدفاع عن أُمّته.

وعلى ضوء هذه المسؤولية الكبرى ناهض الإمام جور الاُمويِّين ، وناجز مخططاتهم الهادفة إلى استعباد الأُمّة وإذلالها ونهب ثرواتها.

وقد أدلى (عليه السّلام) بما يحتّمه الإسلام عليه مِن الجهاد لحكم الطاغية يزيد ، أمام الحرّ وأصحابه قال (عليه السّلام) :

٢٧٠

«يا أيها الناس ، إنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال : مَنْ رأى سلطاناً جائراً ؛ مستحلاً لحرم الله ، ناكثاً لعهد الله ، مخالفاً لسنّة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان فلم يغيّر عليه بقول ولا فعل كان حقّاً على الله أنْ يُدخله مدخله».

لقد كان الواجب الديني يحتّم عليه القيام بوجه الحكم الاُموي الذي استحلّ حُرمات الله ، ونكث عهوده وخالف سنّة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وقد صرّح جماعة مِنْ علماء المسلمين بأنّ الواجب الديني كان يقضي على الإمام أنْ ينطلق في ميادين الجهاد دفاعاً عن الإسلام ، وفيما يلي بعضهم :

١ ـ الإمام محمّد عبده ، وألمع الإمام محمّد عبده في حديثه عن الحكومة العادلة والجائرة في الإسلام إلى خروج الإمام على حكومة يزيد ، ووصفه بأنّه كان واجباً شرعياً عليه ، قال : إذا وجد في الدنيا حكومة عادلة تقيم الشرع وحكومة جائرة تعطّله ، وجب على كلّ مسلم نصر الأولى وخذل الثانية.

ومن هذا الباب خروج الإمام الحسين (عليه السّلام) ، سبط الرسول (صلّى الله عليه وآله) على إمام الجور والبغي الذي وَلِيَ أمرَ المسلمين بالقوّة والمنكر يزيد بن معاوية خذله الله ، وخذل مَنْ انتصر له من الكرامية والنواصب(١) .

٢ ـ محمّد عبد الباقي ، وتحدّث الاُستاذ محمّد عبد الباقي سرور عن المسؤولية الدينية والاجتماعية اللّتين تحتّمان على الإمام القيام بمناهضة حكم يزيد ، قال :

__________________

(١) تفسير المنار ١ / ٣٦٧ ، و ١٢ / ١٨٣ و ١٨٥.

٢٧١

لو بايع الحُسينُ يزيد الفاسق المستهتر الذي أباح الخمر والزنا ، وحطّ بكرامة الخلافة إلى مجالسة الغانيات ، وعقد حلقات الشراب في مجلس الحكم ، والذي ألبس الكلاب والقرود خلاخل من ذهب ومئات الآلوف من المسلمين صرعى الجوع والحرمان.

لو بايع الحُسينُ يزيد أن يكون خليفة لرسول الله (صلّى الله عليه وآله) على هذا الوضع لكانت فتيا من الحُسين بإباحة هذا للمسلمين ، وكان سكوته هذا أيضاً رضى ، والرضا من ارتكاب المنكرات ولو بالسكوت إثم وجريمة في حكم الشريعة الإسلاميّة. والحُسين بوضعه الراهن في عهد يزيد هو الشخصية المسؤولة في الجزيرة العربية ، بل في البلاد الإسلاميّة كافة عن حماية التراث الإسلامي لمكانته في المسلمين ، ولقرابته من رسول ربّ العالمين ، ولكونه بعد موت كبار المسلمين كان أعظم المسلمين في ذلك الوقت علماً وزهداً وحسباً ومكانة. فعلى هذا الوضع أحس بالمسؤولية تناديه وتطلبه لإيقاف المنكرات عند حدّها ، ولا سيّما إنّ الذي يضع هذه المنكرات ويشجّع عليها هو الجالس في مقعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) هذا أولاً.

وثانياً : أنّه (عليه السّلام) جاءته المبايعات بالخلافة من جزيرة العرب ، وجاءه ثلاثون ألفاً من الخطابات من ثلاثين ألف من العراقيين من سكّان البصرة والكوفة يطلبون فيها منه الشخوص لمشاركتهم في محاربة يزيد بن معاوية ، وألحّوا تكرار هذه الخطابات حتّى قال رئيسهم عبد الله بن الحصين الأزدي : يا حُسين سنشكوك إلى الله تعالى يوم القيامة إذا لم تلبِّ طلبنا وتقوم بنجدة الإسلام ، وكيف والحُسين ذو حمية دينية ونخوة إسلامية ، والمفاسد تترى أمام عينيه ، كيف لا يقوم بتلبية النداء؟ وعلى هذا الوضع لبّى النداء كما تأمر به الشريعة الإسلاميّة ، وتوجّه نحو العراق(١) .

__________________

(١) الثائر الأوّل في الإسلام / ٧٩.

٢٧٢

وهذا الرأي وثيق للغاية ؛ فقد شُفّع بالأدلة الشرعية التي حمّلت الإمام مسؤولية الجهاد ، والخروج على حكم طاغية زمانه.

٣ ـ عبد الحفيظ أبو السّعود ، يقول الاُستاذ عبد الحفيظ أبو السعود : ورأى الحُسين أنّه مطالب الآن ـ يعني بعد هلاك معاوية ـ أنْ يُعلن رفضه لهذه البيعة ، وأنْ يأخذ البيعة لنفسه من المسلمين ، وهذا أقلّ ما يجب ؛ حفاظاً لأمر الله ورفعاً للظلم ، وإبعاداً لهذا العابث ـ يعني يزيد ـ عن ذلك المنصب الجليل(١) .

٤ ـ الدكتور أحمد محمود صبحي ، وممّن صرّح بهذه المسؤولية الدينية الدكتور أحمد محمود صبحي ، قال :

ففي إقدام الحُسين على بيعة يزيد انحراف عن أصلٍ من أصول الدين من حيث أنّ السياسة الدينية للمسلمين لا ترى في ولاية العهد وراثة الملك إلاّ بدعة هرقلية دخيلة على الإسلام ، ومن حيث أنّ اختيار شخض يزيد مع ما عرف عنه من سوء السّيرة ، وميله إلى اللّهو وشرب الخمر ومنادمة القرود ليتولّى منصب الخلافة عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أكبر وزر يحلّ بالنظام السياسي للإسلام. يتحمّل وزره كلّ مَنْ شارك فيه ورضى عنه ، فما بالك إذا كان المُقْدِم على ذلك هو ابن بنت رسول الله؟!

كان خروج الحُسين إذاً أمراً يتّصل بالدعوة والعقيدة أكثر ممّا يتّصل بالسياسة والحرب(٢) .

__________________

(١) سبط الرسول / ١٣٣.

(٢) نظرية الإمامة لدى الشيعة الإثنى عشرية / ٣٣٤.

٢٧٣

٥ ـ العلائلي

يقول العلائلي : وهناك واجب على الخليفة إذا تجاوزه وجب على الأُمّة إسقاطه ، ووجبت على الناس الثورة عليه ؛ وهو المبالغة باحترام القانون الذي يخضع له الناس عامّة ، وإلاّ فأيّ تظاهر بخلافه يكون تلاعباً وعبثاً ، ومن ثمّ وجب على رجل القانون أنْ يكون أكثر تظاهراً باحترام القانون من أي شخص آخر ، وأكبر مسؤولية من هذه الناحية ، فإذا فسق المَلِك ثمّ جاهر بفسقه وتحدّى الله ورسوله والمؤمنين لم يكن الخضوع له إلاّ خضوعاً للفسق وخضوعاً للفحشاء والمنكر ، ولم يكن الاطمئنان إليه إلاّ اطمئناناً للتلاعب والمعالنة الفاسقة.

هذا هو المعنى التحليلي لقوله (عليه السّلام) : «ويزيد رجل فاسق ، وشارب للخمر وقاتل النفس المحرّمة ، معلن بالفسق»(١) .

هذه بعض الآراء التي أدلى بها جماعة من العلماء في إلزام الإمام شرعاً بالخروج على حكم الطاغية يزيد ، وإنّه ليس له أنْ يقفَ موقفاً سليباً أمام ما يقترفه يزيد من الظلم والجور.

٢ ـ المسؤولية الاجتماعيّة :

وكان الإمام (عليه السّلام) بحكم مركزه الاجتماعي مسؤولاً أمام الأُمّة عمّا مُنِيَتْ به من الظلم والاضطهاد من قبل الاُمويِّين. ومَنْ هو أولى بحمايتها وردّ الاعتداء عنها غيره؟ فهو سبط رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وريحانته ، والدين دين جدّه ، والأُمّة أُمّة جدّه ، وهو المسؤول بالدرجة الأولى عن رعايتهما.

__________________

(١) الإمام الحسين / ٩٤.

٢٧٤

لقد رأى الإمام أنّه مسؤول عن هذه الأُمّة ، وأنّه لا يجدي بأيّ حالٍ في تغيير الأوضاع الاجتماعية التزام جانب الصمت ، وعدم الوثوب في وجه الحكم الاُموي المليء بالجور والآثام. فنهض (عليه السّلام) بأعباء هذه المسؤولية الكبرى ، وأدى رسالته بأمانة وإخلاص ، وضحّى بنفسه وأهل بيته وأصحابه ؛ ليعيد على مسرح الحياة عدالة الإسلام وحكم القران.

٣ ـ إقامة الحجّة عليه :

وقامت الحجّة على الإمام لإعلان الجهاد ، ومناجزة قوى البغي والإلحاد ، فقد تواترت عليه الرسائل والوفود من أقوى حامية عسكرية في الإسلام وهي الكوفة ، فكانت رسائل أهلها تحمّله المسؤولية أمام الله إنْ لمْ يستجبْ لدعواتهم الملحّة لإنقاذهم من عسف الاُمويِّين وبغيهم.

ومن الطبيعي أنّه لو لمْ يجيبهم لكان مسؤولاً أمام الله ، وأمام الأُمّة في جميع مراحل التاريخ ، وتكون الحجّة قائمة عليه.

٤ ـ حماية الإسلام :

ومن أوكد الأسباب التي ثار من أجلها حفيد الرسول (صلّى الله عليه وآله) حماية الإسلام من خطر الحكم الاُموي ، الذي جهد على محو سطوره وقلع جذوره وإقبار قِيَمِه ، فقد أعلن يزيد وهو على دست الخلافة الإسلاميّة الكفر والإلحاد بقوله :

لعبت هاشمُ بالملكِ فلا

خبرٌ جاء ولا وحيٌ نزلْ

٢٧٥

وكشف هذا الشعر عن العقيدة الجاهلية التي كان يدين بها يزيد ، فهو لمْ يؤمن بوحي ولا كتاب ولا جنّة ولا نار ، وقد رأى السّبط أنّه إنْ لمْ يثأر لحماية الدين فسوف يجهز عليه حفيد أبي سفيان ويجعله أثراً بعد عين ، فثار (عليه السّلام) ثورته الكبرى التي فدى بها دين الله ، فكان دمه الزاكي المعطر بشذى الرسالة هو البلسم لهذا الدين ، فإنّ من المؤكد أنّه لولا تضحيته لمْ يبقَ للإسلام اسم ولا رسم ، وصار الدين دين الجاهلية ودين الدعارة والفسوق ، ولذهبت سدى جميع جهود النّبي (صلّى الله عليه وآله) وما كان ينشده للناس من خير وهدى.

وقد نظر النّبي (صلّى الله عليه وآله) من وراء الغيب واستشفّ مستقبل أُمّته ، فرأى بعين اليقين ما تُمْنى به الأُمّة من الانحراف عن الدين ، وما يصيبها من الفتن والخطوب على أيدي أُغيلمة مِنْ قريش ، ورأى أنّ الذي يقوم بحماية الإسلام هو الحُسين (عليه السّلام) ، فقال (صلّى الله عليه وآله) كلمته الخالدة : «حُسين منّي وأنا مِنْ حُسين» ، فكان النّبي (صلّى الله عليه وآله) حقّاً من الحُسين ؛ لأنّ تضحيته كانت وقاية للقرآن ، وسيبقى دمه الزكي يروّي شجرة الإسلام على ممرّ الأحقاب والآباد.

٥ ـ صيانة الخلافة :

ومن ألمع الأسباب التي ثار من أجلها الإمام الحُسين (عليه السّلام) تطهير الخلافة الإسلاميّة من أرجاس الاُمويِّين الذين نزوا عليها بغير حقّ ، فلمْ تَعُدْ الخلافة في عهدهم كما يريدها الإسلام وسيلة لتحقيق العدل الاجتماعي بين الناس ، والقضاء على جميع أسباب التخلّف والفساد في الأرض.

لقد اهتم الإسلام اهتماماً بالغاً بشأن الخلافة ؛ باعتبارها القاعدة الصلبة لإشاعة الحقّ والعدل بين الناس ، فإذا صلحت نَعِمَتِ الأُمّة بأسرها ،

٢٧٦

وإذا انحرفت عن واجباتها فإنّ الأُمّة تصاب بتدهور سريع في جميع مقوّماتها الفكرية والاجتماعية ، ومِنْ ثمّ فقد عنى الإسلام في شأنها أشدّ ما تكون العناية ، فألزم مَنْ يتصدّى لها بأنْ تتوفّر فيه النزعات الخيّرة والصفات الشريفة من العدالة والأمانة ، والخبرة بما تحتاج إليه الأُمّة في مجالاتها الاقتصادية والإدارية والسياسية ، وحرّم على مَنْ فقد هذه الصفات أنْ يرشّح نفسه للخلافة ،

وقد تحدّث (عليه السّلام) في أولى رسائله إلى أهل الكوفة عن الصفات التي يجب أنْ تتوفّر فيمَنْ يُرشِّح نفسه إلى إمامة المسلمين وإدارة شؤونهم ، قال (عليه السّلام) : «فلعمري ، ما الإمام إلاّ العامل بالكتاب ، والآخذ بالقسط ، والدائن بالحقّ ، والحابس نفسه على ذات الله»(١) .

فمَنْ تحلّى بهذه الصفات كان له الحقّ في تقديم نفسه لإمامة المسلمين وخلافتهم ، ومَنْ لمْ يتّصف بها فلا حقّ له في التصدي لهذا المركز الخطير الذي كان يشغله الرسول (صلّى الله عليه وآله).

إنّ الخلافة الإسلاميّة ليست مجرّد سلطة زمنية على الأُمّة ، وإنّما هي نيابة عن الرسول (صلّى الله عليه وآله) وامتداد ذاتي لحكومته المشرقة. وقد رأى الإمام الحُسين أنّ مركز جدّه قد صار إلى سكّير مستهتر لا يعي إلاّ شهواته ورغباته ، فثار (عليه السّلام) ليعيد للخلافة الإسلاميّة كيانها المشرق وماضيها الزاهر.

__________________

(١) الطبري ٦ / ١٩٧.

٢٧٧

٦ ـ تحرير إرادة الأُمّة :

ولم تملك الأُمّة في عهد معاوية ويزيد إرادتها واختيارها ، فقد كانت جثة هامدة لا وعي فيها ولا اختيار ، قد كُبّلت بقيود ثقيلة سدّت في وجهها منافذ النور والوعي ، وحيل بينها وبين إرادتها.

لقد عمل الحكم الاُموي على تخدير المسلمين وشلّ تفكيرهم ، وكانت قلوبهم مع الإمام الحُسين ، إلاّ إنّهم لا يتمكّنون من متابعة قلوبهم وضمائرهم ، فقد استولت عليها حكومة الاُمويِّين بالقهر ، فلمْ يملكوا من أمرهم شيئاً ، فلا إرادة لهم ولا اختيار ولا عزم ولا تصميم ، فأصبحوا كالأنصاب لا وعي فيهم ولا حراك ، قد قبعوا أذلاء صاغرين تحت وطأة سياط الاُمويِّين وبطشهم.

لقد هبّ الإمام إلى ساحات الجهاد والفداء ؛ ليطعم المسلمين بروح العزّة والكرامة ، فكان مقتله نقطة تحوّل في تاريخ المسلمين وحياتهم ، فانقلبوا رأساً على عقب ، فتسلّحوا بقوة العزم والتصميم ، وتحرروا من جميع السلبيات التي كانت ملمّة بهم ، وانقلبت مفاهيم الخوف والخنوع التي كانت جاثمة عليهم إلى مبادئ الثورة والنضال ، فهبّوا متضامنين في ثورات مكثّفة وكان شعارهم (يا لثارات الحُسين) ، فكان هذا الشعار هو الصرخة المدوّية التي دكّت عروش الاُمويِّين وأزالت سلطانهم.

٧ ـ تحرير اقتصاد الأُمّة :

وانهار اقتصاد الأُمّة الذي هو شرايين حياتها الاجتماعية والفردية ، فقد عمد الاُمويِّين بشكل سافر إلى نهب الخزينة المركزية ، والاستئثار بالفيء

٢٧٨

وسائر ثمرات الفتوح والغنائم ؛ فحازوا الثراء العريض ، وتكدّست في بيوتهم الأموال الهائلة التي حاروا في صرفها ، وقد أعلن معاوية أمام المسلمين أنّ المال مال الله وليس مال المسلمين فهو أحقّ به.

ويقول سعيد بن العاص : إنّما السّواد بستان قريش ، وقد أخذوا ينفقون الأموال على أغراضهم السياسية التي لا تمتّ بصلة لصالح الأُمّة.

أمّا موارد إنفاقهم البارزة فهي :

أ ـ شراء الضمائر والأديان : وقد تقدّمت الشواهد المؤيدة لذلك عند البحث عن سياسة معاوية الاقتصادية.

ب ـ الإنفاق على لجان الوضع : لافتعال الأخبار التي تدعم الكيان الاُموي وتحطّ من قيمة أهل البيت ، وقد ألمعنا إلى ذلك بصورة مفصلة.

ج ـ الهبات الهائلة ، والعطايا الوافرة للوجوه والأشراف : لِكَمِ أفواههم عمّا تقترفه السّلطة مِنْ الظلم للرعية.

د ـ الصرف على المجون والدعارة : فقد امتلأت بيوتهم بالمغنين والمغنيات ، وأدوات العزف وسائر المنكرات.

هذه بعض الموارد التي كان يُنفق عليها الأموال ، في حين أنّ الجوع قد نهش الأُمّة وعمّت فيها المجاعة ، وانتشر شبح الفقر في جميع الأقطار الإسلاميّة سوى الشام ، فقد رفّه عليها ؛ لأنّها الحصن المنيع الذي كان يحمي جور الاُمويِّين وظلمهم.

وقد ثار الإمام الحُسين (عليه السّلام) ليحمي اقتصاد الأُمّة ويعيد توازن حياتها المعاشية ، وقد صادر أموالاً من الخراج كانت قد أُرسلت لمعاوية ، كما صادر أموالاً أُخرى أُرسلت من اليمن إلى خزينة دمشق في أيّام يزيد ، وقد أنفقها على الفقراء والمعوزين ، وكان (عليه السّلام) أكثر ما يعاني من الآلام هو أنّه يرى الفقر قد أخذ بخناق المواطنين ، ولمْ ينفق شيء مِنْ بيت المال على إنعاش حياتهم.

٢٧٩

٨ ـ المظالم الاجتماعية :

وانتشرت المظالم الاجتماعية في أنحاء البلاد الإسلاميّة ، فلم يعُد قطر من الأقطار إلاّ وهو يعجّ بالظلم والاضطهاد مِنْ جورهم ، وكان مِنْ مظاهر ذلك الظلم ما يلي :

١ ـ فقد الأمن : وانعدم الأمن [وانعدامه] في جميع أنحاء البلاد ، وساد الخوف والإرهاب على جميع المواطنين ، فقد أسرفت السّلطة الاُمويّة بالظلم ، فجعلت تأخذ البريء بالسّقيم ، والمُقبل بالمُدبر ، وتعاقب على الظنّة والتهمة ، وتسوق الأبرياء بغير حساب إلى السجون والقبور ، وكان الناس في عهد زياد يقولون : انج سعد فقد هلك سعيد ، ولا يوجد أحد إلاّ وهو خائف على دمه وماله ، فثار الإمام الحُسين (عليه السّلام) لينقذ الناس مِنْ هذا الجور الهائل.

٢ ـ احتقار الأُمّة : وكان الخط السياسي الذي انتهجه الاُمويّون العمل على إذلال الأُمّة والاستهانة بها ، وكان مِنْ مظاهر ذلك الاحتقار أنّهم كانوا يختمون في أعناق المسلمين كما توسم الخيل ؛ علامة لاستعبادهم كما نقشوا على أكفّ المسلمين علامة لاسترقاقهم كما يصنع بالعلوج من الروم والحبشة(١) .

وقد هبّ الإمام (عليه السّلام) في ميادين الجهاد ليفتح للمسلمين أبواب العزّة والكرامة ، ويحطّم عنهم ذلك الكابوس المظلم الذي أحال حياتهم إلى ظلام قاتم لا بصيص فيه من النور.

__________________

(١) تاريخ التمدّن الإسلامي.

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

والعلامة(١) .

وقال الشيخ في النهاية: يزاحم الزوج من اسلم منهم(٢) وليس بمعتمد.

ولو قلنا بالرد على الزوجة مطلقا كانت كالزوج لا يقاسمها من اسلم بعد الموت، لعدم تصور القسمة.

وتحقيق البحث هنا ان نقول: لا شك ان مسمى الزوج النصف والزوجة الربع مع عدم الولد، ومعه نصف التقديرين.

ولو لم يكن وارث سوى الزوج أو الزوجة، فهل يرد الفاضل على احدهما ام لا؟ فهنا قسمان: (الاول) الزوج: والمشهور الذي عليه الجمهور من الاصحاب رد النصف الباقي عليه دون الامام، حتى ادعى الثلاثة عليه الاجماع(٣) (٤) (٥) .

ورواه الشيخ (في الصحيح) عن أبي بصير قال: كنت عند أبي عبداللهعليه‌السلام فدعا بالجامعة فنظر فيها فاذا امرأة ماتت وتركت زوجها، لا وارث لها غيره، المال كله له(٦) .

____________________

(١)التحرير: ج ٢ كتاب المواريث (المقصد الرابع في موانع الارث) ص ١٧١ س ٢٦ قال: ولو كان الوارث زوجا او زوجة إلى قوله: ويحتمل المشاركة مع الزوجة دون الزوج الخ.

(٢)النهاية: باب توارث اهل الملتين ص ٦٦٤ س ١٤ قال: فان أسلموا رد عليهم ما يفضل من سهم الزوج.

(٣)الانتصار (المسائل المشتركة في الارث) ص ٣٠٠ س ١٦ قال: ومما انفردت به الامامية ان الزوج يرث المال كله إلى قوله: والحجة لنا في ذلك اجماع الطائفة عليه.

(٤)المبسوط: ج ٤ (فصل في ذكر سهام المواريث) ص ٧٤ س ١١ قال: ان الزوج وحده يرد عليه الباقي، لاجماع الفرقة عليه.

(٥)عدة رسائل (ط ايران مكتبة المفيد) رسالة الاعلام فيما اتفقت عليه الامامية من الاحكام (ميراث الازواج) ص ٣٣٦ س ٨ قال: واتفقت الامامية في المرأة اذا توفيت إلى قوله: ان المال كله للزوج، النصف بالتسمية، والنصف الآخر مردود عليه بالسنة.

(٦)التهذيب: ج ٩(٢٧) باب ميراث الازواج ص ٢٩٤ الحديث ١٣.

٣٠١

وفي الصحيح عن أبي بصير أيضا قال: قرأ علي أبوعبداللهعليه‌السلام فرائض عليعليه‌السلام فاذا فيها: الزوج يحوز الارث اذا لم يكن غيره(١) وغيرهما من الاحاديث في معناهما(٢) .

وقال الشيخ في الايجاز: فذووا الاسباب الزوج والزوجة، فاذا انفردوا كان لهم نصيبهم المسمى، ان كان زوجا النصف، والربع ان كانت زوجة، والباقي لبيت المال.

وقال أصحابنا: ان الزوج وحده يرد عليه الباقي باجماع الفرقة(٣) وهو ظاهر سلار(٤) .

(الثاني) الزوجة: وفيها ثلاثة أقوال:

(أ) الرد عليها مطلقا، اي مع ظهور الامام وسيرته، وهو ظاهر المفيد في آخر باب ميراث الاخوة من المقنعة، حيث قال: اذا لم يوحد مع الازواج قريب ولا نسيب رد باقي التركة على الازواج(٥) .

(ب) عدم الرد مطلقا، وهو اختيار القاضي(٦) وابن ادريس(٧) والصدوقين

____________________

(١)التهذيب: ج ٩(٢٧) باب ميراث الازواج ص ٢٩٤ الحديث ١٢.

(٢)لاحظ المصدر، الحديث ١٤ و ١٥.

(٣)الرسائل العشر (ط مؤسسة النشر الاسلامي - قم - ايران) (الايجاز في الفرائض والمواريث) ص ٢٧٠ فصل في ذكر ذوي السهام عند الانفراد وعند الاجتماع ص ٢٤.

قال: فذووا الاسباب هم الزوج او الزوجة، إلى قوله: وقال اصحابنا، ان الزوج وحده يرد عليه الباقي باجماع الفرقة.

(٤)المراسم: ذكر ميراث الازواج ص ٢٢٢ س ٥ قال: وفي اصحابنا من قال: اذا ماتت امرأة ولم تخلف غير زوجها فالمال كله له بالنسبة والرد.

(٥)المقنعة: باب ميراث الاخوة والاخوات ص ١٠٥ س ١٤ قال: واذا لم يوجد مع الازواج قريب إلى قوله: رد باقي التركة على الازواج.

(٦)المهذب: ج ٢ باب ميراث الازواج والزوجات ص ١٤١ س ٨ قال: فان مات رجل وخلف زوجته إلى قوله: كان لها الربع والباقي للامام.

(٧)السرائر: (فصل واما ترتيب الوارث) ص ٣٩٧ س ٢٥ قال: فاما مع الزوجة فانه يستحق (اي الامام) ما بقي بعد سهمها وفرضها بغير خلاف.

٣٠٢

في الرسالة(١) والمقنع(٢) .

(ج) التفصيل: وهو الرد مع غيبة الامام وعدمه مع ظهوره، وهو قول الصدوق في كتابه(٣) واستقربه الشيخ في النهاية(٤) واختاره العلامة في التحرير(٥) ويحيى بن سعيد(٦) .

احتج الاولون: برواية أبي بصير عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: قلت له: رجل مات وترك امرأته قال: المال لها، قال: قلت: امرأة ماتت وتركت زوجها قال: المال له(٧) .

وحملها الشيخ على كونها قريبة منه(٨) فيأخذ الباقي بالقرابة.

____________________

(١)المختلف: ج ٢ كتاب الفرائض واحكامه ص ١٨٥ س ٦ قال بعد نقل قول الصدوق: وكذلك قال ابوه في رسالته اليه.

(٢)المقنع: باب المواريث ص ١٧٠ س ١٦ قال: واذا ترك الرجل امرأة فللمرأة الربع إلى قوله: جعل ما بقي لامام المسلمين، وان تركت المرأة زوجها فللزوج النصف إلى قوله: فالنصف يرد إلى الزوج.

(٣)من لا يحضره الفقيه: ج ٤(١٣٣) باب ميراث الزوج والزوجة ص ١٩٢ قال بعد نقل الحديث الاول: قال مصنف هذا الكتاب: هذا في حال ظهور الامامعليه‌السلام فاما في حال غيبته إلى قوله: فالمال لها.

(٤)النهاية: باب ميراث الازواج ص ٦٤٢ س ١٧ قال بعد نقل التفصيل: وهذا وجه قريب من الصواب.

(٥)التحرير: ج ٢ (في ميراث الازواج) ص ١٦٨ س ١٠ قال: اما لو كانت زوجة إلى قوله: يرد عليها حال غيبة الامام وهو الاقوى عندي.

(٦)الجامع للشرائع: كتاب الميراث ص ٥٠٢ س ٢ قال: وان لم يخلف غيرها إلى قوله: واذ لم يتمكن من سلطان العدل رد عليها.

(٧)و(٨) التهذيب: ج ٩(٢٧) باب ميراث الازواج ص ٢٩٥ الحديث ١٦ ثم قال بعد نقل الخبر: هذا الخبر يحتمل شيئين إلى قوله: والآخر، وهو الاولى عندي، وهو انه اذا كات المرأة قريبة ولا قريب له اقرب منها، فتاخذ الربع بسبب الزوجية والباقي من جهة القرابة.

٣٠٣

(الثانية) روى مالك بن اعين عن أبي جعفرعليه‌السلام في نصراني مات وله ابن أخ وابن اخت مسلمان، واولاد صغار: لابن الاخ الثلثان، ولابن الاخت الثلث، وينفقان على الاولاد بالنسبة، فان اسلم الصغار دفع المال إلى الامام، فان بلغوا على الاسلام دفعه الامام اليهم، فان لم يبقوا دفع إلى ابن الاخ الثلثين والى ابن الاخت الثلث.

واحتج ابن ادريس: بموثقة جميل بن دراج عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: لا يكون الرد على زوج ولا زوجة(١) . وهي معارضة بكثير من الصحاح.

وبرواية أبي بصير عن الباقرعليه‌السلام قال: سألته عن امرأة ماتت وتركت زوجها لا وارث لها غيره، قال: اذا لم يكن غيره فله المال، والمرأة لها الربع، وما بقي فللامام(٢) وترك الاستفصال دليل العموم.

قال ابن ادريس: ولان اموال بني آدم ومستحقاتهم لا تحل بغيبتهم، لان التصرف في مال الغير بغير اذنه قبيح سمعا وعقلا(٣) .

احتجت الفرقة الثالثة: بان ما قالوه هو وجه الجمع بين الاخبار.

قال طاب ثراه: روى مالك بن اعين إلى آخره.

أقول: ما حكاه في الكتاب مختار الشيخين في النهاية(٤) والمقنعة(٥) وهو اختيار

____________________

(١)التهذيب: ج ٩(٢٧) باب ميراث الازواج ص ٢٩٦ الحديث ٢١.

(٢)التهذيب: ج ٩(٢٧) باب ميراث الازواج ص ٢٩٤ الحديث ١٥.

(٣)السرائر: (فصل واما ترتيب الوارث) ص ٣٩٧ س ٣١ قال: لان أموال بني آدم الخ.

(٤)النهاية: باب توارث اهل الملتين ص ٦٦٥ س ٧ قال: واذا خلف الكافر اولادا صغارا إلى آخره.

(٥)المقنعة: باب توارث اهل الملل المختلفة ص ١٠٧ س ١٣ قال: واذا ترك الذمي اولادا أصاغر واخوة لابيه واخوة لامه مسلمين الخ.

٣٠٤

القاضي(١) وابن زهرة عمم الحكم فقال: اذا كان للكافر اولاد صغار وقرابة مسلم انفق عليهم من التركة حتى يسلموا، فان اسلموا فالميراث لهم، وان لم يسلموا كان لقرابته المسلم(٢) وبه قال التقي(٣) وقال ابن ادريس: لا شئ للاولاد لكونهم بحكم آبائهم، ولا يرث الكافر المسلم، ولا مسلم هنا الا ابن الاخ وابن الاخت، فيختصون بملك التركة، ولولا ذلك لما جاز لهم قسمة التركة، ولا يجب عليهم الانفاق(٤) وهو مذهب المصنف(٥) والعلامة(٦) .

احتج الشيخ بما رواه (في الصحيح) عن مالك بن اعين عن الباقرعليه‌السلام قال: سألته عن نصراني مات وله ابن اخ مسلم وابن اخت مسلم، وللنصراني اولاد وزوجة نصارى قال: فقال: ارى ان يعطى ابن اخيه المسلم ثلثى ما ترك ويعطى ابن اخته ثلث ما ترك ان لم يكن له ولد صغار، فان كان له ولد صغار، كان على

____________________

(١)المهذب: ج ٢ باب توارث اهل ملتين ص ١٥٩ س ٤ قال: اذا مات كافر وترك اولادا واخوة واخوات الخ.

(٢)الغنية (في الجوامع الفقهية) ص ٦٠٨ س ٩ قال: واذا كان للكافر اولاد صغار وقرابة مسلم انفق عليهم من التركة حتى يبلغوا، فان اسلموا فالميراث لهم الخ.

(٣)الكافي: (الباب الخامس) ص ٣٧٥ س ٦ قال: وان كان للكافر اولاد اصاغر وقرابة مسلم انفق عليهم من التركة حتى يبلغوا فان اسلمو فلهم الميراث الخ.

(٤)السرائر: كتاب المواريث (فصل قد بينا فيما مضى ان الكافر لا يرث المسلم) ص ٤٠٤ س ١٦ قال بعد قول النهاية: والذي يقتضيه اصل مذهبنا: ان الميراث بين الاخوة من الاب والاخوة من الام إلى قوله: فعلى هذا التحرير: اذا بلغوا الاولاد واختاروا الاسلام لا يجب على الاخوة رد شئ من الميراث اليهم.

(٥)الشرائع: المقدمة الثانية في موانع الارث (اما الكفر) قال: ولو مات كافر وله ورثة كفار ووارث مسلم كان ميراثه للمسلم دون الكافر وان قرب.

(٦)المختلف: ج ٢ كتاب الفرائض ص ١٨٩ س ٣ قال بعد نقل قول ابن ادريس في السرائر: والوجه ماقاله ابن ادريس.

٣٠٥

الوارثين ان ينفقا على الصغار مما ورثا من ابيهم حتى يدركوا، قيل له: كيف ينفقان؟ قال: فقال: يخرج وارث الثلثين ثلثي النفقة، ويخرج وارث الثلث ثلث النفقة، فاذا ادركوا قطعا النفقة عنهم قيل له: فان اسلم الاولاد وهم صغار قال: فقال: يدفع ماترك ابوهم إلى الامام حتى يدركوا، فان بقوا على الاسلام دفع الامام ميراثهم اليهم، وان لم يتموا على الاسلام اذا ادركوا دفع الامام ميراثة إلى ابن اخيه وابن اخته المسلمين، يدفع إلى ابن اخيه ثلثى ما ترك، والى ابن اخته ثلث ما ترك(١) وحملها العلامة على الاستحباب(٢) . فالحاصل ان في المسألة ثلاثة أقوال:

(الاول) عدم استحقاق الصغار واستقرار الملك لغيرهم من الطبقات، لاجرائهم مجرى المعدوم، وهو اختيار ابن ادريس.

(الثاني) التربص لاسلام الاولاد بعد بلوغهم مع كل وارث، وهو قول الشريف ابن زهرة والتقي.

(الثالث) التربص لبلوغ الاولاد مع ابن الاخ وابن الاخت خاصة، اقتصارا على مورد النص، وهو قول الشيخين والصدوق والقاضي.

(تحقيق)

الرواية من الصحاح وبمضونها عمل كثير من الاصحاب. واختلفوا في تنزيلها على أربعة انحاء:

(أ) البناء على ان المانع من الارث هو الكفر، وهو مفقود في الاولاد الصغار حقيقة.

____________________

(١)التهذيب: ج ٩(٣٨) باب ميراث اهل الملل المختلفة والاعتقادات المتباينة ص ٣٦٨ الحديث ١٤.

(٢)المختلف: ج ٢ كتاب الفرائض ص ١٨٩ س ٣ فانه بعد اختياره ما اختاره ابن ادريس في السرائر قال: وحمل هذه الرواية على الاستحباب دون الوجوب.

٣٠٦

ورد بمنع حصر المانع في الكفر، بل عدم الاسلام أيضا مانع، وهو موجود في حق الاطفال.

أما أولا: فلانهم بحكم آبائهم.

وأما ثانيا: فلعدم اعتبار اسلام الصغير، لرفع القلم عنه. وبتقدير انحصار المانع في الكفر نقول: الكفر هنا صادق، اذ حكم الطفل حكم ابويه.

(ب) تنزيلها على ان اسلام الصغير معد للاسلام الحقيقي، فان حقيقة الكفر والاسلام لما انتفت عن الصغير، وكان من شأن الكافر استحقاقه باسلامه قبل القسمة، وجهل الصغير اسلامه حيث يمكنه، فاذا كانت الحالة حالة الصغر كان اسلامه حينئذ قائما مقام اسلام الكبير، اذ المقدور للصغير هو ذلك، وليس القيام في استحقاق الارث في الحال، بل المراعاة والمنع من القسمة إلى البلوغ، لينكشف الامر، ويضعف بان الاسلام المجازي، اعني اسلام الطفل لا يعاض الاسلام الحقيقي، اعني اسلام الكبير، وهو هنا موجود وسابق فيستقر الارث به.

(ج) التنزيل على ان المال لم يقسم حتى بلغوا، سواء سبق منهم الاسلام حال الطفولية، أولا.

وقوله في الرواية (يعطي ابن اخيه وابن اخته) لا يدل على حصول القسمة، بل هو اخبار عن قدر المستحق والنفقة من المال، وذلك لا يستلزم القسمة. وهذا تنزيل حسن، لكن يبقى الاشكال في شئ آخر، وهو قوله: (فان اسلموا وهم صغار دفع ما ترك ابوهم إلى الامام حتى يدركوا) والاصل بقاء استحقاق الوارث المسلم حتى يحصل المزاحم، ولا يصلح الاسلام المجازي معارضا للاسلام الحقيقي، خصوصا مع سبق الحقيقي، لاصالة البقاء وقوة الاستصحاب واستغناء الباقي عن المؤثر واحتياج الحادث اليه، اللهم الا ان يقول: اسلامه حال الطفولية معد لاستحقاقة، فيحجر الحاكم على التركة رعاية لمصلحته، لوجود ما يصلح ان بكون

٣٠٧

(الثالثة) اذا كان احد ابوي الصغير مسلما، الخق به، فلو بلغ اجبر على الاسلام، ولو أبى كان كالمرتد.

(الرابعة) المسلمون يتوارثون وان اختلفت آرائهم، وكذا الكفار وان اختلفت مللهم.

(الخامسة) المرتد عن فطرة يقتل ولا يستتاب، وتعتد امرأته عدة الوفاة، وتقسم امواله، ومن ليس عن فطرة يستتاب، فان تاب والا يقتل وتعتد زوجته عدة الطلاق مع الحياة، وعدة الوفاة لا معها. والمرأة لا تقتل بل تحبس وتضرب اوقات الصلاة حتى تتوب ولو كانت عن فطرة. سببا لاستحقاقه.

(د) التنزيل على الاستحباب.

قال طاب ثراه: المرتد عن فطرة يقتل ولا يستتاب، وتعتد امرأته عدة الوفاة، وتقسم امواله إلى آخره.

أقول: المرتد اما عن فطرة، ويعني به من علق به بعد اسلام احد ابويه.

او عن ملة، ونعني به من كان اسلامه بعد كفر، وان كان بالتبعية، كما لو اسلم احد ابويه وهو حمل.

فهنا قسمان:

(الاول) المرتد عن ملة، وفيه مسائل:

(أ) لا يجب قتل هذا المرتد، بل يجب استتابته، ومعنى الاستتابة المعاقبة بالحبس والضرب حتى يتوب، فان آيس من توبته قتل، فلابد حينئذ من مدة التربص من قدر مضبوط يعرفه الحداد كيلا يتجاوزه، والمكلف بحيث يعرف عدم الفسحة له والصبر عليه بعدها.

فقيل ذلك منوط بنظر الحاكم، فيستتيبه مدة يرجوا رجوعه فيها،

٣٠٨

وهو الذي قواه الشيخ في المبسوط(١) واختاره فخر المحققين(٢) وقيل: ثلاثة ايام،(٣) واستحوطه الشيخ في المبسوط(٤) واستحسنه المصنف في الشرائع(٥) لما فيه من التأني لازالة عذره.

ومستنده مارواه الشيخ عن مسمع بن عبدالملك عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: قال أمير المؤمنينعليه‌السلام : المرتد تعزل عنه امرأته، ولا تؤكل ذبيحته، ويستتاب ثلاثة ايام، فان تاب، والا قتل يوم الرابع(٦) .

(ب) لا تزول املاك هذا المرتد، بل تكون باقية على ملكه، فيلزمه جريان الحول للزكاة ووجوب الفطرة والحج

(ج) يحجر الحاكم على أمواله لئلا يتصرف فيها بالاتلاف، ارفاقا به، لتكون محفوظة عليه ينتفع بها اذا تاب.

(د) هذا الحجر غير مانع من وجوب الزكاة عليه، وان منع من التصرف في امواله، لتمكنه من ازالته فهو كالسفيه.

(ه‍) تزول ولايته عن اطفاله وامواله، فلا يملك تزويج الصغير ولا الرقيق مطلقا.

____________________

(١)المبسوط: ج ٧ كتاب المرتد ص ٢٨٣ س ١ قال: وقال آخرون: يستتاب القدر الذي يمكنه فيه الرجوع وهو الاقوى.

(٢)الايضاح: ج ٤ (في احكام المرتد) ص ٥٥٠ س ١٧ قال: والاقوى عندي أنه يستتاب القدر الذي يمكنه منه ان يرجع فيه إلى الاسلام.

(٣)و(٤) الخلاف: كتاب المرتد مسألة ٦ قال: يستتاب ثلاثا.

وفي المبسوط: ج ٧ كتاب المرتد ص ٢٨٢ س ٢٣ قال: قال قوم: يستتاب ثلاثا إلى قوله: والاول (اي الثلاث) احوط لانه ربما دخلت عليه شبهة فيتأملها وينبه عليها.

(٥)الشرائع (الباب الاول في المرتد) قال: وكم يستتاب؟ قيل: ثلاثة ايام إلى قوله: والاول مروي، وهو حسن لما فيه من التأنى لازالة عذره.

(٦)الكافي: ج ٧ باب حد المرتد ص ٢٥٨ الحديث ١٧.

٣٠٩

(و) يصح تملكه للاموال المستجدة بالاكتساب كالاحتطاب والاتهاب والارث من الحربي.

(ز) تعتد زوجته عدة الطلاق، فان خرجت ولما يتب، بانت منه، ولو قتل في اثناء مدة الانتظار أو مات استأنفت عدة الوفاة. وكذا لو قتل بعد مدة التربص مادامت في العدة، لكونها بمنزلة الرجعية ولقبول توبته بعد المدة.

(ح) يجرى عليه نفقة زوجته وان منع من وطئها، لحصول المنع منه وتمكنه من ازالته.

(ط) لو آلى منها او ظاهر صح، ويحتسب زمان الردة من المدة.

(ى) لو طلق هل يصح ام لا؟ يحتمل العدم لانها جارية إلى بينونة. ويحتمل الصحة لبقاء العصمة، وحينئذ يستأنف العدة.

(يا) يمنع من ابتداء العقد على المسلمة، لانه كافر. وعلى الكافرة لتحرمه بالاسلام.

(يب) لو مات ورثه المسلم خاصة، ومع عدمه الامام، لا الكافر وان قرب.

(يج) نماء امواله له لبقائها على ملكه.

(يد) لو التحق بدار الحرب اعتدت زوجته عدة الطلاق، وبانت بانقضائها، وهل تقسم امواله بين وراثه؟ قال في النهاية: نعم(١) ومنع ابن ادريس(٢) وهو قوله

____________________

(١)النهاية: باب توارث اهل الملتين ص ٦٦٦ س ١٥ قال: ومن كان كافرا فاسلم ثم ارتد إلى قوله: فان لحق بدار الحرب ولم يقدر عليه اعتدت منه امرأته عدة المطلقة ثم يقسم ميراثه بين اهله.

(٢)السرائر: كتاب المواريث (فصل قد بينا فيما مضى الخ) ص ٤٠٥ س ٥ قال: وهذا المرتد الذي قد ارتد لا عن فطرة الاسلام لا يقسم امواله بين ورثته إلى ان يموت او يقتل وان لحق بدار الحرب الخ.

٣١٠

في المبسوط(١) والخلاف(٢) واختاره العلامة(٣) .

(الثاني) المرتد عن فطرة الاسلام وفيه مسائل:

(أ) يجب قتل هذا في الحال ولا تقبل توبته.

(ب) المتولي لقتله الامام او نائبه، ولو قتله غيرهما اثم وكان هدرا.

(ج) تعتد زوجته عدة الوفاة، سواء قتل أو بقي، من حين ارتداده، ثم تحل للازواج.

(د) تخرج امواله عن ملكه، فيقضى منها الديون، ويحل مؤجلها كالموت، ويقسم بين وراثه.

(ه‍) لما خرجت عنه الاموال المملوكة له بالفعل ونزل منزلة الميت في اباحة زوجته، خرج عن اهلية التملك، فلو مات له قريب لم يرثه ونزل معدوما. وكذا لو احتطب او احتش، او حاز مباحا كان ذلك باقيا على اصل الاباحة، فلو اخذه منه انسان ملكه. ولو اثبت يده على ما ليس اصله الاباحة كما لو عامل، كانت المعاملة فاسدة وما في يده باق على ملك دافعه. ولو اخذه عوضا عن عمل عمله بنفسه كان باقيا على ملك دافعه، اذ لا يجب عليه اجرة عما استعمله. وكذا لو كان عوضا عما اصله مباح كالصيد. ولو اخذه منه آخذ رده على المالك لا على المرتد، وقال بعض: يملكه ويكون لوارثه.

____________________

(١)المبسوط: ج ٧ كتاب المرتد ص ٢٨٣ س ٨ قال: وان كان (اي الارتداد) عن اسلام كان قبله كافرا إلى قوله: والاصل بقاء الملك.

(٢)كتاب الخلاف: كتاب المرتد مسألة ١٠ قال: المرتد الذي يستتاب اذا لحق بدار الحرب لم يجر ذلك مجرى موته، ولا يتصرف في ماله الخ.

(٣)القواعد: ج ٢ (الفصل الثاني في احكام المرتد) ص ٢٧٦ س ١٢ قال: وان التحق بدار الحرب حفظت (اي امواله) وبيع ما يكون الغبطة في بيعه كالحيوان فان مات او قتل انتقل إلى ورثته المسلمين الخ.

٣١١

(و) لو كان لهذا المرتد مدبر لم ينعتق بمجرد ارتداده، لانه لم يمت وان كان بمنزلة الميت، لاصالة بقاء الملك وعدم حصول شرط التدبير عرفا. وهل ينعتق لو قتل بعد ذلك؟ التحقيق ان نقول: من حين ارتداده حكم بخروج ملكه عنه وانتقاله إلى وارثه. واذا خرج المدبر عن ملك مدبره، هل يبطل التدبير، او يكون باقيا والنقل انما هو للمنافع خاصة؟ كمذهب الشيخ، وقد مر في باب البيع والرهن والصداق، فعلى الاول: لا عتق، وعلى الثاني ينعتق، وقد حققناه في باب التدبير.

(ز) لو لم يقتل حل لزوجته التزويج بعد العدة، وحلت امواله لوارثه وان كان باقيا.

(ح) لو ظاهر او آلى في العدة لم يصح لكونها بائنة.

(ط) لا نفقة لها في العدة وان كانت حاملا وقلنا النفقة للحمل.

(ى) ينقطع الحول عن امواله الزكوية لخروجها عن ملكه.

(يا) لو تاب لم يقبل بالنسبة إلى اسقاط الحد، وملك المال، وبقاء النكاح، وابتداء النكاح مطلقا، وتقبل بالنسبة إلى الطهارة، وصحة العبادات، واسقاط عقوبة الآخرة، واستحقاق الثواب، ولا ينافي ذلك وجوب قتله كما لو تاب المحصن بعد قيام البينة.

(يب) يحل لوارثه او زوجته الاستيلاء على قدر النصيب من الارث وقضاء العدة والتزويج بعدها وان لم يثبت ذلك عند الحاكم ان كان سبب الارتداد أمرا قطعيا، وان كان اجتهاديا وقف ذلك على حكم الحاكم.

(يج) لو كان عاجزا هل يجب نفقته على قريبه؟ يحتمل ذلك لوجود السبب وهو القرابة، ولا يشترط في مستحق الانفاق الاسلام، ويحتمل عدمه لوجوب قتله والانفاق يوجب بقائه، فلا يجتمعان والاول أقوى تجنبا للتعذيب خصوصا مع التوبة.

٣١٢

(يد) لو ارتد عن غير مدخول بها، هل يجب عليها عدة الوفاة من حين الارتداد أو لا عدة عليها، يحتمل قويا الاول للعموم، ولان حكمه حكم الميت. ويحتمل الثاني ضعيفا لانه نكاح انفسخ بغير الموت قبل الدخول.

(يه) هل يدخل في ملكه ما يكتسبه بالاحتطاب وشبهه؟ يحتمل ذلك لانالكفر لاينافي ابتداء تملك المباحات. فتملك في آن ثم يبنقل إلى الورثة في الآن الثاني. ويحتمل قويا العدم، لان الردة تنافي الملك المستدام وهو اقوى من الحادث. فلئن يمنع الحادث اولى وهو اختيار العلامة(١) وفخر المحققين(٢) .

(تتمة)

المرأة لا تقتل بالردة وان كانت عن فطرة، بل تحبس وتضرب اوقات الصلاة دائما حتى تتوب، فتخلى سبيلها حينئذ، ولا يحكم بزوال اموالها عنها بالردة، بل يحجر عليها. وبالجملة حكمها حكم المرتد عن ملة. وذهب بعضهم إلى أنها تحبس دائما مع التوبة: وهو وهم.

وقد صرح الشيخ بما قلناه في كتاب الاستبصار، وقال بعد ما روى حديث علي بن جعفر عن أخيه أبي الحسنعليه‌السلام قال: سألته عن مسلم ارتد قال: يقتل ولا يستتاب، قلت: فنصراني اسلم ثم ارتد عن الاسلام، قال: يستتاب، فان رجع، والا قتل(٣) .

__________________________________

(١)القواعد: ج ٢ (الفصل الثاني في احكام المرتد) ص ٢٧٦ س ١٩ قال: واما المرتد عن فطرة فالاقرب عدم دخول ذلك كله (اي ما يتجدد له من الاموال بالاحتطاب والاتهاب) في ملكه.

(٢)الايضاح: ج ٤ (المطلب الثالث في امواله وتصرفاته) ص ٥٥٤ س ١٨ قال: الاقرب عند المصنف وعندي: لا.

(٣)الاستبصار: ج ٤(١٤٩) باب حد المرتد والمرتدة ٢٥٤ الحديث ٨.

٣١٣

فاما المرأة فاذا ارتدت فانها لا تقتل على كل حال، بل تخلد في السجن ان لم ترجع إلى الاسلام(١) .

وقد تضمن ذلك رواية الحسن بن محبوب عن غير واحد من اصحابنا عن أبي جعفر وأبي عبداللهعليهما‌السلام في المرتد يستتاب، فان تاب والا قتل، والمرأة اذا ارتدت استتيبت فان تابت ورجعت والا خلدت السجن وضيق عليها في حبسها(٢) .

ومثلها رواية عباد بن صهيب عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: المرتد يستتاب، فان تاب والا قتل، والمرأة تستتاب فان تابت والا حبست في السجن وأضر بها(٣) .

فرع

لو ارتدت ذات البعل تربص زوجها العدة، فان تابت فالنكاح باق، ان اصرت بانت، ويحل له العقد على الخامسة، وعلى اختها. ولو كان ذلك قبل الدخول بانت في الحال وسقط مهرها.

تذنيب

المسلمون يتوارثون وان اختلفوا في الآراء والمذاهب، فالتوارث يجري على الشهادتين وكذلك القصاص والديات، وفي النكاح قولان: واما استحقاق الثواب

____________________

(١)الاستبصار: ج ٤(١٤٩) باب حد المرتد والمرتدة ص ٢٥٤ ذيل حديث ٩.

(٢)الاستبصار: ج ٤(١٤٩) باب حد المرتد والمرتدة ص ٢٥٣ الحديث ٤.

(٣)الاستبصار: ج ٤(١٤٩) باب حد المرتد والمرتدة ص ٢٥٥ الحديث ١٢.

٣١٤

(السادسة) لو مات المرتد كان ميراثه لوارثه المسلم. ولو لم يكن وارث الا كافر كان ميراثه للامام على الاظهر. فعلى الايمان، وهو اختيار الشيخ في النهاية(١) وابن حمزة(٣) وابن ادريس(٤) .

وقال المفيد: يرث المؤمنون اهل البدع: من المعتزلة والمرجئة والخوارج والحشوية دون العكس(٥) وبه قال التقي، وعبارته: من كان كافرا يهودية او نصرانية او تشبيه او جحود نبوة او امامة لا يرث المؤمن(٦) .

قال طاب ثراه: ولو لم يكن وارث الا كافر كان ميراث المرتد للامام على الاظهر.

أقول: هذا هو المشهور بين الاصحاب لتحرمه بالاسلام، فلا يرثه الكافر لقولهعليه‌السلام : الاسلام يعلو ولا يعلى عليه(٧) . نحن نرثهم ولا يرثونا(٨) .

____________________

(١)النهاية: باب توارث اهل الملتين ص ٦٦٦ س ٢ قال: والمسلمون يتوارث بعضهم من بعض وان اختلفوا في الآراء إلى قوله: دون فعل الايمان الذي يستحق به الثواب.

(٢)المهذب: ج ٢ باب توارث اهل ملتين ص ١٦٠ س ١١ قال: والمسلمون يرث بعضهم بعضا وان اختلفوا في الآراء إلى قوله: دون الايمان الخ.

(٣)الوسيلة: فصل في بيان توارث أهل ملتين ص ٣٩٤ س ١٠ قال: والاسلام على اختلاف المذاهب والآراء ملة واحدة.

(٤)السرائر: كتاب المواريث (فصل قد بينا فيما مضى الخ) ص ٤٠٤ س ٢٧ قال: والمسلمون يرث بعضهم بعضا وان اختلفوا في الآراء والمذاهب إلى قوله: دون فعل الايمان الذي يستحق به الثواب وبتركه العقاب.

(٥)المقنعة: باب مواريث اهل الملل المختلفة ص ١٠٧ س ١٧ قال: ويرث المؤمنون اهل البدع إلى قوله: ولا يرث هذه الفرق احدا من اهل الايمان.

(٦)الكافي: (الباب الخامس) ص ٣٧٤ س ٢٢ قال: او كافر له ولد كافر إلى قوله: ميراثه لابن خاله المسلم دون ولده الكافر.

(٧)عوالي اللئالي: ج ١ ص ٢٢٦ الحديث ١١٨ ولاحظ ما علق عليه فانه ينفعك ورواه في الفقيه: ج ٤(١٧١) باب ميراث اهل الملل ص ٢٤٣ الحديث ٣.

(٨)من لا يحضره الفقيه: ج ٤(١٧١) باب ميراث اهل الملل ص ٢٤٣ قطعة من حديث ٥.

٣١٥

واما القتل: فيمنع الوارث من الارث اذا كان عمدا ظلما، ولا يمنع لو كان خطأ.

وقال الشيخان: يمنع من الدية حسب. ولو اجتمع القاتل وغيره، فالميراث لغير القاتل وان بعد، سواء تقرب بالقاتل او بغيره، ولو لم يكن وارث سوى القاتل فالارث للامام.

وقال الشيخ في الاستبصار: ميراثه لولده الكفار، لما رواه ابراهيم بن عبدالحميد عن رجل قال: قلت لابي عبداللهعليه‌السلام : نصراني اسلم ورجع إلى النصرانية ثم مات قال: ميراثه لولده النصراني ومسلم تنصر ثم مات قال: ميراثه لولده المسلمين(١) .

وحملها في النهاية على التقية(٢) وافتى بها الصدوق في المقنع(٣) .

وهي مرسلة، وعلى خلاف الاصل، وحملها على التقية حسن.

قال طاب ثراه: وقال الشيخان: يمنع من الدية حسب.

أقول: القتل إما عمد أو خطأ أو شبهة، فالاقسام ثلاثة:

(الاول) العمد: ولا يرث من الدية ولا من التركة اجماعا، مقابلة له بنقيض مطلوبه، وعقوبة على فعله، واحتياطا في عصمة الدم كيلا يقتل اهل المواريث بعضهم بعضا طمعا في الميراث.

(الثاني) الخطاء: وفيه ثلاثة أقوال:

(أ) منعه مطلقا وهو قول الحسن(٤) .

____________________

(١)الاستبصار: ج ٤(١١٠) باب انه يرث المسلم الكافر ولا يرثه الكافر ص ١٩٣ الحديث ١٩.

(٢)النهاية: باب توارث اهل الملتين ص ٦٦٧ س ١ قال: وقد روي انه يكون ميراثه لورثته الكفار، وذلك محمول على ضرب من التقية لانه مذهب العامة.

(٣)المقنع: باب المواريث ص ١٧٩ س ١٠ قال: والنصراني اذا اسلم ثم رجع إلى النصرانية ثم مات فميراثه لولده النصراني.

(٤)المختلف: ج ٢ في ميراث القاتل ص ١٩١ س ١٠ قال: فابن عقيل منع من ارثه مطلقا.

٣١٦

(ب) التوريث مطلقا وهو قول المفيد(١) وتلميذه(٢) .

(ج) المنع من الدية دون باقي التركة، وهو قول الشيخ(٣) وأبي علي(٤) والقاضي(٥) والتقي(٦) وابن حمزة(٧) وابن زهرة(٨) وابن إدريس(٩) واختاره العلامة(١٠) واستحسنه المنصف واختار التوريث مطلقا(١١) .

احتج الحسن: بان في منعه احتياطا في عصمة الدماء. وبانه يؤخذ منه الدية فكيف يرث.

وبما رواه فضيل بن يسار عن الصادقعليه‌السلام قال: لا يقتل الرجل بولده، ويقتل الولد بوالده اذا قتل والده، ولا يرث الرجل الرجل اذا قتله وان كان

____________________

(١)المقنعة: باب ميراث القاتل ص ١٠٧ س ٢٨ قال: ويرثه اذا قتله خطأ.

(٢)المراسم: كتاب المواريث ص ٢١٨ س ١٧ قال: ولا يمنع الارث الا العمد خاصة.

(٣)النهاية: باب ميراث القاتل ومن يستحق الدية ص ٦٧٢ س ١٨ فبعد نقل الحديث والحمل على عدم الارث من الدية قال: وعلى هذا اعمل لانه احوط.

(٤)المختلف: ج ٢ في ميراث القاتل ص ١٩١ س ١٠ قال: والشيخ وابن الجنيد إلى قوله: منعوه من الدية.

(٥)المهذب: ج ٢ باب ميراث القاتل ص ١٦٢ س ١٤ قال: واما القاتل خطأ إلى قوله: ولا يرث من ديته.

(٦)الكافي: الباب الخامس ص ٣٧٥ س ١١ قال: ويرثة ان كان القتل خفا ما خرج عن الدية..

(٧)الوسيلة: (فصل في بيان حكم ميراث القاتل) ص ٣٩٦ س ٥ قال: والثالث: يرثه من التركة دون الدية.

(٨)الغنية (في الجوامع الفقهية) ص ٦٠٨ س ١٤ قال: ويرثه خطأ ماعدا الدية.

(٩)السرائر: كتاب المواريث ص ٤٠٥ س ٢٩ قال: ويرثه اذا كان قتله خطأ ما عدى الدية.

(١٠)المختلف: ج ٢ في ميراث القاتل ص ١٩١ س ١٢ قال: والمعتمد ما قاله الشيخ في الخطأ.

(١١)الشرائع: كتاب الفرائض (اما القتل) قال: ولو كان القتل خطأ ورث على الاشهر.

وخرج المفيدرحمه‌الله وجها آخر: هو المنع من الدية، وهو حسن، والاول أشبه.

٣١٧

خطاء(١) .

وبصحيحة هشام بن سالم عن الصادقعليه‌السلام قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : لا ميراث للقاتل(٢) وهو عام.

احتج المفيد بان المنع لمكان العقوبة، وقاتل الخطاء غير مذنب.

وبصحيحة عبدالله بن سنان عن الصادقعليه‌السلام قال: سألته عن رجل قتل امه أيرثها؟ قال: ان كان خطاء ورثها، وان كان عمدا لم يرثها(٣) .

احتج الشيخ: بالجمع بين الروايات، فحمل ماورد منها بالمنع على الدية، وبالارث على بقية التركة(٤) لمناسة الاصل فلا يمنعه من التركة، لعموم آية.

الارث(٥) ولكونه غير مذنب، ولا يعطيه من الدية حقنا للدم واحتياطا في عصمته، (الثالث) شبيه العمد، وفيه قولان: فابن الجنيد الحقه بالعمد في المنع من الجميع(٦) واختاره العلامة في القواعد(٧)

____________________

(١)التهذيب: ج ٩(٤١) باب ميراث القاتل ص ٣٧٩ الحديث ١٢.

(٢)التهذيب: ج ٩(٤١) باب ميراث القاتل ص ٣٧٨) الحديث ٥.

(٣)التهذيب: ج ٩(٤١) باب ميراث القاتل ص ٣٧٩ الحديث ١١.

(٤)التهذيب: ج ٩(٤١) باب ميراث القاتل ص ٣٨٠ س ٥ قال في مقام الجامع: ومع ذلك يحتمل ان يكون الوجه فيه ما كان يقوله شيخنا ابوعبدالله محمد بن محمد بن النعمان من انه لا يرث الرجل الرجل اذا قتله خطاء من ديته ويرثه مما عدى الدية.

(٥)النساء: ١٢ قال تعالى: (ولكم نصف ماترك ازواجكم إلى آخره).

(٦)المختلف: ج ٢ في ميراث القاتل ص ١٩٠ س ١٦ قال: وقال ابن الجنيد: القاتل عمد لا يرث إلى قوله: وكذا شبيه العمد الخ.

(٧)القواعد: ج ٢ (المطلب الثاني القتل) ص ١٦٣ س ١٩ قال: وهل يلحق شبيه العمد بالعمد او بالخطاء؟ الاقرب الاول.

٣١٨

وفخر المحققين في ايضاحه(١) وسلار الحقه بالخطاء(٢) وكذا ابن حمزة(٣) .

لكن افترقا، فسلار يورثه مطلقا وابن حمزة بما عدى الدية كمذهب الشيخ، وقد ذكرناه، فيما تقدم.

قال العلامة في المختلف: واما شبيه العمد فالاولى الحاقة بالخطاء ولان المقتضي للمنع في العمد، وهو المؤاخذة له بنقيض مقصوده منتف هنا كالخطاء(٤) .

وقول المصنف: " وقال الشيخان: يمنع من الدية حسب "(٥) وقال في الشرائع: وخرج المفيد وجها آخر: وهو المنع من الدية، فنسب التفصيل إلى المفيد، ونحن حكينا عنه التوريث مطلقا، فما ذكره المصنف عنه اشارة إلى حمله للرواية المانعة من توريثه، على الدية(٦) .

قال الشيخ في النهاية: القاتل ضربان: قاتل عمد، ولا يرث المقتول لا من التركة، ولا من الدية، وقاتل خطاء ويرث المقتول على كل حال ولدا كان او والدا، زوجا او زوجة من نفس التركة ومن الدية.

وقد رويت رواية: بان القاتل لا يرث وان كان خطاء، وهذه رواية شاذة لا عمل عليها، لان اكثر الروايات على

____________________

(١)الايضاح: ج ٤ (في موانع الارث) ص ١٨٢ س ١٣ قال: والاصح عندي وعند والدي وجدي قول ابن الجنيد.

(٢)المراسم: كتاب المواريث ص ٢١٨ س ١٧ قال: ولا يمنع الارث الا العمد خاصة.

(٣)الوسيلة: (فصل في بيان حكم ميراث القاتل): ص ٣٩٦ س ٥ قال: والثالث (اي شبيها بالخطأ) يرثه من التركة دون الدية، وقيل: يرث الدية أيضا وقيل: لم يرث من التركة أيضا.

(٤)المختلف: ج ٢ (في ميراث القاتل) ص ١٩١ س ١٦ قال: واما شبيه العمد، فالاولى الحاقه بالخطأ الخ.

(٥)لاحظ عبارة النافع.

(٦)الشرائع (في موانع الارث) واما القتل قال: ولو كان القتل خطاء ورث على الاشهر، وخرج المفيدرحمه‌الله وجها آخر الخ.

٣١٩

وهنا مسائل:

(الاولى) الدية كاموال الميت تقضى منها ديونه، وتنفذ وصاياه، وان قتل عمدا اذا اخذت الدية، وهل للديان منع الوارث من القصاص؟ الوجه، لا، وفي رواية لهم المنع حتى يضمن الوارث الدين. ما قدمناه، وكان شيخنارحمه‌الله حمل هذه الرواية على انه اذا كان القاتل خطاء فانه لا يرث من الدية ويرث من التركة للجمع بن الاخيار، وعلى هذا اعمل لانه احوط(١) .

فنسب المصنف التفصيل إلى المفيد، لانه السابق إلى هذا الجمع.

وأما فتواه فظاهرها التوريث مطلقا، حيث قال: وقاتل العمد لا يرث نسيبه، ويرثه اذا قتله خطاء، وانما منع قاتل العمد من الميراث عقوبة على جرمه، وعظم ذنبه، وقال: الخطاء غير مذنب لانه لم يتعمد لله خلافا، ولا أوقع بقتله معصية(٢) ، واطلق.

قال طاب ثراه: الدية كاموال الميت تقضى منها ديونه، وتنفذ وصاياه، وان قتل عمدا اذا اخذت الدية، وهل للديان منع الوارث من القصاص؟ الوجه: لا، وفي رواية لهم المنع حتى يضمن الوارث الدين(٣) .

أقول: الدية كاموال الميت، يخرج منها مؤنة تجهيزه، ثم ديونه، ثم وصاياه،

____________________

(١)النهاية: باب ميراث القاتل ومن يستحق الدية ص ٦٧١ س ١٨ قال: القاتل على ضربين إلى قوله: وعلى هذا اعمل لانه احوط.

(٢)المقنعة: (باب ميراث القاتل) ص ١٠٧ س ٢٨ قال: وقاتل العمد لا يرث المقتول اذا كان نسيبه إلى قوله ولا اوقع بقتله معصية.

(٣)في النسخ المخطوطة التي بايدينا (حتى يضمن الدية) والصواب ما اثبتناه كما في المطبوع من المختصر النافع.

٣٢٠

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471