حياة الامام الحسين عليه السلام الجزء ٢

حياة الامام الحسين عليه السلام12%

حياة الامام الحسين عليه السلام مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 471

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 471 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 260694 / تحميل: 5238
الحجم الحجم الحجم
حياة الامام الحسين عليه السلام

حياة الامام الحسين عليه السلام الجزء ٢

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

٩ ـ المظالم الهائلة على الشيعة :

وذهبت نفس الإمام الحُسين أسى على ما عانته الشيعة ـ في عهد معاوية ـ مِنْ ضروب المحن والبلاء ، فقد أمعن معاوية في ظلمهم وإرهاقهم. وفتك بهم فتكاً ذريعاً ، وراح يقول للإمام الحُسين : يا أبا عبد الله ، علمت أنّا قتلنا شيعة أبيك فحنّطناهم وكفّناهم وصلّينا عليهم ودفناهم(١) .

وقد بذل قصارى جهوده في تصفية الحساب معهم ، وقد ذكرنا عرضاً مفصّلاً لما عانوه في عهد معاوية ، وخلاصته :

١ ـ إعدام أعلامهم : كحِجْر بن عَدِي ، وعمرو بن الحمق الخزاعي ، وصيفي بن فسيل وغيرهم.

٢ ـ صلبهم على جذوع النخل.

٣ ـ دفنهم أحياءً.

٤ ـ هدم دورهم.

٥ ـ عدم قبول شهادتهم.

٦ ـ حرمانهم من العطاء.

٧ ـ ترويع السيّدات مِنْ نسائهم.

٨ ـ إذاعة الذعر والخوف في جميع أوساطهم.

إلى غير ذلك مِنْ صنوف الإرهاق الذي عانوه ، وقد ذُعِرَ الإمام الحُسين (عليه السّلام) ممّا حلّ بهم ، فبعث بمذكرته الخطيرة لمعاوية التي سجّل فيها جرائم ما ارتكبه في حقّ الشيعة ، وقد ذكرناها في البحث عن حكومة معاوية.

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ / ٢٠٦.

٢٨١

لقد كانت الإجراءات القاسية التي اتّخذها الحكم الأموي ضدّ الشيعة مِنْ أسباب ثورته ، فهبّ لإنقاذهم مِنْ واقعهم المرير وحمايتهم مِنْ الجور والظلم.

١٠ ـ محو ذكر أهل البيت (عليهم السّلام) :

ومِنْ ألمع الأسباب التي ثار مِنْ أجلها أبو الشهداء (عليه السّلام) هو أنّ الحكم الاُموي قد جهد على محو ذكر أهل البيت (عليهم السّلام) واستئصال مآثرهم ومناقبهم. وقد استخذم معاوية في هذا السبيل أخبث الوسائل ، وهي :

١ ـ افتعال الأخبار في الحطّ مِنْ شأنهم.

٢ ـ استخدام أجهزة التربية والتعليم لتربية النشء على بغضهم.

٣ ـ معاقبة مَنْ يذكر مناقبهم بأقصى العقوبات.

٤ ـ سبّهم على المنابر والمآذن وخطب الجمعة.

وقد عقد الإمام الحُسين (عليه السّلام) مؤتمره السياسي الكبير في مكّة المكرّمة ، وأحاط المسلمين علماً بالإجراءات الخطيرة التي اتّخذها معاوية إلى إزالة أهل البيت عن الرصيد الإسلامي ، وكان (عليه السّلام) يتحرّق شوقاً إلى الجهاد ، ويودّ أنّ الموت قد وافاه ولا يسمع سبّ أبيه على المنابر والمآذن.

١١ ـ تدمير القِيَم الإسلاميّة :

وعمد الاُمويّون إلى تدمير القِيَم الإسلاميّة ، فلمْ يعد لها أيّ ظلّ على واقع الحياة الإسلاميّة ، وهذه بعضها :

٢٨٢

أ ـ الوحدة الإسلاميّة :

وأشاع الاُمويّون الفرقة والاختلاف بين المسلمين فأحيوا العصبيات القبلية ، وشجّعوا الهجاء بين الأُسر والقبائل العربية حتّى لا تقوم وحدة بين المسلمين.

وقد شجّع يزيد الأخطلَ على هجاء الأنصار الذين آووا النّبي (صلّى الله عليه وآله) وحاموا عن دينه أيّام غربة الإسلام ومحنته.

لقد كانت الظاهرة البارزة في شعر ذلك العصر هي الهجاء المقذع ، فقد قصر الشعراء مواهبهم الأديبة على الهجاء والتفنن في أساليب القذف ، والسبّ للأُسر التي كانت تنافس قبائلهم.

وقد خلا الشعر الاُموي عن كلّ نزعة إنسانية أو مقصد اجتماعي ، وتفرّد بظاهرة الهجاء ، وقد خولف بذلك ما كان ينشده الإسلام من الوحدة الشاملة بين أبنائه.

ب ـ المساواة :

وهدم الاُمويّون المساواة العادلة التي أعلنها الإسلام ، فقدّموا العرب على الموالي ، وأشاعوا جوّاً رهيباً من التوتر والتكتّل السياسي بين المسلمين ، وكان مِنْ جرّاء ذلك أنْ ألّف الموالي مجموعة مِن الكتب في نقض العرب وذمهم ، كما ألّف العرب كتباً في نقض الموالي واحتقارهم ، وعلى رأس القائمة التي أثارت هذا النحو من التوتر بين المسلمين زياد بن أبيه ، فقد كان حاقداً على العرب ، وقد عهد إلى الكتاب بانتقاصهم.

وقد خالفت هذه السياسة النكراء روح الإسلام الذي ساوى بين المسلمين في جميع الحقوق والواجبات على اختلاف قومياتهم.

٢٨٣

ج ـ الحرية :

ولمْ يعُد أيّ مفهوم للحرية ماثلاً على مسرح الحياة طيلة الحكم الاُموي ، فقد كانت السلطة تحاسب الشعب حساباً منكراً وعسيراً على كلّ بادرة لا تتفق مع رغباتها ، حتّى لمْ يعُد في مقدور أيّ أحد أنْ يطالب بحقوقه ، أو يتكلّم بأيّ مصلحة للناس ، فقد كان حكم النّطع والسيف هو السائد في ذلك العصر.

لقد ثار أبو الأحرار لينقذ الإنسان المسلم وغيره مِن الاضطهاد الشامل ، ويُعيد للناس حقوقهم التي ضاعت في أيّام معاوية ويزيد.

١٢ ـ انهيار المجتمع :

وانهار المجتمع في عصر الاُمويِّين ، وتحلّل مِنْ جميع القِيَم الإسلاميّة.

أمّا أهمّ العوامل التي أدّت إلى انهياره فهي :

١ ـ حرمان المجتمع مِن التربية الروحية : فلمْ يحفل بها أحد مِن الخلفاء سوى الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) ، فقد عني بها عناية بالغةً ، إلاّ إنّه قد مُنِيَ بالأحداث الرهيبة التي منعته مِنْ مواصلة مسيرته في إصلاح الناس وتقويم أخلاقهم.

٢ ـ إمعان الحكم الاُموي في إفساد المجتمع وتضليله ، وتغديته بكلّ ما هو بعيد عن واقع الإسلام وهديه.

إنّ هذين العاملين ـ فيما نحسب ـ مِنْ أهم العوامل التي أدّت إلى انهيار ذلك المجتمع. أمّا مظاهر ذلك التحلّل والانهيار فهي :

٢٨٤

١ ـ نقض العهود :

ولمْ يتأثم أغلب أبناء ذلك المجتمع من نقض العهود والمواثيق ، فقد كان عدم الوفاء بها أمراً عادياً ومتسالماً عليه ، وقد شجعهم على ذلك (كسرى العرب) ، فقد أعلن في خطابه بالنّخيلة أنّ كلّ ما شرطه على نفسه للإمام الحسن لا يفي به ، وعمد إلى نقض جميع الشروط التي أعطاها له.

وكانت هذه الظاهرة مِنْ أبرز ذاتيات الكوفيين ، فقد أعطوا للإمام الحُسين أعظم العهود والمواثيق على مناصرته ومناجزة عدوّه ، إلاّ أنّهم خاسوا ما عاهدوا عليه الله فخذلوه وقتلوه.

٢ ـ عدم التحرّج مِن الكذب :

ومِن الأمراض التي أُصيب بها ذلك المجتمع عدم التحرّج مِن الكذب ، وقد مُنِي الكوفيون بذلك بصورة خاصة ، فإنّهم لمّا أحاطوا بالإمام الحُسين (عليه السّلام) يوم الطفّ لقتله ، وجّه (عليه السّلام) سؤالاً إلى قادة الفرق الذين كاتبوه بالقدوم إليهم ، فقال : «يا شبث بن ربعي ، ويا حجّار بن أبجر ، ويا قيس بن الأشعث ، ويا زيد بن الحرث ، ألمْ تكتبوا إليّ أنْ قد أينعت الثمار ، واخضرّ الجناب ، وإنّما تقدم على جند لك مجنّدة».

ولمْ تخجلْ تلك النفوس القذرة مِنْ تعمّد الكذب ، فأجابوه مجمعين : لمْ نفعل.

وبُهِرَ الإمام فاندفع يقول : «سُبحان الله! بلى والله لقد فعلتم».

٢٨٥

وقد جرّوا إلى المجتمع بما اقترفوه مِن الآثام كثيراً مِن الويلات والخطوب ، وتسلّح بهم أئمّة الظلم والجور إلى اضطهاد المسلمين وإرغامهم على ما يكرهون.

٣ ـ عرض الضمائر للبيع :

وقد كان مِنْ أحطّ ما وصل إليه ذلك المجتمع مِن الانحراف والزيغ عرض الضمائر والأديان لبيعها على السّلطة جهاراً ، وقد ألمعنا إلى ذلك بصورة مفصّلة عند البحث عن عهد معاوية.

٤ ـ الإقبال على اللّهو :

وأقبل المجتمع بِنَهَمٍ على اللّهو والدعارة ، وقد شجّع الاُمويّون بصورة مباشرة حياة المجون لزعزعة العقيدة الدينية مِن النفوس ، وصرف الناس عمّا ينشده الإسلام مِن التوازن في سلوك الفرد.

هذه بعض الأمراض التي ألمّت بالمجتمع الإسلامي ، وقد أدّت إلى تسيّبه وانهيار قِيَمِه.

وقد ثار الإمام الحُسين (عليه السّلام) ليقضى على التذبذب والانحراف الذي مُنِيَت به الأُمّة.

١٣ ـ الدفاع عن حقوقه :

وانبرى الإمام الحُسين (عليه السّلام) للجهاد دفاعاً عن حقوقه التي نهبها الاُمويّون واغتصبوها ، وأهمها ـ فيما نحسب ـ ما يلي :

٢٨٦

١ ـ الخلافة :

وآمن الإمام الحُسين (عليه السّلام) كأبيه أنّ العترة الطاهرة أولى بمقام رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وأحقّ بمركزه مِنْ غيرهم ؛ لأنّهم أهل بيت النّبوة ومعدن الرسالة ومختلف الملائكة ، بهم فتح الله وبهم ختم ـ على حدّ تعبيره ـ وقد طبع على هذا الشعور وهو في غضون الصبا. فقد انطلق إلى عمر وكان على منبر رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فصاح به : «انزل عن منبر أبي ، واذهب إلى منبر أبيك».

ولمْ ينفرد الإمام الحُسين بهذا الشعور ، وإنّما كان سائداً عند أئمّة أهل البيت (عليهم السّلام) ، فهم يرون أنّ الخلافة مِنْ حقوقهم ؛ لأنّهم ألصق الناس برسول الله (صلّى الله عليه وآله) وأكثرهم وعياً لأهدافه.

وهناك شيء آخر جدير بالاهتمام وهو أنّ الحُسين (عليه السّلام) كان هو الخليفة الشرعي بمقتضى معاهدة الصلح التي تمّ الاتفاق عليها ، فقد جاء في بنودها : ليس لمعاوية أنْ يعهد بالأمر إلى أحد مِنْ بعده ، والأمر بعده للحسن ، فإنْ حدث به حدث فالأمر للحُسين(١) .

وعلى هذا فلمْ تكن بيعة يزيد شرعية. فلمْ يخرج الإمام الحُسين (عليه السّلام) على إمام مِن أئمّة المسلمين كما يذهب لذلك بعض ذوي النزعات الاُمويّة ، وإنّما خرج (عليه السّلام) على ظالم مغتصب لحقّه.

٢ ـ الخُمس :

والخمس حقّ مفروض لأهل البيت (عليهم السّلام) نصّ عليه القرآن وتواترت به السنّة ، ولكنّ الحكومات السابقة تناهبته فلمْ تؤدِ لهمْ منه شيئاً ؛ لشلّ حركة المقاومة عند العلويين، وقد أشار الإمام الحُسين (عليه السّلام) إلى ذلك في

__________________

(١) حياة الإمام الحسن ٢ / ٢٨٨ الطعبة الثانية.

٢٨٧

حديثه مع أبي هرّة الذي نهاه عن الخروج على بني أُميّة ، فقال (عليه السّلام) له :

«ويحك أبا هرة! إنّ بني أُميّة أخذوا مالي فصبرت».

وأكبر الظنّ أنّ المال الذي أخذته بنو أُميّة منه هو الخمس ، وقد أعلن ذلك دعبل الخزاعي في رائعته التي انشدها أمام الرضا (عليه السّلام) في خراسان بقوله :

أرى فيئهمْ في غيرِهم متقسّماً

وأيديهمْ مِنْ فيئهِمْ صفراتِ

والتاع الإمام الرضا (عليه السّلام) فجعل يقلّب يديه وهو يقول : «إنّها والله لصفرات». وقد أقضّ مضاجع العلويين منعهم من الخمس ؛ باعتباره أحد المصادر الرئيسية لحياتهم الاقتصادية.

ولعلّ الإمام الحُسين قد استهدف بنهضته ارجاع هذا الحقّ السليب لأهل البيت (عليهم السّلام).

١٤ ـ الأمر بالمعروف :

ومِنْ أوكد الأسباب التي ثار مِنْ أجلها أبيّ الضيم (عليه السّلام) إقامة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؛ فإنّهما مِنْ مقوّمات هذا الدين ، والإمام بالدرجة الأولى مسؤول عنهما.

وقد أدلى (عليه السّلام) بذلك في وصيته لأخيه ابن الحنفيّة التي أعلن فيها عن أسباب خروجه على يزيد ، فقال (عليه السّلام) : «إنّي لمْ أخرج أشِرَاً ولا بطراً ، ولا ظالماً ولا مفسداً ، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أُمّة جدّي ؛ أريد أنْ آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر».

لقد انطلق (عليه السّلام) إلى ميادين الجهاد ليقيم هذا الصرح الشامخ الذي بُنيت عليه الحياة الكريمة في الإسلام ، وقد انهارت دعائمه أيّام الحكم الاُموي ، فقد أصبح المعروف في عهدهم منكراً والمنكر معروفاً ، وقد

٢٨٨

أنكر عليهم الإمام في كثير مِن المواقف ، والتي كان مِنها خطابه الرائع أمام المهاجرين والأنصار ، فقد شجب فيه تخاذلهم عن نصرة الحقّ ودحض الباطل وإيثارهم للعافية ، وقد ذكرناه في الحلقة الأولى مِنْ هذا الكتاب.

وممّا قاله (عليه السّلام) في هذا المجال أمام أصحابه وأهل بيته يوم الطفّ : «ألا ترون إلى الحقّ لا يُعمل به ، وإلى الباطل لا يُتناهى عنه؟! ليرغب المؤمن في لقاء ربّه».

لقد آثر الموت على الحياة ؛ لأنّه يرى الحقّ قد تلاشى والباطل قد استشرى.

١٥ ـ إماتة البدع :

وعمد الحكم الاُموي إلى نشر البدع بين المسلمين ، التي لمْ يقصد منها إلاّ محق الإسلام وإلحاق الهزيمة به. وقد أشار الإمام (عليه السّلام) إلى ذلك في رسالة بعثها لأهل البصرة ، يقول (عليه السّلام) : «فإنّ السنّة قد اُميتت ، والبدعة قد اُحييت»(١) .

لقد ثار (عليه السّلام) ليقضي على البدع الجاهلية التي تبنّاها الاُموييون ، ويحيي سنّة جدّه التي أماتوها ، فكانت نهضته الخالدة مِنْ أجل إماتة الجاهلية ونشر راية الإسلام.

__________________

(١) تاريخ الطبري ٦ / ٢٠٠.

٢٨٩

١٦ ـ العهد النّبوي :

واستشف النّبي (صلّى الله عليه وآله) مِنْ وراء الغيب ما يُمْنى به الإسلام مِن الأخطار الهائلة على أيدي الاُمويِّين ، وإنّه لا يمكن بأيّ حالٍ تجديد رسالته وتخليد مبادئه إلاّ بتضحية ولده الإمام الحُسين (عليه السّلام) ؛ فإنّه هو الذي يكون الدرع الواقي لصيانة الإسلام ، فعهد إليه بالتضحية والفداء.

وقد أدلى الحُسين بذلك حينما عدله المشفقون عليه مِن الخروج إلى العراق ، فقال (عليه السّلام) لهم : «أمرني رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بأمرٍ وأنا ماضٍ إليه».

ويقول المؤرّخون : إنّ النّبي (صلّى الله عليه وآله) كان قد نعى الحُسين إلى المسلمين وأحاطهم علماً بشهادته وما يعانيه مِنْ أهوال المصائب ، وكان ـ باستمرار ـ يتفجّع عليه ويلعن قاتله ، وكذلك أخبر الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) بشهادته وما يجري عليه ، وقد ذكرنا في الحلقة الأولى مِنْ هذا الكتاب الأخبار المتواترة بذلك.

وكان الإمام الحُسين (عليه السّلام) على علم وثيق بما يجري عليه ، فقد سمع ذلك مِنْ جدّه وأبيه وقد أيقن بالشهادة ، ولمْ يكن له أيّ أمل في الحياة ، فمشى إلى الموت بعزم وتصميم امتثالاً لأمر جدّه الذي عهد إليه بذلك.

١٧ ـ العزة والكرامة :

ومِنْ أوثق الأسباب التي ثار مِنْ أجلها أبو الأحرار هو العزّة والكرامة ، ققد أراد الاُمويّون إرغامه على الذلّ والخنوع ، فأبى إلاّ أنْ يعيش عزيزاً تحت ظلال السيوف والرماح ، وقد أعلن سلام الله عليه ذلك يوم الطفّ بقوله : «ألا وإنّ الدّعي ابن الدّعي قد ركز بين اثنتين : بين السلّة والذلّة ،

٢٩٠

وهيهات منّا الذلّة ، يأبى الله لنا ذلك ورسوله ، ونفوسٌ أبيّة وأنوفٌ حميّة مِنْ أنْ نؤثرَ طاعة اللئام على مصارع الكرام». وقال (عليه السّلام) : «لا أرى الموت إلاّ سعادة ، والحياة مع الظالمين إلاّ برماً».

لقد عانق الموت بثغر باسم في سبيل إبائه وعزّته ، وضحّى بكلّ شيء مِنْ أجل حريته وكرامته.

١٨ ـ غدر الاُمويِّين وفتكهم :

وأيقن الإمام الحُسين (عليه السّلام) أنّ الاُمويِّين لا يتركونه ، ولا تكفّ أيديهم عن الغدر والفتك به حتّى لو سالمهم وبايعهم ، وذلك لما يلي :

١ ـ إنّ الإمام كان ألمع شخصية في العالم الإسلامي ، وقد عقد له المسلمون في دخائل نفوسهم خالص الودّ والولاء ؛ لأنّه حفيد نبيّهم وسيد شباب أهل الجنّة ، ومِن الطبيعي أنّه لا يروق للأمويين وجود شخصية تتمتّع بنفوذ قوي ومكانة مرموقة في جميع الأوساط ، فإنّها تشكّل خطراً على سلطانهم وملكهم.

٢ ـ إنّ الاُمويِّين كانوا حاقدين على النّبي (صلّى الله عليه وآله) ؛ لأنّه وترهم في واقعة بدر وألحق بهم الهزيمة والعار ، وكان يزيد يترقّب الفرص للانتقام مِنْ أهل بيت النبي (صلّى الله عليه وآله) ؛ ليأخذ ثاراث بدر منهم.

ويقول الرواة إنّه كان يقول :

لستُ مِنْ خندفَ إنْ لمْ أنتقمْ

مِنْ بني أحمدَ ما كان فعلْ

ولمّا استوفى ثاره وروّى أحقاده بإبادتهم ، أخذ يترنّم ويقول :

قد قتلنا القرمَ مِنْ ساداتهمْ

وعدلناه ببدرٍ فاعتدلْ

٢٩١

٣ ـ إنّ الاُمويِّين قد عُرِفُوا بالغدر ونقض العهود ؛ فقد صالح الحسن معاوية ، وسلّم إليه الخلافة ومع ذلك فقد غدر معاوية به فدسّ إليه سمّاً فقتله ، وأعطوا الأمان لمسلم بن عقيل فخانوا به.

وقد ذكرنا في البحوث السابقة مجموعة من الشخصيات التي اغتالها معاوية خشية منهم.

وقد أعلن الإمام الحُسين (عليه السّلام) أنّ بني أُميّة لا يتركونه. يقول (عليه السّلام) لأخيه محمّد بن الحنفيّة : «لو دخلت في جحر هامة مِنْ هذه الهوام لاستخرجوني حتّى يقتلوني».

وقال (عليه السّلام) لجعفر بن سليمان الضبعي : «والله ، لا يدعوني حتّى يستخرجوا هذه العلقة ـ يعني قلبه الشريف ـ مِنْ جوفي». واختار (عليه السّلام) أنْ يعلن الحرب ويموت ميتة كريمة تهزّ عروشهم ، وتقضي على جبروتهم وطغيانهم.

هذه بعض الأسباب التي حفّزت أبا الأحرار إلى الثورة على حكم يزيد.

رأيٌ رخيص :

ووصف جماعة مِن المتعصّبين لبني أُميّة خروج الإمام على يزيد بأنّه كان مِنْ أجل المُلْك والظفر بخيرات البلاد ، وهذا الرأي ينمّ عن حقدهم على الإمام بما أحرزه مِن الانتصارات الرائعة في نهضته المباركة التي لمْ يظفر بمثل معطياتها أيّ مصلح اجتماعي في الأرض ، وقد يكون لبعضهم العذر لجهلهم بواقع النهضة الحسينيّة وعدم الوقوف على أسبابها.

لقد كان الإمام على يقين بإخفاق ثورته في الميادين العسكرية ؛ لأنّ خصمه كان يدعمه جند مكثّف اُولوا قوّة واُولوا بأس شديد ، وهو لمْ تكن عنده أيّة قوّة عسكرية ليحصل على المُلْك ، ولو كان المُلْك غايته كما يقولون لعاد

٢٩٢

إلى الحجاز ، أو مكان آخر حينما بلغه مقتل سفيره مسلم بن عقيل وانقلاب الكوفة عليه ، ويعمل حينئذ مِنْ جديد على ضمان غايته ونجاح مهمّته. لقد كان الإمام (عليه السّلام) على علم بأنّ الأوضاع السائدة كلّها كانت في صالح بني أُميّة ، وليس منها ممّا يدعمه أو يعود لصالحه.

يقول ابن خلدون : إنّ هزيمة الحُسين كانت أمراً محتّماً ؛ لأنّ الحُسين لمْ تكن له الشوكة التي تمكّنه مِنْ هزيمة الاُمويِّين ؛ لأنّ عصبية مضر في قريش ، وعصبية قريش في عبد مناف ، وعصبية عبد مناف في بني أُميّة ، فعرف ذلك لهم قريش وسائر الناس لا ينكرونه(١) .

لقد كانت ثورة الإمام مِنْ أجل غاية لا يفكّر بها أولئك الذين فقدوا وعيهم واختيارهم ، فقد كان خروجه على حكم يزيد مِنْ أجل حماية المُثُل الإسلاميّة والقِيَم الكريمة مِن الاُمويِّين الذين حملوا معول الهدم.

يقول بعض الكتاب المعاصرين : ويحقّ لنا أنْ نسأل ماذا كان هدف الحُسين (عليه السّلام) ، وماذا كانت القضية التي يعمل مِنْ أجلها؟

أمّا لو كان هدفه شخصيّاً يتمثّل في رغبته في إسقاط يزيد ليتولّى هو بنفسه الخلافة التي كان يطمع إليها ، ما وجدنا فيه هذا الإصرار على التقدّم نحو الكوفة رغم وضوح تفرّق الناس مِنْ حوله ، واستسلامهم لابن زياد وحملهم السلاح في أعداد كثيرة لمواجهته والقضاء عليه.

إنّ أقصر الناس نظراً كان يدرك أنّ مصيره لنْ يختلف عمّا آل إليه فعله ، ولو كان الحُسين بهذه المكانة مِنْ قصر النظر لعاد إلى مكّة ليعمل مِنْ جديد للوصول إلى منصب الخلافة. ولو كان هدفه في أول الأمر الوصول إلى منصب الخلافة ثمّ لمّا بلغه مصرع ابن عمّه وقرّروا صلة السفر للثأر

__________________

(١) المقدمة / ١٥٢.

٢٩٣

مِنْ قاتليه ـ كما يزعم بعض الباحثين ـ استجابة لقضية أهله وأقاربه. لو كان هذا هدفه لأدرك أنّ جماعته التي خرجت معه للثأر وهي لا تزيد على التسعين ؛ رجالاً ونساءً وأطفالاً ، لنْ تصل إلى شيء مِنْ ذلك مِنْ دون أنْ يقضى على أفرادها جميعاً ، وبغير أنْ يضحّي هو بنفسه ضحيّة رخيصة في ميدان الثأر.

ومِنْ ثمّ يكون مِنْ واجبه للثأر أنْ يرجع ليعيد تجميع صفوف أنصاره وأقربائه ، ويتقدّم في الجمع العظيم مِن الغاصبين والموتورين.

فالقضية إذاً ليست قضية ثأر ، والهدف ليس هدفاً شخصيّاً ، وإنّما الأمر أمر الأُمّة ، والقضية كانت للحقّ ، والإقدام إقدام الفدائي الذي أراد أنْ يُضربَ المثل بنفسه في البذل والتضحية ، ولمْ يكن إصرار الحُسين على التقدّم نحو الكوفة بعد ما علم مِنْ تخاذل أهلها ونكوصهم عن الجهاد إلاّ ليجعل مِنْ استشهاده علماً تلتفّ حوله القلّة التي كانت لا تزال تؤمن بالمُثُل ، وتلتمس في القادة مَنْ يُنير لها طريق الجدّ في الكفاح ، وتحريكاً لضمائر المتخاذلين القاعدين عن صيانة حقوقهم ورعاية صوالحهم.

وألمّ هذا القول بالواقع المشرق الذي ناضل مِنْ أجله الإمام الحُسين ، فهو لمْ يستهدف أي مصلحة ذاتية ، وإنّما استهدف مصلحة الأُمّة وصيانتها مِن الاُمويِّين.

تخطيط الثورة :

ودرس الإمام الحُسين (عليه السّلام) أبعاد الثورة بعمق وشمول ، وخطّط أساليبها بوعي وإيمان ، فرأى أنْ يزجَّ بجميع ثقله في المعركة ويضحّي بكلّ شيء ؛ لإنقاذ الأُمّة مِنْ محنتها في ظلّ ذلك الحكم الأسود الذي تنكّر لجميع متطلبات الأُمّة.

وقد أدرك المستشرق الألماني (ماريين) تخطيط الإمام

٢٩٤

الحُسين لثورته ، فاعتبر أنّ الحُسين قد توخّى النصر منذ اللحظة الأولى وعلم النصر فيه ، فحركة الحُسين في خروجه على يزيد ـ كما يقول ـ إنّما كانت عزمة قلب كبير عزّ عليه الإذعان ، وعزّ عليه النصر العاجل ، فخرج بأهله وذويه ذلك الخروج الذي يبلغ به النصر الآجل بعد موته ، ويحيي به قضية مخذولة ليس لها بغير ذلك حياة.

لقد أيقن أبو الشهداء (عليه السّلام) أنّ القضية الإسلاميّة لا يمكن أنْ تنتصرَ إلاّ بفخامة ما يقدّمه مِن التضحيات ، فصمّم بعزم وإيمان على تقديم أروع التضحيات ، وهذه بعضها :

١ ـ التضحية بنفسه :

وأعلن الإمام (عليه السّلام) عن عزمه على التضحية بنفسه فأذاع ذلك في مكّة ، فأخبر المسلمين أنّ أوصالَه سوف تتقطّع بين النواويس وكربلاء ، وكان في أثناء مسيرته إلى العراق يتحدّث عن مصرعه ، ويشابه بينه وبين أخيه يحيى بن زكريا ، وأنّ رأسه الشريف سوف يُرفع إلى بغي مِنْ بغايا بني أُميّة ، كما رُفِعَ رأس يحيى إلى بغي مِنْ بغايا بني إسرائيل.

لقد صمّم على الموت ، واستهان بالحياة مِنْ أجل أنْ تُرتفع راية الحقّ ، وتعلو كلمة الله في الأرض ، وبقي صامداً على عزمه الجبّار ، فلم يرتهب حينما أحاطت به الجيوش الهائلة وهي تُبيد أهل بيته وأصحابه في مجزرة رهيبة اهتزّ مِنْ هولها الضمير الإنساني ، وقد كان في تلك المحنة الحازبة مِنْ أربط الناس جأشاً وأمضاهم جناناً ، فلمْ يرَ قبله ولا بعده شبيهاً له في شدّة بأسه وقوة عزيمته ، كما لا يعرف التاريخ في جميع مراحله تضحية أبلغ أثراً في

٢٩٥

حياة الناس مِنْ تضحيته (عليه السّلام) ، فقد بقيت صرخة مدوّية في وجوه الظالمين والمتسبدّين.

٢ ـ التضحية بأهل بيته (عليهم السّلام) :

وأقدم أبو الشهداء (عليه السّلام) على أعظم تضحية لمْ يقدّمها أيّ مصلح اجتماعي في الأرض ، فقد قدّم أبناءه وأهل بيته وأصحابه فداءً لما يرتأيه ضميره مِنْ تعميم العدل وإشاعة الحقّ والخير بين الناس.

وقد خطّط هذه التضحية وآمن بأنّها جزء مِنْ رسالته الكبرى ، وقد أذاع ذلك وهو في يثرب حينما خفّت إليه السيّدة أم سلمة زوج النّبي تعدله عن الخروج ، فأخبرها عن قتله وقتل أطفاله. وقد مضى إلى ساحات الجهاد وهو متسلّح بهذا الإيمان ، فكان يشاهد الصفوة مِنْ أصحابه الذين هم مِنْ أنبل مَنْ عرفتهم الإنسانية في ولائهم للحقّ وهم يتسابقون إلى المنيّة بين يديه ، ويرى الكواكب مِنْ أهل بيته وأبنائه وهم في غضارة العمر وريعان الشباب وقد تناهبت أشلاءهم السيوفُ والرماحُ ، فكان يأمرهم بالثبات والخلود إلى الصبر قائلاً : «صبراً يا بني عمومتي ، صبراً يا أهل بيتي ، لا رأيتم هواناً بعد هذا اليوم أبداً».

واهتزّت الدنيا مِنْ هول هذه التضحية التي تمثّل شرف العقيدة وسموّ القصد ، وعظمة المبادئ التي ناضل مِنْ أجلها ، وهي من دون شك ستبقى قائمة على ممرّ القرون والأجيال تضيء للناس الطريق ، وتمدّهم بأروع الدروس عن التضحية في سبيل الحقّ والواجب.

٢٩٦

٣ ـ التضحية بأمواله :

وضحى أبيّ الضيم بجميع ما يملك فداءً للقرآن ووقاية لدين الله ، وقد هجمت بعد مقتله الوحوش الكاسرة مِنْ جيوش الاُمويِّين على مخيّمه فتناهبوا ثقله ومتاعه حتّى لمْ يتركوا ملحفة أو إزاراً على مخدرات الرسالة إلاّ نهبوه ، ومثّلوا بذلك خسّة الإنسان حينما يفقد ذاتياته ويُمسخ ضميره.

٤ ـ حمل عقائل النّبوة :

وكان مِنْ أروع ما خطّطه الإمام العظيم (عليه السّلام) في ثورته الكبرى حمله لعقائل النّبوة ومخدّرات الرسالة إلى كربلاء ، وهو يعلم ما سيجري عليهنّ مِنْ النّكبات والخطوب ، وقد أعلن ذلك حينما عذله ابن عباس عن حملهنّ معه إلى العراق ، فقال له : «قد شاء الله أنْ يراهنَّ سبايا».

لقد أراد (عليه السّلام) بذلك أنْ يستكمل أداء رسالته الخالدة في تحرير الأُمّة ، وإنقاذها مِن الاستبعاد الاُموي. وقد قمْنَ تلك السيدات بدور مشرق في إكمال نهضة أبي الشهداء (عليه السّلام) فأيقظنَ المجتمع بعد سباته ، وأسقطنَ هيبة الحكم الاُموي وفتحن باب الثورة عليه ، ولولاهن لمْ يتمكن أحد أنْ يفوه بكلمة واحدة أمام ذلك الطغيان الفاجر.

وقد أدرك ذلك كلّ مَنْ تأمّل في نهضة الإمام ودرس أبعادها. وقد ألمع إليها بعض العلماء والكتّاب ، وفيما يلي بعضهم :

٢٩٧

١ ـ الإمام كاشف الغطاء :

وأكّد الإمام الشيخ محمّد الحُسين آل كاشف الغطاء (رحمه الله) في كثير مِنْ مؤلفاته أنّ الغاية مِنْ خروج الإمام بعائلته إلى كربلاء إكمالاً لنهضته ، وبلوغاً إلى هدفه في تحطيم دولة الاُمويِّين ، يقول : وهل تشكّ وترتاب في أنّ الحُسين (عليه السّلام) لو قُتِلَ هو وولْده ولمْ يتعقّبه قيام تلك الحرائر في تلك المقامات بتلك التحديات لذهب قتله جباراً ، ولمْ يطلب به أحد ثاراً ولضاع دمه هدراً ، فكان الحُسين يعلم أنّ هذا علم لابد منه ، وأنّه لا يقوم به إلاّ تلك العقائل فوجب عليه حتماً أنْ يحملهنَّ معه ؛ لا لأجل المظلومية بسبيهنَّ فقط ، بل لنظر سياسي وفكر عميق وهو تكميل الغرض وبلوغ الغاية مِنْ قلب الدولة على يزيد ، والمبادرة إلى القضاء عليها قبل أنْ تقضي على الإسلام وتعود الناس إلى جاهليتها الأولى(١) .

٢ ـ أحمد فهمي :

يقول الاُستاذ السيّد أحمد فهمي : وقد أدرك الحُسين أنّه مقتول ؛ إذ هو يعلم علم اليقين قُبْحَ طويّة يزيد ، وإسفاف نحيزته وسوء سريرته ، فيزيد بعد قتل الحُسين ستمتد يده إلى أنْ يؤذي النّبي (صلّى الله عليه وآله) في سلالته مِنْ قتل الأطفال الأبرياء وانتهاك حرمة النساء ، وحملهنَّ ومَنْ بقي مِن الأطفال مِنْ قفرةٍ إلى قفرةٍ ومِنْ بلدٍ إلى بلدٍ ، فيُثير مرأى أولئك حفيظة المسلمين ، فليس ثمّة أشنع ولا أفظع مِن التشفّي والانتقام مِن النساء والأطفال بعد قتل الشباب والرجال ، فهو بخروجه بتلك الحالة أراد أنْ يثأر

__________________

(١) تحدّث الإمام كاشف الغطاء عن هذه الجهة بالتفضيل في كتابه (السياسة الحسينيّة).

٢٩٨

مِنْ يزيد في خلافته ويقتله في كرامته ، وحقّاً لقد وقع ما توقّعه ، فكان لما فعله يزيد وعصبته مِنْ فظيع الأثر في نفوس المسلمين ، وزاد في أضغانهم ما عرضوا به سلالة النّبوة مِنْ هتك خدر النساء ، وهنَّ اللاتي ما عُرِفْنَ إلاّ بالصيانة والطهر والعزّ والمنعة ، ممّا أطلق ألسِنَة الشعراء بالهجاء والذمّ ، ونفر أكثر المسلمين مِنْ خلافة الاُمويِّين ، وأسخط عليهم قلوب المؤمنين ، فقد قتله الحُسين أشدّ مِنْ قتله إيّاه(١) .

٣ ـ أحمد محمود صبحي :

يقول الدكتور أحمد محمود صبحي : ثمّ رفض ـ يعني الحُسين ـ إلاّ أنْ يصحب أهله ؛ ليشهد الناس على ما يقترفه أعداؤه بما لا يبرّره دين ولا وزاع مِنْ إنسانية ، فلا تضيع قضيته مع دمه المراق في الصحراء فيفترى عليه أشدّ الافتراء حين يعدم الشاهد العادل على كلّ ما جرى بينه وبين أعدائه.

تقول الدكتورة بنت الشاطئ : أفسدت زينت أخت الحُسين على ابن زياد وبني أُميّة لذّة النصر ، وسكبت قطرات مِن السمّ الزعاف في كؤوس الظافرين ، وإنّ كلّ الأحداث السياسية التي ترتّبت بعد ذلك مِنْ خروج المختار وثورة ابن الزّبير ، وسقوط الدولة الاُمويّة وقيام الدولة العباسية ، ثمّ تأصل مذهب الشيعة إنّما كانت زينب هي باعثة ذلك ومثيرته(٢) .

أريد أنْ أقول : ماذا يكون الحال لو قُتِلَ الحُسين ومَنْ معه جميعاً مِن الرجال؟ ألا يسجّلَ التاريخ هذه الحادثة الخطيرة مِنْ وجهة نظر أعدائه

__________________

(١) ريحانة الرسول / ١٦٧.

(٢) بطلة كربلاء / ١٧٦ و ١٨٠.

٢٩٩

فيضيع كلّ أثر لقضيته مع دمه المسفوك في الصحراء؟(١)

هذه بعض الآراء التي تدعم ما ذكرناه مِنْ أنّ خروج الحُسين (عليه السّلام) بعائلته لمْ يكن الغرض منه إلاّ بلورة الرأي العام ، وإيضاح المقاصد الرفيعة التي ثار مِنْ أجلها ، ومِنْ أهمها القضاء على دولة الاُمويِّين التي كانت تشكّل خطراً مباشراً على العقيدة الإسلاميّة.

وهناك رأي آخر أدلى به العلاّمة المغفور له الشيخ عبد الواحد المظفر ، وهو : أنّ الحُسين إنّما خرج بعائلته خوفاً عليها مِنْ اعتقال الاُمويِّين وزجّها في سجونهم قال : الحُسين لو أبقى النساء في المدينة لوضعت السلطة الاُمويّة عليها الحَجْر ، لا بل اعتقلتها علناً وزجّتها في ظلمات السجون ، ولا بد له حينئذ مِنْ أحد أمرين خطيرين ، كلّ منهما يشلّ أعضاء نهضته المقدسة :

أمّا الاستسلام لأعدائه وإعطاء صفقته لهم طائعاً ليستنقذ العائلة المصونة ، وهذا خلاف الإصلاح الذي ينشده ، وفرض على نفسه القيام به مهما كلّفه الأمر مِن الأخطار ، أو يمضي في سبيل إحياء دعوته ، ويترك المخدّرات اللّواتي ضرب عليهن الوحي ستراً مِن العظمة والإجلال ، وهذا ما لا تطيق احتماله نفس الحُسين الغيور ، ولا يردع أُميّة رادع من الحياء ، ولا يزجرها زاجر من الإسلام.

إنّ أُميّة لا يهمّها اقتراف الشائن في بلوغ مقاصدها وإدراك غاياتها ، فتتوصل إلى غرضها ولو بارتكاب أقبح المنكرات الدينية والعقلية.

ألمْ يطرق سمعك سجن الاُمويِّين لزوجة عمرو بن الحمق الخزاعي ، وزوجة عبيد الله بن الحرّ الجعفي ، وأخيراً زوجة الكميت الأسدي؟!(٢)

__________________

(١) نظرية الإمامة لدى الشيعة الاثنى عشرية / ٣٤٣.

(٢) توضيح الغامض من أسرار السنن والفرائض / ٢٩٧ ـ ٢٩٨.

٣٠٠

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

معاوية بالهزيمة الساحقة ، فاستجاب لهم الإمام على كره ، وقد حذّرهم مِنْ أنّها مكيدة وخديعة فلمْ يكن يجدي ذلك معهم وأصروا على فكرتهم.

ولمّا استبان لهم ضلال ما اقترفوه أقبلوا على الإمام وهم يقولون له : إنّا قد كفرنا وتبنا فاعلن توبتك ، وقرّ على نفسك بالكفر لنكون معك ، فأبى (عليه السّلام) فاعتزلوه ، واتّخذوا لهم شعاراً (لا حكم إلاّ لله) ، وانغمسوا في الباطل ، وماجوا في الضلال ؛ فحاربهم الإمام (عليه السّلام) وقضى على الكثيرين منهم ، إلاّ أنّ البقيّة الباقية منهم ظلّت تواصل نشر أفكارها بنشاط ، وقد لعبت دوراً مهمّاً في إفساد جيش الإمام الحسن (عليه السّلام) حتّى اضطر إلى الصلح مع معاوية ، كما كان أكثر الجيش الذي زجّه ابن زياد لحرب الإمام الحُسين مِن الخوارج ، وكانوا موتورين مِن الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) ، فرووا أحقادهم مِنْ أبنائه الطيّبين في كارثة كربلاء.

الحزب الاُموي :

وهؤلاء يمثّلون وجوه الكوفة وزعماءها ، كقيس بن الأشعث وعمرو بن الحجّاج الزبيدي ، ويزيد بن الحرث وشبث بن ربعي ، وعمرو بن حُريث وعمر بن سعد ، وكانوا يدينون بالولاء لبني اُميّة ، ويرون أنّهم أحقّ بالخلافة وأولى بزعامة الاُمّة مِنْ آل البيت (عليهم السّلام).

وقد لعبوا دوراً خطيراً في فشل ثورة مسلم ، كما زجّوا الناس لحرب الإمام الحُسين.

٤٤١

الشيعة :

وهي التي تدين بالولاء لأهل البيت (عليهم السّلام) ، وترى أنّه فرض ديني ، وقد أخلصت شيعة الكوفة في الولاء لهم ، أمّا مظاهر حبّهم فهي :

1 ـ الخطب الحماسية التي يُمجّدون فيها أهل البيت ويذكرون فضلهم ومآثرهم ، وما شاهدوه مِنْ صنوف العدل والحق في ظلّ حكومة الإمام أمير المؤمنين.

2 ـ الدموع السخية التي يهريقونها حينما يذكرون آلام آل البيت (عليه السّلام) وما عانوه في عهد معاوية مِن التوهين والتنكيل ، ولكنّهم لمْ يبذلوا أيّ تضحية تذكر لعقيدتهم ، فقد كان تشيّعهم عاطفيّاً لا عقائديّاً ، وقد تخلّوا عن مسلم وتركوه فريسة بيد الطاغية ابن مرجانة.

ويروي البلاذري أنّهم كانوا في كربلاء ، وهم ينظرون إلى ريحانة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وقد تناهبت جسمه الشريف السيوف والرماح فكانوا يبكون ، ويدعون الله قائلين : اللّهم انزل نصرك على ابن بنت نبيك. فانبرى إليهم أحدهم فأنكر عليهم ذلك الدعاء ، وقال لهم : هلاّ تهبّون إلى نصرته بدل هذا الدعاء ، وقد جرّدهم الإمام الحُسين (عليه السّلام) مِنْ إطار التشيّع وصاح بهم : «يا شيعة آل أبي سفيان ...».

والحقّ أنّ الشيعة بالمعنى الصحيح لمْ تكن إلاّ فئة نادرة في ذلك العصر ، وقد التحق بعضهم بالإمام الحُسين واستشهدوا معه ، كما زُجّ الكثيرون منهم في ظلمات السجون.

وعلى أيّ حالٍ ، فلمْ يكن المسلمون في الكوفة على رأي واحد وإنّما كانت هناك انقسامات خطيرة بين صفوفهم.

٤٤٢

النصارى :

مِن العناصر التي سكنت الكوفة النصارى ، فقد أقبلوا إليها مِن الحيرة بعد زوال مجدها وقد أقاموا لهم في الكوفة عدّة كنائس ، فقد كانت لهم كنيسة في ظهر قبلة المسجد الأعظم(1) ، وكان لهم أسقفان ؛ أحدهما نسطوري والآخر يعقوبي(2) ، وكانوا طائفتين :

1 ـ نصارى تغلب :

وقد استوطنوا الكوفة عند تخطيطها مع سعد ، وكانت لهذه الطائفة عزّة ومنعة(3) ، وقد رفض أبناؤها دفع الجزية ممّا اضطر عمر أنْ يعاملهم معاملة المسلمين فجعل جزيتهم مثل صدقة المسلمين(4) .

2 ـ نصارى نجران :

نزلوا الكوفة في خلافة عمر ، واستوطنوا في ناحية منها سمّيت محلّة (النجرانية)(5) .

وقد شاركت النصارى مشاركة إيجابية في كثير مِنْ أعمال الدولة ، فقد اتّخذ أبو موسى الأشعري أمير الكوفة كاتباً نصرانياً(6) ، كما ولّى الوليد بن عقبة والي عثمان رجلاً مسيحياً لإدارة شؤون مسجد قريب مِن الكوفة(7) .

__________________

(1) فتوح البلدان / 284.

(2) خطط الكوفة / 35.

(3) تاريخ الطبري.

(4) تاريخ الطبري.

(5) حياة الشعر في الكوفة / 144.

(6) عيون الأخبار 1 / 43.

(7) الأغاني 4 / 184.

٤٤٣

وقد شغل المسيحيون في الكوفة أعمالَ الصيرفة وكوّنوا أسواقاً لها(1) ، وكانت الحركة المصرفية بأيديهم ، كما كانوا يقومون بعقد القروض لتسهيل التجارة ، وكانت تجارة التبادل والصيرفة بأيديهم(2) ، وقد مهروا في الصيرفة ونظّموها على شكل يشبه البنوك في هذا العصر.

وكانت هذه البنوك الأهلية تستقرض منها الحكومة المحلّية الأموال إذا حدثت ثورة في القطر ، فكانت الأموال توزّع على أعضاء الثورة لإخمادها. وقد استقرض منها ابن زياد الأموال فوزّعها على وجوه الكوفة وأشرافها للقضاء على ثورة مسلم.

وعلى أيّ حالٍ ، فإنّ المجتمع الكوفي كان مزيجاً بين المسلمين والمسيحيين ، وكانت العلاقة بينهما وثيقة للغاية.

اليهود :

واستوطن اليهود الكوفة سنة (20 هـ)(3) ، وقد قدِمَ قسمٌ كبير منهم مِن الحجاز بعد أنْ أجلاهم منها عمر بن الخطاب(4) ، وقد كانت لهم محلّة تُعرف باسمهم في الكوفة ، كما بنوا فيها معابد لهم. ويذكر الرحّالة (بنيامين)

__________________

(1) تاريخ الكوفة / 146 ، يبدأ سوق البنوك والصيرفة مِنْ مسجد سهيل إلى المسجد الأعظم ، كما نصّت على ذلك بعض المصادر.

(2) خطط الكوفة / 146.

(3) نزهة المشتاق في تاريخ يهود العراق ـ يوسف رزق الله غنيمة / 103.

(4) الحياة الاجتماعية والاقتصادية في الكوفة / 105.

٤٤٤

إنّ بالكوفة سبعة آلاف يهودي ، وفيها قبر يسكنه اليهود وحوله كنيس لهم(1) ، وقد زاولوا بعض الحرف التي كان العرب يأنفون منها كالصياغة وغيرها ، وكانت اليهود تحقد على الرسول (صلّى الله عليه وآله) كأعظم ما يكون الحقد ؛ لأنّه أباد الكثيرين منهم وألحق بهم العار والهزيمة. وقد قاموا بدور فعّال ـ فيما يقول بعض المحققين ـ في مجزرة كربلاء تشفّياً مِن النّبي (صلّى الله عليه وآله) بأبنائه وذريته. وبهذا ينتهي بنا الحديث عن بعض الأديان السائدة في الكوفة ، وقد اشترك معظمها في حركات الجهاد وعمليات الحروب في ذلك العصر.

تنظيم الجيش :

واُنشأت الكوفة لتكون معسكراً للجيوش الإسلاميّة ، وقد نُظِّمَ الجيش فيها على أساس قبلي ، كما كانوا مرتّبين وفق قبائلهم ، وكانوا يقسّمون في معسكراتهم باعتبار القبائل والبطون التي ينتمون إليها ، وقد رتّبت كما يلي :

نظام الأسباع :

ووزّع الجيش توزيعاً سباعياً يقوم قبل كلّ شيء على أساس قبلي ، بالرغم مِنْ أنّهم كانوا يُقاتلون في سبيل الله ، إلاّ أنّ الروح القبلية كانت سائدة ولمْ تضعف ، وفيما يلي أنظمتها :

السبع الأول : كنانة وحلفاؤها مِن الأحابيش وغيرهم ، وجديلة وكانوا أعواناً طيّعين للولاة القرشيين منذ إمارة سعد ، وتولّوا بإخلاص

__________________

(1) رحلة بنيامين ترجمة عزار حدّاد / 146.

٤٤٥

عمّال بني اُميّة وولاتهم.

السبع الثاني : قضاعة وغسّان وبجيلة وخثعم وكندة وحضرموت والأزد.

السبع الثالث : مذحج وحِمْيَر وهمدان وحلفاؤهم ، وقد اتّسموا بالعداء لبني اُميّة ، والمساندة الكاملة للإمام علي وأبنائه (عليهم السّلام).

السبع الرابع : تميم وسائر الرباب وحلفاؤهم.

السبع الخامس : أسد وغطفان ، ومحارب وضبيعة ، وتغلب والنمر.

السبع السادس : إياد وعكّ وعبد القيس ، وأهل هجر والحمراء.

السبع السابع : طي(1) .

وتحتوي هذه الأسباع على قطعات قبلية مِن الجيش ، وقد استعمل هذا النظام لأجل التعبئة العامّة للحروب التي جرت في ذلك العصر ، وتوزيع الغنائم عليها بعد العودة مِن الحرب ، وظلّت الكوفة على هذا التقسيم ، حتّى إذا كانت سنة (50 هـ) عمد زياد بن أبيه حاكم العراق فغيّر ذلك المنهج وجعله رباعياً ، فكان على النحو التالي :

1 ـ أهل المدينة : وجعل عليهم عمرو بن حريث.

2 ـ تميم وهمدان : وعليهم خالد بن عرفطة.

3 ـ ربيعة بكر وكندة : وعليهم قيس بن الوليد بن عبد شمس.

4 ـ مذحج وأسد(2) : وعليهم أبو بردة بن أبي موسى.

وإنّما عمد إلى هذا التغيير ؛ لإخضاع الكوفة لنظام حكمه ، كما إنّ الذين انتخبهم لرئاسة الأنظمة قد عُرفوا بالولاء والإخلاص للدولة ، وقد استعان بهم ابن زياد لقمع ثورة مسلم ، كما تولّى بعضهم قيادة الفرق التي

__________________

(1) حياة الشعر في الكوفة / 29 ـ 30.

(2) خطط الكوفة / 15 ـ 16.

٤٤٦

زجّها الطاغية لحرب الإمام الحُسين ، فقد كان عمرو بن حريث وخالد بن عرفطة من قادة ذلك الجيش. أمّا رؤوساء الأنظمة فقد كانت الدولة لا تنتخب إلاّ مِنْ ذوي المكانة الاجتماعية المعروفين بالنّجدة والبسالة والتجربة في الحرب(1) .

ورؤوساء الأرباع يكونون خاضعين للسلطة الحكومية ، كما إنّ اتصال السلطة بالشعب يكون عن طريقهم ، ونظراً لأهميتهم البالغة في المصر ، فقد كتب إليهم الإمام الحُسين يدعوهم إلى نصرته والذبّ عنه(2) .

العرافة :

وكانت الدولة تعتمد على العرفاء(3) ، فكانوا يقومون بأمور القبائل ويوزّعون عليهم العطاء ، كما كانوا يقومون بتنظيم السجّلات العامّة التي فيها أسماء الرجال والنساء والأطفال ، وتسجيل مَنْ يولد ليفرض له العطاء مِن الدولة وحذف العطاء لمَنْ يموت(4) ، كما كانوا مسؤولين عن شؤون الأمن والنظام ، وكانوا في أيّام الحرب يندبون الناس للقتال ، ويحثّونهم على

__________________

(1) تاريخ الطبري 7 / 207.

(2) أنساب الأشراف 5 / 245.

(3) العرفاء : جمع عريف ، وهو مَنْ يعرف أصحابه ، ومنه الحديث (فارجعوا حتّى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم). والعريف : هو القائم باُمور القبيلة والجماعة مِن الناس يلي اُمورهم ، ويتعرّف الأمير منه أحوالهم. جاء ذلك في تاج العروس 1 / 194.

(4) الحياة الاجتماعية والاقتصادية في الكوفة / 53.

٤٤٧

الحرب ، ويخبرون السلطة بأسماء الذين يتخلّفون عن القتال(1) ، وإذا قصّر العرفاء أو أهملوا واجباتهم فإنّ الحكومة تعاقبهم أقسى العقوبات وأشدّها(2) .

ومِنْ أهم الأسباب في تفرّق الناس عن مسلم هو قيام العرفاء في تخذيل الناس عن الثورة ، وإشاعة الإرهاب والأراجيف بين الناس(3) ، كما كانوا السبب الفعّال في زجّ الناس وإخراجهم لحرب الإمام الحُسين (عليه السّلام)(4) .

إلى هنا ينتهي بنا الحديث عن مظاهر الحياة الاجتماعية في الكوفة ، وكان الإلمام بها مِنْ ضرورات البحث ؛ وذلك لما لها مِن الأثر في إخفاق الثورة.

الطاغية ابن مرجانة :

ولا بد لنا أنْ نتعرّف على قائد الانقلاب الطاغية ابن مرجانة فنقف على نشأته وصفاته ، ومخطّطاته الرهيبة التي أدّت إلى القضاء على الثورة ، وإلى القرّاء ذلك.

ولادته :

ولد الطاغية سنة (39 هـ) ، وقد ولد لخلق الكوارث وإشاعة الخطوب في الأرض ، وعلى هذا فيكون عمره يوم قتله لريحانة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) (21 سنة) ، ولمْ تعيّن المصادر التي بأيدينا المكان الذي ولد فيه.

__________________

(1) تاريخ الطبري 7 / 226.

(2) الأغاني 2 / 179.

(3) البداية والنهاية 8 / 154.

(4) البداية والنهاية 8 / 284.

٤٤٨

أبواه :

أمّا أبوه فهو زياد بن سُميّة ، وهو مِنْ عناصر الشرّ والفساد في الأرض ، فقد سمل عيون الناس وصلبهم على جذوع النخل ، وقتل على الظنّة والتّهمة وأخذ البريء بذنب السقيم ، وأغرق العراق بالحزن والثكل والحداد.

وأمّا اُمّه مرجانة فكانت مجوسية(1) ، وقد عُرِفَتْ بالبغي ، وقد عرض بها عبيد الله التميمي أمام ابنها عبيد الله فقال : إنّ عمر بن الخطاب كان يقول : اللّهم إنّي أعوذ بك مِن الزانيات وأبناء الزانيات ، فالتاع ابن زياد وردّ عليه : إنّ عمر كان يقول : لمْ يقمْ جنين في بطن حمقاء تسعة أشهر إلاّ خرج مائقاً(2) . وفارق زياد مرجانة فتزوّج بها شيرويه(3) .

نشأته :

نشأ الطاغية في بيت الجريمة ، وقد قطع دور طفولته في بيت زوج اُمّه شيرويه ولمْ يكن مسلماً ، ولمّا ترعرع أخذه أبوه زياد وقد ربّاه على سفك الدماء والبطش بالناس وربّاه على الغدر والمكر ، وقد ورث جميع صفات أبيه الشريرة مِن الظلم والتلذّذ بالإساءة إلى الناس ، وقد كان لا يقلّ قسوة عن أبيه ، وقد قال الطاغية في بعض خطبه : أنا ابن زياد أشبهته مِنْ بين مَنْ وطأ الحصا ، ولمْ ينتزعني شبه

__________________

(1) البداية والنهاية 8 / 284.

(2) البيان والتبيين 2 / 242.

(3) البيان والتبيين 1 / 72.

٤٤٩

خال ولا ابن عمّ(1) . لقد كان كأبيه في شدّته وصرامته في الباطل وتنكّره للحقّ.

صفاته :

أمّا صفاته النفسية فكان مِنْ أبرزها القسوة والتلذّذ بسفك الدماء ، وقد أخذ امرأة مِنْ الخوارج فقطع يديها ورجليها وأمر بعرضها في السوق(2) .

ووصفه الحسن البصري بأنّه غلام سفيه سفك الدماء سفكاً شديداً(3) .

ويقول فيه مسلم بن عقيل : ويقتل النفس التي حرّم الله قتلها على الغضب والعداوة وسوء الظنّ ، وهو يلهو ويلعب كأنّه لمْ يصنع شيئاً.

وكان متكبّراً لا يسمع مِنْ أحد نصيحة ، وقد دخل عليه الصحابي عائذ بن عمرو فقال له : أيّ بُني ، إنّي سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول : «إنّ شرّ الرعاء الحطمة(4) ، فإيّاك أنْ تكون منهم».

فلذعه قوله وصاح به : اجلسْ ، إنّما أنت مِنْ نخالة أصحاب رسول الله (صلّى الله عليه وآله). فأنكر عليه عائذ وقال : وهل كان فيهم نخالة؟! إنّما كانت النخالة بعدهم وفي غيرهم(5) .

__________________

(1) تاريخ الطبري.

(2) قصص العرب 1 / 214.

(3) سير أعلام النبلاء 3 / 357.

(4) الحطمة : القاسي الذي يظلم الناس.

(5) البداية والنهاية 8 / 285.

٤٥٠

وعُرف في أثناء ولايته على البصرة بالغشّ للرعية والخديعة لها ، وقد نصحه معقل بن يسار أنْ يترك ذلك ، وقال له : إنّي سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول : «ما مِنْ عبد يسترعيه الله ويموت وهو غاش لرعيته إلاّ حرّم الله عليه الجنّة»(1) .

هذه بعض نزعاته وصفاته النفسية ، أمّا صفاته الجسمية فقد كان منها ما يلي :

اللكنة :

ونشأ الطاغية في بيت اُمّه مرجانة ولمْ تكن عربية فأخذ لكنتها ، ولمْ يكن يفهم اللغة العربية ، فقد قال لجماعة : افتحوا سيوفكم ، وهو يريد سلّوا سيوفكم ، وإلى هذا يشير يزيد بن المفرغ في هجائه له :

ويوم فتحتَ سيفك مِنْ بعيدٍ

أضعتَ وكلّ أمركَ للضياعِ

وجرت بينه وبين سويد مشادّة ، فقال له عبيد الله : اجلس على أست الأرض ، فسخر منه سويد وقال : ما كنت أحسب أنّ للأرض أستاً(2) .

وكان لا ينطق بالحاء ، وقد قال لهانئ : أهروري سائر اليوم! يريد أحروري. وكان يقلب العين همزة ، كما كان يقلب القاف كافاً ، فقد قال يوماً : مَنْ كاتلنا كاتلناه ، يريد مَنْ قاتلنا قاتلناه(3) .

__________________

(1) صحيح مسلم 1 / 67.

(2) البيان والتبيين 1 / 73.

(3) البداية والنهاية 8 / 284.

٤٥١

نهمة في الطعام :

ويقول المؤرّخون : إنّه كان نهماً في الطعام ، فكان كلّ يوم يأكل خمس أكلات آخرها جنبة بغل ، ويوضع بين يديه بعد ما يفرغ عناق(1) أو جدي فيأتي عليه وحده(2) .

وكذلك كان مسرفاً في النساء ، فقد بنى ليلة قدومه إلى الكوفة باُمّ نافع بنت عمارة بن عقبة بن أبي معيط(3) . هذه بعض صفاته الجسمية.

ولايته على البصرة :

وأسند إليه معاوية إمارة البصرة وولاّه أمور المسلمين ، وكان في ميعة الشباب وغروره وطيشه ، وقد ساس البصرة كما ساسها أبوه ؛ فكان يقتل على الظنّة والتّهمة ، ويأخذ البريء بالسقيم ، والمقبل بالمدبر.

وقد وثق به معاوية وارتضى سيرته ، وكتب إليه بولاية الكوفة إلاّ أنّه هلك قبل إنْ يبعث إليه بهذا العهد.

__________________

(1) العناق : الاُنثى من أولاد المعز.

(2) نهاية الإرب 3 / 343.

(3) مرآة الزمان / 285.

٤٥٢

أحقاد يزيد على ابن مرجانة :

وكان يزيد ناقماً على ابن مرجانة كأشدّ ما يكون الانتقام ؛ لاُمور كان مِنْ أهمّها :

إنّ أباه زياداً كان مِن المنكرين على معاوية ولايته ليزيد ؛ لاستهتاره وإقباله على اللّهو والمجون ، وقد أراد يزيد أنْ يعزل عبيد الله مِن البصرة ويجرّده مِن جميع الامتيازات ، إلاّ أنّه لمّا أعلن الإمام الحُسين (عليه السّلام) الثورة وبعث سفيره مسلماً لأخذ البيعة مِنْ أهل الكوفة ، أشار عليه سرجون بأنْ يقرّه على ولاية البصرة ويضمّ إليه الكوفة ، ويندبه للقضاء على الثورة فاستجاب له يزيد.

وقد خلص العراق بأسره لحكم ابن زياد فقبض عليه بيد مِنْ حديد ، واندفع كالمسعور للقضاء على الثورة ؛ ليحرز بذلك ثقة يزيد به وينال إخلاص البيت الاُموي له.

مخطّطات الانقلاب :

وبالرغم مِنْ حداثة سن ابن زياد فإنّه كان مِنْ أمهر السياسيين في الانقلابات ، وأكثرهم تغلّباً على الأحداث ، وقد استطاع بغدره ومكره أنْ يسيطر على حامية الكوفة ، ويقضي على جذور الثورة ويخمد نارها.

وقد كانت أهمّ مخطّطاته ما يلي :

1 ـ التجسّس على مسلم والوقوف على جميع شؤون الثورة.

2 ـ نشر أوبئة الخوف : وقد أثار جوّاً مِن الفزع والإرهاب لمْ تشهد له الكوفة نظيراً ، وانشغل الناس بنفوسهم عن التدخّل في أيّ شأن مِن الشؤون السياسية.

3 ـ بذل المال للوجوه والأشراف : وقد صاروا عملاء عنده يوجههم

٤٥٣

حيثما شاء ؛ وقد أفسدوا عشائرهم وألحقوا الهزيمة بجيش مسلم.

4 ـ الاحتيال على هانئ بإلقاء القبض عليه : وهو أمنع شخصية في المصر ، وقد قضى بذلك على أهمّ العناصر الفعّالة في الثورة.

هذه بعض المخطّطات الرهيبة التي استطاع أنْ يسيطر بها الطاغية على الموقف ، ويقضي على الثورة ويزجّ حامية الكوفة إلى حرب ريحانة رسول الله (صلّى الله عليه وآله).

مسلم بن عقيل :

أمّا مسلم بن عقيل فكان مِنْ أعلام التقوى في الإسلام ، وكان متحرّجاً في دينه كأشدّ ما يكون التحرّج ، فلمْ يسلك أيّ منعطف في طريقه ، ولا يقرّ أيّ وسيلة مِنْ وسائل المكر والخداع ، وإنّ توقّف عليها النصر السياسي ، شأنه في ذلك شأن عمّه أمير المؤمنين (عليه السّلام).

بالإضافة إلى ذلك : إنّه لمْ يُبعثْ إلى الكوفة كوالٍ مطلق حتّى يتصرّف حسبما يراه ؛ وإنّما كانت مهمّته محدودة وهي أخذ البيعة للإمام ، والاستطلاع على حقيقة الكوفيين. فإنْ رآهم مجتمعين بعث إلى الإمام الحُسين بالقدوم إليهم ، ولمْ يؤمر بغير ذلك ، وقد أطلنا الحديث في هذه الجهة في البحوث السابقة.

وبهذا ينتهي بنا الحديث عن إخفاق ثورة مسلم التي كانت فاتحة لفاجعة كربلاء ومصدراً لآلامها العميقة ، كما ينتهي بنا الحديث عن الحلقة الثانية مِن هذا الكتاب.

٤٥٤

محتويات الكتاب

المُقدّمة7

مع القاسطين والناكثين 21

الناكثون :24

دوافع التمرّد :24

خديعة معاوية للزبير :26

مؤتمر مكة :26

قرارات المؤتمر :27

تجهيز الجيش بالأموال المنهوبة :27

الخطاب السّياسي لعائشة :28

عائشة مع أُمّ سلمة :29

الزحف إلى البصرة :31

عسكر :31

الحوأب :32

في ربوع البصرة :33

النزاعُ على الصلاة :38

رُسل الإمام (عليه السّلام) إلى الكوفة :38

التقاءُ الجيشين :40

رُسل السّلام :40

الدعوة إلى القرآن :41

الحربُ العامة :42

مصرعُ الزبير :43

مصرعُ طلحة :46

٤٥٥

قيادةُ عائشة للجيش :46

عقرُ الجمل :47

العفو العام :48

متاركُ الحرب :50

القاسطون :51

إيفادُ جرير :53

معاوية مع ابن العاص :53

ردُّ جرير :56

قميصُ عثمان :56

زحفُ معاوية لصفّين :57

زحفُ الإمام (عليه السّلام) للحرب :57

احتلالُ الفرات :58

رسلُ السلام :59

الحربُ :60

منعُ الحسنين (عليهما السّلام) من الحرب :61

مصرعُ عمّار :62

مكيدةُ ابن العاص :65

التحكيمُ :70

وثيقةُ التحكيم :71

رجوعُ الإمام (عليه السّلام) للكوفة :72

مع المارقين :73

اجتماعُ الحكمين :75

تمرّدُ المارقين :81

قتالُ المارقين :83

٤٥٦

مخلّفات الحرب :85

1 ـ انتصار معاوية :85

2 ـ تفلّل جيش الإمام (عليه السّلام) :86

3 ـ احتلال مصر :87

الغارات :89

الغارة على العراق :89

1 ـ عين التّمر :89

2 ـ هيت :90

3 ـ واقصة :92

الغارة على الحجاز واليمن :93

عبثُ الخوارج :95

دعاءُ الإمام (عليه السّلام) على نفسه :96

اُفول دولة الحق 99

مؤتمرُ مكة :103

رأيٌ رخيص :103

اشتراكُ الاُمويِّين في المؤامرة :104

اغتيالُ الإمام (عليه السّلام) :106

الى رفيق الاعلى :109

متاركُ حكومة الإمام (عليه السّلام) :109

خلافةُ الحسن (عليه السّلام) :111

1 ـ الاعتداء على الإمام (عليه السّلام) 113

2 ـ الحكم عليه بالكفر 113

3 ـ الخيانة العظمى 113

4 ـ نهب أمتعة الإمام (عليه السّلام) 114

الصلحُ :114

٤٥٧

موقفُ الإمام الحسين (عليه السّلام) :115

عدي بن حاتم مع الحسين (عليه السّلام) :116

تحوّلُ الخلافة :116

حكومةُ معاوية119

سياسته الاقتصادية :122

الحرمان الاقتصادي :123

1 ـ يثرب :123

2 ـ العراق :125

3 ـ مصر :125

الرفاه على الشام :126

استخدام المال في تدعيم ملكه :126

المنحُ الهائلة لأسرته :127

منح خراج مصر لعمرو :127

هباتُ الأموال للمؤيّدين :128

شراءُ الأديان :128

عجز الخزينة المركزيّة :129

مصادرةُ أموال المواطنين :130

ضريبةُ النيروز :131

نهب الولاة والعمال :131

جبايةُ الخراج :132

اصطفاء الذهب والفضة :132

شلّ الحركة الاقتصادية :133

حجّة معاوية :134

سياسةُ التفريق :134

اضطهادُ الموالي :135

٤٥٨

العصبيّة القبلية :137

سياسة البطش والجبروت :138

احتقارُ الفقراء :140

سياسةُ الخداع :141

إشاعةُ الانتهازيّة :143

الخلاعةُ والمجون :144

إشاعةُ المجون في الحرمين :147

الاستخفافُ بالقيم الدينيّة :148

استلحاقُ زياد :149

إنكارُ الإمام الحُسين (عليه السّلام) :150

الحقدُ على النّبي (صلّى الله عليه وآله) :150

تغييرُ الواقع الإسلامي :153

مع أهل البيت (عليهم السّلام) :154

1 ـ تسخير الوعّاظ :155

2 ـ استخدامُ معاهد التعليم :155

3 ـ افتعال الأخبار 155

حديثُ مفتعل على الحُسين (عليه السّلام) :158

سب الإمام أمير المؤمنين :160

ستر فضائل أهل البيت :162

التحرج من ذكر الإمام :164

مع الشيعة :166

القتل الجماعي 167

إبادة القوى الواعية :167

1 ـ حجر بن عدي :167

٤٥٩

مذكرة الإمام الحسين 168

2 ـ رشيد الهجري :169

3 ـ عمرو بن الحمق الخزاعي :170

مذكّرة الإمام الحُسين :171

4 ـ أوفى بن حصن :171

5 ـ الحضرمي مع جماعته :172

إنكار الإمام الحُسين :172

6 ـ جويرية العبدي :173

7 ـ صيفي بن فسيل :173

8 ـ عبد الرحمن :174

المروّعون مِن أعلام الشيعة :176

1 ـ عبد الله بن هاشم المرقال 176

2 ـ عَدِي بن حاتم الطائي 176

3 ـ صعصعة بن صوحان 176

4 ـ عبد الله بن خليفة الطائي 176

ترويع النّساء :176

هدم دور الشيعة :177

حرمان الشيعة مِن العطاء :177

عدم قبول شهادة الشيعة :178

إبعاد الشيعة إلى الخراسان :178

البيعة ليزيد :178

ولادة يزيد :179

نشأته :180

صفاته :180

ولَعه بالصيد :181

٤٦٠

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471