حياة الامام الحسين عليه السلام الجزء ٢

حياة الامام الحسين عليه السلام12%

حياة الامام الحسين عليه السلام مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 471

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 471 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 260752 / تحميل: 5239
الحجم الحجم الحجم
حياة الامام الحسين عليه السلام

حياة الامام الحسين عليه السلام الجزء ٢

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

تظنّني بها رغبة بي عنها. وإنّ الحسنات لا يهدي لها ولا يسدِّد إليها إلّا الله تعالى، وأمّا ما ذكرت انّه رقى إليك عنّي فإنّما رقاه الملّاقون المشّاؤون بالنميمة المفرِّقون بين الجمع، وكذب الغاوون المارقون، ما أردت حرباً ولا خلافاً، وإنِّي لأخشى الله في ترك ذلك منك ومن حزبك القاسطين المحلّين، حزب الظالم، وأعوان الشيطان الرجيم. إلى آخر الكتاب(١) .

كتاب معاوية إلى عبد الله بن جعفر:

كتب إلى عبد الله: أما بعد: فقد عرفت أثرتي إيّاك على مَن سواك، وحُسن رأيي فيك وفي أهل بيتك، وقد أتاني عنك ما أكره، فإن بايعت تُشكر، وإن تأب تُجبر، والسَّلام.

فكتب إليه عبد الله بن جعفر:

أمّا بعد: فقد جاءني كتابك، وفهمت ما ذكرتَ فيه من أثرتك إيّاي على مَن سواي، فإن تفعل فبحظّك أصبتَ، وإن تأبَ فبنفسك قصَّرتَ، وأمّا ما ذكرت من جبرك إيّاي على البيعة ليزيد فلعمري لئن أجبرتني عليها لقد أجبرناك وأباك على الإسلام حتى أدخلناكما كارهَين غير طائعين؟ والسَّلام. الإمامة والسياسة ١: ١٤٧، ١٤٨.

وكتب معاوية إلى عبد الله بن الزبير:

رأيت كرام الناس إن كفّ عنهمُ

بحلم رأوا فضلاً لمن قد تحلّما

ولا سيّما إن كان عفواً بقدرة

فذلك أحرى أن يجلّ ويعظما

ولست بذي لؤم فتعذر بالذي

أتيته من أخلاق مَن كان ألوما

ولكنَّ غشّاً لست تعرف غيره

وقد غشَّ قبل اليوم إبليس آدما

فما غشَّ إلّا نفسه في فعا له

فأصبح ملعوناً وقد كان مكرما

وانِّي لأخشى أن أنا لك بالذي

أردت فيجزي الله مَن كان أظلما

فكتب عبد الله بن الزبير إلى معاوية:

ألا سمع الله الذي أنا عبده

فأخزى إله الناس من كان أظلما

وأجرى على الله العظيم بحلمه

وأسرعهم في الموبقات تقحّما

____________________

١ - مرّ بتمامه فى هذا الجزء صفحة ١٦٠.

٢٤١

أغرَّك أن قالوا: حليم بعزَّة

وليس بذي حلم ولكن تحلّما

ولو رمت ما أن قد عزمت وجدتني

هزبر عرين يترك القرنِ أكتما

وأقسم لولا بيعة لك لم أكن

لأنقضها لم تنج منِّي مسلما

الامامة والسياسة ١: ١٤٧، ١٤٨.

بيعة يزيد

في المدينة المشرّفة

حجّ معاوية في سنة ٥٠، واعتمر في رجب سنة ٥٦ وكان في كلا السّفرين يسعى وراء بيعة يزيد، وله في ذلك خطوات واسعة ومواقف ومفاوضات مع بقيّة الصّحابة ووجوه الاُمّة، غير أنّ المؤرِّخين خلطوا أخبار الرِّحلتين بعضها ببعض وما فصّلوها تفصيلاً.

الرحلة الاولى

قال ابن قتيبة: قالوا: إستخار الله معاوية وأعرض عن ذكر البيعة حتّى قدم المدينة سنة خمسين فتلقّاه الناس فلمّا استقرّ في منزله أرسل إلى عبد الله بن عبّاس، وعبد الله ابن جعفر بن أبي طالب، وإلى عبد الله بن عمر، وإلى عبد الله بن الزبير، وأمر حاجبه أن لا يأذن لأحد من الناس حتّى يخرج هؤلاء النفر فلمّا جلسوا تكلّم معاوية فقال: ألحمد لِلّه الذي أمرنا بحمده، ووعدنا عليه ثوابه، نحمده كثيراً كما أنعم علينا كثيراً، وأشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، وانّ محمّداً عبده ورسوله. أمّا بعد: فإنِّي قد كبر سنيّ ووهن عظمي، وقرب أجلي، وأوشكت أن اُدعى فاُجيب، وقد رأيت أن استخلف عليكم بعدي يزيد ورأيته لكم رضا وأنتم عبادلة قريش وخيارها وأبناء خيارها، ولم يمنعني أن اُحضر حسناً وحسيناً إلّا أنّهما أولاد أبيهما، على حسن رأيي فيهما وشديد محبّتي لهما، فردّوا على أمير المؤمنين خيراً يرحمكم الله.

فتكلّم عبد الله بن العبّاس فقال:

ألحمد لله الذي ألهمنا أن نحمده واستوجب علينا الشكر على آلائه وحسن بلائه، و أشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، وانّ محمّداً عبده ورسوله، وصلّى الله على محمّد وآل محمّد.

أمّا بعد: فإنّك قد تكلّمت فأنصتنا، وقلت فسمعنا، وإنَّ الله جلّ ثناؤه وتقدّست

٢٤٢

أسماؤه اختار محمّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لرسالته، واختاره لوحيه، وشرّفه على خلقه، فأشرف الناس من تشرّف به، وأولاهم بالأمر أخصّهم به، وإنَّما على الاُمّة التسليم لنبيِّها إذ إختاره الله لها فإنّه إنّما اختار محمّداً بعلمه، وهو العليم الخبير، واستغفر الله لي ولكم.

فقام عبد الله بن جعفر فقال:

ألحمد لِلَّه أهل الحمد ومُنتهاه، نحمده على إلها منا حمده، ونرغب إليه في تأدية حقِّه، وأشهد أن لا إله إلّا الله واحداً صمداً لم يتّخذ صاحبةً ولا ولدا، وانَّ محمّداً عبده ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . أمّا بعدُ: فإنَّ هذه الخلافة إن اُخذ فيها بالقرآن؟ فأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله. وإن اُخذ فيها بسنَّة رسول الله؟ فأولوا رسول الله، وإن اُخذ بسنّة الشيخين أبي بكر وعمر فأيُّ الناس أفضل وأكمل وأحقُّ بهذا الأمر من آل الرَّسول؟ و أيم الله لو ولوه بعد نبيّهم لوضعوا الامر موضعه، لحقِّه وصدقه، ولاُطيع الله، وعُصي الشيطان، وما اختلف في الأمّة سيفان، فاتَّق الله يا معاوية! فانَّك قد صرت راعياً ونحن الرعيَّة، فانظر لرعيّتك، فانَّك مسئولٌ عنها غداً، وأمّا ما ذكرت من ابني عمّي. وتركك أن تحضرهما، فوالله ما أصبت الحقَّ، ولا يجوز لك ذلك إلّا بهما، وإنَّك لتعلم أنَّهما معدن العلم والكرم، فقُلْ أو دع، وأستغفر الله لي ولكم.

فتكلّم عبد الله بن الزبير فقال:

ألحمد لله الذي عرّفنا دينه، وأكرمنا برسوله، أحمده على ما أبلى وأولى، وأشهد أن لا إله إلّا الله. وأنَّ محمّداً عبده ورسوله. أمّا بعد: فإنَّ هذه الخلافة لقريش خاصَّة، تتناولها بمآثرها السنيَّة، وأفعالها المرضيَّة، مع شرف الآباء، وكرم الأبناء، فاتّقِ الله يا معاوية! وأنصف من نفسك، فانَّ هذا عبد الله بن عبّاس ابن عمِّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهذا عبد الله بن جعفر ذي الجناحين، ابن عمِّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأنا عبد الله بن الزبير ابن عمّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وعليٌّ خلّف حسناً وحسيناً، وأنت تعلم مَن هما، وما هما، فاتَّق الله يا معاوية! وأنت الحاكم بيننا وبين نفسك.

فتكلّم عبد الله بن عمر فقال:

ألحمد لِلَّه الذي أكرمنا بدينه وشرّفنا بنبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أمّا بعد: فإنَّ هذه الخلافة ليست بهرقليَّة، ولا قيصريَّة، ولا كسرويَّة، يتوارثها الأبناء عن الآباء، ولو كان كذلك

٢٤٣

كنتُ القائم بها بعد أبي، فوالله ما أدخلني مع الستَّة من أصحاب الشورى، إلّا أنَّ الخلافة ليست شرطاً مشروطاً، وإنَّما هي في قريش خاصَّة، لمن كان لها أهلاً، ممَّن ارتضاه المسلمون لأنفسهم، مَن كان أتقى وأرضى، فإن كنتَ تريد الفتيان من قريش، فلعمري إنَّ يزيد من فتيانها، واعلم أنَّه لا يُغني عنك من الله شيئاً.

فتكلم معاوية فقال:

قد قلتُ وقلتم، وإنَّه قد ذهبت الآباء وبقيت الأبناء، فإبني أحبُّ إليَّ من أبنائهم، مع أنَّ ابني إن قاولتموه وجد مقالاً، وإنَّما كان هذا الأمر لبني عبد مناف، لأنَّهم أهل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلمّا مضى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولَّى الناسُ أبا بكر وعمر، من غير معدن الملك والخلافة، غير أنّهما سارا بسيرة جميلة، ثمَّ رجع الملك إلى بني عبد مناف، فلا يزال فيهم إلى يوم القيامة، وقد أخرجك الله يا ابن الزبير وأنت يا ابن عمر منها، فأمّا ابنا عمّي هذان فليسا بخارجين من الرأي إن شاء الله.

ثمَّ أمر بالرحلة وأعرض عن ذكر البيعة ليزيد، ولم يقطع عنهم شيئاً من صلاتهم وأعطياتهم، ثمَّ انصرف راجعاً إلى الشام، وسكت عن البيعة، فلم يعرض لها إلى سنة إحدى وخمسين.

الإمامة والسياسة ١: ١٤٢ - ١٤٤، جمهرة الخطب ٢: ٢٣٣ - ٢٣٦.

قال الأميني: لم يذكر في هذا اللفظ ما تكلّم به عبد الرَّحمن، ذكره ابن حجر في الإصابة ٢: ٤٠٨ قال: خطب معاوية فدعا الناس إلى بيعة يزيد، فكلّمه الحسين ابن علي، وابن الزبير، وعبد الرَّحمن بن أبي بكر، فقال له عبد الرَّحمن: أهرقليّة؟ كلّما مات قيصر كان قيصر مكانه، لا نفعل والله أبداً.

صورة اخرى

من محاورة الرحلة الاُولى

قدم معاوية المدينة حاجّاً(١) فلمّا أن دنى من المدينة خرج إليه الناس يتلقّونه ما بين راكبٍ وماشٍ، وخرج النساء والصبيان، فلقيه الناس على حال طاقتهم وما تسارعوا به في القوت والقرب، فلان لمن كافحه، وفاوض العامَّة بمحادثته، وتألَّفهم جهده مقاربة

____________________

١ - من المتسالم عليه انّ معاوية حجّ فى سنة خمسين.

٢٤٤

ومصانعة ليستميلهم إلى ما دخل فيه الناس، حتى قال في بعض ما يجتلبهم به أهل المدينة: ما زلت أطوي الحزن من وعثاء السفر بالحبِّ لمطالعتكم حتى انطوى البعيد، ولان الخشن، وحقّ لجار رسول الله أن يُتاق إليه. فردَّ عليه القوم: بنفسك ودارك ومهاجرك أما انَّ لك منهم كأشفاق الحميم البرّ والحفيِّ. حتى إذا كان بالجرف لقيه الحسين بن علي وعبد الله بن عبّاس فقال معاوية: مرحباً بابن بنت رسول الله، وابن صنو أبيه. ثمّ انحرف إلى الناس فقال: هذان شيخا بني عبد مناف. وأقبل عليهما بوجهه وحديثه فرحَّب وقرَّب وجعل يواجه هذا مرَّة، ويضاحك هذا اُخرى. حتى ورد المدينة، فلمّا خالطها لقيته المشاة والنساء والصبيان يسلّمون عليه ويسايرونه إلى أن نزل، فانصرفا عنه، فمال الحسين إلى منزله، ومضى عبد الله بن عبّاس إلى المسجد، فدخله، وأقبل معاوية ومعه خلقٌ كثيرٌ من أهل الشام حتى أتى عائشة امّ المؤمنين فاستأذن عليها فأذنت له وحده لم يدخل عليها معه أحدٌ وعندها مولاها ذكوان فقالت عائشة: يا معاوية! أكنت تأمن أن اقعد لك رجلاً فأقتلك كما قتلت أخي محمّد بن أبي بكر؟ فقال معاوية: ما كنت لتفعلين ذلك. قالت: لِمَ؟ قال: لأنِّي في بيت أمن، بيت رسول الله. ثمَّ أنَّ عائشة حمدت الله وأثنت عليه وذكرت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وذكرت أبا بكر وعمر، وحضّته على الإقتداء بهما والاتّباع لأثرهما، ثمَّ صمتت، قال: فلم يخطب معاوية وخاف أن يبلغ ما بلغت فارتجل الحديث ارتجالاً ثمَّ قال:

أنت والله يا امّ المؤمنين! العالمة بالله وبرسوله دللتنا على الحقِّ، وحضضتنا على حظِّ أنفسنا، وأنت أهلٌ لأن يُطاع أمرك، ويُسمع قولك، وإنَّ أمر يزيد قضاءٌ من القضاء، وليس للعباد الخيرة من أمرهم؟ وقد أكّد النّاس بيعتهم في أعناقهم، وأعطوا عهودهم على ذلك ومواثيقهم، أفترى أن ينقضوا عهودهم ومواثيقهم؟!

فلمّا سمعت ذلك عائشة علمت أنّه سيمضي على أمره فقالت: أمّا ما ذكرت من عهود ومواثيق فاتّق الله في هؤلاء الرهط، ولا تعجل فيهم، فعلّهم لا يصنعون إلّا ما أحببت.

ثمَّ قام معاوية فلمّا قام قالت عائشة: يا معاوية! قتلت حُجراً وأصحابه العابدين المجتهدين. فقال معاوية: دعي هذا، كيف أنا في الذي بيني وبينك وفي حوائجك؟ قالت: صالح. قال: فدعينا وإيّاهم حتى نلقى ربّنا.

٢٤٥

ثمَّ خرج ومعه ذكوان فاتَّكأ على يد ذكوان وهو يمشي ويقول: تالله إن رأيت كاليوم قطّ خطيباً أبلغ من عائشة بعد رسول الله، ثمَّ مضى حتى أتى منزله، فأرسل إلى الحسين بن علي فخلا به فقال له: يا بن أخي قد استوثق الناس لهذا الأمر غير خمسة نفر من قريش أنت تقودهم، يا بن أخي! فما أربك إلى الخلاف، قال الحسين: أرسل إليهم فإن بايعوك كنتُ رجلاً منهم، وألا تكن عجلت عليَّ بأمر. قال: نعم. فأخذ عليه أن لا يخبر بحديثهما أحداً، فخرج وقد أقعد له ابن الزبير رجلاً بالطريق فقال: يقول لك أخوك ابن الزبير: ما كان؟ فلم يزل به حتى استخرج منه شيئاً.

ثمَّ أرسل معاوية إلى ابن الزبير فخلا به فقال له: قد استوثق الناس لهذا الأمر غير خمسة نفر من قريش أنت تقودهم يا بن أخي فما أربك إلى الخلاف، قال: فارسل إليهم فإن بايعوك كنت رجلاً منهم، وأن لا تكن عجلت عليَّ بأمر. قال: وتفعل؟ قال: نعم. فأخذ عليه أن لا يخبر بحديثهما أحداً.

فأرسل بعده إلى ابن عمر فأتاه وخلا به فكلّمه بكلام هو ألين من صاحبيه، وقال: إنّي كرهت أن أدع امّة محمّد بعدي كالضان لا راعى لها(١) وقد استوثق الناس لهذا الأمر غير خمسة نفر أنت تقودهم فما أربك إلى الخلاف، قال ابن عمر: هل لك في أمر تحقن به الدماء، وتدرك به حاجتك؟! فقال معاوية: وددت ذلك. فقال ابن عمر: تبرز سريرك ثمّ أجيء فابايعك على أنّي أدخل فيما اجتمعت عليه الاُمة، فوالله لو أنّ الاُمّة اجتمعت على عبد حبشيّ لدخلت فيما تدخل فيه الاُمَّة. قال: وتفعل؟ قال: نعم ثمَّ خرج.

وأرسل إلى عبد الرَّحمن بن أبي بكر فخلا به قال: بأيِّ يد أو رجل تقدم على معصيتي؟ فقال عبد الرّحمن: أرجو أن يكون ذلك خيراً لي. فقال معاوية: والله لقد هممت أن أقتلك. فقال: لو فعلت لأتبعك الله في الدنيا، ولأدخلك في الآخرة النار. ثمّ خرج.

بقي معاوية يومه ذلك يُعطي الخواصَّ. ويُدني بذمّة الناس، فلمّا كان صبيحة اليوم

____________________

١ - أتصدّق انّ محمداً صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ ترك امّته كالضان لا راعى لها ولم يرض بذلك معاوية؟! حاشا نبىّ الرحمة عن أن يدع الامّة كما يحسبون، غير أنهم نبذوا وصيته وراء ظهورهم، وجروا الويلات على الامة حتى اليوم.

٢٤٦

الثاني أمر بفراش فوضع له وسوّيت مقاعد الخاصّة حوله وتلقاءه من أهله، ثمّ خرج وعليه حلّةٌ يمانيَّةٌ وعمامةٌ دكناء وقد أسبل طرفها بين كتفيه وقد تغلّف وتعطّر فقعد على سريره وأجلس كتّابه منه بحيث يسمعون ما يأمر به، وأمر حاجبه أن لا يأذن لأحد من النّاس وإن قرب، ثمّ أرسل إلى الحسين بن علي وعبد الله بن عبّاس فسبق ابن عبّاس فلمّا دخل وسلّم عليه أقعده في الفراش على يساره فحادثه مليّاً ثمَّ قال: يا بن عبّاس لقد وفَّر الله حظّكم من مجاورة هذا القبر الشريف ودار الرَّسولعليه‌السلام . فقال ابن عبّاس: نعم أصلح الله أمير المؤمنين، وحظّنا من القناعة بالبعض والتجافي عن الكلِّ أوفر. فجعل معاوية يحدِّثه ويحيد به عن طريق المجاوبة، ويعدل إلى ذكر الأعمار على اختلاف الغرائز والطبائع، حتَّى أقبل الحسين بن علي فلمّا رآه معاوية جمع له وسادة كانت عن يمينه فدخل الحسين وسلّم فأشار إليه فأجلسه عن يمينه مكان الوسادة، فسأله معاوية عن حال بني أخيه الحسن وأسنانهم فأخبره ثمَّ سكت، ثمَّ ابتدأ معاوية فقال:

أمّا بعد: فالحمد لِلَّه وليِّ النعم، ومنزل النقم، وأشهد أن لا إله إلّا الله المتعالي عمّا يقول الملحدون علوّاً كبيرا، وانَّ محمّداً عبده المختصّ المبعوث إلى الجنِّ والإنس كافَّة لينذرهم بقرآن لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، فأدّى عن الله وصدع بأمره، وصبر عن الأذى في جنبه، حتى أوضح دين الله، وأعزَّ أولياءه، و قمع المشركين، وظهر أمر الله وهم كارهون، فمضى صلوات الله عليه وقد ترك من الدنيا ما بذل له، واختار منها الترك لما سخر له زهادةً واختياراً لِلَّه، وأنفة واقتداراً على الصبر، بغياً لما يدوم ويبقى، فهذه صفة الرَّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثمّ خلفه رجلان محفوظان وثالث مشكّوك، وبين ذلك خوض طول ما عالجناه مشاهدةً ومكافحةً ومعاينةً وسماعاً، وما أعلم منه فوق ما تعلمان، وقد كان من أمر يزيد ما سبقتم إليه وإلى تجويزه، وقد علم الله ما اُحاول به من أمر الرعيَّة من سدّ الخلل، ولمِّ الصَّدع بولاية يزيد، بما أيقظ العين، وأحمد الفعل، هذا معناي في يزيد وفيكما فضل القرابة، وحظوة العلم، وكمال المروءة، وقد أصبت من ذلك عند يزيد على المناظرة والمقابلة ما أعياني مثله عندكما وعند غيركما، مع علمه بالسنَّة وقراءة القرآن، والحلم الذي يرجح بالصمّ الصلاب، وقد علمتما انّ الرَّسول المحفوظ بعصمة الرِّسالة قدَّم على الصدّيق والفاروق ودونهما من أكابر الصحابة وأوائل المهاجرين

٢٤٧

يوم غزوة السلاسل من لم يقارب القوم ولم يعاندهم برتبة في قرابة موصولة ولا سنَّة مذكورة، فقادهم الرجل بإمرة، وجمع بهم صلاتهم، وحفظ عليهم فيئهم، وقال ولم يقل معه، وفي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أسوةٌ حسنة، فمهلاً بني عبد المطلب فأنا وأنتم شعبا نفع وجدّ، وما زلت أرجو الإنصاف في اجتماعكما، فما يقول القائل إلّا بفضل قولكما، فردّا على ذي رحم مستعتب ما يحمد به البصيرة في عتابكما، واستغفر الله لي ولكما.

كلمة الامام السبط:

فتيسَّر ابن عبّاس للكلام ونصب يده للمخاطبة فأشار إليه الحسين وقال: على رسلك، فأنا المراد: ونصيبي في التُّهمة أوفر. فأمسك ابن عبّاس فقام الحسين فحمد الله و صلّى على الرَّسول ثمّ قال:

أمّا بعد: يا معاوية! فلن يؤدّي القائل وإن أطنب في صفة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من جميع جزءاً، وقد فهمت ما لبست به الخلف بعد رسول الله من ايجاز الصفة والتنكّب عن استبلاغ البيعة، وهيهات هيهات يا معاوية! فضح الصبح فحمة الدجى، وظهرت الشمس أنوار السرج، ولقد فضَّلت حتّى أفرطت، وأستأثرت حتى أجحفت، ومنعت حتّى بخلت، وجرت حتّى جاوزت، ما بذلت لذي حقّ من أتمِّ حقِّه بنصيب حتّى أخذ الشيطان حظَّه الأوفر، ونصيبه الأكمل، وفهمتُ ما ذكرته عن يزيد من اكتماله وسياسته لامّة محمّد، تريد أن توهم الناس في يزيد، كأنّك تصف محجوباً، أو تنعت غائباً، أو تخبر عمّا كان ممّا احتويته بعلم خاصّ، وقد دلَّ يزيد من نفسه على مواقع رأيه، فخذ ليزيد فيما أخذ به من استقرائه الكلاب المهارشة عند التحارش، والحمام السبَّق لأترابهنّ، والقينات ذوات المعازف، وضروب الملاهي، تجده ناصراً، ودع عنك ما تحاول، فما أغناك أن تلقى الله بوزر هذا الخلق بأكثر ممّا أنت لاقيه، فوالله ما برحت تقدّر باطلاً في جور، وحنقاً في ظلم، حتّى ملأت الأسقية، وما بينك وبين الموت إلّا غمضة، فتقدم على عمل محفوظ في يوم مشهود، ولات حين مناص، ورأيتك عرضت بنا بعد هذا الأمر، ومنعتنا عن آبائنا، و لقد لعمر الله أورثنا الرسولعليه‌السلام ولادة، وجئت لنا بها ما حججتم به القائم عند موت الرَّسول فأذعن للحجّة بذلك، وردَّه الايمان إلى النصف، فركبتم الأعاليل، وفعلتم الأفاعيل، وقلتم: كان ويكون، حتّى أتاك الأمر يا معاوية! من طريق كان قصدها

٢٤٨

لغيرك، فهناك فاعتبروا يا أولي الأبصار، وذكرت قيادة الرَّجل القوم بعهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتأميره له، وقد كان ذلك ولعمرو بن العاص يومئذ فضيلة بصحبة الرَّسول، وبيعته له، وما صار لعمرو يومئذ حتى أنف القوم إمرته، وكرهوا تقديمه، وعدوَا عليه أفعاله فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا جرم معشر المهاجرين لا يعمل عليكم بعد اليوم غيري، فكيف يحتجّ بالمنسوخ من فعل الرسول في أوكد الأحوال وأولاها بالمجتمع عليه من الصّواب؟ أم كيف صاحبت بصاحب تابع وحولك من لا يؤمن في صحبته، ولا يعتمد في دينه وقرابته، و تتخطّاهم إلى مسرف مفتون، تريد أن تلبس الناس شبهة يسعد بها الباقي في دنياه، و تشقى بها في آخرتك، إنَّ هذا لهو الخسران المبين، وأستغفر الله لي ولكم.

فنظر معاوية إلى ابن عبّاس فقال: ما هذا يا بن عبّاس؟ ولما عندك أدهى وأمّر. فقال ابن عبّاس: لعمر الله إنّها لذريّة الرَّسول، وأحد أصحاب الكساء، ومن البيت المطهّر، فاله عمّا تريد، فانَّ لك في الناس مقنعاً حتّى يحكم الله بأمره وهو خير الحاكمين.

فقال معاوية: أعود الحلم التحلّم، وخيره التحلّم عن الأهل، انصرفا في حفظ الله. ثمَّ أرسل معاوية إلى عبد الرَّحمن بن أبي بكر، وإلى عبد الله بن عمر، وإلى عبد الله بن الزبير فجلسوا، فحمد الله وأثني عليه معاوية ثمَّ قال:

يا عبد الله بن عمر! قد كنت تحدِّثنا انّك لا تحبّ أن تبيت ليلة وليس في عنقك بيعة جماعة، وإنَّ لك الدنيا وما فيها، وإنّي أحذِّرك أن تشقّ عصا المسلمين، وتسعى في تفريق ملأهم، وأن تسفك دماءهم، وإنَّ أمر يزيد قد كان قضاء من القضاء، وليس للعباد خيرة من أمرهم، وقد وكّد الناس بيعتهم في أعناقهم، وأعطوا على ذلك عهودهم ومواثيقهم. ثمَّ سكت.

فتكلّم عبد الله بن عمر فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال:

أمّا بعد: يا معاوية! قد كان قبلك خلفاء، وكان لهم بنون، ليس ابنك بخير من أبنائهم فلم يروا في أبنائهم ما رأيت في ابنك، فلم يحابوا في هذا الأمر أحدا ً ، ولكن اختاروا لهذه الاُمّة حيث علموهم، وإن تحذّرني أن أشقّ عصا المسلمين، واُفزِّق ملأهم، واسفك دماءهم، ولم أكن لأفعل ذلك إن شاء الله، ولكن إن استقام الناس فسأدخل في صالح ما تدخل فيه اُمّة محمّد.

٢٤٩

فقال معاوية: يرحمك الله، ليس عندك خلافٌ، ثمَّ قال معاوية لعبد الرَّحمن بن أبي بكر نحو ما قاله لعبد الله بن عمر فقال له عبد الرَّحمن:

إنّك والله لوددنا أن نكلك إلى الله فيما جسرت عليه من أمر يزيد، والذي نفسي بيده لتجعلنّها شورى أو لاُعيدها جذعة، ثمَّ قام ليخرج فتعلّق معاوية بطرف ردائه ثمَّ قال: على رسلك، أللهمّ اكفنيه بما شئت، لا تظهرنَّ لأهل الشام. فإنّي أخشى عليك منهم. ثمَّ قال لابن الزبير نحو ما قاله لابن عمر، ثمَّ قال له. أنت ثعلب روّاغ كلّما خرجت من جُحر انجحرت في آخر، أنت ألّبت هذين الرجلين، وأخرجتهما إلى ما خرجا إليه. فقال ابن الزبير: أتريد أن تبايع ليزيد؟ أرأيت إن بايعناه أيّكما نطيع؟ أنطيعك؟! أم نطعيه؟! إن كنت مللت الخلافة فاخرج منها، وبايع ليزيد، فنحن نبايعه. فكثر كلامه وكلام ابن الزبير حتّى قال له معاوية في بعض كلامه: والله ما أراك إلّا قاتلاً نفسك، ولكأنّي بك قد تخبّطت في الحبالة. ثمّ أمرهم بالإنصراف واحتجب عن النّاس ثلاثة أيّام لا يخرج ثمَّ خرج فأمر المنادي أن ينادي في النّاس: أن يجتمعوا لأمر جامع فاجتمع الناس في المسجد وقعّد هؤلاء(١) حول المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثمَّ ذكر يزيد فضله وقراءته القرآن ثمَّ قال: يا أهل المدينة! لقد هممت بيعة يزيد وما تركت قرية ولا مدرة إلّا بعثت إليها بيعته فبايع الناس جميعاً وسلّموا وأخَّرت المدينة بيعته وقلت بيضته وأصله ومن لا أخافهم عليه، وكان الذين أبوا البيعة منهم من كان أجدر أن يصله، والله لو علمت مكان أحد هو خيرٌ للمسلمين من يزيد لبايعت له.

فقام الحسين فقال: والله لقد تركت من هو خير منه أباً واُمّاً ونفساً فقال معاوية كأنّك تريد نفسك؟ فقال الحسين: نعم أصلحك الله. فقال معاوية: إذا اخبرك، أمّا قولك خيرٌ منه امّاً فلعمري امّك خيرٌ من امّه، ولو لم يكن إلّا انّها امرأة من قريش لكان لنساء قريش أفضلهنَّ، فكيف وهي ابنة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثمَّ فاطمة في دينها و سابقتها، فاُمّك لعمر الله خيرٌ من امّه. وأمّا أبوك فقد حاكم أباه إلي الله فقضى لأبيه على أبيك. فقال الحسين: حسبك جهلك آثرت العاجل على الآجل. فقال معاوية: و أمّا ما ذكرت من انّك خيرٌ من يزيد نفساً فيزيد والله خيرٌ لاُمّة محمّد منك. فقال الحسين:

____________________

١ - يعنى المتخلفين عن بيعة يزيد.

٢٥٠

هذا هو الافك والزور، يزيد شارب الخمر ومشتري اللهو خيرٌ منّي؟ فقال معاوية: مهلاً عن شتم ابن عمّك فانّك لو ذُكرت عنده بسوء لم يشتمك.

ثمَّ التفت معاوية إلى النّاس وقال: أيّها الناس قد علمتم أنَّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قُبض ولم يستخلف أحداً، فرأى المسلمون أن يستخلفوا أبا بكر، وكانت بيعته بيعة هدى فعمل بكتاب الله وسنّة نبيّه، فلمّا حضرته الوفاة رأى أن يجعلها شورى بين ستَّة نفر اختارهم من المسلمين، فصنع أبو بكر ما لم يصنعه رسول الله، وصنع عمر ما لم يصنعه أبو بكر، كلُّ ذلك يصنعون نظراً للمسلمين، فلذلك رأيت أن اُبايع ليزيد لما وقع الناس فيه من الإختلاف ونظراً لهم بعين الإنصاف(١) .

رحلة معاوية الثانية

وبيعة يزيد فيها

قال ابن الأثير: فلمّا بايعه أهل العراق والشام سار معاوية إلى الحجاز في ألف فارس فلمّا دناه من المدينة لقيه الحسين بن عليّ أوَّل الناس فلمّا نظر إليه قال: لا مرحباً ولا أهلاً، بدنة يترقرق دمها والله مهريقه، قال: مهلاً فإنَّي والله لست بأهل لهذه المقالة. قال: بلى ولشرّ منها، ولقيه ابن الزبير فقال: لا مرحباً ولا أهلاً، خبّ ضب تلعة، يدخل رأسه، ويضرب بذنبه، ويوشك والله أن يؤخذ بذنبه، ويدّق ظهره، نحيّاه عنّي. فضرب وجه راحلته. ثمَّ لقيه عبد الرّحمن بن أبي بكر فقال له معاوية: لا أهلاً ولا مرحباً شيخٌ قد خرف وذهب عقله، ثمّ أمر فضرب وجه راحلته، ثمَّ فعل بابن عمر نحو ذلك فأقبلوا معه لا يلتفت إليهم حتّى دخل المدينة فحضروا بابه فلم يؤذن لهم على منازلهم ولم يروا منه ما يحبّون فخرجوا إلى مكّة فأقاموا بها، وخطب معاوية بالمدينة فذكر يزيد فمدحه وقال: مَن أحقُّ منه بالخلافة في فضله وعقله وموضعه؟! وما أظنّ قوماً بمنتهين حتى تصيبهم بوائق تجتثُّ اصولهم، وقد أنذرت إن أغنت النذر. ثم أنشد متمثّلاً:

قد كنت حذَّرتك آل المصطلقْ

وقلت: يا عمرو أطعني وانطلقْ

إنَّك إن كلَّفتني ما لم أطقْ

ساءك ما سرّك منّي من خلقْ

دونك ما استسقيته فاحس وذقْ

____________________

١ - الامامة والسياسة ١: ١٤٩ - ١٥٥، تاريخ الطبرى ٦: ١٧٠ واللفظ لابن قتيبة.

٢٥١

ثمّ دخل على عائشة وقد بلغها انَّه ذكر الحسين وأصحابه فقال: لأقتلنَّهم إن لم يبايعوا. فشكاهم إليها فوعظته وقالت له: بلغني إنّك تتهدّدهم بالقتل؟ فقال: يا امَّ المؤمنين! هم أعزّ من ذلك، ولكنّي بايعت ليزيد وبايعه غيرهم، أفترين أن أنقض بيعة قد تمّت؟ قالت: فارفق بهم فإنَّهم يصيرون إلى ما تحبّ إن شاء الله. قال: أفعل. وكان في قولها له: ما يؤمنك أن أقعد لك رجلاً يقتلك وقد فعلت بأخي ما فعلت - تعني أخاها محمّداً - فقال لها: كلّا يا امَّ المؤمنين! إنَّي في بيت أمن. قالت: أجل. ومكث بالمدينة ما شاء الله.

ثمّ خرج إلى مكّة فلقيه الناس فقال أولئك النفر: نتلقّاه فلعلّه قد ندم على ما كان منه. فلقوه ببطن مرّ فكان أوَّل من لقيه الحسين فقال له معاوية: مرحباً وأهلاً يا ابن رسول الله! وسيِّد شباب المسلمين. فأمر له بدابّة فركب وسايره، ثمَّ فعل بالباقين مثل ذلك وأقبل يسايرهم لا يسير معه غيرهم حتّى دخل مكّة فكانوا أوَّل داخل وآخر خارج، ولا يمضي يوم إلّا ولهم صلة ولا يذكر لهم شيئاً حتى قضى نسكه وحمل أثقاله وقرب مسيره فقال بعض أولئك النفر لبعض: لا تخدعوا فما صنع بكم هذا لحبّكم وما صنعه إلّا لما يُريد فأعدّوا له جواباً. فاتّفقوا على أن يكون المخاطب له ابن الزبير فأحضرهم معاوية وقال: قد علمتم سيرتي فيكم، وصلتي لأرحامكم، وحملي ما كان منكم، ويزيد أخوكم وابن عمّكم و أردت أن تقدّموه باسم الخلافة، وتكونوا أنتم تعزلون وتؤمرون وتجبون المال وتقسّمونه لا يعارضكم في شيء من ذلك. فسكتوا، فقال: ألا تجيبون؟ مرَّتين، ثمَّ أقبل على ابن الزبير فقال: هات لعمري انَّك خطيبهم، فقال: نعم نخيّرك بين ثلاث خصال قال: أعرضهنّ. قال: تصنع كما صنع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو كما صنع أبو بكر، أو كما صنع عمر، قال معاوية: ما صنعوا؟ قال: قبض رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يستخلف أحداً فارتضى الناس أبا بكر قال: ليس فيكم مثل أبي بكر وأخاف الإختلاف. قالوا: صدقت فاصنع كما صنع أبو بكر فانَّه عهد إلى رجل من قاصية قريش ليس من بني أبيه فاستخلفه، وإن شئت فاصنع كما صنع عمر جعل الأمر شورى في ستَّة نفر ليس فيهم أحد من ولده ولا من بني أبيه. قال معاوية: هل عندك غير هذا؟ قال: لا. ثمَّ قال: فأنتم؟ قالوا: قولنا قوله. قال: فإنِّي قد أحببت أن أتقدّم إليكم انَّه قد أعذر من أنذر، انّي كنت أخطب منكم فيقوم إليَّ القائم منكم فيكذِّبني على رؤوس الناس فأحمل ذلك وأصفح، وإنّي قائمٌ بمقالة فاُقسم بالله لئن ردّ عليّ أحدكم كلمة في مقامي

٢٥٢

هذا لا ترجع إليه كلمة غيرها حتى يسبقها السيف إلى رأسه، فلا يبقين رجلٌ إلّا على نفسه. ثمّ دعا صاحب حرسه بحضرتهم فقال: أقم على رأس كلِّ رجل من هؤلاء رجلين ومع كلِّ واحد سيفٌ، فإن ذهب رجلٌ منهم يردُّ عليَّ كلمة بتصديق أو تكذيب فليضرباه بسيفهما. ثمَّ خرج وخرجوا معه حتّى رقى المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثمَّ قال: إنَّ هؤلاء الرَّهط سادة المسلمين وخيارهم لا يبتزُّ أمر دونهم ولا يفضى إلّا عن مشورتهم وانّهم قد رضوا وبايعوا ليزيد، فبايعوا على اسم الله. فبايع الناس وكانوا يتربّصون بيعة هؤلاء النفر، ثمَّ ركب رواحله وانصرف إلى المدينة، فلقي الناس أولئك النفر فقالوا لهم: زعمتم انَّكم لا تبايعون فلِمَ رضيتم وأعطيتم وبايعتم؟ قالوا: والله ما فعلنا. فقالوا: ما منعكم أن تردّوا على الرَّجل؟ قالوا: كادنا وخفنا القتل. وبايعه أهل المدينة ثمَّ انصرف إلى الشام وجفا بني هاشم فأتاه ابن عبّاس فقال له: ما بالك جفوتنا؟ قال: إنّ صاحبكم - يعني الحسينعليه‌السلام - لم يبايع ليزيد فلم تنكروا ذلك عليه. فقال: يا معاوية! انّي لخليقٌ أن أنحاز إلى بعض السواحل فأقيم به ثمَّ أنطق بما تعلم حتى أدع الناس كلّهم خوارج عليك. قال: يا أبا العبّاس تعطون وترضون وترادون(١) .

وجاء في لفظ ابن قتيبة: إنَّ معاوية نزل عن المنبر وانصرف ذاهباً إلى منزله وأمر من حرسه وشرطته قوماً أن يحضروا هؤلاء النفر الذين أبوا البيعة وهم: الحسين بن علي! وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عبّاس، وعبد الرَّحمن بن أبي بكر وأوصاهم معاوية قال: إنّي خارجٌ العشيّة إلى أهل الشام فاُخبرهم: أنّ هؤلاء النّفر قد بايعوا وسلّموا، فإن تكلّم أحدٌ منهم بكلام يصدِّقني أو يكذّبني فيه فلا ينقضي كلامه حتّى يطير رأسه. فحذَّر القوم ذلك، فلّما كان العشيُّ خرج معاوية وخرج معه هؤلاء النفر وهو يضاحكهم ويحدِّثهم وقد ألبسهم الحلل، فألبس ابن عمر حلّة حمراء، وألبس الحسين حلّة صفراء، وألبس عبد الله بن عبّاس حلّة خضراء، وألبس ابن الزبير حلّة يمانيّة، ثمّ خرج بينهم وأظهر لأهل الشام الرضا عنهم - أي القوم - وانَّهم بايعوا، فقال: يا أهل الشام! إنَّ هؤلاء النفر دعاهم أمير المؤمنين فوجدهم واصلين مطيعين، وقد

____________________

١ - العقد الفريد ٢: ٣٠٢ - ٣٠٤، الكامل لابن الاثير ٣: ٢١ - ٢١٨، ذيل الامالى ص ١٧٧، جمهرة الرسائل ٢: ٦٩ واللفظ لابن الاثير.

٢٥٣

بايعوا وسلّموا ذلك، والقوم سكوتٌ لم يتكلّموا شيئاً حذر القتل، فوثب اُناسٌ من أهل الشام فقالوا: يا أمير المؤمنين! إن كان رابك منهم ريبٌ فحل بيننا وبينهم حتى نضرب أعناقهم. فقال معاوية: سبحان الله ما أحلّ دماء قريش عندكم يا أهل الشام؟ لا أسمع لهم ذكراً بسوء فانّهم بايعوا وسلّموا، وارتضوني فرضيت عنهم رضي الله عنهم، ثمَّ ارتحل معاوية راجعاً إلى مكّة وقد أعطى الناس أعطياتهم، وأجزل العطاء، وأخرج إلى كلِّ قبيلة جوائزها وأعطياتها، ولم يخرج لبني هاشم جائزة ولا عطاء، فخرج عبد الله ابن عبّاس في أثره حتّى لحقه بالروحاء فجلس ببابه فجعل معاوية يقول: مَن بالباب؟

فيقال: عبد الله بن عبّاس فلم يأذن لأحد، فلمّا استيقظ قال: مَن بالباب؟ فقيل: عبد الله بن عبّاس فدعا بدابَّته فأدخلت إليه ثمّ خرج راكباً فوثب إليه عبد الله بن عبّاس فأخذ بلجام البغلة ثمَّ قال: أين تذهب؟ قال: إلى مكّة. قال: فأين جوائزنا كما أجزت غيرنا؟ فأوما إليه معاوية فقال: والله ما لكم عندي جائزة ولا عطاء حتّى يبايع صاحبكم. قال ابن عبّاس: فقد أبى ابن الزبير فأخرجت جائزة بني أسد، وأبى عبد الله بن عمر فأخرجت جائزة بني عدي، فما لنا إن أبى صاحبنا وقد أبى صاحب غيرنا. فقال معاوية: لستم كغيركم، لا والله لا اُعطيكم درهماً حتّى يبايع صاحبكم، فقال ابن عبّاس: أما والله لئن لم تفعل لألحقنّ بساحل من سواحل الشام ثمّ لأقولنّ ما تعلم، والله لأتركنّهم عليك خوارج. فقال معاوية: لا بل اعطيكم جوائزكم، فبعث بها من الروحاء ومضى راجعاً إلى الشام. الإمامة والسياسة ١: ١٥٦.

قال الأميني: إنَّ المستشف لحقيقة الحال من أمر هذه البيعة الغاشمة جِدّ عليم أنّها تمّت برواعد الإرهاب، وبوارق التطميع، وعوامل البهت والإفتراء، فيرى معاوية يتوعّد هذا، ويقتل ذاك، ويولّي آخر على المدن والأمصار ويجعلها طعمة له، ويدرُّ من رضائخه على النفوس الواطئة ذوات الملكات الرذيلة، وفي القوم مَن لا يؤثّر فيه شيىءٌ من ذلك كلّه، غير انّه لا رأي لمن لا يُطاع، لكنّ إمام الهدى، وسبط النبوَّة، ورمز الشهادة والإباء لم يفتأ بعد ذلك كلّه مُصحراً بالحقيقة، ومصارحاً بالحقِّ، وداحضاً للباطل مع كلِّ تلكم الحنادس المدلهمّة، أصغت إليه اُذنٌ أم لا، وصغى إلى قيله أحدٌ أو أعرض، فقام بواجب الموقف رافعاً عقيرته بما تستدعيه الحالة، ويوجبه النظر في صالح المسلمين

٢٥٤

ولم يثنه اختلاق معاوية عليه وعلى مَن وافقه في شيىء من الأمر، ولا ما أعدَّه لهم من - التوعيد والإرجاف بهم، ولم تك تأخذه في الله لومة لائم، حتّى لفظ معاوية نفسه الأخير رمزاً للخزاية وشية العار، ولقي الحسينعليه‌السلام ربّه وقد أدّى ما عليه، رمزاً للخلود ومزيد الحبور في رضوان الله الأكبر، نعم: لقي الحسينعليه‌السلام ربّه وهو ضحيّة تلك البيعة، - بيعة يزيد - كما لقي أخوه الحسن ربّه مسموماً من جرّاء تلكم البيعة الملعونة التي جرَّت الويلات على امّة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واستتبعت هدم الكعبة، والإغارة على دار الهجرة يوم الحرّة وأبرزت بنات المهاجرين والأنصار للنكال والسوءة، وأعظمها رزايا مشهد الطفّ التي استأصلت شأفة أهل بيت الرَّحمة صلوات الله عليهم، وتركت بيوت الرسالة تنعق فيها النواعب، وتندب النوادب، وقرَّحت الجفون، وأسكبت المدامع، إنّا لله وإنا إليه راجعون، وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون.

نعم: تمّت تلك البيعة المشومة مع فقدان أيِّ جدارة وحنكة في يزيد، تأهّله لتسنّم عرش الخلافة على ما تردّى به من ملابس الخزي وشية العار من معاقرة الخمور، ومباشرة الفجور، ومنادمة القيان ذوات المعازف، ومحارشة الكلاب، إلى ما لا يتناهى من مظاهر الخزاية، وقد عرفته الناس بذلك كلّه منذ أولياته وعرَّفه به اُناسٌ آخرون، وحسبك شهادة وفدٌ بعثه أهل المدينة إلى يزيد وفيهم: عبد الله بن حنظلة غسيل الملائكة، وعبد الله بن أبي عمرو المخزومي، والمنذر بن الزبير، وآخرون كثيرون من أشراف أهل المدينة، فقدموا على يزيد فأكرمهم، وأحسن إليهم، وأعظمهم جوائزهم، وشاهدوا أفعاله، ثمّ انصرفوا من عنده وقدموا المدينة كلهم إلّا المنذر، فلمّا قدم الوفد المدينة قاموا فيهم، فأظهروا شتم يزيد وعتبه وقالوا: إنّا قدمنا من عند رجل ليس له دين، يشرب - الخمر، ويعزف بالطنابير، ويضرب عنده القيان، ويلعب بالكلاب، ويُسامر الحُرّاب، وهم اللصوص والفتيان، وإنّا نشهدكم انّا قد خلعناه فتابعهم الناس.(١)

وقال عبد الله بن حنظلة ذلك الصحابيّ العظيم المنعوت بالراهب قتيل يوم الحرّة يومئذ: يا قوم! اتَّقوا الله وحده لا شريك له، فوالله ما خرجنا على يزيد حتّى خفنا أن نرمى

____________________

١ - تاريخ الطبرى ٧: ٤، الكامل لابن الاثير ٤: ٤٥، تاريخ ابن كثير ٨: ٢١٦، فتح البارى ١٣: ٥٩.

٢٥٥

بالحجارة من السَّماء، إنَّ رجلاً ينكح الامّهات والبنات والأخوات، ويشرب الخمر، ويدع الصّلاة، والله لو لم يكن معي أحدٌ من الناس لأبليت لِلّه فيه بلاء حسناً(١) .

ولمـّا قدم المدينة أتاه الناس فقالوا: ما وراءك؟ قال: أتيتكم من عند رجل والله لو لم أجد إلّا بنيَّ هؤلاء لجاهدته بهم(٢) .

وقال المنذر بن الزبير لمـّا قدم المدينة: إنَّ يزيد قد أجازني بمائة ألف، ولا يمنعني ما صنع بي أن اُخبركم خبره، والله انّه ليشرب الخمر، والله انّه ليسكر حتّى يدع الصّلاة(٣) .

وقال عتبة بن مسعود لابن عبّاس: أتبايع يزيد وهو يشرب الخمر، ويلهو بالقيان، ويستهتر بالفواحش؟ قال: مَه فأين ما قلت لكم؟ وكم بعده من آت ممّن يشرب الخمر أو هو شرٌّ من شاربها أنتم إلى بيعته سراع، أما والله! إنِّي لأنهاكم وأنا أعلم أنّكم فاعلون حتى يصلب مصلوب قريش بمكّة - يعني عبد الله بن الزبير -(٤) .

نعم: لم يك على مخازي يزيد من أوَّل يومه حجابٌ مسدول يُخفيها على الأباعد والأقارب، غير انَّ أقرب الناس إليه وهو أبوه معاوية غضَّ الطرف عنها جمعاء، وحسب انّها تخفى على الملأ الدينيِّ بالتمويه، وطفق يذكر له فضلاً وعلماً بالسياسة، فجابهه لسان الحقِّ وإنسان الفضيلة حسين العظمة بكلماته المذكورة في صفحة ٢٤٨ و ٢٥٠ ومعاوية هو نفسه يندّد بابنه في كتاب كتبه إليه ومنه قوله: اعلم يا يزيد! أنَّ اوَّل ما سلبكه السُكر معرفة مواطن الشكر لله على نعمه المتظاهرة، وآلائه المتواترة، وهي الجَرحة العظمى، والفجعة الكبرى: ترك الصَّلوات المفروضات في أوقاتها، وهو من أعظم ما يحدث من آفاتها، ثمَّ استحسان العيوب، وركوب الذنوب، وإظهار العورة، وإباحة السرِّ، فلا تأمن نفسك على سرِّك، ولا تعتقد على فعلك، الكتاب(٥) .

فنظراً إلى ما عرفته الاُمَّة من يزيد من مخازيه وملكاته الرذيلة عدَّ الحسن البصري استخلاف معاوية إيّاه من موبقاته الأربع كما مرّ حديثه في صفحة ٢٢٥.

____________________

١ - تاريخ ابن عساكر ٧: ٣٧٢.

٢ - تاريخ ابن عساكر ٧: ٣٧٢، الكامل لابن الاثير ٤: ٤٥، الاصابة ٢: ٢٩٩.

٣ - كامل ابن الاثير ٤: ٤٥، تاريخ ابن كثير ٨: ٢١٦.

٤ - الامامة والسياسة ١: ١٦٧.

٥ - صبح الاعشى ٦: ٣٨٧.

٢٥٦

_ ١٥ _

جنايات معاوية

في صفحات تاريخه السوداء

إنَّما نجتزئ منها على شيىء يسير يكون كانموذج ممّا له من السيِّئات التي ينبو عنها العدد ويتقاعس عنها الحساب، ويستدعي التبسّط فيها مجلدات ضخمة فمنها: دؤبه على لعن مولانا عليّ أمير المؤمنين صلوات الله عليه، وكان يقنت به صلواته كما مرّ حديثه في الجزء الثاني ص ١٣٢ ط ٢ واتّخذه سنَّةً جاريةً في خطب الجمعة والأعياد، وبدَّل سنّة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في خطبة العيدين المتأخِّرة عن صلاتهما وقدَّمها عليها لإسماع الناس لعن الامام الطاهر كما مرّ تفصيله في الجزء الثامن ص ١٦٤ - ١٧١ وأوعزنا إليه في هذا الجزء ص ٢١٢ وكان يأمر عمّاله بتلك الاُحدوثة الموبقة، ويحثُّ الناس عليها، ويوبِّخ المتوقّفين عنها، ولا يصيخ إلى قول أيِّ ناصح وازع.

١ - أخرج مسلم والترمذي عن طريق عامر بن سعد بن أبي وقّاص قال: أمر معاوية سعداً فقال: ما منعك أن تسبَّ أبا تراب؟ فقال: أمّا ما ذكرت ثلاثاً قالهنَّ له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلن أسبَّه، لَأن تكون لي واحدةُ منهنَّ أحبُّ إليَّ من حمر النعم - فذكر حديث المنزلة: والراية. والمباهلة - وأخرجه الحاكم وزاد: فلا والله ما ذكره معاوية بحرف حتّى خرج من المدينة.(١)

وفي لفظ الطبري من طريق ابن أبي نجيح قال: لمـّا حجَّ معاوية طاف بالبيت ومعه سعد فلمّا فرغ إنصرف معاوية إلى دار الندوة فأجلسه معه على سريره ووقع معاوية في عليّ وشرع في سبِّه فزحف سعد ثمَّ قال: أجلستني معك على سريرك ثمَّ شرعت في سبّ عليّ والله لَأن يكون لي خصلة واحدة من خصال كانت لعليّ أحبّ إليَّ من أن يكون لي ما طلعت عليه الشمس - إلى آخر الحديث وفيه من قول سعد: وأيم الله لا دخلت لك داراً ما بقيت. ونهض.

قال المسعودي بعد رواية حديث الطبري: ووجدت في وجه آخر من الروايات و ذلك في كتاب عليِّ بن محمّد بن سليمان النوفلي في الأخبار عن ابن عائشة وغيره: انَّ سعداً

____________________

١ - راجع صحيح مسلم ٧: ١٢٠، صحيح الترمذى ١٣: ١٧١، مستدرك الحاكم ٣: ١٠٩.

٢٥٧

لمـّا قال هذه المقالة لمعاوية ونهض ليقوم ضرط له معاوية وقال له: اقعد حتّى تسمع جواب ما قلت، ما كنت عندي قطّ ألأم منك الآن، فهلّا نصرته؟ ولِمَ قعدت عن بيعته؟ فانِّي لو سمعت من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مثل الذي سمعت فيه لكنت خادماً لعليّ ما عشت، فقال سعد: والله انّي لأحقّ بموضعك منك. فقال معاوية: يأبى عليك بنو عذرة. وكان سعد فيما يقال لرجل من بني عذرة(١) .

وفي رواية ذكرها ابن كثير في تاريخه ٨: ٧٧: دخل سعد بن أبي وقاص على معاوية فقال له: مالك لم تقاتل عليّاً؟ فقال: إنِّي مرَّت بي ريحٌ مظلمةٌ فقلت: اخ اخ، فأنختُ راحلتي حتّى انجلت عنّي، ثمّ عرفت الطريق فسرت. فقال معاوية: ليس في كتاب الله اخ اخ، ولكن قال الله تعالى: وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الاُخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله. فوالله ما كنت مع الباغية على العادلة، ولا مع العادلة على الباغية، فقال سعد: ما كنت لاُقاتل رجلاً قال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنت منّي بمنزلة هارون من موسى غير أنَّه لا نبيّ بعدي. فقال معاوية: من سمع هذا معك؟ فقال: فلان وفلان وامّ سلمة.

فقال معاوية: أما انّي لو سمعته منهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما قاتلت عليّاً.

قال: وفي رواية من وجه آخر: انّ هذا الكلام كان بينهما وهما بالمدينة في حجَّة حجَّها معاوية وانّهما قاما إلى امّ سلمة فسألاه فحدَّثتهما بما حدَّث به سعد فقال معاوية: لو سمعت هذا قبل هذا اليوم لكنت خادماً لعليّ حتّى يموت أو أموت.

قال الأميني: لقد أفك معاوية في ادّعائه عدم إحاطة علمه بتلكم الأحاديث المطّردة الشايعة فانّها لم تكن من الأسرار التي لا يطّلع عليها إلّا البطانة والخاصَّة، وإنّما هتف بهنَّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على رؤس الأشهاد، أمّا حديث الراية فكان في واقعة خيبر وله موقعيّته الكبرى لقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لأعطينّ الراية غداً رجلاً يحبّ الله ورسوله، ويحبّه الله ورسوله. الحديث.

فاستطالت أعناق كلّ فريق

ليروا أيّ ماجد يعطاها؟

فلم تزل النفوس مشرئبَّة متتلّعة إلى من عناهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى جيىء بأمير المؤمنينعليه‌السلام ومُنح الفتح من ساحة النبوَّة العظمى، فانطبق القول، وصدقت الاُكرومة، وعلم الغزاة

____________________

١ - مروج الذهب ١: ٦١، وحكى شطراً منه سبط ابن الجوزى فى تذكرته ص ١٢.

٢٥٨

كلّهم انّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما كان يريد غيره.

هب أنَّ معاوية يوم واقعة خيبر كان عداده في المشركين، وموقفه مع مَن يُحادّ الله ورسوله، لكن هلّا بلغه ذلك بعد ما حداه الفَرَق إلى الاستسلام؟ والحديث مطّردٌ بين الغزاة وسائر المسلمين، وهم بين مشاهد له وعالم به.

وأمّا حديث المنزلة فقد نطق به رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في موارد عديدة منها غزاة تبوك على ما مرَّ تفصيله في الجزء الثالث ص ١٩٨ ط ٢ وقد حضرها وجوه الصحابة وأعيانهم، وكلّهم علموا بهاتيك الفضيلة الرابية، فالإعتذار عن معاوية بأنّه لم يحضرها لإشراكه يومئذ مدفوعٌ بما قلناه في واقعة خيبر.

ومن جملة موارده يوم غدير خمّ الذي حضره معاوية وسمعه هو ومائة ألف أو يزيدون، لكنّه لم يعه بدليل أنّه ما آمن به فحارب عليّاًعليه‌السلام بعده وعاداه وأمر بلعنه محادَّة منه لِلّه ولرسوله، وعقيرة رسول الله المرفوعة بقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عليّ: أللهمَّ وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله. بعدُ ترنُّ في اُذن الدنيا.

ومن موارده يوم المؤاخاة كما أخرجه أحمد باسناده عن محدوج بن زيد الباهلي قال: آخى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين المهاجرين والأنصار فبكى عليّعليه‌السلام فقال رسول الله: ما يبكيك فقال: لم تواخ بيني وبين أحد. فقال: إنَّما ادَّخرتك لنفسي ثمَّ قال: أنت منّي بمنزلة هارون من موسى(١) .

ومنها يوم كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في دار امّ سلمة إذ أقبل عليٌّعليه‌السلام يريد الدخول على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: يا امّ سلمة هل تعرفين هذا؟ قالت: نعم هذا عليّ سيط لحمه بلحمي ودمه بدمي، وهو منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا انّه لا نبيَّ بعدي - راجع الجزء - الثالث ص ١١٦.

على أنّ حديث المنزلة قد جاء من طريق معاوية نفسه رواه في حياة عليّعليه‌السلام فيما أخرجه أحمد في مناقبه من طريق أبي حازم كما في الرياض النضرة ٢: ١٩٥.

وأمّا نبأ المباهلة فصحيحٌ أنّ معاوية لم يُدركه لأنّ الكفر كان يمنعه عند ذلك عن سماعه، غير أن القرآن الكريم قد أعرب عن ذلك النبأ العظيم إن لم يكن إبن حرب في

____________________

١ - راجع ما اسلفناه فى الجزء الثالث ص ١١٥.

٢٥٩

معزل عن الكتاب والسنّة، على أن قصّتها من القضايا العالميّة وليس من المستطاع لأيِّ أحد أن يدَّعي الجهل بها.

وهنا نماشي ابن صخر على عدم اطّلاعه على تلكم الفضائل إلى حدِّ إخبار سعد إيّاه، لكنّه بماذا يعتذر وهو يقرأ قوله تعالى:( وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ) ؟ الآية؟!. وبماذا يعتذر بعد ما رواه قبل يوم صفّين من قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعمّار: تقتلك الفئة الباغية؟ وبماذا يعتذر بعد علمه بتلكم الأحاديث بأخبار صحابيّ معدود عند القوم في العشرة المبشّرة وبعد إقامة الشهود عليه؟! ومن هنا تعلم أنَّه أفك مرّة اُخرى بقوله أما انّي لو سمعتُ من رسول الله ما سمعتَ في عليّ لكنتُ له خادماً ما عشتُ. لأنّه عاش ولم يرتدع عن غيِّه وحارب أمير المؤمنينعليه‌السلام حيّاً وميّتاً، ودؤب على لعنه والأمر به حتّى أجهز عليه عمله وكبت وبه بطنته.

نعم: انّه استمرّ على بغيه وقابل سعداً في حديثه بالضرطة، وهل هي هزؤ منه بمصدر تلكم الأبناء القدسيّة؟ أو بخضوع سعد لها؟ أو لمحض أنّ سعداً لم يوافقه على ظلمه؟ أنا لا أدري غير أنَّ كفر معاوية الدفين لا يأبى شيئاً من ذلك، وهلّا منعه الخجل عن مثل هذا المجون وهو ملك؟ وبطبع الحال انّ مجلسه يحوي الأعاظم والأعيان.

من أين تخجل أوجهُ أمويَّةٌ

سكبت بلذّات الفجور حيائها؟

٢ – لمـّا مات الحسن بن عليّ « عليهما السلام » حجّ معاوية فدخل المدينة و أراد أن يلعن عليّاً على منبر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقيل له: إنّ هيهنا سعد بن أبي وقّاص ولا نراه يرضى بهذا فابعث إليه وخذ رأيه، فأرسل إليه وذكر له ذلك فقال: إن فعلت لأخرجنّ من المسجد ثمّ لا أعود إليه، فأمسك معاوية عن لعنه حتّى مات سعد، فلمّا مات لعنه على المنبر وكتب إلى عمّاله أن يلعنوه على المنابر، ففعلوا فكتبت امّ سلمة زوج النبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى معاوية: انّكم تلعنون الله ورسوله على منابركم، وذلك أنّكم تلعنون عليَّ بن أبي طالب ومن أحبّه، وأنا أشهد أنّ الله أحبّه ورسوله. فلم يلتفت إلى كلامها. العقد الفريد ٢: ٣٠١.

٣ - قال معاوية لعقيل بن أبي طالب: إنّ عليّاً قد قطعك وأنا وصلتك ولا يرضيني منك إلّا أن تلعنه على المنبر قال: أفعل. فصعد المنبر ثمّ قال بعد أن حمد الله وأثنى عليه

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

٩ ـ المظالم الهائلة على الشيعة :

وذهبت نفس الإمام الحُسين أسى على ما عانته الشيعة ـ في عهد معاوية ـ مِنْ ضروب المحن والبلاء ، فقد أمعن معاوية في ظلمهم وإرهاقهم. وفتك بهم فتكاً ذريعاً ، وراح يقول للإمام الحُسين : يا أبا عبد الله ، علمت أنّا قتلنا شيعة أبيك فحنّطناهم وكفّناهم وصلّينا عليهم ودفناهم(١) .

وقد بذل قصارى جهوده في تصفية الحساب معهم ، وقد ذكرنا عرضاً مفصّلاً لما عانوه في عهد معاوية ، وخلاصته :

١ ـ إعدام أعلامهم : كحِجْر بن عَدِي ، وعمرو بن الحمق الخزاعي ، وصيفي بن فسيل وغيرهم.

٢ ـ صلبهم على جذوع النخل.

٣ ـ دفنهم أحياءً.

٤ ـ هدم دورهم.

٥ ـ عدم قبول شهادتهم.

٦ ـ حرمانهم من العطاء.

٧ ـ ترويع السيّدات مِنْ نسائهم.

٨ ـ إذاعة الذعر والخوف في جميع أوساطهم.

إلى غير ذلك مِنْ صنوف الإرهاق الذي عانوه ، وقد ذُعِرَ الإمام الحُسين (عليه السّلام) ممّا حلّ بهم ، فبعث بمذكرته الخطيرة لمعاوية التي سجّل فيها جرائم ما ارتكبه في حقّ الشيعة ، وقد ذكرناها في البحث عن حكومة معاوية.

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ / ٢٠٦.

٢٨١

لقد كانت الإجراءات القاسية التي اتّخذها الحكم الأموي ضدّ الشيعة مِنْ أسباب ثورته ، فهبّ لإنقاذهم مِنْ واقعهم المرير وحمايتهم مِنْ الجور والظلم.

١٠ ـ محو ذكر أهل البيت (عليهم السّلام) :

ومِنْ ألمع الأسباب التي ثار مِنْ أجلها أبو الشهداء (عليه السّلام) هو أنّ الحكم الاُموي قد جهد على محو ذكر أهل البيت (عليهم السّلام) واستئصال مآثرهم ومناقبهم. وقد استخذم معاوية في هذا السبيل أخبث الوسائل ، وهي :

١ ـ افتعال الأخبار في الحطّ مِنْ شأنهم.

٢ ـ استخدام أجهزة التربية والتعليم لتربية النشء على بغضهم.

٣ ـ معاقبة مَنْ يذكر مناقبهم بأقصى العقوبات.

٤ ـ سبّهم على المنابر والمآذن وخطب الجمعة.

وقد عقد الإمام الحُسين (عليه السّلام) مؤتمره السياسي الكبير في مكّة المكرّمة ، وأحاط المسلمين علماً بالإجراءات الخطيرة التي اتّخذها معاوية إلى إزالة أهل البيت عن الرصيد الإسلامي ، وكان (عليه السّلام) يتحرّق شوقاً إلى الجهاد ، ويودّ أنّ الموت قد وافاه ولا يسمع سبّ أبيه على المنابر والمآذن.

١١ ـ تدمير القِيَم الإسلاميّة :

وعمد الاُمويّون إلى تدمير القِيَم الإسلاميّة ، فلمْ يعد لها أيّ ظلّ على واقع الحياة الإسلاميّة ، وهذه بعضها :

٢٨٢

أ ـ الوحدة الإسلاميّة :

وأشاع الاُمويّون الفرقة والاختلاف بين المسلمين فأحيوا العصبيات القبلية ، وشجّعوا الهجاء بين الأُسر والقبائل العربية حتّى لا تقوم وحدة بين المسلمين.

وقد شجّع يزيد الأخطلَ على هجاء الأنصار الذين آووا النّبي (صلّى الله عليه وآله) وحاموا عن دينه أيّام غربة الإسلام ومحنته.

لقد كانت الظاهرة البارزة في شعر ذلك العصر هي الهجاء المقذع ، فقد قصر الشعراء مواهبهم الأديبة على الهجاء والتفنن في أساليب القذف ، والسبّ للأُسر التي كانت تنافس قبائلهم.

وقد خلا الشعر الاُموي عن كلّ نزعة إنسانية أو مقصد اجتماعي ، وتفرّد بظاهرة الهجاء ، وقد خولف بذلك ما كان ينشده الإسلام من الوحدة الشاملة بين أبنائه.

ب ـ المساواة :

وهدم الاُمويّون المساواة العادلة التي أعلنها الإسلام ، فقدّموا العرب على الموالي ، وأشاعوا جوّاً رهيباً من التوتر والتكتّل السياسي بين المسلمين ، وكان مِنْ جرّاء ذلك أنْ ألّف الموالي مجموعة مِن الكتب في نقض العرب وذمهم ، كما ألّف العرب كتباً في نقض الموالي واحتقارهم ، وعلى رأس القائمة التي أثارت هذا النحو من التوتر بين المسلمين زياد بن أبيه ، فقد كان حاقداً على العرب ، وقد عهد إلى الكتاب بانتقاصهم.

وقد خالفت هذه السياسة النكراء روح الإسلام الذي ساوى بين المسلمين في جميع الحقوق والواجبات على اختلاف قومياتهم.

٢٨٣

ج ـ الحرية :

ولمْ يعُد أيّ مفهوم للحرية ماثلاً على مسرح الحياة طيلة الحكم الاُموي ، فقد كانت السلطة تحاسب الشعب حساباً منكراً وعسيراً على كلّ بادرة لا تتفق مع رغباتها ، حتّى لمْ يعُد في مقدور أيّ أحد أنْ يطالب بحقوقه ، أو يتكلّم بأيّ مصلحة للناس ، فقد كان حكم النّطع والسيف هو السائد في ذلك العصر.

لقد ثار أبو الأحرار لينقذ الإنسان المسلم وغيره مِن الاضطهاد الشامل ، ويُعيد للناس حقوقهم التي ضاعت في أيّام معاوية ويزيد.

١٢ ـ انهيار المجتمع :

وانهار المجتمع في عصر الاُمويِّين ، وتحلّل مِنْ جميع القِيَم الإسلاميّة.

أمّا أهمّ العوامل التي أدّت إلى انهياره فهي :

١ ـ حرمان المجتمع مِن التربية الروحية : فلمْ يحفل بها أحد مِن الخلفاء سوى الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) ، فقد عني بها عناية بالغةً ، إلاّ إنّه قد مُنِيَ بالأحداث الرهيبة التي منعته مِنْ مواصلة مسيرته في إصلاح الناس وتقويم أخلاقهم.

٢ ـ إمعان الحكم الاُموي في إفساد المجتمع وتضليله ، وتغديته بكلّ ما هو بعيد عن واقع الإسلام وهديه.

إنّ هذين العاملين ـ فيما نحسب ـ مِنْ أهم العوامل التي أدّت إلى انهيار ذلك المجتمع. أمّا مظاهر ذلك التحلّل والانهيار فهي :

٢٨٤

١ ـ نقض العهود :

ولمْ يتأثم أغلب أبناء ذلك المجتمع من نقض العهود والمواثيق ، فقد كان عدم الوفاء بها أمراً عادياً ومتسالماً عليه ، وقد شجعهم على ذلك (كسرى العرب) ، فقد أعلن في خطابه بالنّخيلة أنّ كلّ ما شرطه على نفسه للإمام الحسن لا يفي به ، وعمد إلى نقض جميع الشروط التي أعطاها له.

وكانت هذه الظاهرة مِنْ أبرز ذاتيات الكوفيين ، فقد أعطوا للإمام الحُسين أعظم العهود والمواثيق على مناصرته ومناجزة عدوّه ، إلاّ أنّهم خاسوا ما عاهدوا عليه الله فخذلوه وقتلوه.

٢ ـ عدم التحرّج مِن الكذب :

ومِن الأمراض التي أُصيب بها ذلك المجتمع عدم التحرّج مِن الكذب ، وقد مُنِي الكوفيون بذلك بصورة خاصة ، فإنّهم لمّا أحاطوا بالإمام الحُسين (عليه السّلام) يوم الطفّ لقتله ، وجّه (عليه السّلام) سؤالاً إلى قادة الفرق الذين كاتبوه بالقدوم إليهم ، فقال : «يا شبث بن ربعي ، ويا حجّار بن أبجر ، ويا قيس بن الأشعث ، ويا زيد بن الحرث ، ألمْ تكتبوا إليّ أنْ قد أينعت الثمار ، واخضرّ الجناب ، وإنّما تقدم على جند لك مجنّدة».

ولمْ تخجلْ تلك النفوس القذرة مِنْ تعمّد الكذب ، فأجابوه مجمعين : لمْ نفعل.

وبُهِرَ الإمام فاندفع يقول : «سُبحان الله! بلى والله لقد فعلتم».

٢٨٥

وقد جرّوا إلى المجتمع بما اقترفوه مِن الآثام كثيراً مِن الويلات والخطوب ، وتسلّح بهم أئمّة الظلم والجور إلى اضطهاد المسلمين وإرغامهم على ما يكرهون.

٣ ـ عرض الضمائر للبيع :

وقد كان مِنْ أحطّ ما وصل إليه ذلك المجتمع مِن الانحراف والزيغ عرض الضمائر والأديان لبيعها على السّلطة جهاراً ، وقد ألمعنا إلى ذلك بصورة مفصّلة عند البحث عن عهد معاوية.

٤ ـ الإقبال على اللّهو :

وأقبل المجتمع بِنَهَمٍ على اللّهو والدعارة ، وقد شجّع الاُمويّون بصورة مباشرة حياة المجون لزعزعة العقيدة الدينية مِن النفوس ، وصرف الناس عمّا ينشده الإسلام مِن التوازن في سلوك الفرد.

هذه بعض الأمراض التي ألمّت بالمجتمع الإسلامي ، وقد أدّت إلى تسيّبه وانهيار قِيَمِه.

وقد ثار الإمام الحُسين (عليه السّلام) ليقضى على التذبذب والانحراف الذي مُنِيَت به الأُمّة.

١٣ ـ الدفاع عن حقوقه :

وانبرى الإمام الحُسين (عليه السّلام) للجهاد دفاعاً عن حقوقه التي نهبها الاُمويّون واغتصبوها ، وأهمها ـ فيما نحسب ـ ما يلي :

٢٨٦

١ ـ الخلافة :

وآمن الإمام الحُسين (عليه السّلام) كأبيه أنّ العترة الطاهرة أولى بمقام رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وأحقّ بمركزه مِنْ غيرهم ؛ لأنّهم أهل بيت النّبوة ومعدن الرسالة ومختلف الملائكة ، بهم فتح الله وبهم ختم ـ على حدّ تعبيره ـ وقد طبع على هذا الشعور وهو في غضون الصبا. فقد انطلق إلى عمر وكان على منبر رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فصاح به : «انزل عن منبر أبي ، واذهب إلى منبر أبيك».

ولمْ ينفرد الإمام الحُسين بهذا الشعور ، وإنّما كان سائداً عند أئمّة أهل البيت (عليهم السّلام) ، فهم يرون أنّ الخلافة مِنْ حقوقهم ؛ لأنّهم ألصق الناس برسول الله (صلّى الله عليه وآله) وأكثرهم وعياً لأهدافه.

وهناك شيء آخر جدير بالاهتمام وهو أنّ الحُسين (عليه السّلام) كان هو الخليفة الشرعي بمقتضى معاهدة الصلح التي تمّ الاتفاق عليها ، فقد جاء في بنودها : ليس لمعاوية أنْ يعهد بالأمر إلى أحد مِنْ بعده ، والأمر بعده للحسن ، فإنْ حدث به حدث فالأمر للحُسين(١) .

وعلى هذا فلمْ تكن بيعة يزيد شرعية. فلمْ يخرج الإمام الحُسين (عليه السّلام) على إمام مِن أئمّة المسلمين كما يذهب لذلك بعض ذوي النزعات الاُمويّة ، وإنّما خرج (عليه السّلام) على ظالم مغتصب لحقّه.

٢ ـ الخُمس :

والخمس حقّ مفروض لأهل البيت (عليهم السّلام) نصّ عليه القرآن وتواترت به السنّة ، ولكنّ الحكومات السابقة تناهبته فلمْ تؤدِ لهمْ منه شيئاً ؛ لشلّ حركة المقاومة عند العلويين، وقد أشار الإمام الحُسين (عليه السّلام) إلى ذلك في

__________________

(١) حياة الإمام الحسن ٢ / ٢٨٨ الطعبة الثانية.

٢٨٧

حديثه مع أبي هرّة الذي نهاه عن الخروج على بني أُميّة ، فقال (عليه السّلام) له :

«ويحك أبا هرة! إنّ بني أُميّة أخذوا مالي فصبرت».

وأكبر الظنّ أنّ المال الذي أخذته بنو أُميّة منه هو الخمس ، وقد أعلن ذلك دعبل الخزاعي في رائعته التي انشدها أمام الرضا (عليه السّلام) في خراسان بقوله :

أرى فيئهمْ في غيرِهم متقسّماً

وأيديهمْ مِنْ فيئهِمْ صفراتِ

والتاع الإمام الرضا (عليه السّلام) فجعل يقلّب يديه وهو يقول : «إنّها والله لصفرات». وقد أقضّ مضاجع العلويين منعهم من الخمس ؛ باعتباره أحد المصادر الرئيسية لحياتهم الاقتصادية.

ولعلّ الإمام الحُسين قد استهدف بنهضته ارجاع هذا الحقّ السليب لأهل البيت (عليهم السّلام).

١٤ ـ الأمر بالمعروف :

ومِنْ أوكد الأسباب التي ثار مِنْ أجلها أبيّ الضيم (عليه السّلام) إقامة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؛ فإنّهما مِنْ مقوّمات هذا الدين ، والإمام بالدرجة الأولى مسؤول عنهما.

وقد أدلى (عليه السّلام) بذلك في وصيته لأخيه ابن الحنفيّة التي أعلن فيها عن أسباب خروجه على يزيد ، فقال (عليه السّلام) : «إنّي لمْ أخرج أشِرَاً ولا بطراً ، ولا ظالماً ولا مفسداً ، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أُمّة جدّي ؛ أريد أنْ آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر».

لقد انطلق (عليه السّلام) إلى ميادين الجهاد ليقيم هذا الصرح الشامخ الذي بُنيت عليه الحياة الكريمة في الإسلام ، وقد انهارت دعائمه أيّام الحكم الاُموي ، فقد أصبح المعروف في عهدهم منكراً والمنكر معروفاً ، وقد

٢٨٨

أنكر عليهم الإمام في كثير مِن المواقف ، والتي كان مِنها خطابه الرائع أمام المهاجرين والأنصار ، فقد شجب فيه تخاذلهم عن نصرة الحقّ ودحض الباطل وإيثارهم للعافية ، وقد ذكرناه في الحلقة الأولى مِنْ هذا الكتاب.

وممّا قاله (عليه السّلام) في هذا المجال أمام أصحابه وأهل بيته يوم الطفّ : «ألا ترون إلى الحقّ لا يُعمل به ، وإلى الباطل لا يُتناهى عنه؟! ليرغب المؤمن في لقاء ربّه».

لقد آثر الموت على الحياة ؛ لأنّه يرى الحقّ قد تلاشى والباطل قد استشرى.

١٥ ـ إماتة البدع :

وعمد الحكم الاُموي إلى نشر البدع بين المسلمين ، التي لمْ يقصد منها إلاّ محق الإسلام وإلحاق الهزيمة به. وقد أشار الإمام (عليه السّلام) إلى ذلك في رسالة بعثها لأهل البصرة ، يقول (عليه السّلام) : «فإنّ السنّة قد اُميتت ، والبدعة قد اُحييت»(١) .

لقد ثار (عليه السّلام) ليقضي على البدع الجاهلية التي تبنّاها الاُموييون ، ويحيي سنّة جدّه التي أماتوها ، فكانت نهضته الخالدة مِنْ أجل إماتة الجاهلية ونشر راية الإسلام.

__________________

(١) تاريخ الطبري ٦ / ٢٠٠.

٢٨٩

١٦ ـ العهد النّبوي :

واستشف النّبي (صلّى الله عليه وآله) مِنْ وراء الغيب ما يُمْنى به الإسلام مِن الأخطار الهائلة على أيدي الاُمويِّين ، وإنّه لا يمكن بأيّ حالٍ تجديد رسالته وتخليد مبادئه إلاّ بتضحية ولده الإمام الحُسين (عليه السّلام) ؛ فإنّه هو الذي يكون الدرع الواقي لصيانة الإسلام ، فعهد إليه بالتضحية والفداء.

وقد أدلى الحُسين بذلك حينما عدله المشفقون عليه مِن الخروج إلى العراق ، فقال (عليه السّلام) لهم : «أمرني رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بأمرٍ وأنا ماضٍ إليه».

ويقول المؤرّخون : إنّ النّبي (صلّى الله عليه وآله) كان قد نعى الحُسين إلى المسلمين وأحاطهم علماً بشهادته وما يعانيه مِنْ أهوال المصائب ، وكان ـ باستمرار ـ يتفجّع عليه ويلعن قاتله ، وكذلك أخبر الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) بشهادته وما يجري عليه ، وقد ذكرنا في الحلقة الأولى مِنْ هذا الكتاب الأخبار المتواترة بذلك.

وكان الإمام الحُسين (عليه السّلام) على علم وثيق بما يجري عليه ، فقد سمع ذلك مِنْ جدّه وأبيه وقد أيقن بالشهادة ، ولمْ يكن له أيّ أمل في الحياة ، فمشى إلى الموت بعزم وتصميم امتثالاً لأمر جدّه الذي عهد إليه بذلك.

١٧ ـ العزة والكرامة :

ومِنْ أوثق الأسباب التي ثار مِنْ أجلها أبو الأحرار هو العزّة والكرامة ، ققد أراد الاُمويّون إرغامه على الذلّ والخنوع ، فأبى إلاّ أنْ يعيش عزيزاً تحت ظلال السيوف والرماح ، وقد أعلن سلام الله عليه ذلك يوم الطفّ بقوله : «ألا وإنّ الدّعي ابن الدّعي قد ركز بين اثنتين : بين السلّة والذلّة ،

٢٩٠

وهيهات منّا الذلّة ، يأبى الله لنا ذلك ورسوله ، ونفوسٌ أبيّة وأنوفٌ حميّة مِنْ أنْ نؤثرَ طاعة اللئام على مصارع الكرام». وقال (عليه السّلام) : «لا أرى الموت إلاّ سعادة ، والحياة مع الظالمين إلاّ برماً».

لقد عانق الموت بثغر باسم في سبيل إبائه وعزّته ، وضحّى بكلّ شيء مِنْ أجل حريته وكرامته.

١٨ ـ غدر الاُمويِّين وفتكهم :

وأيقن الإمام الحُسين (عليه السّلام) أنّ الاُمويِّين لا يتركونه ، ولا تكفّ أيديهم عن الغدر والفتك به حتّى لو سالمهم وبايعهم ، وذلك لما يلي :

١ ـ إنّ الإمام كان ألمع شخصية في العالم الإسلامي ، وقد عقد له المسلمون في دخائل نفوسهم خالص الودّ والولاء ؛ لأنّه حفيد نبيّهم وسيد شباب أهل الجنّة ، ومِن الطبيعي أنّه لا يروق للأمويين وجود شخصية تتمتّع بنفوذ قوي ومكانة مرموقة في جميع الأوساط ، فإنّها تشكّل خطراً على سلطانهم وملكهم.

٢ ـ إنّ الاُمويِّين كانوا حاقدين على النّبي (صلّى الله عليه وآله) ؛ لأنّه وترهم في واقعة بدر وألحق بهم الهزيمة والعار ، وكان يزيد يترقّب الفرص للانتقام مِنْ أهل بيت النبي (صلّى الله عليه وآله) ؛ ليأخذ ثاراث بدر منهم.

ويقول الرواة إنّه كان يقول :

لستُ مِنْ خندفَ إنْ لمْ أنتقمْ

مِنْ بني أحمدَ ما كان فعلْ

ولمّا استوفى ثاره وروّى أحقاده بإبادتهم ، أخذ يترنّم ويقول :

قد قتلنا القرمَ مِنْ ساداتهمْ

وعدلناه ببدرٍ فاعتدلْ

٢٩١

٣ ـ إنّ الاُمويِّين قد عُرِفُوا بالغدر ونقض العهود ؛ فقد صالح الحسن معاوية ، وسلّم إليه الخلافة ومع ذلك فقد غدر معاوية به فدسّ إليه سمّاً فقتله ، وأعطوا الأمان لمسلم بن عقيل فخانوا به.

وقد ذكرنا في البحوث السابقة مجموعة من الشخصيات التي اغتالها معاوية خشية منهم.

وقد أعلن الإمام الحُسين (عليه السّلام) أنّ بني أُميّة لا يتركونه. يقول (عليه السّلام) لأخيه محمّد بن الحنفيّة : «لو دخلت في جحر هامة مِنْ هذه الهوام لاستخرجوني حتّى يقتلوني».

وقال (عليه السّلام) لجعفر بن سليمان الضبعي : «والله ، لا يدعوني حتّى يستخرجوا هذه العلقة ـ يعني قلبه الشريف ـ مِنْ جوفي». واختار (عليه السّلام) أنْ يعلن الحرب ويموت ميتة كريمة تهزّ عروشهم ، وتقضي على جبروتهم وطغيانهم.

هذه بعض الأسباب التي حفّزت أبا الأحرار إلى الثورة على حكم يزيد.

رأيٌ رخيص :

ووصف جماعة مِن المتعصّبين لبني أُميّة خروج الإمام على يزيد بأنّه كان مِنْ أجل المُلْك والظفر بخيرات البلاد ، وهذا الرأي ينمّ عن حقدهم على الإمام بما أحرزه مِن الانتصارات الرائعة في نهضته المباركة التي لمْ يظفر بمثل معطياتها أيّ مصلح اجتماعي في الأرض ، وقد يكون لبعضهم العذر لجهلهم بواقع النهضة الحسينيّة وعدم الوقوف على أسبابها.

لقد كان الإمام على يقين بإخفاق ثورته في الميادين العسكرية ؛ لأنّ خصمه كان يدعمه جند مكثّف اُولوا قوّة واُولوا بأس شديد ، وهو لمْ تكن عنده أيّة قوّة عسكرية ليحصل على المُلْك ، ولو كان المُلْك غايته كما يقولون لعاد

٢٩٢

إلى الحجاز ، أو مكان آخر حينما بلغه مقتل سفيره مسلم بن عقيل وانقلاب الكوفة عليه ، ويعمل حينئذ مِنْ جديد على ضمان غايته ونجاح مهمّته. لقد كان الإمام (عليه السّلام) على علم بأنّ الأوضاع السائدة كلّها كانت في صالح بني أُميّة ، وليس منها ممّا يدعمه أو يعود لصالحه.

يقول ابن خلدون : إنّ هزيمة الحُسين كانت أمراً محتّماً ؛ لأنّ الحُسين لمْ تكن له الشوكة التي تمكّنه مِنْ هزيمة الاُمويِّين ؛ لأنّ عصبية مضر في قريش ، وعصبية قريش في عبد مناف ، وعصبية عبد مناف في بني أُميّة ، فعرف ذلك لهم قريش وسائر الناس لا ينكرونه(١) .

لقد كانت ثورة الإمام مِنْ أجل غاية لا يفكّر بها أولئك الذين فقدوا وعيهم واختيارهم ، فقد كان خروجه على حكم يزيد مِنْ أجل حماية المُثُل الإسلاميّة والقِيَم الكريمة مِن الاُمويِّين الذين حملوا معول الهدم.

يقول بعض الكتاب المعاصرين : ويحقّ لنا أنْ نسأل ماذا كان هدف الحُسين (عليه السّلام) ، وماذا كانت القضية التي يعمل مِنْ أجلها؟

أمّا لو كان هدفه شخصيّاً يتمثّل في رغبته في إسقاط يزيد ليتولّى هو بنفسه الخلافة التي كان يطمع إليها ، ما وجدنا فيه هذا الإصرار على التقدّم نحو الكوفة رغم وضوح تفرّق الناس مِنْ حوله ، واستسلامهم لابن زياد وحملهم السلاح في أعداد كثيرة لمواجهته والقضاء عليه.

إنّ أقصر الناس نظراً كان يدرك أنّ مصيره لنْ يختلف عمّا آل إليه فعله ، ولو كان الحُسين بهذه المكانة مِنْ قصر النظر لعاد إلى مكّة ليعمل مِنْ جديد للوصول إلى منصب الخلافة. ولو كان هدفه في أول الأمر الوصول إلى منصب الخلافة ثمّ لمّا بلغه مصرع ابن عمّه وقرّروا صلة السفر للثأر

__________________

(١) المقدمة / ١٥٢.

٢٩٣

مِنْ قاتليه ـ كما يزعم بعض الباحثين ـ استجابة لقضية أهله وأقاربه. لو كان هذا هدفه لأدرك أنّ جماعته التي خرجت معه للثأر وهي لا تزيد على التسعين ؛ رجالاً ونساءً وأطفالاً ، لنْ تصل إلى شيء مِنْ ذلك مِنْ دون أنْ يقضى على أفرادها جميعاً ، وبغير أنْ يضحّي هو بنفسه ضحيّة رخيصة في ميدان الثأر.

ومِنْ ثمّ يكون مِنْ واجبه للثأر أنْ يرجع ليعيد تجميع صفوف أنصاره وأقربائه ، ويتقدّم في الجمع العظيم مِن الغاصبين والموتورين.

فالقضية إذاً ليست قضية ثأر ، والهدف ليس هدفاً شخصيّاً ، وإنّما الأمر أمر الأُمّة ، والقضية كانت للحقّ ، والإقدام إقدام الفدائي الذي أراد أنْ يُضربَ المثل بنفسه في البذل والتضحية ، ولمْ يكن إصرار الحُسين على التقدّم نحو الكوفة بعد ما علم مِنْ تخاذل أهلها ونكوصهم عن الجهاد إلاّ ليجعل مِنْ استشهاده علماً تلتفّ حوله القلّة التي كانت لا تزال تؤمن بالمُثُل ، وتلتمس في القادة مَنْ يُنير لها طريق الجدّ في الكفاح ، وتحريكاً لضمائر المتخاذلين القاعدين عن صيانة حقوقهم ورعاية صوالحهم.

وألمّ هذا القول بالواقع المشرق الذي ناضل مِنْ أجله الإمام الحُسين ، فهو لمْ يستهدف أي مصلحة ذاتية ، وإنّما استهدف مصلحة الأُمّة وصيانتها مِن الاُمويِّين.

تخطيط الثورة :

ودرس الإمام الحُسين (عليه السّلام) أبعاد الثورة بعمق وشمول ، وخطّط أساليبها بوعي وإيمان ، فرأى أنْ يزجَّ بجميع ثقله في المعركة ويضحّي بكلّ شيء ؛ لإنقاذ الأُمّة مِنْ محنتها في ظلّ ذلك الحكم الأسود الذي تنكّر لجميع متطلبات الأُمّة.

وقد أدرك المستشرق الألماني (ماريين) تخطيط الإمام

٢٩٤

الحُسين لثورته ، فاعتبر أنّ الحُسين قد توخّى النصر منذ اللحظة الأولى وعلم النصر فيه ، فحركة الحُسين في خروجه على يزيد ـ كما يقول ـ إنّما كانت عزمة قلب كبير عزّ عليه الإذعان ، وعزّ عليه النصر العاجل ، فخرج بأهله وذويه ذلك الخروج الذي يبلغ به النصر الآجل بعد موته ، ويحيي به قضية مخذولة ليس لها بغير ذلك حياة.

لقد أيقن أبو الشهداء (عليه السّلام) أنّ القضية الإسلاميّة لا يمكن أنْ تنتصرَ إلاّ بفخامة ما يقدّمه مِن التضحيات ، فصمّم بعزم وإيمان على تقديم أروع التضحيات ، وهذه بعضها :

١ ـ التضحية بنفسه :

وأعلن الإمام (عليه السّلام) عن عزمه على التضحية بنفسه فأذاع ذلك في مكّة ، فأخبر المسلمين أنّ أوصالَه سوف تتقطّع بين النواويس وكربلاء ، وكان في أثناء مسيرته إلى العراق يتحدّث عن مصرعه ، ويشابه بينه وبين أخيه يحيى بن زكريا ، وأنّ رأسه الشريف سوف يُرفع إلى بغي مِنْ بغايا بني أُميّة ، كما رُفِعَ رأس يحيى إلى بغي مِنْ بغايا بني إسرائيل.

لقد صمّم على الموت ، واستهان بالحياة مِنْ أجل أنْ تُرتفع راية الحقّ ، وتعلو كلمة الله في الأرض ، وبقي صامداً على عزمه الجبّار ، فلم يرتهب حينما أحاطت به الجيوش الهائلة وهي تُبيد أهل بيته وأصحابه في مجزرة رهيبة اهتزّ مِنْ هولها الضمير الإنساني ، وقد كان في تلك المحنة الحازبة مِنْ أربط الناس جأشاً وأمضاهم جناناً ، فلمْ يرَ قبله ولا بعده شبيهاً له في شدّة بأسه وقوة عزيمته ، كما لا يعرف التاريخ في جميع مراحله تضحية أبلغ أثراً في

٢٩٥

حياة الناس مِنْ تضحيته (عليه السّلام) ، فقد بقيت صرخة مدوّية في وجوه الظالمين والمتسبدّين.

٢ ـ التضحية بأهل بيته (عليهم السّلام) :

وأقدم أبو الشهداء (عليه السّلام) على أعظم تضحية لمْ يقدّمها أيّ مصلح اجتماعي في الأرض ، فقد قدّم أبناءه وأهل بيته وأصحابه فداءً لما يرتأيه ضميره مِنْ تعميم العدل وإشاعة الحقّ والخير بين الناس.

وقد خطّط هذه التضحية وآمن بأنّها جزء مِنْ رسالته الكبرى ، وقد أذاع ذلك وهو في يثرب حينما خفّت إليه السيّدة أم سلمة زوج النّبي تعدله عن الخروج ، فأخبرها عن قتله وقتل أطفاله. وقد مضى إلى ساحات الجهاد وهو متسلّح بهذا الإيمان ، فكان يشاهد الصفوة مِنْ أصحابه الذين هم مِنْ أنبل مَنْ عرفتهم الإنسانية في ولائهم للحقّ وهم يتسابقون إلى المنيّة بين يديه ، ويرى الكواكب مِنْ أهل بيته وأبنائه وهم في غضارة العمر وريعان الشباب وقد تناهبت أشلاءهم السيوفُ والرماحُ ، فكان يأمرهم بالثبات والخلود إلى الصبر قائلاً : «صبراً يا بني عمومتي ، صبراً يا أهل بيتي ، لا رأيتم هواناً بعد هذا اليوم أبداً».

واهتزّت الدنيا مِنْ هول هذه التضحية التي تمثّل شرف العقيدة وسموّ القصد ، وعظمة المبادئ التي ناضل مِنْ أجلها ، وهي من دون شك ستبقى قائمة على ممرّ القرون والأجيال تضيء للناس الطريق ، وتمدّهم بأروع الدروس عن التضحية في سبيل الحقّ والواجب.

٢٩٦

٣ ـ التضحية بأمواله :

وضحى أبيّ الضيم بجميع ما يملك فداءً للقرآن ووقاية لدين الله ، وقد هجمت بعد مقتله الوحوش الكاسرة مِنْ جيوش الاُمويِّين على مخيّمه فتناهبوا ثقله ومتاعه حتّى لمْ يتركوا ملحفة أو إزاراً على مخدرات الرسالة إلاّ نهبوه ، ومثّلوا بذلك خسّة الإنسان حينما يفقد ذاتياته ويُمسخ ضميره.

٤ ـ حمل عقائل النّبوة :

وكان مِنْ أروع ما خطّطه الإمام العظيم (عليه السّلام) في ثورته الكبرى حمله لعقائل النّبوة ومخدّرات الرسالة إلى كربلاء ، وهو يعلم ما سيجري عليهنّ مِنْ النّكبات والخطوب ، وقد أعلن ذلك حينما عذله ابن عباس عن حملهنّ معه إلى العراق ، فقال له : «قد شاء الله أنْ يراهنَّ سبايا».

لقد أراد (عليه السّلام) بذلك أنْ يستكمل أداء رسالته الخالدة في تحرير الأُمّة ، وإنقاذها مِن الاستبعاد الاُموي. وقد قمْنَ تلك السيدات بدور مشرق في إكمال نهضة أبي الشهداء (عليه السّلام) فأيقظنَ المجتمع بعد سباته ، وأسقطنَ هيبة الحكم الاُموي وفتحن باب الثورة عليه ، ولولاهن لمْ يتمكن أحد أنْ يفوه بكلمة واحدة أمام ذلك الطغيان الفاجر.

وقد أدرك ذلك كلّ مَنْ تأمّل في نهضة الإمام ودرس أبعادها. وقد ألمع إليها بعض العلماء والكتّاب ، وفيما يلي بعضهم :

٢٩٧

١ ـ الإمام كاشف الغطاء :

وأكّد الإمام الشيخ محمّد الحُسين آل كاشف الغطاء (رحمه الله) في كثير مِنْ مؤلفاته أنّ الغاية مِنْ خروج الإمام بعائلته إلى كربلاء إكمالاً لنهضته ، وبلوغاً إلى هدفه في تحطيم دولة الاُمويِّين ، يقول : وهل تشكّ وترتاب في أنّ الحُسين (عليه السّلام) لو قُتِلَ هو وولْده ولمْ يتعقّبه قيام تلك الحرائر في تلك المقامات بتلك التحديات لذهب قتله جباراً ، ولمْ يطلب به أحد ثاراً ولضاع دمه هدراً ، فكان الحُسين يعلم أنّ هذا علم لابد منه ، وأنّه لا يقوم به إلاّ تلك العقائل فوجب عليه حتماً أنْ يحملهنَّ معه ؛ لا لأجل المظلومية بسبيهنَّ فقط ، بل لنظر سياسي وفكر عميق وهو تكميل الغرض وبلوغ الغاية مِنْ قلب الدولة على يزيد ، والمبادرة إلى القضاء عليها قبل أنْ تقضي على الإسلام وتعود الناس إلى جاهليتها الأولى(١) .

٢ ـ أحمد فهمي :

يقول الاُستاذ السيّد أحمد فهمي : وقد أدرك الحُسين أنّه مقتول ؛ إذ هو يعلم علم اليقين قُبْحَ طويّة يزيد ، وإسفاف نحيزته وسوء سريرته ، فيزيد بعد قتل الحُسين ستمتد يده إلى أنْ يؤذي النّبي (صلّى الله عليه وآله) في سلالته مِنْ قتل الأطفال الأبرياء وانتهاك حرمة النساء ، وحملهنَّ ومَنْ بقي مِن الأطفال مِنْ قفرةٍ إلى قفرةٍ ومِنْ بلدٍ إلى بلدٍ ، فيُثير مرأى أولئك حفيظة المسلمين ، فليس ثمّة أشنع ولا أفظع مِن التشفّي والانتقام مِن النساء والأطفال بعد قتل الشباب والرجال ، فهو بخروجه بتلك الحالة أراد أنْ يثأر

__________________

(١) تحدّث الإمام كاشف الغطاء عن هذه الجهة بالتفضيل في كتابه (السياسة الحسينيّة).

٢٩٨

مِنْ يزيد في خلافته ويقتله في كرامته ، وحقّاً لقد وقع ما توقّعه ، فكان لما فعله يزيد وعصبته مِنْ فظيع الأثر في نفوس المسلمين ، وزاد في أضغانهم ما عرضوا به سلالة النّبوة مِنْ هتك خدر النساء ، وهنَّ اللاتي ما عُرِفْنَ إلاّ بالصيانة والطهر والعزّ والمنعة ، ممّا أطلق ألسِنَة الشعراء بالهجاء والذمّ ، ونفر أكثر المسلمين مِنْ خلافة الاُمويِّين ، وأسخط عليهم قلوب المؤمنين ، فقد قتله الحُسين أشدّ مِنْ قتله إيّاه(١) .

٣ ـ أحمد محمود صبحي :

يقول الدكتور أحمد محمود صبحي : ثمّ رفض ـ يعني الحُسين ـ إلاّ أنْ يصحب أهله ؛ ليشهد الناس على ما يقترفه أعداؤه بما لا يبرّره دين ولا وزاع مِنْ إنسانية ، فلا تضيع قضيته مع دمه المراق في الصحراء فيفترى عليه أشدّ الافتراء حين يعدم الشاهد العادل على كلّ ما جرى بينه وبين أعدائه.

تقول الدكتورة بنت الشاطئ : أفسدت زينت أخت الحُسين على ابن زياد وبني أُميّة لذّة النصر ، وسكبت قطرات مِن السمّ الزعاف في كؤوس الظافرين ، وإنّ كلّ الأحداث السياسية التي ترتّبت بعد ذلك مِنْ خروج المختار وثورة ابن الزّبير ، وسقوط الدولة الاُمويّة وقيام الدولة العباسية ، ثمّ تأصل مذهب الشيعة إنّما كانت زينب هي باعثة ذلك ومثيرته(٢) .

أريد أنْ أقول : ماذا يكون الحال لو قُتِلَ الحُسين ومَنْ معه جميعاً مِن الرجال؟ ألا يسجّلَ التاريخ هذه الحادثة الخطيرة مِنْ وجهة نظر أعدائه

__________________

(١) ريحانة الرسول / ١٦٧.

(٢) بطلة كربلاء / ١٧٦ و ١٨٠.

٢٩٩

فيضيع كلّ أثر لقضيته مع دمه المسفوك في الصحراء؟(١)

هذه بعض الآراء التي تدعم ما ذكرناه مِنْ أنّ خروج الحُسين (عليه السّلام) بعائلته لمْ يكن الغرض منه إلاّ بلورة الرأي العام ، وإيضاح المقاصد الرفيعة التي ثار مِنْ أجلها ، ومِنْ أهمها القضاء على دولة الاُمويِّين التي كانت تشكّل خطراً مباشراً على العقيدة الإسلاميّة.

وهناك رأي آخر أدلى به العلاّمة المغفور له الشيخ عبد الواحد المظفر ، وهو : أنّ الحُسين إنّما خرج بعائلته خوفاً عليها مِنْ اعتقال الاُمويِّين وزجّها في سجونهم قال : الحُسين لو أبقى النساء في المدينة لوضعت السلطة الاُمويّة عليها الحَجْر ، لا بل اعتقلتها علناً وزجّتها في ظلمات السجون ، ولا بد له حينئذ مِنْ أحد أمرين خطيرين ، كلّ منهما يشلّ أعضاء نهضته المقدسة :

أمّا الاستسلام لأعدائه وإعطاء صفقته لهم طائعاً ليستنقذ العائلة المصونة ، وهذا خلاف الإصلاح الذي ينشده ، وفرض على نفسه القيام به مهما كلّفه الأمر مِن الأخطار ، أو يمضي في سبيل إحياء دعوته ، ويترك المخدّرات اللّواتي ضرب عليهن الوحي ستراً مِن العظمة والإجلال ، وهذا ما لا تطيق احتماله نفس الحُسين الغيور ، ولا يردع أُميّة رادع من الحياء ، ولا يزجرها زاجر من الإسلام.

إنّ أُميّة لا يهمّها اقتراف الشائن في بلوغ مقاصدها وإدراك غاياتها ، فتتوصل إلى غرضها ولو بارتكاب أقبح المنكرات الدينية والعقلية.

ألمْ يطرق سمعك سجن الاُمويِّين لزوجة عمرو بن الحمق الخزاعي ، وزوجة عبيد الله بن الحرّ الجعفي ، وأخيراً زوجة الكميت الأسدي؟!(٢)

__________________

(١) نظرية الإمامة لدى الشيعة الاثنى عشرية / ٣٤٣.

(٢) توضيح الغامض من أسرار السنن والفرائض / ٢٩٧ ـ ٢٩٨.

٣٠٠

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471