حياة الامام الحسين عليه السلام الجزء ٢

حياة الامام الحسين عليه السلام12%

حياة الامام الحسين عليه السلام مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 471

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 471 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 260598 / تحميل: 5237
الحجم الحجم الحجم
حياة الامام الحسين عليه السلام

حياة الامام الحسين عليه السلام الجزء ٢

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

وعلى أيّ حالٍ ، فقد حطّم الإمام بخروجه لعائلته جميع مخطّطات السياسة الاُمويّة ، ونسف جميع ما أقامه معاوية من معالم الظلم.

فقد قمْنَ عقائل الوحي بدور فعال ببثّ الوعي الاجتماعي ، وتعريف المجتمع بواقع الاُمويِّين ، وتجريدهم من الإطار الديني ، ولولاهنَّ لاندرست معالم ثورة الحُسين وذهبت أدراج الرياح.

إنّ مِنْ ألمع الأسباب في استمرار خلود مأساة الإمام الحُسين (عليه السّلام) ، واستمرار فعالياتها في بثّ الإصلاح الاجتماعي على امتداد التاريخ ، هو حمل ودائع الرسالة وعقائل الوحي مع الإمام ، فقد قمْنَ بدور مشرق ببلورة الرأي العام ، فحملنَ راية الإيمان التي حملها الإمام العظيم ، ونشرنَ مبادئه العليا التي استشهد مِنْ أجلها.

فقد انبرت حفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله) وشقيقة الحُسين السيّدة زينب بنت أمير المؤمنين (عليه السّلام) إلى ساحات الجهاد ، وهي تدكُّ حصونَ الظالمين وتدمّر جميع ما أحرزوه مِن الانتصارات في قتل أخيها ، وتلحق بهم الهزيمة والعار وتملأ بيوتهم مأساة وحزناً.

لقد أقبلت قائدة المسيرة الحسينيّة عقيلة الوحي زينب (عليها السّلام) إلى ساحة المعركة وهي تشقّ صفوف الجيش ، تفتّش عن جثمان أخيها الإمام العظيم ، فلمّا وقفت عليه شخصت لها أبصار الجيش واستحال إلى سمع ، فماذا تقول أمام هذه الخطوب المذهلة التي تواكبت عليها؟

إنّها وقفت عليه غير مدهوشة ولمْ تذهلها الرزايا التي تميد منها الجبال ، فشخصت ببصرها إلى السّماء وهي تقول بحماسة الإيمان وحرارة العقيدة : اللّهم تقبّل منّا هذا القربان.

وأطلقت بذلك أوّل شرارة للثورة على الحكم الاُموي بعد أخيها ، وودّ الجيش أنْ تسيخ به الأرض ؛ فقد استبان له عِظَمُ ما اقترفه مِن الإثم ، وإنّه قد أباد

٣٠١

عناصر الإسلام ومراكز الوعي والإيمان.

ولمّا اقتربت سبايا أهل البيت (عليهم السّلام) إلى الكوفة خرجت الجماهير الحاشدة لاستقبال السبايا ، فخطبت فيهم عقيلة الوحي خطاباً مثيراً ومذهلاً ، وإذا بالناس حيارى لا يعون ولا يدرون ، قد استحالت بيوتهم إلى مآتم وهم يندبون حظّهم التعيس ويبكون على ما اقترفوه مِن الجرم ، وحينما انتهت إلى دار الإمارة استقبلها الطاغية متشفّياً بأحطّ وأخس ما يكون التشفّي قائلاً : كيف رأيتِ صنع الله بأخيك؟

وانطلقت عقيلة بني هاشم ببسالة وصمود فأجابته بكلمات النصر والظفر قائلةً : ما رأيت إلاّ جميلاً ، هؤلاء قومٌ كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم ، وسيجمع الله بينك وبينهم فتُحاج وتخاصم فانظر لمَنْ الفلج يومئذ ثكلتك أُمّك يابن مرجانة.

وأخزت هذه الكلمات ابن مرجانة فكانت أشقّ عليه مِنْ ضرب السيوف وطعن الرماح. ولمّا انتهت إلى الشام هزّت العرش الاُموي بخطابها المثير الرائع ، وحقّقت بذلك مِن النصر ما لمْ تحقّقه الجيوش.

لقد كان حمل الإمام الحُسين (عليه السّلام) لعائلته قائماً على أساس مِن الوعي العميق الذي أحرز به الفتح والنصر.

وبهذا ينتهي بنا الحديث عن بعض أسباب الثورة الحسينيّة ومخططاتها.

٣٠٢

في مكّة

٣٠٣
٣٠٤

وبعدما أعلن الإمام الحُسين (عليه السّلام) رفضه الكامل لبيعة يزيد اتّجه مع أهل بيته إلى مكّة التي هي حرم الله وحرم رسوله ؛ عائذاً ببيتها الحرام الذي فرض فيه تعالى الأمن والطمأنينة لجميع العباد.

لقد اتّجه إلى هذا البلد الأمين ؛ ليكون بمأمن مِنْ شرور الاُمويِّين واعتداءاتهم.

ويقول المؤرّخون : إنّه خرج ليلة الأحد لليلتين بقيتا مِنْ رجب سنة (٦٠ هـ)(١) ، وقد خيّم الذعر على المدنيين حينما رؤوا آل النّبي (صلّى الله عليه وآله) ينزحون عنهم إلى غير مآب.

وفصل الركب مِنْ يثرب وهو جادّ في مسيرته ، وكان الإمام (عليه السّلام) يتلو قوله تعالى : «رَبّ نَجّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظّالِمِينَ ». لقد شبّه خروجه بخروج موسى على فرعون زمانه ، وكذلك قد خرج على طاغية زمانه فرعون هذه الأُمّة ؛ ليقيم الحقّ ويبني صروح العدل ، وسلك الطريق العام الذي يسلكه الناس مِنْ دون أنْ يتجنّب عنه.

وأشار عليه بعض أصحابه أنْ يحيد عنه كما فعل ابن الزّبير مخافة أنْ يدركه الطلب مِن السلطة في يثرب ، فأجابه (عليه السّلام) بكلّ بساطة وثقة في النفس قائلاً : «لا والله ، لا فارقت هذا الطريق أبداً أو أنظر إلى أبيات مكّة ، أو يقضي الله في ذلك ما يحب ويرضى».

لقد رضي بكلّ قضاء يبرمه الله ، ولمْ يضعف ولمْ توهن عزيمته الأحداث الهائلة التي لا يطيقها أيّ إنسان ، وكان يتمثّل في أثناء مسيره

__________________

(١) خطط المقريزي ٢ / ٢٨٥ ، المنتظم لابن الجوزي ، الإفادة في تاريخ الأئمة السادة ، وفي الفتوح ٥ / ٣٤ أنّه خرج لثلاث ليال مضين من شعبان.

٣٠٥

بشعر يزيد بن المفرغ :

لا ذُعرتُ السَّوام في فلق الصبحِ

مغيراً ولا دُعيت يزيدا

يوم اُعطي مِن المهانةِ ضيماً

والمنايا ترصدنني أنْ أحيدا(١)

لقد كان على ثقة أنّ المنايا ترصده مادام مصمّماً على عزمه الجبّار في أنْ يعيش عزيزاً لا يُضام ، ولا يُذلّ ولا يخضع لحكم يزيد.

ويقول بعض الرواة : إنّه كان في مسيرته ينشد هذه الأبيات :

إذا المرءُ لمْ يحمِ بنيهِ وعرسَهُ

ونسوتَهُ كان اللئيمَ المسببا

وفي دون ما يبغي يزيد بنا غداً

نخوضُ حياضَ الموتِ شرقاً ومَغرِبا

ونضربُ ضرباً كالحريقِ مقدماً

إذا ما رآه ضيغمٌ راح هاربا

ودلّ هذا الشعر على مدى عزمه على أنْ يخوضَ حياض الموت ؛ سواء أكانت في المشرق أم في المغرب ولا يبايع يزيد بن معاوية.

مع عبد الله بن مطيع :

واستقبله في أثناء الطريق عبد الله بن مطيع العدوي ، فقال له : أين تريد أبا عبد الله؟ جعلني الله فداك.

ـ «أمّا في وقتي هذا اُريد مكّة ، فإذا صرت إليها استخرت الله في أمري بعد ذلك».

ـ خار الله لك يابن بنت رسول الله فيما قد عزمت عليه ، إنّي أشير عليك بمشورة فاقبلها منّي.

ـ «ما هي؟».

__________________

(١) تاريخ الطبري.

٣٠٦

ـ إذا أتيت مكّة فاحذر أنْ يغرّك أهل الكوفة ؛ فيها قُتِلَ أبوك ، وأخوك طعنوه بطعنة كادت أنْ تأتي على نفسه ، فالزم الحرم فإنّك سيد العرب في دهرك ، فو الله لئن هلكت ليهلكن أهل بيتك بهلاكك.

وشكره الإمام وودّعه ودعا له بخير(١) ، وسار موكب الإمام يجدّ السير لا يلوي على شيء حتّى انتهى إلى مكّة ، فلمّا نظر الإمام (عليه السّلام) إلى جبالها تلا قوله تعالى : «وَلَمّا تَوَجّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى‏ رَبّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السّبِيلِ »(٢) .

__________________

(١) المنتظم ـ ابن الجوزي ـ الجزء الخامس ، الفتوح ٥ / ٣٤ ، وجاء في تاريخ ابن عساكر ١٣ / ٥٥ أنّ الحُسين مرّ بابن مطيع وهو يحفر بئراً ، فقال له : إلى أين فداك أبي وأمي ، فقال له : «أردت مكّة». وذكر له كتب أهل الكوفة إليه ، فقال ابن مطيع : فداك أبي وأمي! متّعنا بنفسك ولا تسرِ إليهم. فأبى الحُسين. ثمّ قال له ابن مطيع : إنّ بئري هذه قد رسحتها ، وهذا اليوم أوان تمامها قد خرج إلينا في الدلو شيء مِن مائها ، فلو دعوت الله لنا فيها بالبركة ، فقال (عليه السّلام) : «هات مِن مائها». فأتاه منه فشرب منه وتمضمض وردّه في البئر ، فعذب ماؤها. وجاء في وسيلة المال في عدّ مناقب الآل ـ صفي الدين / ١٨٥ : أنّ عبد الله لقى الحُسين (عليه السّلام) فقال له : جعلت فداك أين تريد؟ فقال : «أمّا الآن فمكّة ، وأمّا بعدها فأستخير الله». فقال : خار الله لك وجعلنا فداك! الزم الحرم فإنّك سيد العرب ، لا يعدل بك أهل الحجاز أحداً ، وتتداعى إليك الناس مِنْ كلّ جانب. لا تفارق الحرم فداك عمّي وخالي ، فوالله إنْ هلكت لنسترقنَّ بعدك.

(٢) الفتوح ٥ / ٣٧.

٣٠٧

لقد كانت هجرته إلى مكّة كهجرة موسى إلى مدين ، فكلّ منهما قد فرّ مِنْ فرعون زمانه ، وهاجر لمقاومة الظلم ومناهضة الطغيان.

في مكّة :

وانتهى الإمام إلى مكّة ليلة الجمعة لثلاث ليال مضين مِنْ شعبان(١) ، وقد حطّ رحله في دار العباس بن عبد المطلب(٢) ، وقد استُقبل استقبالاً حافلاً مِن المكيين ، وجعلوا يختلفون إليه بكرةً وعشيةً وهم يسألونه عن أحكام دينهم وأحاديث نبيّهم.

يقول ابن كثير : وعكف الناس بمكة يفدون إليه ويجلسون حواليه ، ويستمعون كلامه وينتفعون بما يسمعون منه ، ويضبطون ما يروون عنه(٣) .

لقد كان بجاذبيته الروحية مهوى القلوب وندى الأفئدة ، وقد حامت حوله النفوس تروي غليلها مِنْ نمير علومه التي هي امتداد مِنْ علوم جدّه مفجّر العلم والنور في الأرض.

احتفاء الحِجّاج والمعتمرين به :

وأخذ القادمون إلى بيت الله مِن الحِجّاج والمعتمرين مِنْ سائر الآفاق يختلفون إليه(٤) ، ويهتفون بالدعوة إليه ويطوفون حوله ، هذا يلتمس

__________________

(١) المنتظم لابن الجوزي ، الإفادة في تاريخ الأئمة السادة.

(٢) تاريخ ابن عساكر ١٣ / ٦٨ ، وفي الأخبار الطوال / ٢٠٩ ، أنّه نزل في شعب علي.

(٣) البداية والنهاية.

(٤) الفصول المهمة لابن الصباغ / ١٧٠ ، وسيلة المال في عدّ مناقب الآل / ١٨٥.

٣٠٨

منه العلم والحديث وذاك يقتبس مِنه الحكم النافعة والكلم الجامعة ؛ ليهتدي بأنوارهما في ظلمات الحياة(١) ، ولم يترك الإمام ثانية مِنْ وقته تمرّ دون أنْ يبثّ الوعي الاجتماعي ، ويدعو إلى اليقظة والحذر مِن السياسة الاُمويّة الهادفة إلى استعباد المسلمين وإذلاهم.

فزع ابن الزّبير :

وكان ابن الزّبير لاجئاً إلى مكّة فراراً مِن البيعة ليزيد ، وقد ثقل عليه اختلاف الناس على الإمام الحُسين (عليه السّلام) وإجماعهم على تعظيمه وتبجيله وزهد الناس وانصرافهم عنه ؛ لأنّه لمْ يكن يتمتع بصفة محبوبة ولا بنزعة كريمة.

يقول زيد بن علي الجذعاني : وكانت فيه خلال لا تصلح معها الخلافة ؛ لأنّه كان بخيلاً ضيّق العطن(٢) ، سيّئ الخُلُق ، حسوداً كثير الخلاف. أخرج محمّد بن الحنفيّة ونفى عبد الله بن عباس إلى الطائف(٣) .

ومِنْ مظاهر ذاتياته الشحّ والبخل ، وفيه يقول الشاعر :

رأيتُ أبا بكر وربُّك غالبٌ

على أمره يبغي الخلافةَ بالتمرِ(٤)

وقد عانى الشعب في أيّام حكمه القصير الجوع والحرمان ، كما عانت الموالي التي بالغت في نصرته أشدّ ألوان الضيق ، وقد عبّر شاعرهم عن خيبة أملهم في نصرته يقول :

__________________

(١) نهضة الحسين / ٧٣.

(٢) العطن : مبرك الإبل ، ومربض الغنم.

(٣) فوات الوفيات ١ / ٤٤٨.

(٤) المعارف ـ ابن قتيبة / ٧٦.

٣٠٩

إنّ المواليَ أمستْ وهي عاتبةٌ

على الخليفةِ تشكو الجوع والسَّغبا

ماذا علينا وماذا كان يرزؤنا

أيّ الملوكِ على مَنْ حولنا غلبا(١)

وأظهر ابن الزّبير النسك والطاعة والتقشف ؛ تصنّعاً لصيد البسطاء وإغراء السذّج. وقد وصفه الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) بقوله : «ينصب حبالة الدين لاصطفاء الدنيا»(٢) .

ومِن المؤكد أنّه لمْ يكن يبغي في خروجه على سلطان بني أُميّة وجه الله ؛ وإنّما كان يبغي المُلْك والسلطان ، وقد أدلى بذلك عبد الله بن عمر حينما ألحّت عليه زوجته في مبايعته ، وذكرت له طاعته وتقواه ، فقال لها : أما رأيت بغلات معاوية التي كان يحجّ عليها الشهباء؟ فإنّ ابن الزّبير ما يريد غيرهن(٣) .

وعلى أيّ حالٍ ، فإنّ ابن الزّبير لمْ يكن شيء أثقل عليه مِنْ أمر الحُسين ؛ لعلمه بأنّه لا يبايعه أحد مع وجود الحُسين (عليه السّلام) ؛ لأنّه ابن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، فليس على وجه الأرض أحدٌ يساميه ولا يساويه ، كما يقول ابن كثير(٤) .

وأكّد ذلك (أوكلي) قال : إنّ ابن الزّبير كان مقتنعاً تماماً بأنّ كلّ جهوده ستضيع عبثاً طالماً بقي الحُسين على قيد الحياة ، ولكن إذا أصابه مكروه فإنّ طريق الخلافة سيكون ممهّداً له.

__________________

(١) مروج الذهب ٣ / ٢٢.

(٢) شرح نهج البلاغة ٧ / ٢٤.

(٣) المختار / ٩٥.

(٤) البداية والنهاية ٨ / ١٥٠ وجاء في وسيلة المال / ١٨٥ ، وقد ثقلت وطأة الحُسين على ابن الزّبير ؛ لأنّ أهل الحجاز لا يبايعونه ما دام الحُسين بالبلد ، ولا يتهيأ له ما يطلب منهم مع وجود الحُسين.

٣١٠

وكان يشير على الإمام بالخروج إلى العراق للتخلّص منه ، ويقول له : ما يمنعك مِنْ شيعتك وشيعة أبيك؟ فو الله ، لو أنّ لي مثلهم ما توجّهت إلاّ إليهم(١) .

ولمْ يمنح ابن الزّبير النصيحة للإمام ولمْ يخلص له في الرأي ؛ وإنّما أراد أنْ يستريح منه.

ولمْ تخفَ على الإمام دوافعه ، فراح يقول لأصحابه : «إنّ هذا ـ وأشار إلى ابن الزّبير ـ ليس شيء مِن الدنيا أحبّ إليه مِنْ أن أخرج مِن الحجاز ، وقد علم أنّ الناس لا يعدلونه بي ؛ فودّ أنّي خرجت حتّى يخلو له»(٢) .

ولمْ تحفل السلطة الاُمويّة بابن الزّبير وإنّما وجّهت جميع اهتمامها نحو الإمام الحُسين (عليه السّلام).

رأي الغزالي :

واستبعد الشيخ محمّد الغزالي أنّ ابن الزّبير قد أشار على الحُسين بالخروج إلى العراق ليستريح منه ، قال : فعبد الله بن الزّبير اتقى الله وأعرق في الإسلام مِنْ أنْ يقترف هذه الدنية(٣) .

وهذا الرأي بعيد عن الواقع ؛ فإنّ ابن الزّبير لمْ تكن له أيّة حريجة في الدين ، فهو الذي أجّج نار الفتنة في حرب الجمل وزج أباه فيها ، وقد تهالك على السلطان وضحّى بكلّ شيء في سبيله ، وقد كان مِنْ

__________________

(١) تاريخ الإسلام ـ الذهبي ٢ / ٢٦٨.

تاريخ ابن الأثير ٤ / ١٦ ، الطبري ٦ / ٢١٦.

(٣) من معالم الحق / ١٣١.

٣١١

أعدى الناس للعترة الطاهرة ، ومَنْ كان هذا شأنه فهل يكون تقيّاً وعريقاً في الإسلام؟!

رأي رخيص :

مِن الآراء الرخيصة ما ذهب إليه أنيس زكريا المعروف بنزعته الاُمويّة ، أنّ مِنْ أهمّ الأسباب التي أدّت إلى قتل الإمام الحُسين (عليه السّلام) تشجيع ابن الزّبير له في الخروج إلى العراق ، فقد كان له أثره المهم في نفسه(١) .

وهذا القول مِنْ أهزل الآراء ؛ فإنّ الإمام الحُسين (عليه السّلام) لمْ يتأثر بقول ابن الزّبير ولمْ ينخدع بتشجيعه له ، وإنّما كانت هناك عوامل أُخرى حفّزته إلى الخروج إلى العراق ، وقد ذكرناها بالتفصيل في البحوث السابقة.

فزع السلطة المحلّية :

وذُعرت السلطة المحلّية في مكّة مِنْ قدوم الإمام إليها ، وخافت أنْ يتّخذها مقرّاً سياسياً لدعوته ، ومنطلقاً لإعلان الثورة على حكومة دمشق ، وقد خفت حاكم مكّة عمرو بن سعيد الأشدق وهو مذعور فقابل الإمام ، فقال له : ما أقدمك؟

ـ «عائذاً بالله ، وبهذا البيت»(٢) .

__________________

(١) الدولة الاُمويّة في الشام / ٥٤.

(٢) تذكرة الخواصّ / ٢٤٨.

٣١٢

لقد جاء الإمام (عليه السّلام) عائذاً ببيت الله الحرام الذي مَنْ دخله كان آمناً ، وكان محصناً مِنْ كلّ ظلم واعتداء.

ولمْ يحفل الأشدق بكلام الإمام ، وإنّما رفع رسالة إلى يزيد أحاطه بها علماً بمجيء الإمام إلى مكّة ، واختلاف الناس إليه وازدحامهم على مجلسه وإجماعهم على تعظيمه ، وأخبره إنّ ذلك يشكّل خطراً على الدولة الاُمويّة.

قلق يزيد :

واضطرب يزيد كأشدّ ما يكون الاضطراب حينما وافته الأنباء بامتناع الحُسين عن بيعته ، وهجرته إلى مكّة واتّخاذها مركزاً لدعوته ، وإرسال العراق الوفود والرسائل إلى الدعوة لبيعته ، فكتب إلى عبد الله بن عباس رسالة ، وهذا نصها :

أمّا بعد ، فإنّ ابن عمّك حُسيناً ، وعدو الله ابن الزّبير التويا ببيعتي ولحقا بمكة مرصدين للفتنة ، معرّضين أنفسهما للهلكة ؛ فأمّا ابن الزّبير فإنّه صريع الفنا وقتيل السيف غداً ، وأمّا الحُسين فقد أحببت الأعذار إليكم أهل البيت ممّا كان منه ، وقد بلغني أنّ رجالاً مِنْ شعيته مِن أهل العراق يكاتبونه ويكاتبهم ، ويمنّونه الخلافة ويمنّيهم الإمرة ، وقد تعلمون ما بيني وبينكم مِن الوصلة وعظيم الحرمة ونتائج الأرحام ، وقد قطع ذلك الحُسين وبتّه ، وأنت زعيم أهل بيتك وسيد بلادك ، فالقه فاردده عن السعي في الفتنة ، فإنْ قبل منك وأناب فله عندى الأمان والكرامة الواسعة ، وأجري عليه ما كان أبي يجريه على أخيه ، وإنْ طلب الزيادة فاضمن له ما أدّيك ، وأنفّذ ضمانك وأقوم له بذلك

٣١٣

وله عليّ الأيمان المغلظّة ، والمواثيق المؤكدة بما تطمئن به نفسه ويعتمد في كلّ الأمور عليها. عجّل بجواب كتابي وبكلّ حاجة لك قبلي ، والسلام. وختم كتابه بهذه الأبيات :

يا أيّها الراكبُ العادي مطيّتَهُ

على غُذافرةٍ في سيرِها قحمُ

أبلغ قريشاً على نأي المزارِ بها

بيني وبين حُسينِ اللهُ والرَّحِمُ

وموقفٌ بفناء البيتِ أنشدُهُ

عهدَ الإله وما توفي به الذممُ

عنيتمُ قومَكم فخراً بأُمّكمُ

أُمٌّ لَعمري حَصانٌ عفةٌ كرمُ

هي التي لا يداني فضلَها أحدٌ

بنتُ الرسول وخيرُ الناس قد علموا

إنّي لأعلمُ أو ظنّاً كعالمِهِ

والظنُّ يصدقُ أحياناً فينتظمُ

أنْ سوف يتركُكُمْ ما تدّعون بها

قتلى تهاداكُمُ العقبانُ والرّخمُ

يا قومَنا لا تشبّوا الحربَ إذ سكنتْ

وأمسكوا بحبالِ السلمِ واعتصموا

قد جرّب الحربَ مَنْ قد كان قبلَكُمُ

مِن القرونِ وقد بادتْ بها الاُممُ

فأنصفوا قومَكم لا تهلكوا برحاً

فرُبَّ ذي برحٍ زلّت به القدمُ

ودلّت هذه الرسالة على غباوة يزيد ؛ فقد حسب أنّ الإمام يطلب المال والثراء في خروجه عليه ، ولمْ يعلم أنّه إنّما ناهضه لا يبغي بذلك إلاّ الله والتماس الأجر في الدار الآخرة.

جواب ابن عباس :

وأجابه ابن عباس : أمّا بعد ، فقد ورد كتابك تذكر فيه لحاق الحُسين وابن الزّبير بمكة ؛ فأمّا ابن الزّبير فرجل منقطع عنّا برأيه وهواه ؛ يكاتمنا مع ذلك أضغاناً يسرّها في صدره ، يوري علينا وري الزناد ، لا فكّ الله أسيرها ، فارى في أمره ما أنت راء ؛ وأمّا الحُسين فإنّه لمّا نزل مكة

٣١٤

وترك حرم جدّه ومنازل آبائه سألته عن مقدمه فأخبرني أنّ عمّالك بالمدينة أساؤا إليه ، وعجّلوا عليه بالكلام الفاحش فأقبل إلى حرم الله مستجيراً به ، وسألقاه فيما أشرت إليه ولنْ أدع النصيحة فيما يجمع الله به الكلمة ، ويطفئ بها النائرة ، ويخمد بها الفتنة ، ويحقن بها دماء الأُمّة.

فاتّقِ الله في السرّ والعلانية ، ولا تبيتنَ ليلة وأنت تريد لمسلم غائلة ، ولا ترصده بمظلمة ولا تحقّر له مهراة(١) ، فكم مِنْ حافر لغيره حفراً وقع فيه ، وكم مِنْ مؤمّل أملاً لمْ يؤت أمله ، وخذْ بحظّك مِنْ تلاوة القرآن ونشر السنّة ، وعليك بالصيام والقيام لا تشغلك عنهما ملاهي الدنيا وأباطيلها ؛ فإنّ كلّ ما اشتغلت به عن الله يضرّ ويفنى ، وكلّ ما اشتغلت به مِنْ أسباب الآخرة ينفع ويبقى. والسلام(٢) .

وحفلت هذه الرسالة بما يلي :

١ ـ أنّه لا علاقة لبني هاشم بابن الزّبير ولا هم مسؤولون عن تصرفاته ؛ فقد كان عدواً لهم يتربص بهم الدوائر ويبغي لهم الغوائل.

٢ ـ أنّ الإمام الحُسين إنّما نزح مِنْ يثرب إلى مكّة لا لإثارة الفتنة ؛ وإنّما لإساءة عمّال يزيد له ، وقد قدم إلى مكّة ليستجير ببيتها الحرام.

إقصاء حاكم المدينة :

كان الوليد بن عتبة بن أبي سفيان والياً على يثرب بعد عزل مروان عنها ، وكان فيما يقول المؤرّخون فطناً ذكيّاً ، يحب العافية ويكره الفتنة ، ولمّا امتنع الإمام الحُسين (عليه السّلام) مِن البيعة ليزيد لمْ يتّخذ معه

__________________

(١) المهراة : الحفرة.

(٢) تذكرة الخواصّ / ٢٤٨ ـ ٢٥٠ ، تاريخ ابن عساكر ١٣ / ٧٠.

٣١٥

الإجراءات الصارمة ولمْ يكرهه على ما لا يحبّ ، وإنّما فسح له المجال في الرحيل إلى مكّة مِنْ دون أنْ يعوّقه عنها ، في حين قد أصرّ عليه مروان بالتنكيل به فرفض ذلك ، وقد نقل الاُمويّون موقفه المتّسم باللين والتسامح مع الحُسين إلى يزيد فغضب عليه وعزله عن ولايته(١) ، وقد عهد بها إلى جبّار مِنْ جبابرة الاُمويِّين عمرو بن سعيد الأشدق(٢) وقد عُرِفَ بالقسوة والغلظة ، فقدم إلى المدينة في رمضان بعد أنْ تسلّم ولايته عليها فصلّى بالناس صلاة العتمة.

وفي الصباح خرج على الناس وعليه قميص أحمر وعمامة حمراء ، فرماه الناس بأبصارهم منكرين ما هو عليه ، فصعد المنبر فقال : يا أهل المدينة ، ما لكم ترموننا بأبصاركم كأنّكم تقروننا سيوفكم؟ أنسيتم ما فعلتم! أما لو انتقم في الأولى ما عدتم إلى الثانية ، أغرّكم إذ قتلتم عثمان فوجدتموه صابراً حليماً وإماماً ، فذهب غضبه وذهبت ذاته فاغتنموا أنفسكم ، فقد وليكم إمام بالشباب المقتبل البعيد الأمل ، وقد اعتدل جمسه واشتدّ عظمه ، ورمى الدهر ببصره واستقبله بأسره ، فهو إنْ عضّ لهس وإنْ وطيء فرس ، لا يقلقه الحصى ولا تقرع له العصا.

وعرض في خطابه لابن الزّبير فقال : فو الله لنغزونّه ، ثمّ لئن دخل الكعبة لنحرقنّها عليه على رغم

__________________

(١) البداية والنهاية ٨ / ١٤٨.

(٢) الأشدق : لقّب بذلك لتشادقه الكلام. وقيل : إنّما لقّب بذلك لأنّه كان أفقم مائل الذقن ، جاء ذلك في البيان والتبيين ١ / ٣١٥ ، وقيل : إنّما لقّب بذلك لأنّه أصابه اعوجاج في حلقه لإغراقه في شتم علي ، جاء ذلك في معجم الشعراء / ٢٣١.

٣١٦

أنف مَنْ رغم(١) .

ورعف الطاغية على المنبر فألقى إليه رجل عمامة فمسح بها دمه ، فقال رجل مِنْ خثعم : دمٌ على المنبر في عمامة فتنة عمّت وعلا ذكرها وربّ الكعبة(٢) . وقد اُثر عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أنّه قال : «ليرعفنَّ على منبري جبّار مِن جبابرة بني اُميّة فيسيل رعافه»(٣) .

وعزم الأشدق على مقابلة الجبهة المعارضة بالقوة والبطش ، وقد حفّزه إلى ذلك ما حلّ بسلفه الوليد مِن الإقصاء وسلب الثقة عنه ؛ نتيجة تساهله مع الحُسين (عليه السّلام).

ولعلّ مِنْ أوثق الأسباب التي دعت الإمام الحُسين (عليه السّلام) إلى مغادرة الحجاز هو الحذر مِنْ بطش هذا الطاغية به ، والخوف مِنْ اغتياله وهو في الحرم.

الحُسين مع ابن عمر وابن عباس :

وكان عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر مقيمين في مكّة حينما أقبل الإمام الحُسين إليها ، وقد خفّا لاستقباله والتشرّف بخدمته وكانا قد عزما على مغادرة مكّة.

فقال له ابن عمر : أبا عبد الله ، رحمك الله ، اتّقِ الله الذي إليه معادك ، فقد عرفت مِنْ عداوة أهل هذا البيت ـ يعني بني اُميّة ـ لكمْ ، وقد ولي الناس هذا الرجل يزيد بن معاوية ولستُ آمن أنْ يميلَ الناس إليه ؛ لمكان هذه الصفراء

__________________

(١) تاريخ الإسلام ـ الذهبي ٢ / ٢٦٨.

(٢) سمط النجوم العوالي ٣ / ٥٧.

(٣) مجمع الزوائد ٥ / ٢٤٠.

٣١٧

والبيضاء فيقتلونك ويهلك فيك بشر كثير ، فإنّي قد سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول : «حُسين مقتول ، ولئن قتلوه وخذلوه ولن ينصروه ليخذلهم الله إلى يوم القيامة». وأنا أشير عليك أن تدخل في صلح ما دخل فيه الناس ، واصبر كما صبرتَ لمعاوية مِنْ قبل ، فلعلّ الله أنْ يحكم بينك وبين القوم الظالمين.

فقال له أبيّ الضيم : «أنا اُبايع يزيد وأدخل في صلحه وقد قال النّبي (صلّى الله عليه وآله) فيه وفي أبيه ما قال؟!». وانبرى ابن عباس فقال له : صدقت أبا عبد الله ؛ قال النّبي (صلّى الله عليه وآله) في حياته : «ما لي وليزيد! لا بارك الله في يزيد ، وإنّه يقتل ولدي وولد ابنتي الحسين. والذي نفسي بيده ، لا يُقتل ولدي بين ظهراني قوم فلا يمنعونه إلاّ خالف الله بين قلوبهم وألسنتهم». وبكى ابن عباس والحُسين ، والتفت إليه قائلاً : «يابن عباس ، أتعلم أنّي ابن بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله)؟».

ـ اللّهم نعم ، نعلم ما في الدنيا أحد هو ابن بنت رسول الله غيرك ، وإنّ نصرك لفرض على هذه الاُمّة كفريضة الصلاة والزكاة التي لا يقبل أحدهما دون الاُخرى.

فقال له الحُسين (عليه السّلام) : «يابن عباس ، ما تقول في قوم أخرجوا ابن بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) مِنْ داره وقراره ، ومولده وحرم رسوله ، ومجاورة قبره ومسجده وموضع مهاجره ، فتركوه خائفاً مرعوباً لا يستقر في قرار ، ولا يأوي في

٣١٨

موطن ، يريدون في ذلك قتله وسفك دمه ، وهو لمْ يشرك بالله ولا اتّخذ من دونه وليّاً ، ولمْ يتغيّر عمّا كان عليه رسول الله (صلّى الله عليه وآله)؟».

وانبرى ابن عباس يؤيد كلامه ويدعم قوله قائلاً : ما أقول فيهم إلاّ أنّهم كفروا بالله ورسوله ، (وَلاَ يَأْتُونَ الصّلاَةَ إِلا وَهُمْ كُسَالَى ، يُرَاءُونَ النّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلا قَلِيلاً ، مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لاَ إِلَى‏ هؤُلاَءِ وَلاَ إِلَى‏ هؤُلاَءِ وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً) ، وعلى مثل هؤلاء تنزل البطشة الكبرى ، وأمّا أنت يا بن رسول الله ، فإنّك رأس الفخار برسول الله ، فلا تظنَّ يابن بنت رسول الله أنّ الله غافلٌ عمّا يفعل الظالمون ، وأنا أشهد أنّ مَنْ رغِبَ عن مجاورتك وطمعَ في محاربتك ومحاربة نبيّك محمّد فما له مِنْ خلاق.

وانبرى الإمام الحُسين فصدّق قوله قائلاً : «اللّهم نعم».

وانطلق ابن عباس يظهر له الاستعداد للقيام بنصرته قائلاً : جعلت فداك يابن بنت رسول الله ، كأنّك تريدني إلى نفسك وتريد منّي أنْ أنصرك ، والله الذي لا إله إلاّ هو أنْ لو ضربتُ بين يديك بسيفي هذا بيدي حتّى انخلعا جميعاً من كفّي لما كنت ممّن وفّى مِنْ حقك عشر العشر ، وها أنا بين يديك مرني بأمرك.

وقطع ابن عمر كلامه ، وأقبل على الحُسين ، فقال له : مهلاً عما قد عزمت عليه ، وارجع مِنْ هنا إلى المدينة وادخل في صلح القوم ، ولا تغب عن وطنك وحرم جدك رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، ولا تجعل لهؤلاء الذين لا خلاق لهم على نفسك حجّة وسبيلاً ، وإنْ أحببت أنْ لا تبايع فأنت متروك حتّى ترى رأيك ، فإنّ يزيد بن معاوية عسى أنْ لا يعيش إلاّ قليلاً فيكفيك الله أمره.

وزجره الإمام (عليه السّلام) ، وردّ عليه قوله قائلاً :

٣١٩

«اُفٍ لهذا الكلام أبداً ما دامت السماوات والأرض! أسألك يا عبد الله ، أنا عندك على خطأ مِنْ أمري؟ فإنْ كنت على خطأ ردّني فأنا أخضع وأسمع وأطيع».

فقال ابن عمر : اللّهم لا ، ولمْ يكن الله تعالى يجعل ابن بنت رسول الله على خطأ ، وليس مثلك مِنْ طهارته وصفوته مِنْ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) على مثل يزيد بن معاوية ، ولكنْ أخشى أنْ يُضربَ وجهُك هذا الحسن الجميل بالسيوف وترى مِنْ هذه الاُمّة ما لا تحبّ ، فارجع معنا إلى المدينة ، وإنْ لمْ تحبّ أنْ تبايع فلا تبايع أبداً واقعد في منزلك.

والتفت إليه الإمام فأخبره عن خبث الاُمويِّين وسوء نواياهم نحوه قائلاً : «هيهات يابن عمر! إنّ القوم لا يتركوني وإنْ أصابوني ، وإنْ لمْ يصيبوني فلا يزالون حتّى اُبايع وأنا كاره أو يقتلوني. أما تعلم يا عبد الله ، إنّ مِنْ هوان الدنيا على الله تعالى أنّه اُتي برأس يحيى بن زكريا إلى بغي مِنْ بغايا بني إسرائيل والرأس ينطق بالحجّة عليهم؟! أما تعلم يا أبا عبد الرحمن ، إنّ بني إسرائيل كانوا يقتلون ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس سبعين نبياً ثمّ يجلسون في أسواقهم يبيعون ويشترون كلّهم كأنّهم لمْ يصنعوا شيئاً ، فلمْ يعجّل الله عليهم ، ثمّ أخذهم بعد ذلك أخذ عزيز مقتدر؟!»(١)

وكشفت هذه المحاورة عن تصميمه على الثورة وعزمه على مناجزة يزيد ؛ لأنّه لا يتركه وشأنه ؛ فإمّا أنْ يبايعَ وبذلك يذلّ هو ويذلّ الإسلام

__________________

(١) الفتوح ٥ / ٣٨ ـ ٤٢.

٣٢٠

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

4 ـ إنّه تحدّث عمّا يجب أنْ يتّصفَ به الإمام والقائد لمسيرة الاُمّة مِنْ الصفات ، وهي :

أ ـ العمل بكتاب الله.

ب ـ الأخذ بالقسط.

ج ـ الإداناة بالحقّ.

د ـ حبس النفس على ذات الله.

ولم تتوفّر هذه الصفات الرفيعة إلاّ في شخصيته الكريمة التي تحكي اتّجاهات الرسول (صلّى الله عليه وآله) ونزعاته.

وتسلّم مسلم هذه الرسالة ، وقد أوصاه الإمام بتقوى الله وكتمان أمره(1) ، وغادر مسلم مكّة ليلة النصف مِنْ رمضان(2) ، وعرج في طريقه على يثرب فصلّى في مسجد الرسول (صلّى الله عليه وآله) وطاف بضريحه ، وودّع أهله وأصحابه(3) ، وكان ذلك هو الوداع الأخير لهم ، واتّجه صوب العراق وكان معه قيس بن مسهر الصيداوي ، وعمارة بن عبد الله السلولي وعبد الرحمن بن عبد الله الأزدي ، واستأجر مِنْ يثرب دليلين مِنْ قيس يدلاّنه على الطريق(4) .

وسارت قافلة مسلم تجذّ في السير لا تلوي على شيء ، يتقدّمها الدليلان وهما يتنكبان الطريق ؛ خوفاً مِن الطلب فضلاً عن الطريق ، ولم يهتديا له وقد أعياهما السير واشتدّ بهما العطش ، فأشارا إلى مسلم بسنن الطريق بعد

__________________

(1) تاريخ ابن الأثير 3 / 267.

(2) مروج الذهب 2 / 86.

(3) تاريخ الطبري 6 / 198.

(4) الأخبار الطوال / 231 ، تاريخ ابن الأثير 3 / 267.

٣٤١

أنْ بان لهما وتوفيا في ذلك المكان حسبما يقوله المؤرّخون(1) ، وسار مسلم مع رفقائه حتّى أفضوا إلى الطريق ووجدوا ماءً فأقاموا فيه ؛ ليستريحوا ممّا ألمَّ بهمْ مِنْ عظيم الجهد والعناء.

رسالة مسلم للحُسين (عليهما السّلام) :

ويقول المؤرّخون : إنّ مسلم تخوّف مِنْ سفره وتطيّر بعد أنْ أصابه مِن الجهد وموت الدليلين ، فرفع للإمام رسالة يرجو فيها الاستقالة مِنْ سفارته ، وهذا نصها : أمّا بعد ، فإنّي أقبلت مِن المدينة مع دليلين ، فجازا(2) عن الطريق فضلاّ ، واشتدّ عليهما العطش فلمْ يلبثا أنْ ماتا ، وأقبلنا حتّى انتهينا إلى الماء فلمْ ننجُ إلاّ بحشاشة أنفسنا ، وذلك الماء بمكان يدعى (المضيق) مِنْ بطن الخبث ، وقد تطيّرت مِنْ توجّهي هذا ، فإنْ رأيت أعفيتني مِنه وبعثت غيري ، والسّلام.

جواب الحُسين (عليه السّلام) :

وكتب الإمام الحُسين جواباً لرسالة مسلم ندد فيه بموقفه واتّهمه بالجبن ، وهذا نصها : أمّا بعد ، فقد خشيت أنْ لا يكون حمَلَك على الكتاب إليّ في الاستعفاء مِن الوجه الذي وجّهتك له إلاّ الجبن ، فامضِ لوجهك الذي

__________________

(1) الإرشاد / 227.

(2) جازا عن الطريق : أي تركاه خلفهما.

٣٤٢

وجّهتك فيه ، والسّلام(1) .

أضواء على الموضوع :

وأكبر الظنّ أنّ رسالة مسلم مع جواب الإمام مِن الموضوعات ، ولا نصيب لها مِن الصحة ؛ وذلك لما يلي :

1 ـ إنّ مضيق الخبث الذي بعث منه مسلم رسالته إلى الإمام يقع ما بين مكّة والمدينة حسب ما نصّ عليه الحموي(2) ، في حين أنّ الرواية تنصّ على أنّه استأجر الدليلين مِنْ يثرب ، وخرجوا إلى العراق فضلّوا عن الطريق وماتا الدليلان. ومِن الطبيعي أنّ هذه الحادثة وقعت ما بين المدينة والعراق ولمْ تقع ما بين مكّة والمدينة.

2 ـ إنّه لو كان هناك مكان يُدعى بهذا الاسم يقع ما بين يثرب والعراق لمْ يذكره الحموي ، فإنّ السفر منه إلى مكّة ذهاباً وإياباً يستوعب زماناً يزيد على عشرة أيّام ، في حين أنّ سفر مسلم مِنْ مكّة إلى العراق قد حدّده المؤرّخون فقالوا : إنّه سافر مِنْ مكّة في اليوم الخامس عشر مِنْ رمضان وقدم إلى الكوفة في اليوم الخامس مِنْ شوال ، فيكون مجموع سفره عشرين يوماً ، وهي أسرع مدّة يقطعها المسافر مِنْ مكّة إلى المدينة ؛ فإنّ المسافة بينهما تزيد على ألف وستمئة كيلو متر.

وإذا استثنينا مِنْ هذه المدّة سفر رسول مسلم مِنْ ذلك المكان ورجوعه إليه فإنّ مدّة سفره مِنْ مكّة إلى الكوفة تكون أقلّ مِنْ عشرة أيّام ، ويستحيل عادة قطع تلك

__________________

(1) الإرشاد / 226 ، وفي الحدائق الوردية 1 / 117 خرج مسلم مِنْ مكّة حتّى أتى المدينة ، وأخذ منها دليلين ، فمرّا به في البريّة فأصابهما عطش فمات أحد الدليلين ، فكتب مسلم إلى الحُسين يستعفيه ، فكتب إليه الحُسين (عليه السّلام) : «أنْ امضِ إلى الكوفة».

(2) معجم البلدان 2 / 343.

٣٤٣

المسافة بهذه الفترة مِن الزمن.

3 ـ إنّ الإمام اتّهم مسلماً في رسالته بالجبن ، وهو يناقض توثيقه له مِنْ أنّه ثقته وكبير أهل بيته والمبرز بالفضل عليهم ، ومع اتّصافه بهذه الصفات كيف يتّهمه بالجبن؟!

4 ـ إنّ اتّهام مسلم بالجبن يتناقض مع سيرته ؛ فقد أبدى هذا البطل العظيم مِن البسالة والشجاعة النادرة ما يبهر العقول ، فإنّه حينما انقلبت عليه جموع أهل الكوفة قابلها وحدّه مِنْ دون أنْ يعينه أو يقف إلى جنبه أيّ أحد ، وقد أشاع في تلك الجيوش المكثّفة القتل ممّا ملأ قلوبهم ذعراً وخوفاً ، ولمّا جيء به أسيراً إلى ابن زياد لمْ يظهر عليه أيّ ذلّ أو انكسار.

ويقول فيه البلاذري : إنّه أشجع بني عقيل وأرجلهم(1) ، بل هو أشجع هاشمي عرفه التاريخ بعد أئمّة أهل البيت (عليهم السّلام).

إنّ هذا الحديث مِن المفتريات الذي وضِعَ للحطّ مِنْ قيمة هذا القائد العظيم الذي هو مِنْ مفاخر الاُمّة العربية والإسلاميّة.

في بيت المختار :

وسار مسلم يطوي البيداء حتّى دخل الكوفة فاختار النزول في بيت المختار الثقفي(2) ، وهو مِنْ أشهر أعلام الشيعة وأحد سيوفهم ومِنْ أحبّ الناس وأنصحهم للإمام الحُسين.

__________________

(1) أنساب الأشراف 1 / ق 1.

(2) الإرشاد / 226 ، تاريخ ابن الأثير 3 / 267 ، وقيل : نزل مسلم في بيت مسلم بن عوسجة ، وقيل : نزل في بيت هانئ بن عروة ، جاء ذلك في كلّ مِن الإصابة 1 / 332 ، وتهذيب التهذيب.

٣٤٤

لقد اختار مسلم النزول في بيت المختار دون غيره مِنْ زعماء الشيعة ؛ وذلك لوثوقه بإخلاصه للإمام الحُسين وتفانيه في حبّه ، كما أنّ هناك عاملاً آخر له أهمّيته ، فقد كان المختار زوجاً لعمرة بنت النعمان بن بشير حاكم الكوفة ، ولا شك أنّ يده لنْ تمتد إلى المسلم طالماً كان مقيماً في بيت صهره المختار ، وقد دلّ ذلك على إحاطة مسلم بالشؤون الاجتماعية.

وفتح المختار أبواب داره لمسلم وقابله بمزيد مِن الحفاوة والتكريم ، ودعا الشيعة إلى مقابلته ، فأقبلوا إليه مِنْ كلّ حدب وصوب وهم يظهرون له الولاء والطاعة.

ابتهاج الكوفة :

وعمّت الأفراح بمقدم مسلم جميع الأوساط الشيعية في الكوفة ، وقد وجد منهم مسلم ترحيباً حارّاً وتأييداً شاملاً ، وكان يقرأ عليهم رسالة الحُسين وهم يبكون ويبدون التعطّش لقدومه والتفاني في نصرته ؛ لينقذهم مِنْ جور الاُمويِّين وظلمهم ويعيد في مصرهم حكم الإمام أمير المؤمنين ، مؤسس العدالة الكبرى في الأرض ، وكان مسلم يوصيهم بتقوى الله وكتمان أمرهم حتّى يقدم إليهم الإمام الحُسين.

البيعة للحُسين (عليه السّلام) :

وانثالت الشيعة على مسلم تبايعه للإمام الحُسين (عليه السّلام) ، وكانت صيغة البيعة الدعوة إلى كتاب الله وسنّة رسوله وجهاد الظالمين ، والدفع عن المستضعفين وإعطاء المحرومين وقسمة الغنائم بين المسلمين بالسويّة ، وردّ المظالم إلى

٣٤٥

أهلها ونصرة أهل البيت (عليهم السّلام) ، والمسالمة لمَنْ سالموا والمحاربة لمَنْ حربوا. وقد شبّه السيّد المقرّم هذه البيعة ببيعة الأوس والخزرج للنّبي (صلّى الله عليه وآله)(1) ، وكان حبيب بن مظاهر الأسدي يأخذ البيعة منهم للحُسين(2) .

كلمة عابس الشاكري :

وانبرى المؤمن الفذ عابس بن شبيب الشاكري فأعرب لمسلم عن ولائه الشخصي واستعداده للموت في سبيل الدعوة ، إلاّ إنّه لمْ يتعهد له بإيّ أحد مِنْ أهل مصره قائلاً : أمّا بعد ، فإنّي لا أخبرك عن الناس ولا أعلم ما في أنفسهم وما أغرّك منهم. والله ، إنّي محدّثك عمّا أنا موطّن عليه نفسي. والله ، لاُجيبنَّكم إذا دعوتم ولاُقاتلنَّ معكم عدوكم ، ولأضربنَّ بسيفي دونكم حتّى ألقى الله ، لا أريد بذلك إلاّ ما عند الله.

وقد صدق عابس ما عاهد عليه الله ؛ فلمْ يخن ضميره ففدى بنفسه ريحانة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) واستشهد بين يديه في كربلاء. وانبرى حبيب ابن مظاهر فخاطب عابساً قائلاً له : رحمك الله ، فقد قضيت ما في نفسك بواجز مِنْ قولك ، وأنا والله الذي لا إله إلاّ هو على مثل ما أنت عليه.

واندفع سعيد الحنفي فأيّد مقالة صاحبيه(3) ، وهؤلاء الأبطال مِنْ

__________________

(1) الشهيد مسلم بن عقيل / 103.

(2) الحدائق الوردية 1 / 125 مِنْ مخطوطات مكتبة الإمام كاشف الغطاء العامّة.

(3) تاريخ الطبري 6 / 199.

٣٤٦

أنبل مَنْ عرفهم التاريخ صدقاً ووفاءً ، فقد بذلوا أرواحهم بسخاء إلى الإمام الحُسين واستشهدوا بين يديه في كربلاء.

عدد المبايعين :

وتسابقت جماهير الكوفة إلى بيعة الحُسين على يد سفيره مسلم بن عقيل ، وقد اختلف المؤرّخون في عدد مَنْ بايعه ، وهذه بعض الأقوال :

1 ـ أربعون ألفاً(1) .

2 ـ ثلاثون ألفاً ، ومِنْ بينهم حاكم الكوفة النعمان بن بشير(2) .

3 ـ ثمانية وعشرون ألفاً(3) .

4 ـ ثمانية عشر ألفاً ، حسب ما جاء في رسالة مسلم إلى الحُسين ، يقول فيها : وقد بايعني مِنْ أهل الكوفة ثمانية عشر ألفاً فعجل الإقبال(4) .

__________________

(1) شرح شافية أبي فراس 1 / 90 مِنْ مصوّرات مكتبة الإمام الحكيم ، مثير الأحزان لابن نما / 11.

(2) دائرة معارف وجدي 3 / 444 ، حقائق الأخبار عن دول البحار ، روضة الأعيان في أخبار مشاهير الزمان ـ محمد بن أبي بكر المتوفى سنة (730 هـ) / 67 مِنْ مصوّرات مكتبة الحكيم ، مناقب الإمام علي بن أبي طالب / 13 ، وجاء فيه : أنّ النعمان قال : يا أهل الكوفة ، ابن بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أحبّ إليكم مِن ابن بنت بجدل.

(3) تاريخ أبي الفداء 1 / 300.

(4) تاريخ الطبري 6 / 224.

٣٤٧

5 ـ اثنا عشر ألفاً(1) .

رسالة مسلم للحُسين :

وازداد مسلم إيماناً ووثوقاً بنجاح الدعوة حينما بايعه ذلك العدد الهائل مِنْ أهل الكوفة ، فكتب للإمام يستحثّه فيها على القدوم إليهم ، وكان قد كتبها قبل شهادته ببضع وعشرين ليلة(2) ، وهذا نصها : أمّا بعد ، فإنّ الرائد لا يكذب أهله ، وقد بايعني مِنْ أهل الكوفة ثمانية عشر ألفاً(3) فعجّل حين يأتيك كتابي ، فإنّ الناس كلّهم معك ليس لهم في آل معاوية رأي ولا هوي(4) .

لقد كتب مسلم هذه الرسالة ؛ لأنّه لمْ يرَ أيّة مقاومة لدعوته ، وإنّما رأى إجماعاً شاملاً على بيعة الإمام وتلهّفاً حارّاً لرؤيته ، وحمل الكتاب جماعة مِنْ أهل الكوفة وعليهم البطل العظيم عابس الشاكري ، وقدم الوفد مكّة المكرّمة وسلّم الرسالة إلى الإمام ، وقد استحثّوه على القدوم إلى الكوفة وذكروا إجماع أهلها على بيعته وما قالاه مسلم مِن الحفاوة البالغة منهم ؛ وعند ذلك تهيأ الإمام إلى السفر للكوفة.

__________________

(1) مروج الذهب 3 / 4 ، الصراط السوي في مناقب آل النّبي / 86 مِنْ مصوّرات مكتبة الإمام الحكيم ، تهذيب التهذيب 2 / 350 ، الإصابة 1 / 332 ، الحدائق الوردية 1 / 117.

(2) أنساب الأشراف 1 / ق 1.

(3) وفي رواية البلاذري (إنّ جميع أهل الكوفة معك).

(4) تاريخ الطبري 6 / 224.

٣٤٨

موقف النعمان بن بشير :

كان موقف النعمان بن بشير(1) من الثورة موقفاً يتّسم باللين والتسامح ، وقد اتّهمه الحزب الاُموي بالضعف ، أو التضاعف في حفظ مصلحة الدولة والاهتمام بسلامتها ، فأجابهم : لأنْ أكون ضعيفاً وأنا في طاعة الله أحبّ إليّ مِنْ أن أكون قويّاً في معصية الله ، وما كنت لأهتك ستراً ستره الله(2) .

وقد أعطى الشيعة بموقفه هذا قوّة وشجعهم على العمل ضد الحكومة علناً ، ولعلّ سبب ذلك يعود لأمرين :

1 ـ إنّ مسلم بن عقيل كان ضيفاً عند المختار ، وهو زوج ابنته عمرة ، فلم يعرض للثوار بسوء رعايةً للمختار.

__________________

(1) النعمان بن بشير الأنصاري الخزرجي ، كان قد ولاّه معاوية الكوفة بعد عبد الرحمن بن الحكم ، وكان عثماني الهوى ؛ يجاهر ببغض علي ويسيء القول فيه ، وقد حاربه يوم الجمل وصفين ، وسعى بإخلاص لتوطيد المُلْك إلى معاوية ، وهو الذي قاد بعض الحملات الإرهابيّة على بعض المناطق العراقيّة. ويقول المحقّقون : إنّه كان ناقماً على يزيد ، ويتمنّى زوال المُلْك عنه شريطة أنْ لا تعود الخلافة لآل علي (عليه السّلام). ومِن الغريب في شأن هذا الرجل أنّ يزيد لمّا أوقع بأهل المدينة وأباحها لجنده ثلاثة أيّام لمْ يثأر النعمان لكرامة وطنه وقومه ، وفي الإصابة 3 / 530 إنّه لمّا هلك يزيد دعا النعمان إلى ابن الزّبير ، ثمّ دعا إلى نفسه فقاتله مروان ، فقُتل وذلك في سنة (65 هـ). وكان شاعراً مجيداً ، له ديوان شعر طُبع حديثاً.

(2) سير أعلام النبلاء 3 / 206.

٣٤٩

2 ـ إنّ النعمان كان ناقماً على يزيد ؛ وذلك لبغضه للأنصار. فقد أغرى الأخطل الشاعر المسيحي في هجائهم ، فثار لهم النعمان كما ألمعنا إلى ذلك في البحوث السابقة ، ولعل لهذا ولغيره لمْ يتّخذ النعمان أيّ إجراء مضاد للثورة.

خطبة النعمان :

وأعطى النعمان للشيعة قوّة في ترتيب الثورة وتنظيماً ، وهيأ لهم الفرص في أحكام قواعدها ممّا ساء الحزب الاُموي ، فأنكروا عليه ذلك وحرّضوه على ضرب الشيعة ، فخرج النعمان وصعد المنبر فأعلن للناس سياسته المتّسمة بالرفق ، فقال بعد حمد الله والثناء عليه : أمّا بعد ، فاتّقوا الله عباد الله ، ولا تُسارعوا إلى الفتنة والفرقة ؛ فإنّ فيها تهلك الرجال وتُسفك الدماء وتُغصب الأموال. إنّي لمْ اُقاتل مَنْ لمْ يُقاتلني ، ولا أثب على مَنْ لا يثب عليّ ، ولا اُشاتمكم ، ولا أتحرّش بكم ، ولا آخذ بالقرف(1) ولا الظنّة ولا التّهمة ، ولكنّكم إنْ أبديتم صفحتكم لي ونكثتم بيعتكم وخالفتم إمامكم ، فوالله الذي لا إله إلاّ هو ، لأضربنّكم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي ولو لمْ يكن منكم ناصر. أما إنّي أرجو أنْ يكون مَنْ يعرف الحقّ منكم أكثر ممّنْ يرديه الباطل(2) .

وليس في هذا الخطاب أيّ ركون إلى وسائل العنف والشدّة ، وإنّما كان فيه تحذير مِنْ مغبّة الفتنة وحبّ للعافية ، وعدم التعرّض لمَنْ لا يثب على السلطة ، وعدم أخذ الناس بالظنّة والتّهمة كما كان يفعل زياد بن أبيه

__________________

(1) القرف : التهمة.

(2) تاريخ ابن الأثير 3 / 267.

٣٥٠

والي العراق. وعلّق أنيس زكريا على خطاب النعمان بقوله :

ولنا مِنْ خطبه ـ أيّ خطب النعمان ـ في الكوفة برهان آخر على أنّه كان يرى الفتنة يقظى ولا بد أنْ تشتعل ، وإنّه لنْ يهاجم القائمين بها قبل أنْ يهاجموه ، فجعل لأنصارها قوّة وطيدة الأركان ويداً فعالة في ترتيب المؤامرة وتنظيمها على الأسس المتينة(1) .

سخط الحزب الاُموي :

وأغضبت سياسة النعمان عملاء الحكم الاُموي ، فانبرى إليه عبد الله بن مسلم الحضرمي حليف بني اُميّة ، فأنكر خطّته قائلاً : إنّه لا يصلح ما ترى إلاّ الغشم(2) ، وإنّ هذا الذي أنت عليه فيما بينك وبين عدوّك رأي المستضعفين!(3) .

ودافع النعمان عن نفسه بأنّه لا يعتمد على أيّة وسيلة تبعده عن الله ، ولا يسلك طريقاً يتجافى مع دينه ، وقد استبان للحزب الاُموي ضعف النعمان وانهياره أمام الثورة.

اتصال الحزب الاُموي بدمشق :

وفزع الحزب الاُموي مِنْ تجاوب الرأي العام مع مسلم واتّساع نطاق الثورة ، في حين أنّ السلطة المحليّة أغضّت النظر عن مجريات الأحداث

__________________

(1) الدولة الاُمويّة في الشام / 41.

(2) الغشم : الظلم.

(3) تاريخ ابن الأثير 3 / 267.

٣٥١

وقد اتّهمتها بالضعف أو بالتواطؤ مع الثوار ، وقام الحزب الاُموي باتّصال سريع بحكومة دمشق ، وطلبوا منها اتّخاذ الإجراءات الفورية قبل أنْ يتّسع نطاق الثورة ، ويأخذ العراق استقلاله وينفصل عن التبعية لدمشق.

ومِنْ بين الرسائل التي وفدت على يزيد رسالة عبد الله الحضرمي ، جاء فيها : أمّا بعد ، فإنّ مسلم بن عقيل قدم الكوفة وبايعته الشيعة للحُسين بن علي ، فإنْ كان لك بالكوفة حاجة فابعث إليها رجلاً قويّاً ينفّذ أمرك ويعمل مثل عملك في عدوّك ؛ فإنّ النعمان بن بشير رجل ضعيف أو هو يتضعّف(1) .

وتدعو هذه الرسالة إلى إقصاء النعمان عن مركزه ، واستعمال شخص آخر مكانه قوي البطش ؛ ليتمكن مِن القضاء على الثورة ، فإنّ النعمان لا يصلح للقضاء عليها. وكتب إليه بمثل ذلك عمارة بن الوليد بن عقبة وعمر بن سعد.

فزع يزيد :

وفزع يزيد حينما توافدت عليه رسائل عملائه في الكوفة بمبايعة أهلها للحُسين ، فراودته الهواجس وظلّ ينفق ليله ساهراً يطيل التفكير في الأمر ؛ فهو يعلم أنّ العراق مركز القوّة في العالم الإسلامي وهو يبغضه ويحقد على أبيه ، فقد أصبح موتراً منهم لما صبّوه عليه مِن الظلم والجور ، وإنّ كراهية أهل العراق ليزيد لا تقلّ عن كراهيتهم لأبيه ، كما إنّه على

__________________

(1) تاريخ ابن الأثير 3 / 267.

٣٥٢

يقين أنّ الأغلبية الساحقة في العالم الإسلامي تتعطّش لحكم الإمام الحُسين ؛ لأنّه المثل الشرعي لجدّه وأبيه ولا يرضون بغيره بديلاً.

استشارته لسرجون :

وأحاطت الهواجس بيزيد وشعر بالخطر الذي يهدّد مُلْكه فاستدعى سرجون الرومي ، وكان مستودع أسرار أبيه ومِنْ أدهى الناس ، فعرض عليه الأمر ، وقال له : ما رأيك إنّ حُسيناً قد توجّه إلى الكوفة ، ومسلم بن عقيل بالكوفة يبايع للحُسين ، وقد بلغني عن النعمان ضعف وقول سيئ ، فما ترى مَنْ أستعمل على الكوفة؟

وتأمّل سرجون وأخذ يطيل التفكير ، فقال له : أرأيت أنّ معاوية لو نُشر أكنت آخذاً رأيه؟ فقال يزيد : نعم. فأخرج سرجون عهد معاوية لعبيد الله بن زياد على الكوفة ، وقال : هذا رأي معاوية وقد مات ، وقد أمر بهذا الكتاب(1) .

أمّا دوافع سرجون في ترشيح ابن زياد لولاية الكوفة فهي لا تخلو مِنْ أمرين :

1 ـ إنّه يعرف قسوة ابن زياد وبطشه وأنّه لا يقوى أحد على إخضاع العراق غيره ؛ فهو الذي يتمكّن مِن القضاء على الثورة بما يملك مِنْ وسائل الإرهاب والعنف.

2 ـ إنّه قد دفعته العصبية القومية لهذا الترشيح ؛ فإنّ ابن زياد رومي.

__________________

(1) تاريخ ابن الأثير 3 / 268.

٣٥٣

ولاية ابن زياد على الكوفة :

وكان يزيد ناقماً على ابن زياد كأشدّ ما تكون النقمة ، وأراد عزله عن البصرة(1) ؛ وذلك لمعارضة أبيه في البيعة له ، إلاّ إنّه استجاب لرأي سرجون ؛ فقد رأى فيه الحفاظ على مصلحة دولته ، فعهد له بولاية الكوفة والبصرة ، وبذلك فقد خضع العراق بأسره لحكمه ، وكتب إليه هذه الرسالة : أمّا بعد ، فإنّه كتب إليّ شيعتي مِنْ أهل الكوفة يخبرونني أنّ ابن عقيل بالكوفة يجمع الجموع لشقّ عصا المسلمين ، فسرْ حين تقرأ كتابي هذا حتّى تأتي الكوفة فتطلب ابن عقيل كطلب الخرزة حتّى تثقفه فتوثقه أو تقتله أو تنفيه ، والسّلام.

وأشارت هذه الرسالة إلى مدى قلق السلطة في دمشق وفزعها مِنْ مسلم بن عقيل ، وقد شدّدت على ابن زياد في الإسراع بالسفر إلى الكوفة لإلقاء القبض عليه.

وتنصّ بعض المصادر أنّ يزيد كتب إلى ابن زياد : إنْ كان لك جناحان فطر إلى الكوفة(2) ، وهذا ممّا ينبئ عن الخوف الذي ألمّ بيزيد مِنْ الثورة في العراق. وحمل مسلم بن عمرو الباهلي العهد لابن زياد بولاية الكوفة مع تلك الرسالة.

ويقول المؤرّخون : إنّ الباهلي كان مِنْ عيون بني اُميّة في الكوفة ومِنْ أهمّ عملائهم ، كما كان مِنْ أجلاف العرب ، وهو الذي ضنّ على مسلم أنْ يشرب جرعة مِن الماء حينما جيء به أسيراً إلى ابن زياد.

__________________

(1) البداية والنهاية 8 / 152.

(2) سير أعلام النبلاء 3 / 201.

٣٥٤

وتسلّم ابن زياد مِن الباهلي العهد له بولاية الكوفة وقد طار فرحاً ؛ فقد تمّ له الحكم على جميع أنحاء العراق بعد ما كان مهدّداً بالعزل عن ولاية البصرة ، وقد سرّ ما خولته دمشق مِن الحكم المطلق على العراق.

وبما سوّغت له مِن استعمال الشدّة والقسوة وسفك الدماء لكلّ مَنْ لا يدخل في طاعة يزيد أو يشترك بأيّة مؤامرة ضدّه ، وكان هذا التفويض المطلق في استعمال القسوة على الناس ممّا يتّفق مع رغبات ابن زياد وميوله ؛ فقد كان مِنْ عوامل استمتاعاته النفسية حبّ الجريمة والإساءة إلى الناس ، وعدم التردّد في سفك الدماء.

خطبة ابن زياد في البصرة :

وتهيأ ابن زياد لمغادرة البصرة والتوجّه إلى الكوفة ، وقبل مغادرته لها جمع الناس وخطب فيهم خطاباً قاسياً ، جاء فيه : إنّ أمير المؤمنين يزيد ولاّني الكوفة وأنا غاد إليها الغداة. فوالله ، إنّي ما تقرن بي الصعبة ولا يقعقع لي بالشنآن ، وإنّي لنكل لمَنْ عاداني وسمّ لمَنْ حاربني ، أنصف القارة مِنْ راماها.

يا أهل البصرة ، قد استخلفت عليكم عثمان بن زياد بن أبي سفيان ، وإيّاكم والخلاف والإرجاف ، فوالله الذي لا إله غيره ، لئن بلغني عن رجلٍ منكم خلاف لأقتلنّه وعرينه(1) ووليّه ، ولآخذنّ الأدنى بالأقصى حتّى تسمعوا لي ، ولا يكون فيكم مخالف ولا مشاق أنا ابن زياد أشبه

__________________

(1) العرين : الجماعة.

٣٥٥

بين مَنْ وطأ الحصا ، ولمْ ينتزعني شبه خال ولا ابن عم(1) .

ما أهون سفك الدماء عند اُولئك البرابرة الوحوش مِنْ ولاة بني اُميّة! لقد تحدّث الطاغية عن نفسيته الشريرة التي توغّلت في الإثم ، فهو يأخذ البريء بالسقيم والمقبل بالمدبر والأدنى بالأقصى ، ويقتل على الظنّة والتهمة كما كان يفعل أبوه زياد ، الذي أشاع القتل في ربوع العراق.

سفر الطاغية إلى الكوفة :

وسار الخبيث الدنس مِن البصرة متّجهاً إلى الكوفة ؛ ليقترف أعظم موبقة لمْ يقترفها شقي غيره ، وقد صحبه مِنْ أهل البصرة خمسمئة رجل فيهم عبد الله بن الحارث بن نوفل وشريك بن الأعور الحارثي(2) ، وهو مِنْ أخلص أصحاب الإمام الحُسين ، وقد صحب ابن زياد ليكون عيناً عليه ويتعرّف على خططه ، وقد صحب ابن زياد هذا العدد ليستعين بهم على بثّ الإرهاب وإذاعة الخوف بين الناس ، والاتصال بزعماء الكوفة لصرفهم عن الثورة.

وعلى أيّ حالٍ ، فقد أخذ ابن زياد يجذّ في السير لا يلوي على شيء قد واصل السير إلى الكوفة مخافة أنْ يسبقه الحُسين إليها ، وقد جهد أصحابه وأعياهم المسير ، فسقط منهم جماعة منهم عبد الله بن الحارث فلمْ يعبأ.

ولمّا ورد القادسية سقط مولاه (مهران) ، فقال له ابن زياد : إنْ أمسكت على هذا الحال فتنظر إلى القصر فلك مئة ألف. فقال له مهران : لا والله لا أستطيع. ونزل الطاغية فلبس ثياباً

__________________

(1) الطبري 6 / 200.

(2) الطبري 6 / 199.

٣٥٦

يمانية وعمامة سوداء وتلثّم ؛ ليوهم مَنْ رآه أنّه الحُسين ، وسار وحده فدخل الكوفة ممّا يلي النجف(1) ، وكان قلبه كجناح طائر مِنْ شدّة الخوف ، ولو كانت عنده مسكة مِن البسالة والشجاعة لما تنكّر وغيّر بزّته وأوهم على الناس أنّه الحُسين.

وقد تذرّع الجبان بهذه الوسائل لحماية نفسه ، وتنصّ بعض المصادر أنّه حبس نفسه عن الكلام خوفاً مِنْ أنْ يعرفه الناس فتأخذه سيوفهم.

في قصر الإمارة :

وأسرع الخبيث نحو قصر الإمارة(2) وقد علاه الفزع وساءه كأشدّ ما يكون الاستياء ؛ مِنْ تباشير الناس وفرحهم بقدوم الإمام الحُسين ،

__________________

(1) مقتل الحُسين ـ المقرم / 165.

(2) قصر الإمارة : هو أقدم بناية حكومية شُيّدت في الإسلام ، بناها سعد بن أبي وقاص ، وقد اندثرت معالمه كما اندثرت جميع معالم الكوفة ما عدا الجامع. وقد اهتمت مديرية الآثار العامّة في العراق بالتعرّف عليه ؛ فكشفت في مواسم مختلفة اُسسه ، وقد أظهرت نتائج الحفائر التي اُجريت عليه أنّه يتألّف مِنْ سور خارجي يضمّ أربعة جدران ، تقريباً طولها 170 متراًً ، ومعدل سمكها 4 أمتار ، وتدعم كلّ ضلع مِنْ الخارج ستة أبراج نصف دائرية باستثناء الضلع الشمالي ، حيث يدعمها برجان فقط. والمسافة ما بين كلّ برج وآخر 24 و 60 سنتمتر ، وارتفاع هذا السور بأبراجه يصل إلى ما يقرب مِنْ عشرين متراً. وقد بُني القصر بناء محكماً ، وصُمّمت هندسته على غاية حربية ؛ ليكون في حماية آمنة مِنْ كلّ غزو خارجي ، جاء ذلك في تخطيط مدينة الكوفة للدكتور كاظم الجنابي / 135 ـ 155 =

٣٥٧

ولمّا انتهى إلى باب القصر وجده مغلقاً والنعمان بن بشير مشرف مِنْ أعلا القصر ، وكان قد توهّم أنّ القادم هو الحُسين ؛ لأنّ أصوات الناس قد تعالت بالترحيب به والهتاف بحياته ، فانبرى يخاطبه : ما أنا بمؤدٍ إليك أمانتي يا بن رسول الله ، ومالي في قتالك مِنْ إرب.

ولمس ابن مرجانة في كلام النعمان الضعف والانهيار فصاح به بنبرات تقطر غيظاً : افتحْ لا فتحت ، فقد طال ليلك. ولمّا تكلم عرفه بعض مَنْ كان خلفه فصاح بالناس : إنّه ابن مرجانة وربّ الكعبة!

ومِن الغريب أنّ ذلك المجتمع لمْ يُميّز بين الإمام الحُسين وبين ابن مرجانة ، مع أنّ كلاً منهما قد عاش فترة في ديارهم ؛ ولعلّ الذي أوقعهم في ذلك تغيير ابن زياد لبزّته ولبسه للعمامة السوداء.

وعلى أيّ حالٍ ، فإنّ الناس حينما علموا إنّه ابن زياد جفلوا وخفّوا مسرعين إلى دورهم وهم يتحدّثون عمّا عانوه مِن الظلم والجور أيّام أبيه ، وقد أوجسوا مِنْ عبيد الله الشرّ.

وبادر ابن زياد في ليلته فاستولى على المال والسّلاح ، وأنفق ليله ساهراً قد جمع حوله عملاء الحكم الاُموي ، فأخذوا يحدّثونه عن الثورة ويعرّفونه بأعضائها البارزين ، ويضعون معه المخططات للقضاء عليها.

__________________

= وقد وقفت عليه غير مرّة ، وتطلّعت إلى كثير مِنْ معالمه ، ففي بعض أبوابه الرئيسة مظلاّت لحرّاس القصر قد ردمت ولمْ يبقَ منها إلاّ بعض معالمها ، وفي جانب منه بعض الغرف التي اُعدّت للسجن ، وقد صُمّمت بشكل غريب ، وفي جانب منه مطابخ القصر ـ ولم يشر الاُستاذ الجنابي إليها ـ وقد اُحكم بناء القصر حتّى كان مِن المتعذّر اقتحامه والاستيلاء عليه.

٣٥٨

خطابه في الكوفة :

وعندما انبثق نور الصبح أمر ابن مرجانة بجمع الناس في المسجد الأعظم ، فاجتمعت الجماهير وقد خيّم عليها الذعر والخوف ، وخرح ابن زياد متقلداً سيفه ومعتمّاً بعمامة ، فاعتلى أعواد المنبر وخطب الناس ، فقال : أمّا بعد ، فإنّ أمير المؤمنين أصلحه الله ولاّني مصركم وثغركم وفيئكم ، وأمرني بإنصاف مظلومكم وإعطاء محرومكم ، وبالإحسان إلى سامعكم ومطيعكم وبالشدّة على مريبكم ، فأنا لمطيعكم كالوالد البرّ الشفيق ، وسيفي وسوطي على مَنْ ترك أمري وخالف عهدي ، فليبق امرؤ على نفسه الصدق ينبئ عنك لا الوعيد(1) .

وحفل هذا الخطاب بما يلي :

1 ـ إعلام أهل الكوفة بولايته على مصرهم وعزل النعمان بن بشير عنه.

2 ـ تعريفهم أنّ حكومة دمشق قد عهدت له بالإحسان على مَنْ يتبع السلطة ولمْ يتمرّد عليها ، واستعمال الشدّة والقسوة على الخارجين عليها.

ولمْ يعرض ابن مرجانة في خطابه للإمام الحُسين وسفيره مسلم ؛ خوفاً مِن انتفاضة الجماهير عليه وهو بعدُ لمْ يحكم أمره.

__________________

(1) مقاتل الطالبيِّين / 97.

٣٥٩

نشر الإرهاب :

وعمد ابن زياد إلى نشر الإرهاب وإذاعة الخوف ، ويقول بعض المؤرّخين : إنّه لمّا أصبح ابن زياد بعد قدومه إلى الكوفة صالَ وجالَ وأرعدَ وأبرقَ ، وأمسكَ جماعةً مِنْ أهل الكوفة فقتلهم في الساعة(1) ، وقد عمد إلى ذلك لإماتة الأعصاب وصرف الناس عن الثورة.

وفي اليوم الثاني أمر بجمع الناس في المسجد وخرج إليهم بزي غير ما كان يخرج به ، فخطب فيهم خطاباً عنيفاً تهدّد فيه وتوعّد ، فقد قال بعد حمد الله والثناء عليه : أمّا بعد ، فإنّه لا يصلح هذا الأمر إلاّ في شدّة مِنْ غير عنف ولين مِنْ غير ضعف ، وأنْ أخذ البريء بالسقيم ، والشاهد بالغائب ، والولي بالولي.

فانبرى إليه رجل مِنْ أهل الكوفة يُقال له : أسد بن عبد الله المرّي فردّ عليه : أيّها الأمير ، إنّ الله تبارك وتعالى يقول :( وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ) ‏ ، إنّما المرء بجدّه ، والسيف بحدّه ، والفرس بشدّه ، وعليك أنْ تقول وعلينا أنْ نسمع ، فلا تقدّم فينا السيئة قبل الحسنة.

وأُفحم ابن زياد فنزل عن المنبر ودخل قصر الإمارة(2) .

__________________

(1) الفصول المهمة / 197 ، وسيلة المال / 186.

(2) الفتوح 5 / 67.

٣٦٠

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471