حياة الامام الحسين عليه السلام الجزء ٢

حياة الامام الحسين عليه السلام12%

حياة الامام الحسين عليه السلام مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 471

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 471 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 260599 / تحميل: 5237
الحجم الحجم الحجم
حياة الامام الحسين عليه السلام

حياة الامام الحسين عليه السلام الجزء ٢

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

القتال ، والاستجابة لنداء عدوه الذي قضى فيه على ما أحرزوه مِن الفتح والنصر.

يقول (عليه السّلام) : «الحمد لله ، وإنْ أتى الدهر بالخطب الفادح والحدث الجليل ، وأشهد أنْ لا إله إلاّ الله ، وأنّ محمّداً عبده ورسوله. أَمَّا بَعْدُ ، فَإِنَّ مَعْصِيَةَ النَّاصِحِ الشَّفِيقِ ، الْعَالِمِ الْمُجَرِّبِ تُورِثُ الْحَسْرَةَ وَتُعْقِبُ النَّدَامَةَ ، وَقَدْ كُنْتُ أَمَرْتُكُمْ فِي هَذِهِ الْحُكُومَةِ أَمْرِي ، وَنَخَلْتُ لَكُمْ مَخْزُونَ رَأْيِي لَوْ كَانَ يُطَاعُ لِقَصِيرٍ أَمْرٌ فَأَبَيْتُمْ عَلَيَّ إِبَاءَ الْمُخَالِفِينَ الْجُفَاةِ ، وَالْمُنَابِذِينَ الْعُصَاةِ حَتَّى ارْتَابَ النَّاصِحُ بِنُصْحِهِ ، وََنَّ الزَّنْدُ بِقَدْحِهِ ، فَكُنْتُ أَنَا وَإِيَّاكُمْ كَمَا قَالَ أَخُو هَوَازِنَ :

أَمَرْتُكُمْ أَمْرِي بِمُنْعَرَجِ اللِّوَى

فَلَمْ تَسْتَبِينُوا النُّصْحَ إِلاّ ضُحَى الْغَدِ

ألا إنّ الرجلين اللذين اخترتموهما حكمين قد نبذا حكم الكتاب وراء ظهورهما ، وارتأيا الرأي مِن قِبَلِ أنفسهما ، فأماتا ما أحيا القرآن ، وأحييا ما أمات القرآن.

ثمّ اختانا في حكمهما ، فكلاهما لا يرشد ولا يسدّد ، فبرئ الله منها ورسوله وصالح المؤمنين ، فاستعدوا للجهاد ، وتأهبوا للمسير ، وأصبحوا في معسكركم يوم الاثنين إنْ شاء الله»(١) .

وتهيّأت قواته المسلّحة إلى السفر في الموعد الذي ضربه لها ، وكتب إلى أهل البصرة يدعوهم إلى نصرته ، فالتحقت به كتائب مِن الجيش.

تمرّدُ المارقين :

وسافر الإمام (عليه السّلام) بأصحابه يريد الشام ، ولكنّه لمْ يلبث حتّى وافته الأنباء بتمرّد الخوارج وفسادهم ، وأنّهم عادوا إلى فكرتهم.

ويقول المؤرّخون : إنّ جماعة منهم خرجوا مِن الكوفة ، والتحق بهم إخوانهم مِن أهل البصرة ، وساروا جميعاً إلى النهروان فأقاموا فيها ، وأخذوا يعيثون في الأرض فساداً ،

__________________

(١) أنساب الأشراف ١ / ق ١.

٨١

فاستحلّوا دماء المسلمين وقالوا بكفرهم. واجتاز عليهم الصحابي عبد الله بن خباب بن الأرت ، فتصدّوا له فسألوه عن اسمه فأخبرهم به ، ثم سألوه عن انطباعاته الخاصة عن الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) فأثنى عليه ، فاستشاطوا غضباً ، فانبروا إليه فأوثقوه كتافاً ، وأقبلوا به وبامرأته ـ وكانت حبلى قد أشرفت على الولادة ـ فجاؤوا بهما تحت نخلة ، فسقطت رطبة منها فبادر بعضهم إليها فوضعها في فيه ، فأنكروا عليه فالقاها من فمه.

واخترط بعضهم سيفاً فضرب به خنزيراً لأهل الذمّة فقتله ، فصاح به بعضهم : إنّ هذا من الفساد في الأرض! فبادر الرجل إلى الذمّي فأرضاه ، فلمّا نظر عبد الله إلى احتياطهم في الأموال قال لهم : لئن كنتم صادقين فيما أرى ما عليّ منكم بأس. والله ، ما أحدثت حدثاً في الإسلام ، وإنّي لمؤمن ، وقد آمنتموني وقلتم لا روع عليك.

فلمْ يعنوا به ، وعمدوا إليه فأقبلوا به إلى الخنزير الذي قتلوه فوضعوه عليه وذبحوه ، وأقبلوا على امرأته ـ وهي ترتعد من الخوف ـ فقالت لهم مسترحمة : إنّما إنا امرأة ، أما تتّقون الله؟! ولمْ تلن قلوبهم التي طبع عليها الزيغ ، فذبحوها وبقروا بطنها ، وعمدوا إلى ثلاثة نسوة فقتلوهن(١) ، وفيهن أُمّ سنان الصيداويّة ، وكانت قد صحبت النّبي (صلّى الله عليه وآله) ، وجعلوا يذيعون الذعر وينشرون الفساد في الأرض.

وأوفد لهم الإمام (عليه السّلام) الحرث بن مرّة العبدي يسألهم عن هذا الفساد الذي أحدثوه ، ويطلب منهم أن يسلّموا إليه الذين استحلوا قتل الأنفس التي حرّم الله إزهاقها بغير حقّ ، ولمْ يكد الرسول يدنو منهم حتّى قتلوه ، ولمْ يدعوه يدلي بما جاء به.

__________________

(١) أنساب الأشراف.

٨٢

قتالُ المارقين :

وكره أصحاب الإمام (عليه السّلام) أنْ يسيروا إلى الشام ، ويتركوا مِن ورائهم الخوارج يستبيحون أموالهم وأعراضهم مِن بعدهم ، فطلبوا مِن الإمام (عليه السّلام) أنْ ينهض بهم لمناجزتهم ، فإذا فرغوا منهم تحولوا إلى حرب معاوية ، فأجابهم الإمام (عليه السّلام) إلى ذلك وسار بهم حتّى أتى النهروان ، فلما صار بإزاء الخوارج ، أرسل إليهم يطلب منهم قَتَلة عبد الله بن خباب ومَنْ كان معه مِن النسوة ، كما طلب منهم قتلة رسوله الحرث بن مرّة ، ليكفّ عنهم ويمضي إلى حرب معاوية ، ثمّ ينظر في أمورهم ، فأجابوه : ليس بيننا وبينك إلاّ السيف ، إلاّ أنْ تقرّ بالكفر وتتوب كما تبنا.

فالتاع الإمام (عليه السّلام) منهم ، وانطلق يقول : «أبعد جهادي مع رسول الله وإيماني أشهد على نفسي بالكفر؟! قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنْ الْمُهْتَدِينَ»(١) . وجعل الإمام (عليه السّلام) يعظهم تارة ويراسلهم اُخرى ، فجعل كثير منهم يتسللون ويعودون إلى الكوفة ، وقسم منهم التحق بالإمام (عليه السّلام) ، وفريق ثالث اعتزل الحرب ، ولمْ يبقَ إلاّ ذو الثفنات عبد الله بن وهب الراسبي زعيم الخوارج ، ومعه ثلاث آلاف.

ولمّا يئس الإمام (عليه السّلام) مِن إرشادهم عبّأ جيشه ، وأمر بأنْ لا يبدؤوهم بقتال حتّى يُقاتلوهم. ولمّا نظر الخوارج إلى تهيئة الإمام (عليه السّلام) تهيّؤوا للحرب ، وكانت قلوبهم تتحرّق شوقاً إلى القتال تحرّق الظمآن إلى الماء ، وهتف بعضهم : هل مِن رائح إلى الجنّة! فتصايحوا جميعا : الرواح إلى الجنّة.

ثمّ حملوا حملة منكرة على جيش الإمام (عليه السّلام) وهم يهتفون بشعارهم : (لا حكم إلاّ لله). فانفرجت

__________________

(١) أنساب الأشراف.

٨٣

لهم خيل الإمام (عليه السّلام) فرقين ؛ فرق يمضي إلى الميمنة ، وفرق يمضي إلى الميسرة ، والخوارج يندفعون بين الفرقين ، ولمْ تمضِ إلاّ ساعة حتّى قتلوا عن آخرهم ، ولمْ يفلت منهم إلاّ تسعة(١) .

ولمّا وضعت الحرب أوزارها طلب الإمام (عليه السّلام) مِن أصحابه أنْ يلتمسوا له ذا الثدية في القتلى ، ففتّشوا عنه فلمْ يظفروا به ، فعادوا إليه يخبرونه بعدم ظفرهم به ، فأمرهم ثانياً أنْ يبحثوا عنه ، قائلاً : «والله ما كذبتُ ولا كُذّبت ، ويحكم! التمسوا الرجل فإنّه في القتلى». فانطلقوا يبحثون عنه ، فظفر به رجل من أصحابه ـ وكان قد سقط قتيلاً في ساقية ـ فمضى يهرول فأخبر الإمام (عليه السّلام) به ، فلما سمع النبأ خرّ ساجداً هو ومَنْ معه مِن أصحابه ، ثمّ رفع رأسه وهو يقول : «ما كذبتُ ولا كُذّبت ، ولقد قتلتم شرّ الناس». وأخذ الإمام (عليه السّلام) يحدّث أصحابه بما سمعه مِن النّبي (صلّى الله عليه وآله) فيه ، أنّه قال : «سيخرج قوم يتكلّمون بكلام الحقّ لا يجاوز حلوقهم ، يخرجون مِن الحقّ خروج السّهم ـ أو مروق السّهم ـ إنّ فيهم رجلاً مُخدج اليد ، في يده شعرات سود ، فإنْ كان فيهم فقد قتلتم شرّ الناس».

وأمر الإمام (عليه السّلام) بإحضار جثّته فأُحضرت له ، فكشف عن يده فإذا على منكبه ثدي كثدي المرأة ، وعليها شعرات سود تمتد حتّى تحاذي بطن يده الاُخرى ، فإذا تركت عادت إلى منكبه ، فلمّا رأى ذلك خرّ لله ساجداً. ثمّ عمد الإمام (عليه السّلام) إلى القتلى من الفريقين فدفنهم ، وقسّم بين أصحابه سلاح الخوارج ودوابهم ، وردّ الأمتعة والعبيد إلى أهليهم كما فعل ذلك بأصحاب الجمل.

وانتهت بذلك حرب النهروان التي تفرّعت مِن واقعة صفّين ، وقد

__________________

(١) الملل والنحل ١ / ١٥٩.

٨٤

أسفرت عن تشكيل حزب ثوري عنيف ظهر في الإسلام ، وهو حزب الحرورية الذي أخذ على نفسه التمرّد على الحكومات القائمة في البلاد الإسلامية ، ومحاربتها بشكل سافر ، ممّا أدى إلى إراقة الدماء وإشاعة الفتنة والخلاف في كثير مِن تلك العصور.

لقد كان البارز في الأنظمة الدينية للخوارج هو الحكم بكفر كلّ مَنْ لا يدين بفكرتهم مِن المسلمين ، واستباحة دمائهم وأموالهم. وفيما أحسب أنّ أكثر الجرائم المريعة التي صدرت في معركة كربلاء تستند إلى هؤلاء الممسوخين الذين سُلِبَتْ عنهم كلّ نزعة إنسانية ؛ فقد تأثّر الكثير مِن ذلك الجيش بأخلاقهم ، فاندفعوا إلى الجريمة بأبشع صورها وألوانها.

مخلّفات الحرب :

وأعقبت تلك الحروب أعظم المحن وأشدّها هولاً ، ولمْ يُمتحن الإمام (عليه السّلام) بها وحده وإنّما امتحن بها العالم الإسلامي ؛ فقد أخلدت له الفتن ، وجرّت له الكثير مِن الويلات والخطوب ، ولعلّ أعظم ما عاناه منها ما يلي :

١ ـ انتصار معاوية :

وأتاحت الفرص لمعاوية بعد تلك الأحداث أنْ يعلن نفسه لأوّل مرّة بأنّه المرشّح للخلافة ، بعد أنْ كان حاكماً على إقليم الشام ، وراح يعلن انتصاره على الإمام (عليه السّلام) وتغلبه عليه ، بقوله : لقد حاربت عليّاً بعد صفّين بغير جيش ولا عناء ، أو لا عتاداً(١) .

وأمّا الإمام (عليه السّلام) فقد أصبح بمعزل عن السلطات السياسية

__________________

(١) أنساب الأشراف ١ ق ١ / ٢٠٠.

٨٥

والعسكرية ، فكان يدعو فلا يُسمع لدعوته ، ويقول فلا يُلتفت إلى قوله.

لقد أدّت تلك الحروب إلى تحوّل الخلافة الإسلامية إلى حكم قيصري لا ظلّ فيه لحكم الإسلام ومنطق القرآن ؛ فقد آل الأمر إلى معاوية ، فاتّخذ مال الله دولاً ، وعباد الله خولاً ، وأرغم المسلمين على ما يكرهون.

٢ ـ تفلّل جيش الإمام (عليه السّلام) :

وتفلّلت جميع القوات العسكرية في جيش الإمام (عليه السّلام) ، وشاعت الفرقة والاختلاف فيما بينها خصوصاً بعد واقعة النهروان ، فقد انحطّت معنويات الجيش.

يقول البلاذري : إنّ معاوية أرسل عمارة بن عقبة إلى الكوفة ليتجسس له عن حالة جيش الإمام (عليه السّلام) ، فكتب له : خرج على علي أصحابُه ونسّاكهم ، فسار إليهم فقتلهم ، فقد فسد عليه جنده وأهل مصره ، ووقعت بينهم العداوة ، وتفرّقوا أشدّ الفرقة.

فقال معاوية للوليد بن عقبة : أترضى أخوك بأنْ يكون لنا عيناً؟ ـ وهو يضحك ـ فضحك الوليد وقال : إنّ لك في ذلك حظّاً ونفعاً. وقال الوليد لأخيه عمارة :

فَإِن يَكُ ظَنّي يا اِبنَ أمِّيَ صادِقي

عُمارَةُ لا يُدرَكُ بِذَحلٍ وَلا وِترِ

تُضاحِكُ أَقتالَ اِبنِ عَفّانَ لاهِياً

كَأَنَّكَ لَم تَسمَع بِمَوتِ أَبي عَمرِو

يَظَلُّ وَأَوتارُ اِبنِ عَفّانَ عَندَهُ

مُخَيِّمَةٌ بَينَ الحَوَرنَقِ وَالجِسرِ(١)

لقد مُنِيَ جيش الإمام (عليه السّلام) بالفتنة والخلاف ، ولمْ يكن باستطاعة الإمام (عليه السّلام) ـ بما يملك مِن طاقات خطابية هائلة ـ أنْ يرجع إليهم حوازب أحلامهم ، ويقضي على عناصر الشغب والتمرّد التي أصبحت مِن أبرز ذاتيّاتهم.

وممّا زاد في تمرّد الجيش أنّ معاوية راسل جماعة مِن زعماء العراق

__________________

(١) أنساب الأشراف.

٨٦

البارزين كالأشعث بن قيس ، فمنّاهم بالأموال ، ووعدهم بالهبات والمناصب إذا قاموا بعمليات التخريب في جيش الإمام (عليه السّلام) وشعبه ، فاستجابوا إليه ، فقاموا بدورهم في إشاعة الأراجيف وتضليل الرأي العام ، وبثّ روح التفرقة والخلاف بين الناس(١) ، وقد أثّرت دعايتهم تأثيراً هائلاً في أوساط ذلك الجيش ، فقد خلعوا طاعة الإمام (عليه السّلام) وعمدوا إلى عصيانه.

لقد كانت الأكثرية الساحقة في معسكر الإمام (عليه السّلام) لهم رغباتهم الخاصة التي تتنافى مع مصلحة الدولة وغايات رئيسها ، في حين أنّ شعب الشام كان على العكس مِن ذلك.

يقول الحجّاج بن خزيمة لمعاوية : إنّك تقوى بدون ما يقوى به علي ؛ لأنّ معك قوماً لا يقولون إذا سكتّ ، ويسكتون إذا نطقت ، ولا يسألون إذا أمرت ، ومع علي قوم يقولون إذا قال ، ويسألون إذا سكت(٢) .

٣ ـ احتلال مصر :

ولمْ تقف محنة الإمام (عليه السّلام) وبلاؤه عند حدّ ، وإنّما أخذت تتابع عليه المحن ، وهي كأشدّ ما تكون هولاً ، فإنّه لمْ يكد ينتهي مِن مُناجزة المارقين حتّى ابتلى في أمر دولته ؛ فقد أخذ معاوية يحتلّ أطرافها ، ويغير على بعضها ، ويشيع فيها الخوف والإرهاب ، فقد أيقن بتخاذل جيش الإمام (عليه السّلام) وما مُنِيَ به من الفرقة والاختلاف ، وقد أجمع رأيه على احتلال مصر التي هي قلب البلاد العربية ، وقد جعلها طعمة إلى وزيره وباني دولته عمرو بن العاص ؛ ليتمتع وحده بخيراتها.

وكان الإمام (عليه السّلام) قد ولّى على مصر الزعيم الكبير قيس بن سعد الأنصاري ،

__________________

(١) أنساب الأشراف.

(٢) الأخبار الطوال / ١٥٦.

٨٧

الذي كان من ألمع الشخصيات الإسلامية في حسن سياسته وعمق تفكيره وبُعْدِ نظره ، وقد ساس المصريين أيّام المحنة سياسةَ عدلٍ وحقٍّ ، وقضى على الاضطرابات الداخلية ، ونشر المحبّة والألفة فيها. وقد عزله الإمام (عليه السّلام) عنها وولّى مكانه الطيب محمّد بن أبي بكر ، فاضطرب أمر مصر ، وظهرت الدعوة العثمانية فيها ، فعزل الإمام (عليه السّلام) محمّداً عنها وولّى مكانه مالك الأشتر النخعي الذي هو من أنصح الناس للإمام (عليه السّلام) وأكثرهم إخلاصاً له ، إلاّ أنّه لمْ يكد ينتهي إلى (القلزم) حتّى مات.

وأجمع المؤرّخون على أنّ معاوية قد أغوى صاحب الخراج في (القلزم) فدسّ إليه سمّاً في شربة مِن عسل فمات بها ، وكان معاوية وصاحبه ابن العاص يتحدّثان بعد ذلك ويقولان : إنّ لله جنوداً مِن عسل.

وجهّز معاوية جيشاً لاحتلال مصر وأمر عليه ابن العاص ، ولمّا علم الإمام (عليه السّلام) ذلك أقرّ محمّداً على مصر ، ووعده بأنْ يمدّه بالجيش والمال ، وأخذ يدعو أهل الكوفة لنجدة إخوانهم في مصر فلمْ يستجيبوا له ، وجعل الإمام (عليه السّلام) يلحّ عليهم ويطلب منهم النجدة ، فاستجاب له جند ضئيل كأنّما يساقون إلى الموت ، فأرسلهم إلى مصر ، ولكنّه لمْ يلبث أن وافته الأنباء بأنّ ابن العاص قد احتل مصر ، وأنّ عامله محمّداً قد قُتِلَ وأُحرِقَت جثته في النار ، فردّ جنده وخطب أهل الكوفة خطاباً مثيراً ندّد بهم ، ونعى عليهم تخاذلهم وخور عزائمهم.

وعلى أيّ حالٍ ، فإنّ احتلال مصر قد قوى شوكة معاوية ، ودفعه إلى أنْ يغزو أهل العراق في عقر دارهم.

٨٨

الغارات :

ولمْ يقنع معاوية بما أحرزه مِن النصر في احتلاله لمصر ، وإنّما راح يشيع الذعر والهلع في البلاد الخاضعة لحكم الإمام (عليه السّلام) ؛ ليشعر أهلها بأنّ عليّاً قد ضَعُفَ سلطانه ، وأنّه لا يتمكّن مِن حمايتهم وردّ الاعتداء عنهم ، وقد شكّل قِطَعاً مِن جيوشه وعهد إليها أنْ تتوغّل في البلاد ، وتشيع فيها الفساد والقتل ، وقد ولّى عليها جماعة مِن السفّاكين الذين تمرّسوا في الجرائم ، وتجرّدوا مِنْ كلّ نزعة إنسانية ، وعهد لكلّ واحد منهم أنْ يقتل كلّ مَنْ كان شيعة للإمام (عليه السّلام) ، ويغير على جهة خاصة بسرعة خاطفة.

ونعرض بإيجاز إلى بعض تلك الغارات :

الغارة على العراق :

وشكّل معاوية أربع قِطَع للغارة على أطراف العراق وداخله ؛ ليملأ قلوب العراقيين فزعاً وخوفاً حتّى لا يستجيبوا للجهاد إذا دعاهم الإمام (عليه السّلام) إليه ، وهذه بعض المناطق العراقية التي غار عليها.

١ ـ عين التّمر :

وأرسل معاوية النعمان بن بشير الأنصاري في ألف رجل إلى عين التّمر ، وكان فيها مالك بن كعب ، ومعه كتيبة مِن الجيش تبلغ ألف رجل ، إلاّ أنّه لمْ يعلم بغزو أهل الشام له ، فأذن لجنده بإتيان أهلهم في الكوفة ، وبقي في مئة رجل ، ولمّا دهمه جيش معاوية قاومه مقاومة باسلة ، وتوجّهت

٨٩

له نجدة تبلغ خمسين رجلاً ، فلمّا رآهم النعمان فزع وولّى هارباً ، فقد ظنّ أنّ لهم مدداً ، ولمّا بلغت الإمام (عليه السّلام) أنباء هذه الغارة قام خطيباً في جيشه يدعوهم إلى نجدة عامله ، فقال (عليه السّلام) : «يا أهل الكوفة ، كلّما أطلّت عليكم سرية ، وأتاكم مَنْسِرٌ مِنْ مَنَاسِرِ أَهْلِ الشَّامِ أَغْلَقَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْكُمْ بَابَهُ ، وَانْجَحَرَ انْجِحَارَ الضَّبَّةِ فِي جُحْرِهَا ، وَالضَّبُعِ فِي وِجَارِهَا. الذَّلِيلُ وَاللَّهِ مَنْ نَصَرْتُمُوهُ ، وَمَنْ رُمِيَ بِكُمْ فَقَدْ رُمِيَ بِأَفْوَقَ نَاصِلٍ ، فقبحاً لكم وترحاً! وقد ناديتكم وناجيتكم ، فلا أحرار عند اللقاء ، ولا إخوان(١) عند النجا ، قد مُنيتُ منكم بصُمٍّ لا يسمعون ، وبُكمٍ لا يعقلون ، وكمّه لا يبصرون»(٢) .

٢ ـ هيت :

ووجّه معاوية للغارة على هيت سفيان بن عوف وضم إليه ستة آلاف ، وأمره أن يأتي بعد الغارة عليها إلى الأنبار والمدائن فيوقِع بأهلها ، وسار بجيشه إلى هيت فلمْ يجد بها أحداً ، فانعطف نحو الأنبار ، فوجد بها مسلحة للإمام (عليه السّلام) تتكون مِن مئتي رجل فقاتلهم ، وقُتِلَ أشرس بن حسّان البكري مع ثلاثين رجلاً مِن أصحابه ، ثمّ نهبوا ما في الأنبار مِن أموال ، وتوجّهوا إلى معاوية وهم مسرورون بما أحرزوه مِن النصر ، وبما نهبوه مِن الأموال(٣) .

وبلغت أنباء الأنبار عليّاً فأثارته إلى حدّ بعيد ، وبلغ به الغيظ أقصاه ، وكان عليلاً لا يمكنه الخطاب ، فكتب كتاباً قُرِأ على الناس ، وقد أُدْنِيَ مِن السّدرة ليسمع القراءة(٤) ، وهذا نصه :

__________________

(١) في الطبري : ولا إخوان ثقة.

(٢) أنساب الأشراف.

(٣) تاريخ ابن الأثير ٣ / ١٨٩.

(٤) أنساب الأشراف.

٩٠

«أَمَّا بَعْدُ ، فَإِنَّ الْجِهَادَ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ فَتَحَهُ اللَّهُ لِخَاصَّةِ أَوْلِيَائِهِ ، وَهُوَ لِبَاسُ التَّقْوَى وَدِرْعُ اللَّهِ الْحَصِينَةُ وَجُنَّتُهُ الْوَثِيقَةُ ، فَمَنْ تَرَكَهُ رَغْبَةً عَنْهُ أَلْبَسَهُ اللَّهُ ثَوْبَ الذُّلِّ ، وَشَمِلَهُ الْبَلاءُ ، وَدُيِّثَ بِالصَّغَارِ وَالْقَمَاءَةِ ، وَضُرِبَ عَلَى قَلْبِهِ بِالإِسْهَابِ ، وَأُدِيلَ الْحَقُّ مِنْهُ بِتَضْيِيعِ الْجِهَادِ وَسِيمَ الْخَسْفَ وَمُنِعَ النَّصَفَ. أَلا وَإِنِّي قَدْ دَعَوْتُكُمْ إِلَى قِتَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لَيْلاً وَنَهَاراً ، وَسِرّاً وَإِعْلاناً ، وَقُلْتُ لَكُمُ : اغْزُوهُمْ قَبْلَ أَنْ يَغْزُوكُمْ ؛ فَوَاللَّهِ مَا غُزِيَ قَوْمٌ قَطُّ فِي عُقْرِ دَارِهِمْ إِلاّ ذَلُّوا ، فَتَوَاكَلْتُمْ وَتَخَاذَلْتُمْ حَتَّى شُنَّتْ عَلَيْكُمُ الْغَارَاتُ ، وَمُلِكَتْ عَلَيْكُمُ الأَوْطَانُ. وَهَذَا أَخُو غَامِدٍ قَدْ وَرَدَتْ خَيْلُهُ الأَنْبَارَ ، وَقَدْ قَتَلَ حَسَّانَ بْنَ حَسَّانَ الْبَكْرِيَّ وَأَزَالَ خَيْلَكُمْ عَنْ مَسَالِحِهَا ، وَلَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ كَانَ يَدْخُلُ عَلَى الْمَرْأَةِ الْمُسْلِمَةِ وَالأُخْرَى الْمُعَاهِدَةِ ، فَيَنْتَزِعُ حِجْلَهَا وَقُلُبَهَا ، وَقَلائِدَهَا وَرُعُثَهَا ، مَا تَمْتَنِعُ مِنْهُ إِلاّ بِالاسْتِرْجَاعِ وَاِاسْتِرْحَامِ ، ثُمَّ انْصَرَفُوا وَافِرِينَ مَا نَالَ رَجُلاً مِنْهُمْ كَلْمٌ ، وَلا أُرِيقَ لَهُمْ دَمٌ ، فَلَوْ أَنَّ امْرَأً مُسْلِماً مَاتَ مِنْ بَعْدِ هَذَا أَسَفاً مَا كَانَ بِهِ مَلُوماً ، بَلْ كَانَ بِهِ عِنْدِي جَدِيراً. فَيَا عَجَباً! عَجَباً وَاللَّهِ يُمِيتُ الْقَلْبَ وَيَجْلِبُ الْهَمَّ مِنَ اجْتِمَاعِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ عَلَى بَاطِلِهِمْ ، وَتَفَرُّقِكُمْ عَنْ حَقِّكُمْ! فَقُبْحاً لَكُمْ وَتَرَحاً حِينَ صِرْتُمْ غَرَضاً يُرْمَى ، يُغَارُ عَلَيْكُمْ وَلا تُغِيرُونَ ، وَتُغْزَوْنَ وَلا تَغْزُونَ ، وَيُعْصَى اللَّهُ وَتَرْضَوْنَ! فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِالسَّيْرِ إِلَيْهِمْ فِي أَيَّامِ الْحَرِّ قُلْتُمْ : هَذِهِ حَمَارَّةُ الْقَيْظِ أَمْهِلْنَا يُسَبَّخْ عَنَّا الْحَرُّ. وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِالسَّيْرِ إِلَيْهِمْ فِي الشِّتَاءِ قُلْتُمْ : هَذِهِ صَبَارَّةُ الْقُرِّ أَمْهِلْنَا يَنْسَلِخْ عَنَّا الْبَرْدُ. كُلُّ هَذَا فِرَاراً مِنَ الْحَرِّ وَالْقُرِّ ، فَإِذَا كُنْتُمْ مِنَ الْحَرِّ وَالْقُرِّ تَفِرُّونَ ، فَأَنْتُمْ وَاللَّهِ مِنَ السَّيْفِ أَفَرُّ.

يَا أَشْبَاهَ الرِّجَالِ وَلا رِجَالَ! حُلُومُ الأَطْفَالِ وَعُقُولُ رَبَّاتِ الْحِجَالِ ، لَوَدِدْتُ أَنِّي لَمْ أَرَكُمْ وَلَمْ أَعْرِفْكُمْ مَعْرِفَةً وَاللَّهِ جَرَّتْ نَدَماً وَأَعْقَبَتْ سَدَماً ؛ قَاتَلَكُمُ اللَّهُ لَقَدْ مَلأتُمْ قَلْبِي قَيْحاً ، وَشَحَنْتُمْ صَدْرِي غَيْظاً ، وَجَرَّعْتُمُونِي نُغَبَ التَّهْمَامِ أَنْفَاساً ، وَأَفْسَدْتُمْ عَلَيَّ رَأْيِي بِالْعِصْيَانِ وَالْخِذلانِ حَتَّى لَقَدْ قَالَتْ قُرَيْشٌ : إِنَّ ابْنَ أَبِي طَالِبٍ رَجُلٌ شُجَاعٌ وَلَكِنْ لا عِلْمَ لَهُ بِالْحَرْبِ. لِلَّهِ أَبُوهُمْ! وَهَلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَشَدُّ لَهَا مِرَاساً ، وَأَقْدَمُ فِيهَا مَقَاماً مِنِّي؟! لَقَدْ نَهَضْتُ فِيهَا وَمَا بَلَغْتُ الْعِشْرِينَ(١) وَهَا أَنَا ذَا قَدْ ذَرَّفْتُ عَلَى السِّتِّينَ ، وَلَكِنْ لا رَأْيَ لِمَنْ لا يُطَاعُ»(٢) .

__________________

(١) في رواية «وما بلغت العشرين».

(٢) انسب الاشراف.

٩١

وقد صوّر هذا الخطاب ما في نفس الإمام (عليه السّلام) مِن غيظ ممضٍ ، ويأسٍ شديدٍ مِن أصحابه الذين امتلأت قلوبهم خوفاً وذلاً مِن أهل الشام ، فتخاذلوا وقبعوا في بيوتهم يطاردهم الفزع ، حتّى فسد على الإمام (عليه السّلام) أمره.

٣ ـ واقصة :

ووجّه معاوية الضحّاك بن قيس الفهري إلى واقصة ليغير على كلّ مَنْ كان فيها مِن شيعة الإمام (عليه السّلام) ، وضمّ إليه ثلاثة آلاف رجل ، فسار الضحّاك فنهب أموال الناس ، وقتل كلّ مَنْ ظنّ أنّه على طاعة الإمام (عليه السّلام) ، وسار حتّى انتهى إلى القطقطانة وهو يشيع القتل والإرهاب ، ثمّ سار إلى السماوة ، وبعدها ولّى إلى الشام.

ولمّا وافت الأنباء الإمام (عليه السّلام) قام خطيباً في جيشه ، وقد دعاهم إلى صدّ هذا الاعتداء فلمْ يستجب له أحد ، فقال (عليه السّلام) : «وددت والله أنّ لي بكلّ عشرة منكم رجلاً مِن أهل الشام ، وإنّي صرفتكم كما يصرف الذهب ، ولوددت أنّي لقيتهم على بصيرتي فأراحني الله مِنْ مقاساتكم ومداراتكم». وسار الإمام (عليه السّلام) وحده نحو الغريّين لصدّ هذا الاعتداء ، فلحقه عبد الله بن جعفر بدابة فركبها ، ولمّا رأى الناس ذلك خفّ إليه بعضهم ، فسرح (عليه السّلام) لطلب الضحاك حِجْر بن عدي في أربعة آلاف ، وسار في طلبه فلمْ يدركه فرجع(١) .

لقد أخذت غارات معاوية تتوالى على العراق مِنْ دون أنْ تتعرّض لأيّ مقاومة تذكر ، وقد أيقن معاوية بالنصر والظفر لِما مُنِيَ به أصحاب الإمام (عليه السّلام) مِن التخاذل.

__________________

(١) أنساب الأشراف.

٩٢

الغارة على الحجاز واليمن :

وبعث معاوية بسر بن أرطاة في ثلاثة آلاف للغارة على الحجاز واليمن ، فاتّجه نحو يثرب فلمْ يجد مِنْ أهلها أيّة مقاومة ، فصعد المنبر ورفع عقيرته يندب عثمان ، وينشر الرعب والإرهاب بين الناس.

وأخذ البيعة مِنْ أهلها لمعاوية ، ثمّ سار إلى اليمن وكان عليها عبيد الله بن عباس عاملاً للإمام (عليه السّلام) ، فهرب منه حتّى أتى الكوفة ، فاستخلف الإمام (عليه السّلام) عليها عبد الله الحارثي فقتله بسر وقتل ابنه ، وعمد إلى طفلين لعبيد الله فقتلهما ، ولمّا انتهى خبرهما إلى اُمّهما فقدت وعيها ، وراحت ترثيهما بذوب روحها ، بأبياتها المشهورة(١) .

لقد قام سلطان معاوية على قتل الأبرياء ، وذبح الأطفال ، وأشاع الرعب والفزع في البلاد.

ولمّا انتهت الأنباء الأليمة إلى الإمام (عليه السّلام) خارت قواه ، ومزّق الأسى قلبه ، وراح يخطب في جيشه ، يذكر ما عاناه مِن الخطوب والكوارث منهم ، قائلاً : «اُنبئتُ بسراً قد أطلع اليمن(٢) ، وإنّي والله لأظنّ أنّ هؤلاء القوم سيدالون(٣) منكم باجتماعهم على باطلهم وتفرّقكم عن حقّكم ، وبمعصيتكم إمامكم في الحقّ وطاعتهم إمامهم في الباطل ، وبأدائهم الأمانة إلى صاحبهم وخيانتكم ، وبصلاحهم في بلادهم وفسادكم ، فلو ائتمنت أحدكم على

__________________

(١) تاريخ ابن الأثير ٣ / ١٩٣.

(٢) أطلع اليمن : بلغها واحتلتها قواته.

(٣) سيدالون : أي ستكون لهم الدولة بسبب اجتماع كلمتهم ، واختلاف رأي العراقيّين.

٩٣

قُعب(١) لخشيت أنْ يذهب بعلاقته(٢) . اللهمّ إنّي قد مللتهم وملّوني ، وسئمتهم وسئموني ، فأبدلني بهم خيراً منهم ، وأبدلهم بي شرّاً منّي. اللهمّ مِث في قلوبهم كما يُماث الملح في الماء ، أما والله لوددت أنّ لي ألف فارس مِنْ بني فرس ابن غنم(٣) :

هنالك لو دعوتَ أتاكَ منهُمْ

فوارسُ مثلُ أرميةِ الحميمِ

ثمّ نزل عن المنبر(٤) وهو غارق بالهموم والأحزان ، قد استولى اليأس على نفسه مِن أصحابه الذين أصبحوا أعصاباً رخوةً خاليةً مِن الشعور والإحساس.

هذه بعض الغارات التي شنّها معاوية على العراق وخارجه من الأقاليم الإسلامية الخاضعة لحكم الإمام (عليه السّلام) ، وكان المقصود منها زعزعة هذه المناطق مِن إيمانها بمقدرة الإمام (عليه السّلام) على حمايتها مِن الاعتداء ، وإذاعة مقدرة معاوية وقوته العسكرية ، وتقوية الروح المعنوية في جيشه ، وحزبه المنتشر في تلك البلاد.

وعلى أيّ حالٍ ، فقد صوّرت هذه الغارات جانباً كبيراً مِن الضعف والتمرّد في جيش الإمام (عليه السّلام) ، حتّى طمع معاوية في شنّ هجومٍ عامٍ على العراق لاحتلاله ، والقضاء على حكومة الإمام (عليه السّلام) ، ومِن المؤكد ، أنّه لو فعل ذلك لوجد الطريق سهلاً ، ولمْ يجد أيّة صعوبة أو مقاومة تذكر ، فقد خلُد القوم إلى الراحة ، وسئموا مِن الجهاد.

__________________

(١) القُعب بالضم : القدح الكبير.

(٢) عِلاقته بكسر العين : ما يعلق به القعب من ليف ونحوه.

(٣) بنو فرس : قبيلة عربية مشهورة بالشجاعة والإقدام.

(٤) نهج البلاغة محمّد عبده ١ / ٦٠.

٩٤

عبثُ الخوارج :

وتواكبت المحن الشاقّة على الإمام (عليه السّلام) يقفو بعضاً ، فغارات معاوية متصلة على العراق وخارجه ، وهي تنشر الرعب والهلع في قلوب المواطنين ، والإمام (عليه السّلام) لا يتمكن على حماية الأمن وصيانة الناس مِن الاعتداء ؛ فقد خلع جيشه يد الطاعة وأعلن العصيان والتمرّد ، ولمْ يعُدْ له أي نفوذ أو سلطان عليه ، ومِن تلك المحن الشاقّة التي ابتلي بها الإمام (عليه السّلام) هي فتنة الخوارج ؛ فإنّه لمْ يقضِ عليهم في النهروان ، وإنّما قضى على جماعة منهم ، وبقي أكثرهم يعيشون معه ، وهم يكيدون له ويتربّصون به الدوائر ، ويحوّلون قلوب الناس عنه. قد أمِنوا مِن بطشه ، واستيقنوا أنّه لن يبسط عليهم يداً ، ولا ينزل بهم عقوبة ، وقد أطمعهم عدله وأغراهم لينه ، فراحوا يجاهرون بالردّ والإنكار عليه ، فقد قطع بعضهم عليه خطبته تالياً قوله تعالى :( لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) . فأجابه الإمام (عليه السّلام) بآية اُخرى :( فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لاَ يُوقِنُونَ ) .

وجاءه الخريت بن راشد السامي في ثلاثين من أصحابه فقال له : يا علي ، والله لا أطيع أمرك ، ولا اُصلّي خلفك ، وإنّي غداً مفارق لك. فلطف به الإمام (عليه السّلام) وحاججه ، وخلّى بينه وبين حرّيته فلمْ يسجنه ، وإنّما ترك له الطريق مفتوحاً. وولّى الرجل إلى قومه مِن بني ناجية فأخبرهم بما كان بينه وبين الإمام (عليه السّلام) ، ثمّ خرج في الليل يريد الحرب ، وجرت أحداث كثيرة في خروج الخريت وتمرّده ذكرها المؤرّخون بالتفصيل.

وعلى أيّ حالٍ ، فإنّ المسؤولية الكبرى في كثير مِن الأحداث المفزعة التي مُنِيَ بها العالم الإسلامي تقع على الخوارج ، فهم الذين قضوا على مصير

٩٥

الأُمّة في أهم الفترات الحاسمة مِن تاريخها حينما كُتِبَ النصر للإمام (عليه السّلام) ، وباء معاوية بالهزيمة والفشل ، بحيث لمْ يبقَ مِن حياته إلاّ فترةٍ يسيرةٍ مِن الزمن ، قدّرها قائد القوات العسكرية في جيش الإمام (عليه السّلام) مالك الأشتر بحلبة شاة أو بعدوة فرس ، فأضاعوا ذلك النصر الكبير ، وأرغموا الإمام (عليه السّلام) على قبول التحكيم.

دعاءُ الإمام (عليه السّلام) على نفسه :

وطاقت بالإمام (عليه السّلام) موجات رهيبة ومذهلة مِن الأحداث والأزمات ، فهو يرى باطل معاوية قد استحكم ، وأمره قد تمّ ، ويرى نفسه في أرباض الكوفة ، قد احتوشته ذئاب العرب الذين كرهوا عدله ، ونقموا عليه مساواته ، وعملوا جاهدين على الحيلولة بينه وبين تحقيق آماله من القضاء على الإثرة والاستعلاء والطغيان.

والشيء الوحيد الذي أقضّ مضجع الإمام (عليه السّلام) هو تمزّق جيشه ، وتفلّل جميع وحداته ، فقد أصبح بمعزل عن جميع السلطات ، وقد نظر (عليه السّلام) إلى المصير المؤلم الذي سيلاقونه مِن بعده ، فقال : «أما إنّكم ستلقون بعدي ذلاً شاملاً ، وسيفاً قاطعاً ، وإثرة يتّخذها الظالمون فيكم سُنّة ؛ فيفرّق جماعتكم ، ويبكي عيونكم ، ويدخل الفقر بيوتكم ، وتتمنون عن قليل أنّكم رأيتموني فنصرتموني ، فستعلمون حقّ ما أقول لكم ، ولا يبعُد الله إلاّ مَنْ ظلم وأثم»(١) .

ولمْ يجد نصح الإمام (عليه السّلام) معهم شيئاً ، فقد تمادوا في الغي ، وعادت لهم جاهليتهم الرعناء. وقد سئم الإمام (عليه السّلام) منهم وراح يتمنّي مفارقة حياته ، فكان كثيراً ما يقول

__________________

(١) أنساب الأشراف ١ ق ١ / ٢٠٠.

٩٦

في خطبة : «متى يُبْعَثُ أشقاها؟». وأخذ يلحّ بالدعاء ، ويتوسّل إلى الله بقلب منيب أنْ يريحه منهم.

فقد روى البلاذري ، عن أبي صالح ، قال : شهدت عليّاً وقد وضع المصحف على رأسه ، حتّى سمعت تقعقع الورق وهو يقول : «اللّهم ، إنّي سألتهم ما فيه فمنعوني ذلك. اللهمّ إنّي قد مللتهم وملّوني ، وأبغضتهم وأبغضوني ، وحملوني على غير خُلُقي ، وعلى أخلاقٍ لمْ تكن تُعرف لي ، فأبدلني خيراً لي منهم ، وأبدلهم بي شرّاً ، ومِث قلوبهم ميث الملح»(١) .

واستجاب الله دعاء وليّه العظيم ، فنقله بعد قليل إلى حضيرة القدس مع النبيّين والصدّيقين ، وأراحه مِن ذلك المجتمع الذي كره الحقّ ونقم على العدل ، وقد سلّط الله عليهم أرجاس البشرية ، فأخذوا يمعنون في ظلمهم وإذلالهم ، فيأخذون البريء بالسقيم ، والمقبل بالمدبر ، ويقتلون على الظنّة والتهمة ، فاستيقظوا عند ذلك ، وأخذوا يندمون أشدّ الندم على ما اقترفوه مِن الإثم تجاه الإمام (عليه السّلام) ، وما فرّطوا به مِن عصيانه وخذلانه.

هذه بعض مخلّفات تلك الحروب التي امتُحن بها الإمام (عليه السّلام) كأشد ما يكون الامتحان قسوة وإرهاقاً ، ولمْ يُمتحن بها وحده ، وإنّما امتُحن بها العالم الإسلامي بأسره ؛ فقد أخلدت للمسلمين المشاكل والخطوب ، وألقتهم في شرٍّ عظيم.

لقد واكب الإمام الحسين (عليه السّلام) هذه الأحداث المفزعة التي جرت على أبيه ، ووقف على واقعها ، وقد استبان له كراهية القوم لأبيه ؛ لأنّه لمْ يداهن في دينه ، وأراد أنْ يحمل الناس على الحقّ المحض ، والعدل الخالص ، ولا يدع محروماً ولا مظلوماً في البلاد.

وعلى أيّ حالٍ ، فإنّ هذه الحروب قد ساهمت مساهمة إيجابية في خلق كارثة كربلاء التي لمْ تأت إلاّ بعد انهيار الأخلاق ، وإماتة الوعي الديني والاجتماعي ، وإشاعة الانتهازية والتحلل بين أفراد المجتمع ، فقد سيطرت

__________________

(١) أنساب الأشراف ١ / ق ١.

٩٧

الرأسمالية القرشية على الشؤون الاجتماعية ، فأخذت تعيث فساداً في الأرض ، وتنقض جميع ما أقامه الإسلام مِن صروحٍ للفضيلة والأخلاق. وكان مِن أسوء ما قامت به أنّها عملت جاهدة على إشاعة العداء والكراهية لأهل البيت (عليهم السّلام) ، الذين هم مصدر الوعي والإحساس في هذه الأُمّة.

فقد عمدت بشكل سافر إلى تقطيع أوصالهم على صعيد كربلاء ، وإبادتهم إبادةً جماعيةً بصورةٍ رهيبةٍ لمْ يحدث لها نظير في تاريخ الإنسانية.

٩٨

اُفول دولة الحق

٩٩
١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

4 ـ إنّه تحدّث عمّا يجب أنْ يتّصفَ به الإمام والقائد لمسيرة الاُمّة مِنْ الصفات ، وهي :

أ ـ العمل بكتاب الله.

ب ـ الأخذ بالقسط.

ج ـ الإداناة بالحقّ.

د ـ حبس النفس على ذات الله.

ولم تتوفّر هذه الصفات الرفيعة إلاّ في شخصيته الكريمة التي تحكي اتّجاهات الرسول (صلّى الله عليه وآله) ونزعاته.

وتسلّم مسلم هذه الرسالة ، وقد أوصاه الإمام بتقوى الله وكتمان أمره(1) ، وغادر مسلم مكّة ليلة النصف مِنْ رمضان(2) ، وعرج في طريقه على يثرب فصلّى في مسجد الرسول (صلّى الله عليه وآله) وطاف بضريحه ، وودّع أهله وأصحابه(3) ، وكان ذلك هو الوداع الأخير لهم ، واتّجه صوب العراق وكان معه قيس بن مسهر الصيداوي ، وعمارة بن عبد الله السلولي وعبد الرحمن بن عبد الله الأزدي ، واستأجر مِنْ يثرب دليلين مِنْ قيس يدلاّنه على الطريق(4) .

وسارت قافلة مسلم تجذّ في السير لا تلوي على شيء ، يتقدّمها الدليلان وهما يتنكبان الطريق ؛ خوفاً مِن الطلب فضلاً عن الطريق ، ولم يهتديا له وقد أعياهما السير واشتدّ بهما العطش ، فأشارا إلى مسلم بسنن الطريق بعد

__________________

(1) تاريخ ابن الأثير 3 / 267.

(2) مروج الذهب 2 / 86.

(3) تاريخ الطبري 6 / 198.

(4) الأخبار الطوال / 231 ، تاريخ ابن الأثير 3 / 267.

٣٤١

أنْ بان لهما وتوفيا في ذلك المكان حسبما يقوله المؤرّخون(1) ، وسار مسلم مع رفقائه حتّى أفضوا إلى الطريق ووجدوا ماءً فأقاموا فيه ؛ ليستريحوا ممّا ألمَّ بهمْ مِنْ عظيم الجهد والعناء.

رسالة مسلم للحُسين (عليهما السّلام) :

ويقول المؤرّخون : إنّ مسلم تخوّف مِنْ سفره وتطيّر بعد أنْ أصابه مِن الجهد وموت الدليلين ، فرفع للإمام رسالة يرجو فيها الاستقالة مِنْ سفارته ، وهذا نصها : أمّا بعد ، فإنّي أقبلت مِن المدينة مع دليلين ، فجازا(2) عن الطريق فضلاّ ، واشتدّ عليهما العطش فلمْ يلبثا أنْ ماتا ، وأقبلنا حتّى انتهينا إلى الماء فلمْ ننجُ إلاّ بحشاشة أنفسنا ، وذلك الماء بمكان يدعى (المضيق) مِنْ بطن الخبث ، وقد تطيّرت مِنْ توجّهي هذا ، فإنْ رأيت أعفيتني مِنه وبعثت غيري ، والسّلام.

جواب الحُسين (عليه السّلام) :

وكتب الإمام الحُسين جواباً لرسالة مسلم ندد فيه بموقفه واتّهمه بالجبن ، وهذا نصها : أمّا بعد ، فقد خشيت أنْ لا يكون حمَلَك على الكتاب إليّ في الاستعفاء مِن الوجه الذي وجّهتك له إلاّ الجبن ، فامضِ لوجهك الذي

__________________

(1) الإرشاد / 227.

(2) جازا عن الطريق : أي تركاه خلفهما.

٣٤٢

وجّهتك فيه ، والسّلام(1) .

أضواء على الموضوع :

وأكبر الظنّ أنّ رسالة مسلم مع جواب الإمام مِن الموضوعات ، ولا نصيب لها مِن الصحة ؛ وذلك لما يلي :

1 ـ إنّ مضيق الخبث الذي بعث منه مسلم رسالته إلى الإمام يقع ما بين مكّة والمدينة حسب ما نصّ عليه الحموي(2) ، في حين أنّ الرواية تنصّ على أنّه استأجر الدليلين مِنْ يثرب ، وخرجوا إلى العراق فضلّوا عن الطريق وماتا الدليلان. ومِن الطبيعي أنّ هذه الحادثة وقعت ما بين المدينة والعراق ولمْ تقع ما بين مكّة والمدينة.

2 ـ إنّه لو كان هناك مكان يُدعى بهذا الاسم يقع ما بين يثرب والعراق لمْ يذكره الحموي ، فإنّ السفر منه إلى مكّة ذهاباً وإياباً يستوعب زماناً يزيد على عشرة أيّام ، في حين أنّ سفر مسلم مِنْ مكّة إلى العراق قد حدّده المؤرّخون فقالوا : إنّه سافر مِنْ مكّة في اليوم الخامس عشر مِنْ رمضان وقدم إلى الكوفة في اليوم الخامس مِنْ شوال ، فيكون مجموع سفره عشرين يوماً ، وهي أسرع مدّة يقطعها المسافر مِنْ مكّة إلى المدينة ؛ فإنّ المسافة بينهما تزيد على ألف وستمئة كيلو متر.

وإذا استثنينا مِنْ هذه المدّة سفر رسول مسلم مِنْ ذلك المكان ورجوعه إليه فإنّ مدّة سفره مِنْ مكّة إلى الكوفة تكون أقلّ مِنْ عشرة أيّام ، ويستحيل عادة قطع تلك

__________________

(1) الإرشاد / 226 ، وفي الحدائق الوردية 1 / 117 خرج مسلم مِنْ مكّة حتّى أتى المدينة ، وأخذ منها دليلين ، فمرّا به في البريّة فأصابهما عطش فمات أحد الدليلين ، فكتب مسلم إلى الحُسين يستعفيه ، فكتب إليه الحُسين (عليه السّلام) : «أنْ امضِ إلى الكوفة».

(2) معجم البلدان 2 / 343.

٣٤٣

المسافة بهذه الفترة مِن الزمن.

3 ـ إنّ الإمام اتّهم مسلماً في رسالته بالجبن ، وهو يناقض توثيقه له مِنْ أنّه ثقته وكبير أهل بيته والمبرز بالفضل عليهم ، ومع اتّصافه بهذه الصفات كيف يتّهمه بالجبن؟!

4 ـ إنّ اتّهام مسلم بالجبن يتناقض مع سيرته ؛ فقد أبدى هذا البطل العظيم مِن البسالة والشجاعة النادرة ما يبهر العقول ، فإنّه حينما انقلبت عليه جموع أهل الكوفة قابلها وحدّه مِنْ دون أنْ يعينه أو يقف إلى جنبه أيّ أحد ، وقد أشاع في تلك الجيوش المكثّفة القتل ممّا ملأ قلوبهم ذعراً وخوفاً ، ولمّا جيء به أسيراً إلى ابن زياد لمْ يظهر عليه أيّ ذلّ أو انكسار.

ويقول فيه البلاذري : إنّه أشجع بني عقيل وأرجلهم(1) ، بل هو أشجع هاشمي عرفه التاريخ بعد أئمّة أهل البيت (عليهم السّلام).

إنّ هذا الحديث مِن المفتريات الذي وضِعَ للحطّ مِنْ قيمة هذا القائد العظيم الذي هو مِنْ مفاخر الاُمّة العربية والإسلاميّة.

في بيت المختار :

وسار مسلم يطوي البيداء حتّى دخل الكوفة فاختار النزول في بيت المختار الثقفي(2) ، وهو مِنْ أشهر أعلام الشيعة وأحد سيوفهم ومِنْ أحبّ الناس وأنصحهم للإمام الحُسين.

__________________

(1) أنساب الأشراف 1 / ق 1.

(2) الإرشاد / 226 ، تاريخ ابن الأثير 3 / 267 ، وقيل : نزل مسلم في بيت مسلم بن عوسجة ، وقيل : نزل في بيت هانئ بن عروة ، جاء ذلك في كلّ مِن الإصابة 1 / 332 ، وتهذيب التهذيب.

٣٤٤

لقد اختار مسلم النزول في بيت المختار دون غيره مِنْ زعماء الشيعة ؛ وذلك لوثوقه بإخلاصه للإمام الحُسين وتفانيه في حبّه ، كما أنّ هناك عاملاً آخر له أهمّيته ، فقد كان المختار زوجاً لعمرة بنت النعمان بن بشير حاكم الكوفة ، ولا شك أنّ يده لنْ تمتد إلى المسلم طالماً كان مقيماً في بيت صهره المختار ، وقد دلّ ذلك على إحاطة مسلم بالشؤون الاجتماعية.

وفتح المختار أبواب داره لمسلم وقابله بمزيد مِن الحفاوة والتكريم ، ودعا الشيعة إلى مقابلته ، فأقبلوا إليه مِنْ كلّ حدب وصوب وهم يظهرون له الولاء والطاعة.

ابتهاج الكوفة :

وعمّت الأفراح بمقدم مسلم جميع الأوساط الشيعية في الكوفة ، وقد وجد منهم مسلم ترحيباً حارّاً وتأييداً شاملاً ، وكان يقرأ عليهم رسالة الحُسين وهم يبكون ويبدون التعطّش لقدومه والتفاني في نصرته ؛ لينقذهم مِنْ جور الاُمويِّين وظلمهم ويعيد في مصرهم حكم الإمام أمير المؤمنين ، مؤسس العدالة الكبرى في الأرض ، وكان مسلم يوصيهم بتقوى الله وكتمان أمرهم حتّى يقدم إليهم الإمام الحُسين.

البيعة للحُسين (عليه السّلام) :

وانثالت الشيعة على مسلم تبايعه للإمام الحُسين (عليه السّلام) ، وكانت صيغة البيعة الدعوة إلى كتاب الله وسنّة رسوله وجهاد الظالمين ، والدفع عن المستضعفين وإعطاء المحرومين وقسمة الغنائم بين المسلمين بالسويّة ، وردّ المظالم إلى

٣٤٥

أهلها ونصرة أهل البيت (عليهم السّلام) ، والمسالمة لمَنْ سالموا والمحاربة لمَنْ حربوا. وقد شبّه السيّد المقرّم هذه البيعة ببيعة الأوس والخزرج للنّبي (صلّى الله عليه وآله)(1) ، وكان حبيب بن مظاهر الأسدي يأخذ البيعة منهم للحُسين(2) .

كلمة عابس الشاكري :

وانبرى المؤمن الفذ عابس بن شبيب الشاكري فأعرب لمسلم عن ولائه الشخصي واستعداده للموت في سبيل الدعوة ، إلاّ إنّه لمْ يتعهد له بإيّ أحد مِنْ أهل مصره قائلاً : أمّا بعد ، فإنّي لا أخبرك عن الناس ولا أعلم ما في أنفسهم وما أغرّك منهم. والله ، إنّي محدّثك عمّا أنا موطّن عليه نفسي. والله ، لاُجيبنَّكم إذا دعوتم ولاُقاتلنَّ معكم عدوكم ، ولأضربنَّ بسيفي دونكم حتّى ألقى الله ، لا أريد بذلك إلاّ ما عند الله.

وقد صدق عابس ما عاهد عليه الله ؛ فلمْ يخن ضميره ففدى بنفسه ريحانة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) واستشهد بين يديه في كربلاء. وانبرى حبيب ابن مظاهر فخاطب عابساً قائلاً له : رحمك الله ، فقد قضيت ما في نفسك بواجز مِنْ قولك ، وأنا والله الذي لا إله إلاّ هو على مثل ما أنت عليه.

واندفع سعيد الحنفي فأيّد مقالة صاحبيه(3) ، وهؤلاء الأبطال مِنْ

__________________

(1) الشهيد مسلم بن عقيل / 103.

(2) الحدائق الوردية 1 / 125 مِنْ مخطوطات مكتبة الإمام كاشف الغطاء العامّة.

(3) تاريخ الطبري 6 / 199.

٣٤٦

أنبل مَنْ عرفهم التاريخ صدقاً ووفاءً ، فقد بذلوا أرواحهم بسخاء إلى الإمام الحُسين واستشهدوا بين يديه في كربلاء.

عدد المبايعين :

وتسابقت جماهير الكوفة إلى بيعة الحُسين على يد سفيره مسلم بن عقيل ، وقد اختلف المؤرّخون في عدد مَنْ بايعه ، وهذه بعض الأقوال :

1 ـ أربعون ألفاً(1) .

2 ـ ثلاثون ألفاً ، ومِنْ بينهم حاكم الكوفة النعمان بن بشير(2) .

3 ـ ثمانية وعشرون ألفاً(3) .

4 ـ ثمانية عشر ألفاً ، حسب ما جاء في رسالة مسلم إلى الحُسين ، يقول فيها : وقد بايعني مِنْ أهل الكوفة ثمانية عشر ألفاً فعجل الإقبال(4) .

__________________

(1) شرح شافية أبي فراس 1 / 90 مِنْ مصوّرات مكتبة الإمام الحكيم ، مثير الأحزان لابن نما / 11.

(2) دائرة معارف وجدي 3 / 444 ، حقائق الأخبار عن دول البحار ، روضة الأعيان في أخبار مشاهير الزمان ـ محمد بن أبي بكر المتوفى سنة (730 هـ) / 67 مِنْ مصوّرات مكتبة الحكيم ، مناقب الإمام علي بن أبي طالب / 13 ، وجاء فيه : أنّ النعمان قال : يا أهل الكوفة ، ابن بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أحبّ إليكم مِن ابن بنت بجدل.

(3) تاريخ أبي الفداء 1 / 300.

(4) تاريخ الطبري 6 / 224.

٣٤٧

5 ـ اثنا عشر ألفاً(1) .

رسالة مسلم للحُسين :

وازداد مسلم إيماناً ووثوقاً بنجاح الدعوة حينما بايعه ذلك العدد الهائل مِنْ أهل الكوفة ، فكتب للإمام يستحثّه فيها على القدوم إليهم ، وكان قد كتبها قبل شهادته ببضع وعشرين ليلة(2) ، وهذا نصها : أمّا بعد ، فإنّ الرائد لا يكذب أهله ، وقد بايعني مِنْ أهل الكوفة ثمانية عشر ألفاً(3) فعجّل حين يأتيك كتابي ، فإنّ الناس كلّهم معك ليس لهم في آل معاوية رأي ولا هوي(4) .

لقد كتب مسلم هذه الرسالة ؛ لأنّه لمْ يرَ أيّة مقاومة لدعوته ، وإنّما رأى إجماعاً شاملاً على بيعة الإمام وتلهّفاً حارّاً لرؤيته ، وحمل الكتاب جماعة مِنْ أهل الكوفة وعليهم البطل العظيم عابس الشاكري ، وقدم الوفد مكّة المكرّمة وسلّم الرسالة إلى الإمام ، وقد استحثّوه على القدوم إلى الكوفة وذكروا إجماع أهلها على بيعته وما قالاه مسلم مِن الحفاوة البالغة منهم ؛ وعند ذلك تهيأ الإمام إلى السفر للكوفة.

__________________

(1) مروج الذهب 3 / 4 ، الصراط السوي في مناقب آل النّبي / 86 مِنْ مصوّرات مكتبة الإمام الحكيم ، تهذيب التهذيب 2 / 350 ، الإصابة 1 / 332 ، الحدائق الوردية 1 / 117.

(2) أنساب الأشراف 1 / ق 1.

(3) وفي رواية البلاذري (إنّ جميع أهل الكوفة معك).

(4) تاريخ الطبري 6 / 224.

٣٤٨

موقف النعمان بن بشير :

كان موقف النعمان بن بشير(1) من الثورة موقفاً يتّسم باللين والتسامح ، وقد اتّهمه الحزب الاُموي بالضعف ، أو التضاعف في حفظ مصلحة الدولة والاهتمام بسلامتها ، فأجابهم : لأنْ أكون ضعيفاً وأنا في طاعة الله أحبّ إليّ مِنْ أن أكون قويّاً في معصية الله ، وما كنت لأهتك ستراً ستره الله(2) .

وقد أعطى الشيعة بموقفه هذا قوّة وشجعهم على العمل ضد الحكومة علناً ، ولعلّ سبب ذلك يعود لأمرين :

1 ـ إنّ مسلم بن عقيل كان ضيفاً عند المختار ، وهو زوج ابنته عمرة ، فلم يعرض للثوار بسوء رعايةً للمختار.

__________________

(1) النعمان بن بشير الأنصاري الخزرجي ، كان قد ولاّه معاوية الكوفة بعد عبد الرحمن بن الحكم ، وكان عثماني الهوى ؛ يجاهر ببغض علي ويسيء القول فيه ، وقد حاربه يوم الجمل وصفين ، وسعى بإخلاص لتوطيد المُلْك إلى معاوية ، وهو الذي قاد بعض الحملات الإرهابيّة على بعض المناطق العراقيّة. ويقول المحقّقون : إنّه كان ناقماً على يزيد ، ويتمنّى زوال المُلْك عنه شريطة أنْ لا تعود الخلافة لآل علي (عليه السّلام). ومِن الغريب في شأن هذا الرجل أنّ يزيد لمّا أوقع بأهل المدينة وأباحها لجنده ثلاثة أيّام لمْ يثأر النعمان لكرامة وطنه وقومه ، وفي الإصابة 3 / 530 إنّه لمّا هلك يزيد دعا النعمان إلى ابن الزّبير ، ثمّ دعا إلى نفسه فقاتله مروان ، فقُتل وذلك في سنة (65 هـ). وكان شاعراً مجيداً ، له ديوان شعر طُبع حديثاً.

(2) سير أعلام النبلاء 3 / 206.

٣٤٩

2 ـ إنّ النعمان كان ناقماً على يزيد ؛ وذلك لبغضه للأنصار. فقد أغرى الأخطل الشاعر المسيحي في هجائهم ، فثار لهم النعمان كما ألمعنا إلى ذلك في البحوث السابقة ، ولعل لهذا ولغيره لمْ يتّخذ النعمان أيّ إجراء مضاد للثورة.

خطبة النعمان :

وأعطى النعمان للشيعة قوّة في ترتيب الثورة وتنظيماً ، وهيأ لهم الفرص في أحكام قواعدها ممّا ساء الحزب الاُموي ، فأنكروا عليه ذلك وحرّضوه على ضرب الشيعة ، فخرج النعمان وصعد المنبر فأعلن للناس سياسته المتّسمة بالرفق ، فقال بعد حمد الله والثناء عليه : أمّا بعد ، فاتّقوا الله عباد الله ، ولا تُسارعوا إلى الفتنة والفرقة ؛ فإنّ فيها تهلك الرجال وتُسفك الدماء وتُغصب الأموال. إنّي لمْ اُقاتل مَنْ لمْ يُقاتلني ، ولا أثب على مَنْ لا يثب عليّ ، ولا اُشاتمكم ، ولا أتحرّش بكم ، ولا آخذ بالقرف(1) ولا الظنّة ولا التّهمة ، ولكنّكم إنْ أبديتم صفحتكم لي ونكثتم بيعتكم وخالفتم إمامكم ، فوالله الذي لا إله إلاّ هو ، لأضربنّكم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي ولو لمْ يكن منكم ناصر. أما إنّي أرجو أنْ يكون مَنْ يعرف الحقّ منكم أكثر ممّنْ يرديه الباطل(2) .

وليس في هذا الخطاب أيّ ركون إلى وسائل العنف والشدّة ، وإنّما كان فيه تحذير مِنْ مغبّة الفتنة وحبّ للعافية ، وعدم التعرّض لمَنْ لا يثب على السلطة ، وعدم أخذ الناس بالظنّة والتّهمة كما كان يفعل زياد بن أبيه

__________________

(1) القرف : التهمة.

(2) تاريخ ابن الأثير 3 / 267.

٣٥٠

والي العراق. وعلّق أنيس زكريا على خطاب النعمان بقوله :

ولنا مِنْ خطبه ـ أيّ خطب النعمان ـ في الكوفة برهان آخر على أنّه كان يرى الفتنة يقظى ولا بد أنْ تشتعل ، وإنّه لنْ يهاجم القائمين بها قبل أنْ يهاجموه ، فجعل لأنصارها قوّة وطيدة الأركان ويداً فعالة في ترتيب المؤامرة وتنظيمها على الأسس المتينة(1) .

سخط الحزب الاُموي :

وأغضبت سياسة النعمان عملاء الحكم الاُموي ، فانبرى إليه عبد الله بن مسلم الحضرمي حليف بني اُميّة ، فأنكر خطّته قائلاً : إنّه لا يصلح ما ترى إلاّ الغشم(2) ، وإنّ هذا الذي أنت عليه فيما بينك وبين عدوّك رأي المستضعفين!(3) .

ودافع النعمان عن نفسه بأنّه لا يعتمد على أيّة وسيلة تبعده عن الله ، ولا يسلك طريقاً يتجافى مع دينه ، وقد استبان للحزب الاُموي ضعف النعمان وانهياره أمام الثورة.

اتصال الحزب الاُموي بدمشق :

وفزع الحزب الاُموي مِنْ تجاوب الرأي العام مع مسلم واتّساع نطاق الثورة ، في حين أنّ السلطة المحليّة أغضّت النظر عن مجريات الأحداث

__________________

(1) الدولة الاُمويّة في الشام / 41.

(2) الغشم : الظلم.

(3) تاريخ ابن الأثير 3 / 267.

٣٥١

وقد اتّهمتها بالضعف أو بالتواطؤ مع الثوار ، وقام الحزب الاُموي باتّصال سريع بحكومة دمشق ، وطلبوا منها اتّخاذ الإجراءات الفورية قبل أنْ يتّسع نطاق الثورة ، ويأخذ العراق استقلاله وينفصل عن التبعية لدمشق.

ومِنْ بين الرسائل التي وفدت على يزيد رسالة عبد الله الحضرمي ، جاء فيها : أمّا بعد ، فإنّ مسلم بن عقيل قدم الكوفة وبايعته الشيعة للحُسين بن علي ، فإنْ كان لك بالكوفة حاجة فابعث إليها رجلاً قويّاً ينفّذ أمرك ويعمل مثل عملك في عدوّك ؛ فإنّ النعمان بن بشير رجل ضعيف أو هو يتضعّف(1) .

وتدعو هذه الرسالة إلى إقصاء النعمان عن مركزه ، واستعمال شخص آخر مكانه قوي البطش ؛ ليتمكن مِن القضاء على الثورة ، فإنّ النعمان لا يصلح للقضاء عليها. وكتب إليه بمثل ذلك عمارة بن الوليد بن عقبة وعمر بن سعد.

فزع يزيد :

وفزع يزيد حينما توافدت عليه رسائل عملائه في الكوفة بمبايعة أهلها للحُسين ، فراودته الهواجس وظلّ ينفق ليله ساهراً يطيل التفكير في الأمر ؛ فهو يعلم أنّ العراق مركز القوّة في العالم الإسلامي وهو يبغضه ويحقد على أبيه ، فقد أصبح موتراً منهم لما صبّوه عليه مِن الظلم والجور ، وإنّ كراهية أهل العراق ليزيد لا تقلّ عن كراهيتهم لأبيه ، كما إنّه على

__________________

(1) تاريخ ابن الأثير 3 / 267.

٣٥٢

يقين أنّ الأغلبية الساحقة في العالم الإسلامي تتعطّش لحكم الإمام الحُسين ؛ لأنّه المثل الشرعي لجدّه وأبيه ولا يرضون بغيره بديلاً.

استشارته لسرجون :

وأحاطت الهواجس بيزيد وشعر بالخطر الذي يهدّد مُلْكه فاستدعى سرجون الرومي ، وكان مستودع أسرار أبيه ومِنْ أدهى الناس ، فعرض عليه الأمر ، وقال له : ما رأيك إنّ حُسيناً قد توجّه إلى الكوفة ، ومسلم بن عقيل بالكوفة يبايع للحُسين ، وقد بلغني عن النعمان ضعف وقول سيئ ، فما ترى مَنْ أستعمل على الكوفة؟

وتأمّل سرجون وأخذ يطيل التفكير ، فقال له : أرأيت أنّ معاوية لو نُشر أكنت آخذاً رأيه؟ فقال يزيد : نعم. فأخرج سرجون عهد معاوية لعبيد الله بن زياد على الكوفة ، وقال : هذا رأي معاوية وقد مات ، وقد أمر بهذا الكتاب(1) .

أمّا دوافع سرجون في ترشيح ابن زياد لولاية الكوفة فهي لا تخلو مِنْ أمرين :

1 ـ إنّه يعرف قسوة ابن زياد وبطشه وأنّه لا يقوى أحد على إخضاع العراق غيره ؛ فهو الذي يتمكّن مِن القضاء على الثورة بما يملك مِنْ وسائل الإرهاب والعنف.

2 ـ إنّه قد دفعته العصبية القومية لهذا الترشيح ؛ فإنّ ابن زياد رومي.

__________________

(1) تاريخ ابن الأثير 3 / 268.

٣٥٣

ولاية ابن زياد على الكوفة :

وكان يزيد ناقماً على ابن زياد كأشدّ ما تكون النقمة ، وأراد عزله عن البصرة(1) ؛ وذلك لمعارضة أبيه في البيعة له ، إلاّ إنّه استجاب لرأي سرجون ؛ فقد رأى فيه الحفاظ على مصلحة دولته ، فعهد له بولاية الكوفة والبصرة ، وبذلك فقد خضع العراق بأسره لحكمه ، وكتب إليه هذه الرسالة : أمّا بعد ، فإنّه كتب إليّ شيعتي مِنْ أهل الكوفة يخبرونني أنّ ابن عقيل بالكوفة يجمع الجموع لشقّ عصا المسلمين ، فسرْ حين تقرأ كتابي هذا حتّى تأتي الكوفة فتطلب ابن عقيل كطلب الخرزة حتّى تثقفه فتوثقه أو تقتله أو تنفيه ، والسّلام.

وأشارت هذه الرسالة إلى مدى قلق السلطة في دمشق وفزعها مِنْ مسلم بن عقيل ، وقد شدّدت على ابن زياد في الإسراع بالسفر إلى الكوفة لإلقاء القبض عليه.

وتنصّ بعض المصادر أنّ يزيد كتب إلى ابن زياد : إنْ كان لك جناحان فطر إلى الكوفة(2) ، وهذا ممّا ينبئ عن الخوف الذي ألمّ بيزيد مِنْ الثورة في العراق. وحمل مسلم بن عمرو الباهلي العهد لابن زياد بولاية الكوفة مع تلك الرسالة.

ويقول المؤرّخون : إنّ الباهلي كان مِنْ عيون بني اُميّة في الكوفة ومِنْ أهمّ عملائهم ، كما كان مِنْ أجلاف العرب ، وهو الذي ضنّ على مسلم أنْ يشرب جرعة مِن الماء حينما جيء به أسيراً إلى ابن زياد.

__________________

(1) البداية والنهاية 8 / 152.

(2) سير أعلام النبلاء 3 / 201.

٣٥٤

وتسلّم ابن زياد مِن الباهلي العهد له بولاية الكوفة وقد طار فرحاً ؛ فقد تمّ له الحكم على جميع أنحاء العراق بعد ما كان مهدّداً بالعزل عن ولاية البصرة ، وقد سرّ ما خولته دمشق مِن الحكم المطلق على العراق.

وبما سوّغت له مِن استعمال الشدّة والقسوة وسفك الدماء لكلّ مَنْ لا يدخل في طاعة يزيد أو يشترك بأيّة مؤامرة ضدّه ، وكان هذا التفويض المطلق في استعمال القسوة على الناس ممّا يتّفق مع رغبات ابن زياد وميوله ؛ فقد كان مِنْ عوامل استمتاعاته النفسية حبّ الجريمة والإساءة إلى الناس ، وعدم التردّد في سفك الدماء.

خطبة ابن زياد في البصرة :

وتهيأ ابن زياد لمغادرة البصرة والتوجّه إلى الكوفة ، وقبل مغادرته لها جمع الناس وخطب فيهم خطاباً قاسياً ، جاء فيه : إنّ أمير المؤمنين يزيد ولاّني الكوفة وأنا غاد إليها الغداة. فوالله ، إنّي ما تقرن بي الصعبة ولا يقعقع لي بالشنآن ، وإنّي لنكل لمَنْ عاداني وسمّ لمَنْ حاربني ، أنصف القارة مِنْ راماها.

يا أهل البصرة ، قد استخلفت عليكم عثمان بن زياد بن أبي سفيان ، وإيّاكم والخلاف والإرجاف ، فوالله الذي لا إله غيره ، لئن بلغني عن رجلٍ منكم خلاف لأقتلنّه وعرينه(1) ووليّه ، ولآخذنّ الأدنى بالأقصى حتّى تسمعوا لي ، ولا يكون فيكم مخالف ولا مشاق أنا ابن زياد أشبه

__________________

(1) العرين : الجماعة.

٣٥٥

بين مَنْ وطأ الحصا ، ولمْ ينتزعني شبه خال ولا ابن عم(1) .

ما أهون سفك الدماء عند اُولئك البرابرة الوحوش مِنْ ولاة بني اُميّة! لقد تحدّث الطاغية عن نفسيته الشريرة التي توغّلت في الإثم ، فهو يأخذ البريء بالسقيم والمقبل بالمدبر والأدنى بالأقصى ، ويقتل على الظنّة والتهمة كما كان يفعل أبوه زياد ، الذي أشاع القتل في ربوع العراق.

سفر الطاغية إلى الكوفة :

وسار الخبيث الدنس مِن البصرة متّجهاً إلى الكوفة ؛ ليقترف أعظم موبقة لمْ يقترفها شقي غيره ، وقد صحبه مِنْ أهل البصرة خمسمئة رجل فيهم عبد الله بن الحارث بن نوفل وشريك بن الأعور الحارثي(2) ، وهو مِنْ أخلص أصحاب الإمام الحُسين ، وقد صحب ابن زياد ليكون عيناً عليه ويتعرّف على خططه ، وقد صحب ابن زياد هذا العدد ليستعين بهم على بثّ الإرهاب وإذاعة الخوف بين الناس ، والاتصال بزعماء الكوفة لصرفهم عن الثورة.

وعلى أيّ حالٍ ، فقد أخذ ابن زياد يجذّ في السير لا يلوي على شيء قد واصل السير إلى الكوفة مخافة أنْ يسبقه الحُسين إليها ، وقد جهد أصحابه وأعياهم المسير ، فسقط منهم جماعة منهم عبد الله بن الحارث فلمْ يعبأ.

ولمّا ورد القادسية سقط مولاه (مهران) ، فقال له ابن زياد : إنْ أمسكت على هذا الحال فتنظر إلى القصر فلك مئة ألف. فقال له مهران : لا والله لا أستطيع. ونزل الطاغية فلبس ثياباً

__________________

(1) الطبري 6 / 200.

(2) الطبري 6 / 199.

٣٥٦

يمانية وعمامة سوداء وتلثّم ؛ ليوهم مَنْ رآه أنّه الحُسين ، وسار وحده فدخل الكوفة ممّا يلي النجف(1) ، وكان قلبه كجناح طائر مِنْ شدّة الخوف ، ولو كانت عنده مسكة مِن البسالة والشجاعة لما تنكّر وغيّر بزّته وأوهم على الناس أنّه الحُسين.

وقد تذرّع الجبان بهذه الوسائل لحماية نفسه ، وتنصّ بعض المصادر أنّه حبس نفسه عن الكلام خوفاً مِنْ أنْ يعرفه الناس فتأخذه سيوفهم.

في قصر الإمارة :

وأسرع الخبيث نحو قصر الإمارة(2) وقد علاه الفزع وساءه كأشدّ ما يكون الاستياء ؛ مِنْ تباشير الناس وفرحهم بقدوم الإمام الحُسين ،

__________________

(1) مقتل الحُسين ـ المقرم / 165.

(2) قصر الإمارة : هو أقدم بناية حكومية شُيّدت في الإسلام ، بناها سعد بن أبي وقاص ، وقد اندثرت معالمه كما اندثرت جميع معالم الكوفة ما عدا الجامع. وقد اهتمت مديرية الآثار العامّة في العراق بالتعرّف عليه ؛ فكشفت في مواسم مختلفة اُسسه ، وقد أظهرت نتائج الحفائر التي اُجريت عليه أنّه يتألّف مِنْ سور خارجي يضمّ أربعة جدران ، تقريباً طولها 170 متراًً ، ومعدل سمكها 4 أمتار ، وتدعم كلّ ضلع مِنْ الخارج ستة أبراج نصف دائرية باستثناء الضلع الشمالي ، حيث يدعمها برجان فقط. والمسافة ما بين كلّ برج وآخر 24 و 60 سنتمتر ، وارتفاع هذا السور بأبراجه يصل إلى ما يقرب مِنْ عشرين متراً. وقد بُني القصر بناء محكماً ، وصُمّمت هندسته على غاية حربية ؛ ليكون في حماية آمنة مِنْ كلّ غزو خارجي ، جاء ذلك في تخطيط مدينة الكوفة للدكتور كاظم الجنابي / 135 ـ 155 =

٣٥٧

ولمّا انتهى إلى باب القصر وجده مغلقاً والنعمان بن بشير مشرف مِنْ أعلا القصر ، وكان قد توهّم أنّ القادم هو الحُسين ؛ لأنّ أصوات الناس قد تعالت بالترحيب به والهتاف بحياته ، فانبرى يخاطبه : ما أنا بمؤدٍ إليك أمانتي يا بن رسول الله ، ومالي في قتالك مِنْ إرب.

ولمس ابن مرجانة في كلام النعمان الضعف والانهيار فصاح به بنبرات تقطر غيظاً : افتحْ لا فتحت ، فقد طال ليلك. ولمّا تكلم عرفه بعض مَنْ كان خلفه فصاح بالناس : إنّه ابن مرجانة وربّ الكعبة!

ومِن الغريب أنّ ذلك المجتمع لمْ يُميّز بين الإمام الحُسين وبين ابن مرجانة ، مع أنّ كلاً منهما قد عاش فترة في ديارهم ؛ ولعلّ الذي أوقعهم في ذلك تغيير ابن زياد لبزّته ولبسه للعمامة السوداء.

وعلى أيّ حالٍ ، فإنّ الناس حينما علموا إنّه ابن زياد جفلوا وخفّوا مسرعين إلى دورهم وهم يتحدّثون عمّا عانوه مِن الظلم والجور أيّام أبيه ، وقد أوجسوا مِنْ عبيد الله الشرّ.

وبادر ابن زياد في ليلته فاستولى على المال والسّلاح ، وأنفق ليله ساهراً قد جمع حوله عملاء الحكم الاُموي ، فأخذوا يحدّثونه عن الثورة ويعرّفونه بأعضائها البارزين ، ويضعون معه المخططات للقضاء عليها.

__________________

= وقد وقفت عليه غير مرّة ، وتطلّعت إلى كثير مِنْ معالمه ، ففي بعض أبوابه الرئيسة مظلاّت لحرّاس القصر قد ردمت ولمْ يبقَ منها إلاّ بعض معالمها ، وفي جانب منه بعض الغرف التي اُعدّت للسجن ، وقد صُمّمت بشكل غريب ، وفي جانب منه مطابخ القصر ـ ولم يشر الاُستاذ الجنابي إليها ـ وقد اُحكم بناء القصر حتّى كان مِن المتعذّر اقتحامه والاستيلاء عليه.

٣٥٨

خطابه في الكوفة :

وعندما انبثق نور الصبح أمر ابن مرجانة بجمع الناس في المسجد الأعظم ، فاجتمعت الجماهير وقد خيّم عليها الذعر والخوف ، وخرح ابن زياد متقلداً سيفه ومعتمّاً بعمامة ، فاعتلى أعواد المنبر وخطب الناس ، فقال : أمّا بعد ، فإنّ أمير المؤمنين أصلحه الله ولاّني مصركم وثغركم وفيئكم ، وأمرني بإنصاف مظلومكم وإعطاء محرومكم ، وبالإحسان إلى سامعكم ومطيعكم وبالشدّة على مريبكم ، فأنا لمطيعكم كالوالد البرّ الشفيق ، وسيفي وسوطي على مَنْ ترك أمري وخالف عهدي ، فليبق امرؤ على نفسه الصدق ينبئ عنك لا الوعيد(1) .

وحفل هذا الخطاب بما يلي :

1 ـ إعلام أهل الكوفة بولايته على مصرهم وعزل النعمان بن بشير عنه.

2 ـ تعريفهم أنّ حكومة دمشق قد عهدت له بالإحسان على مَنْ يتبع السلطة ولمْ يتمرّد عليها ، واستعمال الشدّة والقسوة على الخارجين عليها.

ولمْ يعرض ابن مرجانة في خطابه للإمام الحُسين وسفيره مسلم ؛ خوفاً مِن انتفاضة الجماهير عليه وهو بعدُ لمْ يحكم أمره.

__________________

(1) مقاتل الطالبيِّين / 97.

٣٥٩

نشر الإرهاب :

وعمد ابن زياد إلى نشر الإرهاب وإذاعة الخوف ، ويقول بعض المؤرّخين : إنّه لمّا أصبح ابن زياد بعد قدومه إلى الكوفة صالَ وجالَ وأرعدَ وأبرقَ ، وأمسكَ جماعةً مِنْ أهل الكوفة فقتلهم في الساعة(1) ، وقد عمد إلى ذلك لإماتة الأعصاب وصرف الناس عن الثورة.

وفي اليوم الثاني أمر بجمع الناس في المسجد وخرج إليهم بزي غير ما كان يخرج به ، فخطب فيهم خطاباً عنيفاً تهدّد فيه وتوعّد ، فقد قال بعد حمد الله والثناء عليه : أمّا بعد ، فإنّه لا يصلح هذا الأمر إلاّ في شدّة مِنْ غير عنف ولين مِنْ غير ضعف ، وأنْ أخذ البريء بالسقيم ، والشاهد بالغائب ، والولي بالولي.

فانبرى إليه رجل مِنْ أهل الكوفة يُقال له : أسد بن عبد الله المرّي فردّ عليه : أيّها الأمير ، إنّ الله تبارك وتعالى يقول :( وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ) ‏ ، إنّما المرء بجدّه ، والسيف بحدّه ، والفرس بشدّه ، وعليك أنْ تقول وعلينا أنْ نسمع ، فلا تقدّم فينا السيئة قبل الحسنة.

وأُفحم ابن زياد فنزل عن المنبر ودخل قصر الإمارة(2) .

__________________

(1) الفصول المهمة / 197 ، وسيلة المال / 186.

(2) الفتوح 5 / 67.

٣٦٠

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471