حياة الامام الحسين عليه السلام الجزء ٢

حياة الامام الحسين عليه السلام12%

حياة الامام الحسين عليه السلام مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 471

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 471 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 260451 / تحميل: 5233
الحجم الحجم الحجم
حياة الامام الحسين عليه السلام

حياة الامام الحسين عليه السلام الجزء ٢

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

القتال ، والاستجابة لنداء عدوه الذي قضى فيه على ما أحرزوه مِن الفتح والنصر.

يقول (عليه السّلام) : «الحمد لله ، وإنْ أتى الدهر بالخطب الفادح والحدث الجليل ، وأشهد أنْ لا إله إلاّ الله ، وأنّ محمّداً عبده ورسوله. أَمَّا بَعْدُ ، فَإِنَّ مَعْصِيَةَ النَّاصِحِ الشَّفِيقِ ، الْعَالِمِ الْمُجَرِّبِ تُورِثُ الْحَسْرَةَ وَتُعْقِبُ النَّدَامَةَ ، وَقَدْ كُنْتُ أَمَرْتُكُمْ فِي هَذِهِ الْحُكُومَةِ أَمْرِي ، وَنَخَلْتُ لَكُمْ مَخْزُونَ رَأْيِي لَوْ كَانَ يُطَاعُ لِقَصِيرٍ أَمْرٌ فَأَبَيْتُمْ عَلَيَّ إِبَاءَ الْمُخَالِفِينَ الْجُفَاةِ ، وَالْمُنَابِذِينَ الْعُصَاةِ حَتَّى ارْتَابَ النَّاصِحُ بِنُصْحِهِ ، وََنَّ الزَّنْدُ بِقَدْحِهِ ، فَكُنْتُ أَنَا وَإِيَّاكُمْ كَمَا قَالَ أَخُو هَوَازِنَ :

أَمَرْتُكُمْ أَمْرِي بِمُنْعَرَجِ اللِّوَى

فَلَمْ تَسْتَبِينُوا النُّصْحَ إِلاّ ضُحَى الْغَدِ

ألا إنّ الرجلين اللذين اخترتموهما حكمين قد نبذا حكم الكتاب وراء ظهورهما ، وارتأيا الرأي مِن قِبَلِ أنفسهما ، فأماتا ما أحيا القرآن ، وأحييا ما أمات القرآن.

ثمّ اختانا في حكمهما ، فكلاهما لا يرشد ولا يسدّد ، فبرئ الله منها ورسوله وصالح المؤمنين ، فاستعدوا للجهاد ، وتأهبوا للمسير ، وأصبحوا في معسكركم يوم الاثنين إنْ شاء الله»(١) .

وتهيّأت قواته المسلّحة إلى السفر في الموعد الذي ضربه لها ، وكتب إلى أهل البصرة يدعوهم إلى نصرته ، فالتحقت به كتائب مِن الجيش.

تمرّدُ المارقين :

وسافر الإمام (عليه السّلام) بأصحابه يريد الشام ، ولكنّه لمْ يلبث حتّى وافته الأنباء بتمرّد الخوارج وفسادهم ، وأنّهم عادوا إلى فكرتهم.

ويقول المؤرّخون : إنّ جماعة منهم خرجوا مِن الكوفة ، والتحق بهم إخوانهم مِن أهل البصرة ، وساروا جميعاً إلى النهروان فأقاموا فيها ، وأخذوا يعيثون في الأرض فساداً ،

__________________

(١) أنساب الأشراف ١ / ق ١.

٨١

فاستحلّوا دماء المسلمين وقالوا بكفرهم. واجتاز عليهم الصحابي عبد الله بن خباب بن الأرت ، فتصدّوا له فسألوه عن اسمه فأخبرهم به ، ثم سألوه عن انطباعاته الخاصة عن الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) فأثنى عليه ، فاستشاطوا غضباً ، فانبروا إليه فأوثقوه كتافاً ، وأقبلوا به وبامرأته ـ وكانت حبلى قد أشرفت على الولادة ـ فجاؤوا بهما تحت نخلة ، فسقطت رطبة منها فبادر بعضهم إليها فوضعها في فيه ، فأنكروا عليه فالقاها من فمه.

واخترط بعضهم سيفاً فضرب به خنزيراً لأهل الذمّة فقتله ، فصاح به بعضهم : إنّ هذا من الفساد في الأرض! فبادر الرجل إلى الذمّي فأرضاه ، فلمّا نظر عبد الله إلى احتياطهم في الأموال قال لهم : لئن كنتم صادقين فيما أرى ما عليّ منكم بأس. والله ، ما أحدثت حدثاً في الإسلام ، وإنّي لمؤمن ، وقد آمنتموني وقلتم لا روع عليك.

فلمْ يعنوا به ، وعمدوا إليه فأقبلوا به إلى الخنزير الذي قتلوه فوضعوه عليه وذبحوه ، وأقبلوا على امرأته ـ وهي ترتعد من الخوف ـ فقالت لهم مسترحمة : إنّما إنا امرأة ، أما تتّقون الله؟! ولمْ تلن قلوبهم التي طبع عليها الزيغ ، فذبحوها وبقروا بطنها ، وعمدوا إلى ثلاثة نسوة فقتلوهن(١) ، وفيهن أُمّ سنان الصيداويّة ، وكانت قد صحبت النّبي (صلّى الله عليه وآله) ، وجعلوا يذيعون الذعر وينشرون الفساد في الأرض.

وأوفد لهم الإمام (عليه السّلام) الحرث بن مرّة العبدي يسألهم عن هذا الفساد الذي أحدثوه ، ويطلب منهم أن يسلّموا إليه الذين استحلوا قتل الأنفس التي حرّم الله إزهاقها بغير حقّ ، ولمْ يكد الرسول يدنو منهم حتّى قتلوه ، ولمْ يدعوه يدلي بما جاء به.

__________________

(١) أنساب الأشراف.

٨٢

قتالُ المارقين :

وكره أصحاب الإمام (عليه السّلام) أنْ يسيروا إلى الشام ، ويتركوا مِن ورائهم الخوارج يستبيحون أموالهم وأعراضهم مِن بعدهم ، فطلبوا مِن الإمام (عليه السّلام) أنْ ينهض بهم لمناجزتهم ، فإذا فرغوا منهم تحولوا إلى حرب معاوية ، فأجابهم الإمام (عليه السّلام) إلى ذلك وسار بهم حتّى أتى النهروان ، فلما صار بإزاء الخوارج ، أرسل إليهم يطلب منهم قَتَلة عبد الله بن خباب ومَنْ كان معه مِن النسوة ، كما طلب منهم قتلة رسوله الحرث بن مرّة ، ليكفّ عنهم ويمضي إلى حرب معاوية ، ثمّ ينظر في أمورهم ، فأجابوه : ليس بيننا وبينك إلاّ السيف ، إلاّ أنْ تقرّ بالكفر وتتوب كما تبنا.

فالتاع الإمام (عليه السّلام) منهم ، وانطلق يقول : «أبعد جهادي مع رسول الله وإيماني أشهد على نفسي بالكفر؟! قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنْ الْمُهْتَدِينَ»(١) . وجعل الإمام (عليه السّلام) يعظهم تارة ويراسلهم اُخرى ، فجعل كثير منهم يتسللون ويعودون إلى الكوفة ، وقسم منهم التحق بالإمام (عليه السّلام) ، وفريق ثالث اعتزل الحرب ، ولمْ يبقَ إلاّ ذو الثفنات عبد الله بن وهب الراسبي زعيم الخوارج ، ومعه ثلاث آلاف.

ولمّا يئس الإمام (عليه السّلام) مِن إرشادهم عبّأ جيشه ، وأمر بأنْ لا يبدؤوهم بقتال حتّى يُقاتلوهم. ولمّا نظر الخوارج إلى تهيئة الإمام (عليه السّلام) تهيّؤوا للحرب ، وكانت قلوبهم تتحرّق شوقاً إلى القتال تحرّق الظمآن إلى الماء ، وهتف بعضهم : هل مِن رائح إلى الجنّة! فتصايحوا جميعا : الرواح إلى الجنّة.

ثمّ حملوا حملة منكرة على جيش الإمام (عليه السّلام) وهم يهتفون بشعارهم : (لا حكم إلاّ لله). فانفرجت

__________________

(١) أنساب الأشراف.

٨٣

لهم خيل الإمام (عليه السّلام) فرقين ؛ فرق يمضي إلى الميمنة ، وفرق يمضي إلى الميسرة ، والخوارج يندفعون بين الفرقين ، ولمْ تمضِ إلاّ ساعة حتّى قتلوا عن آخرهم ، ولمْ يفلت منهم إلاّ تسعة(١) .

ولمّا وضعت الحرب أوزارها طلب الإمام (عليه السّلام) مِن أصحابه أنْ يلتمسوا له ذا الثدية في القتلى ، ففتّشوا عنه فلمْ يظفروا به ، فعادوا إليه يخبرونه بعدم ظفرهم به ، فأمرهم ثانياً أنْ يبحثوا عنه ، قائلاً : «والله ما كذبتُ ولا كُذّبت ، ويحكم! التمسوا الرجل فإنّه في القتلى». فانطلقوا يبحثون عنه ، فظفر به رجل من أصحابه ـ وكان قد سقط قتيلاً في ساقية ـ فمضى يهرول فأخبر الإمام (عليه السّلام) به ، فلما سمع النبأ خرّ ساجداً هو ومَنْ معه مِن أصحابه ، ثمّ رفع رأسه وهو يقول : «ما كذبتُ ولا كُذّبت ، ولقد قتلتم شرّ الناس». وأخذ الإمام (عليه السّلام) يحدّث أصحابه بما سمعه مِن النّبي (صلّى الله عليه وآله) فيه ، أنّه قال : «سيخرج قوم يتكلّمون بكلام الحقّ لا يجاوز حلوقهم ، يخرجون مِن الحقّ خروج السّهم ـ أو مروق السّهم ـ إنّ فيهم رجلاً مُخدج اليد ، في يده شعرات سود ، فإنْ كان فيهم فقد قتلتم شرّ الناس».

وأمر الإمام (عليه السّلام) بإحضار جثّته فأُحضرت له ، فكشف عن يده فإذا على منكبه ثدي كثدي المرأة ، وعليها شعرات سود تمتد حتّى تحاذي بطن يده الاُخرى ، فإذا تركت عادت إلى منكبه ، فلمّا رأى ذلك خرّ لله ساجداً. ثمّ عمد الإمام (عليه السّلام) إلى القتلى من الفريقين فدفنهم ، وقسّم بين أصحابه سلاح الخوارج ودوابهم ، وردّ الأمتعة والعبيد إلى أهليهم كما فعل ذلك بأصحاب الجمل.

وانتهت بذلك حرب النهروان التي تفرّعت مِن واقعة صفّين ، وقد

__________________

(١) الملل والنحل ١ / ١٥٩.

٨٤

أسفرت عن تشكيل حزب ثوري عنيف ظهر في الإسلام ، وهو حزب الحرورية الذي أخذ على نفسه التمرّد على الحكومات القائمة في البلاد الإسلامية ، ومحاربتها بشكل سافر ، ممّا أدى إلى إراقة الدماء وإشاعة الفتنة والخلاف في كثير مِن تلك العصور.

لقد كان البارز في الأنظمة الدينية للخوارج هو الحكم بكفر كلّ مَنْ لا يدين بفكرتهم مِن المسلمين ، واستباحة دمائهم وأموالهم. وفيما أحسب أنّ أكثر الجرائم المريعة التي صدرت في معركة كربلاء تستند إلى هؤلاء الممسوخين الذين سُلِبَتْ عنهم كلّ نزعة إنسانية ؛ فقد تأثّر الكثير مِن ذلك الجيش بأخلاقهم ، فاندفعوا إلى الجريمة بأبشع صورها وألوانها.

مخلّفات الحرب :

وأعقبت تلك الحروب أعظم المحن وأشدّها هولاً ، ولمْ يُمتحن الإمام (عليه السّلام) بها وحده وإنّما امتحن بها العالم الإسلامي ؛ فقد أخلدت له الفتن ، وجرّت له الكثير مِن الويلات والخطوب ، ولعلّ أعظم ما عاناه منها ما يلي :

١ ـ انتصار معاوية :

وأتاحت الفرص لمعاوية بعد تلك الأحداث أنْ يعلن نفسه لأوّل مرّة بأنّه المرشّح للخلافة ، بعد أنْ كان حاكماً على إقليم الشام ، وراح يعلن انتصاره على الإمام (عليه السّلام) وتغلبه عليه ، بقوله : لقد حاربت عليّاً بعد صفّين بغير جيش ولا عناء ، أو لا عتاداً(١) .

وأمّا الإمام (عليه السّلام) فقد أصبح بمعزل عن السلطات السياسية

__________________

(١) أنساب الأشراف ١ ق ١ / ٢٠٠.

٨٥

والعسكرية ، فكان يدعو فلا يُسمع لدعوته ، ويقول فلا يُلتفت إلى قوله.

لقد أدّت تلك الحروب إلى تحوّل الخلافة الإسلامية إلى حكم قيصري لا ظلّ فيه لحكم الإسلام ومنطق القرآن ؛ فقد آل الأمر إلى معاوية ، فاتّخذ مال الله دولاً ، وعباد الله خولاً ، وأرغم المسلمين على ما يكرهون.

٢ ـ تفلّل جيش الإمام (عليه السّلام) :

وتفلّلت جميع القوات العسكرية في جيش الإمام (عليه السّلام) ، وشاعت الفرقة والاختلاف فيما بينها خصوصاً بعد واقعة النهروان ، فقد انحطّت معنويات الجيش.

يقول البلاذري : إنّ معاوية أرسل عمارة بن عقبة إلى الكوفة ليتجسس له عن حالة جيش الإمام (عليه السّلام) ، فكتب له : خرج على علي أصحابُه ونسّاكهم ، فسار إليهم فقتلهم ، فقد فسد عليه جنده وأهل مصره ، ووقعت بينهم العداوة ، وتفرّقوا أشدّ الفرقة.

فقال معاوية للوليد بن عقبة : أترضى أخوك بأنْ يكون لنا عيناً؟ ـ وهو يضحك ـ فضحك الوليد وقال : إنّ لك في ذلك حظّاً ونفعاً. وقال الوليد لأخيه عمارة :

فَإِن يَكُ ظَنّي يا اِبنَ أمِّيَ صادِقي

عُمارَةُ لا يُدرَكُ بِذَحلٍ وَلا وِترِ

تُضاحِكُ أَقتالَ اِبنِ عَفّانَ لاهِياً

كَأَنَّكَ لَم تَسمَع بِمَوتِ أَبي عَمرِو

يَظَلُّ وَأَوتارُ اِبنِ عَفّانَ عَندَهُ

مُخَيِّمَةٌ بَينَ الحَوَرنَقِ وَالجِسرِ(١)

لقد مُنِيَ جيش الإمام (عليه السّلام) بالفتنة والخلاف ، ولمْ يكن باستطاعة الإمام (عليه السّلام) ـ بما يملك مِن طاقات خطابية هائلة ـ أنْ يرجع إليهم حوازب أحلامهم ، ويقضي على عناصر الشغب والتمرّد التي أصبحت مِن أبرز ذاتيّاتهم.

وممّا زاد في تمرّد الجيش أنّ معاوية راسل جماعة مِن زعماء العراق

__________________

(١) أنساب الأشراف.

٨٦

البارزين كالأشعث بن قيس ، فمنّاهم بالأموال ، ووعدهم بالهبات والمناصب إذا قاموا بعمليات التخريب في جيش الإمام (عليه السّلام) وشعبه ، فاستجابوا إليه ، فقاموا بدورهم في إشاعة الأراجيف وتضليل الرأي العام ، وبثّ روح التفرقة والخلاف بين الناس(١) ، وقد أثّرت دعايتهم تأثيراً هائلاً في أوساط ذلك الجيش ، فقد خلعوا طاعة الإمام (عليه السّلام) وعمدوا إلى عصيانه.

لقد كانت الأكثرية الساحقة في معسكر الإمام (عليه السّلام) لهم رغباتهم الخاصة التي تتنافى مع مصلحة الدولة وغايات رئيسها ، في حين أنّ شعب الشام كان على العكس مِن ذلك.

يقول الحجّاج بن خزيمة لمعاوية : إنّك تقوى بدون ما يقوى به علي ؛ لأنّ معك قوماً لا يقولون إذا سكتّ ، ويسكتون إذا نطقت ، ولا يسألون إذا أمرت ، ومع علي قوم يقولون إذا قال ، ويسألون إذا سكت(٢) .

٣ ـ احتلال مصر :

ولمْ تقف محنة الإمام (عليه السّلام) وبلاؤه عند حدّ ، وإنّما أخذت تتابع عليه المحن ، وهي كأشدّ ما تكون هولاً ، فإنّه لمْ يكد ينتهي مِن مُناجزة المارقين حتّى ابتلى في أمر دولته ؛ فقد أخذ معاوية يحتلّ أطرافها ، ويغير على بعضها ، ويشيع فيها الخوف والإرهاب ، فقد أيقن بتخاذل جيش الإمام (عليه السّلام) وما مُنِيَ به من الفرقة والاختلاف ، وقد أجمع رأيه على احتلال مصر التي هي قلب البلاد العربية ، وقد جعلها طعمة إلى وزيره وباني دولته عمرو بن العاص ؛ ليتمتع وحده بخيراتها.

وكان الإمام (عليه السّلام) قد ولّى على مصر الزعيم الكبير قيس بن سعد الأنصاري ،

__________________

(١) أنساب الأشراف.

(٢) الأخبار الطوال / ١٥٦.

٨٧

الذي كان من ألمع الشخصيات الإسلامية في حسن سياسته وعمق تفكيره وبُعْدِ نظره ، وقد ساس المصريين أيّام المحنة سياسةَ عدلٍ وحقٍّ ، وقضى على الاضطرابات الداخلية ، ونشر المحبّة والألفة فيها. وقد عزله الإمام (عليه السّلام) عنها وولّى مكانه الطيب محمّد بن أبي بكر ، فاضطرب أمر مصر ، وظهرت الدعوة العثمانية فيها ، فعزل الإمام (عليه السّلام) محمّداً عنها وولّى مكانه مالك الأشتر النخعي الذي هو من أنصح الناس للإمام (عليه السّلام) وأكثرهم إخلاصاً له ، إلاّ أنّه لمْ يكد ينتهي إلى (القلزم) حتّى مات.

وأجمع المؤرّخون على أنّ معاوية قد أغوى صاحب الخراج في (القلزم) فدسّ إليه سمّاً في شربة مِن عسل فمات بها ، وكان معاوية وصاحبه ابن العاص يتحدّثان بعد ذلك ويقولان : إنّ لله جنوداً مِن عسل.

وجهّز معاوية جيشاً لاحتلال مصر وأمر عليه ابن العاص ، ولمّا علم الإمام (عليه السّلام) ذلك أقرّ محمّداً على مصر ، ووعده بأنْ يمدّه بالجيش والمال ، وأخذ يدعو أهل الكوفة لنجدة إخوانهم في مصر فلمْ يستجيبوا له ، وجعل الإمام (عليه السّلام) يلحّ عليهم ويطلب منهم النجدة ، فاستجاب له جند ضئيل كأنّما يساقون إلى الموت ، فأرسلهم إلى مصر ، ولكنّه لمْ يلبث أن وافته الأنباء بأنّ ابن العاص قد احتل مصر ، وأنّ عامله محمّداً قد قُتِلَ وأُحرِقَت جثته في النار ، فردّ جنده وخطب أهل الكوفة خطاباً مثيراً ندّد بهم ، ونعى عليهم تخاذلهم وخور عزائمهم.

وعلى أيّ حالٍ ، فإنّ احتلال مصر قد قوى شوكة معاوية ، ودفعه إلى أنْ يغزو أهل العراق في عقر دارهم.

٨٨

الغارات :

ولمْ يقنع معاوية بما أحرزه مِن النصر في احتلاله لمصر ، وإنّما راح يشيع الذعر والهلع في البلاد الخاضعة لحكم الإمام (عليه السّلام) ؛ ليشعر أهلها بأنّ عليّاً قد ضَعُفَ سلطانه ، وأنّه لا يتمكّن مِن حمايتهم وردّ الاعتداء عنهم ، وقد شكّل قِطَعاً مِن جيوشه وعهد إليها أنْ تتوغّل في البلاد ، وتشيع فيها الفساد والقتل ، وقد ولّى عليها جماعة مِن السفّاكين الذين تمرّسوا في الجرائم ، وتجرّدوا مِنْ كلّ نزعة إنسانية ، وعهد لكلّ واحد منهم أنْ يقتل كلّ مَنْ كان شيعة للإمام (عليه السّلام) ، ويغير على جهة خاصة بسرعة خاطفة.

ونعرض بإيجاز إلى بعض تلك الغارات :

الغارة على العراق :

وشكّل معاوية أربع قِطَع للغارة على أطراف العراق وداخله ؛ ليملأ قلوب العراقيين فزعاً وخوفاً حتّى لا يستجيبوا للجهاد إذا دعاهم الإمام (عليه السّلام) إليه ، وهذه بعض المناطق العراقية التي غار عليها.

١ ـ عين التّمر :

وأرسل معاوية النعمان بن بشير الأنصاري في ألف رجل إلى عين التّمر ، وكان فيها مالك بن كعب ، ومعه كتيبة مِن الجيش تبلغ ألف رجل ، إلاّ أنّه لمْ يعلم بغزو أهل الشام له ، فأذن لجنده بإتيان أهلهم في الكوفة ، وبقي في مئة رجل ، ولمّا دهمه جيش معاوية قاومه مقاومة باسلة ، وتوجّهت

٨٩

له نجدة تبلغ خمسين رجلاً ، فلمّا رآهم النعمان فزع وولّى هارباً ، فقد ظنّ أنّ لهم مدداً ، ولمّا بلغت الإمام (عليه السّلام) أنباء هذه الغارة قام خطيباً في جيشه يدعوهم إلى نجدة عامله ، فقال (عليه السّلام) : «يا أهل الكوفة ، كلّما أطلّت عليكم سرية ، وأتاكم مَنْسِرٌ مِنْ مَنَاسِرِ أَهْلِ الشَّامِ أَغْلَقَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْكُمْ بَابَهُ ، وَانْجَحَرَ انْجِحَارَ الضَّبَّةِ فِي جُحْرِهَا ، وَالضَّبُعِ فِي وِجَارِهَا. الذَّلِيلُ وَاللَّهِ مَنْ نَصَرْتُمُوهُ ، وَمَنْ رُمِيَ بِكُمْ فَقَدْ رُمِيَ بِأَفْوَقَ نَاصِلٍ ، فقبحاً لكم وترحاً! وقد ناديتكم وناجيتكم ، فلا أحرار عند اللقاء ، ولا إخوان(١) عند النجا ، قد مُنيتُ منكم بصُمٍّ لا يسمعون ، وبُكمٍ لا يعقلون ، وكمّه لا يبصرون»(٢) .

٢ ـ هيت :

ووجّه معاوية للغارة على هيت سفيان بن عوف وضم إليه ستة آلاف ، وأمره أن يأتي بعد الغارة عليها إلى الأنبار والمدائن فيوقِع بأهلها ، وسار بجيشه إلى هيت فلمْ يجد بها أحداً ، فانعطف نحو الأنبار ، فوجد بها مسلحة للإمام (عليه السّلام) تتكون مِن مئتي رجل فقاتلهم ، وقُتِلَ أشرس بن حسّان البكري مع ثلاثين رجلاً مِن أصحابه ، ثمّ نهبوا ما في الأنبار مِن أموال ، وتوجّهوا إلى معاوية وهم مسرورون بما أحرزوه مِن النصر ، وبما نهبوه مِن الأموال(٣) .

وبلغت أنباء الأنبار عليّاً فأثارته إلى حدّ بعيد ، وبلغ به الغيظ أقصاه ، وكان عليلاً لا يمكنه الخطاب ، فكتب كتاباً قُرِأ على الناس ، وقد أُدْنِيَ مِن السّدرة ليسمع القراءة(٤) ، وهذا نصه :

__________________

(١) في الطبري : ولا إخوان ثقة.

(٢) أنساب الأشراف.

(٣) تاريخ ابن الأثير ٣ / ١٨٩.

(٤) أنساب الأشراف.

٩٠

«أَمَّا بَعْدُ ، فَإِنَّ الْجِهَادَ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ فَتَحَهُ اللَّهُ لِخَاصَّةِ أَوْلِيَائِهِ ، وَهُوَ لِبَاسُ التَّقْوَى وَدِرْعُ اللَّهِ الْحَصِينَةُ وَجُنَّتُهُ الْوَثِيقَةُ ، فَمَنْ تَرَكَهُ رَغْبَةً عَنْهُ أَلْبَسَهُ اللَّهُ ثَوْبَ الذُّلِّ ، وَشَمِلَهُ الْبَلاءُ ، وَدُيِّثَ بِالصَّغَارِ وَالْقَمَاءَةِ ، وَضُرِبَ عَلَى قَلْبِهِ بِالإِسْهَابِ ، وَأُدِيلَ الْحَقُّ مِنْهُ بِتَضْيِيعِ الْجِهَادِ وَسِيمَ الْخَسْفَ وَمُنِعَ النَّصَفَ. أَلا وَإِنِّي قَدْ دَعَوْتُكُمْ إِلَى قِتَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لَيْلاً وَنَهَاراً ، وَسِرّاً وَإِعْلاناً ، وَقُلْتُ لَكُمُ : اغْزُوهُمْ قَبْلَ أَنْ يَغْزُوكُمْ ؛ فَوَاللَّهِ مَا غُزِيَ قَوْمٌ قَطُّ فِي عُقْرِ دَارِهِمْ إِلاّ ذَلُّوا ، فَتَوَاكَلْتُمْ وَتَخَاذَلْتُمْ حَتَّى شُنَّتْ عَلَيْكُمُ الْغَارَاتُ ، وَمُلِكَتْ عَلَيْكُمُ الأَوْطَانُ. وَهَذَا أَخُو غَامِدٍ قَدْ وَرَدَتْ خَيْلُهُ الأَنْبَارَ ، وَقَدْ قَتَلَ حَسَّانَ بْنَ حَسَّانَ الْبَكْرِيَّ وَأَزَالَ خَيْلَكُمْ عَنْ مَسَالِحِهَا ، وَلَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ كَانَ يَدْخُلُ عَلَى الْمَرْأَةِ الْمُسْلِمَةِ وَالأُخْرَى الْمُعَاهِدَةِ ، فَيَنْتَزِعُ حِجْلَهَا وَقُلُبَهَا ، وَقَلائِدَهَا وَرُعُثَهَا ، مَا تَمْتَنِعُ مِنْهُ إِلاّ بِالاسْتِرْجَاعِ وَاِاسْتِرْحَامِ ، ثُمَّ انْصَرَفُوا وَافِرِينَ مَا نَالَ رَجُلاً مِنْهُمْ كَلْمٌ ، وَلا أُرِيقَ لَهُمْ دَمٌ ، فَلَوْ أَنَّ امْرَأً مُسْلِماً مَاتَ مِنْ بَعْدِ هَذَا أَسَفاً مَا كَانَ بِهِ مَلُوماً ، بَلْ كَانَ بِهِ عِنْدِي جَدِيراً. فَيَا عَجَباً! عَجَباً وَاللَّهِ يُمِيتُ الْقَلْبَ وَيَجْلِبُ الْهَمَّ مِنَ اجْتِمَاعِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ عَلَى بَاطِلِهِمْ ، وَتَفَرُّقِكُمْ عَنْ حَقِّكُمْ! فَقُبْحاً لَكُمْ وَتَرَحاً حِينَ صِرْتُمْ غَرَضاً يُرْمَى ، يُغَارُ عَلَيْكُمْ وَلا تُغِيرُونَ ، وَتُغْزَوْنَ وَلا تَغْزُونَ ، وَيُعْصَى اللَّهُ وَتَرْضَوْنَ! فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِالسَّيْرِ إِلَيْهِمْ فِي أَيَّامِ الْحَرِّ قُلْتُمْ : هَذِهِ حَمَارَّةُ الْقَيْظِ أَمْهِلْنَا يُسَبَّخْ عَنَّا الْحَرُّ. وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِالسَّيْرِ إِلَيْهِمْ فِي الشِّتَاءِ قُلْتُمْ : هَذِهِ صَبَارَّةُ الْقُرِّ أَمْهِلْنَا يَنْسَلِخْ عَنَّا الْبَرْدُ. كُلُّ هَذَا فِرَاراً مِنَ الْحَرِّ وَالْقُرِّ ، فَإِذَا كُنْتُمْ مِنَ الْحَرِّ وَالْقُرِّ تَفِرُّونَ ، فَأَنْتُمْ وَاللَّهِ مِنَ السَّيْفِ أَفَرُّ.

يَا أَشْبَاهَ الرِّجَالِ وَلا رِجَالَ! حُلُومُ الأَطْفَالِ وَعُقُولُ رَبَّاتِ الْحِجَالِ ، لَوَدِدْتُ أَنِّي لَمْ أَرَكُمْ وَلَمْ أَعْرِفْكُمْ مَعْرِفَةً وَاللَّهِ جَرَّتْ نَدَماً وَأَعْقَبَتْ سَدَماً ؛ قَاتَلَكُمُ اللَّهُ لَقَدْ مَلأتُمْ قَلْبِي قَيْحاً ، وَشَحَنْتُمْ صَدْرِي غَيْظاً ، وَجَرَّعْتُمُونِي نُغَبَ التَّهْمَامِ أَنْفَاساً ، وَأَفْسَدْتُمْ عَلَيَّ رَأْيِي بِالْعِصْيَانِ وَالْخِذلانِ حَتَّى لَقَدْ قَالَتْ قُرَيْشٌ : إِنَّ ابْنَ أَبِي طَالِبٍ رَجُلٌ شُجَاعٌ وَلَكِنْ لا عِلْمَ لَهُ بِالْحَرْبِ. لِلَّهِ أَبُوهُمْ! وَهَلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَشَدُّ لَهَا مِرَاساً ، وَأَقْدَمُ فِيهَا مَقَاماً مِنِّي؟! لَقَدْ نَهَضْتُ فِيهَا وَمَا بَلَغْتُ الْعِشْرِينَ(١) وَهَا أَنَا ذَا قَدْ ذَرَّفْتُ عَلَى السِّتِّينَ ، وَلَكِنْ لا رَأْيَ لِمَنْ لا يُطَاعُ»(٢) .

__________________

(١) في رواية «وما بلغت العشرين».

(٢) انسب الاشراف.

٩١

وقد صوّر هذا الخطاب ما في نفس الإمام (عليه السّلام) مِن غيظ ممضٍ ، ويأسٍ شديدٍ مِن أصحابه الذين امتلأت قلوبهم خوفاً وذلاً مِن أهل الشام ، فتخاذلوا وقبعوا في بيوتهم يطاردهم الفزع ، حتّى فسد على الإمام (عليه السّلام) أمره.

٣ ـ واقصة :

ووجّه معاوية الضحّاك بن قيس الفهري إلى واقصة ليغير على كلّ مَنْ كان فيها مِن شيعة الإمام (عليه السّلام) ، وضمّ إليه ثلاثة آلاف رجل ، فسار الضحّاك فنهب أموال الناس ، وقتل كلّ مَنْ ظنّ أنّه على طاعة الإمام (عليه السّلام) ، وسار حتّى انتهى إلى القطقطانة وهو يشيع القتل والإرهاب ، ثمّ سار إلى السماوة ، وبعدها ولّى إلى الشام.

ولمّا وافت الأنباء الإمام (عليه السّلام) قام خطيباً في جيشه ، وقد دعاهم إلى صدّ هذا الاعتداء فلمْ يستجب له أحد ، فقال (عليه السّلام) : «وددت والله أنّ لي بكلّ عشرة منكم رجلاً مِن أهل الشام ، وإنّي صرفتكم كما يصرف الذهب ، ولوددت أنّي لقيتهم على بصيرتي فأراحني الله مِنْ مقاساتكم ومداراتكم». وسار الإمام (عليه السّلام) وحده نحو الغريّين لصدّ هذا الاعتداء ، فلحقه عبد الله بن جعفر بدابة فركبها ، ولمّا رأى الناس ذلك خفّ إليه بعضهم ، فسرح (عليه السّلام) لطلب الضحاك حِجْر بن عدي في أربعة آلاف ، وسار في طلبه فلمْ يدركه فرجع(١) .

لقد أخذت غارات معاوية تتوالى على العراق مِنْ دون أنْ تتعرّض لأيّ مقاومة تذكر ، وقد أيقن معاوية بالنصر والظفر لِما مُنِيَ به أصحاب الإمام (عليه السّلام) مِن التخاذل.

__________________

(١) أنساب الأشراف.

٩٢

الغارة على الحجاز واليمن :

وبعث معاوية بسر بن أرطاة في ثلاثة آلاف للغارة على الحجاز واليمن ، فاتّجه نحو يثرب فلمْ يجد مِنْ أهلها أيّة مقاومة ، فصعد المنبر ورفع عقيرته يندب عثمان ، وينشر الرعب والإرهاب بين الناس.

وأخذ البيعة مِنْ أهلها لمعاوية ، ثمّ سار إلى اليمن وكان عليها عبيد الله بن عباس عاملاً للإمام (عليه السّلام) ، فهرب منه حتّى أتى الكوفة ، فاستخلف الإمام (عليه السّلام) عليها عبد الله الحارثي فقتله بسر وقتل ابنه ، وعمد إلى طفلين لعبيد الله فقتلهما ، ولمّا انتهى خبرهما إلى اُمّهما فقدت وعيها ، وراحت ترثيهما بذوب روحها ، بأبياتها المشهورة(١) .

لقد قام سلطان معاوية على قتل الأبرياء ، وذبح الأطفال ، وأشاع الرعب والفزع في البلاد.

ولمّا انتهت الأنباء الأليمة إلى الإمام (عليه السّلام) خارت قواه ، ومزّق الأسى قلبه ، وراح يخطب في جيشه ، يذكر ما عاناه مِن الخطوب والكوارث منهم ، قائلاً : «اُنبئتُ بسراً قد أطلع اليمن(٢) ، وإنّي والله لأظنّ أنّ هؤلاء القوم سيدالون(٣) منكم باجتماعهم على باطلهم وتفرّقكم عن حقّكم ، وبمعصيتكم إمامكم في الحقّ وطاعتهم إمامهم في الباطل ، وبأدائهم الأمانة إلى صاحبهم وخيانتكم ، وبصلاحهم في بلادهم وفسادكم ، فلو ائتمنت أحدكم على

__________________

(١) تاريخ ابن الأثير ٣ / ١٩٣.

(٢) أطلع اليمن : بلغها واحتلتها قواته.

(٣) سيدالون : أي ستكون لهم الدولة بسبب اجتماع كلمتهم ، واختلاف رأي العراقيّين.

٩٣

قُعب(١) لخشيت أنْ يذهب بعلاقته(٢) . اللهمّ إنّي قد مللتهم وملّوني ، وسئمتهم وسئموني ، فأبدلني بهم خيراً منهم ، وأبدلهم بي شرّاً منّي. اللهمّ مِث في قلوبهم كما يُماث الملح في الماء ، أما والله لوددت أنّ لي ألف فارس مِنْ بني فرس ابن غنم(٣) :

هنالك لو دعوتَ أتاكَ منهُمْ

فوارسُ مثلُ أرميةِ الحميمِ

ثمّ نزل عن المنبر(٤) وهو غارق بالهموم والأحزان ، قد استولى اليأس على نفسه مِن أصحابه الذين أصبحوا أعصاباً رخوةً خاليةً مِن الشعور والإحساس.

هذه بعض الغارات التي شنّها معاوية على العراق وخارجه من الأقاليم الإسلامية الخاضعة لحكم الإمام (عليه السّلام) ، وكان المقصود منها زعزعة هذه المناطق مِن إيمانها بمقدرة الإمام (عليه السّلام) على حمايتها مِن الاعتداء ، وإذاعة مقدرة معاوية وقوته العسكرية ، وتقوية الروح المعنوية في جيشه ، وحزبه المنتشر في تلك البلاد.

وعلى أيّ حالٍ ، فقد صوّرت هذه الغارات جانباً كبيراً مِن الضعف والتمرّد في جيش الإمام (عليه السّلام) ، حتّى طمع معاوية في شنّ هجومٍ عامٍ على العراق لاحتلاله ، والقضاء على حكومة الإمام (عليه السّلام) ، ومِن المؤكد ، أنّه لو فعل ذلك لوجد الطريق سهلاً ، ولمْ يجد أيّة صعوبة أو مقاومة تذكر ، فقد خلُد القوم إلى الراحة ، وسئموا مِن الجهاد.

__________________

(١) القُعب بالضم : القدح الكبير.

(٢) عِلاقته بكسر العين : ما يعلق به القعب من ليف ونحوه.

(٣) بنو فرس : قبيلة عربية مشهورة بالشجاعة والإقدام.

(٤) نهج البلاغة محمّد عبده ١ / ٦٠.

٩٤

عبثُ الخوارج :

وتواكبت المحن الشاقّة على الإمام (عليه السّلام) يقفو بعضاً ، فغارات معاوية متصلة على العراق وخارجه ، وهي تنشر الرعب والهلع في قلوب المواطنين ، والإمام (عليه السّلام) لا يتمكن على حماية الأمن وصيانة الناس مِن الاعتداء ؛ فقد خلع جيشه يد الطاعة وأعلن العصيان والتمرّد ، ولمْ يعُدْ له أي نفوذ أو سلطان عليه ، ومِن تلك المحن الشاقّة التي ابتلي بها الإمام (عليه السّلام) هي فتنة الخوارج ؛ فإنّه لمْ يقضِ عليهم في النهروان ، وإنّما قضى على جماعة منهم ، وبقي أكثرهم يعيشون معه ، وهم يكيدون له ويتربّصون به الدوائر ، ويحوّلون قلوب الناس عنه. قد أمِنوا مِن بطشه ، واستيقنوا أنّه لن يبسط عليهم يداً ، ولا ينزل بهم عقوبة ، وقد أطمعهم عدله وأغراهم لينه ، فراحوا يجاهرون بالردّ والإنكار عليه ، فقد قطع بعضهم عليه خطبته تالياً قوله تعالى :( لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) . فأجابه الإمام (عليه السّلام) بآية اُخرى :( فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لاَ يُوقِنُونَ ) .

وجاءه الخريت بن راشد السامي في ثلاثين من أصحابه فقال له : يا علي ، والله لا أطيع أمرك ، ولا اُصلّي خلفك ، وإنّي غداً مفارق لك. فلطف به الإمام (عليه السّلام) وحاججه ، وخلّى بينه وبين حرّيته فلمْ يسجنه ، وإنّما ترك له الطريق مفتوحاً. وولّى الرجل إلى قومه مِن بني ناجية فأخبرهم بما كان بينه وبين الإمام (عليه السّلام) ، ثمّ خرج في الليل يريد الحرب ، وجرت أحداث كثيرة في خروج الخريت وتمرّده ذكرها المؤرّخون بالتفصيل.

وعلى أيّ حالٍ ، فإنّ المسؤولية الكبرى في كثير مِن الأحداث المفزعة التي مُنِيَ بها العالم الإسلامي تقع على الخوارج ، فهم الذين قضوا على مصير

٩٥

الأُمّة في أهم الفترات الحاسمة مِن تاريخها حينما كُتِبَ النصر للإمام (عليه السّلام) ، وباء معاوية بالهزيمة والفشل ، بحيث لمْ يبقَ مِن حياته إلاّ فترةٍ يسيرةٍ مِن الزمن ، قدّرها قائد القوات العسكرية في جيش الإمام (عليه السّلام) مالك الأشتر بحلبة شاة أو بعدوة فرس ، فأضاعوا ذلك النصر الكبير ، وأرغموا الإمام (عليه السّلام) على قبول التحكيم.

دعاءُ الإمام (عليه السّلام) على نفسه :

وطاقت بالإمام (عليه السّلام) موجات رهيبة ومذهلة مِن الأحداث والأزمات ، فهو يرى باطل معاوية قد استحكم ، وأمره قد تمّ ، ويرى نفسه في أرباض الكوفة ، قد احتوشته ذئاب العرب الذين كرهوا عدله ، ونقموا عليه مساواته ، وعملوا جاهدين على الحيلولة بينه وبين تحقيق آماله من القضاء على الإثرة والاستعلاء والطغيان.

والشيء الوحيد الذي أقضّ مضجع الإمام (عليه السّلام) هو تمزّق جيشه ، وتفلّل جميع وحداته ، فقد أصبح بمعزل عن جميع السلطات ، وقد نظر (عليه السّلام) إلى المصير المؤلم الذي سيلاقونه مِن بعده ، فقال : «أما إنّكم ستلقون بعدي ذلاً شاملاً ، وسيفاً قاطعاً ، وإثرة يتّخذها الظالمون فيكم سُنّة ؛ فيفرّق جماعتكم ، ويبكي عيونكم ، ويدخل الفقر بيوتكم ، وتتمنون عن قليل أنّكم رأيتموني فنصرتموني ، فستعلمون حقّ ما أقول لكم ، ولا يبعُد الله إلاّ مَنْ ظلم وأثم»(١) .

ولمْ يجد نصح الإمام (عليه السّلام) معهم شيئاً ، فقد تمادوا في الغي ، وعادت لهم جاهليتهم الرعناء. وقد سئم الإمام (عليه السّلام) منهم وراح يتمنّي مفارقة حياته ، فكان كثيراً ما يقول

__________________

(١) أنساب الأشراف ١ ق ١ / ٢٠٠.

٩٦

في خطبة : «متى يُبْعَثُ أشقاها؟». وأخذ يلحّ بالدعاء ، ويتوسّل إلى الله بقلب منيب أنْ يريحه منهم.

فقد روى البلاذري ، عن أبي صالح ، قال : شهدت عليّاً وقد وضع المصحف على رأسه ، حتّى سمعت تقعقع الورق وهو يقول : «اللّهم ، إنّي سألتهم ما فيه فمنعوني ذلك. اللهمّ إنّي قد مللتهم وملّوني ، وأبغضتهم وأبغضوني ، وحملوني على غير خُلُقي ، وعلى أخلاقٍ لمْ تكن تُعرف لي ، فأبدلني خيراً لي منهم ، وأبدلهم بي شرّاً ، ومِث قلوبهم ميث الملح»(١) .

واستجاب الله دعاء وليّه العظيم ، فنقله بعد قليل إلى حضيرة القدس مع النبيّين والصدّيقين ، وأراحه مِن ذلك المجتمع الذي كره الحقّ ونقم على العدل ، وقد سلّط الله عليهم أرجاس البشرية ، فأخذوا يمعنون في ظلمهم وإذلالهم ، فيأخذون البريء بالسقيم ، والمقبل بالمدبر ، ويقتلون على الظنّة والتهمة ، فاستيقظوا عند ذلك ، وأخذوا يندمون أشدّ الندم على ما اقترفوه مِن الإثم تجاه الإمام (عليه السّلام) ، وما فرّطوا به مِن عصيانه وخذلانه.

هذه بعض مخلّفات تلك الحروب التي امتُحن بها الإمام (عليه السّلام) كأشد ما يكون الامتحان قسوة وإرهاقاً ، ولمْ يُمتحن بها وحده ، وإنّما امتُحن بها العالم الإسلامي بأسره ؛ فقد أخلدت للمسلمين المشاكل والخطوب ، وألقتهم في شرٍّ عظيم.

لقد واكب الإمام الحسين (عليه السّلام) هذه الأحداث المفزعة التي جرت على أبيه ، ووقف على واقعها ، وقد استبان له كراهية القوم لأبيه ؛ لأنّه لمْ يداهن في دينه ، وأراد أنْ يحمل الناس على الحقّ المحض ، والعدل الخالص ، ولا يدع محروماً ولا مظلوماً في البلاد.

وعلى أيّ حالٍ ، فإنّ هذه الحروب قد ساهمت مساهمة إيجابية في خلق كارثة كربلاء التي لمْ تأت إلاّ بعد انهيار الأخلاق ، وإماتة الوعي الديني والاجتماعي ، وإشاعة الانتهازية والتحلل بين أفراد المجتمع ، فقد سيطرت

__________________

(١) أنساب الأشراف ١ / ق ١.

٩٧

الرأسمالية القرشية على الشؤون الاجتماعية ، فأخذت تعيث فساداً في الأرض ، وتنقض جميع ما أقامه الإسلام مِن صروحٍ للفضيلة والأخلاق. وكان مِن أسوء ما قامت به أنّها عملت جاهدة على إشاعة العداء والكراهية لأهل البيت (عليهم السّلام) ، الذين هم مصدر الوعي والإحساس في هذه الأُمّة.

فقد عمدت بشكل سافر إلى تقطيع أوصالهم على صعيد كربلاء ، وإبادتهم إبادةً جماعيةً بصورةٍ رهيبةٍ لمْ يحدث لها نظير في تاريخ الإنسانية.

٩٨

اُفول دولة الحق

٩٩
١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

كما كان ضخماً ذا سمنة كثير الشعر(1) . وأمّا صفاته النفسية : فقد ورث صفات جدّه أبي سفيان وأبيه معاوية مِن الغدر والنفاق والطيش والاستهتار. يقول السيد مير علي الهندي :

وكان يزيد قاسياً غداراً كأبيه ، ولكنّه ليس داهية مثله ؛ كانت تنقصه القدرة على تغليف تصرفاته القاسية بستار مِن اللباقة الدبلوماسية الناعمة ، وكانت طبيعته المنحلّة وخلقه المنحطّ لا تتسرب إليهما شفقة ولا عدل.

كان يقتل ويعذّب نشداناً للمتعة واللذة التي يشعر بها وهو ينظر إلى آلام الآخرين ، وكان بؤرة لأبشع الرذائل ، وها هم ندماؤه مِن الجنسين خير شاهد على ذلك ؛ لقد كانوا مِن حُثالة المجتمع(2) .

لقد كان جافي الخُلُق مستهتراً ، بعيداً عن جميع القيم الإنسانية ، ومِن أبرز ذاتياته ميله إلى إراقة الدماء ، والإساءة إلى الناس.

ففي السّنة الأولى مِن حكمه القصير أباد عترة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وفي السّنة الثانية أباح المدينة ثلاثة أيّام ، وقتل سبعمئة رجل مِن المهاجرين والأنصار وعشرة آلاف مِن الموالي والعرب والتابعين.

ولَعه بالصيد :

ومِن مظاهر صفات يزيد : ولعه بالصيد فكان يقضي أغلب أوقاته فيه.

ويقول المؤرخون : كان يزيد بن معاوية كلفاً بالصيد لاهياً به ، وكان يُلبس كلاب

__________________

(1) تاريخ الإسلام للذهبي 1 / 267.

(2) روح الإسلام / 296.

١٨١

الصيد الأساور مِن الذهب والجِلال المنسوجة منه ، ويُهب لكلّ كلب عبداً يخدمه(1) .

شغفه بالقرود :

وكان يزيد ـ فيما أجمع عليه المؤرخون ـ ولِعاً بالقرود ، فكان له قرد يجعله بين يديه ويكنيه بأبي قيس ويسقيه فضل كأسه ، ويقول : هذا شيخ مِن بني إسرائيل أصابته خطيئة فمُسخ ، وكان يحمله على أتان وحشية ويرسله مع الخيل في حلَبَة السّباق ، فحمله يوماً فسبق الخيل فسرّ بذلك ، وجعل يقول :

تمسّك أبا قيس بفضل زمامها

فليس عليها إنْ سقطت ضمان

فقد سبقت خيل الجماعة كلّها

وخيل أمير المؤمنين أتان

وأرسله مرّة في حلَبَةِ السباق فطرحته الريح فمات فحزن عليه حزناً شديداً وأمر بتكفينه ودفنه ، كما أمر أهل الشام أنْ يعزّوه بمصابه الأليم ، وأنشأ راثياً له :

كم مِن كرامٍ وقومٍ ذوو محافظه

جاؤوا لنا ليعزّوا في أبي قيسِ

شيخِ العشيرة أمضاها وأجملها

على الرؤوس وفي الأعناق والريسِ

لا يبعد الله قبراً أنت ساكنه

فيه جمال وفيه لحية التيس(2)

وذاع بين الناس هيامه وشغفه بالقرود حتى لقّبوه بها. ويقول رجل مِن تنوخ هاجياً له :

__________________

(1) الفخري / 45.

(2) جواهر المطالب في مناقب الإمام علي بن أبي طالب / 143 ، مِِن مصوّرات مكتبة الإمام الحكيم.

١٨٢

يزيد صديق القرد ملّ جوارنا

فحنّ إلى أرض القرود يزيد

فتبّاً لِمَ أمسى علينا خليفةً

صحابته الأدنون منه قرود(1)

إدمانه على الخمر :

والظاهرة البارزة مِن صفات يزيد إدمانه على الخمر ، وقد أسرف في ذلك إلى حدٍّ كبيرٍ ، فلمْ يُرَ في وقت إلاّ وهو ثمِلٌ لا يعي مِن السكر.

ومِنْ شعره في الخمر :

أقولُ لصحبٍ ضمّتِ الكاسُ شملَهم

وداعي صباباتِ الهوى يترنمُ

خذُوا بنصيبٍ مِنْ نعيمٍ ولذّةٍ

فكلٌّ وإنْ طالَ المدى يتصرّمُ(2)

وجلس يوماً على الشراب وعن يمينه ابن زياد بعد قتل الحُسين ، فقال :

اسقني شربةً تروّيَ شاشي

ثمّ مِلْ فاسقِ مثلها ابن زيادِ

صاحبَ السرّ والأمانةِ عندي

ولتسديدِ مغنمي وجهادي(3)

وفي عهده طرّاً تحوّل كبير على شكل المجتمع الإسلامي ؛ فقد ضعف ارتباط المجتمع بالدين ، وانغمس الكثيرون مِن المسلمين في الدعارة والمجون ، ولمْ يكن ذلك التغيير إقليميّاً ، وإنّما شمل جميع الأقاليم الإسلامية ، فقد سادت فيها الشهوات والمتعة والشراب ، وقد تغيّرت الاتجاهات الفكرية التي ينشدها الإسلام عند أغلب المسلمين.

وقد اندفع الأحرار مِنْ شعراء المسلمين في أغلب عصورهم إلى هجاء

__________________

(1) انساب الاشراف 2 / 2.

(2) تاريخ المظفري.

(3) مروج الذهب 2 / 74.

١٨٣

يزيد لإدمانه على الخمر. يقول الشاعر بن عرادة :

أبَني أُميّة إنّ آخر ملككم

جسدٌ بحوارين ثمّ مقيمُ

طرقَتْ منيته وعند وساده

كوبٌ وزِقٌ راعفٌ مرثومُ

ومرنةٌ تبكي على نشوانه

بالصنجِ تقعدُ تارةً وتقومُ(1)

ويقول فيه أنور الجندي :

خُلقت نفسه الأثيمة بالمكر

وهامت عيناه بالفحشاءِ

فهو والكاس في عناقٍ طويل

وهو والعار والخناء في خباءِ

ويقول فيه بولس سلامة :

وترفّق بصاحبِ العرشِ مشغو

لا عن اللهِ بالقيانِ الملاحِ

ألف (الله أكبر) لا تساوي

بين كفَي يزيد نهلةَ راحِ

تتلظّى في الدن بكراً فلمْ

تدنّس بلثمٍ ولا بماءِ قراحِ(2)

لقد عاقر يزيد الخمر وأسرف في الإدمان حتّى أنّ بعض المصادر تعزو سبب وفاته إلى أنّه شرب كمية كبيرة مِنه فأصابه انفجار فهلك منه(3) .

ندماؤه :

واصطفى يزيد جماعة مِن الخُلعاء والماجنين فكان يقضي معهم لياليه الحمراء بين الشراب والغناء ، وفي طليعة ندمائه الأخطل الشاعر المسيحي الخليع

__________________

(1) تاريخ الطبري 7 / 43.

(2) ملحمة الغدير / 227.

(3) تاريخ المظفري مِن مصوّرات مكتبة الإمام الحكيم ، وجاء في أنساب الأشراف 4 / ق 2 / 2 أنّ سبب وفاة يزيد أنّه حمل قرده على أتان ، وهو سكران فركض خلفها فاندقّت عنقه ، فانقطع شيء في جوفه فمات.

١٨٤

فكانا يشربان ويسمعان الغناء وإذا أراد السفر صحبه معه(1) ، ولمّا هلك يزيد وآلَ أمر الخلافة إلى عبد الملك بن مروان قرّبه فكان يدخل عليه بغير استئذان ، وعليه جبّة خزّ وفي عُنقه سلسلةٌ مِنْ ذهب والخمر يقطر مِنْ لحيته(2) .

نصيحة معاوية ليزيد :

ولمّا شاع استهتار يزيد واقترافه لجميع ألوان المنكر والفساد ، استدعاه معاوية فأوصاه بالتكتّم في نيل الشهوات ؛ لئلاّ تسقط مكانته الاجتماعية ، قائلاً : يا بُني ، ما أقدرك على أنْ تصير إلى حاجتك مِنْ غير تهتّك يذهب بمرؤتك وقدرك ، ثمّ أنشده :

انصب نهاراً في طلاب العلا

واصبر على هجر الحبيب القريبِ

حتى إذا الليل أتى بالدجا

واكتحلت بالغمض عين الرقيبِ

فباشر الليل بما تشتهي

فإنّما الليل نهار الأريبِ

كم فاسق تحسبه ناسكاً

قد باشر الليل بأمرٍ عجيبِ(3)

دفاع محمّد عزّة دروزة :

مِن الكتّاب الذين يحملون النزعة الأمويّة في هذا العصر محمّد عزّة دروزة ؛ فقد جهد نفسه ـ مع الأسف ـ على الدفاع عن منكرات الأمويين

__________________

(1) الأغاني 7 / 170.

(2) الأغاني 7 / 170.

(3) البداية والنهاية 8 / 228.

١٨٥

وتبرير ما أُثر عنهم مِن الظلم والجور والفساد ، وقد دافع عن معاوية ونزّهه عمّا اقترفه مِن الموبقات التي هي لطخة عارٍ في تاريخ الإنسانية. وقد علّق على هذه البادرة بقوله : نحن ننزّه معاوية صاحب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وكاتب وحيه ، والذي أثرت عنه مخافةَ الله وتقواه ، وحرصه عن أنْ يرضى مِن ابنه الشذوذ عن هذه الحدود ، بل التشجيع ، بل نستبعد هذا عن يزيد(1) . وهذا ممّا يدعو إلى السّخرية والتفكّه ؛ فقد تنكّر دروزة للواضحات التي لا يشكّ فيها أي إنسان يملك عقله واختياره ، وقديماً قد قيل :

وليس يصح في الأذهان شيء

إذا احتاج النهار إلى دليلِ

إنّ ما أُثر عن معاوية مِن الأحداث الجِسام كقتله حِجْر بن عَدِيّ ورشيد الهجري ، وعمرو بن الحمق الخزاعي ونظرائهم مِن المؤمنين ، وسبّه للعترة الطاهرة ونكايته بالأُمّة بفرض يزيد خليفة عليها ، وغير ذلك مِن الجرائم التي ألمعنا إلى بعضها في البحوث السّابقة ، وهي ممّا تدلّ على تشويه إسلامه وانحرافه عن الطريق القويم ، ولكنّ دروزة وأمثاله لا ينظرون إلى الواقع إلاّ بمنظار أسود ، فراحوا يقدّسون الأمويين الذين أثبتوا بتصرفاتهم السّياسية والإدارية أنّهم خصوم الإسلام وأعداؤه.

إقرار معاوية لاستهتار يزيد :

وهام معاوية بحبّ ولده يزيد فأقرّه على فسقه وفجوره ولمْ يردعه عنه. ويقول المؤرخون : إنّه نُقِلَ له أنّ ولده على الشراب فأتاه يتجسّس عليه فسمعه ينشد :

__________________

(1) تاريخ الجنس العربي 8 / 86.

١٨٦

أقولُ لصحبٍ ضمّتِ الكاسُ شملهم

وداعي صبابات الهوى يترنمُ

خذوا بنصيبٍ مِن نعيمٍ ولذّةٍ

فكلّ وإنْ طالَ المدى يتصرّمُ

ولا تتركوا يومَ السّرورِ إلى غدٍ

فإنّ غداً يأتي بما ليس يُعلمُ

ألا إنّ أهنأ العيشِ ما سمحَتْ بهِ

صروفُ الليالي والحوادثُ نُوّمُ

فعاد معاوية إلى مكانه ولمْ يعلمه بنفسه ، وراح يقول :

والله لا كنت عليه ، ولا نغّصت عليه عيشه(1) .

حقد يزيد على النبي :

وأترعت نفس يزيد بالحقد على النّبي (صلّى الله عليه وآله) والبغض له ؛ لأنّه وتِره بأُسرته يوم بدر ، ولمّا أباد العترة الطاهرة جلس على أريكة المُلْك جذلانَ مسروراً يهز أعطافه ، فقد استوفى ثأره مِن النّبي (صلّى الله عليه وآله) وتمنّى حضور أشياخه لِيَرَوا كيف أخذ بثأرهم ، وجعل يترنم بأبيات ابن الزبعرى :

ليت أشياخي ببدرٍ شهدوا

جزع الخزرجِ مِن وقع الأسل

لأهلوا واستهلّوا فرحا

ثمّ قالوا يا يزيدَ لا تُشل

قد قتلنا القرمَ مِن أشياخهم

وعدلناه ببدرٍ فاعتدل

لعبت هاشم بالمُلْك فلا

خبرٌ جاء ولا وحيٌ نزل

لستُ مِنْ خندفَ إنْ لمْ أنتقم

مِنْ بني أحمدَ ما كان فعل(2)

__________________

(1) تاريخ المظفري مِن مصوّرات مكتبة الإمام الحكيم.

(2) البداية والنهاية 8 / 192.

١٨٧

بغضه للأنصار :

وكان يزيد يبغض الأنصار بغضاً عارماً ؛ لأنّهم ناصروا النّبي (صلّى الله عليه وآله) وقاتلوا قريش ، وحصدوا رؤوسَ أعلامهم ، كما كانوا يبغضون بني أُميّة ، فقد قُتِلَ عثمان بين ظهرانيهم ولم يدافعوا عنه ، ثمّ بايعوا علياً وذهبوا معه إلى صفين لحرب معاوية ، ولمّا استشهد الإمام كانوا مِنْ أهم العناصر المعادية لمعاوية ، وكان يزيد يتميّز مِنْ الغيظ عليهم وطلب مِنْ كعب بن جعيل التغلبي أن يهجوهم فامتنع ، وقال له : أردتني إلى الإشراك بعد الإيمان ، لا أهجو قوماً نصروا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، ولكنْ أدلّك على غلامٍ منّا نصراني كان لسانه لسان ثور ـ يعني الأخطل ـ.

فدعا يزيد الأخطلَ وطلب منه هجاء الأنصار فأجابه إلى ذلك ، وهجاهم بهذه الأبيات المقذعة :

لعن الإلهُ مِن اليهودِ عصابةً

ما بين صليصلٍ وبين صرارِ(1)

قومٌ إذا هدرَ القصيرُ رأيتَهم

حمراً عيونهم مِن المسطارِ(2)

خلّوا المكارمَ لستمُ مِن أهلها

وخذوا مساحيكم بني النجّارِ

إنّ الفوارسَ يعلمون ظهوركم

أولادَ كلّ مقبّحٍ أكّازِ(3)

ذهبت قريشٌ بالمكارمِ كلّها

واللؤم تحت عمائمِ الأنصارِ(4)

__________________

(1) صليصل وصرار : مِن الأماكن القريبة للمدينة.

(2) المسطار : الخمر الصارعة لشاربها.

(3) أكّاز : الحراث.

(4) طبقات الشعراء / 392.

١٨٨

لقد ابتدأ الأخطل هجاءه للأنصار بذمِ اليهود وقرن بينهم وبين الأنصار ، لأنّهم يساكنونهم في يثرب ، وقد عاب على الأنصار بأنّهم أهل زرع وفلاحة وأنّهم ليسوا أهل مجدٍ ولا مكارم ، واتهمهم بالجبن عند اللقاء ونسب الشرف والمجد إلى القرشيين واللؤم كلّه تحت عمائم الأنصار.

وقد أثار هذا الهجاء المرّ حفيظة النعمان بن بشير الذي هو أحد عملاء الأمويين ، فانبرى غضباناً إلى معاوية ، فلمّا مَثُلَ عنده حسر عمامته عن رأسه وقال : يا معاوية ، أترى لؤماً؟.

لا ، بل أرى خيراً وكرماً ، فما ذاك؟!

زعم الأخطل أنّ اللؤم تحت عمائمنا!

واندفع النعمان يستجلب عطف معاوية قائلاً :

معاوي ألا تعطنا الحقّ تعترف

لحقّ الأزد مسدولاَ عليها العمائمُ

أيشتمُنا عبدُ الأراقم ضلّةً

فماذا الذي تجدي عليك الأراقمُ

فما ليَ ثأرٌ دون قطعِ لسانهِ

فدونكَ مَنْ ترضيه عنه الدراهمُ(1)

قال معاوية : ما حاجتك؟

ـ لسانه.

ـ ذلك لك.

وبلغ الخبرُ الأخطلَ فأسرع إلى يزيد مستجيراً به ، وقال له : هذا الذي كنت أخافه! فطمأنه يزيد وذهب إلى أبيه فأخبره بأنّه قد أجاره ، فقال معاوية : لا سبيل إلى ذمّة أبي خالد ـ يعني يزيداً ـ فعفى عنه.

وجعل الأخطل يفخر برعاية يزيد له ، ويشمت بالنعمان بقوله :

__________________

(1) العقد الفريد 5 / 321 ـ 322.

١٨٩

أبا خالدٍ دافعتَ عنّي عظيمةً

وأدركتَ لحمي قبل أنْ يتبددا

وأطفأت عنّي نارَ نعمان بعدما

أغذّ لأمرٍ عاجزٍ وتجردا

ولمّا رأى النعمان دوني ابن حرّة

طوى الكشح إذ لمْ يستطعني وعرّدا(1)

هذه بعض نزعات يزيد واتجاهاته ، وقد كشفت عن مسخه وتمرّسه في الجريمة ، وتجرّده مِنْ كلّ خُلُقٍ قويم. وإنّ مِنْ مهازل الزمن وعثرات الأيّام أنْ يكون هذا الخليعُ حاكماً على المسلمين ، وإماماً لهم.

دعوةُ المغيرة لبيعة يزيد :

وأوّل مَنْ تصدى لهذه البيعة المشؤومة أعورُ ثقيف المغيرة بن شعبة ، صاحب الأحداث والموبقات في الإسلام(2) ، وقد وصفه (بروكلمان) بأنّه رجلٌ انتهازي ، لا ذمة له ولا ذمام(3) ، وهو أحد دهاة العرب الخمسة(4) ، وقد قضى حياته في التآمر على الأُمّة ، والسعي وراء مصالحه الخاصة.

أمّا السبب في دعوته لبيعة يزيد ـ فيما يرويه المؤرّخون ـ فهو أنّ معاوية أراد عزله مِن الكوفة ليولّي عليها سعيد بن العاص(5) ، فلمّا بلغه ذلك سافر إلى دمشق ليقدّم استقالته مِن منصبه حتّى لا تكون حزازة عليه في عزله ، وأطال التفكير في أمره ، فرأى أنّ خير وسيلة لإقراره في منصبه

__________________

(1) ديوان الأخطل / 89.

(2) مِن موبقات المغيرة أنّه أوّل مَنْ رُشِيَ في الإسلام كما يروي البيهقي ، كما أنّه كان الوسيط في استلحاق زياد بمعاوية.

(3) تاريخ الشعوب الإسلامية 1 / 145.

(4) تاريخ الطبري.

(5) الإمامة والسياسة 2 / 262.

١٩٠

أنْ يجتمع بيزيد فيحبّذ له الخلافة حتّى يتوسّط في شأنه إلى أبيه. والتقى الماكر بيزيد فأبدى له الإكبار ، وأظهر له الحبّ ، وقال له :

قد ذهب أعيان محمّد وكبراء قريش وذوو أسنانهم ، وإنّما بقى أبناؤهم وأنت مِنْ أفضلهم وأحسنهم رأياً ، وأعلمهم بالسُنّة والسياسة ، ولا أدري ما يمنع أمير المؤمنين أنْ يعقد لك البيعة؟!

وغزت هذه الكلمات قلبَ يزيد ، فشكره وأثنى على عواطفه ، وقال له : أترى ذلك يتمّ؟

ـ نعم.

وانطلق يزيد مسرعاً إلى أبيه فأخبره بمقالة المغيرة ، فسرّ معاوية بذلك وأرسل خلفه ، فلمّا مَثُلَ عنده أخذ يحفّزه على المبادرة في أخذ البيعة ليزيد قائلاً : يا أمير المؤمنين ، قد رأيت ما كان مِنْ سفك الدماء والاختلاف بعد عثمان ، وفي يزيد منك خَلَفٌ فاعقد له ؛ فإنْ حدثَ بك حدثٌ كان كهفاً للناس ، وخَلَفاً منك ، ولا تُسفكُ دماءٌ ، ولا تكون فتنةٌ.

وأصابت هذه الكلمات الوتر الحساس في قلب معاوية ، فراح يخادعه مستشيراً في الأمر قائلاً : مَنْ لي بهذا؟

ـ أكفيك أهل الكوفة ، ويكفيك زياد أهل البصرة ، وليس بعد هذين المصرين أحد يُخالف.

واستحسن معاوية رأيه فشكره عليه ، وأقرّه على منصبه ، وأمره بالمبادرة إلى الكوفة لتحقيق غايته. ولمّا خرج مِنْ عند معاوية قال لحاشيته : لقد وضعت رِجْلَ معاوية في غرزٍ بعيد الغاية على أُمّة محمّد (صلّى الله عليه وآله) ،

١٩١

وفتقت عليه فتقاً لا يُرتق. ثم تمثّل بقول الشاعر :

بمثلي شاهد النّجوى وغالى

بي الأعداء والخصم الغِضابا

ففي سبيل المغنم فتق المغيرة على أُمّة محمّد (صلّى الله عليه وآله) فتقاً لا يُرتق ، وأخلد لها الكوارث والخطوب.

وسار المغيرة إلى الكوفة وهو يحمل الشرّ والدمار لأهلها ولعموم المسلمين ، وفور وصوله عقد اجتماعاً ضم عُملاء الاُمويِّين ، فعرض عليهم بيعة يزيد فأجابوه إلى ذلك ، وأوفد جماعة منهم إلى دمشق وجعل عليهم ولده أبا موسى ، فلمّا انتهوا إلى معاوية حفّزوه على عقد البيعة ليزيد ، فشكرهم على ذلك وأوصاهم بالكتمان ، والتفت إلى ابن المغيرة ، فقال له : بكم اشترى أبوك مِنْ هؤلاء دينهم؟

ـ بثلاثين ألف درهم.

فضحك معاوية ، وقال ساخراً : لقد هانَ عليهم دينُهم. ثمّ أوصلهم بثلاثين ألف درهمٍ(1) .

لقد استجاب لهذه البيعة ورضي بها كلّ مَنْ يحمل ضميراً قلِقاً عرضه للبيع والشراء.

تبريرُ معاوية :

ودافع جماعة مِن المؤلّفين والكتاب عن معاوية ، وبرّروا بيعته ليزيد التي كانت مِنْ أفجع النكبات التي مُنِيَ بها العالم الإسلامي ، وفيما يلي بعضهم :

1 ـ أحمد دحلان :

ومِنْ أصلب المدافعين عن معاوية أحمد دحلان ، قال : فلمّا نظر

__________________

(1) تاريخ ابن الأثير 3 / 249.

١٩٢

معاوية إلى قوّة شوكتهم ـ يعني الاُمويِّين ـ واستحكام عصبيتهم ، حتّى إنّهم لو خرجت الخلافة عنهم بعده يُحدِثون فتنةً ، ويقع افتراق للأُمّة ، فأراد اجتماع الكلمة بجعل الأمر فيهم. ثمّ إنّه نظر فيمَنْ كان منهم أقوى شوكة فرآه ابنه يزيد ؛ لأنّه كان كبيراً ، وباشر إمارة الجيوش في حياة أبيه ، وصارت له هيبةٌ عند الأُمراء ، وله تمكّن ونفاذ كلمةٍ ، فلو جعل الأمر لغيره منهم كان ذلك سبباً لمنازعته ، لا سيما وله تمكّن واقتدار على الاستيلاء على ما في بيت المال مِن الأموال ، فيقع الافتراق والاختلاف. فرأى أنّ جعل الأمر له بهذا الاجتهاد يكون سبباً للأُلفة وعدم الافتراق ، وهذا هو السبب في جعله وليّ عهده ، ولمْ يعلم ما يبديه الله بعد ذلك(1) .

حفنة من التراب على أمثال هؤلاء الذين دفعتهم العصبية الآثمة إلى تبرير المنكر وتوجيه الباطل ، فهل إنّ أمر الخلافة التي هي ظلّ الله في الأرض يعود إلى الاُمويِّين حتّى يرعى معاوية عواطفهم ورغباتهم ؛ وهم الذين ناهضوا نبي الإسلام وناجزوه الحرب ، وعذّبوا كلّ مَنْ دخل في دين الإسلام ، فكيف يكون أمر الخلافة بأيديهم؟! ولو كان هناك منطق ووعي ديني لكانوا في ذيل القافلة ، ولا يُحسب لهم أي حساب.

2 ـ الدكتور عبد المنعم :

ومن المبررين لمعاوية في بيعته ليزيد الدكتور عبد المنعم ماجد قال : ويبدو أنّ معاوية قصد مِنْ وراء توريث يزيد الخلافة القضاء على افتراق كلمة الأُمّة الإسلامية ووقوع الفتنة ، مثلما حدث بعد عثمان.

ولعلّه أيضاً أراد أنْ يوجد حلاً للمسألة التي تركها النّبي (صلّى الله عليه وآله) دون حلّ ؛ وهي إيجاد سلطة دائمة للإسلام ، ومِن المحقّق أنّ معاوية لمْ يكن له مندوحة مِنْ أنْ يفعل

__________________

(1) تاريخ دول الإسلامية / 28.

١٩٣

ذلك ؛ خوفاً مِنْ غضب بني أُميّة الذين لمْ يكونوا يرضون بتسليم الأمر إلى سواهم(1) . وهذا الرأي لا يحمل أي طابعٍ مِن التوازن ؛ فإنّ معاوية في بيعته ليزيد لمْ يجمع كلمة المسلمين ، وإنّما فرّقها وأخلد لهم الشرّ والخطوب ؛ فقد عانت الأُمّة في عهد يزيد مِن ضروب البلاء والمحن ما لا يوصف ؛ لفضاعته ومرارته ، فقد جهد حفيد أبي سفيان على تدمير الإسلام وسحق جميع مقدّساته وقيمه ؛ فأباد العترة الطاهرة التي هي عديلة القرآن الكريم حسب النصوص النّبوية المتواترة ، وأنزل بأهل المدينة في واقعة الحرّة مِن الجرائم ما يندى له جبين الإنسانية ، فهل جمع بذلك معاوية كلمة المسلمين ووحّد صفوفهم؟! وممّا يدعو إلى السّخرية ما ذهب إليه مِن أنّ النّبي (صلّى الله عليه وآله) ترك مسألة الخلافة بغير حلّ ، فجاء معاوية فحلّ هذه العقدة ببيعته ليزيد!! إنّ النّبي (صلّى الله عليه وآله) لمْ يترك أي شأنٍ مِن شؤون أُمّته بغير حلّ ، وإنّما وضع لها الحلول الحاسمة ، وكان أهم ما عنى به شأن الخلافة ، فقد عَهِدَ بها إلى أفضل أُمّته ، وباب مدينة علمه الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) ، وقد بايعه كبار الصحابة وعموم مَنْ كان معه في يوم الغدير ، ولكنّ القوم كرهوا اجتماع النّبوة والخلافة في ببت واحد ، فزووا الخلافة عن أهل بيت نبيهم (صلّى الله عليه وآله) ، فأدّى ذلك إلى أنْ يلي أمر المسلمين يزيد وأمثاله مِن المنحرفين الذين أثبتوا في تصرفاتهم أنّهم لا علاقة لهم بالإسلام ، ولا عَهْدَ لهم بالدين.

3 ـ حسين محمّد يوسف :

ومِن المدافعين بحرارة عن معاوية في ولايته ليزيد حسين محمّد يوسف ، وقد أطال الكلام بغير حجّة في ذلك ، قال في آخر حديثه : وخلاصة القول في موقف معاوية أنّه كان مجتهداً في رأيه ، وأنّه حين دعا

__________________

(1) التاريخ السياسي للدولة العربية 2 / 62.

١٩٤

الأُمّة إلى بيعة يزيد كان حسن الظن به ؛ لأنّه لمْ يثبت عنده أي نقص فيه ، بل كان يزيد يدسّ على أبيه مَنْ يحسّن له حاله حتّى اعتقد أنّه أولى مِنْ أبناء بقية الصحابة كلّهم ؛ فإنْ كان معاوية قد أصاب في اختياره فله أجران ، وإنْ كان قد أخطأ فله أجر واحد ، وليس لأحدٍ بعد ذلك أنْ يخوض فيما وراء ذلك ؛ فإنّما الأعمال بالنّيات ، ولكلِّ امرئ ما نوى(1) .

إنّ مِن المؤسف حقّاً أنْ ينبري هؤلاء لتبرير معاوية في اقترافه لهذه الجريمة النكراء التي أغرقت العالم الإسلامي بالفتن والخطوب! ومتّى اجتهد معاوية في فرض ابنه خليفة على المسلمين؟! فقد سلك في سبيل ذلك جميع المنعطفات والطريق الملتوية ، فأرغم عليها المسلمين ، وفرضها عليهم تحت غطاءٍ مكثّفٍ من قوة الحديد. إنّ معاوية لمْ يجتهد في ذلك وإنّما استجاب لعواطفه المترعة بالحنان والولاء لولده ، مِن دون أنْ يرعى أي مصلحةٍ للأُمّة في ذلك.

هؤلاء بعض المؤيدين لمعاوية في عقده البيعة ليزيد ، وهم مدفوعون بدافعٍ غريبٍ على الإسلام ، وبعيد كلّ البعد عن منطق الحقّ.

كلمةُ الحسن البصري :

وشجب الحسن البصري بيعة يزيد وجعلها مِنْ جملة موبقات معاوية ، قال : أربع خصال كُنَّ في معاوية ، لو لمْ يكن فيه منهنَّ إلاّ واحدة لكانت موبقة : ابتزاؤه على هذه الأُمّة بالسّفهاء حتّى ابتزّها أمرها بغير مشورة منهم ، وفيهم بقايا الصحابة وذوو الفضيلة ، واستخلاف ابنه بعده سكّيراً خمّيراً ، يلبس الحرير ويضرب بالطنابير ، وادّعاؤه زياد وقد

__________________

(1) سيد شباب أهل الجنّة الحسين بن علي (عليه السّلام) / 208.

١٩٥

قال رسول (صلّى الله عليه وآله) : «الولد للفراش وللعاهر الحَجَر». وقتله حِجْراً وأصحابه ، ويلٌ له مِنْ حِجْر وأصحابه(1) !

كلمةُ ابن رشد :

ويرى الفيلسوف الكبير ابن رشد أنّ بيعة معاوية ليزيد قد غيّرت مجرى الحياة الإسلامية ، وهدمت الحكم الصالح في الإسلام ، قال : إنّ أحوال العرب في عهد الخلفاء الراشدين كانت على غاية مِن الصلاح ، فكأنّما وصف أفلاطون حكومتهم في (جمهوريته) الحكومة الجمهورية الصحيحة التي يجب أنْ تكون مِثالاً لجميع الحكومات ، ولكنّ معاوية هدم ذلك البناء الجليل القديم ، وأقام مكانه دولة بني أُميّة وسلطانها الشديد ؛ ففتح بذلك باباً للفتن التي لا تزال إلى الآن قائمة حتّى في بلادنا هذه(2) ـ يعني الأندلس ـ.

لقد نَقِمَ على معاوية في بيعة يزيد جميعُ أعلام الفكر وقادة الرأي في الأُمّة الإسلامية ، منذ عهد معاوية حتّى يوم الناس هذا ، ووصفوها بأنّها اعتداء صارخ على الأُمّة ، وخروج على إرادتها.

دوافعُ معاوية :

أمّا الدوافع التي دعت معاوية لفرض ابنه السكّير خليفة على المسلمين ، فكان مِنْ أبرزها الحبّ العارم لولده ؛ فقد هام بحبّه ، وقد أدلى بذلك

__________________

(1) تاريخ الطبري 6 / 257 وغيره.

(2) ابن رشد وفلسفته ـ فرج انطون / 60.

١٩٦

في حديثه مع سعيد بن عثمان حينما طلب مِنه أنْ يرشّحه للخلافة ويدع ابنه يزيد ، فسخِرَ مِنه معاوية وقال له : والله ، لو ملأتَ لي الغوطة رجالاً مثلك لكان يزيد أحبّ إليّ مِنكم كلّكم(1) .

لقد أعمّاه حبّه لولده ، وأضله عن الحقّ ، وقد قال : لولا هواي في يزيد لأبصرت رشدي(2) . وكان يؤمن بأنّ استخلافه ليزيد مِن أعظم ما اقترفه مِن الذنوب ، وقد صارح ولده بذلك فقال له : ما ألقى الله بشيء أعظم في نفسي مِن استخلافي إيّاك(3) .

لقد اقترف معاوية وزراً عظيماً فيما جناه على الأُمّة بتحويل الخلافة إلى مُلْكٍ عضوضٍ لا يُعنى فيه بإرادة الأٌمّة واختيارها.

الوسائل الدبلوماسية في أخذ البيعة :

أمّا الوسائل الدبلوماسية التي اعتمد عليها معاوية في فرض خليعه على المسلمين فهي :

1 ـ استخدام الشعراء :

أمّا الشعراء فكانوا في ذلك العصر مِنْ أقوى أجهزة الإعلام ،

__________________

(1) البداية والنهاية 8 / 80.

(2) المناقب والمثالب ـ القاضي نعمان المصري / 68.

(3) تاريخ الخلفاء ـ لمؤلّف مجهول قامت بنشره أكاديمية العلوم للاتحاد السوفيتي.

١٩٧

وقد أجزل لهم معاوية العطاء ، وأغدق عليهم الأموال ، فانطلقت ألسنتهم بالمديح والثناء على يزيد ، فأضافوا إليه الصفات الرفيعة ، وخلعوا عليه النعوت الحسنة ، وفيما يلي بعضهم :

أ ـ العجّاج :

ومدحه العجّاج مدحاً عاطراً ، فقال فيه :

إذ زُلزِلَ الأقوامُ لمْ تزلزلِ

عن دينِ موسى والرسولِ المُرسلِ

وكنتَ سيف الله لمْ يفلّلِ

يفرع(1) أحياناً وحيناً يختلي(2)

ومعنى هذا الشعر أنّ يزيد يقتفي أثر الرسول موسى والنّبي محمّد (صلّى الله عليه وآله) ، وأنّه سيف الله البتّار ، إلاّ أنّه كان مشهوراً على أولياء الله وأحبّائه.

الأحوس :

ومدحه الشاعر الأحوس بقصيدة جاء فيها :

ملِكٌ تدينُ له الملوكُ مباركٌ

كادت لهيبته الجبالُ تزولُ

يُجبى له بلخٌ ودجلةُ كلّها

وله الفراتُ وما سفى والنيلُ

لقد جاءته تلك الهيبة التي تخضع لها الجباه ، وتزول منها الجبال مِن إدمانه على الخمر ، ومزاملته للقرود ، ولعبه بالكلاب ، واقترافه للجرائم والموبقات!

مسكين الدارمي :

ومِن الشعراء المرتزقة مسكين الدارمي ، وقد أوعز إليه معاوية أنْ يحثّه على بيعة يزيد أمام مَنْ كان عنده مِنْ بني أُميّة ، وأشراف أهل الشام ،

__________________

(1) يفرع : يعلو رؤوس الناس.

(2) شعراء النصرانية بعد الإسلام / 234.

١٩٨

فدخل مسكين على معاوية ، فلمّا رأى مجلسه حاشداً بالناس رفع عقيرته :

إنْ ادُعَ مسكيناً فإنّي ابنُ معشرٍ

مِن الناس أحمي عنهم وأذودُ

ألا ليت شعري ما يقول ابنُ عامرٍ

ومروانُ أمْ ماذا يقول سعيدُ

بني خلفاء اللهِ مهلاً فإنّما

يبوِّئها الرحمنُ حيث يريدُ

إذا المنبر الغربي خلاّه ربّهُ

فإنّ أميرَ المؤمنين يزيدُ

على الطائر الميمون والجدّ ساعدٌ

لكلّ اُناس طائرٌ وجدودُ

فلا زلتَ أعلى الناس كعباً ولمْ تزلْ

وفودٌ تساميها إليك وفودُ

ولا زال بيتُ المُلْك فوقك عالياً

تُشيَّد أطنابٌ له وعمود(1)

هؤلاء بعض الشعراء الذين مدحوا يزيد ، وافتعلوا له المآثر لتغطية ما ذيع عنه مِن الدعارة والمجون.

بذلُ الأموال للوجوه :

وأنفق معاوية الأموال الطائلة بسخاءٍ للوجوه والأشراف ؛ ليقرّوه على فرض ولده السكّير خليفة على المسلمين. ويقول المؤرّخون : إنّه أعطى عبد الله بن عمر مئة ألف درهم فقبلها منه(2) ، وكان ابن عمر مِنْ أصلب المدافعين عن بيعة يزيد ، وقد نَقِمَ على الإمام الحسين (عليه السّلام) خروجه عليه ، وسنذكر ذلك بمزيد مِن التفصيل في البحوث الآتية.

__________________

(1) الأغاني 8 / 71.

(2) تاريخ ابن الأثير 3 / 250.

١٩٩

مراسلةُ الولاة :

وراسل معاوية جميع عمّاله وولاته في الأقاليم الإسلاميّة بعزمه على عقد البيعة ليزيد ، وأمرهم بتنفيذ ما يلي :

1 ـ إذاعة ذلك بين الجماهير الشعبية ، وإعلامها بما صمّمت عليه حكومة دمشق مِنْ عقد الخلافة ليزيد.

2 ـ الإيعاز للخطباء وسائر أجهزة الإعلام بالثناء على يزيد ، وافتعال المآثر له.

3 ـ إرسال الوفود إليه مِن الشخصيات الإسلاميّة حتّى يتعرّف على رأيها في البيعة ليزيد(1) . وقام الولاة بتنفيذ ما عهد إليهم ، فأذاعوا ما صمّم عليه معاوية مِن عقد البيعة ليزيد ، كما أوعزوا للخطباء وغيرهم بالثناء على يزيد.

وفودُ الأقطار الإسلاميّة :

واتّصلت الحكومات المحلّية في الأقطار الإسلاميّة بقادة الفكر ، فعرضت عليهم ما عزم عليه معاوية مِنْ تولية ولده للخلافة ، وطلبوا منهم السّفر فوراً إلى دمشق لعرض آرائهم على معاوية. وسافرت الوفود إلى دمشق وكان في طليعتهم :

1 ـ الوفد العراقي بقيادة زعيم العراق الأحنف بن قيس.

2 ـ الوفد المدني بقيادة محمّد بن عمرو بن حزم(2) .

__________________

(1) تاريخ ابن الأثير 3 / 250.

(2) المصدر نفسه.

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471