حياة الامام الحسين عليه السلام الجزء ٣

حياة الامام الحسين عليه السلام8%

حياة الامام الحسين عليه السلام مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 496

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 496 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 308297 / تحميل: 5980
الحجم الحجم الحجم
حياة الامام الحسين عليه السلام

حياة الامام الحسين عليه السلام الجزء ٣

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

١١ ـ أربعة آلاف(١)

هذه بعض الأقوال التي ذكرها المؤرخون ، وهناك أقوال أخرى لا تخلو من المبالغة.

التحقيق في الموضوع :

ولا بد لنا من وقفة قصيرة للتحقيق في هذه الأقوال المختلفة التي حددت عدد الجيش الذي تدفق إلى كربلا واشترك في عمليات الحرب ، لنختار منها ما تساعد عليه الأدلة ونلقي ـ قبل كل شيء ـ نظرة خاطفة على عدد الجيش في الكوفة التي كانت أعظم حامية عسكرية في ذلك الوقت ، فقد كان عدد الجيش في أواسط القرن الأول أربعين الفا يغزو كل عام منهم عشرة آلاف(٢) وقد ازداد هذا العدد منذ اتخذها الامام عاصمة له ، فقد كثرت الهجرة إليها ، فقد زحف معه لحرب صفين سبعة وخمسون الفا ، وثمانية آلاف من مواليهم(٣) وهناك بعض التصريحات التي أدلى بها بعض الشخصيات تدل على أن احصاء الجيش في ذلك العصر بلغ مائة الف ، فقد انكر سليمان بن صرد الخزاعي على الامام الحسن (ع) أمر الصلح وقال له : «لا ينقضي تعجبي من بيعتك معاوية ومعك مائة الف مقاتل من أهل العراق» وجاء في بعض رسائل اهل الكوفة الى الامام الحسين «انا معك مائة الف» وفيما احسب ان هذا العدد لا يخلو من المبالغة ، وان العد اقل من ذلك بكثير اما سكان الكوفة فانا لم نقف

__________________

(١) البداية والنهاية ٨ / ١٦٩

(٢) صلح الحسن (ص ١٠١)

(٣) الامامة والسياسة ١ / ١٥١

١٢١

لهم على احصاء الا ان من المؤكد انهم كانوا اضعاف عدد الجيش فان الكثيرين من ذوي المهن والحرف والتجار وغيرهم ممن لم ينضموا إلى المنظمة العسكرية ونقف ـ بعد هذا العرض الموجز لعدد جيش الكوفة وسكانها ـ امام تلك الأقوال بين أمرين :

الأول : الاذعان والتصديق لكل ما قيل في عدد الجيش من الكثرة لأن ابن زياد قد اعلن النفير العام في الكوفة فلم يبق بها محتلم الا خرج لحرب الحسين ، ومن تخلف كان مصيره الاعدام أو السجن ، حتى لم تبق في الكوفة واسطة من وسائط النقل الا استعملت لنقل الناس للحرب ، واذا قيل ان عدد الجيش مائة الف او يزيد فليس في ذلك أية مبالغة.

الثاني : التشكيك في تلك الكثرة لأن اكثر الجنود قد استعظموا حرب الامام ففروا منهزمين في البيداء ، بالاضافة الى أن طائفة كبيرة من الجيش كانت في معسكر النخيلة مع ابن زياد ، وعلى هذا فالجيش الذي تدفق الى كربلا لحرب الامام ليس بذلك العدد الضخم الذي يذهب إليه بعض المؤرخين.

واكبر الظن ان الرواية التي أثرت عن الامام الصادق (ع) انه أزدلف ثلاثون الف لحرب الامام هي أقرب ما قيل في عدد الجيش فان هذا العدد وما يزيد عليه قد اشترك في حرب ريحانة رسول اللّه (ص).

القادة العسكريين :

وامدنا المؤرخون بأسماء بعض قادة الجيش الذين اشتركوا في كارثة كربلا وهم :

١٢٢

١ ـ الحر بن يزيد الرياحي ، وكان على الف فارس ، وهو الذي حاصر الحسين في كربلا.

٢ ـ عمر بن سعد ، وقد اسند إليه ابن زياد القيادة العامة لجميع قواته المسلحة ، وكان اميرا على أربعة آلاف.

٣ ـ شبث بن ربعي جعله أميرا على الف فارس(١)

٤ ـ مضائر بن رهينة المازني امير على ثلاثة آلاف(٢)

٥ ـ نصر بن حرشة امير على الفين(٣)

٦ ـ كعب بن طلحة امير على ثلاثة آلاف(٤)

٧ ـ حجار بن ابجر أمير على الف(٥)

٨ ـ الحصين بن نمير على أربعة آلاف(٦)

٩ ـ شمر بن ذي الجوشن امير على أربعة آلاف(٧)

١٠ ـ يزيد بن الركاب على الفين(٨)

١١ ـ يزيد بن الحرث بن رويم امير على الف(٩)

وهؤلاء بعض قادة الجيش وقد انضم تحت ألويتهم خمس وعشرون الف مقاتل ، ويقول ابن الجوزي :

انه كان على ربع الكوفة عبد اللّه بن زهرة بن سليم الأزدي ، وعلى

__________________

(١) أنساب الأشراف ق ١ ج ١

(٢) المناقب ٤ / ٩٨

(٣) المناقب ٤ / ٩٨

(٤) مقتل الحسين للمقرم (ص ٢٣٩)

(٥) انساب الأشراف ق ١ ج ١

(٦) انساب الأشراف ق ١ ج ١

(٧) المناقب ٤ / ٩٨

(٨) انساب الأشراف ق ١ ج ١

(٩) انساب الأشراف ق ١ ج ١

١٢٣

ربع ربيعة وكندة قيس بن الأشعث وعلى ربع مذحج وأسد عبد اللّه بن سبرة الجعفي ، وعلى ربع ربيعة وهمدان الحر بن يزيد الرياحي(١) .

أدوات الحرب :

وتسلح جيش ابن زياد بجميع أدوات الحرب السائدة في تلك العصور فقد كان استعداده لحرب الامام استعدادا هائلا ويحدثنا المؤرخون عن ضخامة ذلك الاستعداد ، فقالوا!! إن الحدادين ، وصانعي أدوات الحرب في الكوفة كانوا يعملون ليلا ونهارا في بري النبال وصقل السيوف في مدة كانت تربو على عشرة أيام لقد دفع ابن زياد لحرب الحسين بقوة عسكرية مدججة بالسلاح بحيث كانت لها القدرة على فتح قطر من الأقطار.

١ ـ الرماة :

وهم الذين كانوا يسددون النبال والسهام ، وقد لعبوا دورا خطيرا في الحرب ، وهم أول من فتح باب الحرب على الامام ، فسددوا سهامهم نحو معسكره فلم يبق أحد منهم إلا اصابه سهم ، حتى اصيبت بعض النساء فدهشن وارعبن ، وقد قتل بعض ابناء الأسرة النبوية بتلك السهام الغادرة كعبد اللّه بن مسلم ، وعبد اللّه بن الحسن ، وعبد اللّه الرضيع وغيرهم.

__________________

(١) مرآة الزمان في تواريخ الأعيان (ص ٩٢)

١٢٤

٢ ـ الجوالة :

وهي كتائب من الجيش كانت ترمي بالحجارة ، وسلاحها المقاليع ،

٣ ـ المجففة :

وهم الذين كانوا يلبسون الجنود الآلات التي تقيهم في الحرب ، كما كانوا يضعون على الخيل الآلات التي تقيها من النبال والرماح ،

عدد أصحاب الحسين :

أما أصحاب الامام الحسين فكانوا فئة قليلة ، وقد اختلف المؤرخون في عددهم ، وهذه بعض الاقوال :

١ ـ ما ذهب إليه المسعودي انهم خمسمائة فارس ونحو من مائة راجل(١) وانفرد المسعودي بهذا القول ولم يذهب إليه أحد غيره.

٢ ـ ما رواه عمار الدهني عن أبي جعفر انهم كانوا خمسا وأربعين فارسا ومائة راجل(٢) .

٣ ـ ما ذكره ابن شهرآشوب انهم اثنان وثمانون رجلا الفرسان منهم اثنان وثلاثون(٣) .

__________________

(١) مروج الذهب ٣ / ١٠

(٢) البداية والنهاية ٨ / ١٩٧ ، تذهيب التهذيب ١ / ١٥١ ، الحدائق الوردية ١ / ١١٩ ، الصراط السوي (ص ٨٦).

(٣) المناقب ٤ / ٩٨

١٢٥

٤ ـ ما قاله سعد بن عبده : اني لأنظر إليهم وهم قريبون من مائة رجل فيهم من صلب علي خمسة أو سبعة وعشرة من بني هاشم ، ورجل من كنانة وآخر من سليم(١) .

٥ ـ ما ذكره ابن كثير والفاخوري انهم اثنان وثلاثون فارسا واربعون راجلا(٢)

والذي نراه انهم ثمانون رجلا بما فيهم من ابناء الأسرة النبوية والذي يدعم ذلك أن الرءوس التي احتزت وبعث بها إلى ابن مرجانة ويزيد بن معاوية كانت (٧٩) رأسا لا غير.

وعلى أي حال فان هؤلاء الأبطال على قلتهم كانوا كفؤا لذلك الجيش وقد الحقوا به افدح الخسائر وقد مثلوا بمواقفهم البطولية شرف العقيدة وسمو المبدأ.

رسول ابن سعد مع الامام :

وكان ابن سعد كارها لقتال الامام فاراد التخلص من ذلك ، فدعا عزرة بن قيس أن يلتقي بالامام ويسأله عما جاء به؟ فامتنع عزرة لأنه كان ممن كاتب الامام بالقدوم الى الكوفة ، فندب لمقابلته كثير بن عبد اللّه الشعبي وكان فاتكا جريئا فقال :

«أنا له وإن شئت أن افتك به لفعلت»

فلم يرض ابن سعد بذلك ، وانما طلب منه أن يمضي إليه ويسأله

__________________

(١) تذهيب التهذيب ١ / ١٥٦

(٢) البداية والنهاية ٨ / ١٨٧ ، تحفة الأنام في مختصر تأريخ الاسلام للفاخوري (ص ٨٣).

١٢٦

عما جاء به؟ وأقبل كثير يشتد نحو الامام ، ولما بصر به ابو ثمامة الصائدي ارتاب منه ، فقام في وجهه ، وطلب منه أن ينزع سيفه حتى يقابل الامام فأبى أن يسمح له بالدخول فولى منصرفا غضبانا(١) واخبر ابن سعد بذلك فطلب من قرة بن قيس الحنظلي ملاقاة الامام فأجابه ، فلما اقبل قال الامام لأصحابه :

«هل تعرفونه؟»

فأجابه حبيب بن مظاهر : نعم انه من بني تميم ، وقد كنت اعرفه بحسن الرأي ، وما ظننت أنه يشهد هذا المشهد!!

وتقدم قرة نحو الامام فسلم عليه ، وسأله عما جاء به؟ فقال (ع).

«إني لم أرد إلى هاهنا حتى كتب إلي أهل مصركم أن يبايعونني ، ولا يخذلوني ، وينصرونني ، فان كرهوني انصرف عنهم من حيث جئت».

وانبرى إليه حبيب فأسدى له النصيحة قائلا :

«يا قرة عهدي بك ، وأنت حسن الرأي في أهل البيت فما الذي غيّرك؟ فاقم عندنا وانصر هذا الرجل».

فقال قرة : لقد قلت الحق ولكن ارجع إلى صاحبي بجواب رسالته وانظر في ذلك ، وقفل قرة الى ابن سعد فعرض عليه كلام الامام(٢) وسر ابن سعد بذلك ورأى انه بالامكان التوصل لحل سلمي يجنبه من الخوض في معركة تطوق عنقه بالآثام والاوزار.

__________________

(١) الطبري ٦ / ٢٣٢

(٢) أنساب الأشراف ق ١ ج ١ ، الفتوح ٥ / ١٥٥ ـ ١٥٦

١٢٧

ابن سعد مع الامام :

وأراد ابن سعد التأكد من ذلك فطلب من الامام الاجتماع به فاجابه الى ذلك ، ولما مثل عنده قال له :

ـ ما جاء بك؟

ـ أهل الكوفة

ـ أما عرفت ما فعلوا معكم؟

ـ من خادعنا في اللّه انخدعنا له

ـ قد وقعت الآن فما ترى؟

ـ أرجع فأقيم بمكة أو بالمدينة ، أو أقيم ببعض الثغور

وفرح ابن سعد من موقف الامام ورأى فيه بادرة لاحلال السلام والتجنب من الحرب(١) .

رسالة ابن سعد لابن زياد :

وبادر ابن سعد فكتب رسالة الى أميره ابن مرجانة جاء فيها :

«أما بعد : فان اللّه اطفأ النائرة ، وجمع الكلمة ، وأصلح أمر الأمة. هذا حسين اعطاني عهدا أن يرجع الى المكان الذي منه أتى أو أن يسير الى ثغر من الثغور فيكون رجلا من المسلمين له مالهم ، وعليه ما عليهم أو ان يأتي امير المؤمنين يزيد فيضع يده في يده ، فيرى فيما بينه وبينه رأيه وفي هذا رضا لك ، وللأمة صلاح».

__________________

(١) الصراط السوي في مناقب آل النبي (ص ٨٧)

١٢٨

افتراء ابن سعد :

ومما لا شبهة فيه أن ابن سعد قد افترى على الامام الحسين في تلك الرسالة ، فان اكثر بنودها مما لم يفه به الامام (ع) وقد تحدث عن افتعالها عاقبة بن سمعان الذي صاحب الامام من المدينة إلى مكة ثم إلى العراق وظل ملازما له حتى قتل ، يقول :

«صحبت الحسين من المدينة إلى مكة ، ومنها إلى العراق ، ولم افارقه حتى قتل ، وقد سمعت جميع كلامه ، فما سمعت منه ما يتذاكر فيه الناس من أن يضع يده في يد يزيد ، لا أن يسير الى ثغر من الثغور لا في المدينة ولا في مكة ولا في العراق ولا في عسكره الى حين قتل ، نعم سمعته يقول : دعوني أذهب إلى هذه الأرض العريضة حتى انظر ما يصير إليه الناس»(١) .

ونفى الشيخ محمد الخضري صحة هذه الرسالة فقال : «وليس بصحيح الاعراض عليهم أن يضع يده في يد يزيد ، وانما عرض عليهم أن يدعوه أن يرجع إلى المكان الذي خرج منه»(٢) .

لقد افتعل ابن سعد هذه الرسالة ليتخلص من اثم المعركة ، ويكون بمنجى من قتل ريحانة رسول اللّه (ص) واو ان الامام قال ذلك لا نفض جيش ابن زياد وانتهى كل شيء لقد رفض الإمام منذ بداية الأمر الخضوع لعصابة الاجرام ، وصمد في وجه الاعاصير. ودلل في جميع مواقفه الخالدة على آبائه وعزة نفسه ، وصلابة ارادته.

__________________

(١) مرآة الزمان في تواريخ الأعيان (ص ٢٠).

(٢) تأريخ الأمة الاسلامية ١ / ٥١٥

١٢٩

افساد الشمر لمهمة السلام :

ولما وردت رسالة ابن سعد إلى ابن مرجانة استصوب رأيه ، ورأى فيه حلا للمشكلة وجمعا للكلمة ، وانه قد جنبه الحرب ، فطفق يقول باعجاب :

«هذا كتاب ناصح مشفق»

وكان شمر بن ذي الجوشن الى جانبه فضاق ذرعا بالأمر فقد عرف الخبيث بوضاعة النسب والحقد على ذوي الاحساب العريفة ، وكان قد حسد ابن سعد على امرته للجيش فاندفع باضرام نار الحرب ، فقال لابن مرجانة :

«أتقبل هذا منه؟ بعد ان نزل بأرضك ، واللّه لئن رحل من بلادك ، ولم يضع يده في يدك ، ليكونن أولى بالقوة ، وتكون أولى بالضعف والوهن».

والهبت هذه الكلمات الموقف ، ونسفت كل امل في الصلح والوئام فقد تفطن ابن زياد إلى أمر خطير قد خفي عليه ، وهو ان الامام اذا خلص منه ، ولم يبايع ليزيد ، والتحق بقطر من الأقطار ، فسوف يتبلور الموقف وتهب الأمة لحمايته من العصابة المجرمة ، وسيكون الطاغية أولى بالوهن والضعف والحسين أولى بالمنعة والقوة لأنه ابن رسول اللّه (ص) وريحانته ، وغابت هذه النقاط الحساسة عن ابن مرجانة ، فرأى في كلمات الشمر الاخلاص والنصيحة».

ولما رأى الشمر أنه قد سيطر على الموقف ، وافسد مهمة ابن سعد اندفع ليوهن مكانته عنده لعله ان يتخذ من ذلك وسيلة لاقصائه عن منصبه ويكون بمحله ، فقال له :

١٣٠

«واللّه لقد بلغني أن حسينا وابن سعد يجلسان بين العسكرين فيتحدثان عامة الليل»(١) .

ومعنى هذا أن شمرا قد جعل له استخبارات خاصة على ابن سعد لعله أن يقصر في اداء مهمته فينقل ذلك إلى السلطة لتقصيه عن منصبه ويتولى هو قيادة الجيش.

رفض ابن زياد الحلول السلمية :

ورفض ابن مرجانة جميع الحلول السلمية التي كتب بها ابن سعد ، وسد جميع نوافذ السلم والوئام ، وقد كتب إليه :

«أما بعد : فاني لم ابعثك للحسين لتكف عنه ، ولا لتطاوله ، ولا لتمنيه السلامة ، ولا لتكون له عندي شفيعا.

انظر فان نزل حسين وأصحابه على حكمي فابعث بهم إلي سلما ، وإن أبوا فازحف إليهم حتى تقتلهم وتمثل بهم فانهم لذلك مستحقون.

فان قتلت حسينا فأوطئ الخيل صدره وظهره ، ولست أرى انه يضر بعد الموت ، ولكن على قول قلته لو قتلته لفعلت هذا به ، فان أنت مضيت لأمرنا فيه جزيناك جزاء السامع المطيع ، وإن أبيت فاعتزل عملنا وجندنا وخل بين شمر بن ذي الجوشن وبين العسكر فانا قد أمرناه بذلك»(٢) .

__________________

(١) البداية والنهاية ٨ / ١٧٥

(٢) تأريخ ابن الأثير ٣ / وقريب منه جاء في انساب الأشراف ق ١ ج ١ ، وجاء في تذهيب التهذيب ١ / ١٥١ ان ابن زياد كتب لابن سعد «لا ولا كرامة حتى يضع يده في يدي» فقال الحسين : لا يكون ذلك أبدا».

١٣١

وكانت هذه الرسالة صارمة لا رحمة فيها ، ومحتوياتها ما يلي :

١ ـ انها قصرت صلاحية ابن سعد على عمليات الحرب والقتال ، ولم تمنحه أي صلاحية لاجراء الصلح او المفاوضة مع الامام.

٢ ـ وعرضت ان الامام اذا استجاب للصلح فعليه أن ينزل ضارعا لحكم ابن مرجانة لينال نصيبه منه فان شاء عفا عنه وان شاء قتله ، وقد اراد أن يمثل الامام عنده كأسير او مذنب ليسترحمه.

٣ ـ ان الامام إذا لم يستجب للنزول على حكمه فعلى ابن سعد أن يسارع الى قتله والتمثيل به.

٤ ـ انه هدده بالعزل عن منصبه إذا تردد في تنفيذ ما عهد إليه وعليه أن يسلم جميع مهام الجيش إلى شمر بن ذي الجوشن ليقوم بتنفيذ ما عهد إليه.

ويقول المؤرخون : ان ابن زياد جعل يقول : «الآن وقد علقت مخالبنا به يرجو النجاة ولات حين مناص» وأسرع الشمر وهو جذلان مسرور ، وجعل يجذ في السير ليصل لابن سعد لعله لا يستجيب لأوامر ابن مرجانة فيكون هو الأمير على الجيش ، ووصل الشمر إلى كربلا وكان ابن سعد مستنقعا في الفرات ، فبادر إليه رجل فقال له :

«قد بعث إليك جويرة بن بدر التميمي وأمره إن أنت لم تقاتل ان يضرب عنقك.

ووثب ابن سعد الى ثيابه فلبسها(١) والتفت الى شمر بن ذي الجوشن وقد عرف انها من مكيدته فقال له :

«ويلك لا قرب اللّه دارك ، وقبح اللّه ما جئت به ، واني لأظن

__________________

(١) تأريخ الاسلام للذهبي ٢ / ٣٤٨

١٣٢

أنك الذي نهيته ، وأفسدت علينا أمرا رجونا أن يصلح واللّه لا يستسلم حسين فان نفس أبيه بين جنبيه».

فأجابه الشمر

«اخبرني ما أنت صانع أتمضي لأمر أميرك؟ والا فخل بيني وبين العسكر ..».

واستسلم ابن سعد لهواه واطماعه فرضى أن يبقى قائدا لجيش ظلوم فقال له :

«لا ولا كرامة ، ولكن أتولى الأمر»(١)

وظل الشمر رقيبا على ابن سعد لعله أن يقصر في أوامر سيده ابن مرجانة ليتولى هو قيادة الجيش ، وبعث ابن سعد بجواب ابن زياد إلى الامام ، فقال (ع) :

«لا واللّه ما وضعت يدي في يد ابن مرجانة»(٢) .

الامام مع ابن سعد :

وطلب الامام من ابن سعد الاجتماع به ، فاجابه ـ على كره ـ فالتقى معه ليلا ، وعقد معه اجتماعا مغلقا لم يحضره الا العباس وعلي الأكبر من جانب الحسين ومع ابن سعد حفص وغلام لابن سعد ، فقال الامام له :

«يا ابن سعد أتقاتلني؟ أما تتقي اللّه الذي إليه معادك ، فاني ابن من قد علمت ، ألا تكون معي وتدع هؤلاء فانه اقرب الى اللّه تعالى».

والقى ابن سعد معاذيره الواهية قائلا :

__________________

(١) انساب الأشراف ق ١ ج ١

(٢) الصراط السوي في مناقب آل النبي (ص ٨٧)

١٣٣

ـ أخاف ان تهدم داري

ـ أنا ابنيها

ـ أخاف ان تؤخذ ضيعتي

ـ أنا اخلف عليك خيرا منها في الحجاز

ـ ان لي بالكوفة عيالا وأخاف عليهم من ابن زياد القتل

ولم يجد منه الامام أي تجاوب ، وانما رأى منه اصرارا على الغي والعدوان فاندفع يدعو عليه :

«مالك ذبحك اللّه على فراشك عاجلا ، ولا غفر لك يوم حشرك ، فو اللّه اني لأرجو أن لا تأكل من بر العراق الا يسيرا».

وولى ابن سعد ، وهو يقول للامام بسخرية : ان في الشعير كفاية(١)

أمان الشمر لأخوة العباس :

وظن الخبيث الأبرص شمر بن ذي الجوشن ان يقنع أخوة الحسين بالعدول عن نصرة أخيهم فحمل لهم امانا من عبيد اللّه بن زياد ، وجاء يشتد حتى وقف أمامهم ، وهتف مناديا

«اين بنو اختنا العباس واخوته؟»

وهبت إليه الفتية كالأسود ، فقالوا له :

«ما تريد يا ابن ذي الجوشن؟»

«لكم الأمان»

وصاحوا به وهم يتميزون من الغيظ قائلين :

__________________

(١) البداية والنهاية ٨ / ١٧٥

١٣٤

«لعنك اللّه ولعن أمانك ، أتؤمننا ، وابن بنت رسول اللّه (ص) لا أمان له»(١) .

وولى الأثيم خائبا ، وقد ظن أن اخوة الامام من طراز أصحابه الممسوخين ، ولم يعلم انهم من افذاذ الدنيا الذين صاغوا الكرامة الانسانية وصنعوا الفخر والمجد للانسان.

منع الامدادات :

وفرض ابن سعد الحصار على الامام الحسين (ع) فأحاط بجميع الطرق مخافة أن يصل إليه أي امداد من الخارج ، وقد احكم هذه الجهة حتى صار من غير الممكن أن يلتحق أي أحد بمعسكر الامام أو يوصلهم بأي امداد.

احتلال الفرات :

وأخطر عملية قام بها ابن سعد احتلاله لنهر الفرات فقد صدرت إليه الأوامر المشددة من ابن مرجانة بمنع الماء عن الامام الحسين وأهل بيته وأصحابه فلا يذوقوا منه قطرة واحدة ، كما صنع بعثمان بن عفان ، وارسل قوة عسكرية تتألف من خمسمائة فارس ، وقيل أربعة آلاف فارس بقيادة عمرو بن الحجاج فاحتلوا جميع الشرائع والأنهار المتفرعة من نهر الفرات ، وأوصدوا على الحسين وأصحابه باب الورود إلى الماء ، وفيما احسب أنه انما اتخذ هذا الاجراء القاسي الرهيب لما يلي :

__________________

(١) أنساب الأشراف ق ١ ج ١

١٣٥

أولا : الاضرار بمعسكر الامام حتى لا تكون عندهم أية قدرة أو مقاومة على الحرب ، فلا تصاب قواته بالخسائر.

ثانيا : سد الطريق امام من يحاول الالتحاق بالحسين عن طريق الماء

ثالثا : المبالغة في التشفي والانتقام من الأسرة النبوية لما فعله المسلمون بعثمان يوم الدار حينما حوصر ، ومنعوا عنه الماء ، ولكن الحسين فيما اجمع عليه المؤرخون قد حمل الماء إليه حينما حوصر وقد تنكر الأمويون لهذه اليد التي اسداها الامام عليهم.

رابعا : ان ابن زياد كان يأمل بهذا الاجراء ان يستسلم الامام ويخضع لأوامره هذه بعض الأسباب التي دعت ابن مرجانة لاصدار اوامره باحتلال الفرات ، ومنع الماء عن الحسين وأصحابه.

ويقول المؤرخون : انه حيل بين الحسين وبين الماء قبل قتله بثلاثة أيام(١) ، وكان اعظم ما عاناه الامام من المحن الشاقة مشاهدة اطفاله وحرائر الرسالة ، وهم يعجون من ألم الظمأ القاتل ، فقد كان الاطفال ينادون : الماء الماء

ولم يستطع الأطفال مقاومة العطش ، وكانوا ينظرون إلى الفرات وهو فياض بمائه ، فيزداد صراخهم ، وذاب قلب الامام رحمة وحنانا لذلك المشهد الرهيب ، فقد ذبلت شفاه اطفاله ، وذوى عودهم ، وجف لبن المراضع. بينما ينعم اولئك الجفاة بالماء ، يقول أنور الجندي :

وذئاب الشرور تنعم بالماء

وأهل النبي من غير ماء

يا لظلم الأقدار يظمأ قلب الليث

والليث موثق الأعضاء

وصغار الحسين يبكون في الصحراء

يا رب اين غوث القضاء

__________________

(١) مرآة الزمان في تواريخ الأعيان (ص ٨٩) أنساب الأشراف ق ١ ج ١.

١٣٦

ان جميع الشرائع والمذاهب لا تبيح منع الماء عن الأطفال والنساء ، وخصوصا الشريعة الاسلامية ، فقد جعلت الناس جميعا شركاء في الماء والكلاء ، وسوغت الشرب من الانهار المملوكة حتى لو لم يأذن أربابها وكرهت أشد الكراهة ذبح الحيوان الأعجم عطشانا ، لكن الجيش الأموي لم يحفل بذلك ، واستباح جميع ما حرمته الشرائع والأديان.

لقد تنكر اولئك الجفاة لليد البيضاء التي أسداها الامام على مقدمة جيوشهم التي كانت تتألف من الف فارس بقيادة الحر لالقاء القبض على الامام والحصار عليه في البيداء ، وكان قد بلغ بهم العطش كل مبلغ حتى أشرفوا على الهلاك ، وكان باستطاعته أن يبيدهم عطشا فأبت مروءته ورحمته أن يعاملهم بالقسوة فأمر فتيانه وهو معهم فسقاهم عن آخرهم كما أمر بسقي خيولهم وترشيفها على أنه كان في حاجة إلى الماء لأنه في وسط الصحراء اللاهبة ، ولم يقدر اولئك الاجلاف هذه النجدة فحرموه من الماء وحرموا من كان في كنفه من سيدات أهل البيت واحفاد النبي (ص).

الطباع اللئيمة :

وأخذ اولئك الممسوخون يتباهون ويتفاخرون باستيلائهم على ماء الفرات وحرمان ريحانة رسول اللّه (ص) منه ، ومن بينهم :

١ ـ المهاجر بن أوس

وانبرى المهاجر بن أوس التميمي صوب الامام رافعا صوته :

«يا حسين ألا ترى الى الماء يلوح كأنه بطون الحيات ، واللّه لا تذوقه او تموت» فرد عليه الامام :

«إني لأرجو ان يوردنيه اللّه ويحلئكم عنه»(١)

__________________

(١) أنساب الاشراف ق ١ ج ٢

١٣٧

٢ ـ عمرو بن الحجاج

واقبل عمرو بن الحجاج ، وكان ممن كاتب الحسنين بالقدوم إلى الكوفة حتى قرب من معسكر الحسين فرفع صوته :

«يا حسين هذا الفرات تلغ فيه الكلاب ، وتشرب فيه الحمير والخنازير ، واللّه لا تذوق منه جرعة حتى تذوق الحميم في نار جهنم»(١)

٣ ـ عبد اللّه بن حصين

وأقبل عبد اللّه بن حصين الأزدي يشتد كأنه الكلب نحو الامام فنادى :

«يا حسين الا تنظر إلى الماء كأنه كبد السماء ، واللّه لا تذوق منه قطرة حتى تموت عطشا».

فرفع الامام يديه بالدعاء عليه وقال :

«اللهم اقتله عطشا ، ولا تغفر له أبدا»(٢)

لقد فخر اولئك الأجلاف باحتلالهم لماء الفرات ، تقربا لسيدهم ابن مرجانة وارضاء لعواطفه لينالوا جوائزه وهباته.

الانكار على ابن سعد :

وأنكر جماعة من أصحاب الامام الحسين وغيرهم على ابن سعد منعه الماء عن ريحانة رسول اللّه (ص) فقد كان ذلك احط اسلوب في الانتقام فقد اشرف اطفال الحسين على الهلاك وهم يرون الماء امامهم ، وليس هناك من سبب يدعو إلى هذا الانتقام الا الخسة والوحشية المتأصلة في نفوس ذلك الجيش ، ومن بين المنكرين عليه.

__________________

(١) أنساب الأشراف ق ١ ج ١

(٢) انساب الأشراف ق ١ ج ١ الصراط السوي في مناقب آل النبي (ص ٨٦).

١٣٨

١ ـ يزيد بن حصين

وخرج يزيد بن الحصين فقال لابن سعد : «هذا الفرات تشرب منه الكلاب ، وهذا الحسين بن بنت رسول اللّه (ص) وأهل بيته عطاشى وأنت تزعم انك تعرف اللّه ورسوله؟!».

واطرق ابن سعد بوجهه الخبيث إلى الأرض ، ولم يتكلم بشيء(١)

٢ ـ برير بن خضير

وانطلق برير بن خضير الهمداني نحو ابن سعد فرفع صوته قائلا :

«يا عمر أتترك بيت النبوة يموتون عطشا» وحلت بينهم وبين الفرات أن يشربوا منه ، وتزعم انك تعرف اللّه ورسوله».

فأجابه ابن سعد

«اني واللّه اعلم يا برير ان قاتلهم إلى النار ، ولكن تشير علي أن اترك ولاية الري فتصير إلى غيري ، ما أجد نفسي تجيبني إلى ذلك أبدا»(٢) .

٣ ـ الحر

وحينما التحق الحر بمعسكر الامام وتاب على يده خرج الى جيش ابن سعد فرفع صوته قائلا :

«يا أهل الكوفة لأمكم الهبل والعبر اذ دعوتموه ، وأخذتم بكظمه

__________________

(١) أخبار الدول للقرماني (ص ١٠٨) وسيلة المال في عد مناقب الآل (ص ٢٩٠) مطالب السئول (ص ٧٦).

(٢) الفتوح ٥ / ١٧٢

١٣٩

واحطتم به من كل جانب فمنعتموه التوجه الى بلاد اللّه العريضة حتى يأمن وأهل بيته ، واصبح كالأسير في ايديكم لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا ، وملأتموه ونساءه وصبيته وصحبه عن ماء الفرات الجاري الذي تشربه اليهود والنصارى والمجوس وتمرغ فيه خنازير السواد وكلابه ، وها هم قد صرعهم العطش بئسما خلفتم محمدا في ذريته لا سقاكم اللّه يوم الظمأ»(١) .

ولم يجد معهم هذا الانكار ، واصروا على بغيهم وعنادهم فحرموا أبناء النبي (ص) من الماء حتى صرعهم العطش.

العثور على عين ماء :

واضر العطش بأهل البيت فتصارخت الاطفال ، والعيال ، وقام الامام (ع) فأخذ فأسا وحفر حول خيمة النساء فنبعت عين ماء عذب فشربوا منها إلا انها لم تلبث الا قليلا حتى غارت ونقلت الاستخبارات لابن زياد ذلك فتميز غيظا فأرسل الى ابن سعد رسالة جاء فيها :

«بلغني أن الحسين يحفر الآبار ، ويصيب الماء فيشرب هو وأصحابه فانظر اذا ورد عليك كتابي فامنعهم من حفر الآبار ما استطعت ، وضيق عليهم غاية التضييق».

وفرض ابن سعد الرقابة الشديدة على حفر الآبار ، كما أحاط نهر الفرات بمزيد من الحرس والجنود مخافة أن يأتي أحد منهم فيشرب منه الماء(٢) .

__________________

(١) تأريخ ابن الأثير ٣ / ٢٨٩

(٢) مقتل الخوارزمي ١ / ٢٤٤ ، الفتوح ٥ / ١٦٢ ، بغية النبلاء.

١٤٠

القتال على الماء :

والتاع الامام كأشد ما تكون اللوعة الما ومحنة حينما رأى أطفاله وأهل بيته وهم يستغيثون من الظمأ القاتل ، فندب أخاه وابن والده أبا الفضل العباس لتحصيل الماء فانبرى البطل العظيم ، وصحب معه ثلاثين فارسا وعشرين راجلا ، وحملوا معهم عشرين قربة ، واقتحموا بأجمعهم نهر الفرات ، وقد تقدمهم نافع بن هلال المرادى ، فاستقبله عمرو بن الحجاج الزبيدي ، وكان هو المسئول عن حراسة الفرات ، فقال له :

ـ ما جاء بك؟

ـ جئنا لنشرب من هذا الماء الذي حلأتمونا عنه

ـ اشرب هنيئا

ـ افأشرب والحسين عطشان ومن ترى من أصحابه

ـ لا سبيل الى سقي هؤلاء انما وضعنا بهذا المكان لنمنعهم الماء ولم يحفل به أصحاب الامام ، فاقتحموا الفرات ليملئوا قربهم فثار عليهم عمرو بن الحجاج مع مفرزة من جنوده ، والتحم معهم العباس ونافع ابن هلال ، ودارت بينهم معركة إلا انه لم يقتل فيها أحد وعاد أصحاب الامام بعد أن ملأوا قربهم من الماء وقيل انهم لم يعودوا إلا بشيء يسير منه(1) واروى العباس عطاشى أهل البيت وأنقذهم من الظمأ ، ولقب من ذلك اليوم بالسقاء وهو من أشهر القابه ذيوعا ، ومن أحبها عنده.

استنجاد حبيب بأسرته :

وكان حبيب بن مظاهر من أفذاذ اصحاب الحسين ومن اكثرهم اخلاصا وولاء له ، ولما رأى وحدة الامام وتظافر القوى الغادرة على

__________________

(1) أنساب الأشراف ق 1 ج 1

١٤١

حربه طلب منه ان يأذن له ليستنجد بأسرته من بني أسد ليحضون بالجهاد بين يديه قائلا :

«إن هاهنا حيا من بني أسد أعرابا ينزلون (بالنهرين) وليس بيننا وبينهم إلا رواحة أفتأذن لي في اتيانهم ودعائهم ، لعل اللّه أن يجد بهم إليك نفعا أو يدفع عنك مكروها».

فاذن له الامام فانطلق مسرعا إليهم ، ولما مثل عندهم قال :

«إني ادعوكم إلى شرف الآخرة وفضائلها وجسيم ثوابها أنا ادعوكم الى نصرة ابن بنت رسول اللّه نبيكم (ص) فقد اصبح مظلوما ، دعاه أهل الكوفة لينصروه فلما أتاهم خذلوه وعمدوا عليه ليقتلوه».

فاستجاب له سبعون شخصا(1) وكان من بينهم عبد اللّه بن بشر الأسدي ، فقال : أنا أول من يجيب هذه الدعوى ثم جعل يرتجز.

قد علم القوم اذا تواكلوا

واحجم الفرسان او تثاقلوا

اني شجاع بطل مقاتل

كأنني ليث عرين باسل(2)

وخفوا الى نصرة الامام الا انه كان في المجالس عين لابن سعد فأسرع إليه وأخبره بذلك ، فجهز مفرزة من جيشه بقيادة جبلة بن عمر فحالوا بينهم وبين الالتحاق بالحسين ، فرجع حبيب حزينا فأخبر الامام بذلك فقال : «الحمد للّه كثيرا»(3) وظل الامام مع اصحابه وهم يعانون أشد الضيق من الحصار الذي فرض عليهم ، وينتظرون الأحداث الرهيبة التي يلاقونها على صعيد كربلا.

__________________

(1) في رواية تسعون شخصا

(2) بغية النبلاء الجزء الثاني

(3) انساب الأشراف ق 1 ج 1

١٤٢

مع المعسكرين

١٤٣
١٤٤

وعلى الصعيد الطيب من ارض كربلا التحمت القوى الغادرة مع جنود اللّه وخلايا التوحيد الذين شرح اللّه صدورهم للايمان فناظلوا وهم على يقين بعدالة قضيتهم على العكس من خصومهم الذين كانوا تملكهم الحيرة والقلق النفسي فكانوا يقاتلون وهم على علم بضلالة قصدهم وانحرافهم عن الطريق القويم ، ولا بد لنا من وقفة قصيرة للتحدث عن كلا المعسكرين.

المعسكر الحسيني :

أما المعسكر الحسيني فانه كان يمثل شرف الانسان ، ويمثل القيم الكريمة والاتجاهات العظيمة التي يسمو بها كل انسان نبيل ، وحسبه أنه وحده في تأريخ هذه الدنيا قد كتب له الخلود والبقاء فليس في اسرة شهداء العالم مثل شهداء كربلا شرفا ومجدا واندفاعا في نصرة الحق ، وتفانيا في سبيل العدل ، ونشير إلى بعض المظاهر من أهدافهم وذاتياتهم.

الأهداف العظيمة :

أما الأهداف العظيمة التي رفعوا شعارها ، وناظلوا ببسالة وايمان من أجلها فهي :

1 ـ الدفاع عن الاسلام :

وهبّ أنصار الامام بكل اخلاص وايمان للدفاع عن الاسلام وصيانة مبادئه التي استهترت بها السلطة الأموية ، وقد اخلصوا في دفاعهم كاعظم وأروع ما يكون الاخلاص ، وأدلة ذلك متوفرة في جميع مواقفهم المشرفة

١٤٥

فالعباس (ع) الذي كان من أمس الناس رحما بالامام والصقهم به لم يندفع بتضحيته الفذة بدافع الاخوة وغيرها من الاعتبارات الخاصة ، وانما اندفع بحماس لحماية الاسلام ، وحماية أمام من أئمة المسلمين فرض اللّه مودته وطاعته على الناس أجمعين ، وقد أدلى بذلك في ميدان القتال بعد أن برى القوم يمينه فقال مرتجزا :

واللّه إن قطعتم يميني

اني أحامي أبدا عن ديني

وعن امام صادق يقيني

نجل النبي الطاهر الأميني

ومعنى هذا الرجز ـ بوضوح ـ انه لم يندفع بجهاده بدافع الاخوة ، وانما اندفع لحماية الدين ، وحماية امام صادق على سبيل اليقين ، واعلن غير العباس من أصحاب الامام هذه الحقيقة.

لقد غذاهم ابو عبد اللّه (ع) بروحه وهديه ، وغمرهم بأخلاقه فابتعدت ارواحهم عن الدنيا وتجردوا من مادية الجسد ، وتحررت قلوبهم وعواطفهم من شواغل الحياة فأي معلم كان الحسين؟ وأي مدرسة ملهمة كانت مدرسته؟ وهل تستطيع أجيال الدنيا ان توجد مثل هذا الطراز ايمانا باللّه ، واخلاصا للحق.

2 ـ حماية الامام والدفاع عنه :

وهناك ظاهرة خاصة أخرى من اهداف اصحاب الامام وهي حماية الامام من أولئك الوحوش الذين تضافروا على قتله ، وقد تفانى اصحاب الامام في الولاء والاخلاص له ، وضربوا بذلك اروع الأمثلة للوفاء ، فهذا مسلم بن عوسجة ، وهو من افذاذ انصار الامام لما برز الى القتال ،

١٤٦

ووقع صريعا على الأرض قد تناهبت السيوف والرماح جسمه مشى إليه الامام مع حبيب بن مظاهر وكان البطل يعاني آلام الاحتضار ، فطلب منه حبيب أن يوصي إليه بما أهمه ، فقال له بصوت خافت حزين النبرات :

«أوصيك بهذا ـ وأشار الى الامام ـ أن تموت دونه»(1)

أي وفاء هو معرض للزهو والفخار مثل هذا الوفاء؟ لقد أعطى لأجيال الدنيا الدروس في الولاء الباهر للحق ، فهو في لحظاته الأخيرة ، وحشرجة الموت في صدره لم يفكر الا بالامام ، وأعرض عن كل شيء في حياته.

وهذا البطل العظيم سويد بن أبي المطاع الذي هو من أنبل الشهداء وأصدقهم في التضحية هوى جريحا في المعركة فتركه الأعداء ، ولم يجهزوا عليه لظنهم انه قد مات ، فلما تنادوا بمصرع الامام لم يستطع أن يسكن لينجو ، فقام والتمس سيفه فاذا هم قد سلبوه ، ونظر الى شيء يجاهد به فوقعت يده على مدية ، فأخذ يوسع القوم طعنا فذعروا منه ، وحسبوا أن الموتى أعيدت لهم حياتهم ليستأنفوا الجهاد ثانيا مع الامام ، فلما تبين لهم ان الأمر ليس كذلك ، انعطفوا عليه فقتلوه ، فكان ـ حقا ـ هذا هو الوفاء في اصحاب الامام حتى الرمق الأخير من حياتهم.

ولم يقتصر هذا الوفاء على الرجال ، وانما سرى إلى النساء اللاتي كن في المعركة ، فكانت المرأة تسارع إلى ابنها تتضرع إليه ليستشهد بين يدي الامام ، والزوجة تسارع الى زوجها ليدافع عن الامام ، وهن لم يحفلن بما يصيبهن من الثكل والحداد.

ومما يثير الدهشة ان الاطفال من الأسرة النبوية قد اندفعوا نحو الامام وهم يقبلون يديه ورجليه ليمنحهم الأذن في الشهادة بين يديه ،

__________________

(1) الطبري 6 / 249

١٤٧

ومن بينهم عبد اللّه بن الحسن وكان له من العمر احدى عشر سنة لما رأى الأعداء قد اجتمعوا على قتل عمه لم يستطع صبرا وأسرع فاندفعت عمته زينب لتمسكه فامتنع عليها ، واخذ يركض حتى انتهى إلى عمه ، وقد اهوى ابحر بن كعب بسيفه ليضرب الامام فصاح به الغلام.

«يا ابن الخبيثة أتضرب عمي؟»

فانعطف عليه الخبيث الدنس فضربه بالسيف على يده فاطنها إلى الجلد فاذا هي معلقه(1) ورمى الغلام بنفسه في حجر عمه فسدد له حرملة سهما غادرا فذبحه وهو في حجر عمه لقد استلذ الموت في سبيل عمه ...

وكثير من أمثال هذه الصور الرائعة التي لم تمر على شاشة الدهر قد ظهرت من أصحاب الحسين وأهل بيته.

3 ـ تحرير الامة من الجور :

وكان من أهداف معسكر الامام الحسين تحرير الأمة من طغيان الأمويين وجورهم فقد أذاعوا الظلم واشاعوا الفساد في جميع انحاء العالم الاسلامي ، وقد هبّ اصحاب الامام للاطاحة بذلك الحكم ، واعادة حكم الاسلام ، وقد ألمعنا الى ذلك بصورة موضوعية وشاملة عند البحث عن أسباب ثورة الامام.

النزعات الفذة :

وتمتع اصحاب الحسين بكل نزعة كريمة قد امتازوا بها على غيرهم من سائر الناس ، ومن بينها :

__________________

(1) الطبري 6 / 259

١٤٨

1 ـ الاباء والعزة

ومن ذاتيات اولئك الأحرار الاباء وعزة النفس فقد استطابوا الموت في سبيل كرامتهم ، يقول سيد الأباة الامام الحسين : «واللّه لا أرى الموت الا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برما» ويقول ولده البار علي الأكبر في رجزه الذي كان نشيدا له يوم الطف :

أنا علي بن الحسين بن علي نحن ورب البيت أولى بالنبي

واللّه لا يحكم فينا ابن الدعي

لقد افرغ الامام الحسين على اصحابه واهل بيته قبسا من روحه فاستقبلوا الموت بسرور من اجل العزة والكرامة والإباء.

2 ـ البسالة والصمود

وظاهرة أخرى من نزعات معسكر الامام هي البسالة ، فقد كانوا من اندر ابطال العالم فهم على قلتهم قد صمدوا في وجه ذلك الجيش الجبار فحطموا معنوياته ، وانزلوا به افدح الخسائر ، يقول المؤرخ الانكليزي «پرس سايكس» : «ان الامام الحسين وعصبته المؤمنة القليلة عزموا على الكفاح حتى الموت ، وقاتلوا ببطولة وبسالة ظلت تتحدى اعجابنا واكبارنا عبر القرون حتى يومنا هذا»(1) .

لقد غمرهم الامام بمعنوياته وروحه الوثابة ، ومن الطبيعي ان لشخصية القائد أثرا مهما في بث الروح المعنوية في نفوس الجيش ، فان جهاز القيادة انما هو رمز السلطة التي تدفع بالجنود الى القتال(2) وقد اندفع اصحاب

__________________

(1) تأريخ ايران لپرس سايكس

(2) علم النفس العسكرى 1 / 36

١٤٩

الامام بعزم ثابت لا يعترف بالعقبات ولا بالحواجز نحو الجيش الأموي حتى ضاقت عليه الأرض ، ولاذ اكثرهم بالهزيمة ، يقول بعض جنود ابن زياد لشخص عاب عليه اشتراكه في حرب الامام :

«عضضت بالجندل انك لو شهدت ما شهدنا لفعلت ما فعلنا ثارت علينا عصابة أيديها في مقابض سيوفها كالأسود الضاربة تحطم الفرسان يمينا وشمالا ، وتلقي انفسها على الموت لا تقبل الامان ، ولا ترغب في المال ، ولا يحول حائل بينها وبين الورود على حياض المنية أو الاستيلاء على الملك ، فلو كففنا عنها رويدا لأنت على نفوس المعسكر بحذافيره فما كنا فاعلين لا أم لك»(1) .

وكان كعب بن جابر الأزدى من جنود ابن زياد ، وقتل سيد القراء في الكوفة بربر بن خضير ، واعان على قتل سيد الشهداء ، وقد نظم مقطوعة اشاد فيها بشجاعة اصحاب الامام يقول :

سلي تخبرى عني وأنت ذميمة

غداة حسين والرماح شوارع

ألم أت اقصى ما كرهت ولم يخل

على غداة الروع ما أنا صانع(2)

معي يزني لم تخنه كعوبه

وابيض مخشوب الغرارين قاطع(3)

فجردته في عصبة ليس دينهم

بديني واني بابن حرب لقانع(4)

__________________

(1) شرح النهج 3 / 263

(2) الروع : الحرب

(3) يزنى : رمح منسوب الى ذى يزن أحد ملوك حمير ، الكعوب : ما بين الانابيب ، أبيض : السيف مخشوب الغرارين : أى مشحوذ الحدين.

(4) ابن حرب : اراد به معاوية

١٥٠

اشد قراعا بالسيوف لدى الوغا

الا كل من يحمي الدمار مقارع(1)

وقد صبروا للضرب والطعن حسرا

وقد نازلوا لو أن ذلك نافع

فابلغ عبيد اللّه اما لقيته

باني مطيع للخليفة سامع

قتلت بربرا ثم حملت نعمة

أبا منقذ لما دعا من يماصع(2)

وقد أبدى كعب اعجابه البالغ ببسالة أصحاب الامام فهو ولا غيره لم يشاهدوا مثلهم في شجاعتهم وصمودهم ، فقد صبروا على الضرب والطعن ، وملاقاة الحتوف وكان من شجاعتهم النادرة ـ فيما يقول بعض المؤرخين ـ انه ما انهزم واحد منهم ، ولا قتل الا وهو مقبل غير مدبر ، وقد بذلوا قصارى ما يمكن من البطولة والشجاعة والثبات ، وصدق النية ومضاء العزيمة لحماية الامام والدفاع عنه ، وقد نهى عمرو بن الحجاج الزبيدي عن مبارزتهم يقول لأهل الكوفة :

«أتدرون لمن تقاتلون؟ تقاتلون فرسان المصر وأهل البصائر ، وقوما مستميتين لا يبرز إليهم احد منكم الا قتلوه على قلتهم»(3) .

وقد حفل كلامه بالصفات الماثلة فيهم ، ومن بينها :

أ ـ انهم فرسان اهل الكوفة ، بل هم فرسان العرب على الاطلاق

ب ـ انهم من ذوي البصائر الحية ، والنفوس اليقظة وقد خفوا لنصرة الامام على بصيرة من أمرهم لا طمعا في المال ولا الجاه.

ج ـ انهم يقاتلون قتال المستميت الذي لا أمل له في الحياة ، وهم بذلك أقدر على انزال الهزيمة باعدائهم الذين تطعموا بالخيانة والغدر.

ويقول العقاد في بسالتهم : «وكان مع الحسين نخبة من فرسان

__________________

(1) القراع : المضاربة

(2) يماصع : يقاتل

(3) الطبري 6 / 249

١٥١

العرب كلهم لهم شهرة بالشجاعة والبأس ، وسداد الرمي بالسهم ، ومضاء الضرب بالسيف ، ولن تكون صحبة الحسين غير ذلك بداهة وتقديرا ، لا يتوقفان على الشهرة الذائعة والوصف المتواتر لأن مزاملة الحسين في تلك الرحلة هي وحدها آية على الشجاعة في ملاقاة الموت»(1) .

انه من المؤكد انه ليس هناك أحد من أصحاب الامام من يطمع في عرض من اعراض الدنيا ، ولا يلتمس أجرا غير ثواب اللّه والدار الآخرة ...

عناصر جيش الامام :

ويتألف جيش الامام من عنصرين وهما :

1 ـ المولي

أما الموالي فكانوا على علاقة وثيقة بالامام الحسين (ع) نظرا للسياسة للعادلة التي تبناها الامام امير المؤمنين فيهم ، ولو كانت الظروف متهيأة لهم لالتحق القسم الكبير منهم بالامام ، وقد ضم جيشه من يلي منهم :

1 ـ سليمان مولى للحسين

2 ـ قارب الدئلي مولى للحسين

3 ـ الحارث بن نبهان مولى لحمزة بن عبد المطلب

4 ـ سجح مولى للحسين(2)

5 ـ عامر بن مسلم مولى لسالم

6 ـ جابر بن الحجاج مولى لعامر بن نهشل

7 ـ سعد مولى لعمر بن خالد الصيداوي

__________________

(1) ابو الشهداء (ص 215)

(2) قتله حسان بن بكر الحنظلي

١٥٢

8 ـ رافع مولى لأهل شنوة

9 ـ شوذب مولى لشاكر بن عبد اللّه الهمداني الشاكري(1)

10 ـ اسلم التركي مولى للحسين(2)

11 ـ جون مولى ابي ذر الغفاري(3)

12 ـ زاهر مولى لعمرو بن الخزاعي(4)

وهؤلاء الموالي الذين فاقوا الأحرار في شرفهم واندفاعهم لنصرة الحق قد فازوا بنصرة سيد شباب اهل الجنة ونعموا بالشهادة بين يديه.

العرب

وبقية انصار الحسين الممجدين كانوا من العرب واكثرهم من سكان الكوفة ، واما من البصرة فانه لم يستشهد معه الا عدد قليل ، كما التحق به من الحجاز الصحابي الكبير انس بن الحارث الكاهلي.

وبهذا ينتهي بنا الحديث على معسكر الحسين.

المعسكر الأموى :

أما المعسكر الأموي فقد كانوا مجموعة من الخونة وباعة الضمير وليس فيهم أي انسان شريف ، كما كانوا على يقين لا يخامره أدنى شك في ضلالة قصدهم ، وانحرافهم عن الطريق القويم وهذه بعض مظاهر ما اتصفوا به.

__________________

(1) الحدائق الوردية 1 / 125 ـ 126

(2) اعيان الشيعة قسم الأول / 126

(3) بحار الأنوار 45 / 22

(4) المناقب 4 / 113

١٥٣

1 ـ فقدان الارادة :

والظاهرة البارزة في ذلك الجيش فقدانه لارادته واختياره ، فقد كان اكثرهم ـ فيما يقول المؤرخون ـ قلوبهم مع الامام ، وسيوفهم مشهورة عليه ، لقد خفوا الى حرب من يعتقدون بعدالة قضيته ، وانه وحده الذي يحقق أهدافهم وما يصبون إليه ، ولو كان عندهم ذرة من الشعور والاحساس لفدوه بارواحهم ، ونفوسهم ، وما خانوه بعد ما عاهدوا اللّه في نصرته والذب عنه.

2 ـ القلق والحيرة :

واستوعبت الحيرة وخيانة النفس نفوس الكثيرين من المعسكر الأموي فقد كانوا على يقين أنهم على مزلقة الباطل ، وان الحسين وأصحابه على جادة الحق ، وقد أدلى شبث بن ربعي ، وهو احد زعماء ذلك الجيش ، ومن اركانه القياديين بهذه الظاهرة يقول :

«قاتلنا مع علي بن أبي طالب ، ومع ابنه الحسن من بعده آل أبي سفيان خمس سنين ، ثم عدونا على ولده وهو خير أهل الأرض نقاتله مع آل معاوية وابن سمية الزانية ، ضلال يا لك من ضلال!! واللّه لا يعطي اللّه اهل هذا المصر خيرا ابدا ، ولا يسددهم لرشد».

وكشفت هذه الكلمات عن مدى القلق النفسي الذي كان يساور شبث بن ربعي ، ولا شك ان هناك المئات من أمثاله ممن كانوا يجدون في قرارة نفوسهم تأنيبا حادا على حربهم لريحانة رسول اللّه (ص) كما أن الكثيرين منهم كانوا يحجمون من الدخول في عمليات الحرب ، وقد لمس

١٥٤

ذلك فيهم عمرو بن الحجاج فاندفع يقول لهم :

«لا ترتابوا في قتال من مرق من الدين»

ومن مظاهر تلك الحيرة انه لم يؤثر عن أحد انه انشد رجزا(1) اشاد فيه بالغاية التي كان ينشدها ويقاتل من اجلها الامام ، فقد كمت الأفواه واخرست الألسن ، وانما كان الرجز من اصحاب الامام الحسين وأهل بيته فقد مثل اهدافهم ومبادئهم التي استشهدوا من أجلها لقد كان الرجز هو النشيد العسكري السائد في تلك العصور فيه يتغنى المقاتلون في اثناء الحرب ، ويفتخرون بشجاعتهم وبطولاتهم ، ويتوعدون اعداءهم بالقتل والهزيمة ، لقد اصبح الرجز في تلك المعارك كسلاح من اسلحة القتال يعتمد عليه المقاتلون كما يعتمدون على آلات الحروب من السيوف والسهام والرماح ، ففي واقعة الجمل كان اصحاب عائشة ينشدون الرجز الذي يمثل اندفاعهم نحو امهم ، واصحاب الامام كانوا يذكرون في رجزهم دفاعهم عن الامام امير المؤمنين ، وانه فرض ديني عليهم ، وكذلك في معركة صفين ، أما في واقعة كربلا فلم يؤثر بيت من الشعر نظمه أو تمثل به أحد من المعسكر الأموي وهو آية على شيوع الحيرة والتردد في نفوسهم فقد عرفوا جميعا عرفانا لا تسعه المغالطة ولا الانكار اثم ما اقترفوه وانهم قد ارتطموا في الباطل وماجوا في الضلال ...

3 ـ الفسق :

وطائفة كبيرة كانت في الجيش الأموي قد عرفت بالفسق والتحلل ، فقد كانوا من المدمنين على الخمر ، ويقول المؤرخون ان الذين حملوا رءوس

__________________

(1) يقول ابن حبيب : كانت العرب تقول : الرجز في الحرب والحداء والمفاخرة وما جرى هذا المجرى جاء ذلك في الأغاني 18 / 164

١٥٥

الشهداء الى دمشق كانوا يشربون الخمر طبلة الطريق وقد ذكرنا في البحوث السابقة بعض ما اتصفوا به من الكذب وعدم الحريجة في الدين.

وبهذا ينتهي بنا الحديث عن بعض صفات ذلك الجيش.

عناصر الجيش :

ويتألف الجيش الأموي من عدة عناصر ومن بينها :

1 ـ الانتهازيون :

وهم الذين يخدمون السلطة للرغبة والرهبة ، ويسعون وراء مصالحهم ولا يؤثرون الحق في سلوكهم وتصرفاتهم سوى السعي وراء مصالحهم الخاصة ، وقد شاعت هذه الفئة في معسكر ابن زياد ، واسندت لها المناصب الحساسة في الجيش وهم امثال عمر بن سعد ، وحجار بن ابجر ، وشبث ابن ربعي ، وشمر بن ذي الجوشن ، وقيس بن الأشعث ويزيد بن الحرث وغيرهم من الذين طلقوا المعروف ثلاثا ، ولم تصدر منهم في جميع فترات حياتهم أية بادرة من بوادر الخير سوى ما يضر الناس.

2 ـ المرتزقة :

وهناك طائفة كبيرة من الجيش قد اندفعوا لحرب الامام تسوقهم الأطماع الرخيصة ، والأمل على حصول مغنم في الحرب ، وقد هرعوا بعد قتل الامام ـ بخسة ـ الى السلب والنهب فمالوا على ثقل الامام ومتاعه فنهبوه ، وعمدوا الى سلب حرائر النبوة وعقائل الوحي فلم يتركوا ما عليهن من حلي وحال ، وعدوا الى سلب ما على الامام وسائر الشهداء من الملابس ولا مات الحرب ، ويقول المؤرخون : انهم سلبوا جميع ملابس الحسين حتى تركوه عريانا ليس عليه ما يواري جسده الشريف ، وسنعرض لذلك عند التحدث عن مقتل الامام

١٥٦

3 ـ الممسوخون :

ومن بين العناصر التي ضمها المعسكر الأموي الممسوخون ، وهم الذين امتلأت صدورهم بالحقد والكراهية لجميع الناس ، وأهم رغباتهم النفسية المذابح الطائشة ، والاندفاع نحو الجريمة تلبية لنداء الجريمة المتأصلة في نفوسهم.

وقد بالغت تلك الطغمة من الممسوخين في اقتراف الجرائم ، فتسابقوا إلى قتل الأطفال من آل النبي وترويع النساء ، وهم يفخرون بما يقترفونه من الخزي والعار ، ومن بين هؤلاء الوحوش الكواسر السفاح الحقير شمر بن ذي الجوشن ، وحرملة بن كاهل والحكيم بن طفيل الطائي وسنان بن انس وعمرو بن الحجاج ، وامثالهم من كلاب الطراد كما سماهم بذلك بعض المؤرخين ، وقد صدرت منهم في كربلا من القساوة ما تترفع عنه الوحوش والكلاب.

4 ـ المكرهون :

وهناك طائفة من الجيش قد أرغمت على حرب الامام ، فقد حملتهم السلطة على الخوض في هذه المعركة وكانت عواطفهم ومشاعرهم مع الامام الا ان الجبن وخور النفس ، قد منعهم من نصرته ، وهؤلاء لم يشتركوا في الحرب ، وانما كانوا يتضرعون الى اللّه في أن ينزل نصره على ابن بنت نبيه ، وقد انكر عليهم واحد منهم فقال لهم : هلا تهبوا الى نصرته والدفاع عنه بدل الدعاء(1) ، ومما لا شبهة فيه انهم قد اقترفوا

__________________

(1) أنساب الأشراف ق 1 ج 1

١٥٧

اثما عظيما ، وشاركوا المحاربين في جريمتهم لأنهم لم يقوموا بانقاذ الامام وحمايته من المعتدين.

5 ـ الخوارج :

ومن بين العناصر التي اشتركت في حرب الامام الخوارج ، وهم من احقد الناس على آل النبي (ص) لأن الامام امير المؤمنين (ع) قد وترهم في واقعة النهروان ، فتسابقوا إلى قتل العترة الطاهرة للتشفي منها.

هذه بعض العناصر التي ضمها جيش ابن زياد ، وقد جاء وصفهم في احدى زيارات الامام الحسين (ع) ما نصّه :

«وقد توازر عليه ـ أي على حرب الامام ـ من غرته الدنيا ، وباع حظه بالأرذل الأدنى ، وشرى آخرته بالثمن الأوكس ، وتردى في هواه»(1) .

وبهذا ينتهي بنا الحديث عن معسكر الامام ، ومعسكر ابن زياد ، لنقف على فصول المأساة الخالدة في دنيا الاحزان.

__________________

(1) مفاتيح الجنان (ص 468)

١٥٨

المأساة الخالدة

١٥٩
١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496