حياة الامام الحسين عليه السلام الجزء ٣

حياة الامام الحسين عليه السلام12%

حياة الامام الحسين عليه السلام مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 496

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 496 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 307886 / تحميل: 5965
الحجم الحجم الحجم
حياة الامام الحسين عليه السلام

حياة الامام الحسين عليه السلام الجزء ٣

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

قال نصر:و حدثنا عمر بن سعد،عن الحارث بن حصين،عن عبد الله بن شريك،قال:خرج حجر بن عدي و عمرو بن الحمق يظهران البراءة من أهل الشام،فأرسل علي(عليه‌السلام )إليهما أن كفا عما يبلغني عنكما فأتياه،فقالا:يا أمير المؤمنين،ألسنا محقين ؟ قال:بلى.قالا:أو ليسوا مبطلين ؟ قال:بلى.قالا:فلم منعتنا من شتمهم ؟ قال:كرهت لكم أن تكونوا لعانين شتامين تشتمون و تتبرءون،و لكن لو وصفتم مساوئ أعمالهم فقلتم من سيرتهم كذا و كذا،و من أعمالهم كذا و كذا كان أصوب في القول،و أبلغ في العذر،و قلتم مكان لعنكم إياهم و براءتكم منهم،اللهم احقن دماءهم و دماءنا،و أصلح ذات بينهم و بيننا،و اهدهم من ضلالتهم حتى يعرف الحق منهم من جهله،و يرعوي عن الغي و العدوان منهم من لهج به لكان أحب إلي و خيرا لكم،فقالا:يا أمير المؤمنين،نقبل عظتك و نتأدب بأدبك.قال نصر:و قال له عمرو بن الحمق:يومئذ و الله يا أمير المؤمنين،إني ما أحببتك و لا بايعتك على قرابة بيني و بينك و لا إرادة مال تؤتينيه،و لا التماس سلطان ترفع ذكري به،و لكنني أحببتك بخصال خمس إنك ابن عم رسول الله(صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم )،و وصيه،و أبو الذرية التي بقيت فينا من رسول الله(صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم )،و أسبق الناس إلى الإسلام و أعظم المهاجرين سهما في الجهاد،فلو أني كلفت نقل الجبال الرواسي و نزح البحور الطوامي،حتى يأتي علي يومي في أمر أقوي به وليك و أهين عدوك ما رأيت أني قد أديت فيه كل الذي يحق علي من حقك.فقال علي(عليه‌السلام ):اللهم نور قلبه بالتقى و اهده إلى صراطك المستقيم

١٨١

ليت أن في جندي مائة مثلك،فقال حجر:إذا و الله يا أمير المؤمنين،صح جندك و قل فيهم من يغشك.قال نصر:و قام حجر بن عدي،فقال:يا أمير المؤمنين،نحن بنو الحرب و أهلها الذين نلقحها و ننتجها قد ضارستنا و ضارسناها،و لنا أعوان و عشيرة ذات عدد و رأي مجرب و بأس محمود،و أزمتنا منقادة لك بالسمع و الطاعة،فإن شرقت شرقنا و إن غربت غربنا و ما أمرتنا به من أمر فعلنا،فقال علي(عليه‌السلام ):أكل قومك يرى مثل رأيك ؟ قال:ما رأيت منهم إلا حسنا،و هذه يدي عنهم بالسمع و الطاعة و حسن الإجابة،فقال له علي(عليه‌السلام ):خيرا.قال نصر حدثنا عمر بن سعد قال كتب(عليه‌السلام )إلى عماله حينئذ يستفزهم،فكتب إلى مخنف بن سليم سلام عليك،فإني أحمد إليك الله الذي لا إله:إلا هو أما بعد،فإن جهاد من صدف عن الحق رغبة عنه و عب في نعاس العمى و الضلال اختيارا له فريضة على العارفين،إن الله يرضى عمن أرضاه،و يسخط على من عصاه،و إنا قد هممنا بالسير إلى هؤلاء القوم الذين عملوا في عباد الله بغير ما أنزل الله،و استأثروا بالفي‏ء،و عطلوا الحدود،و أماتوا الحق،و أظهروا في الأرض الفساد،و اتخذوا الفاسقين وليجة من دون المؤمنين،فإذا ولي لله أعظم أحداثهم أبغضوه،و أقصوه،و حرموه،و إذا ظالم ساعدهم على ظلمهم أحبوه و أدنوه و بروه،فقد أصروا على الظلم و أجمعوا على الخلاف و قديما ما صدوا عن الحق،و تعاونوا على الإثم و كانوا ظالمين،فإذا أتيت بكتابي هذا فاستخلف على عملك أوثق أصحابك في نفسك،و أقبل إلينا لعلك تلقى معنا هذا العدو

١٨٢

المحل،فتأمر بالمعروف و تنهى عن المنكر،و تجامع الحق و تباين الباطل،فإنه لا غناء بنا و لا بك عن أجر الجهاد،و حسبنا الله و نعم الوكيل.و كتبه عبيد الله بن أبي رافع في سنة سبع و ثلاثين.قال:فاستعمل مخنف على أصبهان الحارث بن أبي الحارث بن الربيع،و استعمل على همذان سعيد بن وهب،و كلاهما من قومه،و أقبل حتى شهد مع علي(عليه‌السلام )صفين.قال نصر:و كتب عبد الله بن العباس من البصرة إلى علي(عليه‌السلام )يذكر له اختلاف أهل البصرة،فكتب إليه علي(عليه‌السلام )من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى عبد الله بن عباس،أما بعد،فقد قدم علي رسولك و قرأت كتابك تذكر فيه حال أهل البصرة و اختلافهم بعد انصرافي عنهم،و سأخبرك عن القوم و هم بين مقيم لرغبة يرجوها أو خائف من عقوبة يخشاها،فأرغب راغبهم بالعدل عليه و الإنصاف له و الإحسان إليه،و احلل عقدة الخوف عن قلوبهم و انته إلى أمري و لا تعده و أحسن إلى هذا الحي من ربيعة و كل من قبلك،فأحسن إليه ما استطعت إن شاء الله.قال نصر:و كتب إلى أمراء أعماله كلهم بنحو ما كتب به إلى مخنف بن سليم و أقام ينتظرهم.قال:فحدثنا عمر بن سعد عن أبي روق،قال:قال زياد بن النضر الحارثي لعبد الله بن بديل إن يومنا اليوم عصبصب ما يصبر عليه إلا كل مشيع القلب الصادق

١٨٣

النية رابط الجأش،و ايم الله ما أظن ذلك اليوم يبقي منهم،و لا منا إلا الرذال.فقال عبد الله بن بديل:أنا و الله أظن ذلك فبلغ كلامهما عليا(عليه‌السلام )،فقال لهما:ليكن هذا الكلام مخزونا في صدوركما لا تظهراه،و لا يسمعه منكما سامع إن الله كتب القتل على قوم و الموت على آخرين،و كل آتيه منيته كما كتب الله له،فطوبى للمجاهدين في سبيله و المقتولين في طاعته.قال نصر:فلما سمع هاشم بن عتبة ما قالاه:أتى عليا(عليه‌السلام )،فقال:سر بنا يا أمير المؤمنين إلى هؤلاء القوم القاسية قلوبهم،الذين نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم و عملوا في عباد الله بغير رضا الله،فأحلوا حرامه و حرموا حلاله،و استوى بهم الشيطان و وعدهم الأباطيل،و مناهم الأماني حتى أزاغهم عن الهدى،و قصد بهم قصد الردى،و حبب إليهم الدنيا،فهم يقاتلون على دنياهم رغبة فيها كرغبتنا في الآخرة،و انتجاز موعد ربنا،و أنت يا أمير المؤمنين أقرب الناس من رسول الله(صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم )رحما،و أفضل الناس سابقة و قدما و هم يا أمير المؤمنين،يعلمون منك مثل الذي نعلم،و لكن كتب عليهم الشقاء و مالت بهم الأهواء،و كانوا ظالمين فأيدينا مبسوطة لك بالسمع و الطاعة،و قلوبنا منشرحة لك ببذل النصيحة،و أنفسنا تنصرك على من خالفك و تولى الأمر دونك جذلة،و الله ما أحب أن لي ما على الأرض مما أقلت،و لا ما تحت السماء مما أظلت و أني واليت عدوا لك أو عاديت وليا لك،فقال(عليه‌السلام ):(اللهم ارزقه الشهادة في سبيلك و المرافقة لنبيك).قال نصر:ثم إن عليا(عليه‌السلام )صعد المنبر،فخطب الناس و دعاهم إلى الجهاد،فبدأ بحمد الله و الثناء عليه،ثم قال:

١٨٤

إن الله قد أكرمكم بدينه و خلقكم لعبادته،فانصبوا أنفسكم في أداء حقه و تنجزوا موعوده،و اعلموا أن الله جعل أمراس الإسلام متينة و عراه وثيقة،ثم جعل الطاعة حظ الأنفس و رضا الرب و غنيمة الأكياس عند تفريط العجزة،و قد حملت أمر أسودها و أحمرها،و لا قوة إلا بالله،و نحن سائرون إن شاء الله إلى من سفه نفسه،و تناول ما ليس له و ما لا يدركه معاوية،و جنده الفئة الطاغية الباغية يقودهم إبليس،و يبرق لهم ببارق تسويفه و يدليهم بغروره،و أنتم أعلم الناس بالحلال و الحرام،فاستغنوا بما علمتم و احذروا ما حذركم الله من الشيطان،و ارغبوا فيما عنده من الأجر و الكرامة،و اعلموا أن المسلوب من سلب دينه و أمانته،و المغرور من آثر الضلالة على الهدى،فلا أعرفن أحدا منكم تقاعس عني،و قال:في غيري كفاية،فإن الذود إلى الذود إبل و من لا يذد عن حوضه يتهدم،ثم إني آمركم بالشدة في الأمر و الجهاد في سبيل الله،و ألا تغتابوا مسلما و انتظروا للنصر العاجل من الله إن شاء الله،قال نصر:ثم قام ابنه الحسن بن علي(عليه‌السلام )فقال:الحمد لله لا إله غيره و لا شريك له،ثم قال:إن مما عظم الله عليكم من حقه،و أسبغ عليكم من نعمه ما لا يحصى ذكره،و لا يؤدى شكره و لا يبلغه قول و لا صفة،و نحن إنما غضبنا لله و لكم إنه لم يجتمع قوم قط على أمر واحد إلا اشتد أمرهم و استحكمت عقدتهم،فاحتشدوا في قتال عدوكم معاوية و جنوده و لا تخاذلوا،فإن الخذلان يقطع نياط القلوب،و إن الإفدام على الأسنة نخوة و عصمة لم يتمنع قوم قط إلا رفع الله عنهم العلة،و كفاهم جوائح الذلة،و هداهم إلى معالم الملة،ثم أنشد:

١٨٥

و الصلح تأخذ منه ما رضيت به

و الحرب يكفيك من أنفاسها جرع

ثم قام الحسين بن علي(عليه‌السلام )،فحمد الله و أثنى عليه و قال:يا أهل الكوفة،أنتم الأحبة الكرماء و الشعار دون الدثار،جدوا في إطفاء ما دثر بينكم،و تسهيل ما توعر عليكم،ألا إن الحرب شرها ذريع،و طعمها فظيع فمن أخذ لها أهبتها،و استعد لها عدتها،و لم يألم كلومها قبل حلولها فذاك صاحبها و من عاجلها قبل أوان فرصتها و استبصار سعيه فيها،فذاك قمن ألا ينفع قومه و أن يهلك نفسه نسأل الله بقوته أن يدعمكم بالفيئة،ثم نزل،قال نصر:فأجاب عليا(عليه‌السلام )إلى السير جل الناس إلا أن أصحاب عبد الله بن مسعود أتوه فيهم عبيدة السلماني و أصحابه،فقالوا له:إنا نخرج معكم و لا نترك عسكركم و نعسكر على حدة حتى ننظر في أمركم،و أمر أهل الشام فمن رأيناه أراد ما لا يحل له أو بدا لنا منه بغي كنا عليه،فقال لهم علي(عليه‌السلام ):مرحبا و أهلا هذا هو الفقه في الدين و العلم بالسنة من لم يرض بهذا،فهو خائن جبار.و أتاه آخرون من أصحاب عبد الله بن مسعود منهم الربيع بن خثيم،و هم يومئذ أربعمائة رجل،فقالوا:يا أمير المؤمنين:إنا قد شككنا في هذا القتال على معرفتنا بفضلك و لا غناء بنا و لا بك و لا بالمسلمين عمن يقاتل العدو،فولنا بعض هذه الثغور نكمن،ثم نقاتل عن أهله فوجه علي(عليه‌السلام )بالربيع بن خثيم على ثغر الري،فكان أول لواء عقده(عليه‌السلام )بالكوفة لواء الربيع بن خثيم.

١٨٦

قال نصر:و حدثني عمر بن سعد،عن يوسف بن يزيد،عن عبد الله بن عوف بن الأحمر،أن عليا(عليه‌السلام )لم يبرح النخيلة حتى قدم عليه ابن عباس بأهل البصرة،قال:و كان كتاب علي(عليه‌السلام )إلى ابن عباس،أما بعد،فاشخص إلي بمن قبلك من المسلمين و المؤمنين،و ذكرهم بلائي عندهم و عفوي عنهم في الحرب،و أعلمهم الذي لهم في ذلك من الفضل و السلام.قال:فلما وصل كتابه إلى ابن عباس بالبصرة،قام في الناس فقرأ عليهم الكتاب،و حمد الله و أثنى عليه،و قال:أيها الناس،استعدوا للشخوص إلى إمامكم و انفروا خفافا و ثقالا،و جاهدوا بأموالكم و أنفسكم،فإنكم تقاتلون المحلين القاسطين الذين لا يقرءون القرآن،و لا يعرفون حكم الكتاب،و لا يدينون دين الحق مع أمير المؤمنين،و ابن عم رسول الله الآمر بالمعروف،و الناهي عن المنكر،و الصادع بالحق و القيم بالهدى،و الحاكم بحكم الكتاب الذي لا يرتشي في الحكم و لا يداهن الفجار،و لا تأخذه في الله لومة لائم.فقام إليه الأحنف بن قيس،فقال:نعم و الله لنجيبنك و لنخرجن معك على العسر و اليسر،و الرضا و الكره،نحتسب في ذلك الأجر،و نأمل به من الله العظيم حسن الثواب.و قام خالد بن المعمر السدوسي،فقال:سمعنا و أطعنا فمتى استنفرتنا نفرتا،و متى دعوتنا أجبنا.و قام عمرو بن مرجوم العبدي،فقال:وفق الله أمير المؤمنين و جمع له أمر المسلمين

١٨٧

و لعن المحلين القاسطين لا يقرءون القرآن،نحن و الله عليهم حنقون،و لهم في الله مفارقون فمتى أردتنا صحبك خيلنا و رجالنا إن شاء الله.قال:و أجاب الناس إلى المسير و نشطوا و خفوا،فاستعمل ابن عباس على البصرة أبا الأسود الدؤلي و خرج حتى قدم على علي(عليه‌السلام )بالنخيلة.

كتاب محمد بن أبي بكر إلى معاوية و جوابه عليه

قال نصر:و كتب محمد بن أبي بكر إلى معاوية،من محمد بن أبي بكر إلى الغاوي معاوية بن صخر سلام على أهل طاعة الله،ممن هو سلم لأهل ولاية الله،أما بعد،فإن الله بجلاله و عظمته و سلطانه و قدرته،خلق خلقا بلا عبث،و لا ضعف في قوته لا حاجة به إلى خلقهم،و لكنه خلقهم عبيدا و جعل منهم شقيا و سعيدا و غويا و رشيدا،ثم اختارهم على علمه،فاصطفى و انتخب منهم محمدا(صلي اللهعليه‌السلام )،فاختصه برسالته و اختاره لوحيه،و ائتمنه على أمره و بعثه رسولا مصدقا لما بين يديه من الكتب و دليلا على الشرائع،فدعا إلى سبيل أمره بالحكمة و الموعظة الحسنة،فكان أول من أجاب،و أناب،و صدق و وافق،فأسلم و سلم أخوه و ابن عمه علي بن أبي طالب(عليه‌السلام )،فصدقه بالغيب المكتوم و آثره على كل حميم و وقاه كل هول،و واساه بنفسه في كل خوف،فحارب حربه و سالم سلمه،فلم يبرح مبتذلا لنفسه في ساعات الأزل و مقامات الروع حتى برز سابقا

١٨٨

لا نظير له في جهاده و لا مقارب له في فعله،و قد رأيتك تساميه،و أنت أنت و هو هو السابق المبرز في كل خير أول الناس إسلاما،و أصدق الناس نية و أطيب الناس ذرية،و أفضل الناس زوجة،و خير الناس ابن عم،و أنت اللعين ابن اللعين،لم تزل أنت و أبوك تبغيان لدين الله الغوائل و تجتهدان على إطفاء نور الله،و تجمعان على ذلك الجموع،و تبذلان فيه المال،و تحالفان في ذلك القبائل على هذا مات أبوك،و على ذلك خلفته،و الشاهد عليك بذلك من يأوي و يلجأ إليك من بقية الأحزاب،و رءوس النفاق و الشقاق لرسول الله(صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم )،و الشاهد لعلي مع فضله،و سابقته القديمة أنصاره الذين ذكرهم الله تعالى في القرآن،ففضلهم و أثنى عليهم من المهاجرين و الأنصار،فهم معه كتائب و عصائب يجالدون حوله بأسيافهم،و يهريقون دماءهم دونه،يرون الفضل في اتباعه،و الشقاق و العصيان في خلافه،فكيف يا لك الويل تعدل نفسك بعلي،و هو وارث رسول الله(صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم )و وصيه و أبو ولده،و أول الناس له اتباعا،و آخرهم به عهدا يخبره بسره،و يشركه في أمره و،أنت عدوه و ابن عدوه ؟ فتمتع ما استطعت بباطلك،و ليمددك لك ابن العاص في غوايتك،فكان أجلك قد انقضى و كيدك قد وهى و سوف تستبين لمن تكون العاقبة العليا،و اعلم أنك إنما تكايد ربك الذي قد أمنت كيده و أيست من روحه،و هو لك بالمرصاد،و أنت منه في غرور و بالله و بأهل بيت رسوله عنك الغناء،و السلام على من اتبع الهدى.فكتب إليه معاوية من معاوية بن أبي سفيان إلى الزاري،على أبيه محمد بن أبي بكر سلام على أهل طاعة الله،أما بعد،فقد أتاني كتابك تذكر فيه ما الله أهله في قدرته و سلطانه،و ما أصفى به نبيه مع كلام ألفته و وضعته لرأيك فيه تضعيف و لأبيك فيه تعنيف ذكرت حق

١٨٩

ابن أبي طالب،و قديم سابقته،و قرابته من نبي الله،و نصرته له و مواساته إياه في كل خوف و هول،و احتجاجك علي،و فخرك بفضل غيرك لا بفضلك فاحمد إلها صرف ذلك الفضل عنك و جعله لغيرك،فقد كنا و أبوك معنا في حياة نبينا نرى حق ابن أبي طالب لازما لنا و فضله مبرزا علينا،فلما اختار الله لنبيه ما عنده،و أتم له ما وعده،و أظهر دعوته و أفلج حجته قبضه الله إليه،فكان أبوك و فاروقه أول من ابتزه و خالفه على ذلك اتفقا و اتسقا،ثم دعواه إلى أنفسهما فأبطأ عنهما و تلكأ عليهما فهما به الهموم و أرادا به العظيم،فبايعهما و سلم لهما لا يشركانه في أمرهما،و لا يطلعانه على سرهما حتى قبضا،و انقضى أمرهما،ثم أقاما بعدهما ثالثهما عثمان بن عفان يهتدي بهديهما،و يسير بسيرتهما،فعبته أنت و صاحبك حتى طمع فيه الأقاصي من أهل المعاصي،و بطنتما و ظهرتما،و كشفتما له عداوتكما و غلكما حتى بلغتما منه مناكما،فخذ حذرك يا ابن أبي بكر،فسترى وبال أمرك،و قس شبرك بفترك تقصر عن أن تساوي أو توازي من يزن الجبال حلمه،و لا تلين على قسر قناته و لا يدرك ذو مدى أناته أبوك مهد له مهاده،و بنى ملكه و شاده،فإن يكن ما نحن فيه صوابا فأبوك أوله،و إن يكن جورا فأبوك أسه،و نحن شركاؤه فبهداه أخذنا و بفعله اقتدينا رأينا أباك فعل ما فعل فاحتذينا مثاله و اقتدينا بفعاله فعب أباك بما بدا لك أو دع،و السلام على من أناب و رجع من غوايته و ناب.قال:و أمر علي(عليه‌السلام )الحارث الأعور أن ينادي في الناس اخرجوا إلى معسكركم

١٩٠

بالنخيلة،فنادى الحارث في الناس بذلك،و بعث إلى مالك بن حبيب اليربوعي صاحب شرطته يأمره أن يحشر الناس إلى المعسكر،و دعا عقبة بن عمرو الأنصاري فاستخلفه على الكوفة،و كان أصغر أصحاب العقبة السبعين،ثم خرج(عليه‌السلام )و خرج الناس معه.

قال نصر:و دعا علي(عليه‌السلام )زياد بن النضر و شريح بن هانئ،و كانا على مذحج و الأشعريين،فقال:يا زياد اتق الله في كل ممسى و مصبح و خف على نفسك الدنيا الغرور لا تأمنها على حال،و اعلم أنك إن لم تزعها عن كثير مما تحب مخافة مكروهة سمت بك الأهواء إلى كثير من الضرر،فكن لنفسك مانعا وازعا من البغي و الظلم و العدوان،فإني قد وليتك هذا الجند فلا تستطيلن عليهم إن خيركم عند الله أتقاكم تعلم من عالمهم و علم جاهلهم،و احلم عن سفيههم،فإنك إنما تدرك الخير بالحلم و كف الأذى و الجهل.فقال:زياد أوصيت يا أمير المؤمنين،حافظا لوصيتك مؤديا لأربك يرى الرشد في نفاذ أمرك و الغي في تضييع عهدك.فأمرهما أن يأخذا في طريق واحد و لا يختلفا و بعثهما في اثني عشر ألفا على مقدمته،و كل واحد منهما على جماعة من ذلك الجيش،فأخذ شريح يعتزل بمن معه من أصحابه على حدة و لا يقرب زيادا،فكتب زياد إلى علي(عليه‌السلام )مع مولى له يقال له:شوذب لعبد الله علي أمير المؤمنين من زياد بن النضر سلام عليك،فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو،أما بعد،فإنك وليتني أمر

١٩١

الناس و إن شريحا لا يرى بي عليه طاعة و لا حقا،و ذلك من فعله بي استخفاف بأمرك و ترك لعهدك و السلام.و كتب شريح بن هانئ إلى علي(عليه‌السلام )لعبد الله علي أمير المؤمنين من شريح بن هانئ سلام عليك،فإني أحمد الله إليك الذي لا إله إلا هو،أما بعد،فإن زياد بن النضر حين أشركته في أمرك،و وليته جندا من جنودك طغى و استكبر،و مال به العجب و الخيلاء و الزهو إلى ما لا يرضى الله تعالى به من القول و الفعل،فإن رأى أمير المؤمنين(عليه‌السلام )أن يعزله عنا و يبعث مكانه من يحب فليفعل،فإنا له كارهون و السلام.

فكتب علي(عليه‌السلام )إليهما من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى زياد بن النضر،و شريح بن هانئ سلام عليكما،فإني أحمد إليكما الله الذي لا إله إلا هو،أما بعد،فإني قد وليت مقدمتي زياد بن النضر و أمرته عليها،و شريح بن هانئ على طائفة منها أمير،فإن انتهى جمعكما إلى بأس فزياد بن النضر على الناس كلهم و إن افترقتما،فكل واحد منكما أمير الطائفة التي وليناه أمرها،و اعلما أن مقدمة القوم عيونهم،و عيون المقدمة طلائعهم،فإذا أنتما خرجتما من بلادكما فلا تسأما من توجيه الطلائع،و من نفض الشعاب و الشجر و الخمر في كل جانب كي لا يغتركما عدو أو يكون لهم كمين،و لا تسيرن الكتائب و القبائل من لدن الصباح إلى المساء إلا على تعبئة،فإن دهمكم عدو أو غشيكم مكروه كنتم قد تقدمتم في التعبئة،فإذا نزلتم بعدو أو نزل بكم فليكن معسكركم في قبل الأشراف أو سفاح

١٩٢

الجبال و أثناء الأنهار كيما يكون ذلك لكم ردءا،و تكون مقاتلتكم من وجه واحد أو اثنين،و اجعلوا رقباءكما في صياصي الجبال،و بأعالي الأشراف و مناكب الأنهار يرون لكم كي لا يأتيكم عدو من مكان مخافة أو أمن و إياكم و التفرق،فإذا نزلتم فانزلوا جميعا،و إذا رحلتم فارحلوا جميعا،فإذا غشيكم الليل فنزلتم فحفوا عسكركم بالرماح و الترسة،و لتكن رماتكم من وراء ترسكم و رماحكم يلونهم و ما أقمتم،فكذلك فافعلوا كي لا تصاب لكم غفلة،و لا تلفى لكم غرة فما قوم يحفون عسكرهم برماحهم و ترستهم من ليل أو نهار،إلا كانوا كأنهم في حصون،و احرسا عسكركما بأنفسكما،و إياكما أن تذوقا نوما حتى تصبحا إلا غرارا أو مضمضة،ثم ليكن ذلك شأنكما و دأبكما حتى تنتهيا إلى عدوكما،و ليكن كل يوم عندي خبركما و رسول من قبلكما،فإني و لا شي‏ء إلا ما شاء الله حثيث السير في أثركما عليكما في جريكما بالتؤدة،و إياكما و العجلة إلا أن تمكنكما فرصة بعد الإعذار و الحجة،و إياكما أن تقاتلا حتى أقدم عليكما إلا أن تبدءا أو يأتيكما أمري إن شاء الله.قال نصر:و كتب علي(عليه‌السلام )إلى أمراء الأجناد،و كان قد قسم عسكره أسباعا فجعل على كل سبع أميرا،فجعل سعد بن مسعود الثقفي على قيس،و عبد القيس و معقل بن قيس اليربوعي على تميم،و ضبة و الرباب و قريش

١٩٣

و كنانة و أسد و مخنف بن سليم على الأزد،و بجيلة و خثعم و الأنصار و خزاعة و حجر بن عدي الكندي على كندة،و حضرموت و قضاعة و زياد بن النضر على مذحج،و الأشعريين و سعيد بن مرة الهمداني على همدان،و من معهم من حمير و عدي بن حاتم الطائي على طيئ،تجمعهم الدعوة مع مذحج،و تختلف الرايتان راية مذحج مع زياد بن النضر،و راية طيئ مع عدي بن حاتم هذه عساكر الكوفة،و أما عساكر البصرة،فخالد بن معمر السدوسي على بكر بن وائل،و عمرو بن مرجوم العبدي على عبد القيس،و ابن شيمان الأزدي على الأزد،و الأحنف على تميم و ضبة و الرباب و شريك بن الأعور الحارثي على أهل العالية،أما بعد،فإني أبرأ إليكم من معرة الجنود إلا من جوعة إلى شبعة،و من فقر إلى غنى أو عمى إلى هدى،فإن ذلك عليهم فأغربوا الناس عن الظلم و العدوان و خذوا على أيدي سفهائكم،و احترسوا أن تعملوا أعمالا لا يرضى الله بها عنا فيرد بها علينا،و عليكم دعاءنا،فإنه تعالى يقول:( ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ ) ،و إن الله إذا مقت قوما من السماء هلكوا في الأرض،فلا تألوا أنفسكم خيرا و لا الجند حسن سيرة،و لا الرعية معونة،و لا دين الله قوة،و أبلوا في سبيله ما استوجب عليكم،فإن الله قد اصطنع عندنا و عندكم ما يجب علينا أن نشكره بجهدنا و أن ننصره ما بلغت قوتنا،و لا قوة إلا بالله

١٩٤

قال:و كتب(عليه‌السلام )إلى جنوده يخبرهم بالذي لهم و عليهم،أما بعد،فإن الله جعلكم في الحق جميعا سواء أسودكم و أحمركم و جعلكم من الوالي و جعل الوالي منكم بمنزلة الوالد من الولد،و بمنزلة الولد من الوالد الذي لا يكفيه منعه إياهم طلب عدوه و التهمة به ما سمعتم و أطعتم و قضيتم الذي عليكم،فحقكم عليه إنصافكم و التعديل بينكم و الكف عن فيئكم،فإذا فعل معكم ذلك وجبت عليكم طاعته فيما وافق الحق و نصرته،و الدفع عن سلطان الله،فإنكم وزعة الله في الأرض فكونوا له أعوانا،و لدينه أنصارا،و لا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها إن الله لا يحب المفسدين .قال نصر:و حدثنا عمر بن سعد.قال:حدثنا سعد بن طريف عن الأصبغ بن نباته.قال:قال علي(عليه‌السلام )ما يقول الناس في هذا القبر و في النخيلة و بالنخيلة قبر عظيم يدفن اليهود موتاهم حوله ،فقال الحسن بن علي(عليه‌السلام ):يقولون هذا قبر هود لما عصاه قومه جاء ،فمات هاهنا فقال:كذبوا ؛ لأنا أعلم به منهم هذا قبر يهودا بن يعقوب بن إسحاق ،بن إبراهيم بكر يعقوب ،ثم قال:أهاهنا أحد من مهرة فأتي بشيخ كبير ،فقال:أين منزلك ؟ قال:على شاطئ البحر.قال:أين أنت من الجبل قال:أنا قريب منه قال:فما يقول قومك فيه قال:يقولون إن فيه قبر ساحر قال:كذبوا ذاك قبر هود النبي(عليه‌السلام )،و هذا قبر يهودا بن يعقوب ،ثم قال:

١٩٥

(عليه‌السلام )يحشر من ظهر الكوفة سبعون ألفا على غرة الشمس يدخلون الجنة بغير حساب.قال نصر:فلما نزل علي(عليه‌السلام )النخيلة متوجها إلى الشام و بلغ معاوية خبره،و هو يومئذ بدمشق قد ألبس منبر دمشق قميص عثمان مختضبا بالدم و حول المنبر سبعون ألف شيخ يبكون حوله لا تجف دموعهم على عثمان خطبهم،و قال:يا أهل الشام،قد كنتم تكذبونني في علي و قد استبان لكم أمره،و الله ما قتل خليفتكم غيره،و هو أمر بقتله و ألب الناس عليه،و آوى قتلته،و هم جنده و أنصاره و أعوانه،و قد خرج بهم قاصدا بلادكم و دياركم لإبادتكم،يا أهل الشام،الله،الله،في دم عثمان،فأنا وليه و أحق من طلب بدمه،و قد جعل الله لولي المقتول ظلما سلطانا،فانصروا خليفتكم المظلوم،فقد صنع القوم به ما تعلمون قتلوه ظلما و بغيا،و قد أمر الله تعالى بقتال الفئة الباغية حتى تفي‏ء إلى أمر الله،ثم نزل.قال نصر فأعطوه الطاعة و انقادوا له،و جمع إليه أطرافه و استعد للقاء علي(عليه‌السلام )

١٩٦

47.و من كلام له(عليه‌السلام )في ذكر الكوفة

(كَأَنِّي بِكِ يَا كُوفَةُ تُمَدِّينَ مَدَّ اَلْأَدِيمِ اَلْعُكَاظِيِّ تُعْرَكِينَ بِالنَّوَازِلِ وَ تُرْكَبِينَ بِالزَّلاَزِلِ وَ إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّهُ مَا أَرَادَ بِكِ جَبَّارٌ سُوءاً إِلاَّ اِبْتَلاَهُ اَللَّهُ بِشَاغِلٍ أَوْ وَ رَمَاهُ بِقَاتِلٍ)،عكاظ اسم سوق للعرب بناحية مكة كانوا يجتمعون بها في كل سنة يقيمون شهرا،و يتبايعون و يتناشدون شعرا،و يتفاخرون قال أبو ذؤيب:

إذا بني القباب على عكاظ و قام البيع و اجتمع الألوف

فلما جاء الإسلام هدم ذلك و أكثر ما كان يباع الأديم بها فنسب إليها.و الأديم واحد و الجمع أدم كما قالوا أفيق للجلد الذي لم تتم دباغته و جمعه أفق،و قد يجمع أديم على آدمة كما قالوا رغيف و أرغفة.و الزلازل هاهنا الأمور المزعجة و الخطوب المحركة.

١٩٧

و قوله(عليه‌السلام ):تمدين مد الأديم استعارة لما ينالها من العسف و الخبط و قوله:تعركين من عركت القوم الحرب إذا مارستهم حتى أتعبتهم.

فصل في ذكر فضل الكوفة

و قد جاء في فضل الكوفة عن أهل البيت(عليه‌السلام )شي‏ء كثير،نحو:قول أمير المؤمنين(عليه‌السلام )نعمت المدرة،و قوله(عليه‌السلام ):إنه يحشر من ظهرها يوم القيامة سبعون ألفا وجوههم على صورة القمر،و قوله(عليه‌السلام )هذه مدينتنا و محلتنا و مقر شيعتنا،و قول جعفر بن محمد(عليه‌السلام )،اللهم ارم من رماها،و عاد من عاداها،و قوله(عليه‌السلام ):تربة تحبنا و نحبها.فأما ما هم به الملوك و أرباب السلطان فيها من السوء،و دفاع الله تعالى عنها فكثير.قال المنصور لجعفر بن محمد(عليه‌السلام )إني قد هممت أن أبعث إلى الكوفة من ينقض منازلها،و يجمر نخلها و يستصفي أموالها،و يقتل أهل الريبة منها،فأشر علي،فقال:يا أمير المؤمنين،إن المرء ليقتدي بسلفه،و لك أسلاف ثلاثة،سليمان أعطي فشكر،و أيوب ابتلي فصبر،و يوسف قدر فغفر،فاقتد بأيهم شئت فصمت قليلا،ثم قال:قد غفرت.

١٩٨

و روى أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن الجوزي في كتاب المنتظم أن زيادا لما حصبه أهل الكوفة،و هو يخطب على المنبر قطع أيدي ثمانين منهم،و هم أن يخرب دورهم و يجمر نخلهم،فجمعهم حتى ملأ بهم المسجد و الرحبة يعرضهم على البراءة من علي(عليه‌السلام )،و علم أنهم سيمتنعون،فيحتج بذلك على استئصالهم و إخراب بلدهم.قال عبد الرحمن بن السائب الأنصاري،فإني لمع نفر من قومي و الناس يومئذ في أمر عظيم إذ هومت تهويمه،فرأيت شيئا أقبل طويل العنق مثل عنق البعير أهدر أهدل،فقلت:ما أنت ؟ فقال:أنا النقاد ذو الرقبة،بعثت إلى صاحب هذا القصر فاستيقظت فزعا،فقلت لأصحابي:هل رأيتم ما رأيت ؟ قالوا:لا،فأخبرتهم و خرج علينا خارج من القصر،فقال انصرفوا،فإن الأمير يقول لكم:إني عنكم اليوم مشغول،و إذا بالطاعون قد ضربه،فكان يقول إني لأجد في النصف من جسدي حر النار حتى مات،فقال عبد الرحمن بن السائب:

ما كان منتهيا عما أراد بنا

حتى تناوله النقاد ذو الرقبة

فاثبت الشق منه ضربة عظمت

كما تناول ظلما صاحب الرحبة

قلت:قد يظن ظان أن قوله صاحب الرحبة يمكن أن يحتج به من قال:إن قبر أمير المؤمنين(عليه‌السلام )في رحبة المسجد بالكوفة،و لا حجة في ذلك ؛ لأن أمير المؤمنين كان يجلس معظم زمانه في رحبة المسجد يحكم بين الناس،فجاز أن ينسب إليه بهذا الاعتبار.

١٩٩

48.و من خطبة له(عليه‌السلام )عند المسير إلى الشام

(اَلْحَمْدُ لِلَّهِ كُلَّمَا وَقَبَ لَيْلٌ وَ غَسَقَ وَ اَلْحَمْدُ لِلَّهِ كُلَّمَا لاَحَ نَجْمٌ وَ خَفَقَ وَ اَلْحَمْدُ لِلَّهِ غَيْرَ مَفْقُودِ اَلْإِنْعَامِ وَ لاَ مُكَافَإِ اَلْإِفْضَالِ أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ بَعَثْتُ مُقَدِّمَتِي وَ أَمَرْتُهُمْ بِلُزُومِ هَذَا اَلْمِلْطَاطِ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرِي وَ قَدْ رَأَيْتُ أَنْ أَقْطَعَ هَذِهِ اَلنُّطْفَةَ إِلَى شِرْذِمَةٍ مِنْكُمْ مُوطِنِينَ أَكْنَافَ دِجْلَةَ فَأُنْهِضَهُمْ مَعَكُمْ إِلَى عَدُوِّكُمْ وَ أَجْعَلَهُمْ مِنْ أَمْدَادِ اَلْقُوَّةِ لَكُمْ)،قال الرضيرحمه‌الله :يعني(عليه‌السلام )بالملطاط هاهنا السمت الذي أمرهم بلزومه،و هو شاطئ الفرات،و يقال ذلك أيضا لشاطئ البحر،و أصله ما استوى من الأرض،و يعني بالنطفة ماء الفرات،و هو من غريب العبارات و عجيبها وقب الليل،أي:دخل،قال الله تعالى:( وَ مِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ ) .و غسق،أي:أظلم،و خفق النجم،أي:غاب.

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

ابن مرجانة ، فهو يقتل خياركم ، ويستعبد شراركم ، فبعدا لمن رضي بالذل والعار»(١) .

ولما فرغ ابن مرجانة من العبث برأس ريحانة رسول اللّه (ص) التفت الى كاهن كافر فقال له : قم فضع. على رأس عدوك ، ففعل الكاهن ذلك(٢) لقد فعل ابن زياد بآل البيت ما لم يفعله أي كافر على وجه الأرض ، فقد استهان بجميع القيم والمقدسات ، واستباح كل ما حرمه اللّه.

رجوع القوات المسلحة :

ومكثت القوات المسلحة في كربلا يوم الحادى عشر من المحرم فوارت جيف قتلاها بين مظاهر الاجلال والتعظيم ، وقد فتحت لها كوة من قيح جهنم يؤجج ضرامها ولا يخبو نارها تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون.

أما جثة الامام العظيم والجثث الزواكي من أهل بيته واصحابه ، فقد عمدوا الى تركها على صعيد كربلا تسفي عليها الرياح لا مغسلين ولا مكفنين.

وأمر ابن سعد حميد بن بكر الأحمري ، فنادى بالناس الرحيل الى الكوفة(٣) وسارت قوات ابن سعد بعد الزوال من كربلا واعلامها رءوس العترة الطاهرة التي ثارت من اجل احقاق الحق ، وتوطيد اركان العدل ، وقد حملوا معهم نساء الحسين واخواته ونساء الأصحاب فكن عشرين

__________________

(١) مرآة الزمان في تواريخ الأعيان (ص ٩٧) الصراط السوي في مناقب آل النبي (ص ٨٧) المناقب والمثالب.

(٢) مرآة الزمان في تواريخ الأعيان (ص ٩٧)

(٣) انساب الأشراف ق ١ ج ١

٣٢١

امرأة(١) ما عدا الصبية وقد سيروهن على اقتاب الجمال بغير وطاء وساقوهن كما يساق سبي الترك والديلم ، ومروا بهن على جثث القتلى من أهل البيت مبالغة في ايذائهن ، وكان العرب في جاهليتهم الأولى يتجنبون مرور النساء على قتلاهن الا ان جيش ابن سعد لم يلتزم بأي خلق ، ولم تكن عنده أية عاطفة انسانية.

ولما نظرت عقائل النبوة الى جثث القتلى من اهل البيت رفعن اصواتهن بالبكاء ، وصاحت حفيدة النبي (ص) زينب (ع) بصوت يذيب القلوب.

«يا محمداه هذا حسين بالعراء ، مرمل بالدماء ، مقطع الأعضاء ، وبناتك سبايا ، وذريتك مقتلة»(٢) .

ووجم القوم مبهوتين ، وفاضت عيونهم دموعا ، وبكى العدو والصديق(٣) .

جزع الامام زين العابدين :

وجزع الامام زين العابدين كأشد ما يكون الجزع حينما رأى جثمان أبيه ، وجثث أهل بيته وأصحابه منبوذة بالعراء لم ينبر أحد الى مواراتها وبصرت به عمته زينب فبادرت إليه مسلية قائلة :

«ما لي أراك تجود بنفسك يا بقية جدي واخوتي ، فو اللّه إن هذا لعهد من اللّه الى جدك وأبيك ، ولقد أخذ اللّه ميثاق أناس لا تعرفهم فراعنة هذه الأرض ، وهم معروفون في أهل السماوات ، انهم يجمعون

__________________

(١) مقتل المقرم (ص ٣٧٧)

(٢) خطط المقريزي ٢ / ٢٨٠ ، البداية والنهاية ٨ / ١٩٣

(٣) جواهر المطالب في مناقب الامام علي بن أبي طالب (ص ١٤٠)

٣٢٢

هذه الأعضاء المقطعة ، والجسوم المضرجة فيوارونها وينصبون بهذا الطف علما لقبر أبيك سيد الشهداء لا يدرس أثره ، ولا يمحى رسمه على كرور الليالي والأيام ، وليجتهدن أئمة الكفر واشياع الضلال في محوه وطمسه فلا يزداد أثره الا علوا»(١) .

وازالت حفيدة الرسول (ص) ما ألم بالامام زين العابدين من الحزن العميق على عدم مواراة أبيه ، فقد أخبرته بما سمعته من أبيها وأخيها من قيام جماعة من المؤمنين بمواراة تلك الجثث الطاهرة ، وسينصب لها علم لا يمحى أثره ، ويبقى خالدا حتى يرث اللّه الأرض ومن عليها وقد جدّ ملوك الأمويين والعباسيين على محوها وازالة آثارها ، وجاهدوا نفوسهم وسخروا جميع امكانياتهم الا انهم لم يفلحوا ، ومضى مرقد الامام شامخا على الدهر ، ومضت ذكراه تملأ رحاب الأرض نورا وفخرا وشرفا كاسمى صورة تعتز بها الانسانية في جميع أدوارها.

مواراة الجثث الطاهرة :

وبقيت جثة الامام العظيم وجثث الشهداء الممجدين من أهل بيته واصحابه ملقاة على صعيد كربلا تصهرها الشمس ، وتسفي عليها الرياح ، وقد انبرى جماعة من المؤمنين الذين لم يتلوثوا في الاشتراك بحرب ريحانة رسول اللّه (ص) الى مواراتها ، وقد اختلف المؤرخون في اليوم الذي دفنت فيه ، وفيما يلي ذلك.

__________________

(١) كامل الزيارات (ص ٢٦١)

٣٢٣

١ ـ يوم الحادي عشر(١)

٢ ـ يوم الثاني عشر(٢)

٣ ـ يوم الثالث عشر(٣)

اما الذين حظوا بمواراتها فهم قوم من بني أسد كانوا ينزلون بالقرب من مكان المعركة فخفوا إليها بعد أن نزحت جيوش ابن سعد ، فرأوا الجثث الزواكي ملقاة بالعراء فأيقنوا انها جثث أهل البيت ، وجثث أصحابهم فعجوا بالبكاء والعويل ، وصرخت نساؤهم ، وقاموا في هدأة الليل حيث امنوا الرقباء ، فحفروا قبرا لسيد الشهداء ، وقبرا آخر لبقية الشهداء ، وقد حفروها على ضوء القمر حيث كان على وشك التمام ، ولم يطلع القمر على مثلها شرفا في جميع الاحقاب والآباد.

يقول الشيخ المفيد :

«ولما رحل ابن سعد خرج قوم من بني أسد كانوا نزولا بالغاضرية الى الحسين وأصحابه فصلوا عليهم ، ودفنوا الحسين (ع) حيث قبره الآن ودفنوا ابنه علي بن الحسين الأصغر عند رجله : وحفروا للشهداء من أهل بيته واصحابه ـ الذين صرعوا حوله ـ مما يلي رجلي الحسين ، وجمعوهم فدفنوهم جميعا. ودفنوا العباس بن علي في موضعه الذي قتل فيه على طريق الغاضرية حيث قبره الآن»(٤) .

وتنص بعض المصادر الشيعية على أن بني أسد كانوا متحيرين في

__________________

(١) مرآة الزمان في تواريخ الأعيان (ص ٩٧) البداية والنهاية ٨ / ١٨٩ ، المناقب ٥ / ١٣٣ مصور.

(٢) البحار

(٣) مقتل الحسين للمقرم (ص ٣٩٦)

(٤) الارشاد (ص ٢٢٧)

٣٢٤

شأن تلك الجثث الزواكي ولم يهتدوا لمعرفتها لأن الرءوس قد فصلت عنها وبينما هم كذلك اذ أطل عليهم الامام زين العابدين فأوقفهم على شهداء أهل البيت وغيرهم من الأصحاب ، وبادر الى حمل جثمان أبيه فواراه في مثواه الأخير وهو يذرف أحر الدموع قائلا :

«طوبى لأرض تضمنت جسدك الطاهر ، فان الدنيا بعدك مظلمة والآخرة بنورك مشرقة ، أما الليل فمسهد ، والحزن سرمد أو يختار اللّه لأهل بيتك دارك التي أنت بها مقيم ، وعليك مني السلام يا ابن رسول اللّه ورحمة اللّه وبركاته».

ورسم على القبر الشريف هذه الكلمات : «هذا قبر الحسين بن علي بن أبي طالب الذي قتلوه عطشانا غريبا» ودفن عند رجلي الامام ولده علي الأكبر ، ودفن بقية الشهداء الممجدين من هاشميين وغيرهم في حفرة واحدة ، وانطلق الامام زين العابدين مع الأسديين الى نهر العلقمي فواروا قمر بني هاشم العباس بن أمير المؤمنين ، وجعل الامام يبكي احر البكاء قائلا :

«على الدنيا بعدك العفا يا قمر بني هاشم ، وعليك مني السلام من شهيد محتسب ورحمة اللّه وبركاته»(١) .

وأصبحت تلك القبور الطاهرة رمزا للكرامة الانسانية ، ورمزا لكل تضحية تقوم على العدل يقول العقاد : «فهي اليوم مزار يطيف به المسلمون متفقين ومختلفين ومن حقه أن يطيف به كل انسان لأنه عنوان قائم لأقدس ما يشرف به هذا الحي الآدمي من بين سائر الأحياء

فما اظلت قبة السماء مكانا لشهيد قط هو اشرف من تلك القباب

__________________

(١) مقتل الحسين للمقرم (ص ٣٩٧ ـ ٣٩٨)

٣٢٥

بما حوته من معنى الشهادة وذكرى الشهداء»(١)

ويقول يوسف رجيب : «وليس لقبر من قبور أولياء اللّه الصالحين البررة غير قبر الحسين هو قبلة الدنيا وكعبة بني الأرض لأن اللّه شرفه بجهاد اعدائه الذين اعتزموا طمس الدين الحنيف ، وانتهاك الشريعة ، واتخاذ الخلافة أمرة زمنية استباحوا بها كل محرم يتلذذون بما حرم اللّه وحرمته كتبه»(٢) .

لقد ضمت تلك البقعة المباركة خلاصة الاباء والشرف والدين ، وقد أصبحت أقدس مراكز العبادة وافضلها في الاسلام ففي كل وقت يطيف بها المسلمون متبركين ومتقربين إلى اللّه ، كما اصبحت مطافا لملائكة اللّه المقربين ، فقد روى الفضل بن يسار عن أبي عبد اللّه أنه سئل عن أفضل قبور الشهداء فقال عليه السلام :

«أو ليس أفضل الشهداء الحسين بن علي؟ فو الذي نفسي بيده ان حول قبره اربعين الف ملك شعثا غبرا يبكون عليه إلى يوم القيامة»(٣) .

ويقول الامام الرضا (ع) : «إن حول قبر الحسين سبعين الف ملك شعثا غبرا يبكون عليه الى يوم القيامة»(٤)

وقد حظى مرقده العظيم باستجابة الدعاء عنده فما قصده مكروب أو ملهوف الا فرج اللّه عنه مما ألم به يقول الجواهري :

__________________

(١) ابو الشهداء

(٢) مجلة الغري السنة الثانية العدد ١٠ ص ٢٢

(٣) مناقب ابن المغازلي : رقم الحديث ٣٩٠

(٤) ذخائر العقبى (ص ١٥١)

٣٢٦

تعاليت من مفزع للحتوف

وبورك قبرك من مفزع

تلوذ الدهور فمن سجد

على جانبيه ومن ركع(١)

ويقول المؤرخون إن الامام الهادي (ع) ألم به مرض فأمر أبا هاشم الجعفري أن يبعث له رجلا إلى الحائر الحسيني ليدعو له بالشفاء ، وقد سئل عليه السلام عن ذلك فقال : ان اللّه أحب أن يدعى في هذا المكان(٢) .

لقد احتل ابو الشهداء المكانة العظمى عند اللّه تعالى كما احتل قلوب المسلمين وحظى بأصدق محبتهم فهم يشدون الرحال الى مثواه من كل فج عميق وفاء بحقه واعترافا بفضله والتماسا لعظيم الأجر الذي كتبه اللّه لزائريه ، ويقول (نيكلسون) : وخلال بضع سنوات عن مصرع الحسين اصبح ضريحه في كربلا محجا تشد إليه الرحال(٣) .

فضل زيارة الحسين :

وتواترت الأخبار عن أئمة أهل البيت عليهم السلام بفضل زيارة سيد الشهداء (ع) وقد ذهب بعض الفقهاء إلى وجوبها ، وقد الف محمد بن علي العلوي كتابا يقع في جزءين أسماه «فضل زيارة الحسين» ونلمع الى بعض تلك الأخبار.

١ ـ روى أبو حمزة الثمالي قال : سألت علي بن الحسين عن زيارة الحسين (ع) فقال : «زره كل يوم فان لم تقدر فكل جمعة ، فان لم

__________________

(١) ديوان الجواهري ١ / ١٩٤

(٢) كامل الزيارات (ص ٢٢٣)

(٣) تأريخ الأدب العربي

٣٢٧

تقدر فكل شهر فمن لم يزره فقد استخف بحق رسول اللّه (ص)»(١) .

٢ ـ روى ابو الجارود قال : «قال لي ابو جعفر : كم قبر الحسين منكم؟ قال : قلت له : يوم للراكب ويوم وليلة للراحل ، قال : لو كان منا كما هو منكم لاتخذناه هجرة»(٢) .

٣ ـ وروى محمد بن مسلم عن أبي جعفر (ع) قال : (مروا شيعتنا بزيارة قبر الحسين فان اتيانه يزيد في الرزق ويمد في العمر ويدفع مدافع السوء ، واتيانه مقترض على كل مؤمن يقر له بالامامة من اللّه»(٣) .

والأخبار بذلك كثيرة ، وهي مما تفيد القطع بالصدور عن أئمة أهل البيت عليهم السلام.

دعاء الامام الصادق لزوار الحسين :

ودعا الامام الصادق بهذا الدعاء الشريف لزوار قبر جده الحسين وقد رواه الثقة معاوية بن وهب وهذا نصه :

قال : استأذنت على أبي عبد اللّه عليه السلام فقيل لي ادخل فدخلت فوجدته فى مصلاه ، فجلست حتى قضى صلاته فسمعته وهو يناجي ربه وهو يقول :

«يا من خصنا بالكرامة ، وخصنا بالوصية ، ووعدنا بالشفاعة ، وأعطانا علم ما مضى وما بقي وجعل أفئدة من الناس تهوي إلينا ، اغفر لي ولاخواني ، ولزوار قبر أبي الحسين (ع) الذين انفقوا أموالهم واشخصوا

__________________

(١) فضل زيارة الحسين ١ / ١٤ من مصورات مكتبة الامام امير المؤمنين

(٢) فضل زيارة الحسين ١ / ١٧

(٣) وسائل الشيعة ١٠ / ٣٢١

٣٢٨

ابدانهم رغبة في برنا ، ورجاء لما عندك في صلتنا ، وسرورا ادخلوه على نبيك صلواتك عليه وآله واجابة منهم لأمرنا ، وغيظا ادخلوه على عدونا أرادوا بذلك رضاك ، فكافهم عنا بالرضوان واكلأهم بالليل والنهار واخلف على أهاليهم وأولادهم الذين خلفوا بأحسن الخلف ، واعطهم أفضل ما أملوا منك في غربتهم عن أوطانهم ، وما آثرونا به على ابنائهم وأهاليهم واقربائهم.

اللهم : ان اعدائنا عابوا عليهم خروجهم فلم يمنعهم ذلك عن الشخوص إلينا ، وخلافا منهم على من خالفنا ، فارحم تلك الوجوه التي قد غيرتها الشمس ، وارحم تلك الخدود التي تقلبت على حفرة أبي عبد اللّه ، وارحم تلك الأعين التي جرت دموعها رحمة لنا ، وارحم تلك القلوب التي جزعت واحترقت لنا وارحم الصرخة التي كانت لنا.

«اللهم : إني استودعك تلك الأنفس وتلك الأبدان حتى توافيهم على الحوض يوم العطش» فما زال وهو ساجد يدعو اللّه بهذا الدعاء فلما انصرف قلت :

«جعلت فداك لو ان هذا الذي سمعت كان لمن لا يعرف اللّه لظننت أن النار لا تطعم منه شيئا ، واللّه لقد تمنيت أن كنت زرته ولم احج».

فقال عليه السلام :

«ما أقربك منه فما ذا الذي يمنعك من زيارته؟ لم تدع ذلك؟»

«لم ادر أن الأمر يبلغ هذا كله»

«يا معاوية من يدعو لزواره في السماء اكثر ممن يدعو لهم في الأرض يا معاوية لا تدعه فمن تركه رأى من الحسرة ما يتمنى ان قبره كان عنده

٣٢٩

أما تحب أن يرى اللّه شخصك وسوادك فيمن يدعو له رسول اللّه (ص) وعلي وفاطمة والأئمة ، أما تحب أن تكون غدا ممن تصافحه الملائكة أما تحب أن تكون غدا فيمن يخرج وليس له ذنب فيتبع به ، أما تحب أن تكون غدا ممن يصافح رسول اللّه (ص)(١) .

وبهذا ينتهي بنا الحديث عن مصرع الامام العظيم لنستقبل سبايا أهل البيت في الكوفة.

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٠ / ٣٢٠ ـ ٣٢١

٣٣٠

سبايا اهل البيت فى الكوفة

٣٣١
٣٣٢

واستقبلت الكوفة سبايا آل البيت (ع) بمزيد من الفزع والاضطراب وخيم عليها الذل والهوان ، فقد كمت الأفواه ، وأخرست الألسن ، ولم يستطع أحد أن يظهر ما في دخائل نفسه من الأسى الشديد خوفا من السلطة العاتية التي استهانت بارواح الناس وكراماتهم.

وعزفت أبواق الجيش وخفقت راياتهم ، وقد رفعوا على الحراب رءوس العترة الطاهرة ، ومعهم الأسرى من عقائل النبوة وحرائر الوحي وقد ربطوا بالحبال ، وقد وصف ذلك المنظر الرهيب مسلم الجصاص يقول : دعاني ابن زياد لاصلاح دار الامارة بالكوفة فبينما أنا اجصص الأبواب واذا بالزعقات قد ارتفعت من جميع الكوفة فاقبلت على أحد خدام القصر فقلت له :

«مالي أرى الكوفة تضج»

«الساعة يأتون برأس خارجي خرج على يزيد»

«من هذا الخارجي؟»

«الحسين بن علي»

«يقول : فتركت الخادم حتى خرج واخذت الطم على وجهي حتى خشيت على عينيّ أن تذهبا ، وغسلت يديّ من الجص ، وخرجت من القصر حتى أتيت الى الكناس فبينما أنا واقف والناس يتوقعون وصول السبايا والرءوس اذ اقبل أربعون جملا تحمل النساء والاطفال ، واذا بعلي ابن الحسين على بعير بغير وطاء وأوداجه تشخب دما ، وهو يبكي ويقول :

يا أمة السوء لا سقيا لربعكم

يا امة لم تراع جدنا فينا

لو اننا ورسول اللّه يجمعنا

يوم القيامة ما كنتم تقولونا

تسيرونا على الاقتاب عارية

كأننا لم نشيد فيكم دينا(١)

__________________

(١) مقتل الحسين لعبد اللّه نور اللّه مخطوط

٣٣٣

ويقول جذلم بن بشير : قدمت الكوفة سنة (٦١ هـ) عند مجيء علي ابن الحسين من كربلا الى الكوفة ومعه النسوة وقد أحاطت بهم الجنود وقد خرج الناس للنظر إليهم وكانوا على جمال بغير وطاء فجعلت نساء أهل الكوفة يبكين ويندبن ، ورأيت علي بن الحسين قد انهكته العلة ، وفي عنقه الجامعة ويده مغلولة الى عنقه(١) ، وهو يقول بصوت ضعيف :

ان هؤلاء يبكون وينوحون من أجلنا فمن قتلنا؟(٢) وانبرت احدى سيدات الكوفة فسألت احدى السبايا وقالت لها :

«من أي الأسارى أنتن؟»

«نحن أسارى أهل البيت»

ولما سمعت بذلك المرأة صرخت ، وصرخت النسوة التي معها ، ودوى صراخهن في ارجاء الكوفة ، وبادرت المرأة فجمعت ما في بيتها من ازر ومقانع فجعلت تناولها الى العلويات ليتسترن بها عن أعين الناس(٣) كما بادرت سيدة أخرى فجاءت بطعام وتمر وأخذت تلقيه على الصبية التي أضناها الجوع.

ونادت السيدة أم كلثوم من خلف الركب :

«ان الصدقة حرام علينا أهل البيت»

ولما سمعت الصبية مقالة العقيلة رمى كل واحد منهم ما في يده أو فمه من الطعام وراح يقول لصاحبه : إن عمتي تقول :

«إن الصدقة حرام علينا أهل البيت»

__________________

(١) أمالي الشيخ المفيد (ص ١٤٣) مخطوط

(٢) مقتل الحسين لعبد اللّه

(٣) مقتل الحسين لعبد اللّه

٣٣٤

خطاب السيدة زينب :

وحينما رأت السيدة زينب (ع) حفيدة الرسول (ص) وشقيقة الامام الحشود الزاخرة التي ملأت شوارع الكوفة وأزقتها ، اندفعت الى الخطابة لبلورة الموقف ، واظهار المصيبة الكبرى التي جرت على أهل البيت وتحميل الكوفيين مسئولية هذه الجريمة النكراء ، فهم الذين نقضوا العهد ، وخاسوا بالذمة ، فقتلوا ريحانة رسول اللّه (ص) ثم عادوا بعد قتله ينوحون ويبكون كأنهم لم يقترفوا هذا الاثم العظيم ، وهذا نص خطابها :

«الحمد للّه وصلواته على أبي محمد رسول اللّه (ص) وعلى آله الطاهرين الأخيار ، أما بعد : يا أهل الكوفة يا أهل الختل والخذل(١) أ تبكون؟!! فلا رقأت لكم دمعة(٢) انما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوة انكاثا ، تتخذون ايمانكم دخلا بينكم الا بئس ما قدمت لكم انفسكم ان سخط اللّه عليكم وفي العذاب أنتم خالدون.

أتبكون وتنتحبون!! أي واللّه فابكوا كثيرا ، واضحكوا قليلا ، كل ذلك بانتهاككم حرمة ابن خاتم الأنبياء ، وسيد شباب أهل الجنة ، وملاذ حضرتكم ، ومفزع نازلتكم ، ومنار حجتكم ومدرة سنتكم الا ساء ما تزرون ، وبعدا لكم ، وسحقا ، فلقد خاب السعي ، ونبت الأيدي وخسرت الصفقة وتوليتم بغضب اللّه ، وضربت عليكم الذلة والمسكنة.

أتدرون ويلكم يا أهل الكوفة؟ أي كبد لرسول اللّه (ص) فريتم وأي دم له سفكتم ، وأي حرمة له انتهكتم؟ لقد جئتم شيئا ادا تكاد السموات يتفطرن منه ، وتنشق الأرض ، وتخر الجبال هدا!!

__________________

(١) وفي نسخة : الغدر

(٢) وفي نسخة : فلا رقأت الدمعة ولا هدأت الرنة

٣٣٥

لقد جئتم بها خرقاء شوهاء كطلاع الأرض ، وملء السماء ، افعجبتم ان مطرت السماء دما ولعذاب الآخرة أخزى ، وهم لا ينصرون فلا يستخفنكم المهل فانه لا يحفزه البدار ، ولا يخاف فوت الثار وان ربكم لبالمرصاد ...»(١) .

لقد قرعتهم بطلة كربلا ، بمنطق الصدق وصوت الحق ، ودلتهم على نفوسهم الخبيثة ، فلم تنخدع بدموعهم الكاذبة ، ولم ينطل عليها زورهم وبهتانهم ، ونعت عليهم جريمتهم النكراء التي هي أبشع جريمة وقعت في الأرض وقد وصفتهم بأخس الصفات التي توصف بها احط الشعوب فقد وصفتهم بالختل والغدر ، وهما مصدران لانحطاط الانسان وشقائه.

وعلقت سلام اللّه عليها على بكائهم فقالت : ان من حقهم أن يبكوا كثيرا ويضحكوا قليلا على عظيم ما اقترفوه من الأثم ، فقد قتلوا سيد شباب أهل الجنة وسليل خاتم النبوة ، والمنقذ والمحرر لهم ، وفروا كبد رسول اللّه (ص) وانتهكوا حرمته ، وسبوا عياله ، فأي جريمة أبشع أو افظع من هذه الجريمة؟

صدى الخطاب :

واضطرب الناس من خطاب سليلة النبوة وايقنوا بالهلاك ، وقد وصف خزيمة الأسدي مدى الأثر البالغ الذي أحدثه خطاب العقيلة يقول :

لم أر واللّه خفرة انطق منها كأنما تفرغ عن لسان الامام امير المؤمنين ورأيت الناس بعد خطابها حيارى واضعي أيديهم على افواههم ، ورأيت

__________________

(١) مقتل الحسين للمقرم (ص ٣٨٧) نور الابصار للشبلنجيّ (ص ١٦٧).

٣٣٦

شيخا قد دنا منها يبكي حتى اخضلت لحيته وهو يقول : بأبي أنتم وأمي كهولكم خير الكهول وشبابكم خير الشباب ونسلكم لا يبور ولا يخزى أبدا(١) الا ان الامام زين العابدين قطع على عمته خطابها قائلا :

«اسكني يا عمة ، فأنت بحمد اللّه عالمة غير معلمة ، وفهمة غير مفهمة ..»(٢) .

فأمسكت عن الكلام ، وتركت المجتمع يمور بالأسى والحزن.

خطاب السيدة فاطمة :

وانبرت الى الخطابة فاطمة بنت الامام الحسين (ع) فخطبت ابلغ خطاب واروعه ، وكانت طفلة ، فبهر الناس ببلاغتها وفصاحتها وقد أخذت بمجامع القلوب وتركت الناس حيارى قد بلغ بهم الحزن إلى قرار سحيق فقالت :

«الحمد للّه عدد الرمل والحصى ، وزنة العرش الى الثرى ، أحمده وأومن به ، وأتوكل عليه ، واشهد أن لا إله الا اللّه وحده لا شريك له وان محمدا عبده ورسوله وان اولاده ذبحوا بشط الفرات ، من غير ذحل ولا تراث.

اللهم إني أعوذ بك أن افتري عليك ، وان اقول عليك خلاف ما أنزلت من اخذ العهود والوصية لعلي بن أبي طالب ، المغلوب حقه ، المقتول من غير ذنب ـ كما قتل ولده بالأمس ـ في بيت من بيوت اللّه تعالى ، فيه معشر مسلمة بألسنتهم ، تعسا لرؤوسهم ، ما دفعت عنه ضيما

__________________

(١) نور الابصار (ص ١٧٦) الدر النظيم (ص ١٧٢)

(٢) احتجاج الطبرسي

٣٣٧

في حياته ، ولا عند مماته ، حتى قبضه اللّه تعالى إليه محمود النقيبة ، طيب العريكة ، معروف المناقب ، مشهور المذاهب ، لم تأخذه في اللّه سبحانه لومة لائم ، ولا عذل عاذل ، هديته اللهم للاسلام صغيرا ، وحمدت مناقبه كبيرا ، ولم يزل ناصحا لك ، ولرسولك ، زاهدا في الدنيا ، غير حريص عليها ، راغبا في الآخرة ، مجاهدا لك في سبيلك ، رضيته فاخترته وهديته الى صراط مستقيم.

أما بعد : يا أهل الكوفة ، يا أهل المكر والغدر والخيلاء ، فانا أهل بيت ابتلانا اللّه بكم ، وابتلاكم بنا ، فجعل بلاءنا حسنا ، وجعل علمه عندنا وفهمه لدينا ، فنحن عيبة علمه ، ووعاء فهمه ، وحكمته وحجته على الأرض في بلاده لعباده ، اكرمنا اللّه بكرامته ، وفضلنا بنبيه محمد (ص) على كثير ممن خلق اللّه تفضيلا فكذبتمونا وكفرتمونا ، ورأيتم قتالنا حلالا واموالنا نهبا ، كأننا أولاد ترك أو كابل ، كما قتلتم جدنا بالأمس ..

وسيوفكم تقطر من دمائنا اهل البيت ، لحقد متقدم ، قرت لذلك عيونكم وفرحت قلوبكم افتراء على اللّه ، ومكرا مكرتم ، واللّه خير الماكرين ، فلا تدعونكم انفسكم الى الجذل بما أصبتم من دمائنا ، ونالت أيديكم من أموالنا فان ما أصابنا من المصائب الجليلة ، والرزايا العظيمة في كتاب من قبل أن نبرأها ، إن ذلك على اللّه يسير ، لكيلا تأسوا على ما فاتكم ، ولا تفرحوا بما أتاكم واللّه لا يحب كل مختال فخور.

تبا لكم فانظروا اللعنة والعذاب ، فكأن قد حل بكم ، وتواترت من السماء نقمات ، فيسحتكم بعذاب ، ويذيق بعضكم بأس بعض ، ثم تخالدون في العذاب الأليم يوم القيامة بما ظلمتمونا ألا لعنة اللّه على الظالمين.

ويلكم أتدرون أية يد طاعتنا منكم ، واية نفس نزعت الى قتالنا ، أم بأية رجل مشيتم إلينا ، تبغون محاربتنا ، قست قلوبكم ، وغلظت أكبادكم

٣٣٨

وطبع اللّه على افئدتكم ، وختم على سمعكم وبصركم ، وسول لكم الشيطان واملى لكم ، وجعل على بصركم غشاوة فأنتم لا تهتدون.

تبا لكم يا أهل الكوفة أي تراث لرسول اللّه قبلكم ، وذحول له لديكم بما عندتم بأخيه علي بن أبي طالب جدي وبنيه ، وعترته الطيبين الأخيار ، وافتخر بذلك مفتخركم :

قد قتلنا عليكم وبنيه

بسيوف هندية ورماح

وسبينا نساءهم سبي ترك

ونطحناهم فأي نطاح

بفيك أيها القائل الكثث والاثلب(١) افتخرت بقتل قوم زكاهم اللّه وطهرهم واذهب عنهم الرجس ، فاكظم وأقع كما أقعى ابوك فإنّما لكل امرئ ما اكتسب وما قدمت يداه.

حسدتمونا ويلا لكم على ما فضلنا اللّه تعالى ، ذلك فضل اللّه يؤتيه من يشاء واللّه ذو الفضل العظيم ، ومن لم يجعل اللّه له نورا فما له من نور ...)(٢) .

وتحدثت سليلة النبوة والامامة في خطابها العظيم عن أمور بالغة الأهمية وهي :

١ ـ انها عرضت لمحنة جدها الامام امير المؤمنين رائد الحق والعدالة في الأرض ، وما عاناه من المحن والمصاعب حتى استشهد في بيت من بيوت اللّه ، ولم يدفع عنه المجتمع الكوفي ولم يقف إلى جانبه وانما تركوه وحده يصارع الاهوال حتى قبضه اللّه إليه وهو جم المناقب ، محمود النقيبة طيب العريكة ، قد اصطفاه اللّه ، وخصه بالفضائل والمواهب.

__________________

(١) الكثث : التراب ، الأثلب : فتات الحجارة والتراب

(٢) اللهوف لابن طاوس ، ومثير الأحزان لابن نما ، مقتل الحسين لعبد اللّه.

٣٣٩

٢ ـ وتحدثت عن محنة أهل البيت ، بذلك المجتمع ، فانهم سلام اللّه عليهم بحكم قيادتهم الروحية للأمة ، فانهم مسئولون عن حمايتها ، ولكن الأمة قد جانبت الحق ، فسفكت دماءهم وانتهكت حرمتهم فما اجل رزيتهم واعظم بلاءهم.

٣ ـ شجبت الاعتداء الصارخ على أهل البيت ، ووصفت المعتدين القساة بأبشع الصفات ، ودعت اللّه أن ينزل عليهم نقمته وعذابه الأليم.

صدى الخطاب :

وأثر الخطاب تأثيرا بالغا في نفوس المجتمع فقد وجلت منه القلوب وفاضت العيون ، واندفع الناس ببكاء قائلين :

«حسبك يا بنة الطاهرين ، فقد أحرقت قلوبنا ، وانضجت نحورنا وأضرمت أجوافنا»(١) .

وأمسكت عن الكلام وتركت الجماهير في محنتها وشقائها تصعد الآهات وتبدي الحسرات وتندب حظها التعيس على عظيم ما اقترفت من الاثم.

خطاب السيدة أمّ كلثوم :

وانبرت حفيدة الرسول (ص) السيدة أم كلثوم إلى الخطابة فأومأت إلى الناس بالسكوت فلما سكنت الأنفاس بدأت بحمد اللّه والثناء عليه ثم قالت :

__________________

(١) مقتل الحسين للمقرم (ص ٣٩٢)

٣٤٠

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496