حياة الامام الحسين عليه السلام الجزء ٣

حياة الامام الحسين عليه السلام0%

حياة الامام الحسين عليه السلام مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 496

حياة الامام الحسين عليه السلام

مؤلف: باقر شريف القرشي
تصنيف:

الصفحات: 496
المشاهدات: 290045
تحميل: 5187


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 496 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 290045 / تحميل: 5187
الحجم الحجم الحجم
حياة الامام الحسين عليه السلام

حياة الامام الحسين عليه السلام الجزء 3

مؤلف:
العربية

«مه يا أهل الكوفة. تقتلنا رجالكم ، وتبكينا نساؤكم فالحاكم بيننا وبينكم اللّه يوم فصل الخطاب.

يا أهل الكوفة سوأة لكم ، ما لكم خذلتم حسينا وقتلتموه ، وانتهبتم أمواله ، وسبيتم نساءه ونكبتموه فتبا لكم وسحقا. ويلكم اتدرون أي دواه دهتكم ، وأي وزر على ظهوركم حملتم!! وأي دماء سفكتم ، واي كريمة اصبتموها ، وأي صبية اسلمتموها ، وأي أموال انتهبتموها ، قتلتم خير الرجالات بعد النبي (ص) ونزعت الرحمة من قلوبكم الا ان حزب اللّه هم المفلحون وحزب الشيطان هم الخاسرون».

واضطرب المجتمع من خطابها فنشرت النساء شعورهن ولطمن الخدود ولم ير اكثر باك ولا باكية مثل ذلك اليوم(1) :

خطاب الامام زين العابدين :

وانبرى إلى الخطابة الامام زين العابدين فقال بعد حمد اللّه والثناء عليه :

«أيها الناس ، من عرفني فقد عرفني ، ومن لم يعرفني فأنا علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، أنا ابن من انتهكت حرمته ، وسلبت نعمته ، وانتهب ماله ، وسبي عياله ، انا ابن المذبوح بشط الفرات من غير ذحل ولا ترات أنا ابن من قتل صبرا وكفى بذلك فخرا.

أيها الناس ناشدتكم اللّه هل تعلمون أنكم كتبتم الى أبي وخدعتموه ، واعطيتموه من انفسكم العهود والميثاق والبيعة وقاتلتموه ، فتبا لكم لما قدمتم لأنفسكم وسوأة لرأيكم ، بأية عين تنظرون الى رسول اللّه؟ إذ يقول لكم :

__________________

(1) اللهوف لابن طاوس ، ويذهب السيد المقرم وغيره الى أن السيدة أم كلثوم هي العقيلة زينب (ع).

٣٤١

قتلتم عترتي وانتهكتم حرمتي فلستم من أمتي».

وعلت الأصوات بالبكاء ، ونادى مناد منهم

«هلكتم وما تعلمون»

واستمر الامام في خطابه فقال :

«رحم اللّه امرأ قبل نصيحتي وحفظ وصيتي في اللّه وفي رسوله وأهل بيته ، فان لنا في رسول اللّه (ص) اسوة حسنة».

فهتفوا جميعا قائلين بلسان واحد :

«نحن يا ابن رسول اللّه سامعون مطيعون حافظون لذمامك ، غير زاهدين فيك ولا راغبين عنك ، فمرنا بأمرك يرحمك اللّه ، فانا حرب لحربك ، وسلم لسلمك نبرأ ممن ظلمك وظلمنا».

ورد الامام عليهم هذا الولاء الكاذب قائلا :

«هيهات ، هيهات ، أيتها الغدرة المكرة حيل بينكم وبين شهوات انفسكم ، أتريدون ان تأتوا إلي كما اتيتم إلى ابي من قبل ، كلا ورب الراقصات ، فان الجرح لما يندمل ، قتل ابي بالأمس واهل بيته ، ولم ينس ثكل رسول اللّه (ص) وثكل ابي وبني ابي ، إن وجده واللّه لبين لهاتي ومرارته بين حناجري وحلقي وغصة تجري في فراش صدري»(1) .

وأمسك الامام عن الكلام معرضا عن اولئك الغدرة الفجرة الذين سودوا وجه التأريخ بتناقضهم في سلوكهم فقد قتلوا الامام ثم راحوا يبكون عليه.

__________________

(1) مثير الأحزان لابن نما ، واللهوف

٣٤٢

في مجلس ابن زياد :

وادخلت بنات رسول اللّه (ص) وهن في اسر الذل على ابن مرجانة سليل الارجاس والخيانة وهو في قصر الامارة وقد امتلأ القصر بالسفكة المجرمين من جنوده وهم يهنئونه بالظفر ويحدثونه ببطولاتهم المفتعلة في يوم الطف وهو جذلان مسرور يهز اعطافه فرحا ، وبين يديه رأس ريحانة رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ، فجعل الخبيث يعبث به وينكته بمخصرته وهو يقول متشمتا :

«ما رأيت مثل هذا الوجه قط!!»

ولم ينه كلامه حتى سدد له الصحابي انس بن مالك سهما من منطقه فقال له :

«انه كان يشبه النبي»(1)

والتاع الخبيث من كلامه ، وكان في المجالس رجل من بكر بن وائل يقال له جابر فانتفض وهو يقول :

«للّه علي ان لا اصيب عشرة من المسلمين خرجوا عليك الا خرجت معهم»(2) .

الطاغية مع عقيلة الوحي :

ولما روى ابن مرجانة احقاده من رأس الامام التفت الى عائلة الحسين فرأى امرأة منحازة في ناحية من مجلسه وعليها ارذل الثياب وقد حفت

__________________

(1) انساب الاشراف ق 1 ج 1

(2) مرآة الزمان في تواريخ الأعيان (ص 98)

٣٤٣

بها المهابة والجلال مما حمل ابن زياد على السؤال عنها فقال :

«من هذه التي انحازت ناحية ومعها نساؤها؟»

فاعرضت عنه ، وكرر السؤال مرتين فلم تجبه استهانة به واحتقارا لشأنه ، فانبرت احدى السيدات فقالت له :

«هذه زينب بنت فاطمة بنت رسول اللّه (ص)».

فالتاع الخبيث الدنس من احتقارها له واندفع يظهر شماتته بلسانه الألكن قائلا :

«الحمد للّه الذي فضحكم وقتلكم ، وابطل أحدوثتكم»

فتارت حفيدة الرسول (ص) بشجاعة محتقرة ذلك الوضر الخبيث وصاحت به :

«الحمد للّه الذي أكرمنا بنبيه ، وطهرنا من الرجس تطهيرا ، انما يفتضح الفاسق ، ويكذب الفاجر ، وهو غيرنا يا ابن مرجانة»(1) .

لقد قالت هذا القول الصارم وهي والخفرات من آل محمد (ص) في قيد الأسر وقد نصبت فوق رءوسهن حراب الفاتحين ، وشهرت عليهن سيوف الشامتين وقد انزلت الطاغية من عرشه الى قبره ، واطاحت بغلوائه ، وعرفته أمام خدمه وأتباعه أنه المفتضح والمنهزم فقال ابن مرجانة متشفيا بأحط وأخس ما يكون التشفي :

«كيف رأيت فعل اللّه بأخيك؟»

وانطلقت عقيلة بني هاشم ببسالة وصمود فأجابته بكلمات الظفر والنصر لها ولأسرتها قائلة :

«ما رأيت الا جميلا ، هؤلاء قوم كتب اللّه عليهم القتل فبرزوا الى مضاجعهم ، وسيجمع اللّه بينك وبينهم فتحاج وتخاصم فانظر لمن الفلج

__________________

(1) تأريخ الطبري 6 / 263

٣٤٤

يومئذ ثكلتك امك يا بن مرجانة» :

وفقد الحقير اهابه من هذا التبكيت الموجع ، والتعريض المقذع ، وتميز غيظا وغضبا ، وهمّ أن ينزل بها عقوبته فنهاه عمرو بن حريث ، وقال له : انها امرأة لا تؤاخذ بشيء من منطقها ، فالتفت إليها قائلا :

«لقد شفى اللّه قلبي من طاغيتك ، والعصاة المردة من أهل بيتك» وغلب على العقيلة الحزن والأسى من هذا التشفي ، والجرأة عليها ، وقد تذكرت الصفوة الأبطال من أهل بيتها الذين سقطوا في ميادين الجهاد فادركتها لوعة الاسى فقالت :

«لعمري لقد قتلت كهلي وأبدت أهلي ، وقطعت فرعي ، واجتثثت أصلي فان يشفك هذا فقد اشتفيت»

وتهافت ابن مرجانة وسكن غيظه وراح يقول :

«هذه سجاعة. لعمري لقد كان أبوها سجاعا شاعرا»

فردت عليه زينب : ان لي عن السجاعة لشغلا ما للمرأة والسجاعة(1)

ما الأم هذه الحياة وما اخسها التي جعلت ربيبة الوحي أسيرة عند ابن مرجانة وهو يبالغ في احتقارها وتوهينها.

ان كان عندك يا زمان بقية مما يضام به الكرام فهاتها

الطاغية مع زين العابدين :

وادار الطاغية بصره في بقية آل البيت (ع) فرأى الامام زين العابدين وقد انهكته العلة فسأله :

«من أنت؟»

__________________

(1) المنتظم 5 / 98

٣٤٥

«علي بن الحسين»

«أولم يقتل اللّه علي بن الحسين؟»

فاجابه الامام بأناة :

«كان لي أخ يسمى عليا قتلتموه ، وان له منكم مطالبا يوم القيامة»(1) .

فثار ابن زياد في وقاحة وصلف وصاح بالامام :

«اللّه قتله»

فأجابه الامام بكل شجاعة وثبات :

«اللّه يتوفى الأنفس حين موتها ، وما كان لنفس أن تموت إلا باذن اللّه».

ودارت الأرض بابن زياد ، واخذته عزة الاثم فقد غاظه أن يتكلم هذا الغلام الأسير بهذه الطلاقة وقوة الحجة ، والاستشهاد بالقرآن ، فصاح به.

«وبك جرأة على رد جوابي!! وفيك بقية للرد علي!!»

وصاح الرجس الخبيث بأحد جلاديه :

«خذ هذا الغلام ، واضرب عنقه»

وطاشت احلام السيدة زينب ، وانبرت بشجاعة لا يرهبها سلطان فأخذت الامام فاعتنقته وقالت لابن مرجانة :

«حسبك يا بن زياد من دمائنا ما سفكت ، وهل ابقيت احدا غير هذا ، فان أردت قتله فاقتلني معه».

وانخذل الطاغية ، وقال متعجبا :

__________________

(1) الحدائق الوردية 1 / 128

٣٤٦

«دعوه لها ، يا للرحم ودّت أنها تقتل معه»(1)

ولو لا موقف العقيلة لذهبت البقية من نسل الامام الحسين (ع) التي هي مصدر الخير والفضيلة في الأرض ، وروى الجاحظ ان ابن مرجانة قال لاصحابه في علي بن الحسين :

«دعوني اقتله فانه بقية هذا النسل ـ يعني نسل الحسين ـ فاحسم به هذا القرن ، واميت به هذا الداء ، واقطع به هذه المادة»(2) .

الا انهم اشاروا عليه بعدم التعرض له ، معتقدين أن ما الم به من الأمراض سوف تقضي عليه وقد انجاه اللّه منهم بأعجوبة.

ثورة ابن عفيف :

وتخدرت جماهير الكوفة تحت ضغط هائل من الارهاب والعنف ، حتى تغيرت الأوضاع العامة تغيرا كليا ، فلم تعد الكوفة كما كانت مسرحا للتيارات السياسية ، ومركزا للجبهة المعارضة ، فقد قبعت بالذل ، والهوان وسرت في اوردتها اوبثة الخوف.

من يستطيع ان يتكلم والجو ملبد بالمخاوف ، فرأس زعيم الأمة وقائدها الأعلى على الحراب ، وعقائل الرسالة سبايا في المصر ، فلم يعد في مقدور اي احد ان يتلفظ بحرف واحد فكمت الأفواه ، واخرست الألسن وملئت السجون بالرؤوس والضروس ، واستسلم الجميع لحكم ابن مرجانة ، وقد جاء الطاغية مزهوا الى الجامع الأعظم حيث عقد فيه اجتماعا عاما حضرته القوات المسلحة وسائر ابناء الشعب فاعتلى المنبر مظهرا فرحته

__________________

(1) تأريخ ابن الاثير 3 / 27

(2) رسائل الجاحظ

٣٤٧

الكبرى بهذا النصر الكاذب ، فقال ـ ويا لهول ما قال ـ :

«الحمد للّه الذي اظهر الحق وأهله ، ونصر امير المؤمنين يزيد وحزبه ، وقتل الكذاب ابن الكذاب الحسين بن علي وشيعته».

لقد قال هذه الكلمات في مجتمع عرف عدل علي وصدقه وخبر سيرة ولده الامام الحسين فرآها مشرقة بالحق والصدق ، ولو قال ذلك في الشام أو في اقليم آخر لعل له وجها الا انه قال ذلك في الكوفة التي هي عاصمة اهل البيت ولم يتم الخبيث كلماته حتى انبرى إليه البطل الثائر عبد اللّه ابن عفيف الأزدي الغامدي ، وكان ضريرا ذهبت احدى عينيه يوم الجمل والأخرى بصفين مع الامام امير المؤمنين وكان لا يفارق المسجد يتعبد فيه فصاح فيه :

«يا ابن مرجانة الكذاب ابن الكذاب أنت وابوك ، والذي ولاك وابوه ، يا بن مرجانة ، أتقتلون أولاد النبيين وتتكلمون بكلام الصديقين»(1)

وطاش لب الطاغية فقد كانت هذه الكلمات كالصاعقة على رأسه فصاح بأعلى صوته كالكلب المسعور :

«من هذا المتكلم»

«أنا المتكلم يا عدو اللّه أتقتلون الذرية الطاهرة التي اذهب اللّه عنهم الرجس ، وتزعم انك على دين الاسلام ، وا غوثاه اين أولاد المهاجرين والانصار لينتقموا من طاغيتك اللعين ابن اللعين على لسان محمد رسول رب العالمين».

وتبدد جبروت الطاغية ، وذهبت نشوة افراحه ، وعلا الضجيج وتتطلع الناس من جميع جنبات المسجد لتنظر الى القائل الذي ترجم ما في

__________________

(1) انساب الاشراف ق 1 ج 1

٣٤٨

عواطفهم فقد كانت هذه الصيحة اول رد علني على السلطة في قتلها لريحانة الرسول.

وصاح ابن زياد بعنف ، وقد امتلأ غضبا

«علي به»

فبادرت إليه الجلاوزة لتختطفه ، فنادى ابن عفيف بشعار اسرته.

«يا مبرور»

وكان في المجالس من الأزد سبع مائة ، فوثبوا إليه ، وانقذوه من ايدي الجلاوزة وجاءوا به الى منزله(1) ، وقال له عبد الرحمن بن مخنف الأزدي منددا به :

«ويح غيرك لقد اهلكت نفسك وعشيرتك»(2)

والتاع ابن زياد ، واضطرب ، فقد فتح عليه عبد اللّه باب المعارضة واطاح بهيبة الحكم ، ثم نزل من المنبر مغضبا ودخل القصر وتسابق الاشراف والعرفاء إليه فقال :

«أما رأيتم ما صنع هؤلاء»

«نعم»

واصدر اوامره الى اهل اليمن ، والى من كان معه بالقاء القبض على ابن عفيف ، واشار عليه عمرو بن الحجاج بحبس كل من كان في المسجد من الأزد فحبسوا ، ثم التحم اهل اليمن مع الأزد التحاما شديدا ، وجرت بينهم اعنف المعارك ، فقال ابن زياد لبعض شرطه انطلق ، وانظر ما بينهم فخف إليهم فرأى الحرب قائمة ، فقالوا له :

__________________

(1) انساب الأشراف ج 1 ق 1

(2) رياض الاحزان (ص 57)

٣٤٩

«قل للأمير : إنك لم تبعثنا الى نبط الجزيرة ، ولا جرامقة الموصل انما بعثتنا الى الأزد اسود الأجم ليسوا بيضة تحس ، ولا حرملة(1) توطأ ..».

وقتل من الازد عبد اللّه بن حوزة الوالبي ، ومحمد بن حبيب ، وكثرت القتلى من الجانبين الا ان اليمانية قد قويت على الأزد فصاروا الى حصن في ظهر دار ابن عفيف فكسروه ، واقتحموه ، وهجموا عليه فبقى وحده فناولته ابنته سيفا فجعل يذب به عن نفسه(2) وهو يرتجز ويقول :

انا ابن ذي الفضل العفيف الطاهر

عفيف شيخي وابن أم عامر

كم دارع من جمعكم وحاسر

وبطل جندلته مغاور

وكانت ابنته تخاطبه بذرب روحها قائلة :

«ليتني كنت رجلا اذب بين يديك هؤلاء الفجرة قاتلي العترة البررة»

واخذت ابنته تدله على المحاربين له فتقول له : «يا ابت اتاك القوم من جهة كذا» وتكاثروا عليه ، واحاطوا به من كل جانب ، فألقوا القبض عليه ، وانطلقوا به الى ابن زياد وهو يقول في طريقه :

أقسم لو يفسح لي عن بصري شق عليكم موردي ومصدري(3)

ولما مثل بين يدي الطاغية اسرع الخبيث إليه قائلا :

«الحمد للّه الذي أخزاك»

فاجابه ابن عفيف ساخرا منه ومحتقرا له

«بما ذا اخزاني؟»

__________________

(1) الحرملة : نبات حبه كالسمسم

(2) (3) انساب الاشراف ج 1 ق 1

٣٥٠

واراد ابن مرجانة ان يستحل دمه فسأله عن عثمان لعله أن ينتقصه فيتخذ من ذلك وسيلة الى اباحة دمه فقال له :

«ما تقول في عثمان؟»

وسدد له البطل العظيم سهاما من منطقه الفياض فقال له :

«ما أنت وعثمان أساء أم احسن ، اصلح أم افسد ، ان اللّه تعالى ولي خلقه يقضي بينهم وبين عثمان بالعدل والحق ، ولكن سلني عن أبيك وعنك ، وعن يزيد وأبيه».

ورأى الطاغية أنه امام بطل صعب المراس ، فقال له :

«لا سألتك عن شيء ، او تذوق الموت غصة بعد غصة»

وانبرى إليه ابن عفيف قائلا :

«الحمد للّه رب العالمين ، أما اني كنت اسأل ربي أن يرزقني الشهادة من قبل ان تلدك امك ، وسألت اللّه ان يجعلها على يدي العن خلقه ، وابغضهم إليه ، ولما كف بصري يئست من الشهادة أما الآن والحمد للّه الذي رزقنيها بعد اليأس ، وعرفني الاجابة في قديم دعائي»(1) .

والتاع الخبيث فأمر جلاديه بضرب عنقه ، وصلبه بالسبخة ففعلوا ذلك(2) .

وانتهت حياة هذا البطل العظيم الذي وهب حياته للّه ، فقاوم المنكر وناهض الجور ، وقال كلمة الحق في احلك الظروف واقساها.

__________________

(1) اللهوف (ص 92) مقتل الخوارزمي 2 / 53

(2) انساب الأشراف ج 1 ق 1

٣٥١

العفو عن ابن معقل :

كان ابن معقل من المشتركين في ثورة ابن عفيف ، فجيء به مخفورا الى ابن زياد فاصدر امرا بالعفو عنه ، وقال له : قد تركناك لابن عمك سفين بن عوف فانه خير منك(1) .

القاء القبض على جندب :

وامر الطاغية بالقاء القبض على جندب بن عبد اللّه الأزدي ، وهو من اسرة عبد اللّه بن عفيف وكان من خيار الشيعة ومن اصحاب الامام امير المؤمنين وجاءت به الشرطة مخفورا فلما مثل عنده صاح به.

«الست صاحب أبي تراب في صفين؟»

فلم يحفل به البطل العظيم وقال له :

«نعم ، واني لأحبه ، وافتخر به ، وامقتك واباك ، لا سيما الآن ، وقد قتلت سبط رسول اللّه وصحبه واهله ، ولم تخف من العزيز الجبار المنتقم ..».

وثار ابن مرجانة ، وقال له :

«إنك لأقل حياء من ذلك الأعمى ـ يعني ابن عفيف ـ وإني ما اراني الا متقربا الى اللّه بدمك».

«إذا لا يقربك اللّه»

__________________

(1) انساب الاشراف ج 1 ق 1

٣٥٢

وخاف الطاغية من أسرته فخلى عنه ، وقال : إنه شيخ ذهب عقله وخرف(1) .

الطاغية مع قيس :

وحضر قيس بن عباد في مجلس الطاغية ، فقال له أمام جلاوزته :

«ما تقول في وفي الحسين؟»

«اعفني ..»

«لتقولن»

«يجيء أبوه يوم القيامة فيشفع له ، ويجيء أبوك فيشفع لك»

واستشاط ابن زياد غضبا فصاح به :

«قد علمت غشك وخبثك ، لئن فارقتني يوما لأضعن بالأرض اكثرك شعرا»(2) .

وفرض عليه الرقابة والاقامة الجبرية في الكوفة

تقوير الرأس الشريف :

وأمر سليل الخيانة والغدر ابن مرجانة بتقوير رأس الامام (ع)

__________________

(1) انساب الاشراف ق 1 ج 1

(2) عيون الأخبار لابن قتيبة 2 / 197 ، وجاء في وفيات الأعيان 5 / 395 ان عبيد اللّه بن زياد قال لحارثة بن بدر العدواني : ما تقول في وفي الحسين يوم القيامة؟ قال : يشفع له أبوه وجده ، ويشفع لك أبوك وجدك فاعرف من هنا ما تريد.

٣٥٣

فتحاماه الناس ، ولم يجسر أحد الى الاقدام عليه سوى طارق بن مبارك(1) فاخذ الرأس الشريف ومثل به وقطع منه بعض الأجزاء فقام عمرو بن حريث فقال لابن زياد.

«قد بلغت حاجتك من هذا الرأس ، فهب لي ما القيت منه».

«وما تصنع به؟»

«اواريه»

فسمح له بذلك فاخذ القطع من رأس الامام ولفها في خرقة ودفنها في داره التي تعرف بدار عمرو بن حريث(2) .

الطواف بالرأس العظيم :

وأمر ابن مرجانة أن يطاف برأس الامام في جميع شوارع الكوفة وازقتها(3) وكان المنادي ينادي «قتل الكذاب ابن الكذاب»(4) وقد أراد بذلك اعلان النصر واذلال شيعة الامام ، ولم يدر في خلده انه قد أوسع المجال بذلك لنشر دعوة الامام واتمام رسالته فقد كان رأس الامام يوحي للمسلمين كيف يجب أن تعلو كلمة الحق ، وكيف تصان رسالة الاسلام.

__________________

(1) طارق بن مبارك : جد أبي علي كاتب عبد اللّه بن خاقان وزير المتوكل.

(2) مرآة الزمان في تواريخ الاعيان (ص 97) مرآة الجنان 1 / 135

(3) الدر النظيم (ص 17) مقتل الحسين لعبد اللّه

(4) التأريخ السياسي للدولة العربية 2 / 76

٣٥٤

وعلى أي حال فقد طيف برأس ريحانة رسول اللّه (ص) أمام أولئك الذين يدعون الاسلام ولم يهبوا للأخذ بثأره يقول دعبل الخزاعي :

رأس ابن بنت محمد ووصيه

يا للرجال على قناة يرفع

والمسلمون بمنظر وبمسمع لا

جازع من ذا ولا متخشع

لقد تخدر المسلمون بشكل رهيب ففقدوا ذاتياتهم ، واصبحوا اعصابا رخوة خالية من الشعور والاحساس.

حبس عقائل الوحي :

وأمر الطاغية ابن مرجانة بحبس عقائل الوحي ومخدرات الرسالة ، ولما جيء بهن الى السجن كانت الشوارع مكتظة بالرجال والنساء ، وهن يضربن الوجوه ويبكين أمر البكاء ـ حسبما يقول الامام زين العابدين ـ وادخلت بنات رسول اللّه (ص) الى السجن وقد ضيق عليهن أشد التضييق ، وقد رفضت حفيدة الرسول (ص) ان تقابلها أي امرأة حرة وقالت :

«لا تدخل علينا الا أم ولد أو مملوكة فانهن سبين وقد سبينا»

والقي على بنات رسول اللّه (ص) حجر قد ربط فيه كتاب جاء فيه ان البريد قد سار بامركم الى يزيد فان سمعتم التكبير فايقنوا بالهلاك وان لم تسمعوا بالتكبير فهو الامان ، وحددوا لمجيء الكتاب وقتا ، وذعرت النساء كأشد ما يكون الذعر ، وقبل قدوم البريد بيومين القي عليهم حجر آخر فيه كتاب جاء فيه «اوصوا واعاهدوا فقد قارب وصول البريد» وبعد انتهاء المدة جاء أمر يزيد بحمل الأسرى الى دمشق(1) وتنص بعض

__________________

(1) تأريخ ابن الأثير 3 / 298

٣٥٥

المصادر أن يزيد كان عازما على استئصال جميع نسل الامام امير المؤمنين الا انه بعد ذلك عدل عن نيته وعفا عنهم(1) .

اختطاف علي بن الحسين :

واختطف بعض الكوفيين الامام زين العابدين واخفاه في داره ، وجعل يكرمه ويحسن إليه ، وكان كلما دخل عليه يجهش بالبكاء فظن الامام به خيرا الا انه لم تمض الا فترة يسيرة من الزمن حتى نادى منادي ابن زياد من وجد علي بن الحسين واتى به فله ثلاث مائة درهم فلما سمعه الكوفي اسرع الى الامام فجعل في عنقه حبلا وربط يديه بالحبل وسلمه إليهم واخذ الدراهم(2) وهذه البادرة الغريبة تعطينا صورة عن مدى تهالك ذلك المجتمع على المادة وتفانيه في الحصول عليها بأي طريق كان.

ندم ابن سعد :

وندم الخبيث الدنس عمر بن سعد كأشد ما يكون الندم على اقترافه لتلك الجريمة النكراء وقد سأله بعض خواصه عند رجوعه من كربلا عن حاله فقال :

«ما رجع احد إلى أهله بشر مما رجعت به أطعت الفاجر الظالم ابن زياد ، وعصيت الحكم العدل ، وقطعت القرابة الشريفة وارتكبت

__________________

(1) الوافي 3 / 298

(2) مرآة الزمان في تواريخ الأعيان (ص 98) المنتظم الجزء الخامس.

٣٥٦

الأمر العظيم»(1) .

وما ذا يفيده الندم بعد ما سفك دماء العترة الطاهرة ، وقطع أواصر القربى التي أمر اللّه بمودتها.

ابن زياد يطالب ابن سعد بالكتاب :

وتعرض ابن زياد لحملة انتقادية واسعة النطاق من جميع الأوساط ، وقد رام أن يجعل تبعة ذلك على ابن سعد فهو المسئول عن اقتراف هذه الجريمة دونه ، فبعث خلفه وقال له :

ـ علي بالكتاب

ـ مضيت لأمرك وضاع الكتاب

ـ لتجيئني به

ـ بعثته واللّه ليقرأ على عجائز قريش اعتذارا إليهن ، أما واللّه لقد نصحتك في الحسين نصيحة لو نصحتها أبي سعد بن أبي وقاص لكنت قد أديت حقه وكان في المجالس عثمان بن زياد فقال لاخيه عبيد اللّه :

«صدق واللّه لوددت أنه ليس من بني زياد رجل الا وفي أنفه خزامة الى يوم القيامة وان الحسين لم يقتل».

وسكت الطاغية ولم يجبه بشيء(2) أما الكتاب الذي بعثه ابن سعد الى يثرب ليتقي به اللعنات التي تنصب عليه ، ويحمل الذنب على أميره وسيده ابن مرجانة فهذا نصه :

__________________

(1) الأخبار الطوال (ص 271) سير اعلام النبلاء 3 / 203 ، أنساب الأشراف ق 1 ج 1.

(2) المنتظم 5 / 98 ، الطبري 6 / 268.

٣٥٧

«من عبيد اللّه بن زياد إلى عمر بن سعد ، أما بعد : فاني لم ابعثك الى حسين لتكف عنه ، ولا لتطاوله ولا لتمنيه السلامة والبقاء ، ولا لتقعد له عندي شافعا ، انظر فان نزل حسين وأصحابه على حكمي واستسلموا فابعث بهم الي سلما ، وإن أبوا فازحف إليهم حتى تقتلهم ، وتمثل بهم فانهم لذلك مستحفون ، فان قتلت حسينا فأوطئ الخيل صدره وظهره فانه عاق شاق قاطع ظلوم فان أنت مضيت لأمرنا جزيناك جزاء السامع المطيع ، وإن أنت أبيت فاعتزل عملنا وجندنا ، وخل بين شمر بن ذي الجوشن وبين العسكر فانا قد أمرناه بأمرنا»(1) .

التنديد بابن زياد :

وندد بالطاغية بقتله لريحانة رسول اللّه (ص) القريب والبعيد وفيما يلي بعضهم.

1 ـ مرجانة

وسخطت مرجانة على ولدها الباغي الأثيم على اقترافه لهذه الجريمة النكراء فقالت له.

«يا خبيث قتلت ابن رسول اللّه ، واللّه لا رأيت وجه اللّه أبدا»(2)

__________________

(1) تاريخ الطبري 6 / 269

(2) مرآة الزمان في تواريخ الأعيان (ص 98) تذهيب التهذيب 1 / 156 ، تهذيب التهذيب 2 / 357.

٣٥٨

2 ـ عثمان بن زياد

وأنكر على الطاغية أخوه عثمان بن زياد وقال له : «واللّه لوددت انه ليس من بني زياد رجل الا وفي انفه خزامة الى يوم القيامة وان الحسين لم يقتل»(1) .

3 ـ معقل بن يسار

وممن نقم على ابن مرجانة معقل بن يسار فقد انتقده انتقادا لاذعا ، وندد به وهجره. لقد كان قتل الامام من الأحداث الجسام التي اهتز من هولها العالم الاسلامي ، وقد استعظمه المسلمون كأشد ما يكون الاستعظام ، فقد انتهكت فيه حرمة الرسول (ص) التي هي اولى بالرعاية والعطف من كل شيء.

الانكار على ابن سعد :

وأنكر الناس على ابن سعد جريمته النكراء ، فبغضوه ونبذوه ، وكان كلما مر على ملأ من الناس لعنوه واذا دخل الجامع خرجوا منه(2) .

الاستياء الشامل :

وأحدث قتل الامام استياء شاملا في جميع الأوساط يقول الحصين ابن عبد الرحمن السلمي لما جاءنا قتل الحسين مكثنا ثلاثة أيام كأن وجوهنا

__________________

(1) الطبري 6 / 268

(2) مرآة الزمان (ص 68)

٣٥٩

قد طليت رمادا(1) ويقول هبيرة بن خزيمة اخبرت الربيع بن خثيم بقتل الحسين فتغير وقرأ قوله تعالى : «اَللّٰهُمَّ فٰاطِرَ اَلسَّمٰاوٰاتِ واَلْأَرْضِ عٰالِمَ اَلْغَيْبِ واَلشَّهٰادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبٰادِكَ فِي مٰا كٰانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ »(2) ثم قال :

«لقد قتلوا فتية لو رآهم رسول اللّه (ص) لاحبهم وأطعمهم بيده واجلسهم على فخذه»(3) .

واخبر الحسن البصري بقتل الحسين فبكى حتى اختلج جنباه وقال :

«واذلاه لأمة قتل ابن دعيها ـ يعني ابن مرجانة ـ ابن نبيها(4) واللّه لينتقمن له جده وأبوه من ابن مرجانة» وقال عمرو بن بعجة :

«أول ذل دخل على العرب قتل الحسين وادعاء زياد»(5) .

لقد التاع المسلمون كاشد ما يكون الالتياع حزنا وألما على قتل ريحانة رسول اللّه (ص) وبكوا أمر البكاء فكان الامام الشافعي يبكي اشد البكاء ويتلو هذه الأبيات :

تأوب همي والفؤاد كثيب

وارق عيني والرقاد غريب

ومما نفى نومي وشيب لمتي

تصاريف أيام لهن خطوب

تزلزلت الدنيا لآل محمد

وكادت لها صم الجبال تذوب

فمن مبلغ عني الحسين رسالة

وان كرهتها أنفس وقلوب

قتيل بلا جرم كأن قميصه

صبيغ بماء الارجوان خضيب

__________________

(1) تهذيب التهذيب 2 / 382

(2) طبقات ابن سعد 6 / 190

(3) الصراط السوي في مناقب آل النبي (ص 94)

(4) تفسير المطالب في أمالي أبي طالب (ص 289)

(5) مجمع الزوائد 9 / 196 ، المعجم الكبير 1 / 141

٣٦٠