حياة الامام الحسين عليه السلام الجزء ٣

حياة الامام الحسين عليه السلام16%

حياة الامام الحسين عليه السلام مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 496

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 496 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 308300 / تحميل: 5980
الحجم الحجم الحجم
حياة الامام الحسين عليه السلام

حياة الامام الحسين عليه السلام الجزء ٣

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

«عند اللّه احتسب نفسي وحماة اصحابي»(1)

مصرع الحر :

وبرز البطل العظم الحر بن يزيد الرياحي الذي استجاب لنداء الحق وآثر الآخرة على الدنيا فاستقبل الموت بثغر باسم وسرور بالغ لنصرة ريحانة رسول اللّه (ص) وجعل يقاتل اعنف القتال واشده وهو يرتجز :

اني أنا الحر ومأوى الضيف

أضرب في اعراضكم بالسيف

عن خير من حلّ بلاد الخيف

اضربكم ولا أرى من حيف(2)

لقد دلل بهذا الرجز على كرمه وسخائه وان بيته كان مأوى للضيوف وموطنا للقاصدين ، كما أعلن انه انما يضرب في اعناقهم بسيفه حماية عن الامام العظيم الذي هو خير من استوطن بلاد الخيف ، وهو بذلك لا يرى بأسا أو حيفا في قتاله لهم.

وكان الحر يقاتل ومعه زهير بن القين ، وكان اذا شد أحدهما واستلحم شد الآخر واستنقذه وداما على ذلك ساعة(3) واصيب فرس الحر بجراحات فلم ينزل عنه وانما ظل يقاتل عليه وكان يتمثل بقول عنترة :

ما زلت أرميهم بثغرة نحره

ولبانه حتى تسربل بالدم

وكانت بين الحر وبين يزيد بن سفيان عداوة قديمة ومتأصلة فاستغلها الحصين بن نمير فقال له : هذا الحر الذي كنت تتمنى قتله ، وحمل عليه يزيد فشد عليه الحر فقتله ، وسدد ايوب بن مشرح سهما لفرس الحر

__________________

(1) تأريخ ابن الأثير 3 / 292 ، تأريخ الطبري 6 / 251

(2) الفتوح 5 / 185

(3) البداية والنهاية 8 / 183

٢٢١

فعقره وشب به الفرس فوثب عنه كأنه الليث ، ولم يصب بضرر وجعل يقاتل ببسالة وهو راجل حتى قتل فيما يقول بعض المؤرخين نيفا واربعين رجلا(1) وحملت عليه الرجالة بسيوفها ورماحها فاردته إلى الأرض صريعا يتخبط بدمه الزاكي ، وبادر اصحاب الامام فحملوه ووضعوه أمام الفسطاط الذي كانوا يقاتل دونه ، ووقف عليه الامام فجعل يتأمل وجهه الوديع بنظرات ملؤها نور اللّه ، ووقف اصحابه في خشوع وانبرى الامام فجعل يمسح الدم من وجهه وهو يؤبنه بهذه الكلمات.

«أنت الحر كما سمتك أمك ، وأنت الحر في الدنيا والآخرة»

لقد كان الحر حرا حينما تغلب عقله على هواه واختار الشهادة على الحياة فنصر سيد شباب أهل الجنة ، ومات ميتة كريمة في سبيل الحق ، وانبرى بعض أصحاب الامام فرثاه بخشوع :

لنعم الحر حر بني رياح

صبور عند مشتبك الرماح

ونعم الحر اذ فادى حسينا

وجاد بنفسه عند الصباح(2)

اداء فريضة الصلاة :

وبالرغم مما كان الامام يعانيه من الخطوب الفادحة التي تتصدع من هولها الجبال فان فكره كان مشغولا بأداء فريضة الصلاة التي هي من أهم العبادات في الاسلام ، وطلب من أعدائه أن يمهلوه ليصلي لربه ، فاستجابوا له ، واقبل على اللّه بقلب منيب فصلى بمن بقي من اصحابه

__________________

(1) البداية والنهاية 8 / 183

(2) المناقب 4 / 217

٢٢٢

صلاة الخوف(1) وكانت صلاته في تلك اللحظات الرهيبة من اصدق مظاهر الاخلاص والطاعة للّه ، وانبرى امام الحسين سعيد بن عبد اللّه الحنفي يقيه بنفسه السهام والرماح التي تواجهه من معسكر الأعداء الذين خاسوا ما عاهدوا الامام عليه من ايقاف عمليات الحرب حتى يؤدي فريضة اللّه فقد اغتنموا الفرصة فراحوا يرشقون الامام واصحابه بسهامهم ، وكان سعيد الحنفي فيما يقول المؤرخون ـ يبادر نحو السهام فيتقيها بصدره ونحره ، ووقف ثابتا كأنه الجبل ألم تزحزحه السهام التي اتخذته هدفا لها ، ولم يكد يفرغ الامام من صلاته حتى اثخن بالجراح فهوى إلى الأرض يتخبط بدمه ، وهو يقول بنبرات خافتة :

«اللهم العنهم لعن عاد وثمود ، وابلغ نبيك مني السلام ، وابلغه ما لقيت من ألم الجراح فاني أردت بذلك ثوابك ونصرة ذرية نبيك».

والتفت الى الامام ليرى هل أدى حقه ووفى له بعهده قائلا :

«أوفيت يا ابن رسول اللّه (ص)؟»

فأجابه الامام شاكرا له :

«نعم أنت امامي في الجنة»

واترعت نفسه بالرضا والمسرات حينما سمع قول الامام ثم فاضت نفسه الزكية إلى بارئها ، وقد تخرق جسده من السهام والرماح فقد اصيب بثلاثة عشر سهما عدا الضرب والطعن(2) لقد كان حقا هذا هو الوفاء الذي لا يبلغه وصف ولا اطراء.

__________________

(1) انساب الأشراف ق 1 ج 1

(2) مقتل الحسين للمقرم (ص 297)

٢٢٣

مصرع زهير :

ومن انصار الامام الحسين الذين صهر نفوسهم الايمان باللّه زهير بن القين فقد كان يتعجل الرواح الى الجنة لمصافحة الرسول (ص) وقد اتجه صوب الامام وهو جذلان مسرور بما يقوم به من التضحية في سبيله ، ووضع يده على منكب الحسين وهو يخاطبه بهذا الرجز :

اقدم هديت هاديا مهديا

فاليوم القى جدك النبيا

وحسنا والمرتضى عليا

وذا الجناحين الفتى الكميا

واسد اللّه الشهيد الحيا

وكشف هذا الرجز عن ايمانه الراسخ فانه على يقين لا يخامره شك انه سيحظى بملاقاة النبي (ص) ووصيه الامام امير المؤمنين والحسن وجعفرا وحمزة ، وكان ذلك من اروع ما يصبو إليه. واجابه الامام :

«وأنا القاهم على أثرك»(1)

وحمل البطل على معسكر ابن زياد وهو يرتجز :

أنا زهير وانا ابن القين

اذودكم بالسيف عن حسين

لقد عرفهم بنفسه ، واعلن لهم انه انما يناجزهم الحرب دفاعا عن سيده الحسين ، وقاتل كاعنف واشد ما يكون القتال ، وقد قتل فيما يقول المؤرخون مائة وعشرين رجلا(2) وابلى فى المعركة بلاء يتعاظم عنه الوصف ، وشد عليه المهاجر بن اوس ، وكثير بن عبد اللّه الشعبي فقاتلاه ومشى لمصرعه الحسين وهو مثقل بالهموم والأحزان فألقى عليه نظرة الوداع الأخير ، وراح يؤبنه قائلا :

__________________

(1) تأريخ الطبري 6 / 253

(2) مقتل المقرم (ص 299)

٢٢٤

«لا يبعدنك اللّه يا زهير ، ولعن قاتليك لعن الذين مسخوا قردة وخنازير ..»(1) .

مصرع نافع بن هلال :

وممن وهب حياته للّه نافع بن هلال الجملي(2) فقد انبرى بايمان وصدق فجعل يرمي اعداء اللّه بسهام مسمومة كان قد كتب عليها اسمه وهو يقول :

ارمي بها معلمة أفواقها

مسمومة تجري بها اخفاقها

ليملأن أرضها رشاقها

والنفس لا ينفعها اشفاقها

ولم يزل يرميهم بسهامه حتى نفدت ثم عمد إلى سيفه فسله وحمل عليهم وهو يرتجز :

أنا الغلام التميمي البجلي

ديني على دين حسين بن علي

ان اقتل اليوم وهذا عملي

وذاك رأيي ألاقي عملي

لقد عرفهم بنفسه ، وعرفهم بعقيدته فهو على دين الحسين ريحانة رسول اللّه (ص) وهو انما يقاتل دفاعا عن عقيدته ومبدئه.

وجعل يقاتل بعزم شامخ قد استمد من وحدة سيده الحسين وغربته النشاط والحماس ، وقد قتل منهم اثني عشر رجلا سوى المجروحين(3) وأحاط به اعداء اللّه فجعلوا يرشقونه بالسهام ويقذفونه بالحجارة حتى كسروا

__________________

(1) تأريخ الطبري 6 / 253

(2) وفي الطبري نافع بن هلال البجلي

(3) مقتل الخوارزمي 2 / 21

٢٢٥

عضدية ، فلم يتمكن أن يقل سيفه فبادروا إليه وأخذوه اسيرا إلى ابن سعد فقال له :

«ما حملك على ما صنعت بنفسك؟»

فأجابه جواب المؤمن بربه قائلا :

«ان ربي يعلم ما أردت»

والتفت إليه بعض أصحاب ابن سعد وقد رأى الدماء تسيل على وجهه ولحيته فقال له :

«أما ترى ما بك؟»

فقال مستهزئا ومثيرا لغضبهم :

«واللّه لقد قتلت منكم اثني عشر رجلا سوى من جرحت ، وما الوم نفسي على الجاهد ، ولو بقيت لي عضد ما اسرتموني».

وثار الابرص الخبيث شمر بن ذي الجوشن فعمد إلى سيفه فسله ، فصاح به نافع :

«واللّه يا شمر لو كنت من المسلمين لعظم عليك أن تلقى اللّه بدمائنا فالحمد للّه الذي جعل منايانا على أيدي شرار خلقه».

اجل واللّه لو كان عند الشمر مسكة من الدين لما اقترف تلك الجرائم التي لا يقترفها إلا من لا علاقة له باللّه ، واندفع الوغد الى نافع فضرب عنقه(1) وبذلك انتهت حياة هذا البطل العظيم الذي اخلص لدينه ، واخلص في الدفاع عن ابن رسول اللّه (ص) وهو من اعظم رجال الاسلام صلابة في الحق وصدقا في الدفاع عنه.

__________________

(1) تأريخ ابن كثير 8 / 84 ، انساب الاشراف ق 1 ج 1

٢٢٦

عابس مع شوذب :

ولما رأى البطل الملهم عابس بن شبيب الشاكري وحدة الامام واجتماع أهل الكوفة على قتله أقبل على رفيقه في الجهاد شوذب مولى شاكر(1) فقال له :

«يا شوذب ما في نفسك أن تصنع؟»

فانبرى شوذب يعلن ما صمم عليه من الفداء والتضحية قائلا :

«اقاتل حتى اقتل»

فشكره عابس وأثنى عليه قائلا :

«تقدم بين يدي أبي عبد اللّه حتى يحتسبك كما احتسب غيرك فان هذا يوم نطلب فيه الأجر بكل ما نقدر عليه».

فأي ايمان مثل هذا الايمان؟ انه كان يسعى جاهدا بجميع طاقاته ليظفر بما يقربه إلى اللّه زلفى ، وتقدم شوذب فأدى التحية الى الامام وحمل على معسكر ابن سعد فقاتل قتال الأبطال حتى استشهد بين يدي أبي عبد اللّه(2) .

مصرع عابس الشاكري :

وعابس الشاكري كان من اسرة عريقة في الشرف والنبل ، عرفت بالشجاعة والاخلاص للحق ، وفيهم يقول الامام علي (ع) : «لو تمت عدتهم الفا لعبد اللّه حق عبادته» وكانوا يلقبون «فتيان الصباح» وكان عابس

__________________

(1) ورد في الزيارة الرجبية (سويد مولى شاكر)

(2) تأريخ الطبري 6 / 254

٢٢٧

في طليعة اسرته ، ومن افذاذهم وهو الذي حمل رسالة مسلم الى الحسين التي يطلب فيها قدومه الى العراق ، وظل ملازما للامام من مكة إلى كربلا وكان من ألمع أصحابه في الولاء والاخلاص له ، وقد تقدم إليه يطلب منه الاذن في القتال وخاطب الامام فأعرب له بما يحمله في نفسه من الولاء العميق قائلا :

«ما أمسى على ظهر الأرض قريب ولا بعيد أعز علي منك ، ولو قدرت أن أدفع الضيم عنك بشيء اعز علي من نفسي لفعلت السلام عليك اشهد اني على هداك وهدى أبيك»(1) .

ثم هجم على معسكر ابن سعد ، وطلب منهم المبارزة فلم يجبه أحد فقد جبنوا جميعا عن مقابلته لأنهم كانوا يعرفونه من اشجع الناس ، فجعلوا يتصايحون وقد ملأ الذعر قلوبهم واختطف الخوف الوانهم قائلين :

«هذا اسد الاسود ، هذا ابن أبي شبيب لا يخرجن إليه أحد منكم ..».

وصاح ابن سعد بجيشه :

«ارضخوه بالحجارة»

وعمدوا إلى الحجارة فجعلوا يرضخونه بها من كل جانب ، ولما رأى البطل جبنهم واحجامهم عن مقابلته القى درعه ومغفره وشد عليهم كالليث فكان يطرد ما بين يديه أكثر من مائة فارس ثم انعطفوا عليه من كل جانب فأردوه صريعا ، واحتزوا رأسه الشريف ، وجعلوا يتخاصمون فيما بينهم كل واحد منهم يدعي انه قتله ليحظى بالجائزة وانكر ابن سعد أن يكون قد قتله واحد منهم وانما اشترك في قتله جماعة منهم(2) وقد انتهت بذلك حياة

__________________

(1) انساب الأشراف ق 1 ج 1

(2) تأريخ الطبري 6 / 254

٢٢٨

هذا البطل العظيم الذي أبلى في الدفاع عن الاسلام بلاء حسنا ، وجاهد جهاد النبيين.

هزيمة الضحاك :

وكان الضحاك بن عبد اللّه المشرفي من اصحاب الامام إلا انه لما رأى كثرة القتلى من أصحاب الحسين صمم على الهزيمة والفرار ، وجاء إلى الحسين فقال له :

«لقد كنت رافقتك على أن اقتل معك ما وجدت مقاتلا ، فأذن لي في الانصراف فاني لا أقدر على الدفاع عنك ، ولا عن نفسي».

واذن له الإمام في الانصراف فولى منهزما ، وعرض له قوم من اصحاب ابن سعد الا انهم خلوا سبيله فمضى هاربا فلم يرزق الشهادة بين يدي ريحانة رسول اللّه (ص)(1) .

شهادة جون :

وجون(2) من أفذاذ الاسلام ، وهو مولى لأبي ذر الغفاري ، وكان شيخا كبيرا قد اترعت نفسه الشريفة بالتقوى والايمان ، ولم يمنعه سواد بشرته وتواضع حسبه أن يتبوأ المكان الرفيع ، ويكون من اعلام المسلمين فينال من الاكبار والتعظيم ما لم ينله أحد من أبطال التأريخ ، ويقول المؤرخون انه تقدم ضارعا الى الامام ليمنحه الاذن فيستشهد بين

__________________

(1) أنساب الأشراف ق 1 ج 1 ، تأريخ الطبري 6 / 255

(2) قيل اسمه حوي

٢٢٩

يديه فقال له الامام :

«يا جون انما تبعتنا طلبا للعافية فأنت في اذن مني»

وهوى جون على قدمي الامام يوسعهما تقبيلا ودموعه تتبلور على خديه وهو يقول :

«أنا في الرخاء الحسن قصاعكم وفي الشدة اخذلكم ، ان ريحي لنتن وحسبي للئيم ، ولوني لأسود فتنفس علي بالجنة ليطيب ريحي ويشرف حسبي ، ويبيض لوني لا واللّه لا أفارقكم حتى يختلط هذا الدم الأسود مع دمائكم ..»(1) .

أية عظمة عبرت عنها هذه الكلمات المشرقة؟ واي شرف انطوت عليه نفسه؟ ان لونه الأسود لأشرق وانضر من الوان اولئك العبيد وهو الحر بما يحمل من سمو النفس ، وشرف الذات ، وان ريحه لأطيب من ريحهم ، وان حسبه هو الحسب الوضاح ، وان اهل الكوفة هم المغمورون فى احسابهم فقد تنكروا لانسانيتهم ، وصاروا وصمة عار وخزي على البشرية بأسرها.

لقد حفل كلام جون بمنطق الأحرار فانه ليس من الانسانية في شيء أن ينعم في ظلال الامام أيام الرخاء ، ويخذله امام هذه المحنة القاسية ، لقد كان الوفاء من العناصر المميزة لكل فرد من أصحاب الامام أبي عبد اللّه على بقية شهداء العالم.

وأذن له الامام فبرز مزهوا وهو يرتجز :

كيف ترى الفجار ضرب الأسود

بالمشرفي القاطع المهند

بالسيف صلنا عن بني محمد

أذب عنهم باللسان واليد

__________________

(1) مثير الاحزان لابن نما (ص 23)

٢٣٠

ارجو بذاك الفوز يوم المورد

من الاله الواحد الموحد

إذ لا شفيع عنده كأحمد(1)

ودلل بهذا الرجز على بسالته وشجاعته ، وهو انما يدافع عن ابناء النبي (ص) ويذب عنهم بلسانه ويده لا يبتغي في ذلك أي شأن من شئون الدنيا ، وانما يرجو الفوز في الدار الآخرة والشفاعة من النبي العظيم (ص).

وقاتل جون قتال الأبطال فقتل فيما يقول المؤرخون خمسة وعشرين رجلا ، وحمل عليه أعداء اللّه فأردوه قتيلا ، وخف إليه الامام فجعل ينظر إلى جثمانه المخضب بالدماء واخذ يدعو له قائلا :

«اللهم بيض وجهه ، وطيب ريحه واحشره مع محمد ، وعرف بينه وبين آل محمد».

واستجاب اللّه دعاء الامام فكان من يمر بالمعركة يشم منه رائحة طيبة أذكى من المسك(2) .

شهادة حنظلة الشبامي :

وحنظلة الشبامي ممن صاغ حياته على الايمان باللّه حتى بلغ أعلى مستويات القيم الانسانية تقدم إلى الامام بلهفة وشوق ليأخذ مكانه العالي مع الشهداء من اصحاب الامام وطلب منه الاذن ، فسمح له ، وتقدم الى ساحة القتال فجعل يعظ القوم ويذكرهم الدار الآخرة قائلا :

__________________

(1) الفتوح 5 / 198

(2) مقتل المقرم (ص 204)

٢٣١

«يا قوم : اني اخاف عليكم مثل يوم الاحزاب مثل دأب قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم ، وما اللّه يريد ظلما للعباد ، يا قوم إني اخاف عليكم يوم التناد يوم تولون مدبرين مالكم من اللّه من عاصم ، ومن يضلل اللّه فماله من هاد يا قوم لا تقتلوا حسينا فيسحتكم اللّه بعذاب وقد خاب من افترى».

ولم يع أولئك الاوغاد كلامه وانما راحوا سادرين في طيشهم وضلالهم قد ختم اللّه على قلوبهم واسماعهم فهم لا يبصرون ، وشكر له الامام مقالته ، وقال له :

«رحمك اللّه انهم قد استوجبوا العذاب حين ردوا عليك ما دعوتهم إليه من الحق ، ونهضوا إليك ليستبيحوك وأصحابك ، فكيف بهم الآن وقد قتلوا اخوانك الصالحين؟».

«صدقت يا ابن رسول اللّه ، أفلا نروح الى الآخرة؟»

واذن له الامام فانطلق الى ساحة المعركة بشوق ليفوز بالشهادة ، وقاتل قتال الأبطال حتى استشهد(1) وقد وفى بما عاهد عليه اللّه من نصرة الحق والفداء في سبيل الاسلام.

مصرع الحجاج :

ومن بين صفحات الفداء الباهرة التي تحمل العظمة الانسانية الحجاج ابن مسروق الجعفي ، فقد برز إلى ساحة الحرب ، وجعل يقاتل اعنف القتال وأشده حتى خضب بدمائه الزكية ، فقفل راجعا الى الامام الحسين وهو جذلان مسرور بما قدمه من الفداء والتضحية في سبيله ، وأخذ

__________________

(1) تأريخ الطبري 6 / 254

٢٣٢

يخاطب الامام بهذا الرجز :

اليوم القى جدك النبيا

ثم أباك ذا الندى عليا

ذاك الذي نعرفه وصيا

إنه ليقدم على رسول اللّه (ص) وهو مرفوع الرأس بما قدم من التضحية في سبيل ريحانته ، وقد اجابه الامام.

«وأنا على أثرك القاهما»

ورجع إلى حومة الحرب فجعل يقاتل ببسالة وصمود حتى استشهد(1) دفاعا عن الحق فلذكره المجد والخلود.

مصرع عمرو بن جنادة :

وبرز الفتى النبيل عمرو بن جنادة الأنصاري وهو اصغر جندي في معسكر الحسين ولكنه كان يفوق في عقله ودينه من في معسكر ابن سعد ، ويقول المؤرخون انه كان يبلغ من العمر احدى عشرة سنة ، وقد استشهد ابوه في المعركة ، فلما طلب الاذن من الامام لم يسمح له بذلك وقال :

«هذا غلام قتل ابوه في الحملة الأولى ولعل أمه تكره ذلك»

واندفع الفتى يلح على الامام ويقول له :

«إن أمي امرتني»

فاذن له الامام ، ومضى الفتى متحمسا إلى الحرب فلم يلبث الا قليلا حتى استشهد ، واحتزّ رأسه الشريف اوغاد اهل الكوفة ورموا به صوب مخيم الحسين فبادرت إليه السيدة أمه فأخذته وجعلت توسعه تقبيلا ، ثم مسحت عنه الدم ، ورمت به رجلا قريبا منها فصرعته وسارعت إلى

__________________

(1) مقتل المقرم (ص 306)

٢٣٣

المخيم فأخذت عمودا وحملت على اعداء اللّه وهي ترتجز :

أنا عجوز في النساء ضعيفة

خاوية بالية نحيفة

أضربكم بضربة عنيفة

دون بني فاطمة الشريفة

واصابت رجلين فبادر إليها الامام وردها الى المخيم(1) لقد اثرت غربة الامام ووحدته على عواطف هذه السيدة الكريمة ، فقدمت فلذة كبدها فداء له ، ثم انعطفت هي في ميدان القتال لتفديه بنفسها ، فكان ـ حقا ـ هذا منتهى الايمان والاخلاص.

مصرع أنس الكاهلي :

وانس بن الحارث الكاهلي من صحابة النبي (ص) وقد شهد معه بدرا وحنينا ، وقد سمعه يقول : «ان ابني هذا ـ يعني الحسين ـ يقتل بأرض كربلا ، فمن شهد ذلك منكم فلينصره»(2) وقد لازم الحسين وصحبه من مكة ، وكان شيخا كبيرا طاعنا في السن وقد استأذن من الامام أن يجاهد بين يديه فاذن له ، وقد شد وسطه بعمامته نظرا لتقوس ظهره كما رفع حاجبيه بالعصابة فلما نظر إليه الامام ارخى عينيه بالبكاء ، وقال له : شكر اللّه لك يا شيخ ، وقاتل ـ على كبر سنه ـ قتال الأبطال فروي أنه قتل ثمانية عشر رجلا ثم استشهد(3) وسمت روحه الطاهرة الى الرفيق الاعلى مع النبيين والصديقين والشهداء وحسن اولئك رفيقا.

__________________

(1) مقتل الخوارزمي 2 / 140

(2) اسد الغابة 1 / 349 ، الاصابة 1 / 68 ، كنز العمال 6 / 223

(3) مقتل المقرم

٢٣٤

مصرع أبي الشعثاء :

وابو الشعثاء هو يزيد بن زياد بن المهاجر الكندي ، وكان من ابطال العرب وفرسانهم ، وكان ممن خرج مع ابن سعد لحرب الامام ، ولما عرض الامام على ابن سعد الشروط التي اشترطها وأبى ابن سعد مال الى الحسين(1) وجعل يرشق القوم بسهامه ويقول المؤرخون انه رماهم بمائة سهم فما سقط منها غير سهم ، وكلما رمى يقول له الامام.

«اللهم سدد رميته واجعل ثوابه الجنة»

ولما نفدت سهامه جرد سيفه وحمل عليهم وهو يرتجز :

أنا يزيد وأبي مهاجر

اشجع من ليث بغيل خادر(2)

يا رب اني للحسين ناصر

ولابن سعد رافض وهاجر

وقاتل قتال الأبطال حتى قتل(3) وانتهت بذلك حياته مدافعا عن دين اللّه ومناصرا لريحانة رسول اللّه (ص).

مصرع الجابريين :

ومن المع أنصار الامام (ع) الجابريان ، وهما : سيف بن الحارث ابن سريع الجابري ومالك بن عبد بن سريع الجابرى وكانا اخوين من أم وابني عم ، وقد تقدما بين يدي أبي عبد اللّه ، وعيناهما تفيضان دموعا فقال لهما الامام :

«ما يبكيكما اني لأرجو أن تكونا بعد ساعة قريري العين؟»

__________________

(1) انساب الأشراف ق 1 ج 1 ، تأريخ ابن الأثير 3 / 293 وجاء فيه انه اول من قتل من أصحاب الامام.

(2) وفي الفتوح 5 / 199 «ليث عبوس في العرين جاذر»

(3) انساب الأشراف ق 1 ج 1

٢٣٥

فاسرعا قائلين :

«جعلنا اللّه فداك ، ما على انفسنا نبكي ، ولكن نبكي عليك ، نراك قد أحيط بك ، ولا نقدر أن تنفعك».

لقد امتلأت قلوب أصحاب الامام بالولاء الباهر والاخلاص العميق له فكانوا لا يفكرون إلا به ، ويتحرقون ألما وحزنا عليه.

وقاتل الجابريان قتال الأبطال ، وقد تناهبت أشلاءهما السيوف والرماح في وحشية قاسية ، واستشهدا بالقرب من الامام(1) .

مصرع الغفاريين :

وبرز إلى ساحة الجهاد الاخوان عبد اللّه وعبد الرحمن ابنا عروة الغفاري فجعلا يقاتلان باستبسال نادر حتى استشهدا بين يدي الامام(2) .

مصرع الانصاريين :

ولما استغاث الامام وجعل يطلب الناصر والمعين لحماية عقائل النبوة ومخدرات الوحي اثر ذلك في نفوس الأنصاريين ، وهما سعد بن الحارث واخوه ابو الحتوف وكانا مع ابن سعد فمالا بسيفيهما على معسكر ابن سعد وقاتلا حتى قتلا(3) .

شهادة انيس :

وانبرى إلى ساحات الجهاد بين يدي أبي عبد اللّه انيس بن معقل الأصبحي وهو يرتجز :

أنا أنيس وأنا ابن معقل

وفي يميني نصل سيف مصقل

__________________

(1) تأريخ ابن الأثير 3 / 292

(2) تأريخ ابن الأثير 3 / 292

(3) الحدائق الوردية

٢٣٦

اضرب به في الحرب حتى ينجلي

اعلي به الهامات وسط القسطل

عن الحسين الماجد المفضل

ابن رسول اللّه خير مرسل

وقد مثل هذا الرجز الحماس الديني الذي سيطر عليه فقد عرفهم بنفسه وأعلن انه انما يقاتلهم دفاعا عن ابن رسول اللّه ، وهو لا يبغي بذلك أي مطمع سوى رضاء اللّه : وقاتل البطل قتالا عنيفا حتى استشهد(1) .

مصرع قرة الغفاري :

ومن اصحاب الامام الذين استشهدوا للحق قرة بن أبي قرة الغفاري فقد برز وهو يرتجز :

قد علمت حقا بنو غفار

وخندف بعد بني نزار

بأنني الليث لدى الغبار

لأضربن معشر الفجار

بكل عضب ذكر بتار

ضربا وحتفا عن بني المختار

رهط النبي السادة الأبرار(2)

وهذا الرجز يتدفق بالحيوية والحماس للدفاع عن عترة النبي (ص) وقد دلل على بطولته بأن بني غفار وخندف وبني نزار كلهم يشهدون ببسالته وشجاعته ، وهو انما يجاهد دفاعا عن السادة الابرار ابناء رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وقاتل البطل الغفاري قتالا شديدا حتى هوى جسده الشريف الى الأرض تحت ضرب السيوف وطعن الرماح ، وسمت روحه الى الرفيق الأعلى.

__________________

(1) الفتوح 5 / 198

(2) الفتوح 5 / 195

٢٣٧

مصرع يحيى المازني :

وبرز إلى حومة الحرب يحيى بن سليم المازني ، وهو يرتجز :

لأضربن القوم ضربا فيصلا

ضربا شديدا في العداة معجلا

لا عاجزا فيها ولا مولولا

ولا اخاف اليوم موتا مقبلا

لكنني كالليث أحمي مشبلا

واعلن بهذا الرجز عن شجاعته فهو سينزل بالأعداء الضربات القاسية وانه سيحاربهم ببسالة وصمود لا عاجزا ، ولا مولولا ، ولا خائفا من الموت ، وانما هو كالليث يصول فيهم ليحمي عترة رسول اللّه ، وشد عليهم كأنه جيش ، وقاتلهم أعنف القتال واشده حتى استشهد بين يدي أبي عبد اللّه(1) .

الامام مع اصحابه :

وكان الامام يبعث في نفوس اصحابه روح العزم والصمود ، ويوصيهم بالصبر على ملاقاة الأهوال قائلا لهم :

«صبرا بني الكرام فما الموت الا قنطرة تعبر بكم عن البؤس والضراء الى الجنان الواسعة ، والنعم الدائمة ، فأيكم يكره أن ينتقل من سجن إلى قصر ، ان أبي حدثني عن رسول اللّه (ص) انه قال : ان الدنيا سجن المؤمن ، وجنة الكافر ، والموت جسر هؤلاء إلى جنانهم ، وجسر هؤلاء الى جحيمهم. ما كذبت ، ولا كذبت»(2) .

وقد الهبت هذه الكلمات عواطفهم فخاضوا الموت في استبسال عاصف ليصلوا الى مراتبهم في الفردوس الأعلى.

__________________

(1) الفتوح 5 / 194

(2) مقتل الحسين لعبد اللّه نور اللّه

٢٣٨

شهادة عبد اللّه اليزني :

وخرج إلى ميدان القتال عبد اللّه اليزني فقاتل ببسالة نادرة وهو يرتجز :

انا ابن عبد اللّه من آل يزن

ديني على دين حسين وحسن

اضربكم ضرب فتى من اليمن

ارجو بذلك الفوز عند المؤتمن

لقد عرفهم بنفسه وأسرته وبلده ، وعرفهم أنه على دين سيده الحسين ، وهو اذ يضحي بنفسه في سبيله فانما يرجو بذلك الفوز عند اللّه وقاتل كما قاتل اخوانه الشهداء ببسالة وعزم ثم استشهد(1) .

الامام مع الشهداء :

وكان الامام العظيم يقف على الشهداء الممجدين من أصحابه وهو يتأمل بوجهه الوديع فيهم فيراهم مضمخين بدم الشهادة ، ومعطرين بنفحات من روح اللّه ، فانطلق يؤبنهم باعجاب قائلا :

«قتلة كقتلة النبيين وآل النبيين»(2)

مصرع سويد :

وكان آخر من استشهد من أصحاب الامام البطل الشجاع سويد بن عمرو بن أبي المطاع الخثعمي فقد سقط في المعركة جريحا وظنه القوم أنه قد قتل فلم يجهزوا عليه ، وكان فد غامت نفسه من ألم الجروح ونزيف الدماء فلما سمع القوم ينادون :

«قتل الحسين»

فانتفض كما ينتفض الأسد الجريح غير حافل بما هو فيه من ألم الجروح فانبرى يفتش عن سيفه فلم يجده وظفر بمدية فحمل عليهم يطعن فيهم ففروا

__________________

(1) الفتوح 5 / 194

(2) مقتل الحسين لعبد اللّه

٢٣٩

مذعورين ، وقد ظنوا أن الموتى من اصحاب الحسين قد عادت إليهم أرواحهم ليستأنفوا الجهاد ثانيا ، ولما أيقنوا خطأهم انعطفوا عليه فقتلوه وقد قتله عروة بن بطان الثعلبي. ولم يعرف التأريخ الانساني اصدق ولا انبل من هذا الوفاء ، فكان حقا هذا هو المجد في معسكر الحسين ، فقد ظلوا على الوفاء لامامهم حتى الرمق الأخير من حياتهم.

هؤلاء بعض اصحاب الامام ، وقد ابلوا في المعركة بلاء يقصر عنه كل وصف واطراء ، فقد جاهدوا جهادا لم يعرف له التأريخ نظيرا في جميع عمليات الحروب التي جرت في الأرض ، فقد قابلوا على قلة عددهم وما بهم من الظمأ القاتل تلك الجيوش المكثفة ، وانزلوا بها افدح الخسائر.

إن تلك الكوكبة من ابطال الايمان قد صارعوا الأهوال ، وخاضوا تلك المعركة الرهيبة ، وقد وقفوا وقفة الرجل الواحد ، وقادوا حركة الايمان ، ولم تضعف لأي رجل منهم عزيمة ، ولم تلن لهم قناة ، وقد خضبوا جميعا بالدماء وهم يشعرون بالغبطة ويشعرون بالفخار ، وقد دللوا بتضحياتهم الهائلة النبيلة على عظمة الاسلام الذي منحهم تلك الروح الوثابة التي استطاعوا بها أن يقاوموا بصبر وثبات تلك الوحوش الكاسرة التي ساقتها الأطماع الى اقتراف افظع جريمة في تأريخ البشرية كلها.

لقد سمت ارواحهم الطاهرة الى الرفيق الأعلى وهي انضر ما تكون تفانيا في مرضاة اللّه واشد ما تكون إيمانا بعدالة قضيتهم التي هي من انبل القضايا في العالم وان اعطر تحية توجه لذكراهم كلمات الامام الصادق (ع) في حقهم.

«بأبي أنتم وأمي طبتم وطابت الأرض التي فيها دفنتم وفزتم واللّه فوزا عظيما».

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

عنده ذلة الباطل وعزة الحق وعدم الاكتراث والمبالات بالقرة والسلطة ، والهيبة والرهبة ، أرادت أن تعرفه خسة قدره ، وضعة مقداره وشناعة فعله ، ولؤم فرعه واصله»(١) .

ويقول المرحوم الفكيكي :

«تأمل معي في هذه الخطبة النارية كيف جمعت بين فنون البلاغة ، وأساليب الفصاحة ، وبراعة البيان ، وبين معاني الحماسة وقوة الاحتجاج وحجة المعارضة والدفاع في سبيل الحرية والحق والعقيدة بصراحة هي انفذ من السيوف الى أعماق القلوب ، واحد من وقع الأسنة في الحشا والمهج في مواطن القتال ، ومجالات النزال ، وكان الوثوب على أنياب الأفاعي وركوب اطراف الرماح أهون على يزيد من سماع هذا الاحتجاج الصارخ الذي صرخت به ربيبة المجد والشرف في وجوه طواغيت بني أمية وفراعنتهم في منازل عزهم ومجالس دولتهم الهرقلية الارستقراطية الكريهة.

ثم ان هذه الخطبة التأريخية القاصعة لا تزال تنطق ببطولات الحوراء الخالدة وجرأتها النادرة ، وقد احتوت النفس القوية الحساسة الشاعرة بالمثالية الاخلاقية الرفيعة السامية ، وسيبقى هذا الأدب الحي صارخا في وجوه الطغاة الظالمين على مدى الدهر وتعاقب الأجيال وفي كل ذكرى لواقعة الطف الدامية المفجعة»(٢) .

محتويات الخطاب :

وكان هذا الخطاب العظيم امتدادا لثورة كربلا وتجسيدا رائعا لقيمها الكريمة وأهدافها السامية وقد حفل بما يلي :

__________________

(١) السياسة الحسينية (ص ٣٠)

(٢) مجلة الغري السنة السابعة العدد ٦

٣٨١

أولا ـ انها دللت على غرور الطاغية وطيشه ، فقد حسب أنه هو المنتصر بما يملك من القوى العسكرية التي ملأت البيداء وسدت آفاق السماء ، الا انه انتصار موقت ، ومن طيشه انه حسب ان ما احرزه من الانتصار كان لكرامة له عند اللّه وهو ان لأهل البيت ، ولم يعلم ان اللّه انما يملي للكافرين في هذه الدنيا من النعم ليزدادوا اثما ولهم في الآخرة عذاب أليم.

ثانيا ـ انها نعت عليه سبيه لعقائل الوحي ، فلم يرع قرابة رسول اللّه فيهم وهو الذي منّ على آبائه يوم فتح مكة فكان ابوه وجده من الطلقاء فلم يشكر للنبي هذه اليد وكافأه بأسوإ ما تكون المكافئة.

ثالثا ـ ان ما اقترفه الطاغية من سفكه لدماء العترة الطاهرة فانه مدفوع بذلك بحكم نشأنه ومواريثه فجدته هند هي التي لاكت كبد سيد الشهداء حمزة وجده ابوه سفيان العدو الأول للاسلام ، وابوه معاوية الذي أراق دماء المسلمين وانتهك جميع ما حرمه اللّه ، فاقتراف الجرائم من عناصره وطباعه التي فطر عليها.

رابعا ـ انها انكرت عليه ما تمثل به من الشعر الذي تمنى فيه حضور أشياخه الأمويين ليروا كيف أخذ بثأرهم من النبي (ص) بابادة أبنائه الا انه سوف يرد موردهم من الخلود في نار جهنم.

خامسا ـ ان الطاغية بسفكه لدماء العترة الطاهرة لم يسفك الا دمه ولم يفر الا جلده فان تلك النفوس الزكية حية وخالدة وقد تلفعت بالكرامة وبلغت قمة الشرف ، وانه هو الذي باء بالخزي والخسران.

سادسا ـ انها عرضت الى من مكن الطاغية من رقاب المسلمين فهو المسئول عما اقترفه من الجرائم ، وقد قصدت عليها السلام مغزى بعيدا يفهمه كل من تأمل فيه.

٣٨٢

سابعا ـ انها اظهرت سمو مكانتها فكلمات الطاغية كلام الأمير والحاكم فاستهانت به ، واستصغرت قدره ، وتعالت عن حواره ، وترفعت عن مخاطبته ، ولم تحفل بسلطانه لقد كانت العقيلة على ضعفها وما ألم بها من المصائب اعظم قوة وأشد بأسا منه.

ثامنا ـ انها عرضت الى ان يزيد مهما بذل من جاهد لمحو ذكر أهل البيت (ع) فانه لا يستطيع الى ذلك سبيلا لأنهم قائمون في قلوب المسلمين وعواطفهم وهم مع الحق ، والحق لا بد أن ينتصر ، وفعلا قد انتصر الحسين وتحولت مأساته الى مجد لا يبلغه أي انسان كان فأي نصر أحق بالبقاء واجدر بالخلود من النصر الذي احرزه الامام

هذا قليل من كثير مما جاء في هذه الخطبة التي هي آية من آيات البلاغة والفصاحة ، ومعجزة من معجزات البيان ، وهي احدى الضربات القاضية على ملك بني أمية.

جواب يزيد :

وكان خطاب العقيلة كالصاعقة على رأس يزيد فقد انهار غروره وتحطم كبرياؤه ، وحار في الجواب فلم يستطع ان يقول شيئا الا أنه تمثل يقول الشاعر :

يا صيحة تحمد من صوائح ما أهون النوح على النوائح

ولم تكن أية مناسبة بين ذلك الخطاب العظيم الذي ابرزت فيه عقيلة الوحي واقع يزيد ، وجردته من جميع القيم الانسانية ، وبين ما تمثل به من الشعر الذي اعلن فيه أن الصيحة تحمد من الصوائح ، وان النوح يهون على النائحات ، فأي ربط موضوعي بين الأمرين.

٣٨٣

صدى الخطاب :

وأحدث خطاب العقيلة موجة عاصفة في مجلس يزيد وأشاعت في نفوس الجالسين مشاعر الحزن والأسى والتذمر فقد أزاح عنهم حجب الشبهات ونسف كل الوسائل التي صنعها معاوية لاقامة دولته وسلطانه وراح يزيد يلتمس المعاذير ليبرر جريمته فقال لأهل الشام.

«أتدرون من أين أتى ابن فاطمة؟ وما الحامل له على ما فعل؟ وما الذي أوقعه فيما وقع؟».

«لا»

«يزعم أن أباه خير من أبي وأمه فاطمة بنت رسول اللّه خير من أمي وانه خير مني ، وأحق بهذا الأمر ، فأما قوله أبوه خير من أبي. فقد حاج ابي اباه الى اللّه عز وجل ، وعلم الناس أيهما حكم له ، وأما قوله أمه خير من أمي : فلعمري ان فاطمة بنت رسول اللّه (ص) خير من أمي ، وأما قوله جده خير من جدي : فلعمري ما أحد يؤمن باللّه واليوم الآخر وهو يرى ان لرسول اللّه (ص) فينا عدلا ولا ندا. ولكنه انما أتي من قلة فقهه ، ولم يقرأ قوله تعالى :( قُلِ اَللّٰهُمَّ مٰالِكَ اَلْمُلْكِ تُؤْتِي اَلْمُلْكَ مَنْ تَشٰاءُ وتَنْزِعُ اَلْمُلْكَ مِمَّنْ تَشٰاءُ وتُعِزُّ مَنْ تَشٰاءُ وتُذِلُّ مَنْ تَشٰاءُ ) وقوله تعالى :

( اَللّٰهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشٰاءُ ) (١) .

لقد حسب الطاغية أن منطق الفضل عند اللّه انما هو الظفر بالملك فراح يا بني تفوقه على الامام بذلك ولم يعلم انه لا قيمة للملك عند اللّه فانه يهبه للبر والفاجر.

__________________

(١) الطبرى ٦ / ٢٦٦

٣٨٤

خطاب الامام زين العابدين :

وكان مجلس الطاغية حاشدا بجماهير الناس وقد أوعز إلى الخطيب أن يعتلي أعواد المنبر ليمجد الأمويين وينال من الحسين فاعتلى الخطيب المنبر فبالغ في الثناء على يزيد ونال من الامام امير المؤمنين وولده الحسين لينال هبات يزيد وعطاياه ، فانتفض الامام زين العابدين وصاح به.

«ويلك أيها الخاطب اشتريت رضاء المخلوق بسخط الخالق فتبوأ مقعدك من النار ..».

والتفت الى يزيد فقال له :

«أتأذن لي أن أصعد هذه الأعواد فاتكلم بكلمات فيهن للّه رضا ولهؤلاء الجالسين أجر وثواب».

وبهت الحاضرون وبهروا من هذا الفتى العليل الذي رد على الخطيب والأمير ، وقد رفض يزيد اجابته فالح عليه الجالسون بالسماح له ويعتبر ذلك بداية وعي عند اهل الشام فقال يزيد لهم.

«إن صعد المنبر لم ينزل الا بفضيحتي وفضيحة آل أبي سفيان»

فقالوا له : وما مقدار ما يحسن هذا العليل.

انهم لا يعرفونه ، وحسبوا أنه لا يحسن شيئا ، ولكن الطاغية يعرفه حقا فقال لهم :

«إنه من اهل بيت قد زقوا العلم زقا»

وأخذوا يلحون عليه ، فانصاع لقولهم فسمح للامام ، فاعتلى اعواد المنبر فحمد اللّه وأثنى عليه ، ويقول المؤرخون إنه خطب خطبة عظيمة أبكى منها العيون ، وأوجل منها القلوب ، وكان من جملة ما قاله :

«أيها الناس أعطينا ستا ، وفضلنا بسبع : أعطينا العلم ، والحلم ،

٣٨٥

والسماحة والفصاحة ، والشجاعة ، والمحبة في قلوب المؤمنين ، وفضلنا بأن منا النبي المختار محمد (ص) ومنا الصديق ، ومنا الطيار ، ومنا أسد اللّه وأسد الرسول ومنا سيدة نساء العالمين فاطمة البتول ، ومنا سبطا هذه الأمة وسيدا شباب أهل الجنة.

فمن عرفني فقد عرفني ، ومن لم يعرفني أنبأته بحسبي ونسبي ، أنا ابن مكة ومنى ، أنا ابن زمزم والصفا ، أنا ابن من حمل الزكاة بأطراف الرداء أنا ابن خير من ائتزر وارتدى ، أنا ابن خير من انتعل واحتفى أنا ابن خير من طاف وسعى ، أنا ابن خير من حج ولبى ، أنا ابن من حمل على البراق في الهواء ، أنا ابن من أسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى فسبحان من أسرى ، أنا ابن من بلغ به جبرئيل الى سدرة المنتهى ، أنا ابن من دنى فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى ، أنا ابن من صلى بملائكة السماء ، أنا ابن من أوحى إليه الجليل ما أوحى ، أنا ابن محمد المصطفى أنا ابن علي المرتضى ، أنا ابن من ضرب خراطيم الخلق حتى قالوا : لا إله الا اللّه ، أنا ابن من ضرب بين يدي رسول اللّه بسيفين وطعن برمحين وهاجر الهجرتين ، وبايع البيعتين ، وصلى القبلتين ، وقاتل ببدر وحنين ، ولم يكفر باللّه طرفة عين ، أنا ابن صالح المؤمنين ووارث النبيين ، وقاطع الملحدين ، ويعسوب المسلمين ، ونور المجاهدين وزين العابدين ، وتاج البكائين ، وأصبر الصابرين ، وأفضل القائمين من آل ياسين ، ورسول رب العالمين ، أنا ابن المؤيد بجبرئيل المنصور بميكائيل ، أنا ابن المحامي عن حرم المسلمين ، وقاتل الناكثين والقاسطين ، والمارقين والمجاهد اعداءه الناصبين ، وأفخر من مشى من قريش أجمعين ، وأول من أجاب واستجاب للّه من المؤمنين وأقدم السابقين ، وقاصم المعتدين ، ومبير المشركين ، وسهم من مرامي اللّه على المنافقين ، ولسان حكمة

٣٨٦

العابدين ، ناصر دين اللّه ، وولي أمر اللّه ، وبستان حكمة اللّه ، وعيبة علم اللّه ، سمح سخي بهلول زكي أبطحي ، رضي مرضي ، مقدام همام صابر صوام ، مهذب قوام ، شجاع قمقام ، قاطع الأصلاب ، ومفرق الأحزاب ، أربطهم جنانا ، وأطلقهم عنانا ، واجرأهم لسانا ، وأمضاهم عزيمة ، وأشدهم شكيمة ، أسد باسل ، وغيث هاطل ، يطحنهم في الحروب ويذرهم ذرو الريح الهشيم ، ليث الحجاز ، وصاحب الاعجاز ، وكبش العراق ، الامام بالنص والاستحقاق ، مكي مدني ، ابطحي تهامي ، خيفي عقبي ، بدري أحدي ، وشجري مهاجري ، من العرب سيدها ، ومن الوغى لبثها ، وارث المشعرين ، وابوا السبطين الحسن والحسين ، مظهر العجائب ، ومفرق الكتائب ، والشهاب الثاقب ، والنور العاقب ، أسد اللّه الغالب ، مطلوب كل طالب ، غالب كل غالب ، ذاك جدي علي ابن أبي طالب.

أنا ابن فاطمة الزهراء ، أنا ابن سيدة النساء ، أنا ابن الطهر البتول أنا ابن بضعة الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم(١) أنا ابن المزمل بالدماء أنا ابن ذبيح كربلا ، أنا ابن من بكى عليه الجن في الظلماء وناحت عليه الطير في الهواء»(٢) .

ولم يزل يقول أنا : حتى ضج الناس بالبكاء والنحيب ، وخشي الطاغية من وقوع الفتنة وحدوث ما لا تحمد عقباه ، فقد اوجد خطاب الامام انقلابا فكريا في مجلس الطاغية ، وقد بادر بالايعاز الى المؤذن أن يؤذن ليقطع على الامام كلامه ، فصاح المؤذن :

«اللّه اكبر»

__________________

(١) مقتل الخوارزمي (٢ / ٦٩ ـ ٧٠)

(٢) نفس المهموم (ص ٢٤٢)

٣٨٧

فقال الامام : كبرت كبيرا لا يقاس ، ولا يدرك بالحواس ، لا شيء اكبر من اللّه ، فلما قال المؤذن :

«اشهد ان لا إله الا اللّه»

قال علي بن الحسين : شهد بها شعري وبشري ، ولحمي ودمي ، ومخي وعظمي ، ولما قال المؤذن :

«اشهد أن محمدا رسول اللّه»

التفت علي بن الحسين الى يزيد فقال له :

«يا يزيد محمد هذا جدي أم جدك؟ فان زعمت أنه جدك ، فقد كذبت ، وإن قلت : إنه جدي فلم قتلت عترته؟»(١) .

ووجم يزيد ولم يطق جوابا ، واستبان لأهل الشام أنهم غارقون في الجهالة والضلالة وان الحكم الأموي قد جاهد على غوايتهم وشقائهم.

وقد اقتصر الامام في خطابه على التعريف بأسرته ونفسه ، ولم يعرض لشيء آخر ، وقد كان ذلك من أروع صور الالتفاتات وادقها وأعمقها ، فقد كان المجتمع الشامي لا يعرف شيئا عن أهل البيت ، فقد اخفت السلطة كل شيء عنهم ، وغذتهم بالولاء لبني أمية والحقد على أهل البيت.

صدى الخطاب :

واثر خطاب الامام تأثرا بالغا في اوساط أهل الشام ، فقد جعل بعضهم ينظر الى بعض ويسر بعضهم إلى بعض بما آلوا إليه من الخيبة

__________________

(١) مقتل الخوارزمي (٢ / ٢٤٢)

٣٨٨

والخسران ، حتى تغيرت أحوالهم مع يزيد(١) وأخذوا ينظرون إليه نظرة احتقار وازدراء.

الشامي مع فاطمة :

ونظر بعض أهل الشام الى السيدة فاطمة بنت الامام امير المؤمنين عليه السلام(٢) أو بنت الامام الحسين(٣) فقال ليزيد :

«هب لي هذه الجارية لتكون خادمة عندي»

وسرت الرعدة بحسمها ، فأخذت بثياب عمتها مستجيرة بها ، وانبرت حفيدة الرسول (ص) فصاحت بالرجل.

«كذبت ولؤمت ، ما ذلك لك ، ولا لأميرك»

واستشاط يزيد غضبا لعدم مبالاة العقيلة به واستهانتها بشأنه ، فقال لها :

«كذبت ، ان ذلك لي ، ولو شئت لفعلت»

فنهرته العقيلة متحدية له قائلة :

«كلا واللّه ، ما جعل لك ذلك ، الا أن تخرج من ملتنا ، وتدين بغير ديننا ..»

وتميز الطاغية غيظا حيث تحدته العقيلة أمام اشراف اهل الشام فصاح بها :

«اياي تستقبلين بهذا؟ انما خرج من الدين أبوك وأخوك»

__________________

(١) جوهرة الكلام في مدح السادة الأعلام (ص ١٢٨)

(٢) البداية والنهاية ٨ / ١٩٤ المنتظم ٥ / ١٠٠

(٣) مقتل الخوارزمي ٢ / ٦٩

٣٨٩

وانبرت العقيلة غير حافلة بسلطانه ولا بقدرته على البطش والانتقام فردت عليه بثقة قائلة :

«بدين اللّه ودين أبي وجدي واخي اهتديت أنت وأبوك ان كنت مسلما ..».

وازالت العقيلة بهذا الكلام الستار الذي تستر به يزيد بقتله للحسين وأهل بيته من انهم خوارج خرجوا على امام زمانهم ، ولم يجد الرجس جوابا فقال وهو مغيظ محنق :

«كذبت يا عدوة اللّه»

ولم تجد شقيقة الحسين جوابا تحسم به مهاترات يزيد غير ان قالت :

«أنت امير مسلط ، تشتم ظلما ، وتقهر بسلطانك»

وتهافت غضب الطاغية وأطرق برأسه الى الأرض ، واعاد الشامي كلامه إلى يزيد وكرر الشامي هذه المحاورة فصاح به يزيد :

«وهب اللّه لك حتفا قاضيا»(١)

لقد احتفظت عقيلة الوحي بقواها الذاتية في تلك المحن الشاقة ، وقابلت أعداء الاسلام بارادتها الصلبة الواعية التي ورثتها من جدها الرسول (ص) ، يقول بعض الكتاب :

«وقد حققت زينب وهي في ضعفها واستكانتها أول نصر حاسم على الطغاة ، وهم في سلطانهم وقوتهم ، فقد اقحمته المرة بعد المرة ، وقد أظهرت للملإ جهله ، كما كشفت عن قلة فقهه في شئون الدين فان نساء المسلمين لا يصح مطلقا اعتبارهن سبايا ومعاملتهن معاملة السبي في الحروب.

__________________

(١) تاريخ ابن الأثير ٣ /

٣٩٠

واكبر الظن ان هذا الخطاب من الشامي كان فاتحة انتقاد ليزيد وبداية لتسرب الوعي عند الشاميين ، وآية ذلك انه كان يكفيه رد الحوراء على يزيد بذلك الرد الذي أخرجته عن ربقة الاسلام إن استجاب لطلب الشامي ، ووقوع الشجار العنيف بين الحوراء ويزيد ، مما يشعر منه أن طلب الشامي كان مقصودا لأجل بلورة الرأي العام وفضح يزيد لا سيما ان هذا الطلب كان بعد خطاب السيدة زينب وخطاب الامام زين العابدين (ع) وقد أحدثا وعيا عاما وموجة عاتية من السخط في مجلس يزيد.

الامام السجاد مع المنهال :

والتقى الامام زين العابدين بالمنهال بن عمر فبادر إليه قائلا :

ـ كيف امسيت يا بن رسول اللّه؟

ـ أمسينا كمثل بني إسرائيل في آل فرعون يذبحون ابناءهم ويستحيون نساءهم أمست العرب تفتخر على العجم بأن محمدا منها ، وأمست قريش تفتخر على سائر العرب بأن محمدا منها ، وأمسينا معشر أهل بيته مقتولين مشردين ، فانا للّه راجعون»(١) .

لقد كان الرسول الأعظم (ص) المصدر الأصيل لشرف الأمة العربية الذي تفتخر به فهو الذي خطط للعرب حياة سادوا فيها جميع شعوب الأرض ، وبنى لهم دولة كانت من أعز دول العالم وأمنعها ، فكان جزاؤه منهم ان عمدت قريش التي تفاخر العرب بأن محمدا منها إلى قتل ذريته واستئصال شأفتهم وسبي نسائهم ، فهل هذا هو جزاء المنقذ والمحرر لهم؟

__________________

(١) مقتل الحسين للخوارزمي ٢ / ٣٤

٣٩١

النياحة على الحسين :

وطلبن بنات رسول اللّه (ص) من الطاغية أن يفرد لهن بيتا ليقمن فيه مأتما على سيد الشهداء ، فقد نخر الحزن قلوبهن ، ولم يكن بالمستطاع أن يبدين بما ألم بهن من عظيم الأسى والشجون خوفا من الجلاوزة الجفاة الذين جاهدوا على منعهن من البكاء والنياحة على أبي عبد اللّه ، وقد أثر عن الامام زين العابدين (ع) أنه قال : كلما دمعت عين واحد منا قرعوا رأسه بالرمح ، واستجاب يزيد لذلك فافرد لهن بيتا ، فلم تبق هاشمية ولا قرشية الا لبست السواد حزنا على الحسين ، وخلدن بنات الرسالة الى النياحة سبعة أيام ، وهن يندبن سيد الشهداء باشجى ندبة(١) وينحن على الكواكب من نجوم آل عبد المطلب ، وقد ذابت الأرض من حرارة دموعهن.

مكافأة ابن مرجانة :

وشكر الطاغية يزيد لابن مرجانة قتله لريحانة رسول اللّه (ص) وبالغ في تقديره وتكريمه فاستدعاه للحضور عنده في دمشق ليجازيه على ذلك ، وكتب إليه ما يلي :

«أما بعد : فانك قد ارتفعت الى غاية أنت فيها كما قال الأول :

رفعت فجاوزت السحاب وفوقه فما لك الا مرتقى الشمس مقعد

فاذا وقفت على كتابي فاقدم علي لاجازيك على ما فعلت»

__________________

(١) مقتل الحسين لعبد اللّه

٣٩٢

وسافر ابن زياد مع أعضاء حكومته الى دمشق ولما انتهى إليها خرج لاستقباله جميع بني أمية ولما دخل على يزيد قام إليه واعتنقه وقيل ما بين عينيه وأجلسه على سرير ملكه ، وقال للمغني غني وللساقي اسقي : ثم قال :

اسقني شربة تروي فؤادي

ثم صل واسق مثلها ابن زياد

موضع السر والامانة عندي

وعلى ثغر مغنمي وجهادي

وأقام ابن مرجانة شهرا فاوصله بالف الف درهم ، ومثلها لعمر ابن سعد ، وأطلق له خراج العراق سنة(١) وقد بالغ في مودته فادخله على نسائه وعياله(٢) ولما وفد أخوه مسلم بن زياد على يزيد بجله وكرمه تقديرا لأخيه عبيد اللّه وقال له :

«لقد وجبت محبتكم على آل أبي سفيان»

ونادمه يومه بأسره ، وولاه بلاد خراسان(٣) لقد شكر لآل زياد ابادتهم لآل رسول اللّه وقد حسب انهم قد مهدوا له الملك والسلطان ، ولم يعلم أنهم قد هدموا ملكه ونسفوا سلطانه واخلدوا له الخزي والعار.

ندم الطاغية :

وبعد أن نقم المسلمون على الطاغية بقتله لريحانة رسول اللّه (ص) ندم على ذلك وحاول أن يلصق تبعة تلك الجريمة بابن مرجانة ، وراح يقول : ما كان علي لو احتملت الأذى ، وانزلته ـ يعني الحسين ـ معي

__________________

(١) مرآة الزمان في تواريخ الأعيان (ص ١٠٦)

(٢) ينابيع المودة ١ / ١٤٩ ، الصراط السوي في مناقب آل النبيّ (ص ٨٥).

(٣) الفتوح ٥ / ٢٥٤

٣٩٣

في داري ، وحكمته فيما يريد ، وإن كان علي في ذلك وكف ووهن في سلطاني حفظا لرسول اللّه (ص) ورعاية لحقه وقرابته ، لعن اللّه ابن مرجانة فقد بغضني بقتله الى المسلمين ، وزرع لي في قلوبهم العداوة ، فبغضني البر والفاجر بما استعظم الناس في قتلي حسينا ، مالي ولابن مرجانة لعنه اللّه وغضب عليه(١) .

واكبر الظن انه انما قال ذلك ليبرأ نفسه من المسئولية أمام المسلمين ولو كان نادما في قرارة نفسه لانتقم منه وعزله ، ولما شكره وأجزل له العطاء وقربه ، وذلك مما يدل على رضاه وعدم ندمه فيما اقترفه.

منكرون وناقمون :

وسخط المسلمون وغيرهم كأشد ما يكون السخط على يزيد على قتله لريحانة رسول اللّه (ص) وقد أنكر عليه جمع من الأحرار وفيما يلي بعضهم :

١ ـ ممثل ملك الروم

وكان في مجلس يزيد ممثل ملك الروم فلما رأى رأس الامام بين يديه بهر من ذلك وراح يقول له :

ـ رأس من هذا؟

ـ رأس الحسين

ـ من الحسين؟

ـ ابن فاطمة

__________________

(١) تاريخ الطبري ٧ / ١٩ ابن الأثير ٣ / ٣٠٠

٣٩٤

من فاطمة؟

ـ ابنة رسول اللّه

ـ نبيكم؟

ـ نعم

وفزع من ذلك وصاح به :

«تبا لكم ولدينكم ، وحق المسيح إنكم على باطل ، ان عندنا في بعض الجزائر ديرا فيه حافر فرس ركبه المسيح فنحن نحج إليه في كل عام من مسيرة شهور وسنين ، ونحمل إليه النذور والأموال ، ونعظمه اكثر مما تعظمون كعبتكم ، أف لكم».

ثم قام من عنده وهو غضبان(١) قد افزعه ذلك المنظر الرهيب

٢ ـ حبر يهودي

وكان حبر يهودي في مجلس الطاغية فلما خطب الامام زين العابدين خطبته البليغة التي أثارت الحماس وايقظت المجتمع ، التفت الحبر الى يزيد قائلا :

ـ من هذا الغلام؟

علي بن الحسين

ـ من الحسين؟

ـ ابن علي بن أبي طالب

ـ من أمه؟

ـ بنت محمد

يا سبحان اللّه!! هذا ابن بنت نبيكم قتلتموه ، بئسما خلفتموه

__________________

(١) مرآة الزمان (ص ١٠١) الصراط السوي (ص ٨٩)

٣٩٥

في ذريته ، فو اللّه لو ترك نبينا موسى بن عمران فينا سبطا لظننت أنا كنا نعبده من دون ربنا ، وأنتم فارقكم نبيكم بالأمس فوثبتم على ابنه وقتلتموه سوأة لكم من أمة.

وغضب الطاغية وامر به فوجئ في حلقه(١) فقام الحبر وقد رفع عقيرته قائلا :

«إن شئتم فاقتلوني» إني وجدت في التوراة من قتل ذرية نبي فلا يزال ملعونا أبدا ما بقي فاذا مات اصلاه اللّه نار جهنم»(٢) .

٣ ـ قيصر ملك الروم

وتوالت صيحات الانكار على يزيد ، وكان ممن انكر عليه قيصر ملك الروم فقد كتب إليه : «قتلتم نبيا أو ابن نبي»(٣) .

٤ ـ رأس الجالوت

ومن الناقمين على يزيد رأس الجالوت فقد قال لمحمد بن عبد الرحمن ان بيني وبين داود سبعين أبا ، وان اليهود تعظمني وتحترمني وأنتم قتلتم ابن بنت نبيكم(٤) .

__________________

(١) فوجئ : ضرب ودق

(٢) الحدائق الوردية ١ / ١٣١ ، الفتوح ٥ / ٢٤٦ ، مقتل الخوارزمي ٢ / ٧١.

(٣) المحاسن والمساوئ للبيهقي ١ / ٤٦

(٤) الصراط السوي في مناقب آل النبي (ص ٩٠) جواهر المطالب في مناقب الامام علي بن أبي طالب (ص ١٣٦).

٣٩٦

٥ ـ واثلة بن الاسقع

ولما جيء برأس الامام إلى الشام كان الصحابي وائلة بن الاسقع هناك فتميز غيظا ، فالتقى به رجل من أهل الشام ، فاندفع يقول :

«لا أزال أحب عليا والحسن والحسين وفاطمة أبدا بعد ما سمعت رسول اللّه (ص) يقول فيهم : ما قال».

«ما قال رسول اللّه (ص) فيهم؟»

«جئت رسول اللّه (ص) وهو في منزل أم سلمة ، وجاء الحسن فاجلسه على فخذه اليمنى ، وجاء الحسين فاجلسه على فخذه الأيسر وقبله ثم جاءت فاطمة فاجلسها بين يديه ، ثم دعا بعلي فجاء ، وجعل عليهم كساء خيبريا ، كأني انظر إليه ، ثم قال : «انما يريد اللّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا»(١) .

٦ ـ ابن عباس

ومن أشد الناقمين على يزيد عبد اللّه بن عباس ، فقد كتب إليه يزيد يستميل وده ، ويطلب منه ما زرته على ابن الزبير فكتب إليه ابن عباس هذه الرسالة :

أما بعد : فقد جاءني كتابك فاما تركي بيعة ابن الزبير فو اللّه ما ارجو بذلك برك ولا حمدك لكن اللّه بالذي أنوي عليم ، وزعمت انك لست بناس بري فاحبس أيها الانسان برك عني فاني حابس عنك بري ،

__________________

(١) فضائل الامام امير المؤمنين (ص ٢٦٤) لعبد اللّه بن أحمد ابن حنبل من مخطوطات مكتبة الامام الحكيم.

٣٩٧

وسألت أن احبب الناس إليك ، وابغضهم واخذلهم لابن الزبير فلا ولا سرور ولا كرامة ، كيف وقد قتلت حسينا وفتيان عبد المطلب مصابيح الهدى ونجوم الاعلام؟ غادرتهم خيولك بأمرك في صعيد واحد مرملين بالدماء مسلوبين بالعراء ، مقتولين بالظماء لا مكفنين ولا مسودين تسفي عليهم الرياح وينشىء بهم عرج البطاح حتى أتاح اللّه لهم بقوم لم يشركوا في دمائهم كفنوهم واجنوهم ، وبي وبهم لو عززت(١) وجلست مجلسك الذي جلست.

فما أنسى من الأشياء فلست بناس اطرادك حسينا من حرم رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ، الى حرم اللّه وتسييرك الخيول إليه فما زلت بذلك حتى اشخصته الى العراق فخرج خائفا يترقب فنزلت به خيلك عداوة منك للّه ولرسوله ولأهل بيته الذين أذهب اللّه عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا ، فطلب إليكم الموادعة وسألكم الرجعة فاغتنمتم قلة أنصاره واستئصال أهل بيته وتعاونتم عليه كأنكم قتلتم أهل بيت من الترك والكفر ، فلا شيء أعجب عندي من طلبتك ودي وقد قتلت ولد أبي وسيفك يقطر من دمي وأنت احد ثاري ، ولا يعجبك ان ظفرت بنا اليوم فلنظفرن بك يوما»(٢) .

وحفلت هذه الرسالة بانهام يزيد بأنه الذي أشخص الامام الحسين إلى العراق ليقتله ، وانه لم يخرج الا لمطاردة جيوش يزيد في المدينة وفي مكة ، ولم يكن خروجه إلى العراق استجابة منه لأهل الكوفة ، وانما ارغمته جيوش يزيد على ذلك.

__________________

(١) في رواية «وبي وبهم عززت»

(٢) تاريخ ابن الأثير ٣ / ٣١٨ ، ورواه اليعقوبي بصورة أخرى ذكر فيه الأحداث المروعة التي اقترفها معاوية ويزيد.

٣٩٨

٧ ـ ابن الزبير

ومن المنكرين على الأمويين عبد اللّه بن الزبير بقتلهم للامام الحسين فقد خطب في مكة فقال :

«ان أهل الكوفة شرارهم دعوا حسينا ليولي عليهم ، ويقيم أمرهم وبعيد معالم الاسلام ، فلما قدم عليهم ثاروا عليه فقتلوه ، وقالوا له :

أما أن تضع يدك في يد الفاجر الملعون ابن زياد فيرى فيك رأيه فاختار الوفاة الكريمة على الحياة الذميمة فيرحم اللّه حسينا وأخزى قاتله ، ولعن من رضي بذلك وأمر به»(١) .

وانما أبدى ابن الزبير الأسى على قتل الامام تصنعا وتقربا لعامة المسلمين ، فقد كان في قرارة نفسه مسرورا لأنه تخلص من أعظم مناوئيه ولو كان مؤمنا بما قاله لما آواى قتلة الحسين فقد ركن إليه والتحق به كل من سلم من قبضة المختار كشبث بن ربعي وغيره ، وقد رحب بهم وزج بهم لقتال المختار.

٨ ـ ابو برزة

ومن المنكرين على يزيد الصحابي أبو برزة الاسلمي حينما رآه ينكت بمخصرته رأس الامام ، وقد ألمعنا إلى حديثه في البحوث السابقة.

٩ ـ الاسرة الأموية

وتفاقم الأمر على يزيد ، وتوالت عليه صيحات المنكرين ، فقد نقمت عليه أسرته ومن بينها.

__________________

(١) الصراط السوي في مناقب آل النبي (ص ٩٤)

٣٩٩

أ ـ يحيى بن الحكم

وكان من أشد المنكرين عليه يحيى بن الحكم فقد نقده في مجلسه ، وقد دفع يزيد في صدره واوعز إلى شرطته باخراجه ، وقد ذكرنا نص كلامه فيما تقدم.

ب ـ عاتكة بنت يزيد

وانكرت عليه عاتكة ابنته حينما ارسل الرأس الى حرمه ونسائه فأخذته عاتكة فطيبته ، وقالت يا رأس عمى ، وقد ألمعنا الى كلامها في البحوث السابقة.

ج ـ هند

ونقمت عليه زوجته هند بنت عمرو ، فقد فزعت الى مجلسه وهي مذعورة وقد رفعت صوتها :

«رأس ابن بنت رسول اللّه (ص) على باب دارنا!!»

فاسرع إليها الطاغية ، واسدل عليها حجابها ، وقال لها : اعولي عليه يا هند فانه صريخة بني هاشم عجل عليه ابن زياد(١) »

١٠ ـ معاوية بن يزيد

ونقم معاوية على ابيه يزيد كما نقم على جده معاوية ، وقد رفض

__________________

(١) مقتل الخوارزمي ٢ / ٢٨٤

٤٠٠

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496