حياة الامام الحسين عليه السلام الجزء ٣

حياة الامام الحسين عليه السلام0%

حياة الامام الحسين عليه السلام مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 496

حياة الامام الحسين عليه السلام

مؤلف: باقر شريف القرشي
تصنيف:

الصفحات: 496
المشاهدات: 289994
تحميل: 5187


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 496 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 289994 / تحميل: 5187
الحجم الحجم الحجم
حياة الامام الحسين عليه السلام

حياة الامام الحسين عليه السلام الجزء 3

مؤلف:
العربية

عنده ذلة الباطل وعزة الحق وعدم الاكتراث والمبالات بالقرة والسلطة ، والهيبة والرهبة ، أرادت أن تعرفه خسة قدره ، وضعة مقداره وشناعة فعله ، ولؤم فرعه واصله»(1) .

ويقول المرحوم الفكيكي :

«تأمل معي في هذه الخطبة النارية كيف جمعت بين فنون البلاغة ، وأساليب الفصاحة ، وبراعة البيان ، وبين معاني الحماسة وقوة الاحتجاج وحجة المعارضة والدفاع في سبيل الحرية والحق والعقيدة بصراحة هي انفذ من السيوف الى أعماق القلوب ، واحد من وقع الأسنة في الحشا والمهج في مواطن القتال ، ومجالات النزال ، وكان الوثوب على أنياب الأفاعي وركوب اطراف الرماح أهون على يزيد من سماع هذا الاحتجاج الصارخ الذي صرخت به ربيبة المجد والشرف في وجوه طواغيت بني أمية وفراعنتهم في منازل عزهم ومجالس دولتهم الهرقلية الارستقراطية الكريهة.

ثم ان هذه الخطبة التأريخية القاصعة لا تزال تنطق ببطولات الحوراء الخالدة وجرأتها النادرة ، وقد احتوت النفس القوية الحساسة الشاعرة بالمثالية الاخلاقية الرفيعة السامية ، وسيبقى هذا الأدب الحي صارخا في وجوه الطغاة الظالمين على مدى الدهر وتعاقب الأجيال وفي كل ذكرى لواقعة الطف الدامية المفجعة»(2) .

محتويات الخطاب :

وكان هذا الخطاب العظيم امتدادا لثورة كربلا وتجسيدا رائعا لقيمها الكريمة وأهدافها السامية وقد حفل بما يلي :

__________________

(1) السياسة الحسينية (ص 30)

(2) مجلة الغري السنة السابعة العدد 6

٣٨١

أولا ـ انها دللت على غرور الطاغية وطيشه ، فقد حسب أنه هو المنتصر بما يملك من القوى العسكرية التي ملأت البيداء وسدت آفاق السماء ، الا انه انتصار موقت ، ومن طيشه انه حسب ان ما احرزه من الانتصار كان لكرامة له عند اللّه وهو ان لأهل البيت ، ولم يعلم ان اللّه انما يملي للكافرين في هذه الدنيا من النعم ليزدادوا اثما ولهم في الآخرة عذاب أليم.

ثانيا ـ انها نعت عليه سبيه لعقائل الوحي ، فلم يرع قرابة رسول اللّه فيهم وهو الذي منّ على آبائه يوم فتح مكة فكان ابوه وجده من الطلقاء فلم يشكر للنبي هذه اليد وكافأه بأسوإ ما تكون المكافئة.

ثالثا ـ ان ما اقترفه الطاغية من سفكه لدماء العترة الطاهرة فانه مدفوع بذلك بحكم نشأنه ومواريثه فجدته هند هي التي لاكت كبد سيد الشهداء حمزة وجده ابوه سفيان العدو الأول للاسلام ، وابوه معاوية الذي أراق دماء المسلمين وانتهك جميع ما حرمه اللّه ، فاقتراف الجرائم من عناصره وطباعه التي فطر عليها.

رابعا ـ انها انكرت عليه ما تمثل به من الشعر الذي تمنى فيه حضور أشياخه الأمويين ليروا كيف أخذ بثأرهم من النبي (ص) بابادة أبنائه الا انه سوف يرد موردهم من الخلود في نار جهنم.

خامسا ـ ان الطاغية بسفكه لدماء العترة الطاهرة لم يسفك الا دمه ولم يفر الا جلده فان تلك النفوس الزكية حية وخالدة وقد تلفعت بالكرامة وبلغت قمة الشرف ، وانه هو الذي باء بالخزي والخسران.

سادسا ـ انها عرضت الى من مكن الطاغية من رقاب المسلمين فهو المسئول عما اقترفه من الجرائم ، وقد قصدت عليها السلام مغزى بعيدا يفهمه كل من تأمل فيه.

٣٨٢

سابعا ـ انها اظهرت سمو مكانتها فكلمات الطاغية كلام الأمير والحاكم فاستهانت به ، واستصغرت قدره ، وتعالت عن حواره ، وترفعت عن مخاطبته ، ولم تحفل بسلطانه لقد كانت العقيلة على ضعفها وما ألم بها من المصائب اعظم قوة وأشد بأسا منه.

ثامنا ـ انها عرضت الى ان يزيد مهما بذل من جاهد لمحو ذكر أهل البيت (ع) فانه لا يستطيع الى ذلك سبيلا لأنهم قائمون في قلوب المسلمين وعواطفهم وهم مع الحق ، والحق لا بد أن ينتصر ، وفعلا قد انتصر الحسين وتحولت مأساته الى مجد لا يبلغه أي انسان كان فأي نصر أحق بالبقاء واجدر بالخلود من النصر الذي احرزه الامام

هذا قليل من كثير مما جاء في هذه الخطبة التي هي آية من آيات البلاغة والفصاحة ، ومعجزة من معجزات البيان ، وهي احدى الضربات القاضية على ملك بني أمية.

جواب يزيد :

وكان خطاب العقيلة كالصاعقة على رأس يزيد فقد انهار غروره وتحطم كبرياؤه ، وحار في الجواب فلم يستطع ان يقول شيئا الا أنه تمثل يقول الشاعر :

يا صيحة تحمد من صوائح ما أهون النوح على النوائح

ولم تكن أية مناسبة بين ذلك الخطاب العظيم الذي ابرزت فيه عقيلة الوحي واقع يزيد ، وجردته من جميع القيم الانسانية ، وبين ما تمثل به من الشعر الذي اعلن فيه أن الصيحة تحمد من الصوائح ، وان النوح يهون على النائحات ، فأي ربط موضوعي بين الأمرين.

٣٨٣

صدى الخطاب :

وأحدث خطاب العقيلة موجة عاصفة في مجلس يزيد وأشاعت في نفوس الجالسين مشاعر الحزن والأسى والتذمر فقد أزاح عنهم حجب الشبهات ونسف كل الوسائل التي صنعها معاوية لاقامة دولته وسلطانه وراح يزيد يلتمس المعاذير ليبرر جريمته فقال لأهل الشام.

«أتدرون من أين أتى ابن فاطمة؟ وما الحامل له على ما فعل؟ وما الذي أوقعه فيما وقع؟».

«لا»

«يزعم أن أباه خير من أبي وأمه فاطمة بنت رسول اللّه خير من أمي وانه خير مني ، وأحق بهذا الأمر ، فأما قوله أبوه خير من أبي. فقد حاج ابي اباه الى اللّه عز وجل ، وعلم الناس أيهما حكم له ، وأما قوله أمه خير من أمي : فلعمري ان فاطمة بنت رسول اللّه (ص) خير من أمي ، وأما قوله جده خير من جدي : فلعمري ما أحد يؤمن باللّه واليوم الآخر وهو يرى ان لرسول اللّه (ص) فينا عدلا ولا ندا. ولكنه انما أتي من قلة فقهه ، ولم يقرأ قوله تعالى :( قُلِ اَللّٰهُمَّ مٰالِكَ اَلْمُلْكِ تُؤْتِي اَلْمُلْكَ مَنْ تَشٰاءُ وتَنْزِعُ اَلْمُلْكَ مِمَّنْ تَشٰاءُ وتُعِزُّ مَنْ تَشٰاءُ وتُذِلُّ مَنْ تَشٰاءُ ) وقوله تعالى :

( اَللّٰهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشٰاءُ ) (1) .

لقد حسب الطاغية أن منطق الفضل عند اللّه انما هو الظفر بالملك فراح يا بني تفوقه على الامام بذلك ولم يعلم انه لا قيمة للملك عند اللّه فانه يهبه للبر والفاجر.

__________________

(1) الطبرى 6 / 266

٣٨٤

خطاب الامام زين العابدين :

وكان مجلس الطاغية حاشدا بجماهير الناس وقد أوعز إلى الخطيب أن يعتلي أعواد المنبر ليمجد الأمويين وينال من الحسين فاعتلى الخطيب المنبر فبالغ في الثناء على يزيد ونال من الامام امير المؤمنين وولده الحسين لينال هبات يزيد وعطاياه ، فانتفض الامام زين العابدين وصاح به.

«ويلك أيها الخاطب اشتريت رضاء المخلوق بسخط الخالق فتبوأ مقعدك من النار ..».

والتفت الى يزيد فقال له :

«أتأذن لي أن أصعد هذه الأعواد فاتكلم بكلمات فيهن للّه رضا ولهؤلاء الجالسين أجر وثواب».

وبهت الحاضرون وبهروا من هذا الفتى العليل الذي رد على الخطيب والأمير ، وقد رفض يزيد اجابته فالح عليه الجالسون بالسماح له ويعتبر ذلك بداية وعي عند اهل الشام فقال يزيد لهم.

«إن صعد المنبر لم ينزل الا بفضيحتي وفضيحة آل أبي سفيان»

فقالوا له : وما مقدار ما يحسن هذا العليل.

انهم لا يعرفونه ، وحسبوا أنه لا يحسن شيئا ، ولكن الطاغية يعرفه حقا فقال لهم :

«إنه من اهل بيت قد زقوا العلم زقا»

وأخذوا يلحون عليه ، فانصاع لقولهم فسمح للامام ، فاعتلى اعواد المنبر فحمد اللّه وأثنى عليه ، ويقول المؤرخون إنه خطب خطبة عظيمة أبكى منها العيون ، وأوجل منها القلوب ، وكان من جملة ما قاله :

«أيها الناس أعطينا ستا ، وفضلنا بسبع : أعطينا العلم ، والحلم ،

٣٨٥

والسماحة والفصاحة ، والشجاعة ، والمحبة في قلوب المؤمنين ، وفضلنا بأن منا النبي المختار محمد (ص) ومنا الصديق ، ومنا الطيار ، ومنا أسد اللّه وأسد الرسول ومنا سيدة نساء العالمين فاطمة البتول ، ومنا سبطا هذه الأمة وسيدا شباب أهل الجنة.

فمن عرفني فقد عرفني ، ومن لم يعرفني أنبأته بحسبي ونسبي ، أنا ابن مكة ومنى ، أنا ابن زمزم والصفا ، أنا ابن من حمل الزكاة بأطراف الرداء أنا ابن خير من ائتزر وارتدى ، أنا ابن خير من انتعل واحتفى أنا ابن خير من طاف وسعى ، أنا ابن خير من حج ولبى ، أنا ابن من حمل على البراق في الهواء ، أنا ابن من أسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى فسبحان من أسرى ، أنا ابن من بلغ به جبرئيل الى سدرة المنتهى ، أنا ابن من دنى فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى ، أنا ابن من صلى بملائكة السماء ، أنا ابن من أوحى إليه الجليل ما أوحى ، أنا ابن محمد المصطفى أنا ابن علي المرتضى ، أنا ابن من ضرب خراطيم الخلق حتى قالوا : لا إله الا اللّه ، أنا ابن من ضرب بين يدي رسول اللّه بسيفين وطعن برمحين وهاجر الهجرتين ، وبايع البيعتين ، وصلى القبلتين ، وقاتل ببدر وحنين ، ولم يكفر باللّه طرفة عين ، أنا ابن صالح المؤمنين ووارث النبيين ، وقاطع الملحدين ، ويعسوب المسلمين ، ونور المجاهدين وزين العابدين ، وتاج البكائين ، وأصبر الصابرين ، وأفضل القائمين من آل ياسين ، ورسول رب العالمين ، أنا ابن المؤيد بجبرئيل المنصور بميكائيل ، أنا ابن المحامي عن حرم المسلمين ، وقاتل الناكثين والقاسطين ، والمارقين والمجاهد اعداءه الناصبين ، وأفخر من مشى من قريش أجمعين ، وأول من أجاب واستجاب للّه من المؤمنين وأقدم السابقين ، وقاصم المعتدين ، ومبير المشركين ، وسهم من مرامي اللّه على المنافقين ، ولسان حكمة

٣٨٦

العابدين ، ناصر دين اللّه ، وولي أمر اللّه ، وبستان حكمة اللّه ، وعيبة علم اللّه ، سمح سخي بهلول زكي أبطحي ، رضي مرضي ، مقدام همام صابر صوام ، مهذب قوام ، شجاع قمقام ، قاطع الأصلاب ، ومفرق الأحزاب ، أربطهم جنانا ، وأطلقهم عنانا ، واجرأهم لسانا ، وأمضاهم عزيمة ، وأشدهم شكيمة ، أسد باسل ، وغيث هاطل ، يطحنهم في الحروب ويذرهم ذرو الريح الهشيم ، ليث الحجاز ، وصاحب الاعجاز ، وكبش العراق ، الامام بالنص والاستحقاق ، مكي مدني ، ابطحي تهامي ، خيفي عقبي ، بدري أحدي ، وشجري مهاجري ، من العرب سيدها ، ومن الوغى لبثها ، وارث المشعرين ، وابوا السبطين الحسن والحسين ، مظهر العجائب ، ومفرق الكتائب ، والشهاب الثاقب ، والنور العاقب ، أسد اللّه الغالب ، مطلوب كل طالب ، غالب كل غالب ، ذاك جدي علي ابن أبي طالب.

أنا ابن فاطمة الزهراء ، أنا ابن سيدة النساء ، أنا ابن الطهر البتول أنا ابن بضعة الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم(1) أنا ابن المزمل بالدماء أنا ابن ذبيح كربلا ، أنا ابن من بكى عليه الجن في الظلماء وناحت عليه الطير في الهواء»(2) .

ولم يزل يقول أنا : حتى ضج الناس بالبكاء والنحيب ، وخشي الطاغية من وقوع الفتنة وحدوث ما لا تحمد عقباه ، فقد اوجد خطاب الامام انقلابا فكريا في مجلس الطاغية ، وقد بادر بالايعاز الى المؤذن أن يؤذن ليقطع على الامام كلامه ، فصاح المؤذن :

«اللّه اكبر»

__________________

(1) مقتل الخوارزمي (2 / 69 ـ 70)

(2) نفس المهموم (ص 242)

٣٨٧

فقال الامام : كبرت كبيرا لا يقاس ، ولا يدرك بالحواس ، لا شيء اكبر من اللّه ، فلما قال المؤذن :

«اشهد ان لا إله الا اللّه»

قال علي بن الحسين : شهد بها شعري وبشري ، ولحمي ودمي ، ومخي وعظمي ، ولما قال المؤذن :

«اشهد أن محمدا رسول اللّه»

التفت علي بن الحسين الى يزيد فقال له :

«يا يزيد محمد هذا جدي أم جدك؟ فان زعمت أنه جدك ، فقد كذبت ، وإن قلت : إنه جدي فلم قتلت عترته؟»(1) .

ووجم يزيد ولم يطق جوابا ، واستبان لأهل الشام أنهم غارقون في الجهالة والضلالة وان الحكم الأموي قد جاهد على غوايتهم وشقائهم.

وقد اقتصر الامام في خطابه على التعريف بأسرته ونفسه ، ولم يعرض لشيء آخر ، وقد كان ذلك من أروع صور الالتفاتات وادقها وأعمقها ، فقد كان المجتمع الشامي لا يعرف شيئا عن أهل البيت ، فقد اخفت السلطة كل شيء عنهم ، وغذتهم بالولاء لبني أمية والحقد على أهل البيت.

صدى الخطاب :

واثر خطاب الامام تأثرا بالغا في اوساط أهل الشام ، فقد جعل بعضهم ينظر الى بعض ويسر بعضهم إلى بعض بما آلوا إليه من الخيبة

__________________

(1) مقتل الخوارزمي (2 / 242)

٣٨٨

والخسران ، حتى تغيرت أحوالهم مع يزيد(1) وأخذوا ينظرون إليه نظرة احتقار وازدراء.

الشامي مع فاطمة :

ونظر بعض أهل الشام الى السيدة فاطمة بنت الامام امير المؤمنين عليه السلام(2) أو بنت الامام الحسين(3) فقال ليزيد :

«هب لي هذه الجارية لتكون خادمة عندي»

وسرت الرعدة بحسمها ، فأخذت بثياب عمتها مستجيرة بها ، وانبرت حفيدة الرسول (ص) فصاحت بالرجل.

«كذبت ولؤمت ، ما ذلك لك ، ولا لأميرك»

واستشاط يزيد غضبا لعدم مبالاة العقيلة به واستهانتها بشأنه ، فقال لها :

«كذبت ، ان ذلك لي ، ولو شئت لفعلت»

فنهرته العقيلة متحدية له قائلة :

«كلا واللّه ، ما جعل لك ذلك ، الا أن تخرج من ملتنا ، وتدين بغير ديننا ..»

وتميز الطاغية غيظا حيث تحدته العقيلة أمام اشراف اهل الشام فصاح بها :

«اياي تستقبلين بهذا؟ انما خرج من الدين أبوك وأخوك»

__________________

(1) جوهرة الكلام في مدح السادة الأعلام (ص 128)

(2) البداية والنهاية 8 / 194 المنتظم 5 / 100

(3) مقتل الخوارزمي 2 / 69

٣٨٩

وانبرت العقيلة غير حافلة بسلطانه ولا بقدرته على البطش والانتقام فردت عليه بثقة قائلة :

«بدين اللّه ودين أبي وجدي واخي اهتديت أنت وأبوك ان كنت مسلما ..».

وازالت العقيلة بهذا الكلام الستار الذي تستر به يزيد بقتله للحسين وأهل بيته من انهم خوارج خرجوا على امام زمانهم ، ولم يجد الرجس جوابا فقال وهو مغيظ محنق :

«كذبت يا عدوة اللّه»

ولم تجد شقيقة الحسين جوابا تحسم به مهاترات يزيد غير ان قالت :

«أنت امير مسلط ، تشتم ظلما ، وتقهر بسلطانك»

وتهافت غضب الطاغية وأطرق برأسه الى الأرض ، واعاد الشامي كلامه إلى يزيد وكرر الشامي هذه المحاورة فصاح به يزيد :

«وهب اللّه لك حتفا قاضيا»(1)

لقد احتفظت عقيلة الوحي بقواها الذاتية في تلك المحن الشاقة ، وقابلت أعداء الاسلام بارادتها الصلبة الواعية التي ورثتها من جدها الرسول (ص) ، يقول بعض الكتاب :

«وقد حققت زينب وهي في ضعفها واستكانتها أول نصر حاسم على الطغاة ، وهم في سلطانهم وقوتهم ، فقد اقحمته المرة بعد المرة ، وقد أظهرت للملإ جهله ، كما كشفت عن قلة فقهه في شئون الدين فان نساء المسلمين لا يصح مطلقا اعتبارهن سبايا ومعاملتهن معاملة السبي في الحروب.

__________________

(1) تاريخ ابن الأثير 3 /

٣٩٠

واكبر الظن ان هذا الخطاب من الشامي كان فاتحة انتقاد ليزيد وبداية لتسرب الوعي عند الشاميين ، وآية ذلك انه كان يكفيه رد الحوراء على يزيد بذلك الرد الذي أخرجته عن ربقة الاسلام إن استجاب لطلب الشامي ، ووقوع الشجار العنيف بين الحوراء ويزيد ، مما يشعر منه أن طلب الشامي كان مقصودا لأجل بلورة الرأي العام وفضح يزيد لا سيما ان هذا الطلب كان بعد خطاب السيدة زينب وخطاب الامام زين العابدين (ع) وقد أحدثا وعيا عاما وموجة عاتية من السخط في مجلس يزيد.

الامام السجاد مع المنهال :

والتقى الامام زين العابدين بالمنهال بن عمر فبادر إليه قائلا :

ـ كيف امسيت يا بن رسول اللّه؟

ـ أمسينا كمثل بني إسرائيل في آل فرعون يذبحون ابناءهم ويستحيون نساءهم أمست العرب تفتخر على العجم بأن محمدا منها ، وأمست قريش تفتخر على سائر العرب بأن محمدا منها ، وأمسينا معشر أهل بيته مقتولين مشردين ، فانا للّه راجعون»(1) .

لقد كان الرسول الأعظم (ص) المصدر الأصيل لشرف الأمة العربية الذي تفتخر به فهو الذي خطط للعرب حياة سادوا فيها جميع شعوب الأرض ، وبنى لهم دولة كانت من أعز دول العالم وأمنعها ، فكان جزاؤه منهم ان عمدت قريش التي تفاخر العرب بأن محمدا منها إلى قتل ذريته واستئصال شأفتهم وسبي نسائهم ، فهل هذا هو جزاء المنقذ والمحرر لهم؟

__________________

(1) مقتل الحسين للخوارزمي 2 / 34

٣٩١

النياحة على الحسين :

وطلبن بنات رسول اللّه (ص) من الطاغية أن يفرد لهن بيتا ليقمن فيه مأتما على سيد الشهداء ، فقد نخر الحزن قلوبهن ، ولم يكن بالمستطاع أن يبدين بما ألم بهن من عظيم الأسى والشجون خوفا من الجلاوزة الجفاة الذين جاهدوا على منعهن من البكاء والنياحة على أبي عبد اللّه ، وقد أثر عن الامام زين العابدين (ع) أنه قال : كلما دمعت عين واحد منا قرعوا رأسه بالرمح ، واستجاب يزيد لذلك فافرد لهن بيتا ، فلم تبق هاشمية ولا قرشية الا لبست السواد حزنا على الحسين ، وخلدن بنات الرسالة الى النياحة سبعة أيام ، وهن يندبن سيد الشهداء باشجى ندبة(1) وينحن على الكواكب من نجوم آل عبد المطلب ، وقد ذابت الأرض من حرارة دموعهن.

مكافأة ابن مرجانة :

وشكر الطاغية يزيد لابن مرجانة قتله لريحانة رسول اللّه (ص) وبالغ في تقديره وتكريمه فاستدعاه للحضور عنده في دمشق ليجازيه على ذلك ، وكتب إليه ما يلي :

«أما بعد : فانك قد ارتفعت الى غاية أنت فيها كما قال الأول :

رفعت فجاوزت السحاب وفوقه فما لك الا مرتقى الشمس مقعد

فاذا وقفت على كتابي فاقدم علي لاجازيك على ما فعلت»

__________________

(1) مقتل الحسين لعبد اللّه

٣٩٢

وسافر ابن زياد مع أعضاء حكومته الى دمشق ولما انتهى إليها خرج لاستقباله جميع بني أمية ولما دخل على يزيد قام إليه واعتنقه وقيل ما بين عينيه وأجلسه على سرير ملكه ، وقال للمغني غني وللساقي اسقي : ثم قال :

اسقني شربة تروي فؤادي

ثم صل واسق مثلها ابن زياد

موضع السر والامانة عندي

وعلى ثغر مغنمي وجهادي

وأقام ابن مرجانة شهرا فاوصله بالف الف درهم ، ومثلها لعمر ابن سعد ، وأطلق له خراج العراق سنة(1) وقد بالغ في مودته فادخله على نسائه وعياله(2) ولما وفد أخوه مسلم بن زياد على يزيد بجله وكرمه تقديرا لأخيه عبيد اللّه وقال له :

«لقد وجبت محبتكم على آل أبي سفيان»

ونادمه يومه بأسره ، وولاه بلاد خراسان(3) لقد شكر لآل زياد ابادتهم لآل رسول اللّه وقد حسب انهم قد مهدوا له الملك والسلطان ، ولم يعلم أنهم قد هدموا ملكه ونسفوا سلطانه واخلدوا له الخزي والعار.

ندم الطاغية :

وبعد أن نقم المسلمون على الطاغية بقتله لريحانة رسول اللّه (ص) ندم على ذلك وحاول أن يلصق تبعة تلك الجريمة بابن مرجانة ، وراح يقول : ما كان علي لو احتملت الأذى ، وانزلته ـ يعني الحسين ـ معي

__________________

(1) مرآة الزمان في تواريخ الأعيان (ص 106)

(2) ينابيع المودة 1 / 149 ، الصراط السوي في مناقب آل النبيّ (ص 85).

(3) الفتوح 5 / 254

٣٩٣

في داري ، وحكمته فيما يريد ، وإن كان علي في ذلك وكف ووهن في سلطاني حفظا لرسول اللّه (ص) ورعاية لحقه وقرابته ، لعن اللّه ابن مرجانة فقد بغضني بقتله الى المسلمين ، وزرع لي في قلوبهم العداوة ، فبغضني البر والفاجر بما استعظم الناس في قتلي حسينا ، مالي ولابن مرجانة لعنه اللّه وغضب عليه(1) .

واكبر الظن انه انما قال ذلك ليبرأ نفسه من المسئولية أمام المسلمين ولو كان نادما في قرارة نفسه لانتقم منه وعزله ، ولما شكره وأجزل له العطاء وقربه ، وذلك مما يدل على رضاه وعدم ندمه فيما اقترفه.

منكرون وناقمون :

وسخط المسلمون وغيرهم كأشد ما يكون السخط على يزيد على قتله لريحانة رسول اللّه (ص) وقد أنكر عليه جمع من الأحرار وفيما يلي بعضهم :

1 ـ ممثل ملك الروم

وكان في مجلس يزيد ممثل ملك الروم فلما رأى رأس الامام بين يديه بهر من ذلك وراح يقول له :

ـ رأس من هذا؟

ـ رأس الحسين

ـ من الحسين؟

ـ ابن فاطمة

__________________

(1) تاريخ الطبري 7 / 19 ابن الأثير 3 / 300

٣٩٤

من فاطمة؟

ـ ابنة رسول اللّه

ـ نبيكم؟

ـ نعم

وفزع من ذلك وصاح به :

«تبا لكم ولدينكم ، وحق المسيح إنكم على باطل ، ان عندنا في بعض الجزائر ديرا فيه حافر فرس ركبه المسيح فنحن نحج إليه في كل عام من مسيرة شهور وسنين ، ونحمل إليه النذور والأموال ، ونعظمه اكثر مما تعظمون كعبتكم ، أف لكم».

ثم قام من عنده وهو غضبان(1) قد افزعه ذلك المنظر الرهيب

2 ـ حبر يهودي

وكان حبر يهودي في مجلس الطاغية فلما خطب الامام زين العابدين خطبته البليغة التي أثارت الحماس وايقظت المجتمع ، التفت الحبر الى يزيد قائلا :

ـ من هذا الغلام؟

علي بن الحسين

ـ من الحسين؟

ـ ابن علي بن أبي طالب

ـ من أمه؟

ـ بنت محمد

يا سبحان اللّه!! هذا ابن بنت نبيكم قتلتموه ، بئسما خلفتموه

__________________

(1) مرآة الزمان (ص 101) الصراط السوي (ص 89)

٣٩٥

في ذريته ، فو اللّه لو ترك نبينا موسى بن عمران فينا سبطا لظننت أنا كنا نعبده من دون ربنا ، وأنتم فارقكم نبيكم بالأمس فوثبتم على ابنه وقتلتموه سوأة لكم من أمة.

وغضب الطاغية وامر به فوجئ في حلقه(1) فقام الحبر وقد رفع عقيرته قائلا :

«إن شئتم فاقتلوني» إني وجدت في التوراة من قتل ذرية نبي فلا يزال ملعونا أبدا ما بقي فاذا مات اصلاه اللّه نار جهنم»(2) .

3 ـ قيصر ملك الروم

وتوالت صيحات الانكار على يزيد ، وكان ممن انكر عليه قيصر ملك الروم فقد كتب إليه : «قتلتم نبيا أو ابن نبي»(3) .

4 ـ رأس الجالوت

ومن الناقمين على يزيد رأس الجالوت فقد قال لمحمد بن عبد الرحمن ان بيني وبين داود سبعين أبا ، وان اليهود تعظمني وتحترمني وأنتم قتلتم ابن بنت نبيكم(4) .

__________________

(1) فوجئ : ضرب ودق

(2) الحدائق الوردية 1 / 131 ، الفتوح 5 / 246 ، مقتل الخوارزمي 2 / 71.

(3) المحاسن والمساوئ للبيهقي 1 / 46

(4) الصراط السوي في مناقب آل النبي (ص 90) جواهر المطالب في مناقب الامام علي بن أبي طالب (ص 136).

٣٩٦

5 ـ واثلة بن الاسقع

ولما جيء برأس الامام إلى الشام كان الصحابي وائلة بن الاسقع هناك فتميز غيظا ، فالتقى به رجل من أهل الشام ، فاندفع يقول :

«لا أزال أحب عليا والحسن والحسين وفاطمة أبدا بعد ما سمعت رسول اللّه (ص) يقول فيهم : ما قال».

«ما قال رسول اللّه (ص) فيهم؟»

«جئت رسول اللّه (ص) وهو في منزل أم سلمة ، وجاء الحسن فاجلسه على فخذه اليمنى ، وجاء الحسين فاجلسه على فخذه الأيسر وقبله ثم جاءت فاطمة فاجلسها بين يديه ، ثم دعا بعلي فجاء ، وجعل عليهم كساء خيبريا ، كأني انظر إليه ، ثم قال : «انما يريد اللّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا»(1) .

6 ـ ابن عباس

ومن أشد الناقمين على يزيد عبد اللّه بن عباس ، فقد كتب إليه يزيد يستميل وده ، ويطلب منه ما زرته على ابن الزبير فكتب إليه ابن عباس هذه الرسالة :

أما بعد : فقد جاءني كتابك فاما تركي بيعة ابن الزبير فو اللّه ما ارجو بذلك برك ولا حمدك لكن اللّه بالذي أنوي عليم ، وزعمت انك لست بناس بري فاحبس أيها الانسان برك عني فاني حابس عنك بري ،

__________________

(1) فضائل الامام امير المؤمنين (ص 264) لعبد اللّه بن أحمد ابن حنبل من مخطوطات مكتبة الامام الحكيم.

٣٩٧

وسألت أن احبب الناس إليك ، وابغضهم واخذلهم لابن الزبير فلا ولا سرور ولا كرامة ، كيف وقد قتلت حسينا وفتيان عبد المطلب مصابيح الهدى ونجوم الاعلام؟ غادرتهم خيولك بأمرك في صعيد واحد مرملين بالدماء مسلوبين بالعراء ، مقتولين بالظماء لا مكفنين ولا مسودين تسفي عليهم الرياح وينشىء بهم عرج البطاح حتى أتاح اللّه لهم بقوم لم يشركوا في دمائهم كفنوهم واجنوهم ، وبي وبهم لو عززت(1) وجلست مجلسك الذي جلست.

فما أنسى من الأشياء فلست بناس اطرادك حسينا من حرم رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ، الى حرم اللّه وتسييرك الخيول إليه فما زلت بذلك حتى اشخصته الى العراق فخرج خائفا يترقب فنزلت به خيلك عداوة منك للّه ولرسوله ولأهل بيته الذين أذهب اللّه عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا ، فطلب إليكم الموادعة وسألكم الرجعة فاغتنمتم قلة أنصاره واستئصال أهل بيته وتعاونتم عليه كأنكم قتلتم أهل بيت من الترك والكفر ، فلا شيء أعجب عندي من طلبتك ودي وقد قتلت ولد أبي وسيفك يقطر من دمي وأنت احد ثاري ، ولا يعجبك ان ظفرت بنا اليوم فلنظفرن بك يوما»(2) .

وحفلت هذه الرسالة بانهام يزيد بأنه الذي أشخص الامام الحسين إلى العراق ليقتله ، وانه لم يخرج الا لمطاردة جيوش يزيد في المدينة وفي مكة ، ولم يكن خروجه إلى العراق استجابة منه لأهل الكوفة ، وانما ارغمته جيوش يزيد على ذلك.

__________________

(1) في رواية «وبي وبهم عززت»

(2) تاريخ ابن الأثير 3 / 318 ، ورواه اليعقوبي بصورة أخرى ذكر فيه الأحداث المروعة التي اقترفها معاوية ويزيد.

٣٩٨

7 ـ ابن الزبير

ومن المنكرين على الأمويين عبد اللّه بن الزبير بقتلهم للامام الحسين فقد خطب في مكة فقال :

«ان أهل الكوفة شرارهم دعوا حسينا ليولي عليهم ، ويقيم أمرهم وبعيد معالم الاسلام ، فلما قدم عليهم ثاروا عليه فقتلوه ، وقالوا له :

أما أن تضع يدك في يد الفاجر الملعون ابن زياد فيرى فيك رأيه فاختار الوفاة الكريمة على الحياة الذميمة فيرحم اللّه حسينا وأخزى قاتله ، ولعن من رضي بذلك وأمر به»(1) .

وانما أبدى ابن الزبير الأسى على قتل الامام تصنعا وتقربا لعامة المسلمين ، فقد كان في قرارة نفسه مسرورا لأنه تخلص من أعظم مناوئيه ولو كان مؤمنا بما قاله لما آواى قتلة الحسين فقد ركن إليه والتحق به كل من سلم من قبضة المختار كشبث بن ربعي وغيره ، وقد رحب بهم وزج بهم لقتال المختار.

8 ـ ابو برزة

ومن المنكرين على يزيد الصحابي أبو برزة الاسلمي حينما رآه ينكت بمخصرته رأس الامام ، وقد ألمعنا إلى حديثه في البحوث السابقة.

9 ـ الاسرة الأموية

وتفاقم الأمر على يزيد ، وتوالت عليه صيحات المنكرين ، فقد نقمت عليه أسرته ومن بينها.

__________________

(1) الصراط السوي في مناقب آل النبي (ص 94)

٣٩٩

أ ـ يحيى بن الحكم

وكان من أشد المنكرين عليه يحيى بن الحكم فقد نقده في مجلسه ، وقد دفع يزيد في صدره واوعز إلى شرطته باخراجه ، وقد ذكرنا نص كلامه فيما تقدم.

ب ـ عاتكة بنت يزيد

وانكرت عليه عاتكة ابنته حينما ارسل الرأس الى حرمه ونسائه فأخذته عاتكة فطيبته ، وقالت يا رأس عمى ، وقد ألمعنا الى كلامها في البحوث السابقة.

ج ـ هند

ونقمت عليه زوجته هند بنت عمرو ، فقد فزعت الى مجلسه وهي مذعورة وقد رفعت صوتها :

«رأس ابن بنت رسول اللّه (ص) على باب دارنا!!»

فاسرع إليها الطاغية ، واسدل عليها حجابها ، وقال لها : اعولي عليه يا هند فانه صريخة بني هاشم عجل عليه ابن زياد(1) »

10 ـ معاوية بن يزيد

ونقم معاوية على ابيه يزيد كما نقم على جده معاوية ، وقد رفض

__________________

(1) مقتل الخوارزمي 2 / 284

٤٠٠