حياة الامام الحسين عليه السلام الجزء ٣

حياة الامام الحسين عليه السلام0%

حياة الامام الحسين عليه السلام مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 496

حياة الامام الحسين عليه السلام

مؤلف: باقر شريف القرشي
تصنيف:

الصفحات: 496
المشاهدات: 290068
تحميل: 5187


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 496 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 290068 / تحميل: 5187
الحجم الحجم الحجم
حياة الامام الحسين عليه السلام

حياة الامام الحسين عليه السلام الجزء 3

مؤلف:
العربية

والقضاء ينزل من السماء ، واللّه يفعل ما يشاء وربنا كل يوم هو في شأن(1) .

واستصوب الامام حديث الفرزدق فقال له :

«صدقت للّه الأمر من قبل ومن بعد» يفعل اللّه ما يشاء ، وكل يوم ربنا في شأن ، إن نزل القضاء بما نحب فنحمد اللّه على نعمائه. وهو المستعان على اداء الشكر ، وإن حال القضاء دون الرجاء فلم يتعد من كان الحق نيته والتقوى سريرته ..»(2)

وأنشأ الامام يقول :

لئن كانت الدنيا تعد نفيسة

فدار ثواب اللّه أعلى وأنبل

وان كانت الأبدان للموت أنشئت

فقتل امرئ بالسيف في اللّه أفضل

وان كانت الأرزاق شيئا مقدرا

فقلة سعي المرء في الرزق أجمل

وان كانت الأموال للترك جمعها

فما بال متروك به المرء يبخل(3)

وسأله الفرزدق عن بعض المسائل الشرعية فاجابه عنها ، ثم سلم عليه وانصرف عنه ويعطينا هذا الالتقاء صورة عن خنوع للناس ، وعدم اندفاعهم لنصرة الحق ، فالفرزدق الذي كان يملك وعيا اجتماعيا ووعيا ثقافيا مع علمه بأن الامام سيقتل لم يندفع إلى نصرته والالتحاق بموكبه ليذب عنه ، فاذا كان هذا حال الفرزدق ، فكيف بغيره من سواد الناس وجهالهم.

__________________

(1) وسيلة المال (ص 188)

(2) البداية والنهاية 8 / 166 ، تأريخ الطبري 6 / 218 ، تأريخ ابن الأثير 3 / 276 ، الصواعق المحرقة (ص 118).

(3) وسيلة المال (ص 188) الصراط السوي في مناقب آل النبي (ص 86).

٦١

وعلى أي حال فقد واصل الامام مسيرته بعزم وثبات ، ولم يثنه عن نيته قول الفرزدق في تخاذل الناس عنه ، وتجاوبهم مع بني أمية ، ولو كان الامام يروم الملك لصده قول الفرزدق عن التوجه الى العراق»

كتاب الحسين لأهل الكوفة :

ولما وافى الامام الحسين الحاجر من بطن ذي الرمة ، وهو أحد منازل الحج من طريق البادية كتب كتابا لشيعته من اهل الكوفة يعلمهم بالقدوم إليهم ، وقد جاء فيه بعد البسملة :

«من الحسين بن علي إلى إخوانه من المؤمنين والمسلمين ، سلام عليكم فإني أحمد إليكم اللّه الذي لا إله إلا هو أما بعد : فان كتاب مسلم ابن عقيل جاءني يخبرني بحسن رأيكم واجتماع ملئكم على نصرنا ، والطلب بحقنا ، فنسأل اللّه ان يحسن لنا الصنيع ، وان يثيبكم على ذلك أعظم الأجر وقد شخصت إليكم من مكة يوم الثلاثاء لثمان مضين من ذي الحجة يوم التروية ، فاذا قدم عليكم رسولي فاكتموا أمركم ، وجدوا فاني قادم عليكم من أيامي هذه إن شاء اللّه والسلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته»(1) .

ودفع الكتاب بيد البطل الفذ قيس بن مسهر الصيداوي فأخذ يجذ في السير لا يلوي على شيء حتى انتهى الى القادسية فاستولت عليه مفرزة من الشرطة اقيمت هناك تفتش كل من يدخل للعراق ويخرج منه تفتيشا دقيقا ، وأسرع قيس إلى الكتاب فخرقه لئلا تطلع الشرطة على ما فيه

__________________

(1) البداية والنهاية 8 / 168 ، وفي الفتوح 5 / 143 صورة أخرى مطولة للكتاب ، وفي أنساب الأشراف ق 1 ج 1 صورة أخرى لهذا الكتاب.

٦٢

وارسلته الشرطة مخفورا ومعه القطع المخرقة من الكتاب إلى الطاغية ابن زياد فلما مثل عنده قال له :

ـ من أنت؟

ـ رجل من شيعة امير المؤمنين الحسين بن علي

ـ لم خرقت الكتاب الذي كان معك؟

ـ خوفا من أن تعلم ما فيه

ـ ممن الكتاب وإلى من؟

ـ من الحسين إلى جماعة من اهل الكوفة لا اعرف أسماءهم وغضب الطاغية وفقد اهابه وصاح به

«واللّه لا تفارقني أبدا ، او تدلني على هؤلاء القوم الذين كتب إليهم هذا الكتاب ، أو تصعد المنبر فتسب الحسين واباه واخاه ، فتنجو من يدي او لأقطعنك».

فقال له قيس :

«أما هؤلاء القوم فلا اعرفهم ، وأما اللعن فافعل».

وظن ابن زياد أنه من قبيل أوغاد اهل الكوفة الذين تغريهم المادة ويرهبهم الموت وما عرف أنه من افذاذ الأحرار الذين يصنعون تأريخ الأمم والشعوب ، وترتفع بهم كلمة الحق والعدل في الأرض وأمر ابن مرجانة بجمع الناس في المسجد الأعظم ليريهم من لعن قيس لأهل البيت ـ كما توهم ـ أمثلة لنكث العهد حتى يحملهم عليها ويجعلها من أخلاقهم وذاتياتهم.

وانبرى البطل العظيم وهو هازئ من الموت وساخر من الحياة لبؤدي رسالة اللّه بأمانة واخلاص ، فاعتلى منصة المنبر فحمد اللّه وأثنى عليه

٦٣

وصلى على الرسول الأعظم (ص) واكثر من الترحم على علي وولده(1) ثم لعن عبيد اللّه ولعن أباه وعتاة بني أمية عن آخرهم ، ورفع صوته الهادر الذي هو صوت الحق والاسلام قائلا :

«أيها الناس ان الحسين بن علي خير خلق اللّه ابن فاطمة بنت رسول اللّه (ص) أنا رسوله إليكم ، وقد فارقته بالحاجر فأجيبوه ..»(2) .

واسرعت الجلاوزة الى ابن زياد فأخبرته بشأنه فتميز غيظا ، وأمر أن يصعد به من اعلى القصر فيرمى منه وهو حي ، وأمسكته الشرطة والقت به من اعلى القصر فتقطعت أوصاله وتهشمت عظامه ، ومات ميتة الأبطال في سبيل مبدئه وعقيدته ولما بلغ مقتله الحسين بلغ به الحزن اقصاه ، واستعبر باكيا واندفع يقول :

«اللهم اجعل لنا ولشيعتنا منزلا كريما عندك ، واجمع بيننا واياهم في مستقر رحمتك انك على كل شيء قدير»(3) .

مع أبي هرة :

ولما انتهى الامام الى ذات عرق خف إليه ابو هرة فقال له : يا ابن رسول اللّه ما الذي اخرجك عن حرم اللّه ، وحرم جدك رسول اللّه (ص) وتأثر الامام ، فقال له :

__________________

(1) الفتوح 5 / 146 ـ 147

(2) تأريخ ابن الأثير 3 / 277

(3) الفتوح 5 / 147

٦٤

«ويحك يا ابا هرة إن بني أمية أخذوا مالي فصبرت ، وشتموا عرضي فصبرت ، وطلبوا دمي فهربت وايم اللّه لتقتلني الفئة الباغية ، وليلبسهم اللّه ذلا شاملا ، وسيفا قاطعا ، وليسلطنّ عليهم من يذلهم حتى يكونوا أذل من قوم سبأ إذ ملكتهم امرأة منهم فحكمت في أموالهم ودمائهم حتى أذلتهم»(1) .

وانصرف الامام ، وهو ملتاع حزين من هؤلاء الناس الذين لا يملكون وعيا لنصرة الحق قد آثروا العافية وكرهوا الجهاد في سبيل اللّه.

مع بعض مشايخ العرب :

ولما انتهت قافلة الامام إلى (بطن العقبة) بادر إليه بعض مشايخ العرب المقيمين هناك فقال له :

«أنشدك اللّه إلا ما انصرفت ، ما تقدم إلا على الأسنة وحد السيوف وان هؤلاء الذين بعثوا إليك لو كانوا كفوك مئونة القتال ، ووطئوا لك الأمور فقدمت على غير حرب كان ذلك رأيا واما على هذا الحال الذي ترى فلا أرى لك ذلك».

فقال (ع) : «لا يخفى علي شيء مما ذكرت ، ولكنى صابر ومحتسب إلى أن يقضي اللّه أمرا كان مفعولا»(2) .

__________________

(1) الدر المسلوك 1 / 110

(2) الفصول المهمة لابن الصباغ (ص 167)

٦٥

فزع السيدة زينب :

وسارت قافلة الامام حتى انتهت إلى (الخزيمية) وهي احدى منازل الحج فاقام فيها الامام يوما وليلة ليستريح من جاهد الطريق وعناء السفر ، وقد خفت إليه اخته الحوراء عقيلة بني هاشم ، وهي تجر ذيلها وقلبها الزاكي يتقطع من الأسى والحزن ، وهي تقول له بنبرات مشفوعة بالبكاء إني سمعت هاتفا يقول :

ألا يا عين فاحتفلي بجاهد

فمن يبكي على الشهداء بعدي

على قوم تسوقهم المنايا

بمقدار الى انجاز وعدي

فقال لها أبي الضيم :

«يا اختاه كل الذي قضي فهو كائن»(1) .

لقد أراد من شقيقته أن تخلد إلى الصبر ، وأن تقابل الخطوب والرزايا برباطة جأش وعزم حتى تقوى على اداء رسالته.

مع زهير بن القين :

وانتهت قافلة الامام إلى «زرود» فأقام الامام فيها بعض الوقت وقد نزل بالقرب منه زهير بن القين البجلي ، وكان عثماني الهوى ، وقد حج بيت اللّه في تلك السنة ، وكان بسائر الامام في طريقه ، ولا يحب أن ينزل معه مخافة الاجتماع به إلا انه اضطر إلى النزول قريبا منه ، فبعث

__________________

(1) المناقب لابن شهر اشوب 5 / 127 من مصورات مكتبة الامام امير المؤمنين ، الفتوح 5 / 122.

٦٦

إليه رسولا يدعوه إليه ، وكان زهير مع جماعته يتناولون طعاما صنع لهم فابلغه الرسول مقالة الحسين فذعر القوم وطرحوا ما في أيديهم من طعام كأن على رءوسهم الطير ، وانكرت زوجة زهير عليه ذلك وقالت له :

«سبحان اللّه!! أيبعث إليك ابن بنت رسول اللّه ثم لا تأنيه لو أتيته فسمعت كلامه!!» وانطلق زهير على كره منه الى الامام فلم يلبث أن عاد مسرعا وقد تهلل وجهه وامتلأ غبطة وسرورا ثم أمر بفسطاطه وما كان عنده من ثقل ومتاع فحوله إلى الامام الحسين (ع) وقال لزوجته :

«أنت طالق».

ما ذا أسر إليه ريحانة رسول اللّه حتى جعله يتغير هذا التغيير؟ هل وعده بمال أو مغنم ، ولو وعده بذلك لما طلق زوجته ، ولا ودع أصحابه الوداع الأخير لقد بشره بالشهادة والفوز بالجنة ، وذكّره بحديث طالت عليه الأيام فنساه وقد حدث به أصحابه قائلا :

«سأحدثكم حديثا غزونا (بلنجر) ففتح اللّه علينا ، وأصبنا غنائم ففرحنا ، وكان معنا سلمان الفارسي ، فقال لنا : أفرحتم بما فتح اللّه عليكم واصبتم من الغنائم؟ فقلنا نعم : فقال إذا أدركتم سيد شباب آل محمد (ص) فكونوا أشد فرحا بقتالكم معه مما أصبتم اليوم من الغنائم»(1) .

وروى ابراهيم بن سعيد وكان قد صحب زهيرا حينما مضي إلى الامام انه (ع) قال له : انه يقتل في كربلا ، وان رأسه الشريف يحمله زجر بن قيس إلى يزيد يرجو نواله فلا يعطيه شيئا(2) .

__________________

(1) الارشاد (ص 246) تأريخ ابن الأثير 3 / 177 ، أنساب الأشراف ق 1 ج 1 ، الدر النظيم (ص 167).

(2) دلائل الامامة لمحمد بن جرير الطبري.

٦٧

لقد ساعد التوفيق زهيرا فالتحق بموكب العترة الطاهرة ، وصار من اصلب المدافعين عنها ، ومن ألمع أصحاب الامام ، ففداه بروحه واستشهد في سبيل قضيته العادلة.

النبأ المفجع بمقتل مسلم :

أما النبأ المفجع بمقتل مسلم فقد حمله الى الامام عبد اللّه بن سليمان والمنذر بن المشمعل الأسديان(1) ، وكانا ـ فيما يقول المؤرخون ـ قد انتهيا من اداء مناسك الحج ، وكانت لهما رغبة ملحة في الاتصال بالامام والتعرف على شئونه فأخذا يجذان في السير حتى التحقا به في زرود ، وبينما هما معه وإذا برجل قد أقبل من جهة الكوفة فلما رأى الحسين عدل عن الطريق ، وقد وقف الحسين يريد مسألته فلما رآه قد مال عنه سار في طريقه ، ولما عرف الأسديان رغبة الامام في سؤاله تبعاه حتى أدركاه فسلما عليه وسألاه عن اسرته فأخبرهما أنه أسدي فانتسبا له ثم سألاه عن خبر الكوفة ، فقال لهما : انه لم يخرج منها حتى قتل مسلم بن عقيل وهانئ ابن عروة ، ورآهما يجران بأرجلهما في الأسواق ، وو دعاه ، واقبلا مسرعين حتى لحقا بالامام ، فلما نزل الامام بالثعلبية(2) قالا له :

«رحمك اللّه ان عندنا خبرا ان شئت حدثناك علانية ، وان شئت سرا ..».

__________________

(1) وقيل الذي حمل النبأ إلى الامام هو ابن يزيد التميمي كما في الصواعق (ص 118) وقيل بكر بن المعتقة كما في أنساب الأشراف ق 1 ج 1.

(2) الثعلبية : من منازل طريق مكة من الكوفة بعد الشقوق وقبل الخزيمية ، وهي ثلثا الطريق معجم البلدان 2 / 78.

٦٨

وتأمل في أصحابه فقال (ع) :

«ما دون هؤلاء سر»

«أرأيت الراكب الذي استقبلته عشاء امس؟»

«نعم واردت مسألته»

«واللّه استبرأنا لك خبره ، وكفيناك مسألته ، وهو امرؤ منا ذو رأي وصدق وعقل ، وانه حدثنا انه لم يخرج من الكوفة حتى قتل مسلم وهانئ ورآهما يجران في السوق بارجلهما. «(1) .

وكان النبأ المؤلم كالصاعقة على العلويين فانفجروا بالبكاء على فقيدهم العظيم حتى ارتج الموضع بالبكاء وسالت الدموع كل مسيل(2) واستبان للامام غدر أهل الكوفة ، وايقن انه مع الصفوة من أهل بيته وأصحابه سيلاقون نفس المصير الذي لاقاه مسلم ، وانبرى إلى الامام بعض أصحابه فقال له : «ننشدك اللّه الا رجعت من مكانك فانه ليس لك بالكوفة ناصر ولا شيعة بل نتخوف ان يكونوا عليك»

والتفت الامام الى بني عقيل فقال لهم :

«ما ترون فقد قتل مسلم؟»

ووثبت الفتية وهي تعلن استهانتها بالموت قائلين :

«لا واللّه لا نرجع حتى نصيب ثأرنا او نذوق ما ذاق مسلم»

وراح الامام يقول بمقالتهم :

«لا خير في العيش بعد هؤلاء»(3)

__________________

(1) الارشاد (ص 247)

(2) الدر المسلوك 1 / 111

(3) الارشاد (ص 247)

٦٩

وقال (ع) متمثلا :

سأمضي وما بالموت عار على الفتى

اذا ما نوى حقا وجاهد مسلما

فان مت لم اندم وان عشت لم الم

كفى بك عارا ان تذل وترغما(1)

لقد مضى الامام قدما ، وهو مرفوع الجبين وقد ايقن انه يسير إلى الفتح الذي ليس مثله فتح ، لقد مضى ليؤدي رسالة اللّه بامانة واخلاص كما اداها جده الرسول (ص) من قبل.

وصول النبأ بمصرع عبد اللّه :

ولما انتهت قافلة الامام الى «زبالة» وافاه النبأ الفظيع بقتل رسوله عبد اللّه بن يقطر ، وكان الامام قد اوفده للقيى مسلم بن عقيل فالقت عليه الشرطة القبض في القادسية ، وبعثته مخفورا الى ابن مرجانة فلما مثل عنده صاح به الخبيث :

«اصعد المنبر ، والعن الكذاب ابن الكذاب ، ثم انزل حتى أرى رأيي فيك ..».

وظن ابن مرجانة انه يفعل ذلك ، وما درى أنه من أفذاذ الأحرار الذين ترتفع بهم كلمة اللّه في الأرض واعتلى البطل العظيم المنبر ، ورفع صوته الهادر قائلا :

«أيها الناس أنا رسول الحسين بن فاطمة ، لتنصروه وتؤازروه على ابن مرجانة الدعي ابن الدعي لعنه اللّه»(2) .

__________________

(1) الدر النظيم (ص 167)

(2) انساب الأشراف ق 1 ج 1

٧٠

وأخذ يلعن ابن زياد ، ويذكر مساوئ بني أمية ، ويدعو الى نصرة ريحانة الرسول (ص) فاستشاط ابن زياد غضبا ، وأمر أن يلقى من فوق القصر كما فعل بقيس بن مصهر الصيداوي ، فرمته الشرطة من أعلى القصر فتكسرت عظامه ، وبقي به رمق من الحياة فاسرع إليه الوغد الخبيث عبد الملك اللخمي فذبحه ليتقرب إلى سيده ابن مرجانة ، وقد عاب الناس عليه ذلك فاعتذر لهم أنه أراد ان يريحه.

ولما انتهى خبره إلى الامام (ع) شق عليه ذلك ، ويئس من الحياة وأمر بجمع أصحابه ، والذين اتبعوه طلبا للعافية لا للحق فقال لهم :

«أما بعد : فقد خذلنا شيعتنا ، فمن أحب منكم الانصراف فلينصرف ليس عليه منا ذمام».

وتفرق عنه ذباب المجتمع من ارباب المطامع الذين تبعوه لأجل الغنيمة ، وخلص إليه الصفوة من اصحابه الذين جاءوا معه من مكة(1) ولو كان الحسين يروم الملك والسلطان لما صارح الذين اتبعوه بالأوضاع

__________________

(1) تأريخ ابن الأثير 3 / 278 ، انساب الاشراف ق 1 ج 1 وسيلة المال (ص 189) تأريخ أبي الفداء 1 / 301 تأريخ الاسلام للذهبي 2 / 345 ، وجاء في روضة الأعيان في أخبار مشاهير الزمان (ص 67) ان الامام لما اذن للناس بالتفرق عنه ، تفرقوا عنه ، ولم يبق معه إلا اثنان واربعون رجلا من اهل بيته ، وجاء في تأريخ الطبري ان الذين صحبوا الامام من المدينة تفرقوا عنه حينما اعلن لهم مقتل عبد اللّه ابن يقطر ، وفيما نحسب أن هذا اشتباه من الطبري فان الامام لم يمر بالمدينة في حال مجيئه إلى مكة اللهم إلا الذين تبعوه من المدينة وساروا معه الى مكة او في أثناء الطريق إليها.

٧١

الراهنة التي تحيط به ، فقد اعلمهم أن من يلتحق به لا ينال منصبا أو مالا وانما يقدم إلى ساحات الجهاد فيفوز بالشهادة ولو كان من عشاق الملك لما ادلى بذلك في تلك الساعات الحرجة الذي هو في أمس الحاجة إلى الناصر والصديق الذي يذب عنه.

لقد نصح الامام أصحابه واهل بيته مرارا في التخلي عنه ، وما ذلك إلا ليحاربوا على بصيرة وبينة من امرهم وفعلا فقد تبعه خيرة الرجال واصلبهم في الدفاع عن الحق ، تبعوه ونفوسهم مليئة بالايمان باللّه ، والاخلاص إلى الجهاد في سبيله.

رؤيا الامام الحسين :

وخفق الامام الحسين وقت الظهيرة فرأى رؤيا افزعته ، فانتبه مذهولا فاقبل عليه ولده البار علي الأكبر فقال له :

ـ مالي أراك فزعا؟

ـ رأيت رؤيا اهالتني

ـ خيرا رأيت؟

وفاجأه ابوه بالرؤيا المفجعة قائلا :

«رأيت فارسا وقف علي ، وهو يقول : انتم تسرعون ، والمنايا تسرع بكم إلى الجنة ، فعلمت ان انفسنا قد نعيت إلينا»(1) .

واسرع الولد البار قائلا :

«ألسنا على الحق؟»

«بلى والذي إليه مرجع امر العباد»

__________________

(1) تأريخ الاسلام للذهبي 2 / 346

٧٢

وطفق فخر هاشم يلقي على الأجيال اروع صور الايمان والتضحية في سبيل اللّه قائلا لأبيه :

«يا أبة لا نبالي بالموت»

ووجد الحسين في ولده خير عون له على اداء رسالته الكبرى ، فشكره على ذلك قائلا :

«جزاك اللّه يا بني خير ما جزي به ولد عن والده ..»(1)

الالتقاء بالحر :

وانتهى موكب الامام الى شراف ، وفيها عين للماء فأمر الامام فتيانه ان يستقوا من الماء ، ويكثروا منه ، ففعلوا ذلك ، ثم سارت القافلة تطوي البيداء ، وبادر بعض أصحاب الامام فكبر ، فاستغرب الامام وقال له :

ـ لم كبرت؟

ـ رأيت النخل

وانكر عليه رجل من أصحاب الامام ممن خبر الطريق وعرفه فقال له :

«ليس هاهنا نخل ، ولكنها أسنة الرماح وآذان الخيل».

وتأملها الامام فطفق يقول : وأنا أرى ذلك ، وعرف الامام انها طلائع جيش العدو جاءت لمناهضته ، فقال لأصحابه :

__________________

(1) مقاتل الطالبيين (ص 111) الدر المسلوك (ص 109) الفتوح 5 / 123.

٧٣

«أما لنا ملجأ نلجأ إليه نجعله في ظهورنا ، ونستقبل القوم من وجه واحد؟».

وكان بعض أصحابه ممن يعرف سنن الطريق فقال له :

«بلى هذا ذو حسم(1) إلى جنبك تميل إليه عن يسارك فان سبقت إليه فهو كما تريد».

ومال موكب الامام إليه الا انه لم يبعد كثيرا حتى أدركه جيش مكثف بقيادة الحر بن يزيد الرياحي كان ابن زياد قد عهد إليه ان يجوب في صحراء الجزيرة للتفتيش عن الامام ، والقاء القبض عليه وكان عدد الجيش زهاء الف فارس ، ووقفوا قبال الامام في وقت الظهيرة ، وكان الوقت شديد الحر ، ورآهم الامام وقد أشرفوا على الهلاك من شدة الظمأ فرق عليهم ، وغض نظره من أنهم جاءوا لقتاله وسفك دمه ، فأمر أصحابه أن يسقوهم ، ويرشفوا خيولهم ، وقام أصحاب الامام فسقوا الجيش ثم انعطفوا إلى الخيل فجعلوا يملئون القصاص والطساس فاذا عب فيها ثلاثا او اربعا أو خمسا عزلت وسقي الآخر حتى سقوا الخيل عن آخرها(2) لقد كان الامام على استعداد كامل في سفره ، فقد كانت الأواني وحدها تسع لسقاية الف فارس مع خيولهم ، فضلا عن سائر الأثاث والأمتعة الأخرى.

وعلى أي حال فقد تكرم الامام بانقاذ هذا الجيش الذي جاء لحربه ويقول المؤرخون انه كان من بين هذا الجيش علي بن الطعان المحاربي ، وقد تحدث عن سجاحة طبع الامام وعظيم اخلاقه ، يقول : كنت ممن أضر بي العطش ، فأمرني الحسين بأن انخ الراوية فلم افقه كلامه لأن الراوية

__________________

(1) ذو حسم : بضم الحاء وفتح السين جبل هناك

(2) تأريخ الطبري 6 / 226 ، خطط المقريزي 2 / 286.

٧٤

بلغة الحجاز هي الجمل ، ولما عرف أني لم افهم كلامه قال لي : (انخ الجمل) فأنخته ولما أردت ان اشرب جعل الماء يسيل من السقاء ، فقال لي اخنث السقاء ، فلم ادر ما اصنع فقام أبي الضيم فخنث السقاء حتى ارتويت أنا وفرسي.

ولم تهز هذه الأريحية ولا هذا النبل نفس هذا الجيش «وما تأثر أحد منهم بهذا الخلق الرفيع إلا الحر فقد تأثر ضميره اليقظ الحساس بهذا المعروف والاحسان ، فاندفع بوحي من ضميره حتى التحق بالامام واستشهد بين يديه.

خطاب الامام :

واستقبل الامام قطعات ذلك الجيش فخطب فيهم خطابا بليغا أوضح لهم فيه انه لم يأتهم محاربا ، وانما قدمت عليه رسلهم وكتبهم تحثه بالقدوم إليهم ، فاستجاب لهم ، وقد قال بعد حمد اللّه والثناء عليه :

«أيها الناس انها معذرة الى اللّه عز وجل وإليكم انى لم آتكم حتى أتتني كتبكم ، وقدمت بها علي رسلكم ان اقدم علينا فانه ليس لنا امام ، ولعل اللّه أن يجمعنا بك على الهدى ، فان كنتم على ذلك فقد جئتكم ، فاعطوني ما اطمئن به من عهودكم ومواثيقكم ، وان كنتم لمقدمي كارهين انصرفت عنكم الى المكان الذي جئت منه إليكم».

واحجموا عن الجواب لأن اكثرهم كانوا ممن كاتبوه بالقدوم إليهم وبايعوه على يد سفيره مسلم بن عقيل وحضر وقت الصلاة فأمر الامام مؤذنه الحجاج بن مسروق ان يؤذن ويقيم لصلاة الظهر ، وبعد فراغه قال الامام للحر :

٧٥

ـ أتريد أن تصلي باصحابك؟

ـ بل نصلي بصلاتك

وأتموا بالامام في صلاة الظهر ، وبعد الفراغ منها انصرفوا إلى اخبيتهم ولما حضر وقت صلاة العصر جاء الحر مع قومه فاقتدوا بالامام في صلاة العصر

خطبة الامام :

وبعد ما فرغ الامام من صلاة العصر انبرى بعزم وثيق فخطب في ذلك الجيش خطابا رائعا ، فقال بعد حمد اللّه والثناء عليه :

«أيها الناس ، إنكم إن تتقوا اللّه ، وتعرفوا الحق لأهله يكن أرضى للّه ، ونحن اهل البيت اولى بولاية هذا الأمر من هؤلاء المدعين ما ليس لهم ، والسائرين فيكم بالجور والعدوان ، فان انتم كرهتمونا وجهلتم حقنا وكان رأيكم الآن على غير ما اتتني به كتبكم انصرفت عنكم».

ودعاهم بهذا الخطاب الى طاعة اللّه ، والتمسك بدعاة الحق وائمة الهدى من اهل البيت (ع) فهم اولى بهذا الأمر من بني أميّة الذين اشاعوا فيهم الجور والظلم ، وعرض لهم انه ينصرف عنهم اذا تبدل رأيهم ، ونقضوا بيعتهم وانبرى إليه الحر وهو لا يعلم بشأن الكتاب ، فقد كان ـ فيما يبدو ـ في تلك الفترة بمعزل عن الحركات السياسية في الكوفة ، فقال له :

«ما هذه الكتاب التي تذكرها؟»

فأمر الامام عاقبة بن سمعان باحضارها ، فاخرج خرجين مملوءين صحفا نثرها بين يدي الحر ، فبهر الحر ، وتأملها وقال :

«لسنا من هؤلاء الذين كتبوا إليك»

٧٦

المشادة بين الحسين والحر :

ووقعت مشادة عنيفة بين الامام والحر ، فقد قال الحر للامام :

قد أمرت أن لا افارقك اذا لقيتك حتى اقدمك الكوفة على ابن زياد.

ولذعت الامام هذه الكلمات القاسية فثار في وجه الحر وصاح به :

«الموت ادنى إليك من ذلك»

لقد ترفع ابي الضيم من مبايعة يزيد ، فكيف يخضع لابن مرجانة الدعي ابن الدعي؟ وكيف ينقاد اسيرا إليه؟ فالموت ادنى للحر من الوصول الى هذه الغاية الرخيصة وامر الحسين اصحابه بالركوب ، فلما استووا على رواحلهم امرهم بالتوجه الى يثرب ، فحال بينهم وبين ذلك ، فاندفع الحسين فصاح به.

«ثكلتك امك ما تريد منا؟»

واطرق الحر برأسه الى الأرض ، وتأمل ثم رفع رأسه فخاطب الامام بأدب فقال له :

«أما واللّه لو غيرك من العرب يقولها لي : ما تركت ذكر أمه بالثكل كأنا من كان ، ولكني واللّه مالي الى ذكر أمك من سبيل إلا باحسن ما يقدر عليه ..»

وسكن غضب الامام فقال له :

ـ ما تريد منا؟

ـ أريد ان انطلق بك الى ابن زياد

ـ وثار الامام فصاح به :

ـ واللّه لا اتبعك

ـ اذن واللّه لا ادعك

٧٧

وكاد الوضع أن ينفجر باندلاع نار الحرب إلا ان الحر ثاب إلى الهدوء فقال للامام :

«اني لم أومر بقتالك ، وانما امرت أن لا افارقك حتى أقدمك الكوفة ، فاذا أبيت فخذ طريقا لا يدخلك الكوفة ولا يردك إلى المدينة ، حتى اكتب الى ابن زياد ، وتكتب أنت إلى يزيد أو الى ابن زياد فلعل اللّه أن يأتي بأمر يرزقني فيه العافية من أن ابتلي من امرك».

واتفاقا على هذا ، فتياسر الامام عن طريق العذيب والقادسية(1) واخذت قافلته تطوى البيداء ، وكان الحر يتابعه عن كثب ، ويراقبه كأشد ما تكون المراقبة.

قول شاذ :

من الأقوال الشاذة التي لا مدرك لها ما ذكره البستاني ، وهذا نصه :

«لما قرب الحسين من الكوفة لقيه الحر بن يزيد الرياحي ، ومعه الف فارس من أصحاب ابن زياد ، وقال له : أرسلني عبيد اللّه عينا عليك ، وقال لي ان ظفرت به لا تفارقه أو تجيء به ، وأنا كاره أن يبتلني اللّه بشيء من أمرك فخذ غير هذا الطريق ، واذهب الى حيث شئت ، وأنا أقول :

لابن زياد انك خالفتني في الطريق ، وانشدك اللّه في نفسك ، وفيمن معك ، فسلك الحسين (ع) طريقا غير الجادة ، ورجع قاصدا الى الحجاز ، وسار هو واصحابه ليلتهم ، فلما أصبحوا لقوا الحر ، فقال له الحسين : ما جاء بك؟ قال : سعي بي الى ابن زياد أني اطلقتك ، بعد

__________________

(1) تأريخ ابن الأثير 3 / 280

٧٨

ما ظفرت بك ، فكتب إلي أن ادركك ، ولا افارقك حتى تأتي مع الجيوش ..»(1) .

وهذا القول من الاساطير فان التقاء الامام بالحر لم يكن قريبا من الكوفة ، وإنما كان في أثناء الطريق على مرحلة قريبة من (شراف) ، ومضافا إلى ذلك فان الحر لم يعرض على الامام أن يسير حيثما شاء ، وانما صدرت إليه الأوامر المشددة من ابن زياد أن يلقي عليه القبض ، ويأتي به الى الكوفة حسبما ذكرناه ، وهو مما اجمع عليه المؤرخون وأرباب المقاتل.

خطأ ابن عنبة :

من الأخطاء الفاحشة ما ذكره النسابة ابن عنبة من ان الحر أراد ارغام الامام على الدخول الى الكوفة فامتنع ، وعدل نحو الشام قاصدا الى يزيد بن معاوية ، فلما صار الى كربلا منعوه عن المسير ، وارسلوا إليه ثلاثين الفا عليهم عمر بن سعد ، وارادوا دخوله إلى الكوفة والنزول على حكم عبيد اللّه بن زياد فامتنع عليهم ، واختار المضي نحو يزيد فمنعوه وناجزوه الحرب(2) ولم يذهب لهذا القول أحد من المؤرخين ، فقد اجمعوا على ان الامام بقي مصمما على رفض البيعة ليزيد ، ولو انه أراد ان يبايع ليزيد لما فتحوا معه باب الحرب ، وما شهروا في وجهه السيوف.

__________________

(1) دائرة المعارف للبستاني 7 / 48

(2) عمدة الطالب (ص 181)

٧٩

خطبة الامام :

ولما انتهى موكب الإمام الى «البيضة» القى (ع) خطابا على الحر واصحابه ، وقد أدلى بدوافعه في الثورة على يزيد ، ودعا القوم إلى نصرته وقد قال بعد حمد اللّه والثناء عليه :

«أيها الناس إن رسول اللّه (ص) قال : «من رأى سلطانا جائرا مستحلا لحرم اللّه ، ناكثا لعهد اللّه ، مخالفا لسنة رسول اللّه (ص) يعمل في عباد اللّه بالاثم والعدوان ، فلم يغير ما عليه بفعل ولا قول كان حقا على اللّه أن يدخله مدخله».

الا ان هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمن ، واظهروا الفساد وعطلوا الحدود ، واستأثروا بالفىء ، واحلوا حرام اللّه ، وحرموا حلاله ، وأنا احق ممن غيّر ، وقد اتتني كتبكم ، وقدمت علي رسلكم ببيعتكم انكم لا تسلموني ، ولا تخذلوني ، فان اقمتم على بيعتكم تصيبوا رشدكم وانا الحسين بن علي وابن فاطمة بنت رسول اللّه (ص) نفسي مع انفسكم واهلي مع اهليكم ، ولكم في اسوة ، وان لم تفعلوا ، ونقضتم عهدكم ، وخلعتم بيعتي ، فلعمري ما هي لكم بنكر ، لقد فعلتموها بأبي واخي وابن عمي مسلم ، فالمغرور من اغتر بكم فحظكم اخطأتم ، ونصيبكم ضيعتم ومن نكث فانما ينكث على نفسه ، وسيغني اللّه عنكم والسلام»

وحفل هذا الخطاب المشرق بكثير من النقاط المهمة ، وهي :

اولا ـ انه انما اعلن الثورة على حكومة يزيد استجابة للواجب الديني الذي كان يقضي عليه ، فان الاسلام لا يقر السلطان الجائر ، ويلزم بمناهضته ، ومن لم يستجب للجهاد يكون مشاركا لما يقترفه من الجور والظلم.

٨٠