حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام الجزء ١

حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام0%

حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام مؤلف:
الناشر: دار البلاغة
تصنيف: الإمام الحسن عليه السلام
الصفحات: 530

حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام

مؤلف: باقر شريف القرشي
الناشر: دار البلاغة
تصنيف:

الصفحات: 530
المشاهدات: 199660
تحميل: 6679


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 530 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 199660 / تحميل: 6679
الحجم الحجم الحجم
حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام

حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام الجزء 1

مؤلف:
الناشر: دار البلاغة
العربية

القى المغيرة خاتمه في القبر ، وقال لأمير المؤمنين7 خاتمي ، فقال7 لولده الحسن : أدخل فناوله خاتمه ، ففعل7 ذلك ، وكان مقصد المغيرة من ذلك أن يدخل القبر الشريف بعد ما خرج منه أمير المؤمنين ليفتخر على الصحابة بأنه آخر الناس عهدا برسول الله فالتفت أمير المؤمنين الى مقصده ، فامر الحسن بدخول القبر ، فكان آخر الناس عهدا برسول الله6 (1)

وقام الامام أمير المؤمنين فوارى الجسد العظيم في مقره الأخير ووقف على القبر يرويه بماء عينيه ، وارسل كلمات تنم عن لواعج حزنه وثكله قائلا :

« ان الصبر لجميل الا عنك ، وان الجزع لقبيح الا عليك ، وان المصاب بك لجليل ، وانه قبلك وبعدك لجلل »(2)

واذاب الهول العظيم ، والمصاب المؤلم قلب الامام الحسن (ع) وهو في سنه المبكر فذبلت منه نضارة الصبا وروعته فقد رأى من يحدب عليه ويفيض عليه من رقيق حنانه يوارى في الثرى ، ورأى أبويه وقد اضناهما الذهول واحاط بهما الأسى على فقد الراحل العظيم فترك ذلك في نفسه شديد الألم ولاذع الحزن لقد مضى الرسول (ص) الى الرفيق الاعلى وكان عمر

__________________

ـ في اليوم الثاني عشر من ربيع الاول ( جاء في وفاء الوفاء 1 / 226 و227 وقيل في اليوم الثامن والعشرين من صفر ذكره الطبرسي في اعلام الورى ص 7 ، وقيل في اليوم الثاني من ربيع الاول ذكره ابن واضح فى تاريخه 2 / 93 وقيل غير ذلك.

(1) طبقات ابن سعد 2 / 77

(2) نهج البلاغة محمد عبده 3 / 224 ، والجلل الهين الحقير ، والمراد ان المصائب قبل مصيبة الرسول (ص) وبعدها هينة حقيرة.

١٢١

الحسن سبع سنين(1) وهو دور تنمو فيه مدارك الطفولة ، وتكون فيه فكرة الطفل كالعدسة اللاقطة تنقل الى دخائل النفس كثيرا من المشاهدات والصور وينطبع فيها جميع ما يمر عليها من حزن وسعادة ، كما انه قد تكون لبعض الاطفال النابهين اللياقة والاستعداد لأن يفهم الغاية من بعض الاعمال والمواقف ، وقد رافق الامام الحسن فى ذلك الدور الاحداث الخطيرة التي وقعت قبل وفاة جده الرسول6 من امتناع القوم من الالتحاق بسرية أسامة وعدم استجابتهم للنبي6 حينما امر باعطائه الدواة والكتف ليكتب لأمته كتابا يقيها من الفتن والضلال فعرف ـ من غير شك ـ الغاية من ذلك ، وعلم ما دبره القوم من المؤامرات ضد أبيه فترك ذلك في نفسه كامن الحزن والوجد وانبرى ينكر على القوم غصبهم لحق أبيه كما سنبينه في عهد الشيخين.

__________________

(1) كشف الغمة : ص 154.

١٢٢

فى عهد الشيخين

١٢٣
١٢٤

وحينما مضى النبيّ (ص) الى جنة المأوى ، وسمت روحه الى الرفيق الاعلى ، انثالت الفتن على المسلمين تترى كقطع الليل المظلم ، وعصفت بهم امواج عارمة من الانشقاق والاختلاف زعزعت كيانهم وصدعت شملهم ، ومزقت وحدتهم ، وقد بين تعالى ما يمنى به المسلمون بعد وفاة نبيه من الارتداد والاختلاف قال تعالى :( وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ ) (1)

فاي رزية اعظم من رزية الانقلاب؟ وأي كارثة اقسى من كارثة الارتداد بعد الايمان!! لقد ترك القوم جثمان نبيهم لم يواروه في مقره الأخير وتهالكوا على الامرة والسلطان ، وصمموا على صرف الخلافة الاسلامية عن أهل بيت النبوة وموضع الرسالة ومختلف الملائكة ومهبط الوحي والتنزيل ، وقد تحدث الامام أمير المؤمنين7 عن غب ما فعلوه وسوء ما ارتكبوه يقول7 :

« حتى اذا قبض رسوله رجع قوم على الاعقاب ، وغالتهم السبل واتكلوا على الولائج(2) ووصلوا غير الرحم ، وهجروا السبب الذي أمروا بمودته ، ونقلوا البناء عن رص أساسه(3) فبنوه في غير موضعه معادن كل خطيئة ، وأبواب كل ضارب في غمرة »(4)

لقد استأثروا بالامر ، ونقلوه عن اهله ومعدنه ، ووضعوه في غير محله ، وقد فاجئوا أهل البيت (ع) ـ والجرح لما يندمل والرسول لما يقبر

__________________

(1) سورة آل عمران : آية 144

(2) الولائج : جمع وليجة وهي بطانة الانسان وخاصته

(3) الرص : مصدر رصص الشى اى الصق بعضه ببعض ومنه قوله تعالى( كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ ) .

(4) نهج البلاغة محمد عبده 2 / 48

١٢٥

بصرف الامر عنهم والاعتداء عليهم ، وتركوهم يتجرعون الغصص ، ويتوسدون الارق وتساورهم الهموم ، فما اعظم رزيتهم؟! وما اشد محنتهم وبلاءهم!!

لقد تسرع القوم الى عقد البيعة ، وانتهزوا الفرصة في انشغال امير المؤمنين بتجهيز جثمان النبي6 فلم يمهلوه حتى يفرغ من مواراته6 لئلا يفوت الامر منهم ، وتضيع امانيهم وآمالهم فى الاستيلاء على زمام الحكم والسلطان وعلى أي حال فلا بدلنا من البحث عن فصول تلك المأساة الكبرى ـ بايجاز ـ فانها ترتبط ارتباطا وثيقا بحياة الامام الحسن7 ، فان صرف الامر عن أهل البيت: كانت له مضاعفاته السيئة ونتائجه الخطيرة ، واهمها طمع الطلقاء وابنائهم خصوم الاسلام واعداء الله في الخلافة الاسلامية ، ومناجزتهم لاهل بيت النبوة ومعدن الرحمة ، حتى اضطر سبط النبي6 الامام الحسن7 في دوره الى الصلح مع معاوية وتسليم الامر له ، والى القراء بيان ذلك.

السقيفة

وترك القوم النبي6 مسجى في فراش الموت ، لم يهتموا في شيء من أمره فقد سارع الانصار الى سقيفة بني ساعدة(1) وعقدوا لهم اجتماعا سريا أحاطوه بكثير من الكتمان والتحفظ ، واحضروا معهم شيخ الخزرج سعد بن عبادة(2)

__________________

(1) السقيفة : الصفة تشبه البهو ، كانت مجمعا للانصار ودارا لندوتهم

(2) سعد بن عبادة : سيد الخزرج ، وزعيم الانصار اعترف له قومه بالسيادة ، وقد اشتهر بالجود والسخاء هو وابوه وجده وابنه قيس ، ويقال لم ـ

١٢٦

فتداولوا في شئون الخلافة والسلطان ، وكان شيخ الخزرج قد ألم به المرض فخطب في القوم فلم يتمكن أن يسمع كلامه للناس وانما كان يقول ويبلغ مقالته بعض اقربائه ، وكان منطق خطابه ان الغنم بالغرم ، والانصار هم الذين غرموا في سلسلة الحروب وحركات الجهاد التي قام بها الرسول6 فهم احق بالأمر وأولى به من غيرهم وهذا هو نص خطابه :

يا معشر الانصار لكم سابقة في الدين وفضيلة فى الاسلام ليست لقبيلة من العرب ، ان محمدا6 لبث بضع عشر سنة في قومه يدعوهم الى عبادة الرحمن وخلع الأنداد والأوثان فما آمن به من قومه الا القليل ، وما كانوا يقدرون على أن يمنعوا رسول الله6 ولا أن يعزوا دينه ، ولا أن يدفعوا عن انفسهم ضيما عموا به حتى إذا أراد بكم الفضيلة ساق إليكم الكرامة ، وخصكم بالنعمة فرزقكم الله الايمان به وبرسوله والمنع له ولاصحابه والاعزاز له ولدينه والجهاد لاعدائه ، فكنتم اشد الناس على عدوه منكم ، وأثقله على عدوه من غيركم حتى استقامت العرب لامر الله طوعا وكرها ، واعطى البعيد المقادة صاغرا

__________________

ـ يكن فى الأوس والخزرج بيت واحد فيه اربعة اشخاص اسخياء متتالون الا بيت سعد ، وهو احد النقباء ، شهد مع رسول الله (ص) العقبة وبدرا ، وقد تخلف عن بيعة ابي بكر ، وخرج غاضبا من المدينة فتبعه خالد بن الوليد وصاحب له فكمنا له له ليلا فطعناه والقياه فى البئر ، واوهم خالد على بعض الحمقى ان الجن هي التي قتلته وانشدوا على لسانها بيتين من الشعر :

نحن قتلنا سيد الخزرج سعد بن عبادة

ورميناه بسهمين فلم نخطئ فؤاده

كانت وفاته بحوران من ارض الشام سنة خمس عشرة من الهجرة وقيل سنة اربع عشرة ترجم في كل من الاصابة ، والاستيعاب واسد الغابة وغيرها

١٢٧

داخرا ، حتى اثخن الله عز وجل لرسوله بكم الأرض ودانت بأسيافكم له العرب وتوفاه الله وهو عنكم راض وبكم قرير العين ، استبدوا بهذا الأمر دون سائر الناس فانه لكم دون الناس » فاجابه الأنصار بالرضا والطاعة قائلين « وفقت في الرأي وأصبت في القول ، ولن نعدوا ما رأيت نوليك هذا الامر فانك فينا مقنع ولصالح المؤمنين رضى ،(1)

لقد القى الانصار المقادة والسمع لسيد الخزرج ، واعربوا له عن رغبتهم الملحة في ترشيحه لمنصب الخلافة ، وهنا امور تدعو الى العجب وتبعث الى التساؤل في أمر الانصار وهي :

1 ـ إنهم حضنة الاسلام ، واعضاد الملة ، وحماة الدين فلما ذا أسرعوا في شأن الخلافة ، وتناسوا مبايعتهم لأمير المؤمنين في غدير خم ، وتنكروا لوصايا النبي6 في أهل بيته وعترته؟!!

2 ـ لما ذا هذا التستر في مكان منزو عن الانظار والابصار؟! ولما ذا هذا التكتم والحيطة في اخفاء الامر؟!!

3 ـ لما ذا لم يأخذوا رأي العترة الطاهرة في شأن البيعة واستبدوا بالأمر؟؟!!

واكبر الظن انهم وقفوا على المؤامرة الخطيرة التي دبرها كبار المهاجرين ضد أمير المؤمنين فخافوا أن يفوز المهاجرون بالخلافة ، ويحرموا منها لذا اسرعوا لانتهاز الفرصة وبادروا الى ترشيح سعد الى مركز الخلافة.

فذلكة عمر

ولم يكن أبو بكر في يثرب عند وفاة النبي (ص) وانما كان بالسنح(2)

__________________

(1) تأريخ الطبري 3 / 207

(2) السنح : محل يبعد عن المدينة بميل ، وقيل هو احد عواليها يبعد عنها باربعة اميال او ثلاثة.

١٢٨

فخاف عمر بن الخطاب أن يفوز احد بالخلافة قبل مجيء أبي بكر فصنع فذلكة دلت على سياسته النفسية وخبرته الفائقة باحوال المجتمع فقد اوقف حركة البيعة ، وشغل الناس حتى عن تفكيرهم فقد راح يهز بيده السيف ويهتف بصوت عال.

« إن رجالا من المنافقين يزعمون أن رسول الله6 قد مات. وإنه والله ما مات ولكنه ذهب الى ربه كما ذهب موسى بن عمران والله ليرجعن رسول الله فيقطعن أيدي رجال وأرجلهم ممن ارجفوا بموته »

وجعل لا يمر باحد يقول : مات رسول الله الا خبطه بسيفه ، وتهدده وتوعده(1) واستغرب المسلمون من هذه البادرة ، واستطابها السذج والبسطاء ، فقد جاءهم بالأمل اللذيذ والحلم الجميل فان النفوس تأبى أن تذعن بموت العظيم ، وتتمسك بحياته بالخيال والأوهام ، وقد ساق إليها عمر أطيب الاماني واروع الآمال ، اخبرها بحياة عزيزها ومنقذها ، وأملها باظهار دينه على الدين كله ، واضاف الى كلامه اعنف الارهاب والتهديد وعزاه إلى رسول الله6 بتقطيعه الايدي والارجل ممن ارجف بموته ، كما توعد هو بالقتل لمن فاه بموت النبيّ6 واستمر على هذا الحال يبرق ويرعد ، ويتهدد ويتوعد حتى وصل أبو بكر إلى يثرب فاحتف به عمر وانطلقا إلى بيت رسول الله6 فكشف أبو بكر الرداء عن وجه النبي (ص) وإذا بجثمانه الطاهر قد رحلت منه روحه الزكية ، فخرج وهو يفند مقالة عمر والتفت إلى الجماهير الحائرة التي اذهلها الخطب فقال لها :

« من كان يعبد محمدا فان محمدا قد مات ، ومن كان يعبد الله فان

__________________

(1) شرح ابن ابي الحديد.

١٢٩

الله حي لا يموت وتلا قوله تعالى :( وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ ) .

وتلقى الجمهور مقالة أبي بكر بالإذعان ، وراحوا يلهجون بالآية واسرع عمر الى تصديق مقالة أبي بكر ولم يبد اية معارضة له ، واحتف به ، وسار معه يشد عضده ، ويحمي جانبه.

ولا بد لنا من وقفة قصيرة امام هذه البادرة الغريبة فانها تدعو إلى التساؤل من عدة امور وهي :

1 ـ هل صحيح ان عمر قد خفي عليه موت الرسول6 ؟؟ والقرآن الكريم قد أعلن أن كل انسان لا بد أن يتجرع كأس الحمام قال تعالى :( كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ ) وقال تعالى في نبيه :( إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ) وقال تعالى :( أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ ) الآية ، بالاضافة الى أن الرسول6 قد نعى نفسه غير مرة الى المسلمين وأخبرهم بأنه يوشك أن يدعى فيجيب ، وكان عمر نفسه يقول لأسامة قبل وفاة النبي6 : مات رسول الله وأنت علي أمير.

2 ـ ما هو السر في تهديده وتوعيده لمن أرجف بموت رسول الله6 ؟ ولما ذا ينكل رسول الله المرجفين؟ فهل أن قولهم ارتداد عن الدين او خروج عن حظيرة الاسلام كي يستحقون تقطيع الأيدي والأرجل؟

ان من امعن النظر في هذه الحادثة يتضح له المقصود من فعل عمر وهو اشغال الناس عن مبايعة أي انسان قبل مجيء أبي بكر. إن عمر لم يكن من البلهاء والأغبياء كي يخفى عليه موت الرسول6 وان حماسه البالغ وقيامه بعمليات التهديد والتوعيد ، وسكون

١٣٠

ثورته حينما جاء أبو بكر كل ذلك يدل بوضوح لا خفاء فيه على أن هذه الحادثة جزء من المخطط المرسوم قبل وفاة النبي6 في صرف الخلافة عن أهل بيته واستئثارهم بها ، ويذهب المستشرق لامنس الى أنه كانت بين أبي بكر وعمر وأبي عبيدة مؤامرة في صرف الخلافة عن أهل البيت: قبل وفاة النبي6 يقول :

« إن الحزب القرشي الذي يرأسه أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بن الجراح لم يكن وضع حاضر ، ولا وليد مفاجأة أو ارتجال ، وانما كان وليد مؤامرات سرية مبرمة حيكت أصولها وربت أطرافها بكل احكام ، وإن ابطال هذه المؤامرة ، أبو بكر ، عمر بن الخطاب ، أبو عبيدة بن الجراح ، ومن اعضاء هذا الحزب عائشة وحفصة ،. »

وهو رأي وثيق للغاية فان الامعان في تتبع خطوات القوم ، والتدبر في افعالهم يقضي بقدم المؤامرة ، وانهم حاكوا اصولها منذ زمان بعيد ، فان تثاقلهم من الالتحاق بسرية اسامة ، ومراسلة بعض ازواج النبي6 لآبائهن في التريث عن المسير ، وترشيحهن لآبائهن لامامة الجماعة ، والرد على النبي6 فيما رامه من الكتابة وغير ذلك من القرائن والشواهد مما يدل بوضوح على قدم المؤامرة ، وانهم بنوها على خطط وثيقة مدروسة احيطت بالامعان والتدبر ، وليست وليدة الوقت الحاضر ، ولا وليدة المباغتة والمفاجأة.

مباغتة الانصار :

ولما عقد الانصار أمرهم على تولية سيد الخزرج سعد بن عبادة كان ابن عمه بشير بن سعد بن ثعلبة الخزرجي ، واسيد بن خضير زعيم الاوس ينافسانه في السيادة ، وحسداه على ترشيحه لهذا المنصب الرفيع ، فاضمرا

١٣١

له الحقد وأجمع رأيهما على صرف الأمر عنه وانضم إليهما عويم بن ساعدة الأوسي ، ومعن بن عدى حليف الانصار ، وكانا من حزب أبي بكر ومن اوليائه على عهد رسول الله6 بالاضافة الى ذلك انهما كانا يضمر ان الحقد والشحناء لسعد بن عبادة فانطلقا الى أبي بكر وعمر مسرعين فاخبرهما باجتماع الانصار في السقيفة وانهم قد اجمعوا على تولية سعد بن عبادة(1) فذهل أبو بكر وقام مسرعا ومعه عمر وتبعهما أبو عبيدة بن الجراح(2) وسالم مولى أبي حذيفة ولحقهم آخرون من حزبهم من المهاجرين ، فكبسوا الانصار في ندوتهم فغاض لون سعد واسقط ما في أيدي الانصار وساد عليهم الوجوم والذهول ، واراد عمر أن يتكلم فمال إليه أبو بكر فهمس في أذنه قائلا :

« رويدك يا عمر حتى اتكلم »

وافتتح أبو بكر الحديث فقال :

« نحن المهاجرون أول الناس اسلاما ، وأكرمهم احسابا ، وأوسطهم دارا ، وأحسنهم وجوها ، وأمسهم برسول الله6 رحما وانتم اخواننا في الاسلام ، وشركاؤنا في الدين نصرتم وواسيتم فجزاكم الله خيرا. فنحن الأمراء وانتم الوزراء ، لا تدين العرب إلا لهذا الحي من قريش ، فلا تنفسوا على إخوانكم المهاجرين ما فضلهم الله به ، فقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين ـ يعني عمر بن الخطاب وأبا عبيدة بن الجراح »(3)

ان أوثق الأدلة التي أقامها أبو بكر على احقية المهاجرين بالخلافة

__________________

(1) العقد الفريد 3 / 62

(2) تأريخ الطبرى 3 / 208

(3) العقد الفريد 3 / 62

١٣٢

والإمرة هي ما يلي :

1 ـ إنهم أول الناس اسلاما

2 ـ إنهم أمس الناس رحما برسول الله6

ولم يفصح في استدلاله عن أول من آمن بالله ، واستجاب لدعوة نبيه ، ووقف إلى جانبه يصد عنه الاعتداء ، ويحميه من جبابرة قريش وهو الامام أمير المؤمنين7 ابن عم النبي6 وزوج ابنته ، وأبو سبطيه ، وباب مدينة علمه ، فقد تناساه أبو بكر ورشح أبا عبيدة ، وابن الخطاب لمنصب الخلافة ، وهل كانت له ولاية على المسلمين حتى يرضى لهم ويختار من يتولى قيادتهم ويدير شئونهم وقد علق الامام أمير المؤمنين على احتجاجه بقوله : « احتجوا بالشجرة واضاعوا الثمرة » وما ابلغ هذا القول!! وما أروع هذا الاحتجاج!! فقد تمسك المهاجرون بقربهم للنبي6 واستدلوا به على احقيتهم بالأمر ، وتغافلوا عن عترته وذريته ووديعته وعدلاء كتاب الله ، وقد خاطب أمير المؤمنين أبا بكر بذلك ، واستدل عليه بعين ما استدل به أبو بكر على الانصار فقال له :

فان كنت بالقربى حججت خصيمهم

فغيرك اولى بالنبي وأقرب

وإن كنت بالشورى ملكت أمورهم

فكيف بهذا والمشيرون غيب

وخاطب7 القوم مرة أخرى فقال لهم : « والله ، إني لأخوه ـ اى أخ الرسول6 ـ ووليه وابن عمه ووارث علمه ، فمن احق به منى »(1) لقد عدل القوم عن أبي الحسين وتناسوا فضائله ومآثره ووصايا النبي6 فيه طمعا في الخلافة وتهالكا على الامارة.

__________________

(1) خصائص النسائي : ص 18 ، مستدرك الحاكم 3 / 126

١٣٣

بيعة ابي بكر :

ولما انهى أبو بكر خطابه السالف الذي رشح فيه عمر وأبا عبيدة لمنصب الخلافة اسرع إليه عمر فقال له : « يكون هذا وأنت حى؟! ما كان أحد ليؤخرك عن مقامك الذي أقامك فيه رسول الله (ص) »

ولا نعلم متى أقامه الرسول6 في مقامه الذي هو فيه ، وقد أخرجه6 من يثرب مع بقية اصحابه جنودا مسلحين وولى عليهم أسامة بن زيد وهو شاب حدث السن ، بمثل هذا اللف والدوران تمت البيعة لأبي بكر ، وقد تسابق إلى بيعته عمر وبشير ، وتبارى إلى البيعة جميع اعضاء حزبهم فبايعه اسيد بن حضير ، وعويم بن ساعدة ، ومعن بن عدى ، وأبو عبيدة بن الجراح وسالم مولى أبي حذيفة وخالد بن الوليد ، واشتد هؤلاء على حمل الناس على البيعة ، وكان اشدهم حماسا عمر فقد لعبت درته شوطا في الميدان وارغم الممتنعين على البيعة وقابلهم بالقسوة والعنف ، وقد سمع الانصار يقولون في سعد :

« قتلتم سعدا »

فاندفع يقول :

« اقتلوه ، قتله الله فانه صاحب فتنة »(1)

ولما تمت البيعة لابي بكر بهذه الصورة التي يحف بها الارهاب والتهديد اقبل به حزبه يزفونه الى مسجد رسول الله6 زفاف العروس(2) والنبي6 ملقى على فراش الموت ، قد

__________________

(1) العقد الفريد 3 / 62

(2) شرح النهج لابن ابي الحديد 2 / 8

١٣٤

انشغل أمير المؤمنين7 بتجهيزه ، فلما أخبر تمثل بقول القائل :

واصبح أقوام يقولون ما اشتهوا

ويطغون لما غال زيدا غوائل(1)

لقد بويع أبو بكر بمثل هذه العجالة والمباغتة ، وكان عمر يرى عدم مشروعية هذه البيعة ووجه إليها لاذع النقد فقال فيها كلمته المشهورة :

« إن بيعة أبي بكر كانت فلتة ، وقى الله المسلمين شرها ، فمن دعاكم الى مثلها فاقتلوه. »(2)

وحفلت هذه الكلمة باقسى الوان النقد والتشهير واحتوت على ما يلي :

1 ـ إن عمر وصم البيعة ( بالفلتة ) وسواء أكان معناها الشر والخطيئة والزلة ، أو المباغتة والمفاجأة فانها اعظم ما تكون في ميدان القدح والذم.

2 ـ إنه دعا الله أن ينقذ المسلمين من شرها ويقيهم من مضعفاتها السيئة.

3 ـ انه حكم بقتل من دعا لمثل هذه البيعة

وانما طعن عمر في انتخاب أبي بكر وقدح في بيعته لانها لم تعتمد على اسس سليمة ، ولم تبتن على منطق رصين وحفلت بما يلي من المؤاخذات :

1 ـ إن القوم لم يأخذوا رأي العترة الطاهرة فيها واستبدوا بالأمر وقد تناسوا وصايا النبي6 فيها ، واهملوا ما أمرهم الرسول6 من الاقتداء والتمسك بذريته يقول الامام شرف الدين طيب الله مثواه :

__________________

(1) شرح النهج 2 / 5

(2) صحيح البخاري 10 / 44 ومسند احمد 1 / 55 وتمام المتون ص 137

١٣٥

« فلو فرض أن لا نص بالخلافة على أحد من آل محمد6 وفرض كونهم مع هذا غير مبرزين في حسب أو نسب او اخلاق أو جهاد ، أو علم ، أو عمل ، او ايمان ، أو اخلاص ، ولم يكن لهم السبق في مضامير كل فضل ، بل كانوا كسائر الصحابة ، فهل كان مانع شرعي ، أو عقلي ، أو عرفي يمنع من تأجيل عقد البيعة الى فراغهم من تجهيز رسول الله6 ؟ ولو بأن يوكل حفظ الامن الى القيادة العسكرية موقتا حتى يستتب أمر الخلافة؟

أليس هذا المقدار من التريث كان أرفق باولئك المفجوعين؟ وهم وديعة النبي لديهم ، وبقيته فيهم. وقد قال الله تعالى :( لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ ) أليس من حق هذا الرسول ـ الذي يعز عليه عنت الامة ويحرص على سعادتها ، وهو الرءوف بها الرحيم لها ـ أن لا تعنت عترته فلا تفاجأ بمثل ما فوجئت به ـ والجرح لما يندمل والرسول لما يقبر »(1)

النبيّ6 مسجى على فراش الموت لم يغيبه عن عيون القوم مثواه ، وراحوا بهلع وجشع يتسابقون الى الحكم والسلطان ، واهملوا عترته ، واجمعوا على مجافاتهم ، وهضم حقوقهم ، وسلب تراثهم ، ومنذ ذلك اليوم واجهت العترة الوانا قاسية من النكبات والخطوب فاريقت دماؤها ، وسبيت نساؤها ، ولم ترع فيها قرابة النبي6 التي هي اولى بالرعاية والعطف من كل شيء.

2 ـ ومما يؤخذ على هذه البيعة انها لم تكن جامعة لاهل الحل والعقد الذي يعتبرونه هم شرطا اساسيا فى حصول الاجماع وفي مشروعية الانتخاب ، فقد الغى القوم استشارة الطبقة الرفيعة في الاسلام فلم يعتنوا

__________________

(1) النص والاجتهاد ص 7

١٣٦

بآرائها ولم يأخذوا موافقتها في الخليفة الجديد ، كما ان المكان الذي اجرى فيه الانتخاب كان مخفيا الى ابعد الحدود يقول عبد الوهاب النجار

« يرى المطلع على الشكل الذي حصلت به بيعة أبي بكر ان الاستشارة فى أمرها كانت ناقصة نقصا ظاهرا لان المعقول في مثل هذه الحال أن يتخذ المسلمون مكانا يجتمعون فيه وان يؤذن الناس به من قبل »(1)

إن انتخاب أبي بكر كان مشوها الى أبعد الحدود ، فقد انسحبت عن اختياره وانتخابه الشخصيات الفذة التي ساهمت في بناء كيان الاسلام وفي طليعتها الامام أمير المؤمنين7 ومن يمت إليه من الهاشميين ووجوه الصحابة كسلمان الفارسي ، وأبي ذر وعمار بن ياسر ، وأبي بن كعب ، ومن الهاشميين الزبير وعتبة بن أبي لهب والعباس وغيرهم كما امتنع جميع الانصار أو بعضهم عن البيعة ، وقالوا » لا نبايع الا عليا »(2) ومع انسحاب هذا العدد الضخم من الانتخاب ، وفيهم الضروس ، والرءوس ، والاعلام من المهاجرين والانصار كيف تكون البيعة مشروعة ، والانتخاب صحيحا؟!!

3 ـ ان المسلمين قد أرغموا على بيعة أبي بكر ، وأكرهوا عليها ولم تكن ناشئة عن اختيارهم وارادتهم فقد لعبت درة عمر في تحقيقها وايجادها حتى ذهل المسلمون ، ولم يشترطوا فى ضمن العقد أن يسير الخليفة على كتاب الله وسنة نبيه كما اشترطوا ذلك على الخلفاء من بعده ولعل لهذه الاسباب حكم عمر بعدم مشروعيتها ، وعدم مشروعية أساليبها ، كما حكم بالقتل لمن يعود لمثلها.

__________________

(1) الخلفاء الراشدون : ص 16

(2) تأريخ ابن الاثير

١٣٧

امتناع امير المؤمنين عن البيعة :

وامتنع أمير المؤمنين7 عن البيعة ، واعلن سخطه البالغ على أبي بكر لأنه نهب تراثه ، وسلب حقه ، وهو يعلم أن محله من الخلافة محل القطب من الرحى ينحدر عنه السيل ولا يرقى إليه الطير ـ على حد تعبيره ـ لذلك كان7 لا يظن ان احدا يرقى منبر الخلافة غيره وقد اعلن ذلك بوضوح لما جاء إليه عمه العباس وطلب منه أن يبايعه فقال له :

يا بن أخي امدد يدك أبايعك ، فيقول الناس : عم رسول الله6 بايع ابن عم رسول الله فلا يختلف عليك اثنان. »

فاجابه الامام :

« ومن يطلب هذا الأمر غيرنا »(1)

لقد قلده النبي6 بهذا المنصب الرفيع يوم غدير خم ، واعلن له الولاية على ملأ من الناس ، بالاضافة الى وصاياه المتظافرة التي حث فيها أمته على متابعته ، وتسليم قيادتها بيده ، يقول الدكتور طه حسين فى هذا الموضوع ما نصه :

« نظر العباس في الأمر فرأى ابن أخيه أحق منه بوراثة هذا السلطان لأنه ربيب النبي ، وصاحب السابقة فى الاسلام ، وصاحب البلاء الحسن الممتاز في المشاهد كلها ، ولأن النبيّ كان يدعوه أخاه حتى قالت له أم أيمن : ذات يوم مداعبة تدعوه أخاك وتزوجه ابنتك! ولأن النبي قال له : أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا انه لا نبي بعدى. وقال للمسلمين يوما آخر : من كنت مولاه فعلى مولاه. من أجل ذلك اقبل العباس

__________________

(1) الامامة والسياسة 1 / 4

١٣٨

بعد وفاة النبي على ابن اخيه فقال له : ابسط يدك ابايعك »(1)

لقد تخلف امير المؤمنين عن البيعة فلم يسالم القوم ، ولم يمنحهم الرضا واعلن سخطه عليهم ، وحاججهم وناظرهم ، وقد حفل نهجه بتذمره البالغ وسخطه الشديد على القوم لأنهم سلبوا تراثه ، وجحدوا ولايته وحقه.

احتجاج ومناظرات :

واحتج الامام أمير المؤمنين7 على القوم بأنه أولى بالامر واحق به منهم ، وكذلك احتج عليهم من يمت إليه من الهاشميين ، وذوي السابقة في الاسلام من اعلام المهاجرين والانصار ، والى القراء بعض تلك الاحتجاجات :

1 ـ الامام امير المؤمنين

ولما اخذ أمير المؤمنين7 قسرا ليبايع أبا بكر قال له القوم بعنف :

« بايع أبا بكر »

فاجابهم وهو رابط الجأش ثابت الجنان

« أنا احق بالأمر منكم ، لا أبايعكم وانتم اولى بالبيعة لي ، أخذتم هذا الامر من الانصار واحتججتم عليهم بالقرابة من النبي6 وتأخذونه منا أهل البيت غصبا ، ألستم زعمتم للانصار أنكم اولى بهذا الامر منهم لما كان محمد منكم فأعطوكم المقادة ، وسلموا إليكم الامارة ، وأنا احتج عليكم بمثل ما احتججتم به على الانصار نحن اولى برسول الله حيا وميتا ، فانصفونا ان كنتم تؤمنون وإلا فبوءوا بالظلم وانتم تعلمون »

__________________

(1) على وبنوه ص 19

١٣٩

وسلك7 بهذا الاحتجاج الصارم الطريقة التي سلكها المهاجرون أمام الانصار من انهم امس الناس رحما برسول الله ، وهذا الملاك الذي هتف به المهاجرون واتخذوه وسيلة لتحطيم آمال خصومهم موجود فى الامام7 على النحو الاكمل فهو ابن عم النبي6 وختنه على ابنته ، ومما وسع ابن الخطاب أمام هذا المنطق الا أن يسلك طريق العنف ، وهو طريق من يعوزه الدليل والبرهان فقال له :

« إنك لست متروكا حتى تبايع »

فصاح به أمير المؤمنين

« احلب حلبا لك شطره ، واشدد له اليوم أمره يردده عليك غدا »

وثار الامام وهتف يزأر

« والله ، يا عمر لا اقبل قولك ، ولا ابايعه »

وخاف ابو بكر ان يصل الأمر الى ما لا تحمد عقباه فاقبل على الامام يتلطف به ويقول له بناعم القول.

« إن لم تبايع فلا أكره »

وحاول أبو عبيدة ارضاء الامام فقال له :

« يا بن عم إنك حدث السن ، وهؤلاء مشيخة قومك ليس لك مثل تجربتهم ومعرفتهم بالامور ولا ارى أبا بكر إلا أقوى على هذا الامر منك وأشد احتمالا واضطلاعا به ، فسلم لأبي بكر هذا الأمر ، فانك إن تعش ويطل بك بقاء ، فانت لهذا الامر خليق وبه حقيق في فضلك ودينك وعلمك ، وفهمك وسابقتك ، ونسبك وصهرك »

وأثارت هذه المخادعة كوامن الالم والاستياء في نفس الامام فاندفع يخاطب المهاجرين ويذكر لهم مآثر اهل البيت: قائلا :

١٤٠