حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام الجزء ٢

حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام0%

حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام مؤلف:
الناشر: دار البلاغة
تصنيف: الإمام الحسن عليه السلام
الصفحات: 529

حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام

مؤلف: باقر شريف القرشي
الناشر: دار البلاغة
تصنيف:

الصفحات: 529
المشاهدات: 207676
تحميل: 5627


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 529 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 207676 / تحميل: 5627
الحجم الحجم الحجم
حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام

حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام الجزء 2

مؤلف:
الناشر: دار البلاغة
العربية

كان موقف سيد الشهداء الامام الحسين (ع) من قضية الصلح كموقف أخيه الحسن (ع) ، فكان يرى ضرورة المهادنة ، ولزوم المسالمة ، وانه ليس من الحكمة ، ولا من الصالح فتح باب الحرب مع معاوية ، فانه يعود بالمضاعفات السيئة على الإسلام ، ويجر الويلات والخطوب للمسلمين وذلك لتفلل الجيش الذي نزح معهم ، فقد ذكرنا فى البحوث السابقة الخيانات المفضوحة التي ظهرت من أغلب الأمراء والوجوه ، والتحاقهم بمعسكر معاوية ، وضمانهم له الفتك بالامام الحسن ، أو تسليمه أسيرا له ، فكيف يحاربه بهذه القوى الغادرة التي تبغي له الغوائل ، وتتربص به الفرص للفتك به؟

إن الإمام الحسين (ع) كان من رأيه أن يستجيب أخوه للصلح ، ولا يناجز معاوية نظرا للعوامل المريرة التي أحاطت به حتى جعلت من المستحيل التغلب على معاوية ، والانتصار عليه ، فما عمله الامام الحسن من الصلح كان أمرا متعينا ، ولا سبيل لغيره ـ كما أوضحنا ذلك في أسباب الصلح ـ ، فكيف يخالف الإمام الحسين أخاه في ذلك ، ولا يقره عليه.

وزعم بعض المؤرخين ان الإمام الحسين (ع) كان كارها لما فعله أخوه ، وانه قال له :

« أنشدك الله أن تصدق احدوثة معاوية ، وتكذب احدوثة أبيك!! » فأجابه الحسن :

« أنا أعلم بهذا الأمر منك »(1) .

ورووا أيضا : « ان الحسن (ع) قال لابن عمه عبد الله بن جعفر :

« إني رأيت رأيا أحب أن تتابعني عليه » فانبرى إليه ابن جعفر قائلا :

__________________

(1) أسد الغابة وغيره.

٢٤١

« ما هو »؟

« رأيت أن أعمد الى المدينة فأنزلها ، وأخلي بين معاوية ، وبين هذا الحديث ، فقد طالت الفتنة ، وسفكت فيها الدماء ، وقطعت الأرحام ، وعطلت الفروج »(1) .

فأيد ابن جعفر رأيه قائلا :

« جزاك الله عن أمّة محمد خيرا ، وأنا معك ».

ثم بعث نحو الحسين ، فلما مثل بين يديه قال له :

« إني رأيت رأيا ، وأحب أن تتابعني عليه ».

« ما هو؟ »

فذكر له رأيه في ذلك.

فانبرى الحسين وهو غضبان قائلا :

« أعيذك بالله أن تكذب عليا في قبره ، وتصدق معاوية ».

فتأثر الحسن من كلامه ، وقال له :

« والله ما أردت أمرا إلا خالفتني عليه الى غيره ، والله لقد هممت أن أقذفك فى بيت فأطينه عليك ، حتى أقضى أمري ».

فلما رأى الحسين غضب أخيه وجدّه في الأمر انسحب عن فكرته وتنازل عن رأيه وقال له بصوت خافت : « أنت أكبر ولد عليّ ، وأنت خليفتي ، وأمرنا لأمرك متبع ، فافعل ما بدا لك »(2) .

لا شك في افتعال ذلك كله وانه من الموضوعات لأن الامام الحسينعليه‌السلام كان عالما بالعلل والأسباب التي الجأت أخاه الى الصلح والزمته

__________________

(1) الفروج : الثغور.

(2) تأريخ ابن عساكر الكبير 4 / 21.

٢٤٢

بالمسالمة ، فان رأيه في الصلح كان موافقا لرأي أخيه لا يخالفه ولا يختلف عنه ، ويدل على ذلك ان الإمام الحسن لما أبرم الصلح أقبلت الى الامام الحسين طائفة من الزعماء والوجوه يطلبون منه أن ينقض ما أبرمه أخوه ويناجز معاوية فأبى (ع) وامتنع ، ولو كان رأيه مخالفا لرأي أخيه لأجابهم الى ذلك ، ولما انتقل الإمام الحسن (ع) الى حظيرة القدس رفعت إليه طوائف من زعماء العراق عدة رسائل يطلبون منه اعلان الثورة على معاوية فامتنع من اجابتهم وقال لهم :

« ما دام معاوية في قيد الحياة فلا اتحرك بكل شيء ، وإذا مات نظرت في الأمر »(1) .

إن امتناعه من القيام بالأمر ما دام معاوية حيا يدل بصراحة أنه كان يرى ضرورة المهادنة والمسالمة المؤقتة ، فان الثورة لا تنتج ولا التضحية تجدي شيئا مع وجود معاوية لأنه يلبسها ثوبا يخرجها عن اطار الإصلاح كما أوضحنا ذلك فيما تقدم ، نعم لا شك ان الصلح قد ترك في نفس الحسين أسى مريرا وحزنا مرهقا كما ترك في نفس الحسن أيضا لوعة وحزنا ، ولكنهما سلام الله عليهما ما ذا يصنعان والظروف لم تكن مواتية لهما حتى يقوما بمناجزة معاوية.

ومما يدل على وضع ذلك وعدم صحته انه جاء في الرواية الثانية ان الإمام قال لأخيه الحسين.

« ما أردت أمرا إلا خالفتني عليه ».

ان هذا الكلام شاهد على الافتعال والوضع لأن الإمام الحسينعليه‌السلام تصده مثله العليا عن مخالفة أخيه وعدم طاعته له فقد تربيا معا

__________________

(1) الارشاد ص 206 وغيره.

٢٤٣

في حجر المشرع الأعظم ، وأفاض عليهما مثله وتهذيبه وهديه حتى صارا صورة صادقة عنه ، فكيف يخالف أوامر أخيه ولا يطيعه فى أمر يعود بالصالح العام لجميع المسلمين ، إن الامام الحسين كان يكبر أخاه ويجله ولا يخالف له أمرا. فقد روى حفيده الإمام الباقر (ع) عن مدى اجلاله وتعظيمه له قال :

« ما تكلم الحسين بين يدي الحسن اعظاما له »(1) .

وبعد هذا التقدير والإكبار هل يصح أن يقول الحسن لأخيه ما أردت أمرا إلا خالفتني عليه.

وانجرف الدكتور طه حسين بهذه الرواية المفتعلة فقال :

« كره صلح أخيه وهمّ أن يعارض ، فأنذره أخوه بأن يشدّه في الحديد حتى يتم الصلح ».

وقال : « وكان الحسين يعيب الصلح لأنه إنكار لسيرة أبيه ».

وقال أيضا : « رأى الوفاء لأخيه حقا فوفى له ، وأطاعه كما أطاع أباه من قبله. وما أشك في أنه أثناء هذه السنين التي قضاها فى المدينة بعد صلح أخيه كان يتحرق تشوقا الى الفرصة التي تتيح له استئناف الجهاد حيث تركه أبوه »(2) .

أما قوله : « كره صلح أخيه وهمّ بالمعارضة ، فأنذره أخوه بأن يوثقه في الحديد ، وانه كان يعيب عليه لأنه إنكار لسيرة أبيه » ، فيرده انه لو كان كارها لذلك لأجاب الكوفيين الى مناجزة معاوية بعد ما جرى

__________________

(1) مناقب ابن شهر اشوب 2 / 143.

(2) الفتنة الكبرى 2 / 213 وعول على الروايات المصطنعة الاستاذ محمود العقاد في أبي الشهداء.

٢٤٤

الصلح ، ولأعلن الثورة عليه بعد موت أخيه ، مضافا الى انه لو كان الصلح مخالفا لسيرة أمير المؤمنين (ع) لما سكت الحسين لحظة واحدة لأن السكوت عن الحق جبن ومعصية ، ولو كان مخالفا لسيرة أمير المؤمنين التي هي سيرة رسول الله (ص) لما أبرم الحسن (ع) الصلح ونفذه ، نعم كان الحسين يتحرق شوقا الى الجهاد تحرق الظمان الى الماء ، قد انطوى قلبه على شجى مكتوم وحزن مرهق ولكنه لم ينفرد بذلك ، فقد شاركه أخوه في جميع محنه وأشجانه ، وكانا معا يترقبان بفارغ الصبر الفرصة السانحة للثورة على حكومة أميّة ، ولكن الفرصة التي يؤمل بها النصر والفتح كانت معدومة ما دام معاوية حيا ، فان فتح باب الحرب معه يعود بالضرر البالغ على الإسلام والمسلمين.

بقي هنا شيء لم نذكره في أسباب الصلح ، وهو انه لما ذا لم يفتح الإمام الحسن باب الحرب مع معاوية ، وإن عدم الناصر والمعين فيستشهد كما استشهد أخوه سيد الشهداء الإمام الحسينعليه‌السلام ، وهذه الشبهة قد ذهب إليها بعض الناقدين للصلح ، ولندع الجواب الى إمام من أئمة المسلمين وهو آية الله المغفور له السيد عبد الحسين شرف الدين فقد كشف الغطاء عنها في مقال عنوانه ( ثورة الحسين صدى لصلح الحسن ) وقد نشر في أغلب الصحف المحلية ، نذكره بأسره لما فيه من مزيد الفائدة قالرحمه‌الله :

« كان بنفسي من قديم أن أعني ببحث هذه المسألة بحثا يدفع هذه الشبهة عن أبي محمد ، فى نفوس غير المتمكنين فى فهم التأريخ فهما صحيحا وكثير من هؤلاء لا يرجعون الى مصدر علمي في وزن هؤلاء النفر من أهل البيت ، واخضاع حركاتهم في حالتي مدها وجزرها للمبدإ الأسمى ،

٢٤٥

الذي طوعهم لخدمته ، وأفنى ذواتهم في ذاته ، فكانوا ينقبضون حين يشاء لهم الانقباض ، وينبسطون حين يشاء لهم الانبساط كذلك ...

كان بنفسي أن أرد هذه الشبهة عن أبي محمد السبط باقامة هذا الميزان العلمي الذي يجلو هذه الحقيقة ، ويكشف خدرها ، غير أن واردا ثقيلا من المشاغل التي تنتهي كان يصرفني عما بنفسي من ذلك ، فها أنا الآن أوجز الإشارة الى هذه الشبهة ودفعها ، وعسى أن تعود هذه النواة غرسا أتعهده أنا بما ينميه إن سنحت الفرصة أولا فينميه قلم من هذه الأقلام الصقيلة ، المغموسة بقلوب الأحرار ، وعقول العلماء من خدام الحقائق.

أما الشبهة فقديمة كقدم النظر القاصر فيمن يأخذون من الأشياء بالظاهر والملمون بتأريخ الحسن (ع) يعرفون أن قوما من صحابته أخذوا عليه قعوده عن حرب معاوية ، ومناجزته إياه القتال ، حتى لأوشك أن يذهب يومئذ ضحية هذه الفتنة ، وحتى دخل عليه خاصته بسلام غليظ يقولون فيه : « السلام عليك يا مذل المؤمنين » ..!

وقد يكون لهؤلاء عذر بحماستهم التي نعرفها لذوي النجدة من فتيان الايمان الذين تغلب فيهم عاطفة الحماسة ، واستقرار الروية وبعد النظر.

وقد يكون ذلك ولكنا لا نقصد الآن الى الاعتذار لهم بل نريد أن نثبت طرف هذه الشبهة عن الأول لنراها تتسلسل منه فتظهر بين حين وآخر طورا على لسان أوليائه ، وتارة على لسان أعدائه ، وهي هنا وهناك لا تظهر إلا لتدل على جهل هؤلاء وأولئك.

فنحن حين نزن صلحهعليه‌السلام وحربه ترجح كفة الصلح من حيث اعتبرت المعايير المرعية ، وكن إن شئت ( ماديا ) ، أو كن ( روحيا )

٢٤٦

تتجاوز بايمانك وفهمك مدى المحسوسات المرئية.

كن أول الأمر ماديا وناقش حرب الحسن في جيش حكم على نفسه بالهزيمة ، قبل أن يخوض المعركة ، وغزاه معاوية الذي ثبت لعلي من قبل ولعلي معنوية عسكرية ترجف الأرض من خيفتها ، مضافا الى معنوياته الأخرى التي لم يكن الحس يتمتع بمثلها فى نفوس معاصريه ، بحكم انضوائه الى لواء أبيه.

نعم لك أن تقول كان على الحسن أن يستشهد فيموت عزيزا ، ولكن أعد النظر في تاريخ هذه الفترة لترى أن الاستشهاد فيها ينمسخ الى معنى من معاني ( الخروج ) فلم تكن يومئذ حقيقة وطنية ثابتة ، ولا روح مبدئية مستقرة لتكون التضحية تضحية مقررة القواعد وليس أتفه ـ فى هذه الحال ـ من الموت يعين على صاحبه ويميته مرة أخرى فى معناه.

كانت الحياة الإسلامية تنتكس حقا ، وتتحول الى ملك عضوض وكانت المطامع تتجند في ركاب الملك هاربة من حواشي الخلافة ولكنها كانت ما تزال تحتفظ بوسيلة الإسلام وظاهر مبادئه في ( وصولية ) صاغها معاوية بدهائه ، وكان هذا وحده عذرا للحسن من ناحيتين.

1 ـ كان عذره في الصلح لأن ( الدنيا ) كانت تظاهر معاوية فتستلب منه ابن عمه وقائد عسكره.

2 ـ ثم كان عذره في القعود عن الشهادة لأن ذلك بعينه ليس ظرف الشهادة ، لأنه كان قادرا على مسخها.

فأي ربح مادي في الموت لو اختاره الحسن كما يريد هؤلاء ، غير انه يعين معاوية على نفسه حيا وميتا.

إننى لا أرى شيئا أدل على عظمة الحسن من هذه السياسة المادية التي

٢٤٧

حددت موقفه على هذا النحو في أخطر دور مرّ به الإسلام. فكانت نواة لقلب الحكم الأموي ، وفضح ، كما كانت مادة ذلك البارود الجبار الذي انفجر في مصرع الحسين (ع) ذلك الانفجار ، ولو لم يكن موقف الحسن هذا لأتيح لمعاوية سلطان لا يعرف الناس منطوياته ، ولما اتيح للحسين أن يكون الفداء الخالد للمبدإ الخالد.

وبعد إن كنت ماديا فكن ( روحيا ) وناقش حرب الحسن لتجتمع لك الاعتبارات كلها على رجحان كفة الصلح.

الحسن (ع) ليس من طلاب ( الامرة ) لذات الامرة ، بل هو ممن يريدون الخلافة وسيلة للإصلاح ، وإقامة العدل والسلام بين الناس ، وما أظن هذه العقيدة الروحية تعدم دليلها المادي ، فأبوه وجده أثبتا فى الإسلام انهما كذلك ، وله قبل الإسلام إرث ينهض دليلا على انه من معدن مصلح لا يطلب النفوذ إذا استغنى عن فعل الخير.

ومن هنا كان سهلا عليه أن يتنازل عن الخلافة لأنه في فترة لا تقدر هي على ابداء الخير في ظل ذلك الجيل المكبوت المشتاق الى الشهوات يصيب منها فوق كفايته على موائد معاوية ، بل لقد كان الواجب عليه أن يتنازل مع عدم القدرة على تذليل العقبة من اخضاع ( الأموية ) المندفعة ، لأن تنازله يأتي وفق الخطة التي رسمتها له مبادئه.

وليس عائبو تنازله أشد احساسا منه بالام التنازل وهو المجروح ، ولكنها التضحية الضخمة فرضت عليه أن يتحمل آلام القعود التي كتبتها عليه مثله العليا ، ومبادئه الحسنى.

وهي تضحية لا تقل قدرا ـ إن لم تزد ـ عن تضحية الحسين (ع) وكن الآن ما شئت ، كن ماديا ، أو كن روحيا فستنتهي آخر الأمر

٢٤٨

الى نتيجة رائعة ، وهي ان صلح الحسن مصدر من أكبر مصادر ثورة الحسين التحريرية ، والى أن جوهر التضحية واحد عند الاماميين وإن اختلف مظهرهما.

والحق ان يوم الطف كان صدى ليوم المدائن صلى الله على سيدي شباب أهل الجنة ، ونفع المسلمين بذكرياتهما المجددة المتجددة ، ووفق العرب والمسلمين الى الاهتداء بهديهما فى مرحلتهم الصعبة هذه »(1) .

ورأي سماحة الامام شرف الدين رأي وثيق تعضده الأدلة ويسنده المنطق العلمي من جميع جهاته ، والحق إنه (ع) لو ضحّى بنفسه لذهبت تضحيته معدومة الأثر ، لا تقيم حقا ، ولا تغير باطلا ، لأن معاوية بمكره وخداعه ، يلقي المسئولية على الحسن ، ويبرئ نفسه عن ارتكاب الجريمة ، فيقول للناس : « إني دعوت الحسن للصلح ، ولكن الحسن أبى إلا الحرب وكنت اريد له الحياة ، ولكنه أراد لي القتل ، وأردت حقن الدماء ، ولكنه أراد هلاك الناس بينى وبينه » ومعاوية له هذه القابليات التي يظهر بها نفسه مظهر العادل المنصف ، وبذلك تكون التضحية مسلوبة الأثر معدومة الفائدة.

وأما الحسين (ع) فقد جاءت تضحيته الخالدة موافقة لظرفها الملائم ومنسجمة مع مقتضيات الزمن ، لأن الأثيم يزيد ليس معه من يدير شئونه ويردعه عن طيشه وغروره ، فقد هلكت تلك العصابة التي كان يعتمد عليها معاوية في تدبير شئونه كابن العاص ، والمغيرة وأمثالهما من دهاة العرب ،

__________________

(1) جريدة الساعة الغراء عددها الخاص بسيد الشهداء (ع) من السنة 4 بعدد 908 ، ونشرتها مجلة الغرى الزاهرة بعددها الخاص بالامام الحسين (ع) من السنة 9 العدد 11.

٢٤٩

ولم يبق منهم معه أحد ، فلذا نهض الامام الحسينعليه‌السلام بتلك النهضة الموفقة التي جاءت بالنهاية المحتومة لدولة أميّة.

وبالجملة إن مهادنة الحسن وشهادة الحسينعليهما‌السلام قائمتان على فكرة عميقة منبعثة من وحي جدهما الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولو لا صلح الامام الحسن ، وشهادة أخيه سيد الشهداء لما بقي للإسلام اسم ولا رسم ، وقد صرّح بهذا الامام كاشف الغطاء في مقدمته للجزء الأول من هذا الكتاب ، قالرحمه‌الله :

« إنه كما كان الواجب والمتعين الذي لا محيص عنه في الظروف التي ثار بها الحسين سلام الله عليه على طاغوت زمانه أن يحارب ويقاتل حتى يقتل هو وأصحابه ، وتسبى عياله ودائع رسول الله (ص) كما كان هذا هو المتعين فى فن السياسة ، وقوانين الغلبة والكياسة مع قطع النظر عن الأوامر الالهية ، والمشيئة الأزلية ، كذلك كان المتعين والواجب الذي لا محيص عنه في ظروف الحسن (ع) وملابساته هو الصلح مع فرعون زمانه ، ولو لا صلح الحسن ، وشهادة الحسينعليهما‌السلام لما بقي للإسلام اسم ، ولا رسم ، ولضاعت كل جهود محمد (ص) وما جاء به للناس من خير وبركة ورحمة ».

نعم : لو لا صلح الحسن ، وشهادة الحسين لقضي على الاسلام ولف لواؤه ، فإن الحسنعليه‌السلام بصلحه فضح معاوية وأظهر عداءه السافر للإسلام والمسلمين ، والحسينعليه‌السلام بتضحيته وشهادته فتك بدولة أميّة وقضى عليها وعلى كل ظالم مستبد ، وأعطى الدروس الخلاقة لكل مصلح يريد أن يثور على الظلم والطغيان والاستغلال.

٢٥٠

اجتماع الإمام بمعاوية

٢٥١
٢٥٢

لعل أقسى محنة اجتازتها نفس أي انسان كان هي التي ألمّت بالامام الحسن (ع) حينما اجتمع بابن أبي سفيان ، فقد أودع ذلك الاجتماع ألما مرهقا ، وأسى مرّا ، استوعب نفسه الشريفة ، ذلك لأنه رأى باطل معاوية قد استحكم وجوره قد انتصر ، وزاد في أساه ما ستعانيه الأمّة في دور هذا الطاغية من الماسي والشجون ، فترك ذلك أعمق الألم والحزن في نفسه.

لقد اجتمع الامام ـ على كره ـ بمعاوية ، وكان الاجتماع بالنخيلة(1) وقيل بالكوفة(2) ، وقد حضرته جموع حاشدة من المسلمين ، تنتظر بفارغ الصبر ما يفوه به الملك الظافر من الأمن والرفاهية وما يبسطه على الناس من العدل ، وما عسى معاوية أن يفعل في هذه الساعة الرهيبة ، إنه اعتلى المنبر فأظهر خبث ذاته ، وسوء سريرته ، واعلن ما يضمره للمسلمين من الشر والارهاق ، كما أظهر لهم السر في الحرب التي أثارها على أمير المؤمنين وولده الحسن قائلا :

« أيها الناس ، ما اختلف أمر أمّة بعد نبيها إلا وظهر أهل باطلها على أهل حقها ».

ولما افتتح خطابه بهذا القول الذي حكى فيه الواقع التفت الى أنه قد عنى به نفسه فندم على ذلك فاستدرك قائلا :

« إلا هذه الأمّة ».

ثم وجه خطابه القاسي الى العراقيين معربا لهم عن حقيقة الحرب التي أثارها عليهم ، وإن الهدف الأقصى الذي ينشده من وراء ذلك إنما هو

__________________

(1) ابن أبي الحديد 4 / 16 وذكر ان خطبة معاوية الآتية القاها في النخيلة

(2) اليعقوبي 2 / 192 الارشاد 170.

٢٥٣

الملك ، لا الطلب بدم عثمان قائلا :

« والله إني ما قاتلتكم لتصلوا ، ولا لتصوموا ، ولا لتحجوا ، ولا لتزكوا ، إنكم لتفعلون ذلك ، وإنما قاتلتكم لأتأمّر عليكم ، وقد أعطاني الله ذلك وأنتم له كارهون ».

ثم صرح بعد ذلك بعدم التزامه ووفائه بالشروط التي أعطاها للإمام فقال :

« ألا إن كل دم أصيب في هذه الفتنة مطلول ، وكل شرط شرطته فتحت قدمي هاتين(1) ولا يصلح الناس إلا ثلاث : اخراج العطاء عند محله ، وإقفال الجنود لوقتها ، وغزو العدو في داره ، فان لم تغزوهم غزوكم ».

حقا ان هذا هو التمادي في الإثم ، وكان عبد الرحمن بن شريك(2) إذا حدّث بذلك يقول : « والله هذا هو التهتك ». ويقول أبو اسحاق السبيعي ، وهو ممن روى خطاب معاوية : « كان والله غدارا ».

وأخذ معاوية يكيل السب والشتم الى أمير المؤمنين (ع) وولده الحسن غير مستأثم من ذلك ولا متحرج ، وقد خرق بذلك أبرز بنود المعاهدة التي وقع عليها.

__________________

(1) وفى رواية أبي اسحاق السبيعي : « ألا وإن كل شيء اعطيت الحسن ابن علي تحت قدمي هاتين لا أفي به » ، ذكر ذلك ابن أبي الحديد فى النهج ، وقريب منه ذكره المفيد في الارشاد.

(2) عبد الرحمن بن شريك النخعي الكوفي ، روى عن أبيه ، وروى عنه البخاري فى كتاب الأدب ، عدّه ابن حبان فى الثقات ، وقال : ربما أخطأ ، توفى سنة 227 ه‍ جاء ذلك في تهذيب التهذيب 6 / 194.

٢٥٤

خطاب الامام الحسن :

وطلب معاوية من الإمام أن يعتلي منصة الخطابة ليبين للناس تنازله عن الأمر. وقيل ان ابن العاص أشار عليه بذلك ليظهر للناس ـ بحسب زعمه ـ عي الإمام وعدم مقدرته على الخطاب ، وقد أخطأ في ذلك ، فان الإمام قد خطب الناس غير مرة في حياة أبيه ، وبعد وفاته ولم يعرف عنه العي والحصر ، لأنه من أهل بيت كانوا معدن الفصاحة والبلاغة ، وفصل الخطاب ، وانبرى الإمام الى أعواد المنبر والناس كلهم أذن صاغية وهم ما بين راغب وراغم ، فخطبهم خطبة طويلة كانت فى منتهى الروعة والبلاغة ، وعظ فيها الناس ، ودعاهم الى الالفة والمحبة ، وصوّر فيها الأحداث الرهيبة التي جرت على أهل البيت بعد وفاة النبيّ (ص) وعزى ما جرى عليهم من المحن والخطوب الى الصدر الأول الذين نزعوا الخلافة منهم ، وردّ في آخر خطابه على معاوية ، وهذا نص خطابه :

« الحمد لله كلما حمده حامد ، وأشهد أن لا إله إلا الله كلما شهد له شاهد ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، أرسله بالهدى ، وائتمنه على الوحيصلى‌الله‌عليه‌وآله .

أما بعد : فو الله إني لأرجو أن أكون قد أصبحت بحمد الله ومنّه وأنا أنصح خلق الله لخلقه ، وما أصبحت محتملا على مسلم ضغينة ، ولا مريدا له سوءا ، ولا غائلة. ألا وإن ما تكرهون في الجماعة خير لكم مما تحبون في الفرقة ألا وإني ناظر لكم خير من نظركم لأنفسكم ، فلا تخالفوا أمري ، ولا تردوا عليّ رأي غفر الله لي ولكم ، وأرشدني وإياكم لما فيه

٢٥٥

المحبة والرضا. »(1)

ثم التفت الى الجماهير فقال لها :

« أيها الناس ، إن أكيس الكيس التقى ، وأحمق الحمق الفجور ، والله لو طلبتم ما بين جابلق(2) وجابرس(3) رجلا جده رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ما وجدتموه غيري وغير أخي الحسين ، وقد علمتم أن الله هداكم بجدي محمد (ص) فأنقذكم به من الضلالة ، ورفعكم به من الجهالة ، وأعزكم به بعد الذلة ، وكثركم به بعد القلة ، إن معاوية نازعني حقا هو لي دونه ، فنظرت لصلاح الأمّة ، وقطع الفتنة ، وقد كنتم بايعتموني على أن تسالمون من سالمت ، وتحاربون من حاربت ، فرأيت أن أسالم معاوية ، واضع الحرب بيني وبينه ، وقد بايعته ، وقد رأيت أن حقن الدماء خير من سفكها ، ولم أرد بذلك إلا صلاحكم وبقاءكم ، وإن أدرى لعله فتنة لكم ومتاع الى حين »(4) .

__________________

(1) الارشاد ص 169.

(2) جابلق : بالباء الموحدة المفتوحة واللام المسكنة ، روي عن ابن عباس أنها بأقصى المغرب واهلها من ولد عاد ، جاء ذلك في المعجم 3 / 32.

(3) جابرس : مدينة بأقصى المشرق ، زعم اليهود أن أولاد نبيهم موسىعليه‌السلام هربوا اما فى حرب طالوت أو في حرب بخت نصر ، فسيرهم الله وأنزلهم فى هذا الموضع فلا يصل إليهم أحد ، وقد طويت لهم الأرض وجعل عليهم الليل والنهار سواء حتى انتهوا الى ( جابرس ) فسكنوا فيها ، ولا يحصي عددهم إلا الله ، فاذا قصدهم أحد من اليهود قتلوه وقالوا : ( لم تصل إلينا حتى أفسدت سنتك ) ، وبهذا الاعتبار يستحلون دمه جاء ذلك في المعجم 3 / 33.

(4) كشف الغمة ص 170.

٢٥٦

وأخذ (ع) يبين ظلامة أهل البيت فقال :

« وإن معاوية زعم لكم أني رأيته للخلافة أهلا ولم أر نفسي لها أهلا ، فكذب معاوية. نحن أولى الناس بالناس في كتاب الله عز وجل وعلى لسان نبيه ، ولم نزل ـ أهل البيت ـ مظلومين منذ قبض الله نبيه ، فالله بيننا وبين من ظلمنا ، وتوثب على رقابنا ، وحمل الناس علينا ، ومنعنا سهمنا من الفيء ، ومنع أمّنا ما جعل لها رسول الله ، واقسم بالله لو أن الناس بايعوا أبي حين فارقهم رسول الله لأعطتهم السماء قطرها ، والأرض بركتها ، ولما طمعت فيها يا معاوية ، فلما خرجت من معدنها تنازعتها قريش بينها ، فطمع فيها الطلقاء وأبناء الطلقاء ، أنت وأصحابك. وقد قال رسول الله : ما ولت أمّة أمرها رجلا وفيهم من هو أعلم منه إلا لم يزل أمرهم يذهب سفالا حتى يرجعوا الى ما تركوا. فقد ترك بنو اسرائيل هارون وهم يعلمون أنه خليفة موسى فيهم واتبعوا السامري ، وتركت هذه الأمّة أبي وبايعوا غيره ، وقد سمعوا رسول الله يقول له : أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا النبوة ، وقد رأوا رسول الله نصب أبي يوم غدير خم ، وأمرهم أن يبلغ أمره الشاهد الغائب ، وهرب رسول الله من قومه وهو يدعوهم الى الله حتى دخل الغار ، ولو انه وجد أعوانا لما هرب ، كفّ أبي يده حين ناشدهم ، واستغاث فلم يغث. فجعل الله هارون في سعة حين استضعفوه ، وكادوا يقتلونه ، وجعل الله النبي في سعة حين دخل الغار ولم يجد أعوانا. وكذلك أبي وأنا في سعة من الله حين خذلتنا هذه الأمّة. وإنما هي السنن والأمثال يتبع بعضها بعضا. »(1)

والتفت الى حضار الحفل فقال لهم.

__________________

(1) البحار 10 / 114.

٢٥٧

« فو الذي بعث محمدا بالحق ، لا ينقص من حقنا ـ أهل البيت ـ أحد إلا نقصه الله من عمله ، ولا تكون علينا دولة إلا وتكون لنا العاقبة ولتعلمن نبأه بعد حين. »

والتفت (ع) الى معاوية فردّ عليه سبه لأبيه فقال له :

« أيها الذاكر عليا أنا الحسن وأبي علي ، وأنت معاوية وأبوك صخر وأمىّ فاطمة ، وأمك هند ، وجدي رسول الله ، وجدك عتبة بن ربيعة ، وجدتي خديجة ، وجدتك فتيلة ، فلعن الله أخملنا ذكرا ، وألأمنا حسبا ، وشرنا قديما وحديثا ، وأقدمنا كفرا ونفاقا!! »

وارتفعت الأصوات من جميع جنبات الحفل بقول :

« آمين آمين ».

وما سمع أحد هذا الخطاب إلا شاركهم بقول : آمين ونحن نقول : آمين آمين.

وهذه الخطبة أبلغ خطبة عرفها التأريخ ، فقد وضع الإمام فيها النقاط على الحروف ـ كما يقولون ـ وصوّر الموقف الدقيق الذي هو فيه ، وربط بين الأحداث التي واجهها ، وبين الأحداث التي جرت على أبيه وانها جميعا تستند الى من تقمص الخلافة بعد وفاة النبي (ص) ، فلولاهم لما طمع معاوية في الخلافة ونازعه فيها.

موقف الزعيم قيس :

ولما سمع الزعيم الحديدي قيس بن سعد بالنبإ المؤلم جمد دمه واستولت عليه موجة من الهموم ، وغشيته سحب من الأحزان حتى تمنى مفارقة الحياة وجعل يردد في دخيلة نفسه :

كيف سالم أمير الحق أمير الباطل؟!!!

٢٥٨

ووقف وهو حائر اللب ، خائر القوى يريد أن ينقل قدمه من الأرض فلم يتمكن ، قد مشت الرعدة بأوصاله ، والحيرة بصدره ، وسرى الألم العاصف في محيّاه ، ثم انفجر باكيا وهو ينظم ذوب الحشا قائلا :

أتاني بأرض العال من أرض مسكن

بأن إمام الحق أضحى مسالما

فما زلت مذ بينته متلددا

أراعي نجوما خاشع القلب واجما(1)

والتفت الى الجيش وقد علاه الانكسار واستولى عليه الجزع والذهول قائلا بصوت خافت حزين النبرات :

« اختاروا إحدى اثنتين ، اما قتال بغير إمام ، واما أن تبايعوا بيعة ضلال؟!! »

فأجابوه وقد علاهم الذل والهوان قائلين :

« بل نقاتل بغير إمام ».

وزحفوا الى جموع أهل الشام فضربوهم حتى أرجعوهم الى مصافهم واضطرب معاوية من ذلك أشد الاضطراب ، فراسل قيسا يمنّيه ويتوعّده

فأجابه قيس :

« لا والله ، لا تلقاني إلا وبيني وبينك السيف أو الرمح ».

ولما يئس منه معاوية أرسل إليه رسالة يشتمه فيها ويتوعّده وهذا نصها :

« أما بعد : فإنك يهودي تشقى نفسك ، وتقتلها فيما ليس لك ، فإن ظهر أحب الفريقين إليك نبذك وغدرك ، وإن ظهر أبغضهم إليك ، نكّل بك وقتلك ، وقد كان أبوك أوتر غير قوسه ، ورمى غير غرضه ، فأكثر الجذ ، وأخطأ المفصل ، فخذله قومه ، وأدركه يومه ، فمات بحوران غريبا والسلام ».

فاجابه قيس :

__________________

(1) المناقب 2 / 167.

٢٥٩

« أما بعد : فإنما أنت وثن ابن وثن ، دخلت في الإسلام كرها ، واقمت فيه فرقا ، وخرجت منه طوعا ، ولم يجعل الله لك فيه نصيبا ، لم يقدم إسلامك ، ولم يحدث نفاقك ، ولم تزل حربا لله ولرسوله ، وحزبا من أحزاب المشركين ، وعدوّا لله ولنبيه وللمؤمنين من عباده. وذكرت أبي فلعمري ما أوتر إلا قوسه ، ولا رمى إلا غرضه ، فشغب عليه من لا تشق غباره ، ولا تبلغ كعبه ، وزعمت أني يهودي ابن يهودي وقد علمت وعلم الناس أني وأبي أعداء الدين الذي خرجت منه ، وانصار الدين الذي دخلت فيه وصرت إليه والسلام ».

وحكت هذه الرسالة حقيقة معاوية وواقعه ، ولمّا قرأها انتفخت أوداجه ، وورم أنفه ، فأراد أن يجيبه ، ولكن الداهية الماكر وزيره ابن العاص نهاه عن ذلك قائلا له :

«!! فإنك إن كاتبته أجابك بأشد من هذا ، وإن تركته دخل فيما دخل فيه الناس ».

واستصوب معاوية رأي ابن العاص فأعرض عن الشدة والعنف(1) وبعث إليه رسالة جاء فيها :

« على طاعة من تقاتل؟ وقد بايعني الذي أعطيته طاعتك ».

ولم يقتنع قيس بذلك وبقي مصرا على رأيه ، ولكن معاوية خاف من الفتنة ومن تطور الأحداث فبعث إليه طومارا ختم في أسفله ، وقال للرسول قل له فليكتب فيه ما شاء وغاظ ذلك ابن العاص ، لأن فيه نوعا

__________________

(1) شرح ابن أبي الحديد 4 / 15 ، وذكر المسعودي في مروج الذهب 2 / 319 ، إن هذا الحديث دار بين معاوية وقيس في حياة أمير المؤمنين (ع) حينما كان قيس عاملا له على مصر.

٢٦٠