فلسفة الحكم عند الإمام

مؤلف: الدكتور نوري جعفر
الناشر: القاهرة دار المعلّم للطباعة
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 200
مؤلف: الدكتور نوري جعفر
الناشر: القاهرة دار المعلّم للطباعة
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 200
مات علي شهيد عظمته... شأن جميع الانبياء الباصرين الذين يأتون إلى بلد ليس ببلدهم والى قوم ليسوا بقومهم في زمن ليس بزمنهم. جبران خليل جبران |
عظيم من عظماء البشرية... انبتته ارض عربية ولكنها ما استأثرت به وفجر ينابيع مواهبه الاسلام ولكنه ما كان للاسلام وحده. ميخائيل نعيمة |
بسم الله الرّحمن الرّحيم
والصلاة والسّلام على أشرف البرية محمدصلىاللهعليهوآلهوسلم وعترته الهادية المرضية.
وعند رحلتي إلى القاهرة في عام ١٣٩٨ هـ ذهبت لزيارة الأخ الأستاذ عبد الفتاح عبد المقصود وكنت قد صحبت معي كتاب الاستاذ الدكتور نوري جعفر: (فلسفة الحكم عند الإمام) وطلبت منه أن يكتب تقديما للكتاب فتفضل سيادته مشكوراً على ما كتبه.
أسأل الله أن يتقبل أعمالنا ويجعلها خالصة له ولأمة سيد أنبيائه ورسله محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويجعل مستقبل أمرنا خيراً من ماضيه وما بذلناه من جهد في نشر آثار أهل البيت عليهم السلام مرفوعاً إليه ومقبولا عنده أنه سميع الدعاء قريب مجيب؟
القاهرة: السّيد مرتضى الرضوي
بسم الله الرّحمن الرّحيم
إحتواني أبو السبطين: أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - ولى الرسول، وموضع سره ولجأ علمه، وأصل الأئمة الأطهار - في رحابه نيفاً وثلاثين عاماً عشتها تحت ظله الوارف الممدود. فما رأيت نفسي نعمت مع غيره - بعد محمد عليه الصلاة والسلام - بمثل ما نعمت معه من ذخائر المعارف، وكرائم الأخلاق، وروائع الأفكار التي تفتح طرائق وآفاقاً بلا حدود لمن أراد التماس الحق كاملاً غير منقوص، والحكمة صافية غير مشوبة..
ولقد استعصى على، كما استعصى على بلا ريب سواى، الإحاطة بكل ما أوتيه، والأخذ بكل ما أعطاه، لأن بلوغ الكمال محال، ولأن النفس البشرية، مهما ارتقت في مدارج النقاء، خليقة بأن تخطئ وإن هي حاولت مباعدة الأخطاء فالعصمة لله. وابن آدم خطاء، والحرص على التزام المحجة البيضاء لا يمنع إنسانا من الإنحراف عن سوء السبيل، آونة أو آونات، فيرى في القبيح المليح، ويرى في المليح القبيح، وقد يجيء هذا نتيجة محاولة بريئة لتفهم جديد، أو تبرير وضع طارئ، أو اجتهاد رأى في مشكلة بيئية تربت على تغير في الظروف والاحوال.. هذا بالإضافة إلى أن الطبيعة الآدمية كما فيها من النور فإن فيها من الظلام.
٢
من السلوك البشرى.. وإن اختلف باختلاف المواقع والأفراد.. وإن كان وليد تفاعلات نفسية معقدة.
فإنه أيضاً على وجه من الوجوه ظاهرة اجتماعية عامة تقوم أساساً على ركيزتين هما. التلقين والتقليد.. ومن هنا فإن قادة الشعوب، ودعاة الإصلاح أو التغيير، يعمدون من خلال هاتين الركيزتين إلى تطور مجتمعاتهم وإعادة صياعتها من جديد. فإذا هم يبثون فيها - بالدعوة المستمرة الدائبة - ما اختاروا لها من آراء، يلقنونها الكبار والصغار. ثم يقرنون مرحلة البث بمرحلة التقليد أو تثبيت تلك الآراء في أذهان الناس عن طريق التطبيق العملي، بضرب الأسوة، حملا لهم على الاقتداء والأداء..
وذلك هو ما يحدث بالنسبة لجميع الأديان.. تتنزل رسالات السماء على من يجتبيهم الله من عباده المرسلين، فيخص كل رسول إلى تبليغ من بعث فيهم ويكون هو نفسه القدوة والمثال.
٣
ولم يعرف التاريخ، فيما إخال هاديا تصدى لإصلاح حال قومه، وأخذهم بمبادئ الإسلام كالإمام..
نعم: يكن مجرد داعية إلى الله، وبينهم كتاب الله ما أيسر رجوعهم إليه لو شاءوا الاهتداء.. ولكنه ترجم الدين إلى أسلوب حياة وإعادة نقله - بعد خلو حياتهم العامة من محمد - إلى حيز التطبيق.. وعندما ترنو إلى سعيه في هذا المضمار نكاد نجد جهده امتداداً لجهد الرسول، وعهده امتداداً لعهده عليه الصلاة والسلام.
وليس معنى هذا أن الألى سبقوه إلى حكم الأمة فرطوا في الكتاب، ولكنه يعني أن الدنيا - حين آل اليه الأمر - كانت قد أقبلت على الناس كل
الاقبال،( فَنَسُوا حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ ) ، وانشغل الأكثرون منهم بالعروض من متاع ومال وجاه حتى لكأنهم آثروا العيش على مظاهر الدين دون اللباب، وعلى المقولات دون المعقولات.. واستفاض بهم هذا الانشغال الاستفاضة التي تنذر بجاهلية جديدة توشك أن تستأثر الجميع.. وظن ومن يظنون أن دور الإمام، في تلك الفترة القصيرة التي تولى فيها السلطان - كان مجرد العناية - بتذكير الأمة بأوامر الله ونواهيه، أو الاقتصار على الكشف لها عن أسرار القرآن وخفاياه، إنما هو محض خيال..
ذلك لأن الثابت قطعاً أنه أخرج للناس سياسة عامة للاصلاح وإعادة بناء الإنسان، لا تأخذه بالقسور، بل تقوم - قبل أي شيء وكل شيء على جوهر الدين..
رسم فيها خطة شاملة لشئون الداخل والخارج ولاءاً بها بين الصالح العام ونفع الأفراد. تحسن السير بالأمور كما تحسن قيادة الناس، مطوعا إياها لمقابلة كافة الاحتمالات في تطورات الأحداث، وتغيرات الظروف، وانطلاقة الزمن بالحكمة، وسعة الافق، ودقة التفكير، وأحكام التقدير مع مرونة المداولة بين مختلف أساليب المجابهة الكفيلة بكبح شرة الأزمات، وتفاقم الأخطار، وانحرافات الأنفس ثم يلقاها بأنسب الحلول..
٤
ونكاد نجمل هذه السياسة الشاملة في عبارة قصيرة للامام يقول:
(الناس إما أخ في الدين أو نظير في الخلق).
فشعاره إذاً هو (مساواة)
مساواة بين جميع الناس وإن تباينوا في الأديان واختلفوا في العناصر والألوان.
مساواة ميسرة لا تشق على إنسان، معلومة لا تغمض على إنسان. قاصدة بغير تقصير. سمحة بغير مغالاة. نسبية بغير إطلاق. تعيش في الممكن المتاح وأكد هذا مرة ومرات، فكان مما قاله في هذا المجال:
(إنما أنتم إخوان على دين الله، ما فرق بينكم إلا خبث السرائر..).
ودين الله هو الإسلام. فالاسلام هو الرسالة الإلهية الوحيدة التي بعث الله بها رسله إلى أقوامهم على فقرات، ثم كانت للناس كافة ببعثة محمد خاتم الرسل والانبياء.
٥
وليست المساواة شعاراً يرفع، ولا كلمة تقال، بل هي جهد يبذل، وعمل يعمل، ومفهوم يطبق في المجتمع تطبيقا جاداً بلا مفاوتة بين إنسان وإنسان، وبلا ترخص لإنسان دون إنسان..
وإذا كان ثمة من الناس من يمقتك فأحرى بمن يقول بها أن يلتزمها ليتبعه على نهجها كل من عداه، ولتكون هي السلوك العام..
وقد صارح الإمام أمته، منذ ولي الأمر، بأنه هو قائد سيرتهم على هذا الطريق..
ففي يوم السبت لإحدى عشرة ليلة بقين من ذي الحجة عام ولايته، على قول..
أو في الخامس والعشرين من نفس الشهر من السنة الخامسة والثلاثين
للهجرة، الموافق الثالث والعشرين من شهر يونيو سنة ستة وخمسين وستمائة للميلاد.. وقف بعد أن تمت له البيعة، يعين المسلمين:
(إنما أنا رجل منكم.. لي ما لكم.. وعلى ما عليكم..)
فلا تفرقة.. لا امتياز له على غيره من الناس..
ولا شك في أنه حين قال قولته هذه لم يأت بجديد. فكلمته هي كلمة الإسلام، ورأيه هو رأى الإسلام.. ودين الله الذي ختم الاديان كان، كما يقضي بوحدة الربوبية الآلهية، يقضى أيضا بوحدة العبودية البشرية، لأن الإسلام دين الفطرة التي فطر الله عليها الناس أجمعين، قبل أن تفسدهم الانحرافات المتسربة إلى النفوس والعقول من خلال طوارئ المعتقدات، والأفكار، وتحكم العادات والتقاليد، وفوارق العنصريات والاجناس، وتباعد حدود الزمان والمكان.. إنه يعيدهم سيرتهم الأولى، على سجيتهم النقية كبدء نشأتهم، مطهرين من الأدران، خالصين من الشوائب، كانهم يلدهم من جديد..
هو بهذا يسوى بينهم كافة لأن الفطرة هي العامل الوحيد الذي يشتركون فيه فأساس المقارنة بينهم - على هذا الوضع - ثابت غير قابل للتغير، أو مساواة كاملة، لا سبيل معها إلى المفاضلة والترجيح.
فإذا هم تفاوتوا من بعد، فبمعايير غير هذا المعيار..
هذه حقيقة عصية على الانكار، بعيدة بعداً مطلقا عن المماراة.. ليس أدل عليها من نأى الاسلام - في دعوته - عن التمحيص، بالاتجاه إلى التعميم..
فالقرآن الكريم كما تؤكد آياته، حين يدعو دعوته الايمانية لا يخاطب إلا (الناس) أو (بني آدم) آو (الانسان) أو (عباد الله).
لا يختص بها جنساً، ولا عنصراً، ولا قوماً، ولا لوناً، ولا طائفة، ولا مجتمعاً من المجتمعات بالخطاب..
٦
واستقامة السلوك العام في الأمة رهن باستقامة السلوك الخاص لأولئك الذين بيدهم مقادر الأمور ومن ثم فقد حرص أميرالمؤمنين على أن تظل عينه على تصرفات عماله ورجاله الأدنين الذين يتقدمون الصفوف، خشية أن يميلوا عن (المساواة) استجابة لضغوط بيئية، أو نتيجة هوى أو ضعف أو عصبية.
ذلك لأنهم بأوضاعهم تلك هم المؤدبون والمهذبون. ولأنهم أيضا القدوة التي يحتذيها الجمهور..
لذلك يأمر الإمام كل عامل من عماله أن يرعى المساواة لأنها إنصاف لله كما هي إنصاف للناس، فيقول:
(ألزم الحق من لزمه من القريب والبعيد، واقعا ذلك من قرابتك وخاصتك حينما وقع..).
ويقول:
(أنصف الله، وأنصف الناس من نفسك وخاصة أهلك ومن لك هوى فيه من رعيتك. فإنك إلا تفعل تظلم!..).
ثم يؤكد وجوب المساواة بين الحاكم والمحكوم فيقول:
(إياك والاستئثار بما الناس فيه أسوة..).
وهو يعلم علم يقين وكما تشير الأمثال في مختلف العصور، أن الثناء إغراء وأن بطانة الحاكم ومشيريه أقوى عليه تأثيراً، وأدنى إليه حظوة، وأعلم بما يكرهه وبما يرضيه فلا عجب إن استطاعوا - بالملق أو طيب الثناء - أن يقودوه كيف يشاءون..
لذلك حذر عماله مغبة هذا الانقياد، وأمرهم أن يدقق كل في اختيار المشيرين والأعوان:
يقول:
(استعملهم اختباراً ولا تولهم محاباة. ورضهم على ألا يطروك، فإن كثرة الإطراء تحدث الزهو، وتدنى من الغرة.. وليكن آثرهم عندك أقولهم بمر الحق..).
٧
ويطول بي الحديث لو استطردت إلى ما تفصح عنه سيرة أمير المؤمنين من سياسة جهد بها لترويض الناس، وتطويع الأحداث.. يطول بي إلى مدى ما له حدود أو هو جد بعيد.
فلعل الاخ الاستاذ الدكتور نورى جعفر يغفر لي هذا التقصير.
إن بيدي الآن كتابه الجليل: (فلسفة الحكم عند الإمام) الذي أودعه خلاصة قيمة لهذه الفلسفة التي بزت غيرها من فلسفات، وسبقت بمبادئها القويمة كل ما ارتآه الأقدمون والمعاصرون..
وإذا كان الصديق الفاضل السيد مرتضى الرضوي قد شاء لي أن أديج كلمة تتصدر الكتاب، فالكتاب، في رأيي غنى عن التصدير والتقديم بمادته وبجهد مؤلفه، وقدرته الفائقة على الغوص في السيرة العلوية لالتقاط الدرر، باستخلاصها من الأصداف.
على أن يروق لي أن أختم هذه السطور بعبارة موجزة جرت على لسان أمير المؤمنين فإذا هي تتحدى بمضمونها كل ما استنبط الفلاسفة وذوو الآراء من مبادي لإصلاح حال الشعوب، ومداواة ما تعوزه الطبقية من عدالات.
قال الإمام:
(لكل على الوالي حق بقدر ما يصلحه)
فهل بغير صلاح الرعية يصلح الولاة؟
لقد تصارع الناس. وتصارعت الطبقات. وجاءنا صانعوا الفلسفات من أقدم العصور بألوان من المبادئ تحاول الاصلاح وإفادة السلام الاجتماعي على المواطنين، فلم تبلغ أحدث مبادئهم، ولا أكثرها (تقدمية) كما تقول لغة عصرنا الحديث - شأو كلمة الامام. ولا احتوت مثل ما احتوت عبارته من مضمون.
الاسكندرية ١٤ سبتمبر سنة ١٩٧٨عبد الفتاح عبد المقصود
تقديم
بدأت الدراسة التاريخية المنظمة للتراث الإسلامي والعربي في أوائل نشوء الدولة العباسية قبل أكثر من ألف عام. وساهم في في ذلك فريق كبير من الكتاب اللامعين، وفي مقدمتهم:
ابن قتيبة (الذي توفى عام ٢٧٠ هـ) والبلاذري (٢٧٩ هـ) واليعقوبي (٢٨٤ هـ) والدينوري (٢٩٠ هـ) والطبري (٣١٠ هـ) والمسعودي (٣٤٦ هـ) وابن مسكويه (٤٤١ هـ) والخطيب البغدادي (٤٦٣ هـ) وابن عساكر (٥٧١ هـ).
وابن الأثير (٦٣٠ هـ) وابن خلكان (٦٨١ هـ) وابن الفداء (٧٣٢ هـ) وابن خلدون (٨٠٨ هـ)
والمقريزي (٨٤٥ هـ)...
وألفت كتب كثيرة في هذا الباب وعلى رأسها:
(أنساب الأشراف) و (مروج الذهب...) و (تاريخ الأمم والملوك) و (تجارب الأمم) و (تاريخ بغداد) و (الكامل في التاريخ) و (أسد الغابة...) و (وفيات الأعيان) و (فوات الوفيات) و (كتاب العبر...) و (إمتاع الأسماع...).
هذا بالإضافة إلى الكتب التي ألفها مؤرخو السيرة النبوية كابن هشام والواقدي..
وكتب التراجم لابن سعد وابن حجر... وكتب الحديث:
للبخاري ومسلم وأحمد بن حنبل...
وكتب الأدب (التي تحتوى على دراسة التاريخ أيضاً) الجاحظ والمبرد وأبى حيان والأصبهاني...
ولم ينقطع البحث في هذا التراث - منذ نشوئه - حتى يومنا هذا (مع ما رافق ذلك من اختلاف كبير في مقوماته ونتائجه نظراً لاختلاف ثقافة الباحثين وتغير طبيعة الأوضاع الاجتماعية العامة التي يواجهونها مع ما يرافقها من اختلاف في مزاج العصر الذي يعيشون فيه).
وقد تصدى للبحث في التراث الآنف الذكر - في الوقت الحاضر - رعيل من أبرز الكتاب العرب وفي مقدمتهم:
الشيخ محمد رضا الشبيبي، والدكتور طه حسين، والأستاذ عباس محمود العقاد، والدكتور محمد حسين هيكل، والأستاذ توفيق الحكيم، والأستاذ مصطفى صادق الرافعي، والشيخ عبد الله العلائلي، والأستاذ عبد الفتاح عبد المقصود، والأستاذ جورج جرداق...
بحث هؤلاء الذوات - وكثيرون غيرهم - في أكثر من وجه من وجوه هذا التراث وألف أكثرهم أكثر من كتاب فيه. فصدرت كتب قيمة في هذا الباب وفي مقدمتها:
(مؤرخ العراق ابن الفوطي) و (عثمان بن عفان) و (على وبنوه) و (عبقرية الإمام) و (معاوية بن أبي سفيان في الميزان) و (حياة محمد) و (الإمام علي بن أبي طالب) و (الإمام علي: صوت العدالة الإنسانية)...
يضاف إلى ذلك أن غالبية (الأساتذة) الذين تخرجوا بجامعات الغرب وبالجامعات الموجودة في بعض أرجا العالم العربي قد قدمت رسائلهم - لإحراز الشهادة العالية في التاريخ الإسلامي أو الأدب العربي - وهي منظوية على البحث في التراث الآنف الذكر: تارة في أحد جوانبه وطوراً في البحث الذي يجمع بين القديم والجديد!! فالمحفزات على البحث فيه كثيرة تأتي من التاريخ الإسلامي نفسه ومن طبيعة الأوضاع العامة التي يتعرض لتأثيرها العرب والمسلمون في هذا العصر الذي نعيش فيه.
على أن القراء - مع ذلك - سيقفون من هذا الكتاب مواقف متناقضة فيما يتصل بتقدير قيمته من حيث موضوعه بالنسبة للظروف العالمية الراهنة من جهة، وفيما يتعلق بمحتوياته نفسها وطبيعة الأحكام التي ينطوي عليها من جهة أخرى.
ويعود ذلك على ما أرى إلى اختلاف مستوياتهم الفكرية وظروفهم العامة وعنعناتهم واتجاهاتهم الفلسفية والاجتماعية. وسيتخذ بعضهم - دون شك - (وخاصة الذين اتخذوا الدين الإسلامي والتاريخ وسيلة للكسب المادي والمتاجرة) من هذا الكتاب قميصا جديداً لعثمان - لمهاجمة المؤلف وتأليب الناس عليه. وسيغفل - في زحمة ذلك - أمر التحدث عن الكتاب وينشغل أولئك بالتحدث عن مؤلف الكتاب.
قال علي - في هؤلاء ومن هم على شاكلتهم من القدامي والمحدثين من وعاظ السلاطين -: (يأتي على الناس زمان لا يبقى فيهم من القرآن إلا رسمه ومن الإسلام إلا إسمه: مساجدهم - يومئذ - عامرة من البناء خراب من الهدى. سانها وعمارها شر أهل الأرض - منهم تخرج الفتنة وإليهم تأوى الخطيئة).
وهناك فريق آخر من القراء سيقول (بحكم ثقافته الحديثة): نحن في عصر الذرة وفي عالم الأقمار الطائرة - التي لا تنسجم بطبيعتها مع هذا النوع من الأبحاث.
وجوابنا على ذلك: نعم: إننا نعيش - دون شك - في عصر الذرة وفي عالم الأقمار الطائرة. ولكننا نعيش أيضاً (وإلى المدى الأكبر) - في العراق وخارجه - في عالم العلاقات الاجتماعية والصلات التاريخية البعيدة والقريبة على السواء.
ولو كان الأمر على خلاف ذلك لتعطل معظم أوجه النشاط العلمي والاجتماعي (في أغلب حقول المعرفة الإنسانية) في المجتمع الإنساني الحديث، ولتوقفت الدراسة في معظم الجامعات ودور العلم في أرجاء المعمورة.
على أننا (في العراق، مع هذا لا نعيش - في الواقع - إلا على هامش الذرة والأقمار الطائرة. ولا يخرج (عيشنا) هذا عن نطاق التحدث عن الذرة والأقمار الطائرة أحاديث على جانب كبير من الضحالة من الناحية العلمية.
على أن موضوع هذا الكتاب - مع ذلك - لا يحول بأية حال من الأحوال بين (فطاحل) علماء الذرة والصواريخ والأقمار الطائرة من العراقيين وبين البحث فيها وإنتاجها.
ولا يعرقل ما هو متوافر لديهم من مقومات البحث كالأجهزة العلمية والمختبرات. ولكن هذا الأمر (مع كل ما ذكرناه) أعمق من ذلك بكثير:
فالبحث في الذرة وفي القمر الطائر، ما هو في واقعة (بعد التحليل الدقيق) إلا وجه واحد فقط من أوجه الصراع المرير بين فلسفتين في الحكم مختلفتين كل الاختلاف: تسعى كل واحدة من الفلسفتين - ضمن إطارها النظرى في السياسة والاقتصاد - (بنظر حملتها) إلى تطبيق مبدأ العدالة الاجتماعية بأوسع مدى ممكن في شتى ميادين الحياة بين أفراد المجتمع الإنساني في اختلاف مواقعهم الجغرافية ولغاتهم وألوان بشراتهم.
ولا يتسنى لكل منهما أن تحقق ذلك، من الناحية الواقعية التطبيقية (بنظر حملتها) إلا إذا أزيلت معالم الأخرى من عالم الوجود.
وفلسفة الإمام - التي نحن بصدد البحث في أهم مقوماتها - كانت قد سمعت (من الناحيتين النظرية والتطبيقية) إلى نشر مبدأ العدالة الاجتماعية بين الناس - في حدود إطارها النظري في السياسة والاقتصاد.
فإذا نظرنا إلى موضوع الكتاب من هذه الزاوية أصبح بمقدورنا أن إحدى شخصياته.
فألفت في هذا الباب كتب كثيرة منها - على سبيل التمثيل لا على سبيل الحصر:
(الأصمعي) و (المعتزلة) و (نقائض جرير والفرزدق) و (الطبيعة في الشعر العربي) و (ابن خلدون) و (الغزل في الشعر العربي) و (أبو حيان التوحيدي) و (القصص في القرآن) و (الشعر السياسي في العراق في القرن التاسع عشر) و (أدب الشريف المرتضى) و (الصراع بين العرب والموالي)...
هذا عدا الأبحاث الأخرى التي قام بها فريق آخر من الكتاب: صدر منها مثلا: (هارون الرشيد
) و (وعاظ السلاطين) و (عصر المأمون) و (وعمرو بن العاص) و (خالد بن الوليد) و (أبو العلاء المعري) و (ابن الرومي) و (أبو الطيب المتنبي)...
أما المقالات والمحاضرات المتعلقة بهذا النوع من الأبحاث فلا تكاد تقع تحت حصر.
أما مناهج الدراسة الحكومية - في أرجاه العالمين العربي والإسلامي - فمملوءة هي الأخرى بهذا النوع من الأبحاث في مختلف وجوهها وبمقدار يحتل (حصة الأسد من الغنيمة) كما يقولون.. فلست إذن أول من تصدى للبحث في هذا الموضوع، أو الذي اقتصر بحثه عليه، على أن لولعي في البحث فيه قصة طريفة أود أن أروى خطوطها العامة للقاري بشيء من الإيجاز غير المخل:
عدت إلى العراق في أواخر عام ١٩٤٩ بعد أن أنهيت دراستي خارجه. ولم يدر بخلدى آنذاك أن أنصرف إلى دراسة موضوع التاريخ الإسلامي بله الكتابة فيه. غير أنى رغبت - بعد رجوعي بأشهر قليلة - في الاطلاع المباشر على أمهات كتب اللغة والأدب الغربي. فتناولت (قدفة) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد بمجلداته الأربعة. وكان غرضي - بالدرجة الأولى - لغوياً. فلم أعر، والحالة هذه، وقائع التاريخ التي كانت تمر على (بصورة مستمرة) في ثنايا الكتاب إلا جانباً ضئيلا من الاهتمام والتبع.
غير أنى (بحكم استرسالي بمطالعة الكتاب) أصبحت غير قادر - على الرغم مما أبديته من مقاومة في بادئ الأمر - على تجنب الاهتمام بتلك الحوادث:
فقد فرض بعضها نفسه على فرضاً الأمر الذي اضطرني (أثناء مطالعة ما يتصل بخلافة عثمان بن عفان بصورة خاصة) أن أعود من جديد إلى قراءة الكتاب المذكور (قبل إنجازى مطالعته) - هذه المرة لغرض الاطلاع على حوادثه التاريخية بالدرجة الأولى، مع الاهتمام العرضى بجوانبه اللغوية في المتن والشرح على السواء..
فظهر لي ٠ بعد أن أنجزت مطالعة الكتاب بمجلداته الأربعة) أن هناك بوناً شاسعاً بين ما دونه ابن أبي الحديد، وبين ما درسته في دروس التاريخ الإسلامي أثناء مراحل الدراسة الثلاث (الابتدائية، والثانوية، ودار المعلمين العالية):
سواء أكان الذي درسته مسطوراً في كتب التاريخ المدرسي أم متصلا بما ذكره المدرسون.
فطفقت أبحث عن (الحقيقة) في أمهات كتب التاريخ الإسلامي.
وقد أتاح لي إقصائي عن خدمة الحكومة (كما استلزمت ذلك المصلحة العامة التي
قدرها السيد أرشد العمري رئيس الوزراء والدكتور عبد الحميد كاظم وزير المعارف آنذاك) فرصة نادرة البحث في هذا الموضوع بالذات.
وقد بقي هذا الموضوع يلاحقني منذ ذلك الحين: فبرز على بن أبي طالب أمامي كالعملاق: كلما (انتهيت) من البحث في أحد جوانبه تجسمت ضآلة ذلك البحث (على الرغم مما أبذله من جهد في تهيئنه).
واندفعت إلى البحث في جانب تلك الحياة الزاخرة بضروب الفضيلة والمجد. فكأنني لا أنتهى من البحث في جانب معين من جوانبها إلا لأتفرغ إلى البحث في جانب آخر.
ولست أدري - وأيم الحق - متى أنتهى من هذا. نقول:
إنه يستمد مقوماته العامة في البحث من طبيعة مشلات المجتمع الإنساني المعاصر في الأخلاق والسياسة والاقتصاد، وإن كانت حوادثه قد وقعت - من الناحية التاريخية - قبل زهاء ثلاثة عشر قونا.
لقد بحثت كما سيرى القارئ عند مطالعته هذا الكتاب حياة (على) مجردة من كال شيء إلا من مقوماته الشخصية وتصرفاته العامة في القول وفي العمل - كما يبحث الكتاب المعاصرون في حياة السياسة ورجال الفكر من القدامي والمحدثين أمثال: أفلاطون ونابليون وموسوليني وروزفلت وستمالين وجرجل...
وقد ساقنى البحث بحكم تشعبه - واستكمالا لمستلزماته من الناحية التاريخية إلى التحدث عن الموازنة بين على ومعاصريه من الحكام - وخاصة في الفصل الرابع من الكتاب. فأطلقت طائفة من الأحكام الاجتماعية - التي قد تبدو صارمة بنظر بعض القراء -
على أن تلك الأحكام - مع هذا - تحتمل الخطأ والصواب. وهي قابلة للنقد والتجريح من قبل المعنيين بدراسة أمثال هذه الأبحاث.
ولهذا فإني أرحب غاية الترحيب بكل تعليق نزيه ومناقشة علمية يصدرها المختصون في هذا الباب.
بغداد في: ١٦/١١/١٩٥٧
(نوري جعفر)
مقدمة
يسرني أن أضع بين يدي القارئ هذه الدراسة عن فلسفة الحكم عند الإمام. بحثت في الفصل الأول منها: الجانب الأخلاقي، وفي الفصل الثاني الجانب السياسي وفي الفصل الثالث الجانب المالي.
أما الفصل الرابع فيروى للقارئ فلسفة الإمام - في جوانبها الثلاثة - من حيث صلتها بظروف التاريخ وملابساته في النصف الأول من القرن الأول الهجري.
وهذا الفصل مكون من قسمين.
يبحث القسم الأول منهما في أوجه الشبه بين سيرة النبي وسيرة الإمام من جهة، ويتطرق إلى جوانب الاختلاف بين الظروف التي عاش كل منهما فيها من جهة أخرى. وقد سميته بين رسول الله وعلي بن أبي طالب.
ويتناول القسم الثاني منه ضروب المقاومة التي أبداها الانتهازيون وذوو المصالح المركزة لإحباط سياسة الإمام الرامية إلى تطبيق مبدأ المساواة بين المسلمين في شتى مناحى الحياة وفق نصوص القرآن وسيرة النبي وقد سميته: (الإمام وقوى الشر).
لقد ساقى البحث في الفصول الثلاثة الأولى من هذه الدراسة إلى الاعتقاد بأن فلسفة الحكم عند الإمام فلسفة أخلاقية في جوهرها. تستند إلى الفضيلة: تشجعها
وتغرسها في نفوس الناس. وتكافح الرذيلة وتدعو إلى استئصالها من عالم الوجود. تفعل ذلك في الحالتين (الإيجابية والسلبية) في موقفها من الفضيلة والرذيلة في مجال الفكر واليد واللسان.
وهذا يعني أن الأخلاق عند الإمام فكرة وسلوك في آن واحد: سلوك في القول، وسلوك في العمل. أي أن فلسفة الحكم عند الإمام، بعبارة أخرى، فلسفة تستند - من حيث الأساس - إلى وحدة الوسائل والغايات.
وهي بهذا المعنى تمقت الوصولية أو الانتهازية بشتى صورها ومختلف مجالاتها. والسير وفق المثل الأخلاقية العليا التي جاء بها الإسلام - عقيدة وقولا وفعلا - في ميدان الإدارة العامة لتعيين الصلة (نوعها ومداها) بين الحكومة والشعب من حيث حقوق الأفراد وواجباتهم العامة هو الجانب السياسي لفلسفة الحكم عند الإمام.
ويتجلى هذا الجانب من جوانب فلسفة الحكم عند الإمام بأروع أشكاله إذا تذكرنا أن السياسة ترتبط (من حيث الصلة بين جوانبها النظرية والعملية) بأذهان كثير من الناس ببعدها عن مستويات الأخلاق الرفيعة.
وسبب ذلك على ما يبدو هو أن السياسة - كالشعراء بنظر القرآن - يقولون ما لا يفعلون. وبعبارة أدق يفعلون نقيض ما يقولون. وقد أفرد الكاتب الايطالي الذائع الصيت - ميكافيلي - كتابا خاصا وضعه في مطلع القرن السادس عشر (للموازنة بين أقوال السياسة في مجتمعه وبين أفعالهم التي تناقضها) سماه (الأمير). فوصف السياسي الحاكم بأنه (الشخص الذي يكون خلقه مزمجا من الإنسانية. فلا هو بالإنسان الصرف ولا الحيوان الصرف في تصرفاته تجاه الخاضعين له).
على أنه في الجانب الحيواني يكون كالأسد تارة وكالثعلب تارة أخرى.
فالأسد لا يستطيع أن يتغلب على الخصم أو أن يتملص من شراكه بالحيلة والمراوغة أو المداهنة إذا اقتضى الأمر ذلك.
ولا يستطيع الثعلب أن يتغلب على الخصم أو يتخلص من شراكه بالقوة الجسمية إذا استلزمت الظروف ذلك.
ومن أبرز صفات السياسي الناجح انتفاء وجود أية عقيدة لديه اللهم إلا عقيدة اللاعقيدة. لأن اعتناق عقيدة معينة والسير وفق مستلزماتها لا يتفق دائما هو ومصلحة السياسي ز فهو كالماء يتكيف حسب الاناء الذي يحل فيه.
أما الجانب المالي من فلسفة الحكم عند الإمام فهو المسير في النهج الذي ذكرناه في مجال الثروة والخدمات العامة من حيث الإنتاج والتداول والاستهلاك، وما يتصل بذلك من روابط اجتماعية في الحالتين: السلبية، والايجابية بين أفراد الشعب من جهة وبينهم - منفردين ومجتمعين - وبين الحكومة من جهة أخرى.
وفي ضوء ما ذكرنا نستطيع أن نقول:
أن الامام سعى - عن طريق تصرفاته العادلة - الخاصة والعامة في العقيدة والقول والفعل مع أنصاره وخصومه - إلى تهيئة الظروف الاجتماعية الملائمة لنمو الفضيلة وازدهارها في شتى ميادين الحياة.
وسبب ذلك هو أن الفضيلة - بنظره - كالبذرة تحتاج في نموها الكامل إلى أرض صالحة وإلى ظروف مناخية تلائمها.
أما محاولة نشر الفضيلة عن طريق الوعظ (وعدم الترفع عن تعاطى الرذيلة في العمل) فقد ثبت فشلها.
ومما تجدر الاشارة إليه في هذا الصدد أن أية فلسفة في الحكم يراد تطبيقها في مجتمع
من المجتمعات لا تعمل (في جوانبها النظرية والعملية التطبيقية) إلا ضمن إطار اجتماعي تنتشر فيه آثار الماضي القريب والبعيد من الناحيتين المادية والفكرية.
ولا يتسنى تنقية الجو الاجتماعي وتهيئته لقبول فلسفة جديدة في الحكم إلا عن طريق تبديل عادات أفراده وعقائدهم القديمة التي لا تنسجم هي والفلسفة الجديدة في الحكم.
غير إن ذلك الأمر على جانب من الصعوبة كبير. وهو - مع ذلك - أصعب في جوانبه التطبيقية منه في جوانبه النظرية.
فقد يرضخ كثير من الناس للأمر الواقع - كما يقال - ويستسلمون (راضين أو مكرهين، مؤمنين أو متظاهرين) للفلسفة الجديدة. ولكنهم يتمردون عليها - من الناحية العملية التطبيقية - وبخاصة إذا كان ذلك يعمل على حفظ مصالحهم.
يضاف إلى ذلك أن التسليم - الحقيقي - بالجوانب النظرية لفلسفة معينة في الحكم لا يسور صاحبه إلى العمل وفق مستلزمات تلك الفلسفة إلا إلى الهدى الذي يتناسب هو وعمق ذلك التسليم. فهو كالطاقة التي تنشط صاحبها إلى أمد ثم تزول. ويتجلى مقدار تعلق الشخص بفلسفة معينة بمدى التضحية التي يقدمها في سبيلها وخاصة في جوانبها التطبيقية.
أما الحاكم فيقاس ذلك عنده بمدى التزامة في القول وفي العمل - في تصرفاته العامة والخاصة مع خصومه وأنصاره على السواء.
وقد بلغ (على) الذروة في هذا الباب.
إن مقياس نجاح الحاكم - بنظر الإمام - ليس هو البقاء في دست الحكم والتخلص من المناوئين والمعارضين والخصوم واستمالة الناس بالوسائل الفاسدة مثل الضغط والتخويف أو الرشوة والملاينة. كلا.
إن مقياس نجاح الحاكم، بنظر الإمام ينحصر بمدى الوعي الذي يثيره في
الرعية لتفهم طبيعة مشكلات المجتمع الذي يعيشون فيه والمساهمة الايجابية المباشرة وغير المباشرة في علاج تلك المشكلات بالأسلوب السليم وضمن إطار يتجه سيره العام نحو تحقيق العدالة الاجتماعية في جميع مناحى الحياة.
ووظيفة الحاكم الناجح - في هذه الناحية - هي قيادة سفينة المجتمع في الاتجاه الآنف الذكر.
وهذا الأمر - كما لا يخفى - من أصعب الأمور وخاصة في جوانبه الواقعية العملية.
وإذا كان الأمر كذلك فإن تحقيقه لا يتم في نطاقه الواسع أثناء حياة ذلك الحاكم من الناحية الزمنية.
وإذا صح ما ذهبنا إليه جاز لنا أن نقول أن الحاكم الناجح هو الذي يسير بالاتجاه السليم في فترة حكمه.
أما الاستمرار على ذلك الاتجاه بعد وفاته فأمر لابد من حدوثه في المدى البعيد رغم ما يعترضه من صعوبات ومزالق يضعها في طريقه الحكام الفاسدون.
هذا من جهة ومن جهة ثانية فليس الاسلام بنظرنا مقصورا على مجموعة من العقائد والطقوس والعبادات، بل هو - بالاضافة إلى ذلك - مجموعة من المثل العليا والمبادئ الاجتماعية السامية في حقل السياسة والأخلاق. وجوانبه الاجتماعية - بنظرنا - لا تقل أهميتها عن جوانبه العقائدية في مجال الطقوس والعبادات.
ومن يدرى فلعل الجوانب العقائدية وسيلة لرفع مستويات الأخلاق عند الناس وتبدو أهمية ذلك واضحة في تصرفات الحاكم تجاه المحكومين.
وعلى هذا الأساس تصبح رسالة الإسلام غير مستوفية الشروط، في جوانبها
العامة، من الناحية السياسية إذا لم يكافح الحاكم وثنية المحكومين في الذوق والسياسة والأخلاق.
ولعل اهتمام الإمام بهذا الجانب من جوانب الدين أحد أسرار خلوده على مر الأزمان.
ذلك ما يتصل بالفصول الثلاثة الأولى من هذه الدراسة.
أما الفصل الرابع فيروى للقارئ - كما ذكرت - فلسفة الإمام في جوانبها الثلاثة، من حيث صلتها بظروف التاريخ وملابساته في النصف الأول من القرن الأول للهجرة.
وقد ظهر لي - أثناء بحثي في هذا الوجه من وجوه الموضوع - بأن هناك أوجه شبه كثيرة بين الفترة التي عاش فيها الرسول - منذ نزول الوحي عليه حتى وفاته - وبين الفترة التي عاش فيها الإمام منذ ارتقائه منبر النبي حتى مصرعه.
فكان تاريخ الفترة التي قضاها النبي مبشرا بالإسلام - والتي بلغ طولها زهاء ربع قرن - قد أعيد مضغوطا - في خطوطه العامة بالطبع - اثناء السنوات الخمس التي حكم فيها الإمام. وهناك من جهة ثانية، أوجه شبه كثيرة بين سيرة الرجلين وبين طبيعة المشاكل التي تعرض لها كل منهما. وقد فطن إلى ذلك أو جعفر بن أبي زيد الحسين نقيب البصرة قبل زهاء سبعة قرون فأوجز الخطوط العامة السيرتين - في مواقع التشابه.
وفي الظروف والملابسات التي أحاطت بكل منهما حين قال:
(أنه لا فرق عند من قرأ السيرتين: بين سيرة النبي وسياسة أصحابه أيام حياته وبين سيرة أميرالمؤمنين وسياسة أصحابه أيام حياته.
فكما أن عليا لم يزل أمره مضطربا معهم بالمخالفة والعصيان والهرب إلى أعدائه وكثرة الفتن والحروب فكذلك كان النبي... فمن تأمل حال الرجلين وجدهما متشابهين في جميع أمورهما أو في أكثرها. وذلك لأن حروب رسول الله مع المشركين كانت سجالا: انتصر يوم بدر وانتصر المشركون عليه يوم أحد وكانت يوم الخندق كفافا... ثم حارب بعدها قريش يوم الفتح فكان له الظفر.
وهكذا كانت حروب على: انتصر يوم الجمل وخرج الأمر بينه وبين معاوية على سواء في صفين ثم حارب بعد صفين ثم حارب بعد صفين أهل النهروان فكان الظفر له.
ومن العجب أن أول حروب رسول الله كانت بدراً، وكان هو المنصور فيها، وأول حروب (على) الجمل وكان هو المنصور فيها. ثم كان من صحيفة الصلح والهدنة يوم الحديبية ويوم صفين.
ثم دعا معاوية - في آخر أيام على - إلى نفسه وتسمى بالخلافة، كما أن مسيلمة والأسود العنسى دعوا إلى أنفسهما في آخر أيام النبي.
ولم يحارب رسول الله أحد من العرب إلا قريش ما عدا يوم حنين.
ولم يحارب عليا من العرب أحد إلا قريش ما عدا يوم النهروان(1) ).
لقد حاول رسول الله أن يرفع العرب من حضيض الجاهلية إلى الإسلام بمستوياته الرفيعة في الدين وفي الذوق وفي الأخلاق. وبالرغم من الجهود التي بذلها النبي في هذا السبيل فقد بقي الكثيرون من العرب وثنيين - مقنعين - نماذج سلوكهم الشراسة والمساجة ولا ذوق لدى الكثيرين منهم بحيث أن بعضهم يبول في المسجد بمحضر من رسول الله(2) وبعضهم يناديه بمنتهى الخشونة والقحة من وراء
____________________
(1) ابن أبي الحديد (شرح نهج البلاغة) م 573 - 575.
(2)الغزالي، إحياء علوم الدين 2 / 254.
الحجرات(1) ، وبعضهم يدخل بيوت النبي دون إذن منه(2) وبعضهم يترك الرسول خطيباً يوم الجمعة ويلحق بدحية بن خليفة عند قدومه بتجارة من الشام(3) . وما شاكل ذلك مما نستطيع أن نسمى منه الكثير.
غير إن الرسول - مع هذا - قد نجح قبل وفاته في التبشير برسالته الاصلاحية الخالدة المستمدة من القرآن العزيز. وقد اقتفى على أثره في هذا السبيل.
ترى ما الذي حال بين الإمام وبين انتشار نهجه القويم في الحكم؟ وبعبارة أخرى لماذا صرع الامام قبل انجاز رسالته الخالدة المستمدة من القرآن وسنة النبي؟
أي لماذا أخفق خصوم النبي في القضاء عليه أو تعطيل رسالته ولم يخفق خصوم الإمام؟
هناك على ما أرى أربعة عوامل كبرى أدت إلى ذلك. هي:
1 - كان المجال الذي تحدث فيه تصرفات الرسول أكثر سعة ومرونة من المجال الذي تحدث فيه تصرفات الإمام، وسبب ذلك أن الوحي بجانب النبي ينزل عليه بالتدريج وبصورة مستمرة ولم يفارقه منذ نبوته حتى وفاته.
فكان الوحي ينزل عليه طريا في كل مناسبة ليعين له النهج الذي ينبغي له أن
____________________
(1) سورة الحجرات:( إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ )
(2) سورة الأحزاب:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَىٰ طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَٰكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَٰلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ.. ) (وفي سورة النور:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّىٰ تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَىٰ أَهْلِهَا... ) .
(3) سورة الجمعة:( وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا.. )
يسير عليه - في حياته الخاصة والعامة مع خصومه وأنصاره على السواء - ضمن نطاق الإسلام الذي كان إذ ذاك في طريقه إلى النمو والتكامل.
فكان الوحي يخرج النبي من المآزق الحرجة - في حالة مواجهته إياها - أحيانا، ويعمل على صيانته من التعرض لها قبل وقوعها أحيانا أخرى.
وهذا يعني: أن إطار تصرفات النبي كان يتسع بصورة مستمرة: يتكيف أحيانا بتكيف الزمان والمكان ويكيفهما أحيانا أخرى حسب مستلزمات الدين الحنيف.
أكان ذلك يتم أحيانا عن طريق النسخ - كما جاء في سورة البقرة - مثلا -:
( مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ... ) ،
وفي سورة الرعد:
( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ ( 38 ) يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ) .
وعن طريق الخروج على المألوف أحيانا أخرى - كما جاء في سورة البقرة:( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللَّهِ... ) هذا في الأمور العامة.
أما في الأمور الخاصة التي تتصل مباشرة بشخص النبي أو زوجاته فإن الأمر يسير بالاتجاه الذي ذكرناه.
وإذا تردد الرسول - أحيانا - في تنفيذ بعض ما يرى فيه مصلحة المسلمين
نزل عليه الوحي واضحاً صريحاً لا يخلو من العنف في كثير من الحالات. ولعل قضية زينب بنت جحش (بنت عمة أميمة بنت عبد المطلب وأخت عبد الله بن جحش) من أوضح الأمثلة على ما نقول.
أما على فكان يتصرف ضمن حدود الإطار الثابت الذي خلفه له الرسول في القرآن والسيرة المحمدية. ولقد كان بإمكان الامام - لو أراد - أن يخرج على تلك الحدود إذا استلزمت ذلك مصلحة زمينة عارمة كما فعل غيره من الخلفاء ولكنه بقي مقيداً بقيود الدين في تصرفاته كلها.
أي أن النبي كان مشرعا بأمر الله بالطبع ولم يكن على كذلك.
أي أن الوحي - في زمن الرسول - كان إذا نزل انقطع الخلاف (في حالة وقوعه) بين رسول الله وبين أصحابه وتبددت المعارضة وانصاع المسلمون جميعاً للأحكام والتوجيهات التي يتضمنها الوحي النازل في كل حالة من الحالات.
أما (على) فكان عليه أن يستعين بوحي نزل على غيره لمعالجة مشكلة تواجهه لم تكن هي نفسها - بتفاصيلها وظروفها وملابساتها - كتلك التي واجهت الرسول والتي نزل الوحي حسب مستلزماتها - وإن تشابهت الخطوط العامة للمشكلتين.
يرافق ذلك وينتج عنه أن استعانة الامام بالوحي الذي نزل على غيره لمعالجة المشكلة التي بين يديه لا تعمل من نفسها دائماً على قطع الخلاف الذي وقع بينه وبين أتباعه وبذلك لا تتبدد المعارضة ولا ينصاع المسلمون جميعاً للأحكام والتوجيهات التي يتضمنها الوحي الذي يستعين به الإمام.
2 - كان خصوم الرسول مشركين. وكان بإمكانه أن يؤلب المسلمين على حربهم والتنكيل بهم. وكان القرآن بجانبه في هذا السبيل. وكان المشركون - بدورهم - يحاربون رسول الله للقضاء (بصورة مكشوفة وصريحة) على العقيدة الإسلامية وإعلاء راية الشرك وعبادة الأوثان.
فكان الصراع بين النبي وخصومه صراعا مكشوفاً بين عقيدتين، الإيمان بالله بجميع مستلزماته والكفر بالله بمستلزماته جميعها.
وسار الخصمان المتنازعان على ذلك في السر والعلانية دون تستر أو مجاملة أو وجل أو خوف. وكانت الملائكة والريح تقاتل معه في الحالات التي يحتاج بها إليها.
كما جاء في سورة الأحزاب:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا ) .
وكان القرآن يمنع أصحاب النبي من الاتصال بالمشركين أو الإصغاء إلى تخرصات اليهود والمنافقين ويحذرهم عواقب ذلك. جاء في سورة آل عمران:
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تُطِيعُوا فَرِيقًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ ) نزلت هذه الآية على ما يقول الزمخشري(1) عندما (مرشاس ابن قيس اليهودي - وكان عظيم الكفر شديد الطعن على المسلمين شديد الحسد لهم - على نفر من الأنصار من الأوس والخزرج في مجلس لهم يتحدثون فغاضه ذلك: حيث تألفوا واجتمعوا بعد الذي كان بينهم في الجاهلية من العداوة...
فأمر شاباً - من اليهود - أن يجلس إليهم ويذكرهم يوم بعاث وينشدهم بعض ما قيل فيه من الأشعار - وكان يوماً اقتتلت فيه الأوس والخزرج وكان الظفر فيه للأوس. ففعل ذلك فتنازع القوم - عند ذلك - وتفاخروا وتغاضبوا وقالوا السلاح السلاح. فبلغ ذلك رسول الله فخرج إليهم - فيمن معه من المهاجرين والأنصار.
فقال: أتدعون الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد إذ أكرمكم الله بالإسلام وقطع
____________________
(1) تفسير الكشاف 1 / 301.
به عنكم أمر الجاهلية وألف بينكم؟). وجاه في سورة المجادلة:( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِم مَّا هُم مِّنكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) .
عندما كان المنافقون يتولون اليهود ويناصحونهم وينقلون إليهم أسرار المؤمنين(1) .
ولما أتت رسول الله بالمدينة - وهو يتجهز للفتح - سارة (مولاة أبي عمرو بن صيفي ابن هاشم) وهي مشركة تريد منه معونة مالية - فأعطاها ورجعت إلى مكة حامله رسالة إلى المشركين من حاطب بن أبي بلتعة يخبرهم بعزم الرسول على فتح مكة نزل قوله في سورة الممتحنه:
( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتّخِذُوا عَدُوّي وَعَدُوّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدّةِ ) (2) .
وعندما استلزمت مصلحة المسلمين أن يغزو الرسول بني النضير وينتصر عليهم خاطبه الله في سورة الحشر:
( هُوَ الّذِي أَخْرَجَ الّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنّوا أَنّهُم مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِنَ اللّهِ... ) .
كما نزل قوله - في سورة الحشر أيضا - مؤيداً للاجراءات التي اتخذها الرسول ضدهم وفي مقدمتها أمره بقطع نخيلهم:
( مَا قَطَعْتُم مِن لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ ) (3) .
____________________
(1) الزمخشري الكشاف 4 / 395.
(2) الزمخشري الكشاف 4 / 407.
(3) المصدر نفسه ص 359.
أما خصوم الامام فكانوا - في الظاهر - مسلمين كإسلامه فلم يكن باستطاعته أن يحمل الكثيرين من أتباعه - وخصومهم - على مواصلة القتال ضد المتمردين عليه.
ولم يكن بجانبه وحى لأنه ليس بنبي.
3 - لقد شهدت الفترة التي أعقبت وفاة النبي وانتهت بمصرع عثمان تساهلا في تطبيق حدود الله على المستحقين: بدأ ذلك التساهل خفيفاً في عهد أبي بكر واشتد في زمن عمر وبلغ الذروة في عهد ابن عفان.
فقد أسقط أبوبكر وعمر وعثمان سهم ذي القربى من الغنائم وسهم المؤلفة قلوبهم من الصدقات خلافا لصريح القرآن والسيرة المحمدية. جاء في سورة الأنفال نص صريح على سهم ذي القربى - وعمل به الرسول -:
( وَاعْلَمُوا أَنّمَا غَنِمْتُم مِن شَيْءٍ فَأَنّ للّهِِ خُمُسَهُ وَلِلرّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السّبِيلِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ ... ) .
وورد في سورة التوبة نص صريح على سهم المؤلفة قلوبهم - من الصدقات - وعمل به النبي:
( إِنّمَا الصّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللّهِ. .. ) .
وعطل أبوبكر حداً من حدود الله في قضية المغيرة بن شيعة وفي قبضة غلمان عبد الرحمن بن حاطب بن أبي بلتعة وفي قضية أبي جندل كما سنرى -.
وأما عثمان فقد كثر خروجه على نصوص القرآن وسيرة النبي - كما سنرى.
وكان ذلك من جنس تعطيله حداً من حدود الله في قضية عبيد الله بن عمر ابن الخطاب حين قتل المهرمزان وأبا لؤلؤة وزوجته وطفلته. وأما تعطيله حدود
الله فيما يتصل بالحقوق العامة المسلمين، من الناحيتين الإدارية والمالية، فلا تكاد حوادثه تقع تحت حصر كما سنرى.
وقد ألف كثير من الناس ذلك وأصبح له أنصار ومحبذون من المنتفعين به ومن أصحاب المصالح المركزة.
فلا عجب - والحالة هذه - أن تعرضت سياسة الإمام (الرامية إلى تطبيق حدود الله على المستحقين في جميع مناحى الحياة) إلى مقاومة عنيفة من جانب المتنفذين. وقد انتهت بمصرعه على الشكل المعروف.
4 - وهناك أمر آخر أقرب إلى أن يكون مزيجا مما ذكرناه من أن يكون أمراً قائماً بذاته. وفحواه: أن عليا ارتقى منبر النبي في ظروف مضطربة قلقة انتهت بدايتها بمصرع عثمان.
وهذا يعني أن الخلافة قدمت للامام بعد ثورة دامية لم يساهم هو في إحداثها.
أي إن الامام - بعبارة أخرى - اقتطف ثمار ثورة قام بها غيره -: من حيث التمهيد لحدوثها ومن حيث الاشتراك الفعلي في حوادثها.
فطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام وعمرو بن العاص - وهم رؤوس الفتنة على عثمان - قد راعهم انتقال الخلافة لعلى فقاوموه (لتعارضه مع مصالحهم) تحت ستار المطالبة بدم الخليفة القتيل.
ورجال الثورة من المصريين والكوفيين والبصريين لم ينتفعوا بالوضع الجديد كما كانوا يتوقعون - فقاوموه. نقم هؤلاء وأولئك - الثائرون والمحرضون - على (على) كما نقموا على عثمان من قبل - مع اختلاف في عوامل النقمة بين الحالتين:
فقد نقموا على عثمان خروجه في سياسته العامة على الدين ولكنهم نقموا على على تمسكه بالدين في سياسته العامة.
والشيء الذي لا يرقى إليه الشك - بقدر ما يتعلق الأمر برغبة الإمام في تسنم إمرة المسلمين - هو أنه أراد عن ذلك الطريق إشاعة العدل بين الناس وفق مستلزمات الدين الحنيف.
(اللهم إنك تعلم أنه لم يكن الذي كان منا منافسة في سلطان ولا التماس شيء من فضول الحطام. ولكن لنرد المعالم من دينك ونظهر الإصلاح في بلادك: فيأمن المظلومون وتقام المعطلة من حدودك).
فالإمام لا يريد الخلافة للأبهة أو الانتفاع الهادى أو المعنوي - كما فعل غيره.
وإنما أرادها وسيلة يعيد بها للإسلام هيبته في الحكم بعد التصدع الذي أصابه منذ وفاة الرسول حتى مصرع عثمان.
وبما أن الكثيرين من أفراد الشعب قد ألفوا حياة التساهل في تطبيق حدود الله لذلك لم يسهل عليهم أن يتجرعوا مرارة الحق وصرامة العدل فقصروا عن اللحاق بالإمام وضعفوا عن الالتفاف حوله.
وشعر الإمام بذلك فأوسعهم بأمض العتاب وأعنف التأنيب:
(كم أداريكم كما تداري البكار العمدة والثياب المتداعية كلما حيضت من جانب تهتكت من آخر).
فلم يكن جمعهم سهلا على الإمام لأنهم بالاضافة إلى ما ألفوه بعد وفاة النبي من تساهل في تطبيق حدود على المستحقين كما ذكرنا - كانوا يدعون دائماً من قبل خصوم الإمام (في الشام ومناطق أخرى من العراق) إلى الحصول على المال، والجاه، والنفوذ على حساب الدين. ولم يخف ذلك على الإمام (ولم يكن من غير
المستطاع لو أراد الإمام - حاشاه -) أن يداوى الباطل بباطل مثله فيكون كما قال الشاعر:
تداويت من ليلى بليلى ولم يكن |
دواء ولكن كان سقما معاكسا |
(إني لعالم بما يصلحكم ويقيم أودكم. ولكني لا أرى إصلاحكم في إفساد نفسي).
ولو أصلحهم الإمام بإفساد نفسه لما حصل هذا البون الشاسع بينه وبين مناوئيه.
ولما أصبح الإمام في خلقه كالطود ينحدر عنه السيل ولا يرقى إليه الطير. فليس أمره وأمرهم واحداً (إني أريد كم لله وتريدوني لأنفسكم.
أيها الناس أعينوني على أنفسكم: وأيم الحق لأنصفن المظلوم من ظالمه ولأفودن الظالم بخزامته حتى أورده منهل الحق وإن كان كارهاً).
ويتلخص روح فلسفة الحكم عند الإمام بعبارات لا يتجاوز عددها أصابع اليد الواحدة قالها الإمام وهذا نصها:
(الحق أوسع الأشياء في التواصف وأضيقها في التناصف: لا يجرى لأحد إلا جرى عليه ولا يجرى عليه إلا جرى له...
وقد جعل الله من حقوقه حقوقاً لبعض الناس على بعض فجعلها تتكافأ في وجوهها ويوجب بعضها بعضاً ولا يستوجب بعضها إلا ببعض.
وأعظم ما افترض الله من تلك الحقوق حق الوالي على الرعية وحق الرعية على الوالي...
فليست تصلح الرعية إلا بصلاح ولاتها ولا تصلح الولاة إلا باستقامة الرعية.
لقد حدد الإمام في كلمته الآنفة الذكر الصلة بين الحكومة والشعب وفق فلسفته
العامة في الحكم. فوصف تلك الصلة بأنها تقوم على وحدة المصالح المشتركة من جهة وعلى قيام كل من الشعب والحكومة بالتزاماته من جهة أخرى.
أما الهيكل العام لفلسفة الحكم عند الإمام فيمكن وضعه على الشكل الآتي: يتألف المجتمع - بنظره.
من أفراد وعلاقات تربطهم ببعضهم من النواحى الأخلاقية والسياسية والاقتصادية.
ومن دستور تستند إليه تلك العلاقات وما يتصل بها من قوانين وأنظمة في جوانبها النظرية.
ومن هيئة حكومية تتولى الإشراف على ذلك وتنفذ.. والدستور الذي تستند إليه فلسفة الحكم عند الإمام هو كتاب الله.
ووظيفة الهيئة الحكومية - بنظره - هي السير وفق مستلزمات ذلك الدستور النواحي الخلقية والسياسية والمالية في تصرفاتها العامة والخاصة تجاه نفسها وتجاه أتباعها وذوى قرباها وتجاه الرعية قولا وعقيدة وفعلا.
فنقطة البداية في الإصلاح الاجتماعي الشامل عند الإمام إذن هي صلاح الحكام في عقائدهم وأقوالهم وأفعالهم في مجال الخلق والسياسة والاقتصاد. وإذا حصل العكس تدهور المجتمع وسار في طريق الفوضى والانحطاط.
تلك هي الخطوط العامة لفلسفة الحكم عند أبي تراب. وأقواله التي سنذكر جانباً منها ستبقى خالدة تتحدى الزمان والمكان - مع اختلاف في التعابير والمصطلحات حسب مواج العصر الذي تبحث فيه. وأفعاله - المنسجمة مع تلك الأقوال - ستبقى هي الأخرى في عالم الخلود.
فعظمة الإمام كامنة في أقواله بقدر ما هي كامنة في تصرفاته العامة والخاصة مع خصومه وأنصاره على السواء.
ولم يشهد التاريخ على ما نرى حاكماً عادلا مستقيما في العقيدة والقول والفعل كابن أبي طالب.
قال على في إحدى خطبه:
(يا أيها الناس: إني والله ما أحثكم على طاعة إلا أسبقكم إليها، ولا أنهاكم عن معصية إلا أتناهى قبلكم عنها).
ولهذا أصبح الإمام من الفضيلة إنسان عينها بل عين إنسانها كما يقول البلغاء. ولعل عظمته تبدو بأوضح أشكالها إذا وازنا تصرفاته الديمقراطية بنشأته الأرستقراطية.
فقد كان على يشارك الجماهير في وحدة المشاعر والنزعات على الرغم من كونه (بالإضافة إلى مقوماته الشخصية) قد تعلق في نسبه (بمقاييس العرب) - من الثريا بأقراطها - وهو أمر له قيمته الكبرى في المجتمع العربي، وكثيراً ما كان ذلك يعمل على إبعاد صاحبه عن الاحتكاك بمن هم دونه في العلم الاجتماعي.
وعندي أن الأجيال القادمة ستشهد انصراف كثير من الباحثين - من غير العرب والمسلمين - إلى البحث العلمي النزيه في هذه الشخصية التاريخية الفذة.
فكلما تاهت البشرية في صحاري الحيرة من الناحية الأخلاقية.
وكلما اختلت موازينها في السياسة والاقتصاد - وهو أمر على ما يبدو لا سبيل إلى التغلب عليه من الناحية الواقعية في المدى البعيد - برز اسم ابن أبي طالب في مقدمة المرشدين إلى الصراط المستقيم(1) .
بغداد في: 15/10/1957
نوري جعفر
____________________
(1) لقد اقتبسنا كلمات الإمام (التي ذكرناها في هذه المقدمة والكلمات التي سنذكرها في الفصول القابلة من هذه الدراسة) من شرح (نهج البلاغة) لابن أبي الحديد بمجلداته الأربعة، وسوف نشير في آخر هذه الدراسة إلى رقم المجلد ورقم الصفحة التي اخذت منها كلمات الإمام. وغرضنا من ذلك هو عدم ارتباط القارئ أثناء المطالعة بإشارات وهوامش كثيرة العدد قد تقطع عليه سلسلة قراءته.
الجانب الأخلاقي
يستطيع المرء - إذا ما درس (فلسفة الحكم عند الإمام) بشيء من التحليل والتعمق - أن يصفها بأنها أخلاقية في جوهرها. تستند إلى الفضيلة: تشجعها وتغرسها في نفوس. وتكافح الرذيلة وتدعو إلى استئصالها من عالم الوجود. تفعل ذلك في مجال الفكر واليد واللسان.
وهذا يعني: أن الأخلاق عند الإمام فكرة وسلوك في آن واحد: سلوك في العمل. والناس بنظره ثلاثة أصناف:
(فمنهم المنكر للمنكر بيده وقلبه ولسانه فذلك المستكمل لخصال الخير.
ومنهم المفكر بلسانه وقلبه والتارك بيده فذلك متمسك بخصلتين من خصال الخير ومضيع خصلة.
ومنهم المنكر بقلبه والتارك بيده ولسانه فذلك الذي ضيع أشرف الخصلتين من الثلاث وتمسك بواحدة.
ومنهم تارك الإنكار بلسانه وقلبه ويده فذلك ميت الأحياء. فالتوافق التام بين عقيدة الإنسان وبين قوله وعمله هو الغاية القصوى التي يدعو الإمام إلى غرسها في نفوس الناس. والعقيدة - بالطبع - هي الأساس الذي يستند إليه المرء في قوله وعمله.
فإذا سلمت العقيدة - من الناحية الخلقية -. سلمت الأقوال والأفعال المنبثقة عنها وبالعكس. ولا فرق عند الإمام بين فساد العقيدة وصلاحها إذا لم يكن السلوك - في القول وفي العمل - منسجما معها في حالة سلامتها.
ومن يدري فلعل العقيدة الفاسدة أقل ضرراً بالمجتمع من العقيدة السليمة التي لا تنسجم أقوال من يدعى أنه يحملها مع أفعاله في المدى القريب على أحسن الفروض.
ذلك لأن الناس يسلمون مقدما بفساد تلك العقيدة - باعتراف صاحبها - فيحزمون أمرهم على مقاومته ومقاومتها بجميع الوسائل المتيسرة لديهم.
أما المتظاهر بحمل عقيدة سليمة فليس من السهل إجماع الناس على مقاومته وبخاصة إذا ما وجد من يبرر بعض أقواله وأعماله غير المنسجمة معها.
يتضح ذلك بأجلى مظاهره في صفوف الحكام - القدامى والمحدثين - أكثر منه في صفوف الرعية. ولذلك سهلت مقاومة الحاكم الفاجر المكشوف وصعبت مقاومة الحاكم الفاجر المستور.
وفي التاريخ أمثلة كثيرة تعزز ما نقول.
وقد وضع الإمام القاعدة الأخلاقية (والتي ذكرناها في تصنيفه الناس) بشكلها السلبي لعلمه أن إنكار المنكر - باليد واللسان والقلب - معناه، من الناحية الإيجابية، التهيؤ لإشاعة غير المنكر فكرة وقولا وعملا. على أن ذلك بنظره من أصعب الأمور.
(فما أصعب اكتساب الفضائل وأيسر إتلافها!!).
وما أصعب (على من استعبدته الشهوات أن يكون فاضلا.) ولكن إشاعة غير المنكر، مع هذا، أصعب من مقاومة المنكر في الأعم الأغلب.