فلسفة الحكم عند الإمام

فلسفة الحكم عند الإمام0%

فلسفة الحكم عند الإمام مؤلف:
الناشر: القاهرة دار المعلّم للطباعة
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 200

فلسفة الحكم عند الإمام

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الدكتور نوري جعفر
الناشر: القاهرة دار المعلّم للطباعة
تصنيف: الصفحات: 200
المشاهدات: 8348
تحميل: 3372

توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 200 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 8348 / تحميل: 3372
الحجم الحجم الحجم
فلسفة الحكم عند الإمام

فلسفة الحكم عند الإمام

مؤلف:
الناشر: القاهرة دار المعلّم للطباعة
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مقدمة

يسرني أن أضع بين يدي القارئ هذه الدراسة عن فلسفة الحكم عند الإمام. بحثت في الفصل الأول منها: الجانب الأخلاقي، وفي الفصل الثاني الجانب السياسي وفي الفصل الثالث الجانب المالي.

أما الفصل الرابع فيروى للقارئ فلسفة الإمام - في جوانبها الثلاثة - من حيث صلتها بظروف التاريخ وملابساته في النصف الأول من القرن الأول الهجري.

وهذا الفصل مكون من قسمين.

يبحث القسم الأول منهما في أوجه الشبه بين سيرة النبي وسيرة الإمام من جهة، ويتطرق إلى جوانب الاختلاف بين الظروف التي عاش كل منهما فيها من جهة أخرى. وقد سميته بين رسول الله وعلي بن أبي طالب.

ويتناول القسم الثاني منه ضروب المقاومة التي أبداها الانتهازيون وذوو المصالح المركزة لإحباط سياسة الإمام الرامية إلى تطبيق مبدأ المساواة بين المسلمين في شتى مناحى الحياة وفق نصوص القرآن وسيرة النبي وقد سميته: (الإمام وقوى الشر).

لقد ساقى البحث في الفصول الثلاثة الأولى من هذه الدراسة إلى الاعتقاد بأن فلسفة الحكم عند الإمام فلسفة أخلاقية في جوهرها. تستند إلى الفضيلة: تشجعها

٢١

وتغرسها في نفوس الناس. وتكافح الرذيلة وتدعو إلى استئصالها من عالم الوجود. تفعل ذلك في الحالتين (الإيجابية والسلبية) في موقفها من الفضيلة والرذيلة في مجال الفكر واليد واللسان.

وهذا يعني أن الأخلاق عند الإمام فكرة وسلوك في آن واحد: سلوك في القول، وسلوك في العمل. أي أن فلسفة الحكم عند الإمام، بعبارة أخرى، فلسفة تستند - من حيث الأساس - إلى وحدة الوسائل والغايات.

وهي بهذا المعنى تمقت الوصولية أو الانتهازية بشتى صورها ومختلف مجالاتها. والسير وفق المثل الأخلاقية العليا التي جاء بها الإسلام - عقيدة وقولا وفعلا - في ميدان الإدارة العامة لتعيين الصلة (نوعها ومداها) بين الحكومة والشعب من حيث حقوق الأفراد وواجباتهم العامة هو الجانب السياسي لفلسفة الحكم عند الإمام.

ويتجلى هذا الجانب من جوانب فلسفة الحكم عند الإمام بأروع أشكاله إذا تذكرنا أن السياسة ترتبط (من حيث الصلة بين جوانبها النظرية والعملية) بأذهان كثير من الناس ببعدها عن مستويات الأخلاق الرفيعة.

وسبب ذلك على ما يبدو هو أن السياسة - كالشعراء بنظر القرآن - يقولون ما لا يفعلون. وبعبارة أدق يفعلون نقيض ما يقولون. وقد أفرد الكاتب الايطالي الذائع الصيت - ميكافيلي - كتابا خاصا وضعه في مطلع القرن السادس عشر (للموازنة بين أقوال السياسة في مجتمعه وبين أفعالهم التي تناقضها) سماه (الأمير). فوصف السياسي الحاكم بأنه (الشخص الذي يكون خلقه مزمجا من الإنسانية. فلا هو بالإنسان الصرف ولا الحيوان الصرف في تصرفاته تجاه الخاضعين له).

على أنه في الجانب الحيواني يكون كالأسد تارة وكالثعلب تارة أخرى.

٢٢

فالأسد لا يستطيع أن يتغلب على الخصم أو أن يتملص من شراكه بالحيلة والمراوغة أو المداهنة إذا اقتضى الأمر ذلك.

ولا يستطيع الثعلب أن يتغلب على الخصم أو يتخلص من شراكه بالقوة الجسمية إذا استلزمت الظروف ذلك.

ومن أبرز صفات السياسي الناجح انتفاء وجود أية عقيدة لديه اللهم إلا عقيدة اللاعقيدة. لأن اعتناق عقيدة معينة والسير وفق مستلزماتها لا يتفق دائما هو ومصلحة السياسي ز فهو كالماء يتكيف حسب الاناء الذي يحل فيه.

أما الجانب المالي من فلسفة الحكم عند الإمام فهو المسير في النهج الذي ذكرناه في مجال الثروة والخدمات العامة من حيث الإنتاج والتداول والاستهلاك، وما يتصل بذلك من روابط اجتماعية في الحالتين: السلبية، والايجابية بين أفراد الشعب من جهة وبينهم - منفردين ومجتمعين - وبين الحكومة من جهة أخرى.

وفي ضوء ما ذكرنا نستطيع أن نقول:

أن الامام سعى - عن طريق تصرفاته العادلة - الخاصة والعامة في العقيدة والقول والفعل مع أنصاره وخصومه - إلى تهيئة الظروف الاجتماعية الملائمة لنمو الفضيلة وازدهارها في شتى ميادين الحياة.

وسبب ذلك هو أن الفضيلة - بنظره - كالبذرة تحتاج في نموها الكامل إلى أرض صالحة وإلى ظروف مناخية تلائمها.

أما محاولة نشر الفضيلة عن طريق الوعظ (وعدم الترفع عن تعاطى الرذيلة في العمل) فقد ثبت فشلها.

ومما تجدر الاشارة إليه في هذا الصدد أن أية فلسفة في الحكم يراد تطبيقها في مجتمع

٢٣

من المجتمعات لا تعمل (في جوانبها النظرية والعملية التطبيقية) إلا ضمن إطار اجتماعي تنتشر فيه آثار الماضي القريب والبعيد من الناحيتين المادية والفكرية.

ولا يتسنى تنقية الجو الاجتماعي وتهيئته لقبول فلسفة جديدة في الحكم إلا عن طريق تبديل عادات أفراده وعقائدهم القديمة التي لا تنسجم هي والفلسفة الجديدة في الحكم.

غير إن ذلك الأمر على جانب من الصعوبة كبير. وهو - مع ذلك - أصعب في جوانبه التطبيقية منه في جوانبه النظرية.

فقد يرضخ كثير من الناس للأمر الواقع - كما يقال - ويستسلمون (راضين أو مكرهين، مؤمنين أو متظاهرين) للفلسفة الجديدة. ولكنهم يتمردون عليها - من الناحية العملية التطبيقية - وبخاصة إذا كان ذلك يعمل على حفظ مصالحهم.

يضاف إلى ذلك أن التسليم - الحقيقي - بالجوانب النظرية لفلسفة معينة في الحكم لا يسور صاحبه إلى العمل وفق مستلزمات تلك الفلسفة إلا إلى الهدى الذي يتناسب هو وعمق ذلك التسليم. فهو كالطاقة التي تنشط صاحبها إلى أمد ثم تزول. ويتجلى مقدار تعلق الشخص بفلسفة معينة بمدى التضحية التي يقدمها في سبيلها وخاصة في جوانبها التطبيقية.

أما الحاكم فيقاس ذلك عنده بمدى التزامة في القول وفي العمل - في تصرفاته العامة والخاصة مع خصومه وأنصاره على السواء.

وقد بلغ (على) الذروة في هذا الباب.

إن مقياس نجاح الحاكم - بنظر الإمام - ليس هو البقاء في دست الحكم والتخلص من المناوئين والمعارضين والخصوم واستمالة الناس بالوسائل الفاسدة مثل الضغط والتخويف أو الرشوة والملاينة. كلا.

إن مقياس نجاح الحاكم، بنظر الإمام ينحصر بمدى الوعي الذي يثيره في

٢٤

الرعية لتفهم طبيعة مشكلات المجتمع الذي يعيشون فيه والمساهمة الايجابية المباشرة وغير المباشرة في علاج تلك المشكلات بالأسلوب السليم وضمن إطار يتجه سيره العام نحو تحقيق العدالة الاجتماعية في جميع مناحى الحياة.

ووظيفة الحاكم الناجح - في هذه الناحية - هي قيادة سفينة المجتمع في الاتجاه الآنف الذكر.

وهذا الأمر - كما لا يخفى - من أصعب الأمور وخاصة في جوانبه الواقعية العملية.

وإذا كان الأمر كذلك فإن تحقيقه لا يتم في نطاقه الواسع أثناء حياة ذلك الحاكم من الناحية الزمنية.

وإذا صح ما ذهبنا إليه جاز لنا أن نقول أن الحاكم الناجح هو الذي يسير بالاتجاه السليم في فترة حكمه.

أما الاستمرار على ذلك الاتجاه بعد وفاته فأمر لابد من حدوثه في المدى البعيد رغم ما يعترضه من صعوبات ومزالق يضعها في طريقه الحكام الفاسدون.

هذا من جهة ومن جهة ثانية فليس الاسلام بنظرنا مقصورا على مجموعة من العقائد والطقوس والعبادات، بل هو - بالاضافة إلى ذلك - مجموعة من المثل العليا والمبادئ الاجتماعية السامية في حقل السياسة والأخلاق. وجوانبه الاجتماعية - بنظرنا - لا تقل أهميتها عن جوانبه العقائدية في مجال الطقوس والعبادات.

ومن يدرى فلعل الجوانب العقائدية وسيلة لرفع مستويات الأخلاق عند الناس وتبدو أهمية ذلك واضحة في تصرفات الحاكم تجاه المحكومين.

وعلى هذا الأساس تصبح رسالة الإسلام غير مستوفية الشروط، في جوانبها

٢٥

العامة، من الناحية السياسية إذا لم يكافح الحاكم وثنية المحكومين في الذوق والسياسة والأخلاق.

ولعل اهتمام الإمام بهذا الجانب من جوانب الدين أحد أسرار خلوده على مر الأزمان.

ذلك ما يتصل بالفصول الثلاثة الأولى من هذه الدراسة.

أما الفصل الرابع فيروى للقارئ - كما ذكرت - فلسفة الإمام في جوانبها الثلاثة، من حيث صلتها بظروف التاريخ وملابساته في النصف الأول من القرن الأول للهجرة.

وقد ظهر لي - أثناء بحثي في هذا الوجه من وجوه الموضوع - بأن هناك أوجه شبه كثيرة بين الفترة التي عاش فيها الرسول - منذ نزول الوحي عليه حتى وفاته - وبين الفترة التي عاش فيها الإمام منذ ارتقائه منبر النبي حتى مصرعه.

فكان تاريخ الفترة التي قضاها النبي مبشرا بالإسلام - والتي بلغ طولها زهاء ربع قرن - قد أعيد مضغوطا - في خطوطه العامة بالطبع - اثناء السنوات الخمس التي حكم فيها الإمام. وهناك من جهة ثانية، أوجه شبه كثيرة بين سيرة الرجلين وبين طبيعة المشاكل التي تعرض لها كل منهما. وقد فطن إلى ذلك أو جعفر بن أبي زيد الحسين نقيب البصرة قبل زهاء سبعة قرون فأوجز الخطوط العامة السيرتين - في مواقع التشابه.

وفي الظروف والملابسات التي أحاطت بكل منهما حين قال:

(أنه لا فرق عند من قرأ السيرتين: بين سيرة النبي وسياسة أصحابه أيام حياته وبين سيرة أميرالمؤمنين وسياسة أصحابه أيام حياته.

٢٦

فكما أن عليا لم يزل أمره مضطربا معهم بالمخالفة والعصيان والهرب إلى أعدائه وكثرة الفتن والحروب فكذلك كان النبي... فمن تأمل حال الرجلين وجدهما متشابهين في جميع أمورهما أو في أكثرها. وذلك لأن حروب رسول الله مع المشركين كانت سجالا: انتصر يوم بدر وانتصر المشركون عليه يوم أحد وكانت يوم الخندق كفافا... ثم حارب بعدها قريش يوم الفتح فكان له الظفر.

وهكذا كانت حروب على: انتصر يوم الجمل وخرج الأمر بينه وبين معاوية على سواء في صفين ثم حارب بعد صفين ثم حارب بعد صفين أهل النهروان فكان الظفر له.

ومن العجب أن أول حروب رسول الله كانت بدراً، وكان هو المنصور فيها، وأول حروب (على) الجمل وكان هو المنصور فيها. ثم كان من صحيفة الصلح والهدنة يوم الحديبية ويوم صفين.

ثم دعا معاوية - في آخر أيام على - إلى نفسه وتسمى بالخلافة، كما أن مسيلمة والأسود العنسى دعوا إلى أنفسهما في آخر أيام النبي.

ولم يحارب رسول الله أحد من العرب إلا قريش ما عدا يوم حنين.

ولم يحارب عليا من العرب أحد إلا قريش ما عدا يوم النهروان(1) ).

لقد حاول رسول الله أن يرفع العرب من حضيض الجاهلية إلى الإسلام بمستوياته الرفيعة في الدين وفي الذوق وفي الأخلاق. وبالرغم من الجهود التي بذلها النبي في هذا السبيل فقد بقي الكثيرون من العرب وثنيين - مقنعين - نماذج سلوكهم الشراسة والمساجة ولا ذوق لدى الكثيرين منهم بحيث أن بعضهم يبول في المسجد بمحضر من رسول الله(2) وبعضهم يناديه بمنتهى الخشونة والقحة من وراء

____________________

(1) ابن أبي الحديد (شرح نهج البلاغة) م 573 - 575.

(2)الغزالي، إحياء علوم الدين 2 / 254.

٢٧

الحجرات(1) ، وبعضهم يدخل بيوت النبي دون إذن منه(2) وبعضهم يترك الرسول خطيباً يوم الجمعة ويلحق بدحية بن خليفة عند قدومه بتجارة من الشام(3) . وما شاكل ذلك مما نستطيع أن نسمى منه الكثير.

غير إن الرسول - مع هذا - قد نجح قبل وفاته في التبشير برسالته الاصلاحية الخالدة المستمدة من القرآن العزيز. وقد اقتفى على أثره في هذا السبيل.

ترى ما الذي حال بين الإمام وبين انتشار نهجه القويم في الحكم؟ وبعبارة أخرى لماذا صرع الامام قبل انجاز رسالته الخالدة المستمدة من القرآن وسنة النبي؟

أي لماذا أخفق خصوم النبي في القضاء عليه أو تعطيل رسالته ولم يخفق خصوم الإمام؟

هناك على ما أرى أربعة عوامل كبرى أدت إلى ذلك. هي:

1 - كان المجال الذي تحدث فيه تصرفات الرسول أكثر سعة ومرونة من المجال الذي تحدث فيه تصرفات الإمام، وسبب ذلك أن الوحي بجانب النبي ينزل عليه بالتدريج وبصورة مستمرة ولم يفارقه منذ نبوته حتى وفاته.

فكان الوحي ينزل عليه طريا في كل مناسبة ليعين له النهج الذي ينبغي له أن

____________________

(1) سورة الحجرات:( إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ )

(2) سورة الأحزاب:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَىٰ طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَٰكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَٰلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ.. ) (وفي سورة النور:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّىٰ تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَىٰ أَهْلِهَا... ) .

(3) سورة الجمعة:( وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا.. )

٢٨

يسير عليه - في حياته الخاصة والعامة مع خصومه وأنصاره على السواء - ضمن نطاق الإسلام الذي كان إذ ذاك في طريقه إلى النمو والتكامل.

فكان الوحي يخرج النبي من المآزق الحرجة - في حالة مواجهته إياها - أحيانا، ويعمل على صيانته من التعرض لها قبل وقوعها أحيانا أخرى.

وهذا يعني: أن إطار تصرفات النبي كان يتسع بصورة مستمرة: يتكيف أحيانا بتكيف الزمان والمكان ويكيفهما أحيانا أخرى حسب مستلزمات الدين الحنيف.

أكان ذلك يتم أحيانا عن طريق النسخ - كما جاء في سورة البقرة - مثلا -:

( مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ... ) ،

وفي سورة الرعد:

( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ ( 38 ) يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ) .

وعن طريق الخروج على المألوف أحيانا أخرى - كما جاء في سورة البقرة:( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللَّهِ... ) هذا في الأمور العامة.

أما في الأمور الخاصة التي تتصل مباشرة بشخص النبي أو زوجاته فإن الأمر يسير بالاتجاه الذي ذكرناه.

وإذا تردد الرسول - أحيانا - في تنفيذ بعض ما يرى فيه مصلحة المسلمين

٢٩

نزل عليه الوحي واضحاً صريحاً لا يخلو من العنف في كثير من الحالات. ولعل قضية زينب بنت جحش (بنت عمة أميمة بنت عبد المطلب وأخت عبد الله بن جحش) من أوضح الأمثلة على ما نقول.

أما على فكان يتصرف ضمن حدود الإطار الثابت الذي خلفه له الرسول في القرآن والسيرة المحمدية. ولقد كان بإمكان الامام - لو أراد - أن يخرج على تلك الحدود إذا استلزمت ذلك مصلحة زمينة عارمة كما فعل غيره من الخلفاء ولكنه بقي مقيداً بقيود الدين في تصرفاته كلها.

أي أن النبي كان مشرعا بأمر الله بالطبع ولم يكن على كذلك.

أي أن الوحي - في زمن الرسول - كان إذا نزل انقطع الخلاف (في حالة وقوعه) بين رسول الله وبين أصحابه وتبددت المعارضة وانصاع المسلمون جميعاً للأحكام والتوجيهات التي يتضمنها الوحي النازل في كل حالة من الحالات.

أما (على) فكان عليه أن يستعين بوحي نزل على غيره لمعالجة مشكلة تواجهه لم تكن هي نفسها - بتفاصيلها وظروفها وملابساتها - كتلك التي واجهت الرسول والتي نزل الوحي حسب مستلزماتها - وإن تشابهت الخطوط العامة للمشكلتين.

يرافق ذلك وينتج عنه أن استعانة الامام بالوحي الذي نزل على غيره لمعالجة المشكلة التي بين يديه لا تعمل من نفسها دائماً على قطع الخلاف الذي وقع بينه وبين أتباعه وبذلك لا تتبدد المعارضة ولا ينصاع المسلمون جميعاً للأحكام والتوجيهات التي يتضمنها الوحي الذي يستعين به الإمام.

2 - كان خصوم الرسول مشركين. وكان بإمكانه أن يؤلب المسلمين على حربهم والتنكيل بهم. وكان القرآن بجانبه في هذا السبيل. وكان المشركون - بدورهم - يحاربون رسول الله للقضاء (بصورة مكشوفة وصريحة) على العقيدة الإسلامية وإعلاء راية الشرك وعبادة الأوثان.

٣٠

فكان الصراع بين النبي وخصومه صراعا مكشوفاً بين عقيدتين، الإيمان بالله بجميع مستلزماته والكفر بالله بمستلزماته جميعها.

وسار الخصمان المتنازعان على ذلك في السر والعلانية دون تستر أو مجاملة أو وجل أو خوف. وكانت الملائكة والريح تقاتل معه في الحالات التي يحتاج بها إليها.

كما جاء في سورة الأحزاب:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا ) .

وكان القرآن يمنع أصحاب النبي من الاتصال بالمشركين أو الإصغاء إلى تخرصات اليهود والمنافقين ويحذرهم عواقب ذلك. جاء في سورة آل عمران:

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تُطِيعُوا فَرِيقًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ ) نزلت هذه الآية على ما يقول الزمخشري(1) عندما (مرشاس ابن قيس اليهودي - وكان عظيم الكفر شديد الطعن على المسلمين شديد الحسد لهم - على نفر من الأنصار من الأوس والخزرج في مجلس لهم يتحدثون فغاضه ذلك: حيث تألفوا واجتمعوا بعد الذي كان بينهم في الجاهلية من العداوة...

فأمر شاباً - من اليهود - أن يجلس إليهم ويذكرهم يوم بعاث وينشدهم بعض ما قيل فيه من الأشعار - وكان يوماً اقتتلت فيه الأوس والخزرج وكان الظفر فيه للأوس. ففعل ذلك فتنازع القوم - عند ذلك - وتفاخروا وتغاضبوا وقالوا السلاح السلاح. فبلغ ذلك رسول الله فخرج إليهم - فيمن معه من المهاجرين والأنصار.

فقال: أتدعون الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد إذ أكرمكم الله بالإسلام وقطع

____________________

(1) تفسير الكشاف 1 / 301.

٣١

به عنكم أمر الجاهلية وألف بينكم؟). وجاه في سورة المجادلة:( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِم مَّا هُم مِّنكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) .

عندما كان المنافقون يتولون اليهود ويناصحونهم وينقلون إليهم أسرار المؤمنين(1) .

ولما أتت رسول الله بالمدينة - وهو يتجهز للفتح - سارة (مولاة أبي عمرو بن صيفي ابن هاشم) وهي مشركة تريد منه معونة مالية - فأعطاها ورجعت إلى مكة حامله رسالة إلى المشركين من حاطب بن أبي بلتعة يخبرهم بعزم الرسول على فتح مكة نزل قوله في سورة الممتحنه:

( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتّخِذُوا عَدُوّي وَعَدُوّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدّةِ ) (2) .

وعندما استلزمت مصلحة المسلمين أن يغزو الرسول بني النضير وينتصر عليهم خاطبه الله في سورة الحشر:

( هُوَ الّذِي أَخْرَجَ الّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنّوا أَنّهُم مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِنَ اللّهِ... ) .

كما نزل قوله - في سورة الحشر أيضا - مؤيداً للاجراءات التي اتخذها الرسول ضدهم وفي مقدمتها أمره بقطع نخيلهم:

( مَا قَطَعْتُم مِن لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى‏ أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ ) (3) .

____________________

(1) الزمخشري الكشاف 4 / 395.

(2) الزمخشري الكشاف 4 / 407.

(3) المصدر نفسه ص 359.

٣٢

أما خصوم الامام فكانوا - في الظاهر - مسلمين كإسلامه فلم يكن باستطاعته أن يحمل الكثيرين من أتباعه - وخصومهم - على مواصلة القتال ضد المتمردين عليه.

ولم يكن بجانبه وحى لأنه ليس بنبي.

3 - لقد شهدت الفترة التي أعقبت وفاة النبي وانتهت بمصرع عثمان تساهلا في تطبيق حدود الله على المستحقين: بدأ ذلك التساهل خفيفاً في عهد أبي بكر واشتد في زمن عمر وبلغ الذروة في عهد ابن عفان.

فقد أسقط أبوبكر وعمر وعثمان سهم ذي القربى من الغنائم وسهم المؤلفة قلوبهم من الصدقات خلافا لصريح القرآن والسيرة المحمدية. جاء في سورة الأنفال نص صريح على سهم ذي القربى - وعمل به الرسول -:

( وَاعْلَمُوا أَنّمَا غَنِمْتُم مِن شَيْ‏ءٍ فَأَنّ للّهِ‏ِ خُمُسَهُ وَلِلرّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى‏ وَالْيَتَامَى‏ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السّبِيلِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ ... ) .

وورد في سورة التوبة نص صريح على سهم المؤلفة قلوبهم - من الصدقات - وعمل به النبي:

( إِنّمَا الصّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللّهِ. .. ) .

وعطل أبوبكر حداً من حدود الله في قضية المغيرة بن شيعة وفي قبضة غلمان عبد الرحمن بن حاطب بن أبي بلتعة وفي قضية أبي جندل كما سنرى -.

وأما عثمان فقد كثر خروجه على نصوص القرآن وسيرة النبي - كما سنرى.

وكان ذلك من جنس تعطيله حداً من حدود الله في قضية عبيد الله بن عمر ابن الخطاب حين قتل المهرمزان وأبا لؤلؤة وزوجته وطفلته. وأما تعطيله حدود

٣٣

الله فيما يتصل بالحقوق العامة المسلمين، من الناحيتين الإدارية والمالية، فلا تكاد حوادثه تقع تحت حصر كما سنرى.

وقد ألف كثير من الناس ذلك وأصبح له أنصار ومحبذون من المنتفعين به ومن أصحاب المصالح المركزة.

فلا عجب - والحالة هذه - أن تعرضت سياسة الإمام (الرامية إلى تطبيق حدود الله على المستحقين في جميع مناحى الحياة) إلى مقاومة عنيفة من جانب المتنفذين. وقد انتهت بمصرعه على الشكل المعروف.

4 - وهناك أمر آخر أقرب إلى أن يكون مزيجا مما ذكرناه من أن يكون أمراً قائماً بذاته. وفحواه: أن عليا ارتقى منبر النبي في ظروف مضطربة قلقة انتهت بدايتها بمصرع عثمان.

وهذا يعني أن الخلافة قدمت للامام بعد ثورة دامية لم يساهم هو في إحداثها.

أي إن الامام - بعبارة أخرى - اقتطف ثمار ثورة قام بها غيره -: من حيث التمهيد لحدوثها ومن حيث الاشتراك الفعلي في حوادثها.

فطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام وعمرو بن العاص - وهم رؤوس الفتنة على عثمان - قد راعهم انتقال الخلافة لعلى فقاوموه (لتعارضه مع مصالحهم) تحت ستار المطالبة بدم الخليفة القتيل.

ورجال الثورة من المصريين والكوفيين والبصريين لم ينتفعوا بالوضع الجديد كما كانوا يتوقعون - فقاوموه. نقم هؤلاء وأولئك - الثائرون والمحرضون - على (على) كما نقموا على عثمان من قبل - مع اختلاف في عوامل النقمة بين الحالتين:

٣٤

فقد نقموا على عثمان خروجه في سياسته العامة على الدين ولكنهم نقموا على على تمسكه بالدين في سياسته العامة.

والشيء الذي لا يرقى إليه الشك - بقدر ما يتعلق الأمر برغبة الإمام في تسنم إمرة المسلمين - هو أنه أراد عن ذلك الطريق إشاعة العدل بين الناس وفق مستلزمات الدين الحنيف.

(اللهم إنك تعلم أنه لم يكن الذي كان منا منافسة في سلطان ولا التماس شيء من فضول الحطام. ولكن لنرد المعالم من دينك ونظهر الإصلاح في بلادك: فيأمن المظلومون وتقام المعطلة من حدودك).

فالإمام لا يريد الخلافة للأبهة أو الانتفاع الهادى أو المعنوي - كما فعل غيره.

وإنما أرادها وسيلة يعيد بها للإسلام هيبته في الحكم بعد التصدع الذي أصابه منذ وفاة الرسول حتى مصرع عثمان.

وبما أن الكثيرين من أفراد الشعب قد ألفوا حياة التساهل في تطبيق حدود الله لذلك لم يسهل عليهم أن يتجرعوا مرارة الحق وصرامة العدل فقصروا عن اللحاق بالإمام وضعفوا عن الالتفاف حوله.

وشعر الإمام بذلك فأوسعهم بأمض العتاب وأعنف التأنيب:

(كم أداريكم كما تداري البكار العمدة والثياب المتداعية كلما حيضت من جانب تهتكت من آخر).

فلم يكن جمعهم سهلا على الإمام لأنهم بالاضافة إلى ما ألفوه بعد وفاة النبي من تساهل في تطبيق حدود على المستحقين كما ذكرنا - كانوا يدعون دائماً من قبل خصوم الإمام (في الشام ومناطق أخرى من العراق) إلى الحصول على المال، والجاه، والنفوذ على حساب الدين. ولم يخف ذلك على الإمام (ولم يكن من غير

٣٥

المستطاع لو أراد الإمام - حاشاه -) أن يداوى الباطل بباطل مثله فيكون كما قال الشاعر:

تداويت من ليلى بليلى ولم يكن

دواء ولكن كان سقما معاكسا

(إني لعالم بما يصلحكم ويقيم أودكم. ولكني لا أرى إصلاحكم في إفساد نفسي).

ولو أصلحهم الإمام بإفساد نفسه لما حصل هذا البون الشاسع بينه وبين مناوئيه.

ولما أصبح الإمام في خلقه كالطود ينحدر عنه السيل ولا يرقى إليه الطير. فليس أمره وأمرهم واحداً (إني أريد كم لله وتريدوني لأنفسكم.

أيها الناس أعينوني على أنفسكم: وأيم الحق لأنصفن المظلوم من ظالمه ولأفودن الظالم بخزامته حتى أورده منهل الحق وإن كان كارهاً).

ويتلخص روح فلسفة الحكم عند الإمام بعبارات لا يتجاوز عددها أصابع اليد الواحدة قالها الإمام وهذا نصها:

(الحق أوسع الأشياء في التواصف وأضيقها في التناصف: لا يجرى لأحد إلا جرى عليه ولا يجرى عليه إلا جرى له...

وقد جعل الله من حقوقه حقوقاً لبعض الناس على بعض فجعلها تتكافأ في وجوهها ويوجب بعضها بعضاً ولا يستوجب بعضها إلا ببعض.

وأعظم ما افترض الله من تلك الحقوق حق الوالي على الرعية وحق الرعية على الوالي...

فليست تصلح الرعية إلا بصلاح ولاتها ولا تصلح الولاة إلا باستقامة الرعية.

لقد حدد الإمام في كلمته الآنفة الذكر الصلة بين الحكومة والشعب وفق فلسفته

٣٦

العامة في الحكم. فوصف تلك الصلة بأنها تقوم على وحدة المصالح المشتركة من جهة وعلى قيام كل من الشعب والحكومة بالتزاماته من جهة أخرى.

أما الهيكل العام لفلسفة الحكم عند الإمام فيمكن وضعه على الشكل الآتي: يتألف المجتمع - بنظره.

من أفراد وعلاقات تربطهم ببعضهم من النواحى الأخلاقية والسياسية والاقتصادية.

ومن دستور تستند إليه تلك العلاقات وما يتصل بها من قوانين وأنظمة في جوانبها النظرية.

ومن هيئة حكومية تتولى الإشراف على ذلك وتنفذ.. والدستور الذي تستند إليه فلسفة الحكم عند الإمام هو كتاب الله.

ووظيفة الهيئة الحكومية - بنظره - هي السير وفق مستلزمات ذلك الدستور النواحي الخلقية والسياسية والمالية في تصرفاتها العامة والخاصة تجاه نفسها وتجاه أتباعها وذوى قرباها وتجاه الرعية قولا وعقيدة وفعلا.

فنقطة البداية في الإصلاح الاجتماعي الشامل عند الإمام إذن هي صلاح الحكام في عقائدهم وأقوالهم وأفعالهم في مجال الخلق والسياسة والاقتصاد. وإذا حصل العكس تدهور المجتمع وسار في طريق الفوضى والانحطاط.

تلك هي الخطوط العامة لفلسفة الحكم عند أبي تراب. وأقواله التي سنذكر جانباً منها ستبقى خالدة تتحدى الزمان والمكان - مع اختلاف في التعابير والمصطلحات حسب مواج العصر الذي تبحث فيه. وأفعاله - المنسجمة مع تلك الأقوال - ستبقى هي الأخرى في عالم الخلود.

فعظمة الإمام كامنة في أقواله بقدر ما هي كامنة في تصرفاته العامة والخاصة مع خصومه وأنصاره على السواء.

ولم يشهد التاريخ على ما نرى حاكماً عادلا مستقيما في العقيدة والقول والفعل كابن أبي طالب.

٣٧

قال على في إحدى خطبه:

(يا أيها الناس: إني والله ما أحثكم على طاعة إلا أسبقكم إليها، ولا أنهاكم عن معصية إلا أتناهى قبلكم عنها).

ولهذا أصبح الإمام من الفضيلة إنسان عينها بل عين إنسانها كما يقول البلغاء. ولعل عظمته تبدو بأوضح أشكالها إذا وازنا تصرفاته الديمقراطية بنشأته الأرستقراطية.

فقد كان على يشارك الجماهير في وحدة المشاعر والنزعات على الرغم من كونه (بالإضافة إلى مقوماته الشخصية) قد تعلق في نسبه (بمقاييس العرب) - من الثريا بأقراطها - وهو أمر له قيمته الكبرى في المجتمع العربي، وكثيراً ما كان ذلك يعمل على إبعاد صاحبه عن الاحتكاك بمن هم دونه في العلم الاجتماعي.

وعندي أن الأجيال القادمة ستشهد انصراف كثير من الباحثين - من غير العرب والمسلمين - إلى البحث العلمي النزيه في هذه الشخصية التاريخية الفذة.

فكلما تاهت البشرية في صحاري الحيرة من الناحية الأخلاقية.

وكلما اختلت موازينها في السياسة والاقتصاد - وهو أمر على ما يبدو لا سبيل إلى التغلب عليه من الناحية الواقعية في المدى البعيد - برز اسم ابن أبي طالب في مقدمة المرشدين إلى الصراط المستقيم(1) .

بغداد في: 15/10/1957

نوري جعفر

____________________

(1) لقد اقتبسنا كلمات الإمام (التي ذكرناها في هذه المقدمة والكلمات التي سنذكرها في الفصول القابلة من هذه الدراسة) من شرح (نهج البلاغة) لابن أبي الحديد بمجلداته الأربعة، وسوف نشير في آخر هذه الدراسة إلى رقم المجلد ورقم الصفحة التي اخذت منها كلمات الإمام. وغرضنا من ذلك هو عدم ارتباط القارئ أثناء المطالعة بإشارات وهوامش كثيرة العدد قد تقطع عليه سلسلة قراءته.

٣٨

الجانب الأخلاقي

يستطيع المرء - إذا ما درس (فلسفة الحكم عند الإمام) بشيء من التحليل والتعمق - أن يصفها بأنها أخلاقية في جوهرها. تستند إلى الفضيلة: تشجعها وتغرسها في نفوس. وتكافح الرذيلة وتدعو إلى استئصالها من عالم الوجود. تفعل ذلك في مجال الفكر واليد واللسان.

وهذا يعني: أن الأخلاق عند الإمام فكرة وسلوك في آن واحد: سلوك في العمل. والناس بنظره ثلاثة أصناف:

(فمنهم المنكر للمنكر بيده وقلبه ولسانه فذلك المستكمل لخصال الخير.

ومنهم المفكر بلسانه وقلبه والتارك بيده فذلك متمسك بخصلتين من خصال الخير ومضيع خصلة.

ومنهم المنكر بقلبه والتارك بيده ولسانه فذلك الذي ضيع أشرف الخصلتين من الثلاث وتمسك بواحدة.

ومنهم تارك الإنكار بلسانه وقلبه ويده فذلك ميت الأحياء. فالتوافق التام بين عقيدة الإنسان وبين قوله وعمله هو الغاية القصوى التي يدعو الإمام إلى غرسها في نفوس الناس. والعقيدة - بالطبع - هي الأساس الذي يستند إليه المرء في قوله وعمله.

٣٩

فإذا سلمت العقيدة - من الناحية الخلقية -. سلمت الأقوال والأفعال المنبثقة عنها وبالعكس. ولا فرق عند الإمام بين فساد العقيدة وصلاحها إذا لم يكن السلوك - في القول وفي العمل - منسجما معها في حالة سلامتها.

ومن يدري فلعل العقيدة الفاسدة أقل ضرراً بالمجتمع من العقيدة السليمة التي لا تنسجم أقوال من يدعى أنه يحملها مع أفعاله في المدى القريب على أحسن الفروض.

ذلك لأن الناس يسلمون مقدما بفساد تلك العقيدة - باعتراف صاحبها - فيحزمون أمرهم على مقاومته ومقاومتها بجميع الوسائل المتيسرة لديهم.

أما المتظاهر بحمل عقيدة سليمة فليس من السهل إجماع الناس على مقاومته وبخاصة إذا ما وجد من يبرر بعض أقواله وأعماله غير المنسجمة معها.

يتضح ذلك بأجلى مظاهره في صفوف الحكام - القدامى والمحدثين - أكثر منه في صفوف الرعية. ولذلك سهلت مقاومة الحاكم الفاجر المكشوف وصعبت مقاومة الحاكم الفاجر المستور.

وفي التاريخ أمثلة كثيرة تعزز ما نقول.

وقد وضع الإمام القاعدة الأخلاقية (والتي ذكرناها في تصنيفه الناس) بشكلها السلبي لعلمه أن إنكار المنكر - باليد واللسان والقلب - معناه، من الناحية الإيجابية، التهيؤ لإشاعة غير المنكر فكرة وقولا وعملا. على أن ذلك بنظره من أصعب الأمور.

(فما أصعب اكتساب الفضائل وأيسر إتلافها!!).

وما أصعب (على من استعبدته الشهوات أن يكون فاضلا.) ولكن إشاعة غير المنكر، مع هذا، أصعب من مقاومة المنكر في الأعم الأغلب.

٤٠