فلسفة الحكم عند الإمام

فلسفة الحكم عند الإمام0%

فلسفة الحكم عند الإمام مؤلف:
الناشر: القاهرة دار المعلّم للطباعة
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 200

فلسفة الحكم عند الإمام

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الدكتور نوري جعفر
الناشر: القاهرة دار المعلّم للطباعة
تصنيف: الصفحات: 200
المشاهدات: 8345
تحميل: 3371

توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 200 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 8345 / تحميل: 3371
الحجم الحجم الحجم
فلسفة الحكم عند الإمام

فلسفة الحكم عند الإمام

مؤلف:
الناشر: القاهرة دار المعلّم للطباعة
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

هو مع طبيعة الذنب. وسبب ذلك هو: أن العفو عن القوى ربما يجعله يعتقد بأن ذلك العفو ناتج عن نفوذه فيتمادى في الزلة. هذا من الناحية النفسية.

أما من الناحية الاجتماعية فقد يخيل للآخرين أن نفوذ المجرم المتنفذ (المعفو عنه) كان عاملا من عوامل العفو عنه، الأمر الذي يشجعهم - وبخاصة إذا كانوا من ذوى النفوذ أو ممن يمتون إليهم بصلة - على ارتكاب الباطل. فتنتفي - في الحالتين - الغاية من العفو وهي الإصلاح والتهذيب عن طريق العفو نفسه.

أما ترفيع أفراد الجيش وترقيتهم (بعد تعيينهم وفق الشروط التي ذكرناها) فقد وضع ذلك الإمام بشكل صريح لا يحتاج إلى شرح أو توضيح. ولكي يكون الترفيع عادلا وجب أولا وقبل كل شيء مراقبة أعمالهم وتقديم التقارير الأمينة عنهم والتوصيات العادلة بحق كل منهم. ثم اعطاه كل ذي حق حقه في مجال الترفيع والتقدير.

ويجب مع ذلك كله أن تقاس قيمة كل منهم بنوع عمله بغض النظر عن الأسر والأحساب. (فمن أبطأ به عمله - كما ذكرناه - لم يسرع به حسبه.) ولكن ينبغي مع هذا أن يطرى المسئولون على الأعمال الحسنة التي يقوم بها بعض الجنود مهما كانت بسيطة وذلك تشجيعاً لهم على الاستمرار عليها واستنهاضاً للآخرين على الاقتداء بأصحابها.

وهناك أمران آخران يتصلان بالجيش يجمل بنا أن نشير إليهما قبل الانتقال إلى التحدث عن الولاة.

وأولهما: موقف الإمام بصورة عامة من الجيش من حيث كونه ركناً من أركان جهاز الحكم في البلاد.

وثانيهما: موقفه من القطعات العسكرية التي تجهز للاشتراك الفعلي مع العصم، وموقفها ممن تمر بأرضهم من المواطنين.

٦١

وقد لخص الإمام الجانب الأول منهما بقوله: (إن حقاً على الإمام أن لا يغيره على رعيته فضل ناله ولا طول خص به. وأن يزيده ما قسم الله له من نعمة دنواً من عباده وعطفاً على إخوانه. ألا وإن لكم عندي أن لا أحتجز دونكم سراً إلا في حرب ولا أطوى دونكم أمراً إلا في حكم. ولا أؤخر لكم حقاً عن محله ولا أقف به دون مقطعه وأن تكونوا عندي في الحق سواء. ولى عليكم الطاعة وأن لا تنكصوا عن دعوة ولا تفرطوا في صلاح وأن تخوضوا الغمرات إلى الحق. فإن أنتم لم تستقيموا لي فلم يكن أحد أهون على ممن أعوج منكم..

فالإمام يريد أن يطبق مبدأ العدالة الاجتماعية تاما غير منقوص. وفق مستلزمات الشريعة الإسلامية على الجنود وعلى غيرهم من أفراد الشعب ومن أعضاء الحكومة. وهو يريد من أفراد الجيش أن يعينوه على ذلك في مجال عملهم. ومع ذلك كله (فلم يكن أحد أهون عليه ممن أعوج منهم) فيجب أن لا يدفعهم مركزهم العسكري (واعتماد الخليفة عليهم في حفظ الأمن والوقوف للأعداء بالمرصاد) إلى الزهو وعدم الإكتراث بالقانون فإن ذلك يعرض أصحابه للعقاب.فليس أحد - من هذا الجيش العزيز - بأهون على الإمام ممن أعوج في تصرفاته من أفراده.

أما ثاني الأمرين اللذين ذكرناهما فقد نص الإمام بقوله:

(في كتاب له إلى العمال الذين يطأ الجيوش عملهم).

(أما بعد فإني سيرت جنوداً هي مادة بكم. وقد أوصيتهم بما يجب لله عليهم من كف الأذى وصرف الشذى وأنا أبرأ إليكم وإلى ذمتكم (يعني اليهود والنصارى) من معرة الجيش... وأنا بين ظهر الجيش (أي في أعقابه)، فارفعوا إلى مظالكم وما عراكم مما يغلبكم من أمرهم وما لا تطيقون دفعه إلا بالله وبي، أغيره بمعونة الله.).

٦٢

أي أن الإمام يريد من الجيش (في حالة مسيره إلى المعركة أو رجوعه منها) أن يتحلى بالخلق الإسلامي - الذي وصفناه - فيما يتصل بالأماكن التي يمر بها وفي موقفه من السملمين وغير المسلمين من أهل الذمة. ومن يخالف ذلك يقع - دون شك - تحت طائلة العقاب.

ثم يختتم الامام موقفه من رجال السلك العسكري بالملاحظات التالية:

ثم أفسح في آمالهم وواصل في حسن الثناء عليهم وتعديد ما أبلى ذوو البلاء منهم فإن كثرة الذكر لحسن أفعالهم تهز الشجاع وتحرض الناكل.

ثم اعرف لكل امرئ منهم ما أبلى. ولا تضيفن بلاء امرئ إلى غيره ولا تقصرون به دون غاية بلائه. ولا يدعونك شرف امرئ إلى أن تعظم من بلائه ما كان صغيراً ولا ضعة امرئ إلى أن تستصغر من بلائه ما كان عظيما).

وأما الولاة فينطبق عليهم ما ذكرناه مع اختلاف كبير ذي جانبين:

أحدهما: هو أن الامام نفسه يعين الولاة بصورة مباشرة في حين أنهم (- منفردين - في الأعم الأغلب) يعينون الموظفين الآخرين.

وثانيهما: عظم المسئولية الملقاة على عاتق الوالي فيما يتصل بإدارة شئون المصر الذي يخضع له من الناحية السياسية والمالية والخلقية.

فالامام يحكم الأقاليم الاسلامية المختلفة بطريقة غير مباشرة. أي أنه يحكمها عن طريق الولاة.

فالوالي إذن هو الخليفة (مصفراً) في ولايته. فعليه إذن - كما على الخليفة - واجبات خلقية وسياسية ومالية في حدود أضيق، من حدود الخليفة من الناحية المكانية، وأوسع من حدود الموظفين الآخرين. وواجبات الوالي هي - من الناحية الأخلاقية:

٦٣

(أن ينصر الله بيده وقلبه ولسانه... وأن يكسر من نفسه عند الشهوات وينزعها عند الجمحات.) و (ليكن أحب الذخائر إليك - أيها الوالي - ذخيرة العمل الصالح. فاملك هواك وشح بنفسك عما لا يحل لها. فإن الشح بالنفس هو الانصاف منها فيما أحبت أو كرهت).

والانصاف من النفس فيما أحبت يعني: أن لا يسيء الوالي استعمال منصبه الرفيع فيتخذه وسيلة للانتفاع الشخصى - بطريقة غير مشروعة - بما تحت يديه من ممتلكات ومال ونفوذ، أو لخلع ذلك على ذويه والمقربين إليه. أما الانصاف من النفس فيما كرهت فيستلزم أن يأخذ الحق مجراه - في حالة العقوبة - مع النفس ومع المقربين إليه ومع ذوى قرباه، وفي حالة الثواب - أو المكافأة أو استرجاع حق مهضوم (مع الخصوم ومع من هم على شاكلتهم).

أي أن الوالي يجب أن يكون - بعبارة أخرى.

كالخليفة نفسه في تطبيق حدود الله على المستحقين في جميع الأحوال دون تمييز من أي نوع كان.

وأما واجبات الوالي تجاه الرعية فقد رسمها الإمام بقوله:

(أشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم. ولا تكونن عليهم سبعاً. ضارياً تغتنم أكلهم). لأن الرعية صنفان - كما ذكريا - إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق.

(فاخفض لهم جناحك وألن لهم جانبك وابسط لهم وجهك وآس بينهم في اللحظة والنظرة.) وبذلك يكون عدلك شاملا لا يشوبه تحيز إلا للحق.

فإذا عرف الناس ذلك منك عندئذ (لا يطمع العظماء في حيفك لهم ولا ييئس الضعفاء من عدلك عليهم).

٦٤

فيجب عليك (أن لا تسخط الله برضا أحد من خلقه. لأن سخط الله يحصل من فقدان العدالة الاجتماعية بين الناس نتيجة محاباة الوالي بعضهم وإيثاره إياهم - دون حق - على حساب الآخرين.

(إني لا أخاف على أمتي مؤمناً ولا مشركاً):

أما المؤمن فيمنعه الله بإيمانه. وأما المشرك فيمنعه الله بشركه. ولكني أخاف عليكم كل منافق اللسان عالم الجنان يقول ما تعرفون ويفعل ما تنكرون).

فالإمام إذن لا يخش على أمته جوراً من مؤمن لأن نفسه رادعاً من تقوى الله، ولا جوراً من مشرك لعدم احتمال توليته أمور المسلمين لأن الله لا يجيز ذلك اللهم إلا إذا كان ذلك خارج نطاق إرادتهم وهنا ينتفي الشرط من أساسه.

ولكن الإمام يخاف من المشرك المقنع بقناع الإسلام. على أنك - أيها الوالي - يجب أن تتذكر دائماً فيما يتصل بعلاقتك برعيتك (أنك فوقهم وولى الأمر فوقك والله فوق من ولاك) فلا تتعد حدودك التي رسمها لك فإن الخليفة فوقك يحاسبك على ذلك حساباً عسيراً والله فوق من ولاك يحاسبه ويحاسبك على السواء.

وبما أنك بحكم مركزك عرضة للزهو والكبرياء (فإذا حدث لك ما أنت فيه من سلطانك أبهة أو مخيلة فانظر إلى عظم الله فرقك. لأن ذلك يريك صغر نفسك وضآلة شأنك وحقارة سلطانك فيكبح جماحك ويستثير التواضع فيك ويدفعك على تحرى الصواب في أحكامك.

(واعلم أنه ليس شيء بأدعى إلى حسن ظن وال برعيته من إحسانه إليهم وتخفيفه المؤنات عنهم وترك استكراهه إياهم ما ليس قبلهم) ذلك لأن هذا التصرف يجعل الرعية تشعر بأن الوالي منها وإليها، وأنه ساهر على خدمتها بجميع الوسائل المشروعة المتوافرة لديه.

٦٥

وهذا يؤدى بدوره إلى تعاونها معه في إقامة الحق وإشاعة العدل ومكافحة الرذائل سواء أكان ذلك عن طريق الترفع عن تعاطيها أم بالكشف عمن يتعاطاها لردعه من قبل الحكومة وازدرائه من قبل أفراد الشعب.

ثم يوجه الخليفة انتباه الوالي إلى ظاهرة اجتماعية عامة تتصل بالرعية بمجموعها فيقول: (إن الرعية تفرط منهم الزلل وتعرض لهم العلل ويؤتى على أيديهم في العمد والخطأ... وإن في الناس عيوباً الوالي أحق من سترها. فلا تكشفن عما غاب عنك منها فإن عليك تظهير ما ظهر لك والله يحكم على ما غاب عنك... فتغاب عن كل مالا يضح لك).

وفي هذه النقطة بالذات تتضح فروق رئيسية بين فلسفة الإمام في الحكم وبينها عند عمر بن الخطاب.

فقد سار عمر - كما معروف - على قاعدة تختلف هي وما ذكرناه كل الاختلاف. وفي كتب التاريخ الإسلامي من الأمثلة على ذلك الشيء الكثير(1) .

ذكرنا أن الرعية تفرط منهم الزلل كما قال الإمام:

فيجب عليك أيها الوالى مع ذلك أن تعطيهم (من عفوك وصفحك مثل الذي تحب وترضى أن يعطيك الله من عفوه وصفحه).

ولا يستطيع القارئ أن يتصور مقدار الصفح الذي ينبغي للوالي أن يعطيه لرعيته إلا إذا تذكر أن الإنسان محتاج - من وجهة نظر الإمام - إلى عفو الله في جميع الظروف والأحوال ما دام على قيد الحياة.

هذا مع العلم أن الإمام كان المثل الأعلى في إطاعة أوامر الله ونواهيه في قلبه ولسانه ويده في تصرفاته العامة والخاصة مع خصومه وأنصاره على السواء.

____________________

(1) لقد ذكرنا جانبا منها في كتابنا. (على ومناوئوه) الفصل الثالث وطبع بالقاهرة بمطبعة حسان شارع الجيش، ومطبعة دار العلم للطباعة بالسيدة زينب.

٦٦

إستمع إليه في إحدى وصايا: (اعلم أنك إنما خلقت للآخرة لا للدنيا... وأنك طريد الموت الذي لا ينجو منه هاربه... فكن منه على حذر أن يدركك وأنت على حال سيئة قد كنت تحدث نفسك منها بالتوبة فيحول بينك وبين ذلك.

واعلم - يا بني - إن من كانت مطيته الليل والنهار فإنه يسار به وإن كان واقفاً ويقطع المسافة وإن كان مقيماً وادعاً).

فالإمام، مع هذه الحالة من الورع ومخافة الله، كان مؤمناً أشد الإيمان وأعمقه بأنه أحوج ما يكون إلى عفو الله ومغفرته.

أما الوالي (أي وال) فهو بحكم كونه دون ورع الإمام بمراحل أحوج إلى عفو الله ومغفرته دون شك. غير أن عفو الله كما هو معلوم له حدود لا يتعداها وعفو الوالي يجب أن يسير ضمن نطاق الإسلام. والغاية المتوخاة من هذا العفو هي التهذيب والتوجيه لا التسيب وفقدان المحاسبة على الموبقات.

لأن فقدان المحاسبة على الموبقات عامل من عوامل انتشارها - وهو أمر يأباه الإسلام. فعفو الوالي يجب أن يكون واسعاً كسعة عفو الله رقيقا لينا كرقته ولينه صارما كلما مس العمل حداً من حدود الله فتجاوزه أو خرج عليه. على أن العفو مع هذا لابد من اللجوء إليه كلما كان ذلك ممكنا. فلا تندمن على عفو.

ولا تبجحن بعقوبة ولا تسرعن إلى بادرة وجدت عنها مندوحة. لأن النفس البشرية تميل في العادة إلى التربح بين نقيضين كلما عملت عملا بطريقة معينة وكانت النتيجة على خلاف ما كانت تتوخاه.

فإذا صفح الحاكم مثلا عمن ارتكب جرماً يستحق العقاب (لغرض ردعه وتهذيبه عن طريق العفو عنه) وكانت النتيجة تمادى ذلك للشخص في سلوكه الشائن بدلا عن إقلاعه عنه فإن الحاكم يميل في العادة إلى الاستعانة بالشدة في معالجة أمثال تلك الأمور، لا فيما يتصل بذلك الشخص فقط بل فيما يتصل بغيره من الناس.

٦٧

أي أن الحاكم (بدلا من أن يعتبر تصرف ذلك الشخص خروجاً على قاعدة الصفح في حالة خاصة - ربما تكون شاذة - فيعاقبه إذا عاد إلى تعاطى ذلك العمل في المستقبل محتفظاً بمبدأ الصفح سليماً قابلا للتطبيق على تصرفات الآخرين) يثور على مبدأ الصفح عنه - إذا جاز هذا التعبير. وبالعكس.

قال الإمام: في هذا المعنى من الناحية الأخلاقية العامة (لا يزهدنك في المعروف من لا يشكره لك. فقد يشكرك عليه من لا ينتفع بشيء).

ثم أوصى الوالي بأمور أخرى تتصل بشخصه فقال له: (أطلق عن الناس عقدة كل حقد وارفع عنها سبب كل وتر... ولا تعجلن على تصدق ساع. وليكن أحب الأمور إليك أوسطها في العدل وأجمعها لرضى الرعية فإن سخط العامة يجحف برضى الخاصة وغن سخط الخاصة يغتفر مع رضى العامة).

ذلك لأنه يستحيل على الوالي - من الناحية العملية - أن يرضى في كل تصرف من تصرفاته جميع الأشخاص الذين يعنيهم الأمر من قريب أو بعيد بصورة مباشرة أو غير مباشرة. أي أن كل تصرف - مهما كان عادلا - يرضى بعض الناس ويسخط بعضاً آخر. فإذا رضى جميع الذين يعنيهم الأمر بذلك التصرف العادل (وهو ما يهدف إليه الإمام) فلا مشكلة هناك.

أما إذا لم يحصل ذلك فإن رضى العامة هو مقياس سلامة التصرف لأن الخاصة من أصحاب المصالح تميل في العادة نحو المحافظة على مصالحها المركزة بشتى الوسائل ومختلف الجهود. فتغضب وتثور وتحتج وتملأ الدنيا ضجيجا وتهديداً ومغالطة وتضليلا إذا ما تعرضت مصالحها للتصدع أو الانهيار.

ثم أيها الوالي إن طبيعة مركزك - من حيث كونك والياً - تستلزم اتصالك بالرعية بصورة مستمرة لتتفقد شئونها (فلا تطوان احتجابك عن الرعية) لأن (الاحتجاب عنهم يقطع عنهم علم ما اجتجبوا دونه فيصغر عندهم الكبير ويعظم عندهم الصغير ويقبح الحسن ويحسن القبيح ويشاب الحق بالباطل.

٦٨

وإنما الوالي بشر لا يعرف ما تواري عنه الناس من الأمور وليست على الحق سمات تعرف بها ضروب الصدق من الكذب.) أي أن احتجاب الوالي عن الرعية قد يخلق جواً من الريبة والدعاية الكاذبة التي يقوم بها الموتورون والمستهترون وأصحاب المصالح التي زعزع الباطل منها عدل الحاكم. هذا من جهة.

ومن جهة ثانية فإن الاحتجاب قد يشجع الوالي على تعاطى الموبقات وعلى الارتماء بأحضان أصدقاء السوء.

ثم إنك أيها الوالي (أحد رجلين - إما امرؤ سخت نفسك بالبذل في الحق فقيم احتجابك من واجب تعطيه أو فعل كريم تسديه؟) فلا معنى لاحتجابك عن الرعية إذن ولا لزوم له. بل لابد من العمل على عكسه. (أو إنك مبتل بالمنع. فما أسرع كف الناس عن مساءلتك إذا أيسوا من بذلك.) وبذلك يفسد احتجابك عنهم وينتفي تحقيق ما كنت تصبو إليه. هذا (مع أن كثرة حاجات الناس إليك ما لا مؤنة فيه عليك من شكاة مظلمة أو طلب إنصاف في معاملة.) فواجبك إذن يستلزم عم احتجابك عن الناس.

ثم (الصق بأهل الورع والصدق ورضهم على أن لا يطروك في باطل لم تفعله ويبجحوك بباطل لم تفعله.) لأن ذلك يفسد ورعهم ويلوث صدقهم من جهة وبسوقك إلى صحارى الزهو والخيلاء من جهة أخرى.

(ولا يكونن المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء - فإن في ذلك تزهيداً لأهل الإحسان في الإحسان وتدريباً لأهل الإساءة على الاساءة).

فضع كل شخص في منزلته وصارحه بحقيقة أمره كي تستقيم لك الناس وتعاونك على القضاء على عوامل الفساد والدس والمواربة والتضليل.

(وأكثر من مدارسة العلماء ومناقشة الحكماء في تثبيت ما صلح عليه أمر بلادك وإقامة ما استقام به الناس).

٦٩

فإن العلماء الحكماء ذوو خبرة واسعة وبصيرة نافذة في الأمور، وذوو إخلاص في إسداء النصح للحكام الصالحين.

والقاعدة العامة التي يجب أن يخضع لها سيرك العام هي (في هذا المجال وأمثاله) إن (رضا الناس غاية لا تدرك. فتحر الخير بجهدك ولا قبال بسخط من لا يرضيه الحق).

ثم أوصاه بعدم العطيش والاندفاع ونهاه عن قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق فقال له: (إياك والدماء وسفكها بغير حلها... ولا عذر لك عند الله وعندي في قتل العمد.

املك حمية أنفك وسورة حدك وسطوة يدك وغرب لسانك. واحترس من كل ذلك بكف البادرة وتأخير السطوة حتى يسكن غضبك فتملك الاختيار.) فلا تتبع (الذنب العقوبة - كما ذكرنا - واجعل بينهما وقتاً للاعتذار) من قبل المذنب، وفترة لتجنب إيقاع العقوبة بشكل أكثر مما يستحقه الجرم في حالة الغضب والاندفاع.

أما القاعدة العامة التي وضعها الإمام في هذا الباب فهي (ينبغي للوالي أن يعمل بخصال ثلاث: تأخير العقوبة منه في سلطان الغضب، والأناة فيما يرتئيه من رأى، وتعجيل مكافأة المحسن بالاحسان. فإن في تأجيل تأخير العقوبة إمكان العفو).

على أن العفو يجب أن يكون في مواضعه ومع أهله. (لأن العفو يفسد من اللئيم بقدر ما يصلح من الكريم).

اللئيم الذي يعتبر العفو عنه تهرباً من إيذائه فيركب رأسه ويسير سادراً في طريق الضلال.

أما الكريم فهو الذي يعتبر العفو عنه وسيلة لزجره وإرشاده فيسير في طريق الهداية متحاشياً تعاطى الموبقات في تصرفاته اللاحقة.

٧٠

ذلك ما يتعلق بشخصية الوالى وتصرفاته العامة المباشرة وغير المباشرة تجاه الرعية.

أما ما يتصل بحاشيته والمقربين إليه وتصرفاتهم تجاه الناس - فلكل وال حاشية مقربون وذوو قربى يكونون عوناً له أحياناً في إصلاح الأوضاع العامة ووبالا عليه وعلى الناس أحياناً أخرى فقد ذكره الامام بقوله:

(إن للوالي خاصة وبطانة فيهم استئثار وتطاول وقلة انصاف في معاملة. فاحسم مادة أولئك بقطع أسباب تلك الأحوال.

فلا تقطعن لأحد من خاصتك قطيعة ولا يطمعن منك في اعتقاد عقدة تضر بمن يليها من الناس في شرب أو عمل مشترك يحملون مؤنته على غيرهم).

ثم أوصاه قائلا: (أنصف الله وأنصف الناس من نفسك ومن خاصة أهلك وممن لك فيه هوى من رعيتك. (وإنصاف الله يتحقق - في هذا الباب - عن طريق السير وفق شريعته السمحاء. وإنصاف الناس يتحقق بواسطة تطبيق تلك الشريعة على الأحكام والمعاملات.

واعمل (أن من فسدت بطانته كان كمن غص بالماء.) وقديماً قيل:

إلى الماء يسعى من يغص بريقه فقل أين يسعى من يغص بماء!!

(وليكن أبعد رعيتك أطلبهم لمعايب الناس.) لكيلا يتخذ من التحدث المشين عن أعراض الناس وسيلة يتقرب بها منك فيتمادى - بعد ذلك - في غيه مختلقاً المثالب والموبقات وواصماً بها دون حساب. هذا من جهة.

ومن جهة ثانية: فإن (في الناس عيوبا الوالي أحق من سترها... كما سلف أن ذكرنا. (إن شر وزرائك من كان قبلك للأشرار وزيراً، ومن شركهم في

٧١

الآثام فلا يكونن لك بطانة.) ذلك لأنه ألف - منذ عهدهم - أساليب الجور وأصبحت له منذ ذلك الحين مصالح مركزة وأتباع ومؤيدون في الباطل.

يضاف إلى ذلك أن تصرفاته الشريرة لابد أن تكون قد أزعجت الصالحين من الناس فشجبوها، الأمر الذي يجعله يتحين الفرص للإيقاع بهم.

ففتش عن وزراء صالحين، وأنت واجد منهم خير الخلف له مثل آرائهم ونفاذهم وليس عليه أوضارهم وأزاهم وآثامهم.) ولا يخفى عليك أن الوزراء الجدد يختلفون - مع صلاحهم - في نفاذ البصيرة ودقة الملاحظة وفي الإقدام واتباع الحق فليكن (آثرهم عندك أقولهم للحق).

ذلك هو الجانب السياسي من فلسفة الحكم عند الإمام. وقد لخص خطوطه العامة - من الناحية السياسية التي شرحناها والمالية التي سنبحثها في الفصل القابل - بقوله -: (إنه ليس على الإمام إلا ما حصل من أمر ربه: الإبلاغ في الموعظة والاجتهاد في النصيحة والإحياء للسنة وإقامة الحدود على مستحقيها وإصدار السهمان على أهلها.

أيها الناس: (أنا رجل منكم. لي ما لكم وعلى ما عليكم. والحق لا يبطله شيء(1) .

____________________

(1) جميع الفقرات المقتبسة من كلام الإمام - التي ذكرناها في الفصل السابق وفي هذا الفصل والتي سنذكرها في الفصول القابلة - مأخوذة من شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد سوف نشير في آخر فصل من فصول هذا الكتاب إلى مواقعها بالضبط ذاكرين اسم المجلد الذي اقتبسناها منه مع رقم صفحته. وغرضنا من ذلك - كما أن ذكرنا - هو تفادى التكرار من جهة وعدم إرباك القارئ باشارات وهوامش كثيرة قد تفسد عليه تسلسل مطالعته.

٧٢

ثم استخلف أبوبكر عمر فعمل بطريقته، ثم جعلها شورى بين ستة فأفضى الأمر إلى عثمان، فعمل ما أنكرتم منه... ثم حصر و قتل. ثم جئتموني طائعين... وإني حاملكم على منهج نبيكم).

ومنهج نبيهم، الذي يستند إلى القرآن، هو (من الناحية الاقتصادية) المساواة في العطاء بين المسلمين بغض النظر عن جميع الاعتبارات التي تميز العرب المسلمين عن المسلمين غير العرب من جهة، والتي تميز بين العرب أنفسهم - حسب منزلتهم في الجاهلية التي سجبها الاسلام - من جهة أخرى.

ثم التفت الإمام - بعد فراغه من كلمته - يميناً وشمالا وقال:

(ألا لا يقولن رجال منكم غداً (قد غمرتهم الدنيا فاتخذوا العقار وفجروا الأنهار، ركبوا الخيول الفارهة واتخذوا الوصائف الرقيقة، فصار ذلك عليهم عاراً وشناراً) إذا ما منعتهم ما كانوا يخوضون فيه وأصرتهم إلى حقوقهم التي تعلمون) أنى اعتيدت على حقوقهم المشروعة. فلا يتذمر هؤلاء الذين وصلوا إلى ما هم عليه من الناحية المالية بطرق ملتوية - بعد وفاة الرسول - ويقولون:

(حرمنا ابن أبي طالب حقوقنا) التي اكتسبناها.

تلك الحقوق والامتيازات المالية حتى حصلت على حساب المسلمين، مع ما يرافقها من نفوذ سياسي واجتماعي، وما يتعلق بذلك من صرف لها في غير أوجهها المشروعة.

ولعل السبب الذي دعا الإمام إلى إعلان سياسته الإقتصادية بالشكل الآنف الذكر - بالإضافة إلى مستلزمات الشريعة السمحاء - هو ذلك التفاوت المالي المريع بين المسلمين: أقلية مترفة مرابية لا تتقيد إلا ببعض مظاهر الدين في المواضع التي لا تتضارب هي ومصالحها، وأكثرية معدمة يبيت أغلبها على الطوى. في حين

٧٣

أنهم جميعاً (عباد الله والمال مال الله يقسم بينهم بالسوية، لاقضل لأحد على أحد).

ذكر الإمام ذلك كله على مرأى ومسمع ممن حضر الاجتماع - من المهاجرين والأنصار، وأهل السابقة في الإسلام. فاختلفت مواقفهم منه باختلاف مصالحهم، فارتاع ذووا المصالح المركزة وأسروا في أنفسهم الإمتعاض، والحقد، لعلمهم أن ابن أبي طالب يعني ما يقول: وأنه ينجزو عده مهما كلف الأمر من مشقة وتضحية:

ثم التفت إلى السامعين وقال:

(وإذا كان غد إن شاء الله فاغدوا علينا فإن عندنا ما لا نقسمه بينكم، ولا يتخلفن أحد منكم - عربي ولا عجمي - كان من أهل العطاء أو لم يكن إلا حضر).

وغرضه من هذا بالطبع هو أن يريهم عدله، من الناحية العملية الواقعية، ليكيفوا سلوكهم وفق ذلك في المستقبل.

فلما كان من الغد غدا على وغدا الناس لقبض المال. فأمر على كاتبه (عبد الله ابن أبي رافع) أن: (ابدأ بالمهاجرين فنادهم وأهط كل رجل ممن حضر ثلاثة دنانير).

لله أنت يا ابن أبي طالب!! تأمر كاتبك أن يدفع ثلاثة دنانير لطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام - وهو هم على شاكلتهما ممن اعتاد في زمن عثمان خاصة - أن يأخذ من بيت المال مبالغ ضخمة لا يكاد العقل أن يصدقها.

فلا عجب إذن أن امتعض هؤلاء السادة وحقدوا على الذي ساواهم في العطاء مع مواليهم، ومع من هم دونهم في الأحساب - بمقابيس الجاهلية - من المسلمين.

وإذا نظرنا إلى موضوع المساواة في العطاء من زاوية أخرى أمكننا أن تقول إنه يتضمن أكثر من مجرد حرمان أصحاب الإمتيازات المالية من امتيازاتهم المادية

٧٤

الفصل الثالث

الجانب المالي

ذكرنا في (الفصل الأول) أن فلسفة الحكم عند الإمام فلسفة أخلاقية جوهريا، وأن الجانب المالي منها (وهو موضوع هذا الفصل) ما هو إلا تطبيق للمثل الأخلاقية العليا عند الامام في مجال الثروة والخدمات الاجتماعية، وما يتعلق بذلك من صلات إجتماعية في شتى ميادين الحياة.

وللناحية الأخلاقية، في فلسفة الحكم عند الامام، أهمية خالدة تتخطى حدود الزمان والمكان. ويتجلى أثرها إذا تذكرنا أن السياسة (من حيث هي نظرية في الحكم وأسلوب في العمل) تقترن - في العادة - عند كثير من الناس ببعدها عن المستويات الأخلاقية الرفيعة، وباستنادها إلى المداهنة والمراوغة، أو على الدس والتضليل أو الانتهازية والوصولية - كما هو معروف. ويصدق الشيء نفسه على الاقتصاد في نواحيه النظرية والعملية على السواء.

وقد شذ عن ذلك علي بن أبي طالب في فلسفته الاقتصادية كما سنشرحها، وفي فلسفته السياسية التي شرحناها.

وقد لخص الإمام الجانب الاقتصادي في فلسفته في الحكم في يوم السبت لاحدى عشر ليلة يقين من ذي الحجة سنة 35 هـ، وهو اليوم الذي تلا اليوم الذي بويع فيه خليفة للمسلمين، حين قال:

(أما بعد: فإنه لما قبض رسول الله استخلف الناس أبابكر.

٧٥

ذلك لأنه يمتد إلى مراكزهم الإجتماعية فيضعضعها. وينعكس الأمر عند طبقة العامة.

ولعل الحرمان المادي لم يثرا متعاض ذوى المصالح ولم يثر أحقادهم (نظراً للإثراء الفاحش الذي كانوا يتمتعون به) بمقدار ما أثار تطبيق مبدأ المساواة نفسه في التقسيم ذلك الامتعاض وهذا الحقد.

فقد عومل أولئك السادة كما يعامل غيرهم من المسلمين، وفي هذا ما فيه (بنظرهم ونظر كثير من الناس) من تصديع لهيبتهم وخدش لكرامتهم.

على أن الأمر لم يقف عند هؤلاء وحدهم لأن مبدأ المساواة قد شمل الأنصار كذلك، فلم يصبح هناك فضل لأحد على أحد.

ولهذا نجد علياً بعد أن فرغ من المهاجرين يخاطب عبد الله بن أبي رافع، كاتبه، على مرأى ومسمع من الناس بقوله:

(ثم ثن بالأنصار فافعل معهم مثل ذلك) أي أعط كلا منهم ثلاثة دنانير:

قلة في العطاء لم يألفوها منذ وفاة النبي، وضعضعة في النفوذ والجاه.

ثم انتقل الخليفة إلى موضوع المسلمين من غير العرب فقال لكاتبه:

(ومن حضر من الناس كلهم - الأحمر والأسود - فاصنع به مثل ذلك).

إعط ثلاثة دنانير لكل مسلم بغض النظر عن الجنس والمركز الاجتماعي وما شاكلهما من الاعتبارات الجاهلية التي مسخها الإسلام. فارتاع أصحاب المصالح المركزة (كما ذكرنا) وفرح بذلك أغلب المسلمين.

ومن الطريف أن نذكر في هذه المناسبة أن سهل بن حنيف (الصحابي الجليل المعروف) جاء مع المسلمين لتسلم حصته من المال (وجاء معه غلام له كان قد أعتقه في يوم القسمة، فقال للإمام: يا أمير المؤمنين هذا غلامي بالأمس وقد أعتقته

٧٦

اليوم. فقال علي: نعطيه كما نعطيك. وأعطى كل واحد منهما ثلاثة دنانير ولم يفضل أحداً على أحد).

ومما يروى في هذا المجال أن طلحة والزبير وعبد الله بن عمر بن الخطاب وسعيد بن العاص ومروان بن الحكم (ومن هم على شاكلتهم من أصحاب المصالح المركزة) قد امتنعوا عن تسلم الدنانير الثلاثة التي فرضها لهم الإمام. (فعلوا ذلك بالطبع لعدم حاجتهم إليها أولا، ولأن ذلك يجرح كرامتهم ثانياً). فاجتمع هؤلاء في ناحية من المسجد - على مرأى من الإمام - وتحدثوا نجياً مدة من الزمان، ثم أرسلوا الوليد بن عقبة بن أبي معيط ليعاتب الإمام على تصرفه في التقسيم. فجاء الوليد وشرح للخليفة وجهة نظر القوم، وبين له سابقة بعضهم في الإسلام وما كانوا يمتازون به من العطاء في عهد عمر وعثمان، وناشده الرأفة بهم وبأحسابهم العربية الأصيلة...

وبعد أن انتهى ابن أبي معيط من حديثه مع الخليفة ارتقى على منبر النبي وخاطب الحاضرين:

أما بعد: فأفضل الناس عند الله منزلة وأقربهم من الله وسيلة، أطوعهم لأمره وأعملهم بطاعته وأتبعهم لسنته وأحياهم لكتابه. ليس لأحد عندنا فضل إلا بإطاعة الله وإطاعة رسوله).

فأسقط في أيدي القوم وتأكدوا أن ابن أبي طالب لا يحيد عن تطبيق خطته التي رسمها له القرآن وسار رسول الله وفق مستلزماتها. فأسر بعضهم في نفسه الشر، ولجأ إلى تدبير المؤامرات وإحداث القلق والفوضي في جسم المجتمع الإسلامي آنذاك. فكانت حرب الجمل وصفين والبهروان فالتحكيم فمصرع الإمام كما هو معروف.

الحق إن الخليفة لم يقم بشيء يستوجب تلك الضجة.

٧٧

إنه سار في التقسيم وفق ما نص عليه القرآن وسار عليه رسول الله. وكان المفروض بطلحة والزبير (بصورة خاصة) أن يكونا عوناً للإمام في ذلك. (فأما هذا الفيء فليس لأحد على أحد فيه أثرة. وقد فرغ الله من قسمته. فهو مال الله وأنتم عباده).

أمر على جانب كبير من البساطة والوضوح. فالمال لله والمسلمون عباده، والخليفة واسطة لتوزيع المال (بالطريقة التي عينها صاحبه) على عباده - لأن التقسيم على طريقة أخرى خروج على إرادة صاحب المال، وهو أمر يأباه الإمام. (فمن لم يرض به فليقول كيف شاء.) وله كل الحق في ذلك، فإما أن يمتنع عن تسلم العطاء، أو أن يطلب من الإمام عدم التقيد بالقرآن وسنة النبي في هذا الباب. كل ذلك كان بابه مفتوحا أمام الممتعضين.

وهناك، بالإضافة إلى ذلك، باب للشر انفتح أمام على على مصراعيه: هو باب الكيد للخليفة والدس عليه وتأليب البسطاء والحاقدين على الوضع القائم فاتخذ (قميص عثمان) رمزاً لذلك.

وروى أن علياً - بعد أن فرغ من إلقاء كلمته التي ذكرناها - نزل عن المنبر فصلى ركعتين وأمر عمار بن ياسر أن يستدعى طلحة والزبير - وكانا قد انتحيا ناحية من المسجد كما يرأينا - لمواجهته. فقال لهما الإمام:

(نشدتكما الله هل جئتماني طائعين للبيعة ودعوتماني إليها وأنا كاره لها!؟) قالا نعم. قال: (فما دعاكما بعد إلى ما أرى؟) فقالا إنك استبددت دوننا بالأمر ولم تستشرنا في ما يعرض لك من الأمور، ولم تحفظ لنا مكانتنا الاجتماعية والمالية التي حصلنا عليها في خلافة عمر وابن عفان فخاب ظننا فيك.

فأجاب على: (نقمتما يسيراً وأرجأتما كثيراً). فإذا كانت سياستي في القسمة (التي نص عليها القرآن وسار عليها النبي) لا توافقكما، فإن هناك أموراً أخرى كثيرة في سياستي لا تزعجكما وخاصة في القضايا التي لا تتعلق بمصالحكما:

٧٨

لقد تناسيتم ذلك كله فامتعضتم من طريقتي في العطاء!! (ألا تخبراني! - أدفعتكما عن حق وجب لكما فظلمتكما إياه!) لكي أرتدع عن ذلك - في حالة حدوثه - لتعيدا النظر في موقفكما الذي يخالف نص القرآن وسيرة النبي. (افوقع حكم أو حق لأحد من المسلمين فجهلته أوضعفت عنه؟) لكي استشير كما أو أستشير غيركما من ذوى السابقة في الإسلام فأستعين بهم على تفهمه في حالة الجهل به، أو على تنفيذه في حالة ضعفي عن القيام بما يستلزمه إنجازه من متاعب وصعوبات؟ وإذا لم يحصل شيء من هذا القبيل أيجيز الإسلام لكما أن تقفا مني هذا الموقف الغليظ؟ وأنا سائر على نهج الإسلام القويم. أسوق الناس مساقاً واحداً، ولا أرفع ولا أضع إلا وفق نصوص القرآن والسيرة المحمدية؟

فقال طلحة والزبير: معاذ الله أن يحصل جهلك بنصوص القرآن أو سنة النبي. أو أن يحدث ضعفك في وضع الأمور الاسلامية العليا في أماكنها المشروعة - وأنت من نعرف من العلم والاستقامة والحزم.

فقال على: (فما الذي كرهتماه من أمري حتى رأيتما خلافى؟) بينا ذلك لي وتدوالا معي. فإن كان رأيكما وجيهاً - من الناحية الاسلامية - كيفت سلوكي وفقاً له، وإن لم يكن كذلك وجب عليكما - إن كنتما مسلمين حقاً - الإقلاع عن منابذتي ومحاولة صدى عن تطبيق مبادئ الدين الحنيف.

إني أتوقع منكما أكثر من ذلك - أكثر من عدم معارضتي - وهو الجانب السلبي من الوقوف من سياستي. إنني أتوقع أن تكونا لي عوناً في تنفيذ تلك السياسة والحد من نشاط من يحاول عرقلتها - هذا إذا كنتما جادين في اعتناق الاسلام واتباع أوامره ونواهيه.

فتململ الرجلان ووجما فترة من الزمن كأن على رؤوسهما الطير. ثم قالا في صوت واحد:

إننا ننقم عليك اختلافك عن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان في القسمة.

٧٩

فقد حطمت آمالنا وأهنت عزتنا وجرحت كرامتنا بمساواتنا بالدهماء والرعاع من العرب والعجم.

فارتاع الامام وغضب لله أشد الغضب. ولكنه كعادته كظم غيظه وضغط على أعصابه التي عودها على ذلك في أمثال تلك الأمور (وما أكثرها في حياته).

ثم قال بكل هدوء ورقة مشيراً إلى موقفه وموقفهما من بيعته وزعمهما أنه لم يستشرهما في تنفيذ سياسته العامة:

(فأما ما ذكرتما من استشارة فو الله ما كان لي في الولاية رغبة، ولكنكم دعوتموني إليها وجعلتموني عليها فخفت أن أردكم فتختلف الأمة).

وموقفكما من عثمان - الذي تساهل معكما في العطاء إلى درجة الافراط - معروف فلقد ألبتما الناس عليه حتى لقي حتفه، وبقي المسلمون بعد ذلك دون خليفة زمني يصرف شؤونهم. ومن ثمة انثال الناس على من كان جانب، وأنتما في المقدمة، مع علمكما برأيي في السياسة والاقتصاد. (فلما أفضت الخلافة إلى نظرت في كتاب الله وسنة رسوله فأمضيت ما دلني عليه واتبعته. ولم أحتج إلى رأيكما فيه ولا رأى غيركما ولو وقع حكم ليس في كتاب الله بيانه ولا في السنة برهانه واحتيج إلى المشاورة فيه لشاورتكما فيه.) ولعلى، في المستقبل ن واجد شيئاً من هذا القبيل، فأنتما عندئذ من أولى الناس بالاستشارة.

أما الآن (ولم يحدث ما يستلزم الاستشارة) أو الاستعانة لفهم حكم من الأحكام أو لتنفيذه فلا مبرر لهذا الامتعاض وهذه الضجة الفارغة المفتعلة.

وأما القسم والأسوة فإن ذلك أمر لم أحكم فيه بادئ بدء. قد وجدت أنا وأنتما رسول الله يحكم بذلك، وكتاب الله ناطق به.) فليس هناك وجه للاعتراض.

وإنني لم أضع التشريع المذكور ولم أكن البادئ بتطبيقه - فقد وضعه الله

٨٠