الإمام الحسن العسكري عليه السلام سيرة وتاريخ

الإمام الحسن العسكري عليه السلام سيرة وتاريخ0%

الإمام الحسن العسكري عليه السلام سيرة وتاريخ مؤلف:
الناشر: مركز الرسالة
تصنيف: الإمام بن الحسن بن علي العسكري عليه السلام
ISBN: 964-8629-10-2
الصفحات: 209

الإمام الحسن العسكري عليه السلام سيرة وتاريخ

مؤلف: علي موسى الكعبي
الناشر: مركز الرسالة
تصنيف:

ISBN: 964-8629-10-2
الصفحات: 209
المشاهدات: 85240
تحميل: 4250

توضيحات:

الإمام الحسن العسكري عليه السلام سيرة وتاريخ
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 209 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 85240 / تحميل: 4250
الحجم الحجم الحجم
الإمام الحسن العسكري عليه السلام سيرة وتاريخ

الإمام الحسن العسكري عليه السلام سيرة وتاريخ

مؤلف:
الناشر: مركز الرسالة
ISBN: 964-8629-10-2
العربية

إبراهيم العمري ، والحسين بن محمد العقيقي(1) وغيرهم.

ولم تنته هذه المحاولات حتى بعد شهادة الإمام العسكريعليه‌السلام مسموماً سنة 260 ه‍ ، إذ تحدثت المصادر عن إلقاء حلائله وأصحابه في السجن ، وأنه جرى عليهم كلّ عظيم من اعتقال وتهديد وتصغير واستخفاف وذلّ(2) .

أما موقفهعليه‌السلام مما يجري على أصحابه ، فيمكن تلخيصه في ثلاثة إتجاهات :

الاتجاه الأوّل : الدعاء على أعدائهم

وقد ذكرنا آنفاً أنهعليه‌السلام كان يرفدهم بالدعاء في أحرج الظروف وأحوجها ، ومن ذلك الدعاء الذي رواه عبد الله بن جعفر الحميري ، قال : كنت عند مولاي أبي محمد الحسن بن علي العسكري صلوات الله عليه ، إذ وردت إليه رقعة من الحبس من بعض مواليه ، يذكر فيها ثقل الحديد وسوء الحال وتحامل السلطان ، فكتب إليه :« يا عبد الله ، إنّ الله عليه‌السلام يمتحن عباده ليختبر صبرهم ، فيثيبهم على ذلك ثواب الصالحين ، فعليك بالصبر ، واكتب إلى الله عزوجل رقعة وانفذها إلى مشهد الحسين بن علي صلوات الله عليه ، وارفعها عنده إلى الله عزوجل ، وادفعها حيث لا يراك أحد ، واكتب في الرقعة » ثم أورد دعاءً طويلاً كان منه قولهعليه‌السلام :« اللهم إني قصدت بابك ، ونزلت بفنائك ، واعتصمت بحبلك ، واستغثت بك ، واستجرت بك ، يا غياث المستغيثين أغثني ، يا جارالمستجيرين أجرني ، يا إله العاملين خذ بيدي ، إنّه قد علا الجبابرة في

__________________

(1) راجع : الغيبة للشيخ الطوسي : 227 / 194 ، الفصول المهمة 2 : 1084 ، بحار الأنوار 50 : 306 / 2 و 312 / 10.

(2) راجع : الإرشاد 2 : 336.

٤١

أرضك ، وظهروا في بلادك ، واتخذوا أهل دينك خولاً ، واستأثروا بفيء المسلمين ، ومنعوا ذوي الحقوق حقوقهم التي جعلتها لهم ، وصرفوها في الملاهي والمعازف ، واستصغروا آلاءك ، وكذّبوا أولياءك ، وتسلطوا بجبريّتهم ليعزّوا من أذللت ، ويذلّوا من أعززت ، واحتجبوا عمّن يسألهم حاجة ، أو من ينتجع منهم فائدة » (1) .

وفي هذا الدعاء يشير الإمام العسكريعليه‌السلام إلى مظاهر الفوضى والفساد والظلم التي طبعت الحياة السياسية آنذاك ، فذكر استئثار رجالات السلطة بفيء المسلمين ، ومنعهم ذوي الحقوق حقوقهم التي جعلها الله لهم ، وتبديدها في أسباب اللهو على حساب فقر الفقراء والمصالح التي تفوت بذلك.

ومن دعاء طويل لهعليه‌السلام على موسى بن بغا الذي شكاه أهل قم لجوره وظلمه ، قالعليه‌السلام :« اللّهم وقد شملنا زيغ الفتن ، واستولت علينا غشوة الحيرة ، وقارعنا الذل والصغار ، وحكم علينا غير المأمونين في دينك ، وابتزّ اُمورنا معادن الاُبنَ (2) ممّن عطّل حكمك ، وسعى في اتلاف عبادك ، وإفساد بلادك.

اللّهم وقد عاد فيئنا دولة بعد القسمة ، وإمارتنا غلبة بعد المشورة ، وعدنا ميراثاً بعد الاختيار للاُمّة ، فاشتريت الملاهي والمعازف بسمهم اليتيم

__________________

(1) بحار الأنوار / المجلسي 102 : 238 / 5 عن الكتاب العتيق للغروي ـ المكتبة الاسلامية.

(2) الاُبَن : جمع ابنة ، الحقد والعداوة والعيب.

٤٢

والأرملة ، وحكم في أبشار المؤمنين أهل الذمة(1) ، وولي القيام باُمورهم فاسق كلّ قبيلة ، فلا ذائد يذودهم عن هلكة ، ولا راعٍ ينظر إليهم بعين الرحمة ، ولا ذو شفقة يشبع الكبد الحرّى من مسغبة ، فهم أولو ضرع بدار مضيعة ، واُسراء مسكنة وحلفاء كآبة وذلّة.

اللّهم وقد استحصد زرع الباطل ، وبلغ نهايته ، واستحكم عموده ، واستجمع طريده ، وخذرف وليده ، وبسق فرعه ، وضرب بجرانه ، اللّهم فأتح له من الحق يداً حاصدة تصرع قائمه ، وتهشم سوقه ، وتجبّ سنامه ، وتجدع مراغمه ، ليستخفي الباطل بقبح صورته ، ويظهر الحق بحسن حليته »(2) .

الاتجاه الثاني : احسانه عليه‌السلام إليهم

وقد كان يأمر قوامه ووكلاءه بالتخفيف من وطأة الفقر عن كواهلهم ، ويعطي المعوزين منهم ما يرفع عنهم أسباب العوز والحاجة ، وممن شملهم بره وإحسانه أبو هاشم الجعفري ، وعلي بن إبراهيم بن موسى بن جعفر ، وأبو يوسف

__________________

(1) قد يقال : إن الخلفاء في هذا العصر خصوصاً المتوكل قد فرضوا قيوداً صارمة على أهل الذمة ، لكن المتصفح لكتب التاريخ يري أنّهم يشكلون جزءاً مهماً من جيوش الخلافة ، وبعضهم كانوا ذوي مناصب عالية في الجيش ، منهم أبو العباس الوارثي النصراني ، الذي وجهه بغا إلى أرمينية. راجع : الكامل في التاريخ 6 : 116 ، ومنهم صاعد بن مخلد النصراني كاتب الموفق ووزير المعتمد. راجع : سير أعلام النبلاء 13 : 326 / 149.

(2) مهج الدعوات لابن طاوُس : 67 ـ طهران ـ 1323 ه‍ ، بحار الأنوار 85 : 229 / 1.

٤٣

الشاعر(1) ، وغيرهم.

الاتجاه الثالث : تحذيرهم من الفتن

حيث كانعليه‌السلام يمارس دوره كقائد لمواليه وأصحابه وراعٍ لمصالحهم ومدافع عن قضاياهم في حدود فسحة ضيقة محكومة بالرقابة والضغط ، وعلى هذا الصعيد كانعليه‌السلام يحذرهم الأخطار والفتن المحدقة بهم ، ومن الوقوع في أحابيل السلطة ، ويساعدهم في إخفاء نشاطهم بحسب الإمكان ، ويهيء الجماعة الصالحة لغيبة ولده الحجةعليه‌السلام الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعد ما ملئت ظلماً وجوراً.

وفي هذا الاتجاه أوصى أصحابه ان يكونوا على اُهبة من فتنةٍ تظلهم عند موت المعتز(2) .

وحذرهم من الإذاعة وطلب الرئاسة مشدّداً على التقوى وأداء الأمانة ، فقد جاء في الرسالة لهعليه‌السلام إلى بعض بني أسباط :« إياك والاذاعة وطلب الرئاسة ، فإنّهما يدعوان إلى الهلكة واقرأ من تثق به من مواليّ السلام ، ومُرهم بتقوى الله العظيم وأداء الأمانة وأعلمهم أن المذيع علينا حرب لنا » (3) .

وأكد على الكتمان والحيطة حتى أنهعليه‌السلام قال لأحد أصحابه :« إذا سمعت

__________________

(1) راجع : أصول الكافي 1 : 506 / 3 و 507 / 10 ـ باب مولد أبي محمد الحسن بن عليعليه‌السلام ـ من كتاب الحجة ، بحار الأنوار 50 : 294 / 69.

(2) كشف الغمة 3 : 295 ، بحار الأنوار 50 : 298 / 72.

(3) كشف الغمة 3 : 293 ، بحار الأنوار 50 : 296 ـ 297.

٤٤

لنا شاتماً فامض لسبيلك التي اُمرت بها ، وإياك أن تجاوب من يشتمنا ، أو تعرّفه من أنت ، فاننا ببلد سوء ومصر سوء » (1) .

وقال لأحد أصحابه حينما أراد أن يصرّح بإمامتهعليه‌السلام :« إنّما هو الكتمان أو القتل ، فاتق الله على نفسك » ، وفي رواية :« فابقوا على أنفسكم » (2) .

وبلغت درجة الحيطة لديهعليه‌السلام أنه أوصى بعض أصحابه أن لا يسلّم عليه أو يدنو منه ، فقد ترصّده أصحابه يوماً عند ركوبه إلى دار الخلافة ليسلموا عليه ، فخرج التوقيع منهعليه‌السلام إليهم :« ألا لا يسلمنّ عليّ أحد ، ولا يشير إليّ بيده ، ولا يومئ ، فانكم لا تأمنون على أنفسكم » (3) .

ونادىعليه‌السلام يوماً حمزة بن محمد بن أحمد بن علي بن الحسين بن علي ، وقد أراد الاقتراب منه حينما خرج مع السلطان وأحسّ منه خلوة :« لا تدن مني ، فإنّ عليّ عيوناً ، وأنت أيضاً خائف » (4) .

مواقف العباسيين :

لغرض استجلاء موقف السلطة من الإمام لابدّ من استعراض موقف الحاكمين من بني العباس على انفراد حسب التسلسل التاريخي ، وقد ذكرنا أن الإمام العسكريعليه‌السلام عاصر في سني إمامته ( 254 ـ 260 ه‍ ) شطراً من خلافة المعتز والمهتدي وبعض سني خلافة المعتمد ، لكنا سوف نذكر بعضاً من مواقف

__________________

(1) المناقب لابن شهر آشوب 4 : 461.

(2) إثبات الوصية : 251 ، كشف الغمة 3 : 302 ، بحار الأنوار 50 : 290 / 63.

(3) الخرائج والجرائح 1 : 439 / 20 ، بحار الأنوار 50 : 269 / 24.

(4) الثاقب في المناقب / لأبي جعفر محمد بن علي الطوسي : 573 / 520 ـ دار الزهراء ـ 1411.

٤٥

المتقدمين الذين عاصروا الإمام العسكريعليه‌السلام منذ ولادته إلى أن تسنّم الإمامة ( 232 ـ 254 ه‍ ) ومع كون هذه المدة تقع ضمن فترة إمامة أبيهعليه‌السلام لكن الإمام العسكريعليه‌السلام واكب أحداثها وعانى من آثارها وعاش شتى الصعوبات والظروف القاسية التي واجهت أباه من قبل ؛ منذ استدعائه من المدينة إلى سامراء حتى وفاته مروراً بالحصار والاقامة والاعتقال محاولات الاغتيال.

على أنه لم ينقل لنا التاريخ تفاصيل العلاقة بين الإمامعليه‌السلام وبين كلّ واحد من خلفاء عصره ، عدا أخبار اعتقاله وتنبؤاته بموت بعضهم أو قتله ، وموقف الخلفاء من الشيعة بشكل عام والطالبيين بشكل خاص الذين طالهم السجن والتشريد والقتل صبراً على يد أجهزة السلطة.

اولاً ـ المتوكل ( 232 ـ 247 ه‍ )

وهو جعفر بن المعتصم بن الرشيد ، بويع بعده وفاة أخيه الواثق في ذي الحجة سنة 232 ه‍ ، وكان عمر الإمام العسكريعليه‌السلام نحو ثمانية أشهر ونصف ، إذ ولدعليه‌السلام في الثامن من ربيع الآخر سنة 232.

إن السمة الغالبة على المتوكل هي النصب والتجاهر بالعداء لآل البيتعليهم‌السلام والحقد السافر عليهم وعلى من يمتّ لهم بصلة نسب أو ولاء ، وقد أجمع على هذا الأمر غالبية المؤرخين حتى : أولئك اعتبروه ناصراً للسنّة وشبّهوه بالصديق وعمر بن عبد العزيز.

قال السيوطي : « كان المتوكل معروفاً بالتعصب »(1) .

__________________

(1) تاريخ الخلفاء : 268. والظاهر أن أصل عبارة السيوطي ( بالنصب ).

٤٦

وقال الذهبي : « كان المتوكل فيه نصب وانحراف »(1) .

وقال ابن الأثير : « كان المتوكل شديد البغض لعلي بن أبي طالب ولأهل بيته ، وكان يقصد من يبلغه عنه أنه يتولى علياً وأهله بأخذ المال والدم ، وكان من جملة ندمائه عبادة المخنّث ، وكان يشدّ على بطنه تحت ثيابه مخدّة ويكشف رأسه وهو أصلع ويرقص بين يدي المتوكل ، والمغنون يغنّون ؛ قد أقبل الأصلع البطين خليفة المسلمين ، يحكي بذلك علياًعليه‌السلام والمتوكل يشرب ويضحك ...

وإنّما كان ينادمه ويجالسه جماعة قد اشتهروا بالنصب والبغض لعلي ، منهم : علي بن الجهم الشاعر الشامي من بني شامة بن لؤي ، وعمرو بن الفرج الرخجي ، وأبو السمط من ولد مروان بن أبي حفصة من موالي بني أميه ، وعبدالله بن داود الهاشمي المعروف بابن اُترجه ، وكانوا يخوّفونه من العلويين ، ويشيرون عليه بإبعادهم والإعراض عنهم والإساءة إليهم ، ثم حسّنوا له الوقيعة في أسلافهم الذين يعتقد الناس علوّ منزلتهم في الدين ، ولم يبرحوا به حتى ظهر منه ما كان »(2) .

ولا يمكن أن يجرأ أحد من هؤلاء الذين ذكرهم ابن الأثير على النيل من أمير المؤمنينعليه‌السلام وعموم أهل البيت أمام أحد سلاطين بني العباس ، لولا علمهم المسبق بعداء ذلك ( الخليفة ) السافر لأهل البيتعليهم‌السلام وحقده المقيت عليهم ، وحرصه على تشجيع ثقافة النصب والبغض وافشائها في أوساط الناس عن طريق بعض المرتزقة من الشعراء وغيرهم.

__________________

(1) سير أعلام النبلاء 12 : 35.

(2) الكامل في التاريخ 6 : 108 ـ 109.

٤٧

روي أنّ أبا السمط مروان بن أبي الجنوب ، قال : « أنشدت المتوكل شعراً ذكرت فيه الرافضة ، فعقد لي على البحرين واليمامة ، وخلع عليّ أربع خلع ، وخلع عليّ المنتصر ، وأمر لي المتوكل بثلاثة آلاف دينار ، فنثرت عليّ ، وأمر ابنه المنتصر وسعد الايتاخي أن يلتقطاها لي ففعلا ، والشعر الذي قلته :

يرجوا التراث بنو البنا

ت وما لهم فيها قُلامه

والصهر ليس بـوارثٍ

والبنت لا ترث الامامه

ما للذين تنحلّوا

ميراثكـم إلا النـدامه

ليـس التراث لغيركـم

لا والالـه ولا كرامه

قال : ثمّ نثر عليّ بعد ذلك لشعرٍ قلته في هذا المعنى عشرة آلاف درهم »(1) .

ومن هنا كان زمان المتوكل إيذاناً ببدء عهد الظلم والتعسّف على أهل البيتعليهم‌السلام وشيعتهم ؛ لأن المتوكل أمعن في التنكيل بهم وأسرف في القتل والحبس والحصار والتشريد وصنوف الأذي والعنت ، وفيما يلي نذكر بعض اجراءاته في هذا الإتجاه :

1 ـ استدعاء الإمام الهادي عليه‌السلام إلى سامراء وايذاؤه

كان المتوكل حريصاً على محاصرة الإمام الهاديعليه‌السلام ووضعه تحت الرقابة وعزله عن الجمهور المسلم الذي كان ينتفع به ويعظّمه وعن شيعته ومواليه في المدينة ، لهذا كتب باشخاصه مع أهل بيته ومواليه ، من مدينة جدهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يثرب إلى عاصمة الملك العباسي آنذاك سامراء.

__________________

(1) تاريخ الطبري 9 : 230 ، الكامل في التاريخ 6 : 140.

٤٨

أسباب الاستدعاء

إنّما ينطلق المتوكل في كلّ مواقفه مع الإمام الهاديعليه‌السلام وشيعته من البغض الذي يكنّه لأهل بيت النبوة ، وفضلاً عن ذلك فقد ذكر المؤرخون سببين مرتبطين دفعا المتوكل إلى إشخاص الإمامعليه‌السلام إلى سامراء وهما :

السبب الأول : هاجس الخوف الذي يراود المتوكل من انصراف الناس إلى الإمامعليه‌السلام لما علمه من إلتفاف الناس حوله في المدينة ، نقل سبط ابن الجوزي عن علماء السير قولهم : « إنّما أشخصه المتوكل إلى بغداد ، لأن المتوكل كان يبغض علياًعليه‌السلام وذريته ، فبلغه مقام عليعليه‌السلام بالمدينة ، وميل الناس إليه فخاف منه »(1) .

وعبّر عن هذا المعنى أيضاً يزداد النصراني تلميذ بختيشوع طبيب البلاط ، قال : « بلغني أن الخليفة استقدمه من الحجاز فَرَقاً منه ، لئلا تنصرف إليه وجوه الناس ، فيخرج هذا الأمر عنهم ، يعني بني العباس »(2) .

والإمامعليه‌السلام لم يكن في موقع الدعوة إلى الثورة ضد الخلافة العباسية ، لأن الظروف الموجودة آنذاك لم تكن تسمح بمثل هذا العمل ، وقد عرف الإمامعليه‌السلام بعد استدعائه هواجس نفس المتوكل ، فبين له أنه ليس همّه استلام السلطة ولا تنزع نفسه الكريمة إلى شيء من هذا الحطام ، وذلك حينما استعرض المتوكل جيشه بحضور الإمامعليه‌السلام وقد بلغ تسعين ألفاً من الترك ، فقالعليه‌السلام :« نحن

__________________

(1) تذكرة الخواص : 322.

(2) دلائل الإمامة / الطبري : 419 / 382 ـ مؤسسة البعثة ـ قم ـ 1413 ه‍ ، نوادر المعجزات / الطبري : 188 / 7 ـ مؤسسة الإمام المهديعليه‌السلام ـ قم 1410 ه‍.

٤٩

لا ننافسكم في الدنيا ، نحن مشتغلون بأمرالآخرة ، ولا عليك ممّا تظنّ » (1) .

السبب الثاني : الدور الذي مارسه بعض الحاقدين من عمال بني العباس في الوشاية بالإمام إلى المتوكل ، ومنهم عبد الله بن محمد بن داود الهاشمي ، المعروف بابن اترجة أو بريحة(2) ، وكان يتولى ادارة الحرب والصلاة في الحرمين.

قال المسعودي : كتب بريحة إلى المتوكل : إن كان لك في الحرمين حاجة فاخرج علي بن محمد منها ، فإنّه قد دعا الناس إلى نفسه واتبعه خلق كثير ؛ وتابع كتبه إلى المتوكل بهذا المعنى(3) .

وقال الشيخ المفيد : سعى بأبي الحسنعليه‌السلام إلى المتوكل ، وكان يقصده بالاذى(4) .

وقال اليعقوبي : كتب إلى المتوكل يذكر أن قوماً يقولون إنه الإمام(5) .

ومهما يكن فان أفعال الوشاة توقظ شكوك المتوكل وأحقاده وتثير توجّسه الكامن في نفسه تجاه الإمامعليه‌السلام .

كتاب الاستدعاء

ذكر الشيخ المفيد أنه لما بلغ أبا الحسنعليه‌السلام سعاية عبد الله بن محمد به ، كتب إلى المتوكل يذكر تحامل عبد الله بن محمد عليه ويكذبه في ما وشى به إليه ، فتقدم

__________________

(1) الخرائج والجرائح 1 : 414 / 19 ، الثاقب في المناقب : 557 ، كشف الغمة 3 : 185 ، بحار الأنوار 50 : 155 / 44.

(2) أو بريهة ، راجع : الكامل في التاريخ 6 : 245.

(3) إثبات الوصية : 233.

(4) الإرشاد 2 : 309.

(5) تاريخ اليعقوبي 2 : 484.

٥٠

المتوكل باجابة الإمامعليه‌السلام بكتاب دعاه فيه إلى حضور العسكر على جميل الفعل والقول(1) . ثم أورد نسخة الكتاب.

وكان جواب المتوكل الذي استدعى بموجبه الإمامعليه‌السلام إلى سامراء هادئاً ليناً ، تظاهر فيه بتعظيم الإمامعليه‌السلام وإكرامه ، ووعده فيه باللطف والبرّ ، وذكر فيه براءته مما نسب إليه واتهم به من التحرك ضد الدولة ، وانه أمر بعزل الوالي الذي سعى به ـ وهو عبد الله بن محمد ـ عن منصبه وولّى محلّه محمد بن الفضل ، وادّعى في آخر الكتاب أنّه مشتاق إلى الإمامعليه‌السلام ، ثم أفضى إلى بيت القصيد وهو أن يشخص الإمامعليه‌السلام إلى سامراء مع من اختار من أهل بيته ومواليه ، وأن يرافقه يحيى بن هرثمة الذي أرسله لأداء هذه المهمة على رأس الجند.

ولا يعدو كتاب المتوكل كونه مناورة حاول الالتفاف من خلالها على الإمامعليه‌السلام واحتواء نشاطه ، أو قل هو صيغة دبلوماسية من قبيل ذرّ الرماد في العيون ، إذ لم يكن المتوكل صادقاً فيما وعد ، فحينما دخل يحيى بن هرثمة المدينة فتّش دار الإمامعليه‌السلام حتى ضجّ أهل المدينة ، ولما وصل ركب الإمامعليه‌السلام إلى سامراء احتجب عنه المتوكل في اليوم الأول ، ونزل الإمامعليه‌السلام الإمام في خان الصعاليك ، وأمر بتفتيش داره في سامراء مرات عديدة ، ولم يمض مزيد من الوقت حتى عزل محمد بن الفضل وولى مكانه محمد بن الفرج الرخّجي المعروف بعدائه السافر لآل البيتعليهم‌السلام (2) .

__________________

(1) الإرشاد 2 : 309 ، وراجع نسخة كتاب المتوكل أيضاً في أصول الكافي 1 : 501 / 7 ، والفصول المهمة 2 : 1069.

(2) قال ابن كثير : كان المتوكل لا يولي أحداً إلا بعد مشورة الإمام أحمد ، البداية

٥١

ويبدوا أن المتوكل قد صاغ كتابه بصيغة الرجاء ، وكأنه ترك للإمامعليه‌السلام الخيار في الشخوص أو البقاء ، غير أنه الاكراه بعينه ، إذ أنه بعث الكتاب مع الجند وقادتهم الذي أرسلهم لأداء مهمة إشخاص الإمام ، ثمّ ( إن الإمام إن لم يذهب حيث أمره يكون قد أثبت تلك التهمة على نفسه ، وأعلن العصيان على الخلافة ، وكلاهما مما لا تقتضية سياسة الإمام )عليه‌السلام (1) .

ولعل أوضح دليل على إلزام الإمامعليه‌السلام بهذا الأمر هو تصريحهعليه‌السلام بذلك في حديث رواه المنصوري عن عم أبيه أبي موسى ، ثم قال : « قال لي يوماً الإمام علي بن محمدعليهما‌السلام :يا أبا موسى ، اُخرجت إلى سرّ من رأى كرها ً »(2) .

الامام العسكري يرافق أباه عليهما‌السلام

رافق الإمام العسكري أباه الإمام الهاديعليهما‌السلام في رحلته من المدينة إلى سامراء مع أهل بيته وبعض مواليه ، وقد اختلف في عمرهعليه‌السلام حينذاك نظراً للاختلاف في تاريخ رحلة الإمامعليه‌السلام .

__________________

والنهاية 10 : 316 ، فان كان ذلك حقاً ، فلا أدري كيف يوافق الإمام أحمد على تولية أمثال : محمد بن الفرج الرخجي ، والد يزج الذي هدم قبر الحسينعليه‌السلام ، وأبي السمط مروان بن أبي الجنوب الذي ولاه على اليمامة والبحرين ، وابن اُترجة الذي ولاه الحرب والصلاة في الحرمين وغيرهم من النواصب ؟! فإنّ أراد المبالغة في مدح المتوكل الناصبي فقد عرّض بالإمام أحمد وأساء إليه ، وإن كان قوله حقاً فعلى أمثال الإمام أحمد العفا.

(1) تاريخ الغيبة الصغرى للسيد محمد الصدر : 107 ـ دار التعارف ـ بيروت ـ 1412 ه‍.

(2) المناقب لابن شهر آشوب 4 : 449 ، بحار الأنوار 50 : 129 / 8.

٥٢

ذكر المسعودي أنه شخص الإمام الحسن العسكري بشخوص والدهعليهما‌السلام إلى العراق في سنة 236 ه‍ وله أربع سنين وشهور(1) .

وذكر الطبري أنه قدم يحيى بن هرثمة بعلي بن محمد بن علي الرضا بن موسى ابن جعفر سنة 233 ه‍(2) ، وعليه يكون عمر الإمام العسكريعليه‌السلام نحو سنة واحدة ، وعلى ضوئه ذكر ابن كثير أن مدة إقامة الإمام الهاديعليه‌السلام في سامراء أكثر من عشرين سنة. قال في أحداث سنة 254 ه‍ ، وهي السنة التي توفي فيها الإمام الهاديعليه‌السلام : نقله المتوكل إلى سامراء ، فأقام بها أزيد من عشرين سنة بأشهر ، ومات في هذه السنة(3) ، وكذلك ذكر ابن طولون أنهعليه‌السلام أقام في سامراء عشرين سنة وتسعة أشهر(4) .

أما الشيخ المفيد فقد ذكر نسخة كتاب الاستدعاء الذي كتبه المتوكل. وورد في ذيله أن كاتبه إبراهيم بن العباس كتبه في سنة 243 ه‍(5) . وأكّد هذا التاريخ باعتبار أن مقام الإمام الهاديعليه‌السلام في سامراء إلى أن قُبض عشر سنين وأشهراً(6) . وعليه يكون عمر الإمام العسكريعليه‌السلام عندما غادر المدينة أحد عشرسنة وبضعة شهور.

ويبدو أن الشيخ المفيد استفاد من رواية الكافي لنسخة كتاب المتوكل ،

__________________

(1) إثبات الوصية / المسعودي : 244.

(2) تاريخ الطبري 9 : 163 ـ حوادث سنة 233 ه‍.

(3) البداية والنهاية 11 : 15 ـ حوادث سنة 254 ه‍.

(4) الأئمة الاثنا عشرعليهم‌السلام / لابن طولون : 109 و 113 ـ بيروت ـ دار صادر.

(5) الإرشاد 2 : 310.

(6) الإرشاد 2 : 312.

٥٣

والتي ورد فيها اسم كاتب المتوكل ( إبراهيم بن العباس ) في ذيل الكتاب إلا أنه يخلو من التاريخ ، لكن جاء في أول رواية الكافي ما يلي : عن محمد بن يحيى ، عن بعض أصحابنا ، قال : أخذت نسخة كتاب المتوكل إلى أبي الحسن الثالث من يحيى بن هرثمة في سنة 243 ه‍(1) ، وواضح أن هذا هو تاريخ أخذ نسخة الكتاب لا تاريخ كتابته ، ويؤيده أن ابن هرثمة هو الذي أخذ الكتاب إلى المدينة لاستدعاء الإمامعليه‌السلام إلى سامراء ، فكيف تؤخذ نسخة الكتاب منه قبل إنهاء مهمته ؟!

ورجّح السيد محمد الصدر أن تاريخ الرحلة كان سنة 234 ه‍ ، وإذا صحّ ذلك فسيكون عمر الإمام العسكريعليه‌السلام حينما غادر المدينة نحو سنتين ، وترجيحه مبنياً على اعتبارين ؛ الأول : ما ذكره ابن شهر آشوب من أن مدة مقام الإمام الهاديعليه‌السلام في سامراء من حين دخوله إلى وفاته عشرون سنة(2) ، فإذا كانت وفاته 254 ه‍ ، تكون سفرته سنة 234 ه‍ ، الثاني : كون هذا التاريخ أنسب بالاعتبار السياسي ، لأنه بعد مجيء المتوكل إلى الخلافة بعامين ، فيكون المتوكل قد طبّق منهجه في الرقابة على الإمامعليه‌السلام في الأعوام الاولى من خلافته ، بخلاف رواية المفيد التي تبعد بالتاريخ عن استخلاف المتوكل أحد عشر عاماً(3) .

__________________

(1) أصول الكافي 1 : 501 / 7 ـ باب مولد أبي الحسن علي بن محمدعليهما‌السلام من كتاب الحجة.

(2) المناقب لابن شهر آشوب 4 : 433.

(3) تاريخ الغيبة الصغري 2 : 107 ـ 108.

٥٤

من المدينة إلى سامراء

ذكر المسعودي « أن يحيى بن هرثمة قدم المدينة ، فأوصل الكتاب إلى بريحة ، وركبا جميعاً إلى أبي الحسنعليه‌السلام فأوصلا إليه كتاب المتوكل ، فاستأجلهما ثلاثاً ، فلما كان بعد ثلاث عاد يحيى إلى داره فوجد الدواب مسرجة والأثقال مشدودة قد فرغ منها ، وخرج صلوات الله عليه متوجهاً نحو العراق ، وأتبعه بريحة مشيعاً ، فلما صار في بعض الطريق ، قال له بريحة : قد علمت وقوفك على أني كنت السبب في حملك ، وعليَّ حلف بأيمان مغلظة لئن شكوتني إلى أمير المؤمنين أو إلى أحد من خاصته وأبنائه ، لأجمرنّ نخلك ، ولأقتلنّ مواليك ولأعورنّ عيون ضيعتك ، ولأفعلن وأصنعن.

فالتفت إليه أبو الحسنعليه‌السلام فقال له :إن أقرب عَرضي إياك على الله البارحة ، وما كنت لأعرضنك عليه ثم لاشكونك إلى غيره من خلقه . فانكبّ عليه بريحة وضرع إليه واستعفاه. فقال له :قد عفوت عنك »(1) . وهكذا تجد بريحة يهتزّ من كلام الإمامعليه‌السلام فينكبّ عليه ويتضرع إليه ، رغم أنّه في موقع القوة ، وهذه هي هيبة أولياء الله في قلوب أعدائه ، وتلك هي أخلاقهم وسماحتهم لمن أساء إليهم.

ونقل سبط ابن الجوزي عن علماء السير : « أن المتوكل دعا يحيى بن هرثمة وقال : اذهب إلى المدينة ، وانظر حاله وأشخصه إلينا ، قال يحيى : فذهبت إلى المدينة ، فلما دخلتها ضجّ أهلها ضجيجاً عظيماً ما سمع الناس بمثله خوفاً على علي ، وقامت الدنيا على ساق ، لأنّه كان محسناً إليهم ملازماً للمسجد ، ولم يكن

__________________

(1) إثبات الوصية : 233.

٥٥

عنده ميل إلى الدنيا.

قال يحيى : فجعلت اُسكّنهم وأحلف لهم أنّي لم اُؤمر فيه بمكروه ، وأنه لا بأس عليه ، ثمّ فتّشت منزله ، فلم أجد فيه إلا مصاحف وأدعية وكتب العلم ، فعظم في عيني ، وتوليت خدمته بنفسي ، وأحسنت عشرته ، فلما قدمت به بغداد بدأت باسحاق بن إبراهيم الطاهري ، وكان والياً على بغداد فقال لي : يا يحيى ، إن هذا الرجل قد ولده رسول الله والمتوكل من تعلم ، فإنّ حرّضته عليه قتله ، وكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خصمك يوم القيامة ، فقلت له : والله ما وقعت منه إلا على كلّ أمر جميل ، ثم صرت به إلى سرّ من رأى ، فبدأت بوصيف التركي فأخبرته بوصوله ، فقال : والله لئن سقط منه شعره لا يطالب بها سواك ، قال : فعجبت كيف وافق قوله قول إسحاق »(1) .

هذا الخبر يدل على الموقع الذي يشغله الإمام الهاديعليه‌السلام في نفوس الناس وكسب ثقتهم ومحبتهم على اختلاف توجهاتهم ، وذلك من خلال إحسانه إليهم ورعاية اُمورهم وتأثّرهم بخصائص شخصيته الباهرة ، ممّا جعله في موقع محبة الناس كلهم ، فهرعوا في مظاهرة احتجاجية لم يسمع بمثلها خوفاً على حياة إمامهمعليه‌السلام من بطش المتوكل الذي يعرفون توجهاته وممارساته ، لهذا حاول ابن هرثمة تهدئتهم بقسمه لهم أنه لم يؤمر فيه بمكروه ، وتأثّر ابن هرثمة بعظمة الإمامعليه‌السلام أيضاً فتولّى خدمته بنفسه وأحسن عشرته ، وهكذا امتدت محبة الإمامعليه‌السلام وتعظيمه إلى حاشية المتوكل في بغداد وسامراء.

وتتجلّى مظاهر الحب والتعظيم أيضاً في تشوق الناس من أهالي بغداد إلى

__________________

(1) تذكرة الخواص : 322 ، مروج الذهب 4 : 422 نحوه.

٥٦

الإمام الهاديعليه‌السلام واجتماعهم لرؤيته ، مما اضطرهم إلى دخول البلد ومغادرته في الليل ، فقد جاء في تاريخ اليعقوبي « أنه لما كان في موضع يقال له الياسرية نزل هناك ، وركب إسحاق بن إبراهيم الطاهري لتلقيه ، فرأى تشوق الناس إليه واجتماعهم لرؤيته ، فأقام إلى الليل ، ودخل به في الليل ، فأقام ببغداد بعض تلك الليلة ثم نفذ إلى سرّ من رأى »(1) .

في سامراء :

حينما وصل ركب الإمام الهاديعليه‌السلام إلى سامراء تقدّم المتوكّل بأن يُحجَب عنه في يومه ، واُنزل في خان يُعَرف بخان الصعاليك(2) ، فأقام فيه يومه ، ثمّ تقدّم المتوكل بافراد دارٍ له ، فانتقل إليها ، فأقام أبو الحسن مدة مقامه بسرّ من رأى مكرماً معظماً مبجلاً في ظاهر حاله ، والمتوكل يبغي له الغوائل في باطن الأمر ، ويجتهد في ايقاع حيلة به ، ويعمل على الوضع من قدره في عيون الناس ، فلا يتمكن من ذلك ولم يقدره الله عليه(3) .

والظاهر أن المتوكل أمر أولاً بجحز الإمامعليه‌السلام وفرض الإقامة الجبرية عليه في مكان غير لائق ، ثمّ أنه لما سمع الاطراء من قادة الجند الموكلين به ، صار مضطراً إلى إكرامه ، نقل سبط ابن الجوزي عن علماء السير عن يحيى بن هرثمة أنه قال : « لمّا دخلت على المتوكل سألني عنه فأخبرته بحسن سيرته وسلامة

__________________

(1) تاريخ اليعقوبي 2 : 484.

(2) راجع : أصول الكافي 1 : 498 / 2 باب أبي الحسن علي بن محمدعليه‌السلام من ـ كتاب الحجة ، بصائر الدرجات / للصفار : 426 / 7 و 427 / 11 ـ مؤسسة الأعلمي ـ طهران ، الخرائج والجرائح / للقطب الراوندي 2 : 680 / 10.

(3) الإرشاد 2 : 311 ، الفصول المهمة 2 : 1070 ، إعلام الورى 2 : 126.

٥٧

طريقته وورعه وزهادته ، وأني فتّشت داره فلم أجد فيها غير المصاحف وكتب العلم ، وأن أهل المدينة خافوا عليه ، فأكرمه المتوكل وأحسن جائزته وأجزل برّه ، وأنزله معه سر من رأى »(1) ، لتمرير مخططه القاضي بعزل الإمامعليه‌السلام ومراقبته.

مداهمة دار الامام عليه‌السلام :

تقوم أجهزة السلطة بذرائع مختلفة بالتفتيش المفاجئ لدار الإمام الهاديعليه‌السلام في سامراء ، وعلى رأسها الوشايات التي ترتفع إلى المتوكل من النواصب المحيطين به ، فتثير في نفسه كوامن الخوف والشك والحقد التي اشتملت على كيانه وأحاطت جوانبه ، فيأمر بكبس داره ، وفي كلّ حوادث الدهم التي تعرّضت لها دار الإمام يرجع المأمورون وبالتالي الوشاة بالخيبة والفشل الذريعين ، لأنهم لم يجدوا شيئاً مريباً ولا أيّ نشاط غريب ، وليس ثمة إلا الإمامعليه‌السلام وهو يتلوا القرآن أو يقيم الصلاة.

عن إبراهيم بن محمد الطاهري ـ في حديث طويل ـ قال : « سعي البطحاني(2) بأبي الحسنعليه‌السلام إلى المتوكل ، وقال : عنده سلاح وأموال ، فتقدم المتوكل إلى سعيد الحاجب أن يهجم ليلاً عليه ، وياخذ ما يجده عنده من الأموال والسلاح ويحمله إليه. قال إبراهيم : فقال لي سعيد الحاجب : صرت إلى

__________________

(1) تذكرة الخواص : 322 ، ونحوه في مروج الذهب 4 : 422.

(2) في الكافي : البطحائي العلوي ، وهو يشير إلى أن الدولة تستعمل الضدّ النوعي للتجسس على الإمام ، الأمر الذي تمارسه حكومات الطغيان والاستبداد في هذا الزمان.

٥٨

دار أبي الحسن بالليل ، ومعي سُلّم ، فصعدت منه إلى السطح ، ونزلت من الدرجة إلى بعضها في الظلمة ، فلم أدر كيف أصل إلى الدار ، فناداني أبو الحسن من الدار :يا سعيد ، مكانك حتى يأتوك بشمعة ، فلم ألبث أن أتوني بشمعة ، فنزلت فوجدت عليه جبّه صوف وقلنسوة منها ، وسجادته على حصير بين يديه ، وهو مقبل على القبلة. فقال لي :دونك البيوت ، فدخلتها وفتشتها فلم اجد فيها شيئاً »(1) .

ومرة اُخرى وشي بالإمامعليه‌السلام إلى متوكل ، فأرسل الأتراك على حين غرّة إلى دار الإمام ، وقد أمرهم هذه المرة بحملهعليه‌السلام إليه حتى وإن لم يجدوا ما يثير الريبة والاستغراب ، ذلك لأنّه كان عازماً على الاستخفاف بالإمامعليه‌السلام بطرق اُخرى أمام ندمائه حينما لم يجد متسعاً لتنفيذ رغباته عن طريق سعاية الوشاة ، وما كان يتوقع أن الإمامعليه‌السلام سوف يصفعه بعظات نزلت كالصاعقة على أسماعه وأسماع ندمائه ، لأنها تصور ما سيؤول إليه أمره وأمر أمثاله من الطغاة عبيد الأهواء والشهوات.

روى المسعودي بالاسناد عن محمد بن يزيد المبرد ، قال : « قد كان سعي بأبي الحسن علي بن محمد إلى المتوكل ، وقيل له : إن في منزله سلاحاً وكتباً وغيرها من شيعته ، فوجّه إليه ليلاً من الأتراك وغيرهم من هجم عليه في منزله على غفلة ممن في داره ، فوجده في بيت وحده مغلق عليه ، وعليه مدرعة من شعر ، ولا بساط في البيت إلا الرمل والحصى ، وعلى رأسه ملحفة من الصوف

__________________

(1) أصول الكافي 1 : 499 / 4 باب مولد أبي الحسن علي بن محمدعليه‌السلام من كتاب الحجة ، الإرشاد 2 : 303 ، الخرائج والجرائح 1 : 676 / 8.

٥٩

متوجهاً إلى ربه ، يترنّم بآيات من القرآن في الوعد والوعيد ، فأخذ على ما هو عليه ، وحمل إلى المتوكل في جوف الليل ، فمثل بين يديه والمتوكل يشرب وفي يده كأس ، فلمّا رآه أعظمه وأجلسه إلى جنبه ، ولم يكن في منزله شيء ممّا قيل فيه ولا حالة يتعلل عليه بها ، فناوله المتوكل الكأس الذي في يده ، فقال :يا أمير المؤمنين ، ما خامر لحمي ودمي قطّ فاعفني منه ، فعفاه وقال : انشدني شعراً أستحسنه ، فقال :إني قليل الرواية للأشعار . فقال : لابد أن تنشدني. فأنشده :

باتوا على قُلل الأجـبال تحرسهم

غلب الرجـال فمـا أغتنهم القللُ

واستنزلوا بعد عـزّ مـن معاقلهم

وأسكنوا حفراً يا بئس مـا نزلوا

ناداهم صارخ من بعد مـا قبروا

أين الأسرةُ والتيجانُ والحـللُ

أين الوجوه التي كانـت منـعّمة

من دونها تضرب الأستار والكللُ

فأفصح القبر عنهم حـين ساءلهم

تلك الوجوه عليها الـدود يـقتتلُ

قد طالما أكلوا دهراً ومـا شربوا

فأصبحوا بعد طول الإكل قد أكلوا

     
٦٠