نهج البلاغة الجزء ١

نهج البلاغة0%

نهج البلاغة مؤلف:
المحقق: محمّد محيى الدين عبد الحميد
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 250

نهج البلاغة

مؤلف: محمد عبده
المحقق: محمّد محيى الدين عبد الحميد
تصنيف:

الصفحات: 250
المشاهدات: 86681
تحميل: 3980


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 250 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 86681 / تحميل: 3980
الحجم الحجم الحجم

الثّائر فى دمائنا كالحاكم فى حقّ نفسه(1) ، وهو اللّه الّذى لا يعجزه من طلب ولا يفوته من هرب. فأقسم باللّه يا بنى أميّة عمّا قليل لتعرفنّها فى أيدى غيركم وفى دار عدوّكم. الاّ وإنّ أبصر الأبصار ما نفذ فى الخير طرفه ، ألا إنّ أسمع الأسماع ما وعى التّذكير وقبله. أيّها النّاس ، استصبحوا من شعلة مصباح واعظ متّعظ ، وامتاحوا من صفو عين قد روّقت من الكدر(2) عباد اللّه ، لا تركنوا إلى جهالتكم ، ولا تنقادوا إلى أهوائكم ، فإنّ النّازل بهذا المنزل(3) نازل بشفا جرف هار ، ينقل الرّدى على ظهره من موضع إلى موضع(4) لرأى يحدثه بعد رأى ، يريد أن يلصق ما لا يلتصق ، ويقرّب ما لا يتقارب ، فاللّه اللّه أن تشكوا إلى من لا يشكى شجوكم(5) .

__________________

(1) الطالب بدمائنا ينال ثأره حتما ، كأنه هو القاضى بنفسه لنفسه ، ليس هناك من يحكم عليه فيمانعه عن حقه

(2) امتاحوا : استقوا ، وانزعوا الماء لرى عطشكم ، من عين صافية صفيت من الكدر ، وهى عين علومه عليه السلام

(3) منزل الركون إلى الجهالة والانقياد للهوى ، وشفا الشىء : حرفه ، والجرف ـ بضمتين ـ : ما تجرفته السيول ، وأكلته من الأرض ، والهارى كالهائر : المتهدم ، أو المشرف على الانهدام ، أى : إنه بمكان التهور فى الهلكة

(4)أى : إنّه إذا نقل حمل المهلكات فانما ينقله من موضع من ظهره إلى موضع آخر منه ، فهو حامل لها دائما ، وانما يتعب فى نقلها من أعلاه لوسطه وأسفله بآرائه وبدعه ، فهو فى كل رأى يتنقل من ضلالة إلى ضلالة ، حيث إن مبنى الكل على الجهالة والهوى

(5)يقال «أشكاه» إذا أزال مشكاه ، والشجو : الحاجة ، يقول : إن ما تسوله

٢٠١

ولا ينقض برأيه ما قد أبرم لكم. إنّه ليس على الإمام إلاّ ما حمّل من أمر ربّه ، إلاّ البلاغ فى الموعظة ، والاجتهاد فى النّصيحة ، والإحياء للسّنّة ، وإقامة الحدود على مستحقّيها ، وإصدار السّهمان على أهلها(1) : فبادروا العلم من قبل تصويح نبته(2) ومن قبل أن تشغلوا بأنفسكم عن مستنار العلم من عند أهله(3) وانهوا عن المنكر وتناهوا عنه ، فإنّما أمرتم بالنّهى بعد التّناهى.

104 ـ و من خطبة له عليه السّلام

الحمد للّه الّذى شرع الإسلام فسهّل شرائعه لمن ورده ، وأعزّ أركانه على من غالبه فجعله أمنا لمن علقه(4) وسلما لمن دخله(5) وبرهانا لمن تكلّم به ، وشاهدا لمن خاصم به ، ونورا لمن استضاء به ، وفهما لمن عقل ، ولبّا لمن تدبّر ،

__________________

لكم الجهالات والأهواء من الحاجات يلزمكم أن تنصرفوا عن خيالها ، ولا تشكوها إلى ، فانى لا أتبع أهواءكم ، ولا أقضى هذه الرغبات الفاسدة ، ولا أستطيع أن أنقض برأيى ما أبرم لكم فى الشريعة الغراء

(1) السهمان ـ بالضم ـ : جمع سهم ، بمعنى الحظ والنصيب ، وإصدار السهمان : إعادتها إلى أهلها المستحقين لها لا ينقصهم منها شيئا. وسماه إصدارا لأنها كانت منعت أربابها بالظلم فى بعض الأزمان ثم ردت إليهم ، كالصدور وهو رجوع الشاربة من الماء إلى أعطانها

(2) التصويح : التجفيف ، أى : سابقوا إلى العلم وهو فى غضارته ، قبل أن يجف فلا تستطيعوا إحياءه بعد يبسه

(3) مستثار : اسم مفعول بمعنى المصدر ، والاستنارة : طلب النور ، وهو السطوع والظهور

(4)علقه ـ كعلمه ـ : تعلق به

(5)من دخله لا يحارب

٢٠٢

آية لمن توسّم ، وتبصرة لمن عزم ، وعبرة لمن اتّعظ ، ونجاة لمن صدّق ، وثقة لمن توكّل ، وراحة لمن فوّض ، وجنّة لمن صبر(1) فهو أبلج المناهج(2) وأوضح الولائج(3) مشرف المنار(4) مشرق الجوادّ(5) مضىء المصابيح ، كريم المضمار(6) رفيع الغاية ، جامع الحلبة(7) متنافس السّبقة(8) شريف الفرسان : التّصديق منهاجه ، والصّالحات مناره ، والموت غايته(9) والدّنيا مضماره(10) والقيامة حلبته ، والجنّة سبقته(11) .

منها فى ذكر النبى صلّى اللّه عليه وآله وسلم :

حتّى أورى قبسا لقابس(12) وأنار علما لحابس(13) فهو أمينك المأمون ،

__________________

(1) جنة ـ بالضم ـ أى : وقاية وصونا

(2) أشد الطرق وضوحا وأنورها

(3) الولائج : جمع وليجة ، وهى : الدخيلة ، وهى المذهب

(4)مشرف ـ بفتح الراء ـ : هو المكان ترتفع عليه فتطلع من فوقه على شىء ، ومنار الدين : هى دلائله من العمل الصالح يطلع منها البصير على حقائق العقائد ومكارم الأخلاق

(5)جمع جادة ، وهى : الطريق الواضح

(6) «كريم المضمار» أى : إذا سوبق سبق

(7) الحلبة : خيل تتجمع من كل صوب للنصرة ، والاسلام جامعها : يأتى إليه الكرائم والعتاق

(8) السبقة ـ بالضم ـ : جزاء السابقين

(9) يريد الموت عن الشهوات البهيمية ، والحياة بالسعادة الأبدية ، كما يعلم من قوله «رفيع الغاية» وإلا فالموت المعروف غاية كل حى

(10) لأنها مزرعة الآخرة : من سبق فيها سبق فى الأخرى

(11) سبقته : جزاء السابقين به.

(12) أورى : أوقد ، والقبس ـ بالتحريك ـ الشعلة من النار تقتبس من معظم النار ، والقابس : آخذ النار من النار. والمراد أن النبى أفاد طلاب الحق ما به يستضيئون لاكتشافه

(13) الحابس : من حبس ناقته وعقلها ، حيرة منه : لا يدرى كيف

٢٠٣

وشهيدك يوم الدّين ، وبعيثك نعمة(1) ، ورسولك بالحقّ رحمة. اللّهمّ اقسم له مقسما من عدلك(2) واجزه مضاعفات الخير من فضلك. اللّهمّ أعل على بناء البانين بناءه ، وأكرم لديك نزله(3) وشرّف عندك منزلته ، وآته الوسيلة وأعطه السّناء والفضيلة(4) ، واحشرنا فى زمرته غير خزايا(5) ولا نادمين ، ولا ناكبين(6) ولا ناكثين(7) ولا ضالّين ، ولا مضلّين ، ولا مفتونين. قال الشريف : وقد مضى هذا الكلام فيما تقدم ، إلا أننا كررناه ههنا لما فى الروايتين من الاختلاف

ومنها فى خطاب أصحابه :

وقد بلغتم من كرامة اللّه لكم منزلة تكرم بها إماؤكم ، ويوصل بها جيرانكم ويعظّمكم من لا فضل لكم عليه ، ولا يد لكم عنده ، ويهابكم من لا يخاف لكم سطوة ، ولا لكم عليه إمرة ، وقد ترون عهود اللّه منقوضة فلا تغضبون وانتم لنقض ذمم آبائكم تأنفون ، وكانت أمور اللّه عليكم ترد ، وعنكم

__________________

يهتدى فيقف عن السير ، و «أنار له علما» أى : وضع له نارا فى رأس جبل ليستنقذه من حيرته

(1) بعيثك : مبعوثك

(2) المقسم ـ كمقعد ومنبر ـ النصيب والحظ

(3) النزل ـ بضمتين ـ ما هيىء للضيف لأن ينزل عليه

(4)السناء ـ كسحاب ـ الرفعة.

(5)خزايا : جمع خزيان ، من «خزى». من باب علم ـ إذا خجل من قبيح ارتكبه

(6)عادلين عن طريق الحق

(7) ناكثين : ناقضين للعهد

٢٠٤

تصدر ، وإليكم ترجع ، فمكّنتم الظّلمة من منزلتكم ، وألقيتم إليهم أزمّتكم وأسلمتم أمور اللّه فى أيديهم ، يعملون فى الشّبهات ، ويسيرون فى الشّهوات وايم اللّه لو فرّقوكم تحت كلّ كوكب لجمعكم اللّه لشرّ يوم لهم(1)

105 ـ و من كلام له عليه السّلام

وقد رأيت جولتكم ، وانحيازكم عن صفوفكم ، تحوزكم الجفاة الطّغام(2) وأعراب أهل الشّام ، وأنتم لهاميم العرب(3) ويآفيخ الشّرف(4) وأنف المقدم والسّنام الأعظم ، ولقد شفى وحاوح صدرى(5) أن رأيتكم بأخرة(6) تحوزونهم كما حازوكم ، وتزيلونهم عن مواقفهم كما أزالوكم ، حسّا بالنّضال(7) وشجرا بالرّماح(8) تركب أولاهم أخراهم كالابل الهيم المطرودة(9) ترمى

__________________

(1) أى : إنكم ستجتمعون لقهر الظالمين ، ولن يكون فى طاقتهم أن يفرقوكم ، حتى لو شتتوكم تشتيت الكواكب فى السماء لاجتمعتم لقتالهم ، وقيل : إنه يريد أن البلاء سيعم ، حتى لو فرقكم بنو أمية تحت كل كوكب ـ طلبا لخلاصكم من البلاء ـ لجمعكم اللّه لشر يوم لهم حتى يأخذهم البلاء كما يأخذكم

(2) الطغام ـ كجراد ـ أوغاد الناس

(3) لهاميم : جمع لهميم ـ بالكسر ـ وهو السابق الجواد من الخيل والناس.

(4)اليآفيخ : جمع يأفوخ ، وهو من الرأس حيث يلتقى عظم مقدمه مع مؤخره.

(5)الوحاوح : جمع وحوحة : وهى صوت معه بحح يصدر عن المتألم ، والمراد حرقة الغيظ

(6)الأخرة ـ محركة ـ آخر الأمر ، وجملة «أن رأيتكم» فاعل «شفى»

(7) الحس ـ بالفتح ـ القتل ، والنضال : المباراة فى الرمى ، وفى رواية «النصال» بالصاد

(8) الشجر ـ كالضرب ـ الطعن

(9) الهيم ـ بالكسر ـ

٢٠٥

عن حياضها ، وتذاد عن مواردها.

106 ـ و من خطبة له عليه السّلام

وهى من خطب الملاحم

الحمد للّه المتجلّى لخلقه بخلقه ، والظّاهر لقلوبهم بحجّته ، خلق الخلق من غير رويّة ، إذ كانت الرّويّات لا تليق إلاّ بذوى الضّمائر. وليس بذى ضمير فى نفسه ، خرق علمه باطن غيب السّترات(1) وأحاط بغموض عقائد السّريرات

منها فى ذكر النبى صلّى اللّه عليه وآله وسلم :

اختاره من شجرة الأنبياء ، ومشكاة الضّياء(2) ، وذؤابة العلياء(3) وسرّة البطحاء(4) ومصابيح الظّلمة ، وينابيع الحكمة ومنها : طبيب دوّار بطبّه : قد أحكم مراهمه ، وأحمى مواسمه(5) يضع من ذلك حيث الحاجة إليه : من قلوب عمى ، وآذان صمّ ، وألسنة بكم متّبع بدوائه مواضع الغفلة ومواطن الحيرة ، لم يستضيئوا بأضواء الحكمة(6)

__________________

(1) جمع سترة ، وهى ما يستر به أيا كان

(2) المشكاة : كل كوة غير نافذة ، ومن العادة أن يوضع فيها المصباح

(3) الذؤابة : الناصية ، أو منبتها من الرأس

(4)البطحاء : ما بين أخشبى مكة ، وكانت تسكنه قبائل من قريش ، ويقال لهم «قريش البطاح»

(5)مواسمه : جمع ميسم ـ بالكسر ـ وهو المكواة ، ويجمع على مواسم ومياسم

(6)قوله «لم يستضيئوا» يحكى حال من لم ينفع فيهم الدواء ممن صار الفساد من مقومات أمزجتهم

٢٠٦

ولم يقدحوا بزناد العلوم الثّاقبة ، فهم فى ذلك كالأنعام السّائمة والصّخور القاسية قد انجابت السّرائر لأهل البصائر(1) ، ووضحت محجّة الحقّ لخابطها(2) وأسفرت السّاعة عن وجهها ، وظهرت العلامة لمتوسّمها. مالى أراكم أشباحا بلا أرواح؟ وأرواحا بلا أشباح. ونسّاكا بلا صلاح ، وتجّارا بلا أرباح ، وأيقاظا نوّما ، وشهودا غيّبا ، وناظرة عمياء ، وسامعة صمّاء ، وناطقة بكماء؟ رأيت ضلالة قد قامت على قطبها(3) وتفرّقت بشعبها(4) تكيلكم بصاعها(5) وتخبطكم بباعها(6) قائدها خارج عن الملّة ، قائم على الضّلّة ، فلا يبقى يومئذ منكم إلاّ ثفالة كثفالة القدر(7) ، أو نفاضة كنفاضة العكم(8) تعرككم

__________________

(1) «انجابت» من قولهم «انجابت الناقة» إذا مدت عنقها للحلب ، أى : إن السرائر خضعت لنور البصائر فهو يكشفها ويملكها ، وأهل البصائر يصرفون السرائر إلى ما يريدون

(2) خابطها : السائر عليها

(3) «قامت على قطبها» تمثيل لانتظام أمرها ، واستحكام قوتها

(4)جمع شعبة ، أى : انتشرت بفروعها

(5) «تكيلكم» أى : تأخذكم للهلاك جملة كما يأخذ الكيال ما يكيله من الحب

(6) «تخبطكم» من «خبط الشجرة» أى : ضربها بالعصى ليتناثر ورقها ، أو من «خبط البعير بيده الأرض» أى : ضربها وعبر بالباع ليفيد استطالتها عليهم ، وتناولها لقريبهم وبعيدهم

(7) الثفالة ـ بالضم ـ كالثفل والثافل : ما استقر تحت الشىء من كدورة ، وثفالة القدر : ما يبقى فى قعرها من عكارة. والمراد الأرذال والسفلة

(8) النفاضة : ما يسقط : بالنفض ، والعكم ـ بالكسر ـ العدل ـ بالكسر ـ أيضا وهو سفط تجعل فيه المرأة ذخيرتها. والمراد ما يبقى بعد تفريغه فى خلال نسجه فينفض لينظف

٢٠٧

عرك الأديم(1) وتدوسكم دوس الحصيد(2) وتستخلص المؤمن من بينكم استخلاص الحبّة البطينة(3) من بين هزيل الحبّ ، أين تذهب بكم المذاهب وتتيه بكم الغياهب ، وتخدعكم الكواذب؟؟ ومن أين تؤتون وأنّى تؤفكون؟ فلكلّ أجل كتاب ، ولكلّ غيبة إياب ، فاستمعوه من ربّانيّكم(4) وأحضروه قلوبكم ، واستيقظوا إن هتف بكم(5) وليصدق رائد أهله(6) وليجمع شمله ، وليحضر ذهنه ، فلقد فلق لكم الأمر فلق الخرزة ، وقرفه قرف الصّمغة(7) فعند ذلك أخذ الباطل مآخذه ، وركب الجهل مراكبه ، وعظمت الطّاغية ، وقلّت الدّاعية ، وصال الدّهر صيال السّبع العقور ، وهدر فنيق الباطل بعد كظوم(8) ، وتواخى النّاس على الفجور ، وتهاجروا على الدّين ، وتحابّوا على الكذب ، وتباغضوا على الصّدق فإذا كان ذلك كان الولد غيظا(9)

__________________

(1) العرك ـ كالنصر ـ شديد الدلك ، وعركه : حكه حتى عفاه ، والأديم : الجلد

(2) المحصود

(3) البطينة : السمينة

(4)الربانى ـ بتشديد الباء ـ المتأله ، العارف باللّه عز وجل

(5)صاح بكم

(6)الرائد : من يتقدم القوم ليكشف لهم مواضع الكلأ ، ويتعرف سهولة الوصول إليها من صعوبته وفى المثل : «لا يكذب الرائد أهله» يأمر الهداة والدعاة الذين يتلقون عنه ، ويوصيهم بالصدق فى النصيحة

(7) «قرف الصمغة» قشرها ، وخص هذا بالذكر لأن الصمغة إذا قشرت لا يبقى لها أثر ، كذا قالوا

(8) الفنيق : الفحل من الابل و «بعد كظوم» أى : إمساك وسكون

(9) يغيظ والده لشبوبه على العقوق ويكون المطر قيظا لعدم فائدته ، فان الناس منصرفون عن فوائدهم والانتفاع بما يفيض اللّه عليهم من خير إلى إضرار بعضهم ببعض ، وما أشبه هذه الحال بحال هذا الزمان

٢٠٨

والمطر قيظا ، وتفيض اللّئام فيضا ، وتغيض الكرام غيضا(1) ، وكان أهل ذلك الزّمان ذئابا ، وسلاطينه سباعا ، وأوساطه أكّالا ، وفقراؤه أمواتا ، وغار الصّدق ، وفاض الكذب ، واستعملت المودّة باللّسان ، وتشاجرت النّاس بالقلوب ، وصار الفسوق نسبا ، والعفاف عجبا ، ولبس الإسلام لبس الفرو مقلوبا.

107 ـ ومن خطبة له عليه السّلام

كلّ شىء خاضع له ، وكلّ شىء قائم به : غنى كلّ فقير ، وعزّ كلّ ذليل ، وقوّة كلّ ضعيف ، ومفزع كلّ ملهوف ، ومن تكلّم سمع نطقه ، ومن سكت علم سرّه ، ومن عاش فعليه رزقه ، ومن مات فإليه منقلبه ، لم ترك العيون فتخبر عنك ، بل كنت قبل الواصفين من خلقك ، لم تخلق الخلق لوحشة ، ولا استعملتهم لمنفعة ، ولا يسبقك من طلبت ، ولا يفلتك من أخذت(2) ولا ينقص سلطانك من عصاك ، ولا يزيد فى ملكك من أطاعك ، ولا يردّ أمرك من سخط قضاءك ، ولا يستغنى عنك من تولّى عن أمرك ، كلّ سرّ عندك علانية ، وكلّ غيب عندك شهادة ، أنت الأبد لا أمد لك ، وأنت المنتهى لا

__________________

(1) تغيض. من «غاض الماء» إذا غار فى الأرض وجفت ينابيعه

(2) لا يفلتك : لا ينفلت منك (14 ـ ن ـ ج ـ 1)

٢٠٩

محيص عنك ، وأنت الموعد لا منجى منك إلاّ إليك ، بيدك ناصية كلّ دابّة ، وإليك مصير كلّ نسمة ، سبحانك ما أعظم ما نرى من خلقك ، وما أصغر عظمه فى جنب قدرتك ، وما أهول ما نرى من ملكوتك ، وما أحقر ذلك فيما غاب عنّا من سلطانك ، وما أسبغ نعمك فى الدّنيا ، وما أصغرها فى نعيم الآخرة. منها : من ملائكة أسكنتهم سمواتك ، ورفعتهم عن أرضك ، هم أعلم خلقك بك ، وأخوفهم لك ، وأقربهم منك ، لم يسكنوا الأصلاب ، ولم يضمّنوا الأرحام ، ولم يخلقوا من ماء مهين(1) ولم يشعبهم ريب المنون(2) وإنّهم ـ على مكانهم منك ، ومنزلتهم عندك ، واستجماع أهوائهم فيك ، وكثرة طاعتهم لك ، وقلّة غفلتهم عن أمرك ـ لو عاينوا كنه ما خفى عليهم منك لحقروا أعمالهم ، ولزروا على أنفسهم(3) ، ولعرفوا أنّهم لم يعبدوك حقّ عبادتك ، ولم يطيعوك حقّ طاعتك ، سبحانك خالقا ومعبودا : بحسن بلائك عند خلقك(4) خلقت دارا ،

__________________

(1) المهين : الحقير ، يريد النطفة

(2) المنون : الدهر ، والريب : صرفه ، أى : لم تفرقهم صروف الزمان

(3) زرى عليه ـ كرمى ـ عابه

(4)البلاء : يكون نعمة ويكون نقمة ويتعين الأول باضافة الحسن إليه ، أى : ما عبدوك إلا شكرا لنعمك عليهم

٢١٠

وجعلت فيها مأدبة(1) : مشربا ، ومطعما ، وأزواجا ، وخدما ، وقصورا ، وأنهارا ، وزروعا ، وثمارا ، ثمّ أرسلت داعيا يدعو إليها ، فلا الدّاعى أجابوا ، ولا فيما رغبت إليه رغبوا ، ولا إلى ما شوّقت إليه اشتاقوا أقبلوا على جيفة افتضحوا بأكلها ، واصطلحوا على حبّها ، ومن عشق شيئا أعشى بصره(2) وأمرض قلبه ، فهو ينظر بعين غير صحيحة ، ويسمع بأذن غير سميعة ، قد خرقت الشّهوات عقله ، وأماتت الدّنيا قلبه ، وولهت عليها نفسه فهو عبد لها ، ولمن فى يده شىء منها : حيثما زالت زال إليها ، وحيثما أقبلت أقبل عليها ، ولا يزدجر من اللّه بزاجر ، ولا يتّعظ منه بواعظ ، وهو يرى المأخوذين على الغرّة(3) ـ حيث لا إقالة ولا رجعة ـ كيف نزل بهم ما كانوا يجهلون ، وجاءهم من فراق الدّنيا ما كانوا يأمنون ، وقدموا من الآخرة على ما كانوا يوعدون ، فغير موصوف ما نزل بهم ، اجتمعت عليهم سكرة الموت وحسرة الفوت ، ففترت لها أطرافهم ، وتغيّرت لها ألوانهم ، ثمّ ازداد الموت فيهم ولوجا(4) فحيل بين أحدهم وبين منطقه ، وإنّه لبين أهله ينظر ببصره ، ويسمع بأذنه ـ على صحّة من عقله ، وبقاء من لبّه ـ يفكّر فيم أفنى عمره ،

__________________

(1) المادبة ـ بفتح الدال ، وضمها ـ : ما يصنع من الطعام للمدعوين فى عرس ونحوه ، والمراد منها الجنة

(2) أعشاه : أعماه

(3) «على الغرة» ـ بالكسر ـ بغتة وعلى غفلة

(4)ولوجا : دخولا ، وفعله كوعد

٢١١

وفيم أذهب دهره ، ويتذكّر أموالا جمعها : أغمض فى مطالبها(1) وأخذها من مصرّحاتها ومشتبهاتها ، قد لزمته تبعات جمعها(2) وأشرف على فراقها : تبقى لمن وراءه ينعمون فيها ، ويتمتّعون بها ، فيكون المهنأ لغيره(3) والعبء على ظهره(4) . والمرء قد غلقت رهونه بها(5) فهو يعضّ يده ندامة على ما أصحر له عند الموت من أمره(6) ، ويزهد فيما كان يرغب فيه أيّام عمره ، ويتمنّى أنّ الّذى كان يغبطه بها ويحسده عليها قد حازها دونه! فلم يزل الموت يبالغ فى جسده حتّى خالط لسانه سمعه(7) ، فصار بين أهله لا ينطق بلسانه ، ولا يسمع بسمعه : يردّد طرفه بالنّظر فى وجوههم يرى حركات ألسنتهم ، ولا يسمع رجع كلامهم. ثمّ ازداد الموت التياطا(8) فقبض بصره كما قبض سمعه ، وخرجت الرّوح من جسده فصار جيفة بين أهله : قد أوحشوا من جانبه ، وتباعدوا من

__________________

(1) أغمض : لم يفرق بين حلال وحرام كأنه أغمض عينيه فلا يميز ، أو «أغمض» أى : طلبها من أدق الوجوه وأخفاها ، فضلا عن أظهرها وأجلاها

(2) تبعاتها ـ بفتح فكسر ـ : ما يطالبه به الناس من حقوقهم فيها ، وما يحاسبه به اللّه : من منع حقه منها ، وتخطى حدود شرعه فى جمعها

(3) المهنأ : ما أتاك من خير بلا مشقة

(4)العبء : الحمل ، والثقل

(5)غلقت رهونه : استحقها مرتهنها ، وأعوزته القدرة على تخليصها ، كناية عن تعذر الخلاص

(6)أصحر له : إذا برز فى الصحراء ، أى : على ما ظهر له وانكشف من أمره

(7) «خالط لسانه سمعه» : شارك السمع اللسان فى العجز عن أداء وظيفته

(8) «التياطا» أى : التصاقا به

٢١٢

قربه ، لا يسعد باكيا ، ولا يجيب داعيا. ثمّ حملوه إلى محطّ فى الأرض ، وأسلموه فيه إلى عمله ، وانقطعوا عن زورته(1) حتّى إذا بلغ الكتاب أجله والأمر مقاديره ، وألحق آخر الخلق بأوّله ، وجاء من أمر اللّه ما يريده : من تجديد خلقه ، أماد السّماء وفطرها(2) ، وأرجّ الأرض وأرجفها ، وقلع جبالها ونسفها ودكّ بعضها بعضا من هيبة جلالته ، ومخوف سطوته ، وأخرج من فيها فجدّدهم على أخلاقهم(3) وجمعهم بعد تفرّقهم ، ثمّ ميّزهم لما يريد من مسألتهم عن خفايا الأعمال ، وخبايا الأفعال ، وجعلهم فريقين : أنعم على هؤلاء ، وانتقم من هؤلاء : فأمّا أهل طاعته فأثابهم بجواره ، وخلّدهم فى داره ، حيث لا يظعن النّزّال ، ولا يتغيّر لهم الحال ، ولا تنوبهم الأفزاع(4) ولا تنالهم الأسقام ، ولا تعرض لهم الأخطار ، ولا تشخصهم الأسفار(5) ، وأمّا أهل المعصية فأنزلهم شرّ دار ، وغلّ الأيدى إلى الأعناق ، وقرن النّواصى بالأقدام ، وألبسهم سرابيل القطران(6) ومقطّعات النّيران(7) فى عذاب قد اشتدّ حرّه

__________________

(1) زيارته

(2) «أماد» جواب «إذا بلغ الكتاب ـ الخ» وأمادها : حركها على غير انتظام ، وفطرها : صدعها

(3) أخلاقهم ـ بالفتح ـ : من قولهم «توب أخلاق» إذا كانت الخلوقة شاملة له كله ، والخلوقة : البلى ، وتقول : خلق الثوب ـ بالضم ـ فهو خلق ـ بوزان بطل وحسن ـ أى : بلى ، و «أخلق الثوب» بالهمز لغة فيه ، وتقول «أخلقه صاحبه» فذو الهمزة لازم ومتعد

(4)لا تنوبهم الأفزاع : جمع فزع ـ بفتحتين ـ بمعنى الخوف

(5)أشخصه : أزعجه

(6)السربال : القميص ، والقطران : معروف

(7) المقطعات : كل ثوب يقطع كالقميص والجبة ونحوها ، بخلاف ما لا يقطع كالازار والرداء ، والمقطعات أشمل للبدن ، وأشد استحكاما فى احتوائه

٢١٣

وباب قد أطبق على أهله فى نار لها كلب ولجب(1) ولهب ساطع ، وقصيف هائل(2) ، لا يظعن مقيمها ، ولا يفادى أسيرها ، ولا تفصم كبولها(3) لا مدّة للدّار فتفنى ، ولا أجل للقوم فيقضى.

ومنها فى ذكر النبى صلّى اللّه عليه وسلم :

قد حقّر الدّنيا وصغّرها ، وأهونها وهوّنها ، وعلم أنّ اللّه زواها عنه اختيارا(4) ، وبسطها لغيره احتقارا ، فأعرض عنها بقلبه ، وأمات ذكرها عن نفسه ، وأحبّ أن تغيب زينتها عن عينه ، لكيلا يتّخذ منها رياشا(5) أو يرجو فيها مقاما ، بلّغ عن ربّه معذرا(6) ونصح لأمّته منذرا ، ودعا إلى الجنّة مبشّرا نحن شجرة النّبوّة ، ومحطّ الرّسالة ، ومختلف الملائكة(7) ومعادن العلم ، وينابيع الحكم ، ناصرنا ومحبّنا ينتظر الرّحمة ، وعدوّنا ومبغضنا ينتظر السّطوة

__________________

(1) عبر بالكلب ـ محركا ـ عن هيجانها ، واللجب ـ بالتحريك أيضا ـ الصوت المرتفع ، وأصله اضطراب موج البحر ، وتقول : جيش ذو لجب ، إذا كان ذا جلبة وصياح ، وباب فعله فرح

(2) القصيف : أشد الصوت

(3) جمع كبل ـ بفتح فسكون ـ وهو : القيد ، وتفصم : تنقطع

(4)زواها : قبضها

(5)الرياش : اللباس الفاخر

(6)معذرا : مبينا للّه حجة تقوم مقام العذر فى عقابهم إن خالفوا أمره

(7) مختلف الملائكة ـ بفتح اللام ـ محل اختلافهم ، أى : ورود واحد منهم بعد آخر فيكون الثانى كأنه خلف للأول ، وهكذا

٢١٤

108 ـ ومن خطبة له عليه السّلام

إنّ أفضل ما توسّل به المتوسّلون إلى اللّه ، سبحانه ، الإيمان به وبرسوله والجهاد فى سبيله فإنّه ذروة الإسلام ، وكلمة الإخلاص فإنّها الفطرة ، وإقام الصّلاة فإنّها الملّة ، وإيتاء الزّكاة فإنّها فريضة واجبة ، وصوم شهر رمضان فإنّه جنّة من العقاب ، وحجّ البيت واعتماره فإنّهما ينفيان الفقر ويرحضان الذّنب(1) ، وصلة الرّحم فإنّها مثراة فى المال ومنسأة فى الأجل(2) وصدقة السّرّ فإنّها تكفّر الخطيئة ، وصدقة العلانية فإنّها تدفع ميتة السّوء ، وصنائع المعروف فإنّها تقى مصارع الهوان. أفيضوا فى ذكر اللّه فإنّه أحسن الذّكر ، وارغبوا فيما وعد المتّقين فإنّه أصدق الوعد ، واقتدوا بهدى نبيّكم فإنّه أفضل الهدى ، واستنّوا بسنّته فإنّه أهدى السّنن ، وتعلّموا القرآن فإنّه أحسن الحديث ، وتفقّهوا فيه فإنّه ربيع القلوب ، واستشفوا بنوره فإنّه شفاء الصّدور ، وأحسنوا تلاوته فإنّه أنفع القصص ، فإنّ العالم العامل بغير علمه كالجاهل الحائر الّذى لا يستفيق من جهله ، بل الحجّة عليه أعظم ، والحسرة له ألزم ، وهو عند اللّه ألوم(3)

__________________

(1) رحضه ـ كمنعه ـ : غسله

(2) منسأة : مطال فيه ومزيد

(3) ألوم : أشد لوما لنفسه بين يدى اللّه ، لأنه لا يجد منها عذرا يقبل أو يرد

٢١٥

109 ـ ومن خطبة له عليه السّلام

أما بعد ، فإنّى أحذّركم الدّنيا فإنّها حلوة خضرة ، حفّت بالشّهوات ، وتحبّبت بالعاجلة ، وراقت بالقليل ، وتحلّت بالآمال ، وتزيّنت بالغرور ، لا تدوم حبرتها(1) ولا تؤمن فجعتها ، غرّارة ضرّارة ، حائلة زائلة(2) نافدة بائدة(3) ، أكّالة غوّالة(4) لا تعدو إذا تناهت إلى أمنيّة أهل الرّغبة فيها والرّضاء بها(5) أن تكون كما قال اللّه سبحانه وتعالى : «كَمٰاءٍ أَنْزَلْنٰاهُ مِنَ اَلسَّمٰاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبٰاتُ اَلْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ اَلرِّيٰاحُ وَكٰانَ اَللّٰهُ عَلىٰ كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً » لم يكن امرؤ منها فى حبرة إلاّ أعقبتها عبرة(7) ولم يلق فى سرّائها بطنا(8) إلاّ منحته من ضرّائها ظهرا ، ولم تطلّه فيها ديمة رخاء(9) إلاّ هتنت عليه مزنة بلاء ، وحرىّ ، إذا أصبحت له منتصرة ، أن تمسى له متنكّرة وإن جانب منها اعذوذب واحلولى أمرّ منها جانب فأوبى(10) لا ينال امرؤ

__________________

(1) الحبرة ـ : بالفتح ـ السرور والنعمة

(2) حائلة : متغيرة

(3) نافدة : فانية «بائدة» ، أى : هالكة

(4)غوالة : مهلكة

(5)أى : إنها إذا وصلت بأهل الرغبة فيها إلى أمانيهم فلا تتجاوز الوصف الذى ذكره اللّه فى قوله «كماء ـ الخ» ، فقوله : «أن تكون» مفعول لتعدو

(6)الهشيم : النبت اليابس المتكسر

(7) بالفتح : الدمعة قبل أن تفيض ، أو تردد البكاء فى الصدر ، أو الحزن بلا بكاء

(8) كنى بالبطن والظهر عن الاقبال والادبار

(9) الطل : المطر الضعيف ، وطلت السماء : أمطرته ، والديمة : مطر يدوم فى سكون لا رعد ولا برق معه ، والرخاء : السعة ، وهتنت المزن : انصبت

(10) أوبى : صار كثير الوباء ، والوباء : هو المعروف بالريح الأصفر

٢١٦

من غضارتها رغبا(1) إلاّ أرهقته من نوائبها تعبا(2) ، ولا يمسى منها فى جناح أمن إلاّ أصبح على قوادم خوف(3) غرّارة غرور ما فيها ، فانية فان من عليها لا خير فى شىء من أزوادها إلاّ التّقوى ، من أقلّ منها استكثر ممّا يؤمنه ، ومن استكثر منها استكثر ممّا يوبقه(4) وزال عمّا قليل عنه ، كم من واثق بها فجعته(5) وذى طمأنينة قد صرعته ، وذى أبهة قد جعلته حقيرا(6) وذى نخوة قد ردّته ذليلا(7) ؟ سلطانها دول(8) ، وعيشها رنق(9) وعذبها أجاج(10) وحلوها صبر(11) وغذاؤها سمام(12) وأسبابها رمام(13) حيّها بعرض موت وصحيحها بعرض سقم ، ملكها مسلوب ، وعزيزها مغلوب ، وموفورها منكوب(14) ، وجارها محروب(15) ألستم فى مساكن من كان قبلكم أطول

__________________

(1) الغضارة : النعمة والسعة ، والرغب ـ بالتحريك ـ : الرغبة ، والمرغوب

(2) أرهقته التعب : ألحقته به

(3) القوادم : جمع قادمة ، وهى الواحدة من أربع أو عشر ريشات فى مقدم جناح الطائر ، وهى القوادم

(4)يهلكه

(5)أوجعته بفقد ما يعز عليه

(6)أبهة ـ يضم فتشديد ـ : عظمة

(7) النخوة ـ بالفتح ـ : الافتخار

(8) جمع دولة ، وهى : انقلاب الزمان.

(9) رنق ـ بفتح فكسر ـ : كدر

(10) مالح شديد الملوحة

(11) الصبر ـ ككتف ـ : عصارة شجر مر

(12) جمع ـ سم ـ مثلث السين ـ وهو من المواد : ما إذا خالط المزاج أفسده فقتل صاحبه

(13) جمع رمة ـ بالضم ـ وهى : القطعة البالية من الحبل ، أى : ما يتمسك به منها فهو بال منقطع

(14)موفورها : ما كثر منها مصاب بالنكبة ، وهى المصيبة ، أى : فى معرض لذلك

(15)من حربه حربا ـ بالتحريك ـ : إذا سلب ماله

٢١٧

أعمارا ، وأبقى آثارا ، وأبعد آمالا ، وأعدّ عديدا ، وأكثف جنودا : تعبّدوا للدّنيا أىّ تعبّد ، وآثروها أىّ إيثار ، ثمّ ظعنوا عنها بغير زاد مبلّغ ، ولا ظهر قاطع(1) ؟؟!! فهل بلغكم أنّ الدّنيا سخت لهم نفسا بفدية(2) أو أعانتهم بمعونة ، أو أحسنت لهم صحبة؟ بل أرهقتهم بالفوادح(3) وأوهنتهم بالقوارع ، وضعضعتهم بالنّوائب(4) وعفّرتهم للمناخر(5) ووطئتهم بالمناسم(6) وأعانت عليهم ريب المنون ، فقد رأيتم تنكّرها لمن دان لها(7) وآثرها ، وأخلد لها(8) حتّى ظعنوا عنها لفراق الأبد(9) وهل زوّدتهم إلاّ السّغب(10) أو أحلّتهم إلاّ الضّنك(11) أو نوّرت لهم إلاّ الظّلمة(12) أو أعقبتهم إلاّ النّدامة؟ فهذه تؤثرون ، أم إليها تطمئنّون ، أم عليها تحرصون؟؟ فبئست الدّار لمن لم يتّهمها ولم يكن فيها على وجل منها ، فاعلموا ـ وأنتم

__________________

(1) ظهر قاطع : راحلة تركب لقطع الطريق

(2) أى : سخت نفسها لهم بفداء

(3) أرهقتهم : غشيتهم بالقوادح ـ بالقاف ـ جمع قادح ، وهو : أكال يقع فى الشجر والأسنان ، أى : بما ينهكهم ويمزق أجسادهم وفى نسخة «الفوادح» بالفاء ـ من «فدحه الأمر» إذا أثقله

(4)ضعضعتهم : ذللتهم

(5)كبتهم على مناخرهم فى العفر ، وهو التراب

(6)جمع منسم ، وهو مقدم خف البعير ، أو الخف نفسه.

(7) دان لها : خضع

(8) ركن إليها

(9) أى : فراق مدته لا نهاية لها

(10) السغب ـ محركة ـ : الجوع

(11) الضنك : الضيق

(12) «أو نورت لهم ـ الخ» : لم يكن لهم مما ظنوه نورا لها إلا الظلام

٢١٨

تعلمون ـ بأنّكم تاركوها ، وظاعنون عنها ، واتّعظوا فيها بالّذين قالوا : (من أشدّ منّا قوّة) حملوا إلى قبورهم فلا يدعون ركبانا(1) وأنزلوا الأجداث(2) فلا يدعون ضيفانا ، وجعل لهم من الصّفيح أجنان(3) ومن التّراب أكفان(4) ومن الرّفات جيران(5) فهم جيرة لا يجيبون داعيا ، ولا يمنعون ضيما ، ولا يبالون مندبة : إن جيدوا لم يفرحوا(6) وإن قحطوا لم يقنطوا : جميع وهم آحاد ، وجيرة وهم أبعاد ، متدانون لا يتزاورون(7) وقريبون لا يتقاربون حلماء قد ذهبت أضغانهم ، وجهلاء قد ماتت أحقادهم ، لا يخشى فجعهم(8) ولا يرجى دفعهم ، استبدلوا بظهر الأرض بطنا ، وبالسّعة ضيقا ، وبالأهل غربة ، وبالنّور ظلمة ، فجاءوها كما فارقوها(9) حفاة عراة ، قد ظعنوا عنها بأعمالهم إلى الحياة الدّائمة ، والدّار الباقية ، كما قال سبحانه : «كَمٰا بَدَأْنٰا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنٰا إِنّٰا كُنّٰا فٰاعِلِينَ »

__________________

(1) لا يقال لهم ركبان ، جمع راكب ، لأن الراكب من يكون مختارا وله التصرف فى مركوبه

(2) القبور

(3) الصفيح : وجه كل شىء عريض ، والمراد وجه الأرض ، والأجنان : جمع جنن ـ محركة ـ : وهو القبر

(4)لأن أكفانهم تبلى ، ولا يغشى أبدانهم سوى التراب

(5)الرفات : العظام المندقة المحطومة

(6)جيدوا : مطروا

(7) متقاربون لا يزور بعضهم بعضا.

(8) لا تخاف منهم أن يفجعوك بضرر

(9) جاءوا إلى الأرض ، واتصلوا بها ، بعد ما فارقوها ، وانفصلوا عنها ، فى بدء خليقتهم ، فانهم خلقوا منها كما قال تعالى : «مِنْهٰا خَلَقْنٰاكُمْ وَفِيهٰا نُعِيدُكُمْ » وقوله : «قد ظعنوا عنها» يشير إلى أنهم بعد الموت يذهبون بأرواحهم : إما إلى الجنة ، وإما إلى النار ، كما يرشد إليه الاستشهاد بالآية

٢١٩

110 ـ ومن خطبة له عليه السّلام

ذكر فيها ملك الموت

هل تحسّ به إذا دخل منزلا؟ أم هل تراه إذا توفّى أحدا؟ بل كيف يتوفّى الجنين فى بطن أمّه؟ أيلج عليه من بعض جوارحها(1) أم الرّوح أجابته بإذن ربّها؟ أم هو ساكن معه فى أحشائها؟ كيف يصف إلهه من يعجز عن صفة مخلوق مثله!!؟

111 ـ ومن خطبة له عليه السّلام

وأحذّركم الدّنيا فإنّها منزل قلعة(2) ، وليست بدار نجعة(3) قد تزيّنت بغرورها ، وغرّت بزينتها ، هانت على ربّها : فخلط حلالها بحرامها ، وخيرها بشرّها ، وحياتها بموتها ، وحلوها بمرّها : لم يصفها اللّه تعالى لأوليائه ، ولم يضنّ بها على أعدائه ، خيرها زهيد ، وشرّها عتيد(4) ، وجمعها ينفد ، وملكها يسلب وعامرها يخرب ، فما خير دار تنقض نقض البناء؟ وعمر يفنى فيها فناء الزّاد

__________________

(1) يلج : يدخل

(2) القلعة ـ كهمزة ، وطرفة ، ودجنة ـ من لا يثبت على السرج ، أو من يزل قدمه عند الصراع ، أى : هى منزل من لا يستقر

(3) النجعة ـ بالضم ـ طلب الكلأ فى موضعه ، أى : ليست محط الرحال ، ولا مبلغ الآمال

(4)حاضر

٢٢٠