نهج البلاغة الجزء ٢

نهج البلاغة0%

نهج البلاغة مؤلف:
المحقق: محمّد محيى الدين عبد الحميد
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 276

نهج البلاغة

مؤلف: محمد عبده
المحقق: محمّد محيى الدين عبد الحميد
تصنيف:

الصفحات: 276
المشاهدات: 84974
تحميل: 2843


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 276 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 84974 / تحميل: 2843
الحجم الحجم الحجم

المنكر ، فلعن اللّه السّفهاء لركوب المعاصى ، والحلماء لترك التّناهى ألا وقد قطعتم قيد الإسلام ، وعطّلتم حدوده ، وأمتّم أحكامه ، ألا وقد أمرنى اللّه بقتال أهل البغى والنّكث(1) والفساد فى الأرض : فأمّا النّاكثون فقد قاتلت ، وأمّا القاسطون فقد جاهدت(2) ، وأمّا المارقة فقد دوّخت ، وأمّا شيطان الرّدهة فقد كفيته بصعقة سمعت لها وجبة قلبه ، ورجّة صدره(3) وبقيت بقيّة من أهل البغى ، ولئن أذن اللّه فى الكرّة عليهم لأديلنّ منهم(4) إلاّ ما يتشذّر فى أطراف البلاد تشذّرا.

أنا وضعت فى الصّغر بكلاكل العرب(5) ، وكسرت نواجم القرون ربيعة

__________________

(1) نقض العهد

(2) القاسطون : الجائرون عن الحق ، وفى التنزيل : «وَأَمَّا اَلْقٰاسِطُونَ فَكٰانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً» بخلاف «المقسطين» من «أقسط» المهموز فان معناه العادلون ، فالهمزة فى فعله للازالة ، ومنه ورد فى أسماء اللّه تعالى «المقسط» والمارقة : الذين مرقوا من الدين ـ أى : خرجوا منه ـ و «دوخهم» أى : أضعفهم وأذلهم.

(3) الردهة ـ بالفتح ـ : النقرة فى الجبل قد يجتمع فيها ، وشيطانها ذو الثدية من رؤساء الخوارج وجد مقتولا فى ردهة. والصعقة : الغشية تصيب الانسان من الهول. ووجبة القلب : اضطرابه وخفقانه ، ورجة الصدر : اهتزازه وارتعاده

(4) لأديلن منهم : لأمحقنهم ، ثم أجعل الدولة لغيرهم ، و «ما يتشذر» أى : يتفرق ، أى : لا يفلت منى إلا من يتفرق فى أطراف البلاد

(5) الكلاكل : الصدور ، عبر بها عن الأكابر ، والنواجم من القرون : الظاهرة الرفيعة يريد بها أشراف القبائل ، و «ربيعة» بدل من القرون ، ويروى «نواجم قرون ربيعة» على الاضافة

١٨١

ومضر ، وقد علمتم موضعى من رسول اللّه ـ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ـ بالقرابة القريبة والمنزلة الخصيصة ، وضعنى فى حجره وأنا ولد يضمّنى إلى صدره ، ويكنفنى فى فراشه ، ويمسّنى جسده ، ويشمّنى عرفه(1) ، وكان يمضغ الشّىء ثمّ يلقمنيه ، وما وجد لى كذبة فى قول ، ولا خطلة فى فعل(2) ، ولقد قرن اللّه به ، صلّى اللّه عليه وآله ، من لدن أن كان فطيما أعظم ملك من ملائكته ، يسلك به طريق المكارم ، ومحاسن أخلاق العالم ، ليله ونهاره ، ولقد كنت أتّبعه اتّباع الفصيل أثر أمّه(3) يرفع لى فى كلّ يوم من أخلاقه علما ، ويأمرنى بالاقتداء به ، ولقد كان يجاور فى كلّ سنة بحراء(4) ، فأراه ولا يراه غيرى ، ولم يجمع بيت واحد يومئذ فى الإسلام غير رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ، وخديجة ، وأنا ثالثهما ، أرى نور الوحى والرّسالة ، وأشمّ ريح النّبوّة ولقد سمعت رنّة الشّيطان حين نزل الوحى عليه ، صلّى اللّه عليه وآله وسلم ، فقلت : يا رسول اللّه ، ما هذه الرّنّة؟ فقال : «هذا الشّيطان أيس من عبادته ،

__________________

(1) عرفه ـ بالفتح ـ : رائحته الذكية

(2) الخطلة : واحدة الخطل ، كالفرحة واحدة الفرح ، والخطل : الخطأ ينشأ من عدم الروية.

(3) الفصيل : ولد الناقة

(4) حراء ـ بكسر الحاء ـ : جبل على القرب من مكة. كان الرسول صلّى اللّه عليه وآله وسلم يتعبد فيه قبل البعثة

١٨٢

إنّك تسمع ما أسمع ، وترى ما أرى ، إلاّ أنّك لست بنبىّ ، ولكنّك وزير ، وإنّك لعلى خير». ولقد كنت معه ، صلّى اللّه عليه وآله ، لمّا أتاه الملأ من قريش ، فقالوا له : يا محمّد ، إنّك قد ادّعيت عظيما لم يدّعه آباؤك ولا أحد من بيتك ، ونحن نسألك أمرا إن [أنت] أجبتنا إليه وأريتناه علمنا أنّك نبىّ ورسول ، وإن لم تفعل علمنا أنّك ساحر كذّاب. فقال صلّى اللّه عليه وآله :

وما تسألون؟ قالوا : تدعو لنا هذه الشّجرة حتّى تنقلع بعروقها وتقف بين يديك. فقال صلّى اللّه عليه وآله وسلم : إنّ اللّه على كلّ شىء قدير ، فإن فعل اللّه لكم ذلك أتؤمنون وتشهدون بالحقّ؟ قالوا : نعم ، قال : فإنّى سأريكم ما تطلبون ، وإنّى لأعلم أنّكم لا تفيئون إلى خير(1) ، وإنّ فيكم من يطرح فى القليب(2) ، ومن يحزّب الأحزاب ، ثمّ قال صلّى اللّه عليه وآله : يا أيّتها الشّجرة ، إن كنت تؤمنين باللّه واليوم الآخر وتعلمين أنّى رسول اللّه فانقلعى بعروقك حتّى تقفى بين يدىّ بإذن اللّه. والّذى بعثه بالحقّ لانقلعت بعروقها وجاءت ولها دوىّ شديد ، وقصف كقصف أجنحة الطّير(3) ، حتّى وقفت

__________________

(1) لا تفيئون : لا ترجعون

(2) القليب ـ كأمير ـ : البئر ، والمراد منه قليب بدر طرح فيه نيف وعشرون من أكابر قريش ، والأحزاب : طوائف متفرقة من القبائل اجتمعوا على حربه صلّى اللّه عليه وآله وسلم فى وقعة الخندق

(3) القصف : الصوت الشديد. و «ريح قاصف» أى : شديدة. و «رعد قاصف» أى : شديد الصوت.

١٨٣

بين يدى رسول اللّه ، صلّى اللّه عليه وآله وسلم ، مرفرفة ، وألقت بغصنها الأعلى على رسول اللّه ، صلّى اللّه عليه وآله وسلم ، وببعض أغصانها على منكبى وكنت عن يمينه صلّى اللّه عليه وآله وسلم ، فلمّا نظر القوم إلى ذلك قالوا علوّا واستكبارا : فمرها فليأتك نصفها ويبقى نصفها ، فأمرها بذلك فأقبل إليه نصفها كأعجب إقبال وأشدّه دويّا ، فكادت تلتفّ برسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلم ، فقالوا كفرا وعتوّا : فمر هذا النّصف فليرجع إلى نصفه كما كان ، فأمره ، صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ، فرجع فقلت أنا : لا إله إلاّ اللّه ، فإنّى أوّل مؤمن بك يا رسول اللّه ، وأوّل من أقرّ بأنّ الشّجرة فعلت ما فعلت بأمر اللّه تعالى تصديقا بنبوّتك وإجلالا لكلمتك ، فقال القوم كلّهم : بل ساحر كذّاب! عجيب السّحر خفيف فيه ، وهل يصدّقك فى أمرك إلاّ مثل هذا؟! (يعنوننى) وإنّى لمن قوم لا تأخذهم فى اللّه لومة لائم : سيماهم سيما الصّدّيقين ، وكلامهم كلام الأبرار ، عمّار اللّيل ومنار النّهار(1) ، متمسّكون بحبل القرآن ، يحيون سنن اللّه وسنن رسوله ، لا يستكبرون ولا يعلون ولا يغلّون(2) ، ولا يفسدون : قلوبهم فى الجنان ، وأجسادهم فى العمل

__________________

(1) عمار : جمع عامر ، أى : يعمرونه بالسهر للفكر والعبادة

(2) يغلون : يخونون ، وفى التنزيل : (ومن يغلل يأت بما غل) وقال ابن الأثير : الغلول : الخيانة فى المغنم والسرقة من الغنيمة قبل القسمة ، يقال : غل فى المغنم يغل

١٨٤

191 ـ ومن خطبة له عليه السّلام

روى أن صاحبا لأمير المؤمنين عليه السلام ـ يقال له : همام ـ كان رجلا عابدا ، فقال له : يا أمير المؤمنين ، صف لى المتقين حتى كأنى أنظر إليهم! فتثاقل عليه السلام عن جوابه ، ثم قال : يا همّام اتّق اللّه وأحسن ف‍ «إِنَّ اَللّٰهَ مَعَ اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا وَاَلَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ » فلم يقنع همام بهذا بهذا القول حتى عزم عليه ، فحمد اللّه وأثنى عليه ، وصلّى على النبى صلّى اللّه عليه وآله ، ثم قال :

أمّا بعد ، فإنّ اللّه سبحانه وتعالى خلق الخلق ـ حين خلقهم ـ غنيّا عن طاعتهم ، آمنا من معصيتهم ، لأنّه لا تضرّه معصية من عصاه ، ولا تنفعه طاعة من أطاعه ، فقسم بينهم معايشهم ، ووضعهم من الدّنيا مواضعهم ، فالمتّقون فيها هم أهل الفضائل : منطقهم الصّواب ، وملبسهم الاقتصاد(1) ، ومشيهم التّواضع ، غضّوا أبصارهم عمّا حرّم اللّه عليهم ، ووقفوا أسماعهم على العلم النّافع لهم ، نزّلت أنفسهم منهم فى البلاء كالّتى نزّلت فى الرّخاء(2) ، ولو لا الأجل الّذى

__________________

غلولا فهو غال ، وكل من خان خفية فقد غل ، وسميت غلولا لأن الأيدى فيها مغلولة أى : ممنوعة ، مجعول فيها غل ، وهو الحديدة التى تجمع يد الأسير إلى عنقه ، وتسمى جامعة أيضا ـ والأحاديث التى فيها لفظ الغلول كثيرة اه‍

(1) «ملبسهم ـ الخ» أى : إنهم لا يأتون من شهواتهم إلا بقدر حاجاتهم فى تقويم حياتهم ، فكان الانفاق كثوب لهم على قدر أبدانهم ، لكنهم يتوسعون فى الخيرات

(2) «نزلت إلى ـ الخ» أى إنهم إذا كانوا فى بلاء كانوا بالأمل فى اللّه كأنهم كانوا فى رخاء ، لا يجزعون ولا يهنون ، وإذا كانوا فى رخاء كانوا من خوف اللّه وحذر النقمة كأنهم فى بلاء ، لا يبطرون ولا يتجبرون.

١٨٥

كتب عليهم لم تستقرّ أرواحهم فى أجسادهم طرفة عين شوقا إلى الثّواب ، وخوفا من العقاب ، عظم الخالق فى أنفسهم فصغر ما دونه فى أعينهم ، فهم والجنّة كمن قد رآها(1) فهم فيها منعّمون ، وهم والنّار كمن قد رآها ، فهم فيها معذّبون : قلوبهم محزونة ، وشرورهم مأمونة ، وأجسادهم نحيفة(2) ، وحاجاتهم خفيفة ، وأنفسهم عفيفة ، صبروا أيّاما قصيرة أعقبتهم راحة طويلة.

تجارة مربحة(3) يسّرها لهم ربّهم ، أرادتهم الدّنيا فلم يريدوها ، وأسرتهم ففدوا أنفسهم منها. أمّا اللّيل فصافّون أقدامهم تالين لأجزاء القرآن : يرتّلونه ترتيلا ، يحزنون به أنفسهم ، ويستثيرون دواء دائهم(4) ، فإذا مرّوا بآية فيها تشويق ركنوا إليها طمعا ، وتطلّعت نفوسهم إليها شوقا ، وظنّوا أنّها نصب أعينهم ، وإذا مرّوا بآية فيها تخويف أصغوا إليها مسامع قلوبهم ، وظنّوا أنّ زفير جهنّم وشهيقها فى أصول آذانهم(5) ، فهم حانون على أوساطهم ، مفترشون

__________________

(1) أى : هم على يقين من الجنة والنار كيقين من رآهما ، فكأنهم فى نعيم الأولى وعذاب الثانية ، رجاء وخوفا

(2) نحافة أجسادهم من الفكر فى صلاح دينهم والقيام بما يجب عليهم

(3) يقال «أربحت التجارة» إذا أفادت ربحا

(4) استثار الساكن : هيجه ، وقارىء القرآن يستثير به الفكر الماحى للجهل ، فهو دواؤه

(5) زفير النار : صوت توقدها ، وشهيقها الشديد من زفيرها كأنه تردد البكاء أو نهيق الحمار ، أى : إنهم من كمال يقينهم بالنار يتخيلون صوتها تحت جدران آذانهم ، فهم من شدة الخوف قد حنوا ظهورهم وسلطوا الانحناء على أوساطهم. وفكاك الرقاب : خلاصها.

١٨٦

لجباههم وأكفّهم وركبهم وأطراف أقدامهم ، يطّلبون إلى اللّه تعالى فى فكاك رقابهم. وأمّا النّهار فحلماء علماء ، أبرار أتقياء ، قد براهم الخوف برى القداح(1) ينظر إليهم النّاظر فيحسبهم مرضى ، وما بالقوم من مرض ، ويقول قد خولطوا(2) ولقد خالطهم أمر عظيم : لا يرضون من أعمالهم القليل ، ولا يستكثرون الكثير ، فهم لأنفسهم متّهمون ، ومن أعمالهم مشفقون(3) ، إذا زكّى أحدهم(4) خاف ممّا يقال له! فيقول : أنا أعلم بنفسى من غيرى ، وربّى أعلم بى منّى بنفسى. اللّهمّ لا تؤاخذنى بما يقولون ، واجعلنى أفضل ممّا يظنّون ، واغفر لى ما لا يعلمون.

فمن علامة أحدهم : أنّك ترى له قوّة فى دين ، وحزما فى لين ، وإيمانا فى يقين ، وحرصا فى علم ، وعلما فى حلم ، وقصدا فى غنى(5) ، وخشوعا فى عبادة ،

__________________

(1) القداح : جمع قدح ـ بالكسر ـ وهو السهم قبل أن يراش. وبراه : نحته ، أى : رقق الخوف أجسامهم كما ترقق السهام بالنحت

(2) «خولط فى عقله ، أى : مازجه خلل فيه ، والأمر العظيم الذى خالط عقولهم هو الخوف الشديد من اللّه.

(3) مشفقون : خائفون من التقصير فيها

(4) زكى : مدحه أحد

(5) « قصد» أى : اقتصادا. والتجمل : التظاهر باليسر عند الفاقة ، أى : الفقر

١٨٧

وتجمّلا فى فاقة ، وصبرا فى شدّة ، وطلبا فى جلال ، ونشاطا فى هدى ، وتحرّجا عن طمع(1) ، يعمل الأعمال الصّالحة وهو على وجل ، يمسى وهمّه الشّكر ويصبح وهمّه الذّكر ، يبيت حذرا ، ويصبح فرحا : حذرا لما حذر من الغفلة ، وفرحا بما أصاب من الفضل والرّحمة. إن استصعبت عليه نفسه فيما تكره(2) لم يعطها سؤلها فيما تحبّ ، قرّة عينه فيما لا يزول ، وزهادته فيما لا يبقى(3) ، يمزج الحلم بالعلم ، والقول بالعمل ، تراه قريبا أمله ، قليلا زلله ، خاشعا قلبه ، قانعة نفسه ، منزورا أكله ، سهلا أمره ، حريزا دينه(4) ، ميتة شهوته ، مكظوما غيظه ، الخير منه مأمول ، والشّرّ منه مأمون ، إن كان فى الغافلين كتب فى الذّاكرين ، وإن كان فى الذّاكرين لم يكتب من الغافلين(5) ، يعفو عمّن ظلمه ، ويعطى من حرمه ، ويصل من قطعه ، بعيدا فحشه(6) ، ليّنا قوله ، غائبا منكره ،

__________________

(1) التحرج : عد الشىء حرجا ، أى : إثما ، أى : تباعدا عن طمع

(2) «إن استصعبت» أى : إذا لم تطاوعه نفسه فيما يشق عليها من الطاعة عاقبها بعدم إعطائها ما ترغبه من الشهوة

(3) «ما لا يزول» هو الآخرة ، و «ما لا يبقى» هو الدنيا

(4) منزورا : قليلا ، و «حريزا» أى : حصينا

(5) أى : إن كان بين الساكنين عن ذكر اللّه فهو ذاكر له بقلبه ، وإن كان بين الذاكرين بلسانهم لم يكن مقتصرا على تحريك اللسان مع غفلة القلب

(6) الفحش : القبيح من القول.

١٨٨

حاضرا معروفه ، مقبلا خيره ، مدبرا شرّه ، فى الزّلازل وقور(1) ، وفى المكاره صبور ، وفى الرّخاء شكور ، لا يحيف على من يبغض ، ولا يأثم فيمن يحبّ(2) يعترف بالحقّ قبل أن يشهد عليه ، لا يضيع ما استحفظ ، ولا ينسى ما ذكّر ، ولا ينابز بالألقاب(3) ، ولا يضارّ بالجار ، ولا يشمت بالمصائب ، ولا يدخل فى الباطل ، ولا يخرج من الحقّ. إن صمت لم يغمّه صمته ، وإن ضحك لم يعل صوته ، وإن بغى عليه صبر حتّى يكون اللّه هو الّذى ينتقم له. نفسه منه فى عناء ، والنّاس منه فى راحة. أتعب نفسه لآخرته ، وأراح النّاس من نفسه. بعده عمّن تباعد عنه زهد ونزاهة ، ودنوّه ممّن دنا منه لين ورحمة. ليس تباعده بكبر وعظمة ، ولا دنوّه بمكر وخدعة قال : فصعق همام صعقة كانت نفسه فيها(4) ، فقال أمير المؤمنين عليه السلام :

أما واللّه لقد كنت أخافها عليه! ثمّ قال : أهكذا تصنع المواعظ البالغة بأهلها؟

__________________

(1) «فى الزلازل» أى : الشدائد المرعدة ، والوقور : الذى لا يضطرب

(2) «لا يأثم ـ الخ» أى : لا تحمله المحبة على أن يرتكب إثما لارضاء حبيبه

(3) أى : لا يدعو غيره باللقب الذى يكرهه ويشمئز منه

(4) صعق : غشى عليه

١٨٩

فقال له قائل : فما بالك يا أمير المؤمنين(1) فقال : ويحك! إنّ لكلّ أجل وقتا لا يعدوه ، وسببا لا يتجاوزه ، فمهلا لا تعد لمثلها ، فإنّما نفث الشّيطان على لسانك!!

189 ـ ومن خطبة له عليه السّلام

يصف فيها المنافقين

نحمده على ما وفّق له من الطّاعة ، وذاد عنه من المعصية(2) ، ونسأله لمنّته تماما ، وبحبله اعتصاما ، ونشهد أنّ محمّدا عبده ورسوله : خاض إلى رضوان اللّه كلّ غمرة(3) ، وتجرّع فيه كلّ غصّة ، وقد تلوّن له الأدنون(4) ، وتألّب عليه الأقصون ، وخلعت إليه العرب أعنّتها وضربت لمحاربته بطون رواحلها حتّى أنزلت بساحته عدوانها : من أبعد الدّار ، وأسحق المزار(5)

__________________

(1) فما بالك لا تموت مع انطواء سرك على هذه المواعظ البالغة؟ وهذا سؤال الوقح البارد

(2) ذاد عنه : حمى عنه

(3) الغمرة : الشدة

(4) « تلون» أى : تقلب له الأدنون ـ أى : الأقربون ـ فلم يثبتوا معه ، و «تألب» أى : اجتمع على عداوته الأقصون ـ أى : الأبعدون ـ وخلعت العرب أعنتها : جمع عنان ، وهو حبل اللجام ، أى : خرجت عن طاعته فلم تنقد له بزمام. والمراد أنها خلعت الأعنة سرعة إلى حربه ، فان ما لا يمسكه عنان يكون أسرع جريا ، والرواحل : جمع راحلة ، وهى الناقة ، أى : ساقوا ركائبهم إسراعا لمحاربته

(5) أسحق : أقصى

١٩٠

أوصيكم ، عباد اللّه بتقوى اللّه ، وأحذّركم أهل النّفاق ، فإنّهم الضّالّون المضلّون ، والزّالّون المزلّون(1) : يتلوّنون ألوانا ، ويفتنّون افتتانا(2) ، ويعمدونكم بكلّ عماد ، ويرصدونكم بكلّ مرصاد ، قلوبهم دويّة(3) ، وصفاحهم نقيّة ، [و] يمشون الخفاء(4) ، ويدبّون الضّرّاء. وصفهم دواء ، وقولهم شفاء ، وفعلهم الدّاء العياء(5) ، حسدة الرّخاء(6) ، ومؤكّدو البلاء ، ومقنطو الرّجاء ، لهم بكلّ طريق صريع(7) ، وإلى كلّ قلب شفيع ، ولكلّ شجو دموع(8) يتقارضون

__________________

(1) الزالون : من «زل» أى : أخطأ ، والمزلون : من «أزله» إذا أوقعه فى الخطأ :

(2) «يفتنون» أى : يأخذون فى فنون من القول لا يذهبون مذهبا واحدا : و «يعمدونكم» أى : يقيمونكم بكل عماد ، والعماد : ما يقام عليه البناء ، أى : إذا ملتم عن أهوائهم أقاموكم عليها بأعمدة من الخديعة حتى توافقوهم. والمرصاد : محل الارتقاب ، ويرصدونكم : يقعدون لكم بكل طريق ليحولوكم عن الاستقامة

(3) «دوية» أى : مريضة ، من الدوى ـ بالقصر ـ وهو المرض ، والصفاح : جمع صفحة ، والمراد منها صفاح وجوههم ، ونقاوتها : صفاؤها من علامات العداوة ، وقلوبهم ملتهبة بنارها.

(4) يمشون مشى التستر ، و «يدبون» أى : يمشون على هينة دبيب الضراء ، أى : يسرون سريان المرض فى الجسم ، أو سريان النقص فى الأموال والأنفس والثمرات ، كذا قال الأستاذ الامام ، وهو يقتضى ضبط الضراء بالتشديد من الضر ، وعندى أنه كسحاب ، والجملة بمعنى سابقتها

(5) الداء العياء ـ بالفتح ـ الذى أعيى الأطباء ولا يمكن منه الشفاء.

(6) حسدة : جمع حاسد ، أى : يحسدون على السعة وإذا نزل بلاء بأحد أكدوه وزادوه ، وإذا رجا أحد شيئا أوقعوه فى القنوط واليأس

(7) الصريع ، المطروح على الأرض ، أى : إنهم كثيرا ما خدعوا أشخاصا حتى أوقعوهم فى الهلكة

(8) الشجو : الحزن ، أى : يبكون تصنعا متى أرادوا

١٩١

الثّناء(1) ، ويتراقبون الجزاء : إن سألوا ألحفوا(2) ، وإن عذلوا كشفوا ، وإن حكموا أسرفوا. قد أعدّوا لكلّ حقّ باطلا ، ولكلّ قائم مائلا ، ولكلّ حىّ قاتلا ، ولكلّ باب مفتاحا ، ولكلّ ليل مصباحا : يتوصّلون إلى الطّمع باليأس ليقيموا به أسواقهم ، وينفقوا به أعلاقهم(3) : يقولون فيشبّهون(4) ، ويصفون فيوهّمون ، قد هوّنوا الطّريق(5) ، وأضلعوا المضيق :

فهمّ لمّة الشّيطان(6) ، وحمة النّيران «أُولٰئِكَ حِزْبُ اَلشَّيْطٰانِ أَلاٰ إِنَّ حِزْبَ اَلشَّيْطٰانِ هُمُ اَلْخٰاسِرُونَ »

__________________

(1) يتقارضون : كل واحد منهم يسلف الآخر دينا ليؤديه إليه ، وكل يعمل للأخر عملا يرتقب جزاءه عليه

(2) بالغوا فى السؤال وألحوا ، و «إن عذلوا» أى : لاموا كشفوا ـ أى فضحوا ـ من يلومونه

(3) «ينفقون» أى : يروجون من النفاق ـ بالفتح ـ ضد الكساد ، والأعلاق جمع علق ـ بالكسر ـ وهو الشىء النفيس. والمراد ما يزينونه من خدائعهم

(4) « يشبهون» الحق بالباطل وقوله «فيوهمون» أى : يبعثون الوهم إلى أذهان سامعيهم ، وفى رواية «فيموهون» أى : يزينون

(5) يهونون على الناس طرق السير معهم على أهوائهم الفاسدة ، ثم بعد أن ينقادوا لهم يضلعون عليهم المضائق ، أى : يجعلونها معوجة يصعب تجاوزها فيهلكون

(6) اللمة ـ بضم ففتح ـ الجماعة من الثلاثة إلى العشرة ، والمراد هنا مطلق الجماعة. والحمة ـ بالتخفيف ـ الأبرة تلسع بها العقرب ونحوها. والمراد لهيب النيران.

١٩٢

190 ـ ومن خطبة له عليه السّلام

الحمد للّه الّذى أظهر من آثار سلطانه ، وجلال كبريائه ، ما حيّر مقل العيون من عجائب قدرته(1) ، وردع خطرات هماهم النّفوس عن عرفان كنه صفته(2) .

وأشهد أن لا إله إلاّ اللّه شهادة إيمان وإيقان ، وإخلاص وإذعان. وأشهد أنّ محمّدا عبده ورسوله أرسله وأعلام الهدى دارسة ، ومناهج الدّين طامسة(3) ، فصدع بالحقّ ، ونصح للخلق ، وهدى إلى الرّشد ، وأمر بالقصد ، صلّى اللّه عليه وآله [وسلم].

واعلموا ، عباد اللّه ، أنّه لم يخلقكم عبثا ، ولم يرسلكم هملا. علم مبلغ نعمه عليكم ، وأحصى إحسانه إليكم ، فاستفتحوه ، واستنجحوه(4) ، واطلبوا إليه واستمنحوه ، فما قطعكم عنه حجاب ، ولا أغلق عنكم دونه باب ، وإنّه لبكلّ مكان ، وفى كلّ حين وأوان ، ومع كلّ إنس وجانّ ، لا يثلمه العطاء(5) ،

__________________

(1) المقل ـ بضم ففتح ـ : جمع مقلة ، وهى شحمة العين التى تجمع البياض والسواد.

(2) هماهم النفوس : همومها فى طلب العلم

(3) من «طمس» ـ بفتحات ـ أى : انمحى واندرس ، و «صدع» أى : شق بناء الباطل بصدمة الحق. والقصد : الاعتدال فى كل شىء

(4) استفتحوه : اسالوه الفتح على أعدائكم ، واستنجحوه : اسألوه النجاح فى أعمالكم واستمنحوه : التمسوا منه العطاء

(5) ثلم السيف ـ كضرب ـ كسر جانبه ، مجاز عن عدم انتقاص خزائنه بالعطاء. والحباء «13 ـ ن ـ ج ـ 2» ـ ككتاب ـ : العطية لا مكافأة عليها. واستنفده : جعله نافد المال لا شىء عنده. واستقصاه : أتى على آخر ما عنده ، واللّه سبحانه لا نهاية لما لديه من المواهب ، و «لا يلويه» أى : لا يميله ، وتولهه : تذهله ، ويجنه : مضارع أجنه ، ويقال جنه يجنه ـ كيظنه ـ ومعناه يستره ، وكأنه يريد رضى اللّه عنه أن صور الموجودات حجاب بين الوهم وسبحات وجهه وعلو ذاته مانع للعقل عن اكتناهه ، فهو بهذا باطن ، ومع ذلك فالأشياء بذاتها لا وجود لها ، وإنما وجودها نسبتها إليه. فالوجود الحقيقى البرىء من شوائب العدم وجوده ، فالموجودات أشعة ضياء لوجود الحق ، فهو الظاهر على كل شىء ، وبهذا تتبين الأوصاف الآتية

١٩٣

ولا ينقصه الحباء ، ولا يستنفده سائل ، ولا يستقصيه نائل ، ولا يلويه شخص عن شخص ، ولا يلهيه صوت عن صوت ، ولا تحجزه هبة عن سلب ، ولا يشغله غضب عن رحمة ، ولا تولهه رحمة عن عقاب ، ولا يجنّه البطون عن الظّهور ، ولا يقطعه الظّهور عن البطون. قرب فنأى ، وعلا فدنا ، وظهر فبطن ، وبطن فعلن ، ودان ولم يدن(1) ، لم يذرإ الخلق باحتيال(2) ، ولا استعان بهم لكلال.

أوصيكم ، عباد اللّه ، بتقوى اللّه ، فإنّها الزّمام والقوام(3) ، فتمسّكوا بوثائقها ، واعتصموا بحقائقها ، تؤل بكم إلى أكنان الدّعة(4) و أوطان السّعة ، ومعاقل

__________________

(1) دان : جازى وحاسب ، ولم يحاسبه أحد

(2) «ذرأ» أى : خلق ، والاحتيال : التفكر فى العمل وطلب التمكن من إبرازه ولا يكون إلا من العجز ، والكلال : الملل من التعب

(3) التقوى : زمام يقود للسعادة ، وقوام ـ بالفتح ـ أى : عيش يحيا به الأبرار

(4) الأكنان : جمع كن ـ بالكسر ـ وهو ما يستكن به ، والدعة : خفض العيش وسعته ، والمعاقل : الحصون ، والحرز : الحفظ

١٩٤

الحرز ، ومنازل العزّ ، فى يوم تشخص فيه الأبصار ، وتظلم الأقطار ، وتعطّل فيه صروم العشار(1) ، وينفخ فى الصّور ، فتزهق كلّ مهجة ، وتبكم كلّ لهجة ، وتذلّ الشّمّ الشّوامخ(2) ، والصّمّ الرّواسخ ، فيصير صلدها سرابا رقرقا(3) ومعهدها قاعا سملقا ، فلا شفيع [يشفع] ، ولا حميم يدفع ، ولا معذرة تنفع

191 ـ ومن خطبة له عليه السّلام

بعثه حين لا علم قائم(4) ، ولا منار ساطع ، ولا منهج واضح : أوصيكم عباد اللّه ، بتقوى اللّه ، وأحذّركم الدّنيا ، فإنّها دار شخوص(5) و محلّة تنغيص ،

__________________

(1) الصروم : جمع صرمة بالكسر ـ وهى قطعة من الابل فوق العشرة إلى تسعة عشر ، أو فوق العشرين إلى الثلاثين ، أو الأربعين أو الخمسين. والعشار : جمع عشراء ـ بضم ففتح ، كنفساء ـ وهى الناقة مضى لحملها عشرة أشهر. وتعطيل جماعات الابل : إهمالها من الرعى ، والمراد أن يوم القيامة تهمل فيه نفائس الأموال لاشتغال كل شخص بنجاة نفسه

(2) الشم : جمع أشم ، أى : رفيع ، والشامخ : المتسامى فى الارتفاع ، والصم : جمع أصم ، وهو الصلب المصمت ، أى : الذى لا تجويف فيه. والراسخ : الثابت

(3) الصلد : الصلب الأملس ، والسراب : ما يخيله ضوء الشمس كالماء خصوصا فى الأراضى السبخة وليس بماء ، والرقرق ـ كجعفر ـ المضطرب ، ومعهدها : المحل الذى كان يعهد وجودها فيه ، والقاع : ما اطمأن من الأرض ، والسملق ـ كجعفر ـ المستوى ، أى : تنسف تلك الجبال ويصير مكانها قاعا صفصفا ، أى : مستويا

(4) الضمير البارز فى «بعثه» للنبى صلّى اللّه عليه وآله وسلم

(5) الشخوص : الذهاب والانتقال إلى بعيد ، وبابه خضع

١٩٥

ساكنها ظاعن ، وقاطنها بائن(1) ، تميد بأهلها ميدان السّفينة تقصفها العواصف فى لجج البحار(2) ، فمنهم الغرق الوبق(3) ، ومنهم النّاجى على بطون الأمواج ، تحفزه الرّياح بأذيالها ، وتحمله على أهوالها ، فما غرق منها فليس بمستدرك ، وما نجا منها فإلى مهلك!! عباد اللّه ، الآن فاعملوا ، والألسن مطلقة ، والأبدان صحيحة ، والأعضاء لدنة(4) ، والمنقلب فسيح ، والمجال عريض ، قبل إرهاق الفوت(5) ، وحلول الموت ، فحقّقوا عليكم نزوله ، ولا تنتظروا قدومه!

192 ـ ومن كلام له عليه السّلام

ولقد علم المستحفظون من أصحاب محمّد ، صلّى اللّه عليه وآله وسلم(6) ، أنّى

__________________

(1) بائن : مبتعد منفصل

(2) تميد : تضطرب اضطراب السفينة ، تقصفها ـ أى : تكسرها ـ الرياح الشديدة

(3) الوبق ـ بكسر الباء ـ : الهالك ، أى : منهم من هلك عند تكسر السفينة ، ومنهم من بقيت فيه الحياة فخلص محمولا على بطون الأمواج ، كأن الأمواج فى انتفاخها كالحيوان المنقلب على ظهره وبطنه أعلى ، و «تحفزه» أى : تدفعه ، ومصير هذا الناجى أيضا إلى الهلاك بعد طول العناء

(4) اللدن ـ بالفتح ـ اللين ، أى : والأعضاء فى لين الحياة يمكن استعمالها فى العمل ، والمنقلب ـ بفتح اللام ـ مكان الانقلاب من الضلال إلى الهدى فى هذه الحياة

(5) أرهقه الشىء ، أعجله فلم يتمكن من فعله ، والفوت : ذهاب الفرصة بحلول الأجل

(6) المستحفظون ـ بفتح الفاء ـ اسم مفعول ، أى : الذين أودعهم النبى صلّى اللّه عليه وسلم أمانة سره وطالبهم بحفظها ، و «لم يردد على اللّه ورسوله» : لم يعارضهما فى أحكامهما

١٩٦

لم أردّ على اللّه ولا على رسوله ساعة قطّ ، ولقد واسيته بنفسى فى المواطن الّتى تنكص فيها الأبطال(1) ، وتتأخّر فيها الأقدام ، نجدة أكرمنى اللّه بها(2) ولقد قبض رسول اللّه ، صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ، وإنّ رأسه لعلى صدرى ، ولقد سالت نفسه فى كفّى ، فأمررتها على وجهى(3) ، ولقد ولّيت غسله ، صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ، والملائكة أعوانى ، فضجّت الدّار والأفنية(4) ، ملأ يهبط وملأ يعرج ، وما فارقت سمعى هينمة منهم(5) يصلّون عليه حتّى واريناه فى ضريحه ، فمن ذا أحقّ به منّى حيّا وميّتا؟! فانفذوا على بصائركم(6) ، ولتصدق نيّاتكم فى جهاد عدوّكم. فو الّذى لا إله إلاّ هو إنّى لعلى جادّة الحقّ ،

__________________

(1) المواساة بالشىء : الاشراك فيه ، فقد أشرك النبى فى نفسه ، ولا تكون بالمال إلا أن يكون كفافا ، فان أعطيت عن فضل فليس بمواساة. قالوا : والفصيح فى الفعل «آسيته» ولكن نطق الامام حجة

(2) النجدة ـ بالفتح ـ الشجاعة ، ونصبها هنا على المصدرية لفعل محذوف

(3) نفسه : دمه. روى أن النبى صلّى اللّه عليه وآله وسلم قاء فى مرضه فتلقى قيأه أمير المؤمنين فى يده ومسح به وجهه

(4) ضجيج الدار : كان بالملائكة النازلين والعارجين ، والأفنية : جمع فناء ـ بكسر الفاء ـ وهو ما اتسع أمام الدار

(5) الهينمة : الصوت الخفى

(6) البصيرة : ضياء العقل ، كأنه يقول : فاذهبوا إلى عدوكم محمولين على اليقين الذى لا ريب فيه

١٩٧

وإنّهم لعلى مزلّة الباطل(1) ، أقول ما تسمعون ، وأستغفر اللّه لى ولكم.

193 ـ ومن خطبة له عليه السّلام

يعلم عجيج الوحوش فى الفلوات ، ومعاصى العباد فى الخلوات ، واختلاف النّينان فى البحار الغامرات(2) ، وتلاطم الماء بالرّياح العاصفات. وأشهد أنّ محمّدا نجيب اللّه(3) ، وسفير وحيه ، ورسول رحمته.

أمّا بعد ، فأوصيكم بتقوى اللّه الّذى ابتدأ خلقكم ، وإليه يكون معادكم ، وبه نجاح طلبتكم ، وإليه منتهى رغبتكم ، ونحوه قصد سبيلكم ، وإليه مرامى مفزعكم(4) ، فانّ تقوى اللّه دواء داء قلوبكم ، وبصر عمى أفئدتكم ، وشفاء مرض أجسادكم ، وصلاح فساد صدوركم ، وطهور دنس أنفسكم ، وجلاء غشاء أبصاركم ، وأمن فزع جأشكم(5) ، وضياء سواد ظلمتكم ، فاجعلوا طاعة

__________________

(1) المزلة : مكان الزلل الموجب للسقوط فى الهلكة ، وتقول : زل فى طين أو منطق يزل ـ بكسر الزاى فى المضارع ـ زليلا ، وقال الفراء : زل يزل ـ بالفتح ـ زللا ، والاسم الزلة ـ بالفتح واستزله غيره وأزله

(2) النينان : جمع نون ، وهو الحوت ، وفى التنزيل : (وذا النون إذ نادى ربه فى الظلمات) وفسر بعضهم به قوله تعالى : «ن وَاَلْقَلَمِ وَمٰا يَسْطُرُونَ» وهو بعيد

(3) النجيب : المختار المصطفى

(4) مرمى الفزع : ما يدفع إليه الخوف ، وهو الملجأ ، أى : وإليه ملاجىء خوفكم

(5) الجأش : ما يضطرب فى القلب عند الفزع أو التهيب أو توقع المكروه ، ويقال : فلان رابط الجأش ، إذا كان لا يضطرب ولا يفزع

١٩٨

اللّه شعارا دون دثاركم(1) ، ودخيلا دون شعاركم ، ولطيفا بين أضلاعكم ، وأميرا فوق أموركم ، ومنهلا لحين ورودكم(2) ، وشفيعا لدرك طلبتكم ، وجنّة ليوم فزعكم ، ومصابيح لبطون قبوركم ، وسكنا لطول وحشتكم ، ونفسا لكرب مواطنكم ، فانّ طاعة اللّه حرز من متالف مكتنفة ، ومخاوف متوقّعة ، وأوار نيران موقدة(3) . فمن أخذ بالتّقوى عزبت عنه الشّدائد بعد دنوّها(4) ، واحلولت له الأمور بعد مرارتها ، وانفرجت عنه الأمواج بعد تراكمها ، وأسهلت له الصّعاب بعد إنصابها(5) ، وهطلت عليه الكرامة بعد قحوطها ، وتحدّبت عليه الرّحمة بعد نفورها(6) ، وتفجّرت عليه النّعم بعد نضوبها ، ووبلت عليه البركة بعد إرذاذها

__________________

(1) الشعار : ما يلى البدن من الثياب ، والدثار : ما فوقه

(2) المنهل : ما ترده الشاربة من الماء للشرب ، والدرك ـ بالتحريك ـ اللحاق ، والطلبة ـ بالكسر ـ المطلوب. والجنة ـ بالضم ـ : الوقاية

(3) الأوار ـ بالضم ـ : حرارة النار ولهيبها

(4) عزبت : غابت ، وبعدت

(5) الانصاب : مصدر بمعنى الاتعاب ، وتقول : نصب ـ من باب تعب ـ وأنصبه غيره

(6) تحدب عليه : عطف. ونضب الماء نضوبا : غار وذهب فى الأرض ، ونضوب النعمة : قلتها أو زوالها. ووبلت السماء : ـ من باب وعد ـ أمطرت مطرا شديدا قال الأخفش : ومنه قوله تعالى : «أَخْذاً وَبِيلاً» أى : شديدا ، وضرب وبيل ، وعذاب وبيل ، أى : شديد. وأرذت ـ بتشديد الذال ـ إرذاذا : أمطرت مطرا ضعيفا فى سكون كأنه الغبار المتطاير ، وأصله الرذاذ ـ كسحاب ـ وهو المطر الضعيف

١٩٩

فاتّقوا اللّه الّذى نفعكم بموعظته ، ووعظكم برسالته ، وامتنّ عليكم بنعمته ، فعبّدوا أنفسكم لعبادته(1) ، واخرجوا إليه من حقّ طاعته.

ثمّ إنّ هذا الإسلام دين اللّه الّذى اصطفاه لنفسه ، واصطنعه على عينه ، وأصفاه(2) خيرة خلقه ، وأقام دعائمه على محبّته ، أذلّ الأديان بعزّته ، ووضع الملل برفعه ، وأهان أعداءه بكرامته ، وخذل محادّيه بنصره(3) ، وهدم أركان الضّلالة بركنه ، وسقى من عطش من حياضه ، وأتأق الحياض لمواتحه(4) ، ثمّ جعله لا انفصام لعروته ، ولا فكّ لحلقته ، ولا انهدام لأساسه ، ولا زوال لدعائمه ، ولا انقلاع لشجرته ، ولا انقطاع لمدّته ، ولا عفاء لشرائعه(5) ،

__________________

(1) «فعبدوا» أى : فذللوا

(2) اصطناع الشىء على العين : الأمر بصنعته تحت النظر ، خوف المخالفة فى المطلوب من صنعته ، والمراد هنا تشريع الدين وتكميله على حسب علم اللّه الأعلى وتحت عنايته بحفظه ، ووجه التجوز ظاهر. وأصفاه العطاء وبه : أخلص له وآثره به ، وخيرة ـ بفتح الخاء ـ : أفضل ما يضاف إليه. أى : وآثر هذا الدين بأفضل الخلق ليبلغه للناس ، وتكسر خاؤه وياؤه حينئذ ساكنة أو مفتوحة

(3) محاديه : جمع محاد : وهو الشديد المخالفة. والركن : العز والمنعة

(4) تئق الحوض ـ كفرح ـ : امتلأ ، وأتاقه : ملأه. والمواتح : جمع ماتح وهو نازع الماء من الحوض

(5) العفاء ـ كسحاب ـ : الدروس والاضمحلال ، تقول : عفا المنزل ، أى : درس. وعفته الريح ، يتعدى ويلزم ، وبابهما عدا ، وعفته الريح ـ بالتشديد ـ أيضا ، شدد للمبالغة ، وتعفى المنزل : مثل عفا ، والجذ : القطع ، والضنك : الضيق والوعوثة : رخاوة فى السهل تغوص بها الأقدام عند السير فيعسر المشى فيه. والوضح ـ محركة ـ : بياض الصبح ، والعصل ـ بفتح الصاد ـ : الاعوجاج يصعب تقويمه ، ووعث الطريق : تعسر المشى فيه ، وبابه قرب وتعب. والفج : الطريق الواسع بين جبلين

٢٠٠