نهج البلاغة الجزء ٢

نهج البلاغة0%

نهج البلاغة مؤلف:
المحقق: محمّد محيى الدين عبد الحميد
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 276

نهج البلاغة

مؤلف: محمد عبده
المحقق: محمّد محيى الدين عبد الحميد
تصنيف:

الصفحات: 276
المشاهدات: 90742
تحميل: 3617


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 276 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 90742 / تحميل: 3617
الحجم الحجم الحجم

فقد رأيت من كان قبلك ممّن جمع المال ، وحذر الإقلال ، وأمن العواقب ، طول أمل(1) واستبعاد أجل ، كيف نزل به الموت فأزعجه عن وطنه ، وأخذه من مأمنه ، محمولا على أعواد المنايا ، يتعاطى به الرّجال الرّجال حملا على المناكب ، وإمساكا بالأنامل(2) أما رأيتم الّذين يومّلون بعيدا ، ويبنون مشيدا ، ويجمعون كثيرا ، كيف أصبحت بيوتهم قبورا ، وما جمعوا بورا ،(3) وصارت أموالهم للوارثين ، وأزواجهم لقوم آخرين ، لا فى حسنة يزيدون ، ولا من سيّئة يستعتبون؟! فمن أشعر التّقوى قلبه برّز مهله(4) و فاز عمله ،

__________________

فكلما رأيت حيا زعمت أنك باق مثله

(1) طول : مفعول لأجله ، أى : كان منه ذلك لطول الأمل الخ

(2) أعواد المنايا : النعش ، و «يتعاطى به الرجال الرجال» أى : يتداولونه : تارة على أكتاف هؤلاء ، وتارة على أكتاف هؤلاء. وقد فسره بما بعده من قوله «حملا على المناكب وإمساكا بالأنامل»

(3) المشيد ـ بوزن المبيع والمعيب ـ اسم مفعول من «شاده» إذا بناه بالشيد ، وهو الجص ، وفى التنزيل : «وَقَصْرٍ مَشِيدٍ» والبور : الفاسد الهالك ، و «قوم بور» أى : هلكى ، وقال اللّه تعالى : «وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً» والبور : جمع ، واحده بائر ، مثل حائل وحول

(4) « يستعتبون» رواه قوم بالبناء للمجهول ، ومعناه حينئذ أنهم لا يعاتبون على فعل سيئة صدرت منهم أيام حياتهم ، أو لا يستطيعون وهم موتى أن يفعلوا ما يعاتبون عليه. ورواه قوم بالبناء للمعلوم ، ومعناه حينئذ مأخوذ من قولهم «استعتب فلان» إذا طلب أن يعتب ، أى : يرضى ، وقوله «فمن أشعر التقوى قلبه» معناه جعلها ملازمة له كما يلازم الشعار الجسد ، وتقول : «برز الرجل على أقرانه» أى : فاقهم. والمهل : التقدم فى الخير ، أى : فاق تقدمه إلى الخير على تقدم غيره

٢١

فاهتبلوا هبلها ، واعملوا للجنّة عملها(1) فإنّ الدّنيا لم تخلق لكم دار مقام ، بل خلقت لكم مجازا لتزوّدوا منها الأعمال إلى دار القرار ، فكونوا منها على أوفاز(2) ، وقرّبوا الظّهور للزّيال.

129 ـ ومن كلام له عليه السّلام

وانقادت له الدّنيا والآخرة بأزمّتها ، وقذفت إليه السّموات والأرضون مقاليدها(3) ، وسجدت له بالغدوّ والآصال الأشجار النّاضرة ، وقدحت له من قضبانها النّيران المضيئة(4) و آتت أكلها بكلماته الثّمار اليانعة منها : وكتاب اللّه بين أظهركم ناطق لا يعيى لسانه ، وبيت لا تهدم أركانه ، وعزّ لا تهزم أعوانه ومنها : أرسله على حين فترة من الرّسل ، وتنازع من الألسن ، فقفّى به الرّسل ، وختم به الوحى ، فجاهد فى اللّه المدبرين عنه ، والعادلين به.

__________________

(1) «اهتبل الصيد» : طلبه. واهتبل كلمة الحكمة : اغتنمها ، والضمير فى «هبلها» للتقوى لا للدنيا ، أى : اغنموا خير التقوى

(2) الوفز ـ بسكون الفاء ، ويحرك ـ : العجلة ، وجمعه أوفاز ، أى : كونوا منها على استعجال ، والظهور : ظهور المطايا ، أى : أحضروها للزيال ، أى : فراق الدنيا

(3) مقاليدها : جمع مقلاد ، وهو المفتاح

(4) أى : إن الأشجار أشعلت النيران المضيئة من قضبانها ـ أى : أغصانها ـ وقوله «بكلماته» أى : بأوامره التكوينية ، والضمائر للّه سبحانه

٢٢

ومنها : وإنّما الدّنيا منتهى بصر الأعمى(1) لا يبصر ممّا وراءها شيئا ، والبصير ينفذها بصره ويعلم أنّ الدّار وراءها ، فالبصير منها شاخص ، والأعمى إليها شاخص ، والبصير منها متزوّد ، والأعمى لها متزوّد.

ومنها : واعلموا أن ليس من شىء إلاّ ويكاد صاحبه أن يشبع منه ويملّه ، إلاّ الحياة فإنّه لا يجد له فى الموت راحة(2) وإنّما ذلك بمنزلة الحكمة الّتى هى حياة للقلب الميّت ، وبصر للعين العمياء ، وسمع للأذن الصّمّاء ، ورىّ للظّمآن ، وفيها الغنى كلّه والسّلامة : كتاب اللّه تبصرون به ، وتنطقون به ، وتسمعون به ، وينطق بعضه ببعض ، ويشهد بعضه على بعض ، ولا يختلف فى اللّه ، ولا يخالف بصاحبه عن اللّه.

قد اصطلحتم على الغلّ فيما بينكم(3) ونبت المرعى على دمنكم ، وتصافيتم

__________________

(1) يشير إلى أن من يقصر نظره على الدنيا فكأنه لم يبصر شيئا ، فهو بمنزلة الأعمى

(2) «لا يجد فى الموت راحة» حيث لم يهيىء من العمل الصالح الباقى ما يكسبه السعادة بعد الموت. قال : «وإنما ذلك» أى : شعور الانسان بخيفة ما بعد الموت ، بمنزلة حكمة واعظة تنبهه من غفلة الغرور ، وتبعثه إلى خير العمل. ثم بعد بيانه لما يجده الانسان فى نفسه ـ من خيفة ما وراء الموت ، ولما يرشد إليه ذلك ـ أخذ يبين الوسيلة الموصلة إلى النجاة مما يخشاه القلب وتتوجس منه النفس ، وأنها التمسك بكتاب اللّه الذى بين أوصافه ، وبهذا التفسير التأم الكلام ، واندفعت حيرة الشارحين فى هذا المقام. وقوله «كتاب ـ الخ» جملة مستأنفة ، أى : هذا كتاب اللّه فيه ما تحتاجون إليه مماهدتكم الفطرة إلى طلبه

(3) الغل : الحقد ، والاصطلاح

٢٣

على حبّ الآمال ، وتعاديتم فى كسب الأموال ، لقد استهام بكم الخبيث(1) وتاه بكم الغرور ، واللّه المستعان على نفسى وأنفسكم

130 ـ ومن كلام له عليه السّلام

وقد شاوره عمر [بن الخطاب رضى اللّه عنه]

فى الخروج إلى غزو الروم بنفسه

وقد توكّل اللّه لأهل هذا الدّين باعزاز الحوزة(2) وستر العورة ، والّذى نصرهم وهم قليل لا ينتصرون ، ومنعهم وهم قليل لا يمتنعون ، حىّ لا يموت(3)

__________________

عليه : الاتفاق على تمكينه فى النفوس ، وقوله «نبت المرعى على دمنكم» : تأكيد وتوضيح للجملة قبلها ، والدمن ـ بكسر ففتح ـ جمع دمنة ـ بالكسر ـ وهى الحقد القديم ، ونبت المرعى عليه : استتاره بظواهر النفاق وزينة الخداع ، وأصل الدمن : السرقين وما يكون من أرواث الماشية وأبوالها ، وسميت بها الأحقاد لأنها أشبه شىء بها قد تنبت عليها الخضر وهى على ما فيها من قذر ، وهذا كلام ينعى به حالهم مع وجود كتاب اللّه ومرشد الالهام

(1) استهام : أصله من «هام على وجهه» إذا خرج لا يدرى أين يذهب ، أى : أخرجكم الشيطان من نور الفطرة وضياء الشريعة إلى ظلمات الضلال والحيرة

(2) الحوزة : ما يحوزه المالك ويتولى حفظه ، وإعزاز حوزة الدين : حمايتها من تغلب أعدائه

(3) «توكل» أصله بمعنى صار لهم وكيلا ، والوكيل معناه الكفيل الزعيم بالشىء ، ويروى فى مكانه «تكفل» والمعنى واحد ، والحوزة : الناحية ، وحوزة الملك : بيضته التى يدافع عنها. يقول : إن الذى نصرهم فى الابتداء على ضعفهم وقلة عددهم هو اللّه تعالى ، وهو حى لا يموت فأجدر به أن ينصرهم ثانيا كما نصرهم أولا

٢٤

إنّك متى تسر إلى هذا العدوّ بنفسك فتلقهم فتنكب لا تكن للمسلمين كانفة دون أقصى بلادهم(1) ليس بعدك مرجع يرجعون إليه ، فابعث إليهم رجلا مجرّبا ، واحفز معه أهل البلاء والنّصيحة(2) فإن أظهر اللّه فذاك ما تحبّ ، وإن تكن الأخرى كنت ردءا للنّاس(3) ومثابة للمسلمين.

131 ـ ومن كلام له عليه السّلام(4)

يا ابن اللّعين الأبتر ، والشّجرة الّتى لا أصل لها ، ولا فرع ، أنت تكفينى! واللّه ما أعزّ اللّه من أنت ناصره ، ولا قام من أنت منهضه ، اخرج عنّا أبعد اللّه

__________________

(1) كانفة : عاصمة يلجأون إليها ، من «كنفه» إذا صانه وستره ، والأصل فى هذا الاستعمال أنهم يقولون «كنفت الابل» أى : جعلت لها كنيفا ، وهو الحظيرة من الشجر تستتر بها وتلجأ إليها ، وبها تعتصم

(2) «رجلا مجربا» يروى بالجيم ، ومعناه الذى أحكمته التجربة ودله الاختبار على عواقب الأمور ، ويروى «محربا» بالحاء المهملة ، أى : صاحب حروب ، وقوله «احفز». من «حفزته» ـ كضربته ـ إذا دفعته وسقته سوقا شديدا ، وأهل البلاء : أهل المهارة فى الحرب مع الصدق فى القصد والجراءة فى الاقدام ، والبلاء : هو الاجادة فى العمل وإحسانه

(3) الردء ـ بالكسر ـ : الملجأ ، والمثابة : المرجع

(4) قالوا : كان نزاع بين أمير المؤمنين وبين عثمان ، فقال المغيرة بن الأخنس ابن شريق لعثمان : أنا أكفيكه! قال على : يا ابن اللعين الخ ، وإنما قال ذلك لأن لأن أباه كان من رءووس المنافقين ، ووصفه بالأبتر ـ وهو من لا عقب له ـ لأن ولده هذا كلا ولد وكان للمغيرة هذا أخ اسمه أبو الحكم بن الأخنس ، وكان قد شهد مع كفار مكة غزاة أحد ، وفيها قتله أمير المؤمنين على بن أبى طالب رضى اللّه عنه

٢٥

نواك(1) ثمّ ابلغ جهدك فلا أبقى اللّه عليك إن أبقيت(2)

132 ـ ومن كلام له عليه السّلام

لم تكن بيعتكم إيّاى فلتة ، وليس أمرى وأمركم واحدا : إنّى أريدكم للّه ، وأنتم تريدونى لأنفسكم! أيّها النّاس ، أعينونى على أنفسكم ، وايم اللّه لأنصفنّ المظلوم من ظالمه ، ولأقودنّ الظّالم بخزامته(3) حتّى أورده منهل الحقّ وإن كان كارها.

133 ـ ومن كلام له عليه السّلام

فى معنى طلحة والزبير

واللّه ما أنكروا علىّ منكرا ، ولا جعلوا بينى وبينهم نصفا(4) و إنّهم

__________________

فمن هنا تأرثت الضغينة فى قلب المغيرة عليه

(1) النوى ههنا : بمعنى الدار ، ويروى فى مكانه «أبعد اللّه نوءك» بالهمز واحد أنواء السماء ، وهى النجوم التى كان العرب ينسبون إليها المطر ، والمراد : أبعد اللّه خيرك

(2) الجهد ـ بالفتح ـ الغاية ، ويقال : قد جهد فلان جهده ، أى : انتهى إلى غايته ، وهو بفتح الجيم فى هذا الاستعمال لا يجوز فيه غيره

(3) الفلتة : الأمر يقع عن غير تدبر ولا روية. و «أعينونى على أنفسكم» معناه خذوا أنفسكم بالعدل ، واقمعوها عن اتباع الهوى ، واردعوها بعقولكم عن المسالك التى ترديها وتوبقها ، فانكم إذا فعلتم ذلك أعنتمونى عليها ، ومعنى قوله «أريدكم للّه وأنتم تريدوننى لأنفسكم» أنه لا يريد من طاعتهم له إلا نصرة اللّه والقيام بحقوقه ، وليس يريدهم لحظ نفسه ، وأما هم فانهم يريدونه لحظوظ أنفسهم من العطاء والتقريب والأسباب الموصلة إلى منافع الدنيا ، والخزامة ـ بالكسر ـ : حلقة من شعر تجعل فى وترة أنف البعير ليشد فيها الزمام ويسهل قياده

(4) النصف ـ محركة ـ : أسم

٢٦

ليطلبون حقّا هم تركوه ، ودماهم سفكوه ، فإن كنت شريكهم فيه فإنّ لهم نصيبهم منه ، وإن كانوا ولّوه دونى فما الطّلبة إلاّ قبلهم(1) وإنّ أوّل عدلهم للحكم على أنفسهم ، وإنّ معى لبصيرتى : ما لبّست ولا لبّس علىّ ، وإنّها للفئة الباغية فيها الحما والحمة(2) والشّبهة المغدفة(3) وإنّ الأمر لواضح وقد زاح الباطل عن نصابه(4) و انقطع لسانه عن شغبه(5) و ايم اللّه لأفرطنّ لهم

__________________

من الانصاف ، وربما سكن كما فى قول الفرزدق :

ولكن نصفا لو سببت وسبنى

بنو عبد شمس من قريش وهاشم

(1) الطلبة ـ بالكسر ـ : ما يطالب به من الثأر

(2) المراد بالحما هنا : مطلق القريب والنسيب ، وهو كناية عن الزبير ، فانه من قرابة النبى صلّى اللّه عليه وسلم وابن عمته. قالوا : وكان النبى أخبر عليا أنه ستبغى عليه فئة فيها بعض أحمائه وإحدى زوجاته ، والحمة ـ بضم ففتح ـ : كناية عنها ، وأصلها الحية أو إبرة اللاسعة من الهوام واللّه أعلم. هكذا قال الاستاذ الامام ، وفى تفسير «الحما» الذى ذهب إليه بعد ، فانه لو كان بهذا المعنى الذى ذكره لجاء به مرفوعا بالواو مضافا كما هو الأشهر الأعرف فى إعراب هذه الكلمة ، وإنما هو «الحمأ» بالهمز فى آخره ، وهو الطين الأسود ، وفى التنزيل : «مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ» وهو كناية عن اختلاط الأمر واضطرابه ، والحمة : كناية عن شدته وعظيم أثره فى إيلام جماعة المسلمين

(3) أغدفت المرأة قناعها. أرسلته على وجهها ، وأغدف الليل : أرخى سدوله ، يعنى أن شبهة الطلب بدم عثمان شبهة ساترة للحق

(4) زاح يزيح زيحا وزيحانا : بعد وذهب ، كانزاح. والنصاب : الأصل ، والمستقر ، أى : قد انقلع الباطل من مغرسه

(5) الشغب ـ بالفتح ـ : تهييج الشر ، وفعله شغب ـ كفتح ـ وجاء الشغب بفتحتين فى لغة قليلة ، وفعله حينئذ شغب ـ بكسر الغين ـ مثل طرب طربا

٢٧

حوضا(1) أنا ماتحه : لا يصدرون عنه برىّ ، ولا يعبّون بعده فى حسى(2)

منها : فأقبلتم إلىّ إقبال العوذ المطافيل على أولادها(3) تقولون : البيعة البيعة!! قبضت يدى فبسطتموها ، ونازعتكم يدى فجدبتموها ، اللّهمّ إنّهما قطعانى وظلمانى ، ونكثا بيعتى ، وألّبا النّاس علىّ(4) فاحلل ما عقدا ، ولا تحكم لهما ما أبرما ، وأرهما المساءة فيما أمّلا وعملا ، ولقد استثبتهما قبل القتال(5) ،

__________________

(1) أفرط الحوض : ملأه حتى فاض ، والمراد حوض المنية. و «ماتحه» أى : نازع مائه لأسقيهم ، والفرق بين الماتح ـ بالتاء المثناة ـ والمائح ـ بالهمز ـ أن الماتح المستقى من فوق ، ومنه قول الراجز يأيها الماتح دلوى دونك أما المائح فهو مالىء الدلاء من تحت

(2) عب : شرب بلا تنفس ، والحسى ـ بفتح الحاء ، ويكسر ـ : سهل من الأرض يستنقع فيه الماء ، أو يكون غليظ من الأرض فوقه رمل يجمع ماء المطر فتحفر فيه حفرة لتنزح منها ماء ، وكلما نزحت دلوا جمعت أخرى ، فتلك الحفرة حسى ، يريد أنه يسقيهم منها كأسا لا يتجرعون سواها

(3) العوذ ـ بالضم ـ : جمع عائذة ، وهى الحديثة النتاج من الظباء والابل ، أو كل أنثى ، وقد تجمع العائذة على عوذان ، مثل راع ورعيان ، وتقول : هذه عائذة بينة العوذ ، وذلك إذا ولدت عن قريب ، ونقول : ما زالت فى عياذها ، إذا كانت فى حدثان نتاجها. والمطافيل : جمع مطفل ـ بضم الميم وكسر الفاء ـ : ذات الطفل من الانس والوحش بعد أن يبعد عهدها بالنتاج ، هذا هو الأصل ، وربما أطلق على المطافيل اسم العوذ مجازا كما هنا

(4) التأليب : الافساد

(5) استثبتهما : من «ثاب» بالثاء ـ إذا رجع ، أى : استرجعتهما ، أى : طلبت منهما أن يرجعا ، ويقال للمنزل «مثابة» لأن أهله ينصرفون عنه ثم يعودون إليه ، ويروى «استتبتهما» بالتاء المثناة ـ أى : طلبت منهما أن يتوبا إلى اللّه مما أذنبا بنقض البيعة

٢٨

واستأنيت بهما أمام الوقاع ، فغمط النّعمة ، وردّ العافية(1)

136 ـ ومن خطبة له عليه السّلام

فى ذكر الملاحم

يعطف الهوى على الهدى(2) إذا عطفوا الهدى على الهوى ، ويعطف الرّأى على القرآن إذا عطفوا القرآن على الرّأى.

منها : حتّى تقوم الحرب بكم على ساق باديا نواجذها(3) ، مملوءة أخلافها ، حلوا رضاعها ، علقما عاقبتها. ألا وفى غد ـ وسيأتى غد بما

__________________

(1) «استأنيت بهما» من الأناة ، وهى التؤدة فى الأمر والانتظار ، والمعنى تأنيت معهما ولم أعالجهما بالحرب ، أو طلبت منهما أن يتأنيا فيما أقدما عليه من نقض العهد ، وقوله «أمام الوقاع» ـ ككتاب ـ قبل المواقعة بالحرب ، وغمط النعمة : جحدها وحقرها وأزرى بها ، وزانه سمع وضرب ، ويقال إن الكسر أفصح

(2) «يعطف الخ» : خبر عن قائم ينادى بالقرآن ، ويطالب الناس باتباعه ، ورد كل رأى إليه ، ومعنى قوله «يعطف الهوى» يقهره ويميل به عن جانب الايثار ، فيجعل الهدى ظاهرا على الهوى ، وكذلك قوله «ويعطف الرأى على القرآن» أى : يقهر حكم الرأى والقياس ، ويجعل الغلبة للقرآن عليه ، ويحمل الناس على العمل به دونه

(3) النواجذ : أقصى الأضراس أو الأنياب ، والأخلاف : جمع خلف ـ بالكسر ـ وهو الضرع ، وبدو النواجذ : كناية عن شدة الاحتدام ، فانما تبدو من الأسد إذا اشتد غضبه ، وامتلاء الأخلاف : غزارة ما فيها من الشر ، وحلاوة الرضاع : استطابة اهل النجدة واستعذابهم لما ينالهم منها ، ومرارة العاقبة بما يصير إليه الظالمون وبئس المصير ، وتقول : رضع رضاعا ، مثل سمع سماعا ، وأهل نجد يقولون : رضع يرضع رضعا ، مثل ضرب يضرب ضربا

٢٩

لا تعرفون ـ يأخذ الوالى من غيرها عمّالها على مساوئ أعمالها(1) ، وتخرج له الأرض من أفاليذ(2) كبدها ، وتلقى إليه سلما مقاليدها ، فيريكم كيف عدل السّيرة ، ويحيى ميّت الكتاب والسّنّة.

منها : كأنّى به قد نعق بالشّام ، وفحص براياته فى ضواحى كوفان ، فعطف إليها عطف الضّروس وفرش الأرض بالرّءوس(3) قد فغرت فاغرته وثقلت فى الأرض وطأته ، بعيد الجولة ، عظيم الصّولة(4) . و اللّه ليشرّدنّكم

__________________

(1) إذا انتهت الحرب حاسب الوالى القائم كل عامل من عمال السوء على مساوئ أعمالهم ، وإنما كان الوالى من غيرها لأنه برىء من جرمها

(2) أفاليذ : جمع أفلاذ ، جمع فلذة ، وهى القطعة من الذهب والفضة ، وهذا كناية عما يظهر لمن يقوم بالأمر من كنوز الأرض ، وقد جاء ذلك فى خبر مرفوع فى لفظه «وفاءت له الأرض أفلاذ كبدها» ومن الناس من يفسر قوله تعالى : «وَأَخْرَجَتِ اَلْأَرْضُ أَثْقٰالَهٰا» بذلك ، قاله ابن أبى الحديد

(3) انتقال إلى الكلام فى قائم الفتنة ، قال ابن أبى الحديد : هذا إخبار عن عبد الملك بن مروان ، وظهوره بالشأم ، وملكه بعد ذلك العراق ، وما قتل من العرب فيها أيام عبد الرحمن بن الأشعث ، وقتله أيام مصعب بن الزبير وتقول نعق الراعى بغنمه ، بالعين المهملة ، وتقول : نغق الغراب ، بالغين المعجمة ، والمعنى فيهما صاح وصوت. وفحص : بحث ، وكوفان : الكوفة. والضروس : الناقة السيئة الخلق تعض حالبها ، وقوله «وفرش الأرض بالرءوس» معناه غطاها بها كما يغطى المكان بالفرش ، وهذا كناية عن كثرة من يقتله.

(4) « فغرت فاغرته» تقول : فغر فاه ، بمعنى فتحه ليتكلم مثلا ، وتقول : فغر فوه ، ففغر فعل يتعدى ويلزم ، والكلام استعارة عن كثرة أوامره التى تخالف ما عرفوه من الشرع. وقوله «ثقلت فى الأرض وطأته» كناية عن جوره وظلمه. وقوله «بعيد

٣٠

فى أطراف الأرض(1) حتّى لا يبقى منكم إلاّ قليل كالكحل فى العين ، فلا تزالون كذلك حتّى تؤوب إلى العرب عوازب أحلامها(2) فالزموا السّنن القائمة ، والآثار البيّنة ، والعهد القريب الّذى عليه باقى النّبوّة ، واعلموا أنّ الشّيطان إنّما يسنّى لكم طرقه لتتّبعوا عقبه(3)

135 ـ ومن كلام له عليه السّلام

فى وقت الشورى

لم يسرع أحد قبلى إلى دعوة حقّ ، وصلة رحم ، وعائدة كرم ، فاسمعوا قولى ، وعوا منطقى ، عسى أن تروا هذا الأمر من بعد هذا اليوم تنتضى فيه السّيوف ، وتخان فيه العهود ، حتّى يكون بعضكم أئمّة لأهل الضّلالة ، وشيعة لأهل الجهالة(4)

136 ـ ومن كلام له عليه السّلام

فى النهى عن غيبة الناس

وإنّما ينبغى لأهل العصمة ، والمصنوع إليهم فى السّلامة(5) أن يرحموا

__________________

الجولة» فالجولة : الجولان ، وهو الطواف ، يريد أن طواف خيله وجيوشه فى البلاد طويل جدا قلما تكون معه راحة أو سكون

(1) «ليشردنكم» أى : ليفرقنكم

(2) عوازب أحلامها : غائبات عقولها

(3) يسنى : يسهل

(4) قوله عسى أن تروا الخ : ابتداء كلام ينذرهم به من عاقبة الأمر ، وتنتضى : تسل

(5) الذين أنعم اللّه عليهم ، وأحسن صنعته إليهم ، بالسلامة من الآثام

٣١

أهل الذّنوب والمعصية ، ويكون الشّكر هو الغالب عليهم ، والحاجز لهم عنهم ، فكيف بالغائب الّذى غاب أخاه ، وعيّره ببلواه؟! أما ذكر موضع ستر اللّه عليه من ذنوبه ممّا هو أعظم من الذّنب الّذى غابه به!!(1) وكيف يذمّه بذنب قد ركب مثله! فإن لم يكن ركب ذلك الذّنب بعينه فقد عصى اللّه فيما سواه ممّا هو أعظم منه. وايم اللّه لئن لم يكن عصاه فى الكبير وعصاه فى الصّغير لجراءته على عيب النّاس أكبر.

يا عبد اللّه ، لا تعجل فى عيب أحد بذنبه فلعلّه مغفور له ، ولا تأمن على نفسك صغير معصية فلعلّك معذّب عليه ، فليكفف من علم منكم عيب غيره لما يعلم من عيب نفسه ، وليكن الشّكر شاغلا له على معافاته ممّا ابتلى به غيره(2)

137 ـ ومن كلام له عليه السّلام(3)

أيّها النّاس ، من عرف من أخيه وثيقة دين ، وسداد طريق ، فلا يسمعنّ

__________________

(1) «مما هو أعظم ـ الخ» بيان للذنوب التى سترها اللّه عليه

(2) «من علم» فاعل «يكفف» و «عيب غيره» مفعول «علم» ومفعول «يكفف» محذوف ، أى : من علم عيب غيره ينبغى أن يكف لسانه عن الخوض فيه للذى يعلمه من عيب نفسه. وقوله «على معافاته» متعلق بالشكر ، و «مما ابتلى» متعلق بمعافاته

(3) خلاصة هذا الكلام النهى عن التسرع إلى تصديق ما يقال من العيب والقدح فى حق الانسان المستور الظاهر ، المشتهر بالصلاح والخير ، وهو من قوله تعالى

٣٢

فيه أقاويل الرّجال ، أما إنّه قد يرمى الرّامى وتخطىء السّهام ، ويحيل الكلام(1) وباطل ذلك يبور ، واللّه سميع وشهيد. أما إنّه ليس بين الباطل والحقّ إلاّ أربع أصابع قال الشريف : فسئل عليه السّلام عن معنى قوله هذا ، فجمع أصابعه ووضعها بين أذنه وعينه ، ثم قال : الباطل أن تقول سمعت ، والحقّ أن تقول رأيت.

138 ـ ومن كلام له عليه السّلام

وليس لواضع المعروف فى غير حقّه ، وعند غير أهله ، من الحظّ إلاّ محمدة اللّئام ، وثناء الأشرار ، ومقالة الجهّال ـ ما دام منعما عليهم ـ «ما أجود يده» وهو عن ذات اللّه بخيل!! فمن آتاه اللّه مالا فليصل به القرابة ، وليحسن منه الضّيافة ، وليفكّ به الأسير والعانى ، وليعط منه الفقير والغارم ، وليصبر نفسه على الحقوق والنّوائب ابتغاء الثّواب ، فإنّ فوزا بهذه الخصال شرف مكارم الدّنيا ، ودرك فضائل الآخرة ، إن شاء اللّه.

__________________

: «إِنْ جٰاءَكُمْ فٰاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهٰالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلىٰ مٰا فَعَلْتُمْ نٰادِمِينَ» وقد ضرب لذلك مثلا أن الرامى قد يرمى فلا يصيب غرضه ، وكذلك الطاعن قد يطعن فلا يكون طعنه صحيحا ، وربما كان لغرض فاسد كالتشفى ممن يعيبه حقدا عليه وحسدا له

(1) يحيل ـ كيميل ـ يتغير عن وجه الحق ، ومن الشراح من ضبط «يحيل» بضم حرف المضارعة ، من «أحال الرجل فى منطقه» إذا جاء بالمحال الذى لا حقيقة له ، وفى نسخة «يحيك ـ بالكاف ـ من حاك القول فى القلب» أخذ ، و «حاك السيف» أثر ، يعنى أن القول يؤثر فى العرض وإن كان باطلا ، «3 ـ ن ـ ج ـ 2»

٣٣

141 ـ ومن خطبة له عليه السّلام

فى الاستسقاء

ألا وإنّ الأرض الّتى تحملكم ، والسّماء الّتى تظلّكم ،(1) مطيعتان لربّكم ، وما أصبحتا تجودان لكم ببركتهما توجّعا لكم ، ولا زلفة إليكم ،(2) ولا لخير ترجوانه منكم ، ولكن أمرتا بمنافعكم فأطاعتا ، وأقيمتا على حدود مصالحكم فأقامتا.

إنّ اللّه يبتلى عباده ـ عند الأعمال السّيّئة ـ بنقص الثّمرات ، وحبس البركات وإغلاق خزائن الخيرات ، ليتوب تائب ، ويقلع مقلع ،(3) ويتذكّر متذكّر ، ويزدجر مزدجر! وقد جعل اللّه الاستغفار سببا لدرور الرّزق ورحمة الخلق ، فقال : «اِسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كٰانَ غَفّٰاراً يُرْسِلِ اَلسَّمٰاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرٰاراً وَيُمْدِدْكُمْ »

__________________

(1) تظلكم : تعلو عليكم كأنها الظلة ، وتقول : أظلتنى الشجرة ، واستظللت بها

(2) الزلفة : القربة ، يقول : إن السماء والأرض إذا جاءتا بمنافعكم بالمطر والنبات فانهما لم تأتيا بذلك تقربا إليكم ولا رحمة لكم ، ولكنهما أمرتا بنفعكم فامتثلتا الأمر ، لأنه أمر من تجب طاعته ، ولو أمرتا بغير ذلك لفعلتاه ، والمراد بهذا الكلام تمهيد قاعدة الاستسقاء ، كأنه يقول : إذا كانت السماء والأرض أيام الخصب والمطر والنبات لم يكن ما كان منهما عن محبة لكم أو رجاء منفعة منكم بل طاعة لأمر الصانع الحكيم فيما سخرهما له ، فكذلك هما فى أيام الجدب : ليس ما كان منهما من احتباس القطر وانقطاع النبات ناشئا عن بغضكم بل هو أيضا طاعة الصانع الحكيم فيما سخرهما له

(3) «أقلع عن الذنب» كف عنه ، وأمسك ، وتركه

٣٤

«بِأَمْوٰالٍ وَبَنِينَ » فرحم اللّه امرأ استقبل توبته ، واستقال خطيئته ، وبادر منيّته.

اللّهمّ إنّا خرجنا إليك من تحت الأستار والأكنان ، وبعد عجيج البهائم والولدان ، راغبين فى رحمتك ، وراجين فضل نعمتك. وخائفين من عذابك ونقمتك.

اللّهمّ فاسقنا غيثك ، ولا تجعلنا من القانطين ، ولا تهلكنا بالسّنين(1) ، ولا تؤاخذنا بما فعل السّفهاء منّا ، يا أرحم الرّاحمين.

اللّهمّ إنّا خرجنا إليك ، نشكو إليك ما لا يخفى عليك ، حين ألجأتنا المضايق الوعرة ، وأجاءتنا المقاحط المجدبة(2) وأعيتنا المطالب المتعسّرة ، وتلاحمت علينا الفتن المستصعبة.

اللّهمّ إنّا نسألك أن لا تردّنا خائبين ، ولا تقلبنا واجمين(3) ولا تخاطبنا بذنوبنا(4) و لا تقايسنا بأعمالنا اللّهمّ انشر علينا غيثك وبركتك ، ورزقك ورحمتك ، واسقنا سقيا نافعة مروية معشبة : تنبت بها ما قد فات ، وتحيى بها ما قد مات ، نافعة الحيا(5)

__________________

(1) جمع سنة ـ محركة ـ بمعنى الجدب والقحط

(2) أجاءته إليه : الجأته

(3) واجمين : كاسفين حزنين

(4) « لا تخاطبنا» أى : لا تدعنا باسم المذنبين ، ولا تجعل فعلك بنا مناسبا لأعمالنا

(5) الحيا : الخصب ، والمطر

٣٥

كثيرة المجتنى ، تروى بها القيعان(1) وتسيل البطنان(2) ، وتستورق الأشجار ، وترخص الأسعار ، إنّك على ما تشاء قدير.

140 ـ ومن كلام له عليه السّلام

بعث [اللّه] رسله بما خصّهم به من وحيه ، وجعلهم حجّة له على خلقه ، لئلاّ تجب الحجّة لهم بترك الإعذار إليهم ، فدعاهم بلسان الصّدق إلى سبيل الحقّ. ألا إنّ اللّه قد كشف الخلق كشفة(3) لا أنّه جهل ما أخفوه من مصون أسرارهم ومكنون ضمائرهم ، ولكن ليبلوهم أيّهم أحسن عملا ، فيكون الثّواب جزاء ، والعقاب بواء(4) أين الّذين زعموا أنّهم الرّاسخون فى العلم دوننا؟ كذبا وبغيا علينا أن رفعنا اللّه ووضعهم(5) و أعطانا وحرمهم ،

__________________

(1) جمع قاع : الأرض السهلة المطمئة قد انفرجت عنها الجبال والآكام

(2) جمع بطن : بمعنى ما انخفض من الأرض فى ضيق

(3) كشف الخلق : علم حالهم فى جميع أطوارهم

(4) بواء : مصدر «باء فلان بفلان» أى : قتل به مكافئا له ومناظرا ، وقالت ليلى الأخيلية : ـ

فان تكن القتلى بواء فانكم

فتى ما قتلتم آل عوف بن عامر

وتقول : أبأت القاتل بالقتيل ، واستبأته ، إذا قتلته به ، وفى أمثالهم «باءت عرار بكحل» والعقاب : القصاص

(5) « أن رفعنا» هنا حرف جر محذوف ، أى : لأن رفعنا ، وهو يتعلق بقوله «بغيا علينا»

٣٦

وأدخلنا وأخرجهم ، بنا يستعطى الهدى ، ويستجلى العمى ، إنّ الأئمّة من قريش غرسوا فى هذا البطن من هاشم : لا تصلح على سواهم ، ولا تصلح الولاة من غيرهم

منها : آثروا عاجلا ، وأخّروا آجلا ، وتركوا صافيا ، وشربوا آجنا(1) كأنّى أنظر إلى فاسقهم وقد صحب المنكر فألفه وبسىء به ووافقه(2) حتّى شابت عليه مفارقه ، وصبغت به خلائقه!(3) ثمّ أقبل مزبدا كالتّيّار لا يبالى ما غرّق ، أو كوقع النّار فى الهشيم لا يحفل ما حرّق!!(4) أين العقول المستصبحة بمصابيح الهدى؟ والأبصار اللاّمحة إلى منار التّقوى(5) ؟ أين القلوب الّتى وهبت للّه وعوقدت على طاعة اللّه؟ ازدحموا على الحطام ، وتشاحّوا على

__________________

(1) آثروا : اختاروا. وأخروا : تركوا. والآجن : الماء المتغير اللون والطعم وفعله أجن يأجن ويأجن ، مثل ضرب يضرب ونصر ينصر ، وفيه وجه ثالث مثل فرح

(2) بسىء به ـ كفرح ـ استأنس به ، و «ناقة بسوء» ألفت الحالب فلم تمنعه وقوله «شابت عليه مفارقه» يريد أنه قد طال عهده به منذ زمن الصبا إلى أن صار شيخا

(3) ملكاته الراسخة فى نفسه ، يريد أن ذلك قد صار طبعا له لا يفارقه ولا ينفك عنه

(4) الزبد ـ محركا ـ ما يخرج من الفم كالرغوة ، وتقول «أزبد» إذا خرج منه ذلك ، هذا أصله ، وهو يكنى به عن الصائل المقتحم. والتيار : معظم اللجة ، ولا يحفل ـ كيضرب ـ لا يبالى

(5) أصل المنار ما ينصب فى الطريق ليكون علامة لسالكه ، وفى الحديث «إن للاسلام صوى ومنارا كمنار الطريق» وفى بعض النسخ «منازل التقوى» جمع منزل أو منزلة

٣٧

الحرام ، ورفع لهم علم الجنّة والنّار فصرفوا عن الجنّة وجوههم وأقبلوا إلى النّار بأعمالهم ، ودعاهم ربّهم فنفروا وولّوا ، ودعاهم الشّيطان فاستجابوا وأقبلوا.

141 ـ ومن خطبة له عليه السّلام

أيّها النّاس ، إنّما أنتم فى هذه الدّنيا غرض تنتضل فيه المنايا(1) مع كلّ جرعة شرق ، وفى كلّ أكلة غصص(2) لا تنالون منها نعمة إلاّ بفراق أخرى ، ولا يعمّر معمّر منكم يوما من عمره إلاّ بهدم آخر من أجله ، ولا تجدّد له زيادة فى أكله إلاّ بنفاد ما قبلها من رزقه ، ولا يحيا له أثر إلاّ مات له أثر ، ولا يتجدّد له جديد إلاّ بعد أن يخلق له جديد(3) ، ولا تقوم له نابتة إلاّ وتسقط منه محصودة. وقد مضت أصول نحن فروعها ، فما بقاء فرع بعد ذهاب أصله؟!!

__________________

(1) الغرض : ما ينصب ليرمى ، وهو الهدف أيضا. و «تنتضل فيه» تترامى إليه المنايا للسبق ، ومنه الانتضال بالكلام والشعر ، كأنه جعل المنايا أشخاصا تتناضل بالسهام : من الناس من يموت قتلا ، ومنهم من يموت غرقا ، أو يتردى فى بئر ، أو يسقط عليه حائط

(2) الغصص ـ بفتحتين ـ مصدر قولك «غصصت يا فلان» ـ من باب طرب ـ والفرق بين الشرق والغصص أن الشرق يكون بالماء ونحوه ، والغصص يكون بالطعام. وروى قوله «غصص» بضم الغين وفتح الصاد على أنه جمع غصة وهى الشجا يعترض فى الحلق ، ومراد أمير المؤمنين أن نعيم الدنيا لا يدوم فاذا أحسنت أساءت وإذا أنعمت أخذت بالنقم

(3) يخلق ـ كيسمع ، وينصر ، ويكرم ـ يبلى

٣٨

منها : وما أحدثت بدعة إلاّ ترك بها سنّة ، فاتّقوا البدع ، والزموا المهيع(1) إنّ عوازم الأمور أفضلها(2) وإنّ محدثاتها شرارها.

142 ـ ومن كلام له عليه السّلام

لعمر بن الخطاب ، وقد استشاره فى غزو الفرس بنفسه

إنّ هذا الأمر لم يكن نصره ولا خذلانه بكثرة ولا قلّة ، وهو دين اللّه الّذى أظهره ، وجنده الّذى أعدّه وأمدّه ، حتّى بلغ ما بلغ وطلع حيثما طلع ، ونحن على موعود من اللّه ، واللّه منجز وعده ، وناصر جنده. ومكان القيّم بالأمر(3) مكان النّظام من الخرز : يجمعه ويضمّه ، فإذا انقطع النّظام تفرّق الخرز وذهب ثمّ لم يجتمع بحذافيره أبدا.(4) و العرب اليوم وإن كانوا قليلا

__________________

(1) المهيع ـ كالمقعد ـ الطريق الواضح ، مأخوذ من قولهم «أرض هيعة» أى : مبسوطة واسعة ، والميم فى أوله زائدة ، بدليل سقولها فيما ذكرنا

(2) عوازم الأمور : ما تقادم منها وكانت عليه ناشئة الدين ، من قولهم «ناقة عوزم» كجعفر ـ أى : عجوز فيها بقية شباب ، وقال الراجز : ـ

لقد غدوت خلق الثياب

أحمل عدلين من التراب

لعوزم وصبية سغاب

فآكل ولا حس وآبى

وفوعل يجمع على فواعل ، مثل دورق ودوارق وهوجل وهواجل ، ويجوز أن تكون «عوازم» جمع عازمة بمعنى معزوم عليها ـ أى : مقطوع معلوم على وجه اليقين أنها صحيحة ـ مثل عيشة راضية ، والأول أظهر ، وإن كان مجىء فاعل بمعنى مفعول كثيرا فى الكلام المستعمل الفصيح

(3) القيم بالأمر : هو القائم به ، يريد الخليفة ، والنظام : السلك ينظم فيه الخرز

(4) تقول «أخذته كله بحذافيره» أى : بأصله ، وأصل الحذافير أعالى الشىء

٣٩

فهم كثيرون بالاسلام ، عزيزون بالاجتماع ، فكن قطبا ، واستدر الرّحى بالعرب وأصلهم دونك نار الحرب ،(1) فإنّك إن شخصت من هذه الأرض انتقضت عليك العرب من أطرافها وأقطارها(2) حتّى يكون ما تدع وراءك من العورات أهمّ إليك ممّا بين يديك.

إنّ الأعاجم إن ينظروا إليك غدا يقولوا : هذا أصل العرب فإذا قطعتموه استرحتم ، فيكون ذلك أشدّ لكلبهم عليك ، وطمعهم فيك. فأمّا ما ذكرت من مسير القوم إلى قتال المسلمين فإنّ اللّه سبحانه هو أكره لمسيرهم منك ، وهو أقدر على تغيير ما يكره ، وأمّا ما ذكرت من عددهم فإنّا لم نكن نقاتل فيما مضى بالكثرة ، وإنّما كنّا نقاتل بالنّصر والمعونة.

143 ـ ومن خطبة له عليه السّلام

فبعث محمّدا ، صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ، بالحقّ ليخرج عباده من عبادة

__________________

ونواحيه ، الواحد حذفار وحذفور ، مثل قرطاس وقراطيس وعصفور وعصافير

(1) «أصلهم نار الحرب» أى : اجعلهم صالين لها ، تقول «صليت اللحم أصليه صليا ، مثل رميته أرميه رميا ، أى : شويته ، وفى الحديث أن النبى صلّى اللّه عليه وسلم أتى بشاة مصلية ، أى : مشوية ، وتقول أيضا «صليت الرجل نارا» بلا همز ، إذا أدخلته فيها وجعلته يصلاها ، والفرق بين المهموز وغيره أن المهموز يدل على أنك ألقيته فيها كأنك تريد الاحراق ، ويكنى بذلك كله عن مقاسات الشدائد ، وقال الطهوى :

ولا تفنى بسالتهم وإن هم

صلوا بالحرب جينا بعد حين

(2) شخصت : خرجت

٤٠