الوهمي والحقيقي في سيرة عمر بن الخطاب

الوهمي والحقيقي في سيرة عمر بن الخطاب0%

الوهمي والحقيقي في سيرة عمر بن الخطاب مؤلف:
الناشر: انتشارات دارالتفسير
تصنيف: مناظرات وردود
الصفحات: 564

الوهمي والحقيقي في سيرة عمر بن الخطاب

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: عبدالباقي قرنة الجزائري
الناشر: انتشارات دارالتفسير
تصنيف: الصفحات: 564
المشاهدات: 83436
تحميل: 6165

توضيحات:

الوهمي والحقيقي في سيرة عمر بن الخطاب
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 564 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 83436 / تحميل: 6165
الحجم الحجم الحجم
الوهمي والحقيقي في سيرة عمر بن الخطاب

الوهمي والحقيقي في سيرة عمر بن الخطاب

مؤلف:
الناشر: انتشارات دارالتفسير
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

قصّة قدامة بن مظعون

استعمل عمر بن الخطّاب قدامة بن مظعون على البحرين فقدم الجارود العبدي من البحرين على عمر بن الخطّاب فقال: يا أمير المؤمنين، إنّ قدامة شرب فسكر، وإنّي رأيت حدّا من حدود الله حقّا عليّ أن أرفعه إليك. قال عمر: من شهد معك؟ قال: أبو هريرة. فدعا أبا هريرة فقال: بم تشهد؟ فقال: لم أره يشرب ولكنّي رأيته سكران يقيء. فقال عمر: لقد تنطّعت في الشّهادة. ثم كتب إلى قدامة أن يقدم عليه من البحرين. فقدم فقال الجارود لعمر: أقم على هذا كتاب الله. فقال عمر: أخصم أنت أم شهيد؟ فقال: شهيد. قال: قد أدّيت شهادتك! فسكت الجارود. ثمّ غدا على عمر فقال: أقم على هذا حدّ الله عزّ وجلّ. فقال عرم: لتمسكنّ لسانك أو لأسوءنّك! فقال: يا عمر، والله ما ذلك بالحقّ ن يشرب ابن عمّك الخمر وتسوءني! فقال أبو هريرة: إن كنت تشكّ في شهادتنا فارسل إلى ابنة الوليد - امرأة قدامة - فسلها. فأرسل عمر إلى هند بنت الوليد ينشدها فأقامت الشّهادة على زوجها، فقال عمر لقدامة: إنّي حادّك. قال: لو شربت كما يقولون ما كان لكم أن تحدّوني فقال عمر: لم؟ قال قدامة: قال الله عزوجل:( لَيْسَ عَلَى الّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيَما طَعِمُوا إِذَا مَا اتّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحَاتِ ) ، فقال عمر: أخطأت التّأويل، لو اتّقيت لله اجتنبت ما حرّم الله. ثمّ أقبل عمر على النّاس فقال: ما ترون في جلد قدامة؟ فقال القوم: لا نرى أن تجلده ما كان مريضا. فسكت على ذلك أيّاما، ثمّ أصبح يوما وقد عزم على جلده فقال لأصحابه: ما ترون في جلد قدامة؟ فقالوا لا نرى أن تجلده ما كان مريضا. فقال عمر: لأن يلقى الله تحت السّياط أحبّ إليّ من أن ألقاه وهو في عنقي. ائتوني بسوط تامّ. فأمر عمر بقدامة فجلد فغاضب عمر وهجره، فحجّ عمر وقدامة معه مغاضب له، فلما قفلا من حجّهما نزل عمر بالسّقيا فنام، فلمّا استيقظ من نومه قال: عجّلوا عليّ بقدامة، فو الله لقد أتاني آت في منامي فقال: سالم قدامة فإنّه أخوك، فعجلوا عليّ به! فلمّا أتوه أبى أن يأتي، فأمر به

____________________

ج 4 ص 143 ومقدمة فتح الباري ج 1 ص 360.

٤٨١

عمر إن أبى أن يجرّوه إليه [!] فكلّمه عمر واستغفر له، فكان ذلك أوّل صلحهما. روى ابن جريج عن أيوب السختياني قال: لم يحدّ أحد من أهل بدر في الخمر إلاّ قدامة بن مظعون. توفي قدامة سنة ستّ وثلاثين وهو ابن ثمان وستّين سنة(1) .

قال ابن عاشور بخصوص هذه القصّة: وقد يكون المرويّ في سبب النّزول مبيّنا ومؤوّلا لظاهر غير مقصود، فقد توهّم قدامة بن مظعون من قوله تعالى( لَيْسَ عَلَى الّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيَما طَعِمُوا ) فاعتذر بها لعمر بن الخطّاب في شرب قدامة خمرا. روي أنّ عمر استعمل قدامة بن مظعون على البحرين فقدم الجارود على عمر فقال: إنّ قدامة شرب فسكر؛ فقال عمر: من يشهد على ما تقول؟ قال الجارود: أبو هريرة يشهد على ما أقول، وذكر الحديث، فقال عمر: يا قدامة، إنّي جالدك. قال: والله لو شربت كما يقولون ما كان لك أن تجلدني! قال عمر: ولم؟ قال لأن الله يقول( لَيْسَ عَلَى الّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحَاتِ جُنَاحٌ ) الخ.. فقال عمر: إنّك أخطأت التّأويل يا قدامة، إذا اتّقيت الله اجتنبت ما حرّم الله. وفي رواية فقال: لم تجلدني! بيني وبينك كتاب الله؛ فقال عمر: وأيّ كتاب الله تجد أن لا أجلدك؟ قال: إن الله يقول في كتابه( لَيْسَ عَلَى الّذِينَ آمَنُوا ) إلى آخر الآية، فأنا من الذين آمنوا وعملوا الصّالحات ثمّ اتّقوا وأحسنوا، شهدت مع رسول الله بدرا، وأحدا والخندق والمشاهد. فقال عمر: ألا تردّون عليه قوله! فقال ابن عبّاس: إنّ هؤلاء الآيات أنزلن عذرا للماضين وحجّة على الباقين، فعذر الماضين بأنّهم لقوا الله قبل أن تحرّم عليهم الخمر وحجّة على الباقين لأنّ الله يقول:( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا إِنّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ .. ) ثمّ قرأ إلى آخر الآية الأخرى، فإن كان من الذين آمنوا وعملوا الصّالحات ثمّ اتّقوا وآمنوا وأحسنوا فإنّ الله قد نهى أن يشرب الخمر. قال عمر: صدقت... الحديث(2) .

____________________

(1) أسد الغابة، ج 1 ص 908، والمحرّر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، ج 2 ص 235 والوافي بالوفيات، ج 24 ص 153.

(2) التحرير والتنوير، ابن عاشور، ج 1 ص 10.

٤٨٢

وعن الزهري عن السائب بن يزيد قال: قال عمر بن الخطّاب: (ذكر لي أنّ عبيد الله وأصحابه شربوا شرابا بالشّام، وأنا سائل عنه، فإن كان مسكرا جلدتهم)(1) .

أقول:

لكنّ شراب عمر الذي شرب منه الأعرابي مسكر بدليل سكر الأعرابي، ولا أحد يؤاخذ عمر، وهو مع ذلك يقول هذا الكلام.

وهذه صورة الحوار الذي جرى بين عمر بن الخطاب والجارود في قصّة قدامة يذكرها ابن عطيّة الأندلسيّ في تفسيره، قال: وقد تأوّل هذه الآية قدامة بن مظعون الجمحي من الصّحابةرضي‌الله‌عنه وهو ممن هاجر إلى أرض الحبشة مع أخويه عثمان وعبد الله ثم هاجر إلى المدينة وشهد بدرا، وكان ختن عمر بن الخطّاب، خال عبد الله وحفصة، ولاّه عمر بن الخطّاب على البحرين ثمّ عزله لأنّ الجارود سيّد عبد القيس قدم على عمر بن الخطّاب فشهد عليه بشرب الخمر، فقال له عمر: ومن يشهد معك؟ فقال: أبو هريرة. فجاء أبو هريرة فقال له عمر: بم تشهد؟ قال: لم أره يشرب ولكن رأيته سكران يقيء! فقال له عمر: لقد تنطّعت في الشّهادة. ثمّ كتب عمر إلى قدامة أن يقدم عليه فقدم؛ فقال الجارود لعمر: أقم علي هذا كتاب الله! فقال له عمر: أخصم أنت أم شهيد؟ قال: بل شهيد. قال: قد أدّيت شهادتك! فصمت الجارود. ثمّ غدا على عمر فقال: أقم على قدامة كتاب الله. فقال له عمر: ما أراك إلاّ خصما، وما شهد معك إلاّ رجل واحد. قال الجارود: إنّي أنشدك الله! قال عمر: لتمسكنّ لسانك أو لأسوأنّك! فقال الجارود: ما هذا والله يا عمر بالحقّ، أن يشرب ابن عمّك الخمر وتسوءني! فقال أبو هريرة: إن كنت تشكّ في شهادتنا فأرسل إلى ابنة الوليد فسلها، وهي امرأة قدامة، فبعث عمر إلى هند بنت الوليد ينشدها الله فأقامت الشّهادة على زوجها، فقال عمر لقدامة: إنّي حادّك فقال: لو شربت كما يقولون لم يكن لك أن تحدّني. قال عمر: لم؟ قال لأنّ الله

____________________

(1) مصنف ابن أبي شيبة ج 5 ص 68 تحت رقم 23756.

٤٨٣

تعالى يقول( لَيْسَ عَلَى الّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحَاتِ جُنَاحٌ ) الآية. فقال له عمر: أخطأت التّأويل، إنّك إذا اتّقيت الله اجتنبت ما حرّم عليك. ثمّ حدّه عمر، وكان مريضا فقال له قوم من الصحابة (لا نرى أن تجلده ما دام مريضا). فأصبح يوما وقد عزم على جلده فقال لأصحابه: ما ترون في جلد قدامة؟ قالوا: (لا نرى ذلك ما دام وجعا)، فقال عمر: لأن يلقى الله وهو تحت السّياط أحبّ إليّ من أن ألقاه وهو في عنقي، وأمر بقدامة فجلد؛ فغاضب قدامة عمر وهجره إلى أن حجّ عمر وحج معه قدامة مغاضبا له، فلما كان عمر بالسّقيا نام ثمّ استيقظ فقال: عجّلوا عليّ بقدامة، فقد أتاني آت في النّوم فقال (سالم قدامة فإنه أخوك) فبعث في قدامة فأبى أن يأتي، فقال عمر: جروه إن أبى! فلمّا جاء كلّمه عمر واستغفر له، فاصطلحا. قال أيّوب بن أبي تميمة: لم يحدّ أحد من أهل بدر في الخمر غيره(1) .

تلكم كانت القصّة التي اختارها المحدّثون والمؤرخون، وكتموا منها ما يكشف عن أمور تسيء إلى سمعة عمر أو يشنع الحديث به على حدّ تعبير ابن هشام. فقد ذكر ابن شبّة في أخبار المدينة تفاصيل تكشف جوانب خفيّة من شخصيّة عمر وإليك تفصيل ذلك. قال ابن شبّة: حدثنا محمد بن يحيى عن محمد بن جعفر قال: لما توفّي العلاء بن الحضرمي وهو عامل البحرين لعمررضي‌الله‌عنه ، استعمل عمررضي‌الله‌عنه قدامة بن مظعون عليها، فخرج يغزو بعض بلاد الأعاجم فأصابهم في مسيرهم نصب وعذر، فمرّوا ببيت مفتوح فدخله قدامة والأرقم بن أبي الأرقم وعياش بن أبي ربيعة المخزومي وابن حنظلة الرزقي الأنصاري، فوجدوا فيه طعاما كثيرا وخمرا في جرار، فأكل قدامة وبعض من معه وشربوا من تلك الخمر، ثمّ لحقهم أبو هريرةرضي‌الله‌عنه فمرّ بالبيت فدخله فوجدهم فأنكر عليهم ما صنعوا، فقال: ما لك ولهذا يا ابن أبيه؟ وقال عياش: إنّي والله ما كنت من أمرهم بسبيل، ولا شربت ما شربوا! قال: فما لك معهم؟ قال: استظللت بظلّهم؛ واستقاء فقاء كسرا أكلها وشرب عليها ماء. فركب الجارود

____________________

(1) المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، ابن عطية الأندلسي، ج 2 ص 235.

٤٨٤

العبدي ورجل من بني رياح بن يربوع بن حنظلة كان خصيّا في الجاهليّة، فكان يقال له خصيّ بني رياح في نفر من أهل البحرين حتّى قدموا على عمررضي‌الله‌عنه فذكروا له أمر قدامة، وشهدوا عليه بشرب الخمر، فسبّهم وغضب عليهم غضبا شديدا، وأبى أن ينزلهم ومنع الناس أن ينزلوهم [!] ومرّ الجارود بمنزل عمررضي‌الله‌عنه وابنة له تطلع وهي ابنة أخت قدامة فقالت: والله لأرجو أن يخزيك الله! فقال: إنما يخزي الله العينين اللتين تشبهان عينيك أو يأثم أبوك! ورجا عمررضي‌الله‌عنه أن ينزعوا عن شهادتهم، وأعظم ما قالوا، وأرسل إلى الجارود: لقد هممت أن أقتلك أو أحبسك بالمدينة فلا تخرج منها أبدا أو أمحوك من العطاء فلا تأخذ مع المسلمين عطاء أبدا! فأرسل إليه الجارود: إن قتلتني فأنت أشقى بذاك ن وإن حبستني بالمدينة فما بلد أحبّ إليّ من بلد فيه قبر رسول الله ومنبره ومهاجره، وإن محوتني من العطاء ففي مالي سعة ويكون عليك مأثم ذاك وتباعته. فلما رأى عمررضي‌الله‌عنه أنّهم لا ينزعون ولا يزدادون إلا شدّة أرسل إليهم وسمع منهم، وقال: والله ما استعملت عاملا قطّ لهوى لي فيه إلاّ قدامة، ثمّ والله ما بارك الله لي فيه. ثمّ كتب إلى أبي هريرةرضي‌الله‌عنه إن كان ما شهدوا حقّا فاجلد قدامة الحدّ واعدل. فلمّا جاء كتاب عمر أبا هريرةرضي‌الله‌عنه جلد قدامة الحدّ؛ فقدم قدامة على عمررضي‌الله‌عنه فتظلّم من أبي هريرة فقدم أبو هريرةرضي‌الله‌عنه فأرسل إليه عمررضي‌الله‌عنه خاصم قدامة فإنّه قد تظلّم منك. فقال: لا، حتّى يرجع إليّ عقلي ويذهب عنّي نصب السّفر وأنام، فإنّي قد سهدت في سفري. فلبث ثلاثا ثمّ خاصم قدامة في بيت عمر، وعند عمررضي‌الله‌عنه زينب بنت مظعون وهي أمّ حفصة وعبد الله ابني عمر، فتراجعا، فكان أبو هريرةرضي‌الله‌عنه أطولهما لسانا، ففزعت بنت مظعون فقالت: لعنك الله من شيخ طويل اللّسان ظالم! فقال أبو هريرة: بل لعنك الله من عجوز حمراء رمضاء بذيء لسانها فاحشة في بيتها(1) ! فقال قدامة: يا أمير المؤمنين سله لم جلدني؟ قال: جلدتك بالذي رأيت منك! قال: هل رأيتني أشرب الخمر؟ قال: لا. قال عمررضي‌الله‌عنه : الله أكبر! قال أبو هريرةرضي‌الله‌عنه :

____________________

(1) كل هذا السّبّ والشّتم بحضور الخليفة عمر ذي الهيبة! وما يلفت انتباه المتتبّع هو سلوك عمر مع بنت مظعون على خلاف عادته، فإنّه يضرب النّساء لأمور أقلّ بكثير مما أتت به هي!

٤٨٥

يرحم الله أبا بكر، تشتمني زوجتك وتقضي بيني وبين ختنك في بيتك وتعين عليّ بالتّكبير! فقال عمررضي‌الله‌عنه : فقوموا؛ فقاموا جميعا حتّى جلسنا في المسجد، واجتمع عليهم النّاس فقال قدامة: أنشدك الله هل رأيتني أشرب الخمر؟ قال: لا. قال: فهل رأيتني أشتريها؟ قال: لا. قال فهل رايتني أحملها؟ قال: لا. قال: فهل رأيتها تحمل إليّ؟ قال لا. قال: الله أكبر، ففيم جلدتني؟ قال: جلدتك أنّي رأيتك تقيئها تخرجها من بطنك، فمن أين أدخلتها؟ قال قدامة: وإنّك بالخمر لعالم؟ قال: نعم والله، ولقد كنت أشربها ثمّ ما شربتها بعدما بايعت رسول الله. قال عمررضي‌الله‌عنه : تب إلى الله يا قدامة! اللّهمّ صدق وكذبت، وبرّ وفجرت، تب إلى الله(1) .

هذه هي القصّة كما رواها ابن شبّة، وأنت ترى أنّ فيها كثيرا من التفاصيل التي تعمّد الآخرون كتمانها حفاظا منهم على صورة الخليفة في الأذهان، لأنّ المسلم حين يطلع على تصرّف عمر بن الخطّاب مع من شهدوا على أخي زوجته بشرب الخمر يتعجّب من ذلك التّصرّف الجاهلي الذي لا علاقة له بالإسلام (فسبّهم، وغضب عليهم غضبا شديدا، وأبى أن ينزلهم، ومنع الناس أن ينزلوهم [!]!! وأبعد من ذلك أنه قال للجارود: لقد هممت أن أقتلك أو أحبسك بالمدينة فلا تخرج منها أبدا أو أمحوك من العطاء فلا تأخذ مع المسلمين عطاء أبدا.

لماذا فعل بهم كل هذا؟! ألأنّهم شهدوا على أحد أقارب زوجته، وهو الذي لم يتزعزع حين شهدوا على ولده وأقام عليه حدّا ثانيا؟ أم لأنّ لعمر ضعفا وأي ضعف أمام زوجته؟ هذه الزّوجة التي لا ترعى حرمة زوجها وتحضر مجلس رجال وتقول لأبي هريرة أمام زوجها المهيب الذي يهابه الولاة وقادة الجيوش: (لعنك الله من شيخ طويل اللّسان ظالم) فتلعن أمام زوجها صحابيّا يتفانى سلفيّة زماننا في الدّفاع عنه! وانظر إلى أبي هريرة يجيبها: (بل لعنك الله من عجوز حمراء رمضاء بذيء لسانها فاحشة في بيتها) فيشهد عليها بالبذاءة والفحش في بيتها، وهو في بيتها! هذا الحوار الساخن المفعم

____________________

(1) أخبار المدينة، ابن شبة النميري، ج 2 ص 38.

٤٨٦

بـ اللعن والفاحشة والبذيئة اللسان يجري بمحضر عمر بن الخطّاب ولا أثر لهيبته ولا لدرّته!! وفي القصّة تأمّلات وعبر غير ما ذكرنا لمن أراد أن يدّبّر.

٤٨٧

٤٨٨

الفصل التاسع

من أخبار عمر

٤٨٩

٤٩٠

من أخبار عمر

أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني في الأوسط وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عبّاس في قوله:( وَمِمّنْ حَوْلَكُم مِنَ الْأَعْرَابِ ) الآية قال: قام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم جمعة خطيبا فقال: قم يا فلان فاخرج فإنّك منافق، اخرج يا فلان فإنّك منافق، فأخرجهم بأسمائهم ففضحهم، ولم يكن عمر بن الخطّاب يشهد تلك الجمعة لحاجة كانت له، فلقيهم عمر وهم يخرجون من المسجد فاختبأ منهم استحياء أنّه لم يشهد الجمعة، وظنّ النّاس قد انصرفوا واختبأوا هم من عمر وظنّوا أنه قد علم بأمرهم، فدخل عمر المسجد فإذا النّاس لم ينصرفوا فقال له رجل: أبشر يا عمر، فقد فضح الله المنافقين اليوم، فهو العذاب الأوّل والعذاب الثّاني عذاب القبر(1) .

أقول:

في روايات أنّهم كانوا ستّة وثلاثين منافقا، لكنّ كتب الرّجال خالية من أسمائهم، كلّ ما في الأمر فلان وفلان. وقد أورد الطبراني اثني عشر اسما أصحابها لا هم في العير ولا هم في النفير. ولم يذكر المصدر الذي نقل الأسماء منه فزاد القضية غموضا.

وعن السائب بن يزيد الكندي قال: كنت قائما في المسجد فحصبني رجل فنظرت فإذا هو عمر بن الخطّاب فقال: اذهب فائتني بهذين فجئته بهما فقال: من أنتما؟ ومن أين أنتما؟ قالا: من أهل الطّائف قال: لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما، ترفعان أصواتكما في مسجد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (2) .

وسمع عمر صوت رجل في المسجد فقال: أتدري أين أنت(3) ؟

____________________

(1) صحيح ابن خزيمة ج 3 ص 208، وصحيح ابن حبان ج 8 ص 230، والدر المنثور ج 4 ص 273، وتفسير ابن كثير ج 4 ص 181، وزاد المسير ج 6 ص 423، وفتح القدير ج 2 ص 401، والمعجم الأوسط ج 1 ص 242، ومسند أحمد بن حنبل ج 5 ص 273، ومجمع الزوائد ج 1 ص 112، مجمع الزوائد ج 7 ص 34، وتخريج الأحاديث والآثار ج 2 ص 97، والمحلى ج 11 ص 221، ودلائل النبوة ج 5 ص 283، والبداية والنهاية ج 5 ص 27.

(2) صحيح البخاري ج 1 ص 179 والجمع بين الصحيحين ج 1 ص 133 وسنن البيهقي الكبرى ج 2 ص 447 ومرقاة المفاتيح ج 2 ص 418 وتفسير ابن كثير ج 3 ص 294.

(3) تفسير ابن كثير ج 3 ص 294 وتفسير القرطبي ج 2 ص 115.

٤٩١

أقول:

يقول هذا وهو الذي ودّع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم برفع الصّوت في وجهه وتهمته أنّه يهجر حتى غضب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وطرده ومن كان معه.

وعن يحيى بن سعيد عن عبيد بن حنين أنّه سمع ابن عبّاسرضي‌الله‌عنه قال: قال عمر بن الخطّابرضي‌الله‌عنه : جئت فإذا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مشربة، وإنّه لعلى حصير ما بينه وبينه شيء، وتحت رأسه وسادة من أدم حشوها ليف، وإنّ عند رجليه قرظا مصبورا، وعند رأسه أهب معلقة، فرأيت أثر الحصير في جنبه فبكيت فقال: ما يبكيك؟ فقلت: يا رسول الله إنّ كسرى وقيصر فيما هما فيه وأنت رسول الله؟ فقال: أما ترضى أن تكون لهم الدّنيا ولنا الآخرة؟

أقول:

عمر يبكي شفقة على رسول الله! ويهجم في نفس الأسبوع الذي توفي فيهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على بيت بضعته عليه السلام باسم الإسلام!

قال المدائني: كتب عمر إلى عدي في كتابه: (إن الله جعل لأهل الخير أعوانا عليه، ولأهل الشرّ أصحابا مزيّنين له، وقد نهيتك عن كاتبك فلم أرك متحاشيا لذلك، ولا زاجرا له عن ظلم الرّعيّة وانتقاص حقوقهم، وإنّك حين تفعل ذلك يا عدي لمغترّ بي، تارك حظّك من الله، فاطرد عنك هذا الشّائن، ولا تشركه في أمانتك، وأخرجه عن المصر، فإنّي لو أشركت أحدا من حزب الشّيطان في أمانتي لاستعنت بابن أبي مسلم، فاكفني نفسك يا عدي، ولا تحملني على مكروهك، إن شاء الله، والسّلام)(1) .

أقول:

من يسمع قول عمر (لو أشركت أحدا من حزب الشّيطان في أمانتي لاستعنت بابن أبي مسلم) يتصوّر أنّ عمر بن الخطّاب لم يشرك في أمانته إلاّ حزب الرّحمن، والحال

____________________

(1) أنساب الأشراف، البلاذري، ج 8، ص 193.

٤٩٢

خلاف ذلك تماما، فإنّه قد همّش البدريّين والسابقين إلى الإسلام، وقدّم الطّلقاء الذين حاربوا الإسلام إلى آخر لحظة ممكنة، ولم يدخلوا فيه إلا مكرهين حقنا لدمائهم. ومن الطلقاء يزيد بن أبي سفيان وقد عيّنه أبوبكر وأقرّه عمر. ومنهم معاوية بن أبي سفيان الذي جرى لعنه على لسان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي ما ينطق عن الهوى، ولم يكتف عمر باستعماله بل كان يقول عنه: (هذا كسرى العرب). ومن المستخفّين بالدّين الوليد بن عقبة بن أبي معيط الذي سمّاه القرآن الكريم فاسقا، ومع ذلك استعمله عمر بن الخطاب! ومنهم قنفذ التيمي الذي لطم وجه فاطمة بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم هجموا على بيتها، وقد استعمله عمر واليا على مكّة، ومات في حياته فصلّى عليه ونزل في قبره.

وروي أن بني عمرو بن عوف الذين بنوا مسجد قباء أتوا عمر بن الخطّاب في خلافته ليأذن لمجمع بن حارثة فيؤمّهم في مسجدهم فقال: لا ولا نعمة عين، أليس بإمام مسجد الضّرار؟ فقال له مجمع: يا أمير المؤمنين: لا تعجل عليّ، فو الله لقد صلّيت فيه وإنّي لا أعلم ما أضمروا عليه، ولو علمت ما صلّيت معهم فيه. كنت غلاما قارئا للقرآن وكانوا شيوخا لا يقرؤون القرآن فصلّيت ولا أحسب إلاّ أنّهم يتقرّبون إلى الله تعالى ولم أعلم ما في أنفسهم؛ فعذره عمر وصدّقه وأمره بالصّلاة في مسجد قباء(1) .

وقال جابر بن عبد الله: رأى عمر بن الخطّاب لحما معلقا في يدي فقال: ما هذا يا جابر؟ قلت: اشتهيت لحما فاشتريته فقال عمر: أو كلما اشتهيت شيئا يا جابر اشتريت؟ أما تخاف هذه الآية:( أَذْهَبْتُمْ طَيّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدّنْيَا ) ؟(2) .

قال البيهقي: وروينا عن أبي حريز أن رجلا كان يهدي إلى عمر بن الخطاب كلّ سنة فخذ جزور، قال فجاء يخاصم إلى عمر فقال يا أمير المؤمنين اقض بيننا قضاء فصلا كما تفصل الفخذ من الجزور قال فكتب عمر إلى عماله لا تقبلوا الهدايا فإنها رشوة(3) .

____________________

(1) تفسير البغوي، ج 1 ص 93.

(2) تفسير البغوي، ج 1 ص 260.

(3) السنن الصغرى للبيهقي، نسخة الأعظمي) ج 9 ص 51 تحت رقم 4186 وسنن البيهقي الكبرى، ج 10

٤٩٣

ويبدو أن البهقي قد حذف مقطعا من القصة، فقد رواها ابن أبي الدنيا كما يلي: عن أبي جرير الأزدي قال كان رجل لا يزال يهدي لعمر فخذ جزور قال إلى أن جاء إليه ذات يوم بخصم فقال له يا أمير المؤمنين اقض بيننا قضاء فصلا كما تفصل الفخذ من سائر الجذور. قال عمر: فما زال يردّدها عليّ حتى خفت على نفسي، فقضى عليه عمر ثمّ كتب إلى عماله: أما بعد، فإيّاكم والهدايا فإنها من الرشا(1) .

ومن حقّ الرجل أن يرددها لأنه أهدى مرّات ومرّات، فالرواية تقول: (لا يزال يهدي).

وعن أنس انّ عمر بن الخطابرضي‌الله‌عنه كان إذا قحطوا استسقى بالعبّاس بن عبد المطّلب فقال: (اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل غليك بعم نبينا فاسقنا)، قال: فيسقون(2) .

أقول:

إذا كان ثالث ثلاثة، وأفضل الخلق بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأبي بكر، فلماذا لا يستسقي بنفسه، فإنّ الاستسقاء بالمفضول مع وجود الفاضل قبيح في نظر العقلاء؟!. وإذا كان العبّاس - على جلالة قدره - أفضل من علي بن أبي طالب عليه السلام فلم لم يباهل به رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم وفد نجران؟! نعم، كان عمر بن الخطاب يعلم أنّ القرشيين - إلاّ من رحم ربّك - يبغضون عليّا عليه السلام، ولو استسقى به لدحضت حجّتهم وافتضحت خباياهم وظهر فضله ومقامه لمن كان يجهله، وقريش إنّما كانت تجتهد في صرف الأمر عن أهل البيت عليهم السلام بكل الوسائل.

وعن ابن شهاب قال حدثني سعيد بن المسيب قال: لمّا توفّي أبوبكر رحمه الله أقامت عليه عائشة النّوح(3) ، فأقبل عمر بن الخطّاب حتى قام ببابها فنهاهن عن البكاء

____________________

ص 138 والإشراف في منازل الأشراف، ج 1 ص 295 وكنز العمال، ج 5 ص 327.

(1) الإشراف في منازل الأشراف ج 1 ص 251.

(2) صحيح البخاري، ج 1 ص 342 الحديث رقم 964.

(3) وهذا يعني أن عائشة زوج النبيص) وهي التي يؤخذ عنها نصف الدين كانت ترى جواز النوح على الميت.

٤٩٤

على أبى بكر، فأبين أن ينتهين، فقال عمر لهشام بن الوليد: (ادخل فأخرج إليّ ابنة أبي قحافة أخت أبي بكر) فقالت عائشة: لهشام حين سمعت ذلك من عمر إني أحرّج عليك بيتي فقال عمر لهشان ادخل فقد أذنت لك فدخل هشام فأخرج أم فروة أخت أبي بكر إلى عمر فعلاها الدّرّة فضربها ضربات فتفرّق النّوح حين سمعوا ذلك(1) .

يبدو أن الخليفة مولع بالهجوم على أهل الحداد الذين فقدوا أعزاءهم وتيقّنوا أنهم لن يروهم قبل يوم القيامة إلاّ في عالم الرؤيا؛ فكما هجم على بيت فاطمة عليها السلام، هجم على بيت عائشة زوج النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم التي هي في نفس الوقت بمنزلة أمّه، باعتبارها إحدى أمّهات المؤمنين، وزوجة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وابنة صديقه وحليفه الأوّل، فلم يرع لا هذه ولا تلك ولا الأخرى، وهجم على بيت عائشة الذي هو أحد بيوت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بلا إشكال. فإذا كان القرءان الكريم قد نهى عن دخول بيوت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من دون إذن منه فكيف بالهجوم عليه؟ ثم هو يقول للرّجل: ادخل فقد أذنت لك، فمتى أعطاه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكالة كي يأذن بذلك. هذه المسألة محلّ تأمل.

وقال الطبري في تاريخه: قال عليّ بن محمد عن الذين سميت قال بعضهم: جعل أبوبكر عمر قاضيا في خلافته فمكث سنة لم يخاصم إليه أحد قال وقالوا: كان يكتب له زيد بن ثابت(2) .

أقول:

إمّا وإمّا؛ إما أنّ الناس عاشوا ملائكة على الأرض يمشون سنة كاملة، ثمّ عادت إليهم الشّيطنة أو عادوا إليها..

وإمّا أن النّاس يئسوا من حقوقهم بعد أن رأوا حكم الرّجلين بخصوص فاطمة وعليّ عليه السلام، فإنّ الذي يكذّب مطهّرين بنصّ الكتاب ويردّ شهادتهما قد ردّ شهادة الحقّ لهما بالطّهارة. وبعد كلّ ذلك، في تولية القضاء من لا يعرف الكلالة وكثيرا من

____________________

(1) تاريخ الطبري، ج 2 ص 614.

(2) تاريخ الطبري، ج 2 ص 617.

٤٩٥

شبيهاتها نظر، اللّهمّ إلاّ أن يكون منصب القضاء لا علاقة له بالعلم والاجتهاد!

وعن المسور بن مخرمة عن عبد الرحمنبن عوف أنّه حرس ليلة مع عمر بن الخطّاب بالمدينة فبينما هم يمشون شب لهم سراج في بيت فانطلقوا يؤمونه حتى إذا دنوا منه إذا باب مجاف على قوم لهم فيه أصوات مرتفعة، فقال عمر وأخذ بيد عبد الرحمن: أتدري بيت من هذا؟ قال: لا. قال: هذا بيت ربيعة بن أمية بن خلف، وهم الآن شرب فما ترى؟ فقال عبد الرحمن: أرى قد أتينا ما نهى الله عنه نهانا الله عزوجل فقال (ولا تجسسوا) فقد تجسنا، فانصرف عمر عنهم وتركهم. هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه(1) .

عن حرام بن هشام عن أبيه قال: رأيت عمر بن الخطّاب عام الرّمادة مرّ على امرأة وهي تعصد عصيدة لها فقال: ليس هكذا تعصدين ثمّ أخذ المسوط فقال: هكذا، فأراها(2) .

أقول:

ليس من عادة الرّجال في ثقافة العرب الدّخول في تفاصيل شؤون النّساء. وهذا الذي قام به عمر بن الخطّاب يذكّر ببرنامج إذاعيّ كان يبثّ على الإذاعة التّونسية أيّام الرئيس بورقيبة تحت عنوان (من توجيهات الرئيس)، كان الرئيس التّونسي (المجاهد الأكبر) يومها يتوجّه إلى المواطنين التّونسيين بنصائح وإرشادات تساعدهم في حياتهم اليوميّة - على زعمه - وكأنّه لم يكن في تونس يومها عقل سوى عقل المجاهد الأكبر.

عن محمد بن عمر المخزومي عن أبيه قال: نادى عمر بن الخطّاب: الصلاة جامعة! فلما اجتمع النّاس وكثروا صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله وصلّى على نبيّه ثمّ قال: أيّها الناس! لقد رأيتني أرعى على خالات لي من بني مخزوم فيقبضن لي القبضة من التّمر أو الزّبيب فأظلّ يومي وأيّ يوم؟ ثمّ نزل فقال له عبدالرحمن بن

____________________

(1) في المستدرك على الصحيحين، الحاكم، ج 4 ص 419 تحت رقم 8136.

(2) الطبقات الكبرى، محمد بن سعد، ج 3 ص 314 كنز العمال ج 12 ص 291..

٤٩٦

عوف: ما زدت على أن قمّأت نفسك، يعني عبت، قال: ويحك يا ابن عوف! إنّي خلوت فحدّثتني نفسي فقالت: أنت أمير المؤمنين فمن ذا أفضل منك؟ فأردت أن أعرفها نفسها(1) .

أقول:

ملك ذو القرنين أرضا واسعة بين المشرق والمغرب ولم يقم بالحركة التي قام بها عمر؛ ويقول عمر: (خلوت فحدّثتني نفسي..) فلماذا لم يحدّثها خاليا كما حدّثته خاليا؟ ومادام الحديث بينه وبين نفسه فلماذا أقحم فيه الناس؟! أين هو عن المناجاة كأن يقول: (وأنا عبدك الذليل الحقير المسكين المستكين)؟! وهذا أقرب مقرّبيه وأمين سرّه عبدالرحمن بن عوف استهجن الحركة وعدّها إذلالا للنّفس في ما لا طائل تحته. وأمّا قوله (فأردت أن أعرّفها نفسها) فقد عرفت نفسه نفسها يوم أحد حين كان يصعد الجبل كالأروى لا يلوي على شيء فرارا من الشّهادة، ويوم خيبر إذ فرّ لمجرّد رؤية مرحب اليهوديّ ورجع بأصحابه يجبّنهم ويجبّنونه، ويوم الأحزاب إذ كان يرتجف بينما كان عمرو بن عبد ودّ يتحدّاه ويتحدّى بقيّة مشايخ قريش الذين تأخرت شجاعتهم إلى يوم السّقيفة، يوم هجموا على أشرف بيت!

وفي مصنف ابن أبي شيبة: عن عبد الله بن عمر أنّ عاتكة بنت زيد امرأة عمر بن الخطّاب قبّلته وهو صائم فلم ينهها(2) .

قال السيوطي: وأخرج مالك عن عبد الله بن دينار قال خرج عمر بن الخطّاب من الليل يسمع امرأة تقول: تطاول هذا الليل واسود جانبه وأرقني أن لا خليل ألاعبه * فو الله لو لا الله أني أراقبه * لحرّك من هذا السّرير جوانبه * فسأل عمر ابنته حفصة كم أكثر ما تصبر المرأة عن زوجها؟ فقالت: ستّة أشهر أو أربعة أشهر. فقال عمر: لا أحبس أحدا من الجيوش أكثر من ذلك(3) .

____________________

(1) كنز العمال، المتقي الهندي، ج 12 ص 291.

(2) مصنف ابن أبي شيبة ج 2 ص 315 الحديث رقم 9408.

(3) الدر المنثور، ج 1 ص 652.

٤٩٧

أقول:

يسأل ابنته هذا السؤال مع إمكان سؤال غيرها، وله أكثر من زوجة وجارية، وفيه من ترك الحشمة ما فيه بين الأب وابنته! لم لم يسأل إحدى أزواجه؟! لأنّ الذين رووا هذا الخبر أرادوا أن يجعلوا من ذلك إنجازا لآل الخطّاب، فحصروا القضيّة بين عمر وابنته، وغفلوا عمّا في ذلك من ترك الحياء والحشمة.

قالوا: أتت امرأة إلى عمر بن الخطّاب فقالت: يا أمير المؤمنين، إنّ زوجي يصوم النّهار، ويقوم اللّيل، وأنا أكره أن أشكوه إليك وهو يقوم بطاعة الله! فقال لها: جزاك الله خيرا من مثنية على زوجها، فجعلت تكرّر عليه القول وهو يكرّر عليها الجواب، وكان كعب بن سوار الأسدي حاضرا فقال له: اقض يا أميرالمؤمنين بينها وبين زوجها. فقال: وهل فيما ذكرت قضاء؟ فقال: إنّها تشكو مباعدة زوجها لها عن فراشها، وتطلب حقها في ذلك فقال له عمر: أما لأن فهمت ذلك فأقض بينهما(1) .

أقول:

هذا الذي ظنّه أفضل من يقين غيره، ويوافقه ربّه فينزل القرآن منسجما مع خطرات نفسه، لم يفهم كلام المرأة لأنّها ألبسته الحشمة والحياء، على خلاف طريقته هو الذي جبه ابنته بذاك السؤال. أين ذهب التّحديث والملائكة والموافقة السّماوية؟!

وأخرج البيهقي في سننه عن عمر بن الخطّاب قال والله إني لأكره نفسي على الجماع رجاء أن يخرج الله مني نسمة تسبّح(2) .

وأخرج عبد الرزاق في المصنف عن زيد بن أسلم قال: بلغني أنّه جاءت امرأة إلى عمر بن الخطّاب فقالت إن زوجها لا يصيبها فأرسل إليه فقال كبرت وذهبت قوتي فقال له عمر: أتصيبها في كل شهر مرّة؟ قال: اكثر من ذلك! قال عمر: في كم تصيبها؟

____________________

(1) تفسير القرطبي ج 5 ص 19 والدر المنثور ج 1 ص 653 وعمدة القاري ج 20 ص 188 والمنتظم ج 5 ص 115 والمبسوط للسرخسي ج 5 ص 220 وبغية الطلب في تاريخ حلب ج 5 ص 2445 وصفة الصفوة ج 1 ص 452 والأذكياء ج 1 ص 208.

(2) سنن البيهقي الكبرى ج 7 ص 79 وكنز العمال ج 16 ص 203 والإفصاح ج 1 ص 57.

٤٩٨

قال: في كل طهر مرّة. فقال عمر: اذهبي فإنّ فيه ما يكفي المرأة(1) .

أقول:

هذا رأي عمر، وهو بهذا يجهل أو يتجاهل التّفاوت بين النّاس رجالا ونساء في هذه المسألة، والحال أنّ المرأة إذا لم يكفها زوجها ويحصنها فتح لها الشّيطان أبوابا يصعب سدّها. وإذا كان عمر بن الخطاب خبيرا في هذا الميدان بحيث يعلم أنّ في ذاك القدر ما يكفي المرأة كما يقول، فلماذا سأل ابنته كم تصبر المرأة عن زوجها وهو الخبير؟

وأخرج عبد الرزاق في المصنف عن عبيد بن عمير قال: ائتمر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه كيف يجعلون شيئا إذا أرادوا جمع الصّلاة اجتمعوا لها به، فائتمروا بالنّاقوس؛ فبينا عمر بن الخطّاب يريد أن يشتري خشبتين للنّاقوس إذ رأى في المنام أن لا تجعلوا النّاقوس بل أذنوا بالصّلاة فذهب عمر إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليخبره بالذي رأى وقد جاء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الوحي بذلك فما راع عمر إلا بلال يؤذن فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد سبقك بذلك الوحي حين أخبره بذلك عمر(2) .

أقول:

هما وحيان، وحي إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ووحي إلى عمر! لكنّ الرواية تذكر أنّ عمر رأى في المنام أن (لا تجعلوا النّاقوس بل أذّنوا بالصّلاة) ولا تذكر ألفاظ الأذان، وهذا محلّ تأمّل.

أخرج أحمد والبخاريّ والترمذي والنسائي وابن حبان وابن مردويه عن عمر بن الخطّاب قال: كنا مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في سفر فسألته عن شيء ثلاث مرّات فلم يردّ عليّ، فحرّكت بعيري ثمّ تقدّمت أمام النّاس، وخشيت أن ينزل فيّ القرآن [!] فما نشبت

____________________

(1) مصنف عبد الرزاق ج 6 ص 257 والدر المنثور ج 1 ص 655.

(2) مصنف عبد الرزاق ج 1 ص 456 الدر المنثور ج 3 ص 108 وفتح الباري ج 2 ص 82 وعمدة القاري ج 5 ص 107 وص 109 وتنوير الحوالك ج 1 ص 66 وشرح الزرقاني ج 1 ص 198 وشرح سنن ابن ماجه ج 1 ص 51 وعون المعبود ج 2 ص 119 والمراسيل لابي داود ج 1 ص 81 وإعانة الطالبين ج 1 ص 229 والسيرة النبوية ج 3 ص 42 والبداية والنهاية ج 3 ص 233.

٤٩٩

إذ سمعت صارخا يصرخ بي فوجفت وأنا أظن أنّه نزل فيّ شيء، فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لقد أنزلت علي اللّيلة سورة أحبّ إليّ من الدّنيا وما فيها، إنّا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر(1) .

أقول:

لماذا يخاف أن ينزل فيه قرآن وهو صاحب الموافقات يحدّثه الحقّ تعالى في كلّ شيء، والمبشّر بالجنة في درجة النبيين والصّدّيقين والشهداء والصالحين؟!

قال الآلوسي: أخرج الخرائطيّ في مكارم الأخلاق عن ثور الكندي أن عمررضي‌الله‌عنه كان يعسّ بالمدينة فسمع صوت رجل في بيت يتغنّى، فتسوّر عليه(2) فوجد عنده امرأة وعنده خمر فقال: يا عدوّ الل أظننت أنّ الله تعالى يسترك وأنت على معصية؟ فقال: وأنت يا أميرالمؤمنين لا تعجل عليّ، إن كنت عصيت الله تعالى واحدة فقد عصيت الله تعالى في ثلاث قال سبحانه: ولا تجسّسوا وقد تجسّست. وقال الله تعالى: (وأتوا البيوت من أبوابها) وقد تسوّرت وقال جل شأنه:( لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتّى‏ تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلّمُوا عَلَى‏ أَهْلِهَا ) ودخلت عليّ بغير إذن. قال عمررضي‌الله‌عنه : فهل عندكم من خير إن عفوت عنك؟ قال: نعم؛ فعفا عنه وخرج وتركه(3) .

أقول:

(تسوّر عليه) معناه في اللّغة تسلّق السّور، ولك أن تتخيّل مشهد خليفة المسلمين يتسلّق السّور وقد تجاوز الخمسين من عمره! فإن كانت هذه أوّل مرّة يتسلّق فيها الأسوار فإنّه عمل عجيب وبئس العمل هو في آخر مراحل عمره! وإن كان قد تسلّق

____________________

(1) صحيح البخاري، ج 4 ص 1531 وج 4 ص 1829 وج 4 ص 1915 سنن النسائي الكبرى ج 6 ص 461 ومسند أحمد بن حنبل ج 1 ص 31 وكنز العمال ج 2 ص 134 والجمع بين الصحيحين، ج 1 ص 135 وموطأ مالك ج 1 ص 203 وشرح الزرقاني ج 2 ص 23 والاستذكار، ج 2 ص 495 وشعب الإيمان، ج 2 ص 487 ودلائل النبوة ج 4 ص 154 وتاريخ الإسلام ج 2 ص 395.

(2) هل يقبل الإعلام الرسمي اليوم تصوير أحد الملوك أو الرؤساء العرب وهو يتسلّق سور بيت على أهله؟ طبعا لا؛ بل يرون في ذلك مساسا بالذات الملكية أو الأميرية أو الرئاسية! لكن حينما يكون المتسوّر المتسلّق هو عمر بن الخطاب، ينقلب ذلك المساس فجأة إلى فضيلة لا يلقّاها إلاّ ذو حظّ عظيم!

(3) روح المعاني، ج 26 ص 157.

٥٠٠