الوهمي والحقيقي في سيرة عمر بن الخطاب

الوهمي والحقيقي في سيرة عمر بن الخطاب6%

الوهمي والحقيقي في سيرة عمر بن الخطاب مؤلف:
الناشر: انتشارات دارالتفسير
تصنيف: مناظرات وردود
الصفحات: 564

الوهمي والحقيقي في سيرة عمر بن الخطاب
  • البداية
  • السابق
  • 564 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 92581 / تحميل: 7927
الحجم الحجم الحجم
الوهمي والحقيقي في سيرة عمر بن الخطاب

الوهمي والحقيقي في سيرة عمر بن الخطاب

مؤلف:
الناشر: انتشارات دارالتفسير
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

بسم الله الرحمن الرحيم

١

٢

الوهمي والحقيقي

في

سيرة عمر بن الخطاب

تأليف عبد الباقي قرنة الجزائري

٣

٤

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلّى الله على سيدنا محمّد وآله الطاهرين؛

تتعالى بين الحين والحين أصوات تنادي بإعادة كتابة التاريخ الإسلامي، وكأنّ المسألة تحتاج إلى إذن من أمين الجامعة العربيّة أو الأمين العامّ للأمم المتّحدة؛ والحقّ أنّه لا ينبغي التّشكيك في تلك الأصوات، لأنّه لا حجر على الفكر ولا احتكار، لكن يبقى لها أن تمرّ بالامتحان، والامتحان وحده هو الذي يميّز الخبيث من الطيّب والصادق من الكاذب. وعليه، فلابدّ من عرض أفكار وأعمال أصحاب تلك الأصوات على المفاهيم والقيم المعنويّة التي لا تختلف فيها المجتمعات البشريّة على اختلاف ثقافاتها ومعتقداتها. حينها يمكن لنا أن نقول: "إنّ في العالم الإسلامي دعاة يطالبون جادّين بإعادة كتابة التّاريخ الإسلامي من منطلق إيمان شخصيّ يهدف إلى إرضاء ضمير صاحبه، وإرضاء الضّمير يختلف بين شخص وآخر، وقد يصل عند بعض إلى حدّ التّضحية بالنّفس.

إعادة كتابة التاريخ الإسلامي، والتاريخ الإسلامي يبدأ بسيرة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛

لماذا تأخّرت كتابة سيرة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى القرن الثاني؟

من كتب التّاريخ الإسلامي؟ وكيف كانت بداية كتابته؟ وهل كان المؤرّخ موضوعيّا نزيها حين يكتب عن مخالفيه؟

لماذا تجاهل المؤرّخون موسى بن جعفرعليه‌السلام والسّنوات الّتي قضاها في غياهب السّجن بينما كان هارون بن المهدي غارقا في عالم النّساء والكأس والعود، ولم يكتفوا بذلك بل راحوا يقولون عن هارون "يحجّ عاما ويغزو عاما"؟

ألم يمجّدوا أبا جعفر المنصور العبّاسي الذي أخاف ذرّية رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونكّل بهم وشرّدهم في كلّ صوب؟ ومع ذلك تسرّب إلينا وصفه المناسب والتّعريف بحقيقته، فقد قال المقدسي في البدء والتّاريخ في وصف المنصور: «كان أكبر من أبي العبّاس بثماني عشرة سنة وذكروا أنّه كان رجلا أسمر، نحيفا، طويل القامة، قبيح

٥

الوجه، دميم الصّورة، ذميم الخلق، أشحّ خلق الله واشدّه حبّا للدّينار والدّراهم، سفّاكا للدّماء، ختّارا بالعهود، غدّارا بالمواثيق، كفورا بالنّعم، قليل الرّحمة. وكان جال في الأرض وتعرّض للناس، وكتب الحديث وحدّث في المساجد، وتصرّف في الأعمال الدّنيذة والحرف الشّائنة، وقاد القود لأهلها ن وضربه سليمان بن حبيب بالسّياط. وفي الجملة والتّفصيل كان رجلا دنيئا، خسيسا، كريها شرّيرا..» الخ(١) . هذه صفات الخليفة الذي يدعي أنه ينوب عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الأمة!

لماذا وقف المؤرّخون إلى جنب الحاكم ودافعوا عنه حتى حين يخالف الشّريعة الإسلاميّة؟

ما هو موقف الفقهاء من خلفاء زمانهم الذين كانوا يبيتون يستمعون إلى أنغام النّاي والعود وأصوات الغلمان والجواري حتى مطلع الفجر؟

هل كانت حرّيّة الفكر والتّعبير محفوظة للمسلم في دولتي بني أميّة وبني العبّاس المنتسبتين إلى الإسلام؟

لماذا قال المؤرّخون عن أبي لؤلؤة قاتل عمر بن الخطاب (مجوسي) وهو الذي كان في الصّفّ الأوّل بعد تكبيرة الإحرام(٢) وقالوا عن قاتل عليعليه‌السلام مجتهد(٣) ، وهو الذي سمّاه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أشقاها؟!

لماذا لم يتوقّف المؤرّخون عند قضيّة دفن عثمان، فإنّه دفن في مقبرة اليهود ولم يعترض على ذلك أحد من الصّحابة، بل اعترضوا على دفنه مع المسلمين؟ أليس من عادة الأصوليّين أن يعتبروا سكوت الصّحابة وإمضاءهم من الأدلّة التي يعتبرونها شرعيّة وبنون عليها الأحكام؟

مثل هذه الأسئلة هي التي يحقّ لنا طرحها إذا كنّا نرغب فعلا في إعادة كتابة

____________________

(١) البدء والتاريخ، المطهر بن طاهر المقدسي، ج ٦ ص ٩٠، مكتبة الثّقافة الدينية، بور سعيد، مصر.

(٢) لم يكن يسمح لغير المسلم بدخول المسجد على عهد عمر بن الخطاب، ويتضح ذلك من خلال قصة النصراني كاتب أبي موسى الأشعري التي تأتي لاحقا. وإسلام بنت أبي لؤلؤة ثابت.

(٣) علما أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سمّى قاتل علي عليه السلام أشقى الآخرين!

٦

التّاريخ بصورة نزيهة لا تمجّد الحاكم، فلقد لعب الحاكم دورا مهمّا في كتمان الحقائق ونشر الأباطيل، وقد بقي ذلك سنّة متوارثة تنتقل من جيل إلى جيل حتّى رأينا العجب في أيّامنا؛ فهذا صدّام حسين زعيم حزب البعث في العراق، الذي حكم شعبه بالحديد والنّار ثلث قرن من الزّمان، مارس فيه أبشع أنواع القتل والتّعذيب، واعتدى على دولتين من دول الجوار فأيتم مئات الآلاف من الأولاد، ورمّل مئات الآلاف من النّساء، وهدم آلاف البيوت ومدنا بمؤسّساتها وبناها التّحتية.. ثمّ فرّ فرار العبيد، وألقي عليه القبض في حفرة ضيّقة لا تصلح إلاّ للجرذان، واستخرج من هناك وقد تغيّرت سحنته ورائحته حتى كان الطّبيب الأمريكيّ الذي فحصه ساعتها يضع قماشا واقيا على أنفه من شدّة ما كان ينبعث من الزّعيم العربي - أقول -: هذا الهارب المختبئ في حفرة تحوّل بعد إعدامه إلى بطل مظلوم يثير ذكره المشاعر، وصار إضافة إلى ذلك (رمزا دينيّا)، وهو الذي كان أيّام حكمه يكفر بالمذاهب كلّها والأديان كلّها طالما سلم له دين البعث ونبيّه ميشيل عفلق! تحوّل هذا الشّخص بجرائمه إلى بطل يبكي عليه الخطباء في المساجد!

إذا كان هذا شأن ما جرى أمام أعيننا، فكيف نثق بما وصل إلينا عن طريق مؤرّخين تهتزّ قلوبهم للدّينار ولا تبالي بالمأثم والعار؟

ألم يكن جعفر المتوكّل العبّاسي مدمنا على الخمر ليله ونهاره وهو على سدّة الخلافة، حتى قتل وهو على مائدة الخمر سكران لا يعقل؟! ومع ذلك قالوا عنه (مظهر السّنّة)(١) !

ألم يقل أحمد بن حنبل (إني لأرجو أن يرحم الله الأمين بإنكاره على إسماعيل ابن علية فإنّه أدخل عليه فقال له: يا ابن الفاعلة أنت الذي تقول كلام الله مخلوق)(٢) ؟

____________________

(١) قال السيوطي في وصف المتوكّل العباسي:

وذو التوكل ما أزكاه من خلف

ومظهر السنّة الغرّاء إذ نصرا

في عام سبع يليها أربعون قضى

قتلا حباه ابنه المدعوّ منتصرا

فلم يقم بعده إلا اليسير كما

قد سنّه الله فيمن بعضه غدرا

(٢) تاريخ الخلفاء، السيوطي، ج ١ ص ٣٠٣.

٧

علما أنّ الأمين هذا كان لا يصحو من السّكر حتّى قال شاعرهم عند قتله:

لم نبكيك لماذا للطرب

يا أبا موسى وترويج اللّعب

ولترك الخمس في أوقاتها

حرصا منك على ماء العنب(١)

لم تبدأ كتابة سيرة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلاّ في دولة العبّاسيين، لماذا؟ هل كان هناك رقابة شديدة، أم أنّ المسلمين لم يكونوا يهتمّون بسيرة نبيّهمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي أخرجهم الله به من الظّلمات إلى النّور؟ لعلّ جواب ذلك يكمن في قول ابن هشام الحميريّ مهذّب سيرة ابن إسحاق حيث قال: (وأنا إن شاء الله مبتدئ هذا الكتاب بذكر إسماعيل بن إبراهيم، ومن ولد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من ولده، وأولادهم لأصلابهم، الأوّل فالأوّل، من إسماعيل إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وما يعرض من حديثهم، وتارك ذكر غيرهم من ولد إسماعيل على هذه الجهة للاختصار، إلى حديث سيرة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتارك بعض ما ذكره ابن إسحاق في هذا الكتاب، ممّا ليس لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيه ذكر، ولا نزل فيه من القرآن شيء، وليس سببا لشيء من هذا الكتاب ولا تفسيرا له ولا شاهدا عليه لما ذكرت من الاختصار، وأشعارا ذكرها لم أر أحدا من أهل العلم بالشّعر يعرفها، وأشياء بعضها يشنع الحديث به، وبعض يسوء بعض النّاس ذكره، وبعض لم يقرّ لنا البكّائيّ بروايته، ومستقص إن شاء الله تعالى ما سوى ذلك منه بمبلغ الرواية له، والعلم به(٢) .

إذاً، هناك في تاريخ المسلمين أشياء بعضها يشنع الحديث به، وبعض يسوء بعض النّاس ذكره ولأجل أن يبدو التّاريخ رائقا رائعا لابدّ من كتمانها وإخفائها عن النّاس! لابدّ من حذفها من الكتب والرّوايات أو تحريفها بطريقة تجعل أصحاب اليمين على الشّمال وأصحاب الشّمال في اليمين! لابدّ من وأدها حيّة تتنفّس حتى لا تعرّض صور الخلفاء والزّعماء للتّشويه فتصبح قاتمة بعد أن كانت برّاقة لماعة.

____________________

(١) تاريخ الطبري، ج ٥ ص ١٠٥ و تاريخ الإسلام، ج ١٣ ص ٦٤ وتاريخ الخلفاء، ج ١ ص ٣٠١ وسمط النجوم العوالي ج ٣ ص ٤٣٥.

(٢) السيرة النبوية، ابن هشام، ج ١، ص ٥.

٨

هذا الكلام كرّره الذهبيّ بعد قرون من رحل ابن هشام، في عبارة يبدو فيها الذّهبي بشكل الحريص على وحدة المسلمين وسلامة قلوبهم. قال الذّهبي في معرض الحديث عن طعن الأقران: قال: (وما زال يمرّ بي الرّجل الثّبت وفيه مقال من لا يعبأ به، ولو فتحنا هذا الباب على نفوسنا لدخل فيه عدّة من الصّحابة والتّابعين والأئمّة [!]، فبعض الصّحابة كفّر بعضهم بتأويل ما، والله يرضى عن الكلّ ويغفر لهم، فما هم بمعصومين، و ما اختلافهم ومحاربتهم بالتي تلينهم عندنا أصلا، وبتكفير الخوارج لهم انحطت رواياتهم بل صار كلام الخوارج والشيعة فيهم جرحا في الطاعنين، فانظر إلى حكمة ربك نسأل الله السلامة، وهذا كثير من كلام الأقران بعضهم في بعض ينبغي أن يطوى ولا يروى ويطرح ولا يجعل طعنا ويعامل الرجل بالعدل والقسط(١) .

قال: (فأما الصحابة رضي الله عنهم فبساطهم مطوي وإن جرى ما جرى وإن غلطوا كما غلط غيرهم من الثقات فما يكاد يسلم أحد من الغلط لكنّه غلط نادر لا يضرّ أبدا إذ على عدالتهم وقبول ما نقلوه العمل، وبه ندين الله تعالى)(٢) .

ولا أدري من هو الذي طوى بساط الصّحابة، ومتى وأين كان ذلك؟ وليت الذهبيّ بيّن ذلك، فإنّ القرآن الكريم يهتف:( وَأَمّا الّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى‏ رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ ) .

وقال: (كلام الأقران إذا تبرهن لنا أنه بهوى وعصبية لا يلتفت إليه بل يطوى ولا يروى كما تقرر عن الكف عن كثير مما شجر بين الصحابة وقتالهمرضي‌الله‌عنه أجمعين. وما زال يمرّ بنا ذلك في الدواوين والكتب والأجزاء، ولكن أكثر ذلك منقطع وضعيف وبعضه كذب، وهذا فيما بأيدينا وبين علمائنا؛ فينبغي طيّه وإخفاؤه، بل إعدامه [!] لتصفو القلوب وتتوفّر على حبّ الصّحابة والتّرضّي عنهم،

____________________

(١) الثقات المتكلم فيهم، الذهبي، ج ١ ص ٢٤.

(٢) الرواة الثقات المتكلم فيهم، الذهبي، ج ١ ص ٢٤.

٩

وكتمان ذلك متعيّن عن العامّة وآحاد العلماء، وقد يرخّص في مطالعة ذلك خلوة للعالم المنصف العريّ من الهوى، بشرط أن يستغفر لهم كما علمنا الله تعالى(١) .

يقول الذهبيّ: يجب أن يكتم ما جرى بين الصّحابة عن النّاس! بل عن العلماء أيضاً! بل ويجب أن يعدم من الوجود!! فالله وحده يعلم كيف تصرّف الذهبي مع الروايات، وكم دفن من الحقائق باسم الإسلام والحفاظ على سلامة منزلة الصّحابة في قلوب الأجيال؟!! والله أعلم إن كان الإسلام يجيز هذا الذي يدعو إليه الذهبي.

وهو يقول: (كما علّمنا الله تعالى)، ولا شكّ أنّ الله تعالى قد علّمنا الاستغفار، ولكن حاشا لله أن يكون علّمنا كتمان الحقّ لأجل تبييض وجوه سوّدتها المعاصي وتسويد وجوه نوّرتها الطاعات، وهو القائل في كتابه الكريم:( وَلاَ تَكْتُمُوا الشّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ ) .

في تاريخنا أحداث ووقائع ثابتة تلاعبت بها أيدي المتأوّلين والمصوّبين وأهل الأهواء ن الذين يدّعون أنّهم أشدّ حرصا على الإسلام من الإسلام نفسه، ومن حرصهم على الإسلام منحوا الصّحابة حصانة دبلوماسيّة تجعلهم فوق كل اعتبار دنيا وآخرة ن وأدخلوهم الجنّة قبل أن تفتّح أبوابها ح فهم لا يسألون عمّا يفعلون، وليس في أعمالهم إلاّ الحسنات، و (اعملوا ما شئتم فإنّي قد غفرت لكم)(٢) . وعلى هذا تكون كلّ أعمالهم خيرا، حتّى لو كان الشرّ يقطر منها وكنّا ندفع ضريبة ذلك الشّرّ في كلّ دقيقة من حياتنا.

فالخليفة عمر بن الخطّاب العدويّ كان همّه الفرار في المعارك التي شهدها مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والفرار من الزّحف معدود من الكبائر في الإسلام، ومن الفقهاء من لا يجيز شهادة من فرّ من الزّحف(٣) ؛ ولكن كي يبقى عمر بن الخطّاب فوق كلّ

____________________

(١) سير أعلام النبلاء، الذهبي، ج ١٠ ص ٩٢.

(٢) صحيح البخاري، ج ٥ ص ٢٢٦٤ والمستدرك على الصحيحين، ج ٤ ص ٨٧ وفيض القدير، ج ٢ ص ٢١٢ ومجموع الفتاوى، ج ٤ ص ٤٦٠ وقطف الثمر في بيان عقيدة أهل الأثر، ج ١، ص ٩٧ وشعب الإيمان، ج ٧ ص ٣٩.

(٣) قال القرافي في الذخيرة ج ٣، ص ٤١١ (قال ابن القاسم: لا تجوز شهادة الفارّ من الزّحف وإن فرّ إمامه، وإن بلغ

١٠

اعتبار ينبغي تجاوز فراراته المتكرّرة، ومنع الحديث عنها، والصّرامة في معاقبة كلّ من تسوّل له نفسه فتح ذلك الملفّ! فعمر بن الخطّاب القرشيّ رغم أنّه فرّ أكثر من مرّة من ساحة الحرب يبقى شجاعا! ورغم خذلانه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتخلّيه عنه وتركه إيّاه بين الأعداء يبقى وفيّا! ورغم تهديده بتحريق بيت فاطمة عليها السلام يبقى معظّما لحرمة أهل بيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . ولهذا توقّف ابن هشام عند وفاة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يفصّل بصورة نزيهة فيما حدث بين الصّحابة في ذلك اليوم والأيّام التي أعقبته. وما يصدق في حقّ عمر بن الخطّاب يصدق في حقّ أبي بكر بن أبي قحافة أيضا، فإنّهما كانا على موجة واحدة.

وللصّحابة حرمتهم ما داموا في ركاب الدّولة القرشيّة الحاكمة. أمّا من لم يكن متناغما معها فلا حرمة له. فهذا مالك بن نويرة الصّحابي الذي شهد له النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه من أهل الجنّة وعيّنه على صدقات قومه لم يرض بلعبة السّقيفة ولم يدخل فيها، فحكم عليه المؤرخون بالرّدة عن الإسلام، وعتّموا على شهادة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم له، ونام خالد بن الوليد في فراش مالك بن نويرة في نفس اللّيلة التي قتله فيها، وتقلب بين أحضان الأرملة التي كانت في عدّتها إن كانت مسلمة، وقالوا عن ذلك إنه اجتهاد وتأويل! (ارفع لسانك عن خالد فإنه تأوّل فأخطأ)!

وكذلك شأن الصّحابي الجليل أبي ذرّ الغفاريرضي‌الله‌عنه ، فإنه لم يكن منسجما مع الدّولة الحاكمة في أيّامه، خصوصا بعدما رأى يهوديا اسمه كعب الأحبار يعتلي منصب المفتي والمستشار الأوّل في الدّولة بعد إزاحة عبد الرحمن بن عوف قبيل وفاته(١) . لم يتحمّل أبو ذرّرضي‌الله‌عنه ذلك الوضع فأعلن ثورته على الانحراف بشتّى

____________________

عدد المسلمين اثني عشر ألفا لا يجوز التولّي وإن كان العدوّ زائدا على الضّعف لقوله لن يغلب اثنا عشر ألفا من قلّة؛ فهذا الحديث مخصّص للآية عند أكثر العلماء). وفي منح الجليل (والفرار المحرّم من الكبائر فتسقط العدالة به فلا تقبل شهادة الفار إلا أن يتوب) منح الجليل شرح على مختصر سيد خليل. تأليف: محمد عليش ج ٣ ص ١٥٣: دار الفكر، بيروت ١٤٠٩ هـ - ١٩٨٩ م.

(١) قال أبو ذرّ لمن حضر وفاته: (... أتسمعون؟ لو كان لي ثوب يسعني كفنا لم أكفن به إلا في ثوب هو لي او ثوب يسعني كفنا غلا في ثوبها؛ فأشدكم الله والإسلام أن يكفّنني رجل منكم أميرا أو عريفا أو نقيبا أو بريد!) فكلّ

١١

أقسامه ن ولم تنفعه سابقته في الإسلام ولا طول صحبته لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فكان مصيره النّفي إلى صحراء الرّبذة حيث مات منفيّا، وجاء المؤرّخون الحريصون على سمعة الصّحابيّ الحاكم فقالوا: اختار أبو ذرّ الانتقال إلى الرّبذة من تلقاء نفسه غير مكره!! ويبقى الباثح متحيّرا في شأن رجل يختار على كبر سنّه مكانا قاحلا مثل الرّبذة، فيكون بذلك أشبه بالمتعرّب بعد الهجرة إن لم يكنه فعلا؛ لكن أخبارا تسرّبت رغم الرّقابة الشّديدةتكشف بوضوح أنّ أبا ذررضي‌الله‌عنه كان قد أكره على الانتقال إلى الرّبذة، وأن الإبعاد من المدينة كان سيرة الدّولة وسياستها مع كل من تسوّل له نفسه المعارضة وقول (لا).

في أيّامنا تمارس عمليّة تزييف التّاريخ بطريقة مشابهة من حيث المضمون مختلفة من حيث الشّكل، وتتبنّى ذلك قنوات فضائيّة وشبكات الكترونيّة وإذاعات وجرائد ومجلاّت و..! إنّها تختلف عمّا كان يجري أيّام الخلفاء إذ لا خليفة ولا خلافةاليوم؛ لكنّها تقتفي أثر أولئك في تمجيد الحاكم واستهجان المعارض. وما يثير اشمئزاز النّفوس الحرّة هو إشراك المشاهد والمستمع في عمليّة التّحريف. يتّصل أشخاص متّفقون سابقا مع مقدّمي البرامج ليستعرضوا عضلاتهم ويوهموا المتابعين أنّ الأمر كما يقولون، وأنّ كل رواية تخالف روايتهم فهي إمّا وهم أو تحريف. تماما كما زعم الكرخيّ الحنفيّ في قوله المشهور كلّ ما ليس عليه أصحابنا من آية أو حديث فهو إمّا منسوخ او مؤوّل(١) .

تلكم القنوات والإذاعات والمواقع الإلكترونيّة تطرح القضايا والوقائع كأنّها مسلّمات، ثمّ تبدأ في نقاش الحيثيّات والنتائج والآثار، وقد أعفت نفسها من مسؤولية

____________________

القوم قد كان قارف بعض ذلك إلاّ فتى قال أنا أكفّنك فغنّي لم أصب مما ذكرت شيئاً، أكفّنك في ردائي هذا الذي علي وفي عيبتي من غزل أمّي حاكتهما لي قال: (انت فكفّني). قال فكفّنه الأنصاري والنّفر الّذين شهدوه فيهم جحش بن الأدبر ومالك بن الأشتر في نفر كلّهم يمان. (المنتظم، ابن الجوزي، ج ٤ ص ٣٤٧). وهذا يعني أنّ أبا ذرّ لم يكن يستحلّ الكفن من دولة عثمان، أي أنّه لم يكن يعتبرها دولة إسلاميّة.

(١) أزمة الفكر السياسي في الإسلام، د. عبد الحميد متولي: ص ٣٦، وفقه السنة، سيد سابق: ج ١، ص ١٠. وعبارة سيد سابق في فقه السنة كما يلي: وقد بلغ الغلوّ في الثقة بهؤلاء الأئمّة حتى قال الكرخي وهو حنفي: كل آية أو حديث يخالف ما عليه أصحابنا فهو مؤول أو منسوخ.

١٢

البحث؛ وهذا خطأ علميّ كبير، لأنّ ما يختلف فيه النّاس لا يصحّ اعتباره مسلّما، والتّسليم في هذه الحال يكون في صالح طرف لكنّه يضرّ بجهود كلّ باحث ومحقّق مخالف لذلك الطّرف؛ وهذا النّوع من اعتبار ما يطرحه المتحدّث صحيحا وفرضه على الطّرف المقابل هو ما يعبّرون عنه بالتّحكّم، وهو باطل في نظر العقلاء. وعليه ينبغي لكلّ من ينشد الحقيقة أن يبتعد عن مثل تلك الطّريقة في الطّرح، بل عليه ألا يقدّم شيئا إلاّ بعد التأكّد من قبول الطرف الآخر له واعتباره إيّاه صحيحا، حتى يكون البحث موضوعيّا نزيها مثمرا مفيدا. ومع بالغ الأسف فإنّ المغالطة صارت هي القاعدة في خطاب الفضائيّات، ولم يعد يسلم من ذلك إلا ما يورده المعارضون من ضيوف البرامج أو المتّصلين من بعيد. ويمكن القول إنّ بعض الفضائيات (النفطيّة) صارت تمارس التملّق علنا من خلال ما تعرضه على المشاهد من أمور وقضايا تهدف قبل كل شيء إلى النّفخ في الحاكم ليظهر بصورة البطل وتشويه المعارض ليظهر بصورة الخائن! ولله في خلقه شؤون.

السيرة مأخوذة من السير(١) ، وعليه فسيرة الرّجل تعني كلّ ما أثر عنه وما جرى له في حياته، خيرا كان أو غيره؛ وقد اهتمّت الأمم بسير ملوكها وعلمائها وكلّ من له تأثير في تاريخها ن وكان العرب قبل الإسلام يحفظون سير الملوك والصّعاليك والشعراء وغيرهم، لكن الرّواية لم تكن تسلم من الإضافة والحذف لعوامل تعود إلى طبيعة التّقليد الموروث في بيئة العرب، وهو ما يمتزج بالعداوات والإحن والتّنافس بين القبائل، وقد يصل أحيانا إلى الافتراء على الطّرف الآخر مع القطع ببراءته، لأنّ الكذب وإن كان قبيحا إلاّ أنه لم يكن بمنزلة الحرام والإثم في الدّين، وبين الاعتبارين فرق كبير؛ وقد يرسخ أقوام في الدّناءة بحيث لا يضرّهم تعاطي الكذب باستمرار..

____________________

(١) قال الرازي: (قال صاحب الكشاف: السيرة من السير كالركبة من الركوب، يقال سار فلان سيرة حسنة، ثمّ اتّسع فيها فنقلت إلى معنى المذهب والطريقة). (التفسير الكبير، فخر الدين الرازي، ج ٢٢ ص ٢٦).

١٣

جاء الإسلام وجاءت معه مادّة للسّيرة والتّاريخ، تتجاوز التّرف الفكري وسمر الليل وتفاخر القبائل إلى طلب التأسّي والاقتداء بالنّبي الجديد الذي نشأ في بلاد العرب، وأسّس دولةلم يعرف العرب مثلها في بلادهم فيما سبق، ودعا إلى قيم ومثل تتنافس الحضارات الإنسانيّة في ادّعاء ما هو دونها. لكن مع بالغ الأسف لم تكتب سيرة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلاّ بعد رحيله بأكثر من قرن، كما وقع للمسيحيّين تماما، وتداولت الأيدي تلك السّيرة فتعرّضت للمبضع والمقصّ، وجرى عليها من التّشريح ما جرى، فحذف منها ما حذف وأضيف إليها ما أضيف، ووصلت إلينا مخيطة حسب الطّلب، حسب ذوق العامة ومواج الحاكمين.

وقد ارتأى علماء المسلمين أن يقرنوا سيرة الصّحابة بسيرة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لأنّها في نظرهم مفسّرةلها، وكاشفة لكثير مما قد يخفى بدونها، ولأنّ الصّحابة هم الذين بلّغوا الدّين بعد وفاة خاتم النّبيين (!)، فزعموا أنّهم جيمعا عدول، وأنّ الله تعالى لن يحاسبهم على ما يحاسب عليه غيرهم من أهل القبلة، وأنّ أهل بدر مغفور لهم الكبير والصّغير، وأن الله تعالى قال لهم: اعملوا ما شئتم فإنّي قد غفرت لكم!

غير أنّ تلك المزاعم يفنّدها القرآن الكريم بآيات محكمات تضع الصّحابة في المواضع اللاّئقة بهم على قدر معتقداتهم وأعمالهم، فمنهم مؤمن، ومنهم منافق، ومنهم من خلطوا عملا صالحا وآخر سيّئا، ومنهم الذين في قلوبهم مرض، ومنهم من شهد عليه النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه يموت على غير ملّة الإسلام..

لأجل هذا التّضارب بين ما يقوله القرآن الكريم، وبين ما ارتآه قسم كبير من علماء المسلمين، تعيّن البحث في أحوال الصّحابة فردا فردا، والنّظر في معتقداتهم وأعمالهم، ليلحق برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من آمن وبقي على الإيمان إلى أن خرج من الدّنيا، ويفصل من انحرف وبدّل ومات مصرّا على الانحراف والتّبديل. هذا هو الموقف الذي ينسجم مع القرآن الكريم، فإنّ المؤمن بالقرآن الكريم لا يفرّق بين أحد من رسل الله تعالى، ولم يذكر القرآن الكريم أنّ صحابة أحد الأنبياء فيما سبق

١٤

كانوا جميعا عدولا مغفورا لهم كل ما يأتون، بل إنّ النبوّة والزّوجيّة وهما أولى وأقرب من الصّحبة لم تنفعنا أبناء وأزواج الأنبياء(١) ، لأنّ العبرة بالإيمان والعمل الصّالح لا بالأنساب والأسباب. وقد ثبتت في التّراث الإسلاميّ روايات وأخبار تفيد أنّ عددا كبيرا ممّن عاصروا النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا تؤول خاتمتهم إلى خير، بل يكونون من أهل النّار ويتبرّأ منهم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنّهم بدّلوا وارتدّوا على أدبارهم القهقرى. روى البخاريّ عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أنه كان يحدّث أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: يرد عليّ يوم القيامة رهط من أصحابي فيجلون عن الحوض فأقول: يا ربّ أصحابي؛ فيقول: غنّك لا علم لك بما أحدثوا بعدك، إنّهم ارتدّوا على أدبارهم القهقرى. وعن ابن شهاب عن ابن المسيب أنّه كان يحدّث عن أصحاب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: يرد عليّ الحوض رجال من أصحابي فيحلؤون عنه، فأقول: يا ربّ أصحابي؛ فيقول: إنّك لا علم لك بما أحدثوا بعدك، غنّهم ارتدّوا على أدبارهم القهقرى. وعن الزهري، كان أبو هريرة يحدّث عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيجلون، وقال: عقيل فيحلؤون. وعن عطاء بن يسار عن أبي هريرة عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: بينا أنا نائم إذا زمرة حتّى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم فقال: هلمّ! فقلت: أين؟ قال إلى النّار والله؛ قلت: وما شأنهم؟ قال: إنّهم ارتدّوا بعدك على أدبارهم القهقرى. ثمّ إذا زمرة حتّى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم فقال: هلمّ! قلت: أين؟ قال: إلى النّار والله! قلت: ما شأنهم؟ قال: إنّهم ارتدّوا بعدك على أدبارهم القهقرى! فلا أراه يخلص منهم إلاّ مثل همل النّعم(١) ؛ وفي رواية مسلم (فإيّاي لا يأتينّ أحدكم فيذبّ عنّي كما يذبّ البعير الضّال فأقول فيم هذا؟فيقال: إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك؛ فأقول سحقا)(٢) .

فهذا يفيد أنّ من الصّحابة من يدخل النّار، وقوله (ارتدّوا على أدبارهم) صريح في إثبات ردّتهم، وقوله لا يخلص منهم إلاّ مثل همل النّعم جدير بالتّأمل والتدبّر

____________________

(١) إشارة إلى امرأة نوح وامرأة لوط، وابن آدم الذي قتل آخاه، وابن نوح الذي كان من المغرقين.

(٢) صحيح البخاريّ، ج ٥، ص ٢٤٠٧. الأحاديث: ٦٢١٣ و ٦٢١٤ و ٦٢١.

١٥

لكلّ باحث عن الحقّ. والذي يحسم المسألة هو البحث في أحوال الأشخاص وسيرتهم أيّام النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبعده، فإنّ من كان مستقيما في حياة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واستمرّ على استقامته حقيق بحسن الخاتمة ولا يخلف الله وعده؛ أمّا من حاد عن الطّريق، وجانب الصّواب، ومات مصرّا على مخالفة أقوال وأفعال وتقريرات النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإنّه لا ينفعه أن يزكّيه من يزكّيه، لأنّ العبرة بالمعايير القرآنية لا بالأمزجة والأذواق، والقرآن الكريم يقول:( فَمَن نَكَثَ فَإِنّمَا يَنكُثُ عَلَى‏ نَفْسِهِ ) .

وقد اختلف المسلمون في قضيّة الصّحابة إلى تيّارين متقابلين يختلفان في مسألة الصّحبة وما يترتّب عليها؛ وأصل الاختلاف ناشئ عن تدخّل السّلطات الحاكمة عبر تاريخ الأمّة في كلّ صغير وكبير من شؤون الحياة، وإن كانت تلك السّلطات من ناحية الالتزام بعيدة كلّ البعد عن احترام الشّريعة والتقيّد بأحكامها. كان أولئك الحكّام يشجّعون ويوقّرون ويظّمون كلّ من يحارب المعارضة نيابة عنهم، فيضفون عليه من الألقاب ما لا يناله بكدّ، ويبسطون إليه أيديهم بالعطاء والشّفاعة، فلا يردّ له طلب، ولا يعلو صوته صوت. أمّا من يشكّك في صلاحيّتهم للحكم، ولو بالأدلّة التي لا تقبل الجدل، فإنّما هو زنديق مارق من الدّين، يريد شقّ عصا المسلمين وتفريق الجموع وتشتيت الصّفوف، قد اتّبع غير سبيل المؤمنين، وحكم من يتّبع غير سبيل المؤمنين معلوم!

اختلف المسلمون في مسألة الصّحابة لأنّ قسما كبيرا من الصّحابة نكثوا عهدهم مع الله ورسوله بخصوص أهل البيت عليهم السلام، فقد ورد الأمر بالصّلاة عليهم في كلّ صلاة، فريضة أو نافلة؛ ونزل قرآن يؤكّد طهارتهم ويخبر أنّ الأمّة مسئولة عنهم يوم القيامة( قُل لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلّا الْمَوَدّةَ فِي الْقُرْبَى‏ وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً إِنّ اللّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ ) (١) . وبما أنّ شهوة الحكم غلبت على النّفوس، وبما أنّ الملك عقيم، فقد ضيّعت منزلة وحرمة أهل البيت عليهم السلام وأوذوا بدل أن يحترموا، وسبّوا

____________________

(١) الشورى: ٢٣.

١٦

بدل أن يصلّى عليهم، وافتري عليهم بدل أن يقتدى بهم، وكانت أحداث ووقائع ضمن الله تعالى وصولها إلينا رغم الرّقابة الشّديدة والكتمان المتعمّد؛ ومن أنصف نفسه ولزم الحياء من ربّه لم يخف عليه عودة النّفوس إلى الجاهليّة واكتفاؤها بالطّقوس والرّسوم التي لا تضرّ المصالح ولا تزعج الحاكمين.

نعم، لقد ضمن الله تعالى وصول كثير من الأحداث والوقائع إلينا ليكون ذلك حجّة علينا يوم القيامة، فإنّ أهل القبلة كلّهم مأمورون بمودّة قربى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لا فرق بين حاكم ومحكوم، ولا بين غنيّ وفقير، ولا بين عربيّ وأعجميّ؛ وليس أحد في ذلك بمعذور. كلّ من شهد الشّهادتين صار في ذمّته أن يحبّ أهل البيت عليه السلام أكثر ممّا يحبّ نفسه وأهله وماله، ولازم ذلك أن يحبّ من يحبّهم ويبغض من يبغضهم، ولا يفرّق بينهم وبين رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد أن قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بصريح العبارة (حسين مني وأنا من حسين) وقال (فاطمة بضعة منّي) وقال لعليّ عليه السلام (أت منّي بمنزلة هارون من موسى). فإذا كان المسلم صادقا في حبّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإنّه لا يتردّد في حبّ أهل بيته عليهم السلام؛ ولو كان هذا الأمر مما يشقّ على النّفوس لما كلّف الله تعالى به أحدا، فإنّ التّكليف بغير المقدور قبيح من المخلوق فكيف بالخالق جلّ وعلا! فمحبّة أهل بيت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذاً من صميم الدّين، نزل بها قرآن يتلى، وقضى النّبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مدّة من عمره الشّريف يدعو إليها ويرسّخها في فنسو المؤمنين؛ وإذا كانت محبّتهم من الدّين فإنّ بغضهم ليس من الدّين في شيء، بل إن مبغضهم يكون مارقا من الدّين لأنّه يكون مبغضا للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبغضهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مخرج من الدّين باتّفاق، وقد قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حقّ أهل بيته عليهم السلام كلاما كثيرا مؤكدا لقول الله تعالى:( ذلِكَ الّذِي يُبَشّرُ اللّهُ عِبَادَهُ الّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحَاتِ قُل لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلّا الْمَوَدّةَ فِي الْقُرْبَى‏ وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً إِنّ اللّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ ) (١) ، لكن النفوس المريضة أبت إلاّ أن تختلق أحاديث تحاول من خلالها الحطّ من

____________________

(١) الشورى: ٢٣.

١٧

شأنهم عليهم السلام وإلباس غيرهم ما أنعم الله به عليهم(١) ، ونسوا أو تناسوا أنّه( لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ ) (٢) . وقد قطع النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الطّريق على المتأوّلين والمتفيهقين إذ قال في حقّ عليّ عليه السلام قولته الثّابتة في الصّحاح (يحبّ الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله). فعليّ إذا حبيب الله ورسوله، أفترى الله تعالى يرضى عمّن يبغض حبيبه؟ ولينظر امرؤ إلى نفسه إن غاب عنه فهم ذلك، أتراه هو نفسه يحبّ من يبغض حبيبه؟!

لقد كان ولا يزال لعليّ عليه السلام محبّون يتقرّبون إلى الله تعالى بحبّه، كما كان ولا يزال له أعداء يبغضونه ويلهجون بسبّه؛ وحسب محبّيه أنّهم يحبّون من يحبّه الله تعالى ويحبّه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فهم في عبادة دائمة، لا يشكّون أنّهم محقّون، إذ يستحيل أن يكون الله تعالى على غير الحقّ، وهو الحقّ جلّ شأنه. أمّا مبغض عليّ فحجّته منقطعة داحضة، ويكفيه شناعة سوء أدبه مع الله تعالى إذ يجاهر ببغض حبيبه، وفي ذلك من سوء المعتقد ما فيه، إذ لو كان يعتقد أنّ الله تعالى حكيم لراجع وتاب وأناب، سوء المعتقد ما فيه، إذ لو كان يعتقد أنّ الله تعالى حكيم لراجع نفسه وتاب وأناب، وبحث في باطنه عن سبب بغض حبيب الله، ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور.

ضيّعت منزلة عليّ عليه السلام وحصل تهميشه عن عمد، من طرف أناس يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ن ويشهدون له بالفضل والسّبق والقرابة، وجاء بعدهم أناس يحدوهم الدّينار والمنصب، وقضوا أعمارهم في محاولة سلب عليّ عليه السلام محاسنه وإضفاءها على غيره، وتبرير أعمارهم في محاولة سلب عليّ عليه السلام محاسنه وإضفاءها على غيره، وتبرير أعمال مناوئيه، ثمّ خرجوا من الدّنيا، وبقي عليّ عليه السلام شامخا شموخ الزّمن، يعطّر ذكر اسمه مجالس محبّيه، ويعلو منهجه على كلّ منهج، لأنّه مع الحقّ والحقّ معه يدور معه حيث دار، ومن كان ذلك شأنه مع الحقّ، فلا ريب أن يفوز في النّهاية، ولا عجب أن يقول فيه بعض محبّيه:

____________________

(١) وضعت قبال آية المودة أحاديث منها: (الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضا بعدي فمن أحبهم فبحبي أحبهم ومن أبغضهم فببغضي) و (الأنصار محنة فمن أحبهم فبحبي أحبهم ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم) و (من أحب العرب فبحبي أحبهم ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم) , وهي كلها كما ترى. ولا يفوتك أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يخاطب أصحابه فيقول لهم (الله الله في أصحابي)!

(٢) يونس: ٦٤.

١٨

تلك العظام أعزّ ربك شأنها

وتكاد لو لا خوف ربك تعبد(١)

أراد أعداء عليّ عليه السلام أن يغيّبوه فلم يفلحوا، لأنّ الشّمس لا تستر بالغربال، فعمدوا إلى أساليب من شأنها أن تنطلي على السّذّج والمغفّلين، واختلقوا بطولات وفضائل وأمجادا وهميّة، ووزّعوها بين خصوم عليّ عليه السلام، وجنّدوا لذلك الوضّاعين ووعّاظ السلاطين، واعتقدوا أنّهم دفنوا الحقيقة إلى الأبد، ومكروا ومكر الله.

قال ابن أبي الحديد: روى الزبير بن بكار في (الموفقيات) - وهو غير متّهم على معاوية، ولا منسوب إلى اعتقاد الشيعة، لما هو معلوم من حاله من مجانبة عليّ عليه السلام، والانحراف عنه -: قال: قال المطرف بن المغيرة بن شعبة: دخلت مع أبي على معاوية، فكان أبي يأتيه، فيتحدّث معه، ثمّ ينصرف إليّ ويذكر معاوية وعقله ويعجب بما يرى منه، إذ جاء ذات ليلة فأمسك عن العشاء ورأيته مغتمّا! فانتظرته ساعة وظننت أنّه لأمرٍ حدث فينا، فقلت: مالي أراك مغتمّا منذ اللّيلة؟ فقال: يا بنيّ جئت من عند أكفر النّاس وأخبثهم [!] قلت: وما ذاك؟ قال: قلت له وقد خلوت به: إنّك قد بلغت سنّا يا أمير المؤمنين، فلو أظهرت عدلا وبسطت خيرا فقد كبرت، ولو نظرت إلى إخوتك من بني هاشم فوصلت أرحامهم، فو الله ما عندهم اليوم شيء تخافه. وإنّ ذلك ممّا يبقى لك ذكره وثوابه. فقال: هيهات! هيهات! أيّ ذكر أرجو بقاءه؟ ملك أخوتيم فعدل وفعل ما فعل، فما عدا أن هلك حتّى هلك ذكره إلاّ أن يقول قائل أبو بكر. ثمّ ملك أخو عديّ فأجتهد وشمّر عشر سنين، فما عدا أن هلك حتّى هلك ذكره إلاّ أن يقول قائل عمر. وإنّ ابن أبي كبشة ليصاح به كلّ يوم خمس مرات أشهد أنّ محمّدا رسول الله، فأيّ عمل يبقى وأيّ ذكر يدوم بعد هذا لا أبا لك؟ لا والله إلاّ دفنا، دفنا(٢) .

نعم، (ثمّ ملك أخو عديّ فأجتهد وشمّر عشر سنين، فما عدا أن هلك حتّى هلك

____________________

(١) البيت من قصيدة للشاعر العراقي المرحوم محمد المجذوب.

(٢) شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج ٥، ص ١٢٩ - ١٣٠.

١٩

ذكره إلاّ أن يقول قائل عمر)!

هذه شهادة معاوية بن أبي سفيان، وقد توفي معاوية آخر سنة ٦٠، وهذا يعني أنّها قبل مرور أربعين سنة على وفاة عمر، فيها اعتراف أنّ عمر هلك ذكره مع موته إلاّ أن يقول قائل (عمر)! فمن الذي بعثه بعد ذلك ورسم حوله هالة القدسيّة التي توسّعها الفضائيّات في أيّامنا؟! على الباحثين أن يتأمّلوا ويدقّقوا.

تاريخ المسلمين حافل بالمآسي، وأشدّ ما فيها المآسي المعنويّة، التي تخنق الأرواح وتسجن الأفكار. أليس هو التّاريخ الذي يسمّي جعفر المتوكّل (مظهر السنّة ومميت البدعة) مع أنّه قتل على مائدة الشّراب سكران لا يعقل؟! أوليس هو التّاريخ الذي يسمّي المنصور الدّوانيقي (باني بغداد ومؤسس الدّولة العباسيّة) ويتغافل عن تفنّنه في تعذيب وقتل وتشريد تلك الأعداد الهائلة من ذرّيّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟!

حينما نتحدّث عن عظيم ترك بصماته في تاريخ أمّة، وينبغي أن نتحدّث عن عظيم لا عن مستبدّ، والفرق بين الصّفتين كبير. العظيم شخص ذو لياقات وفضائل وملكات ميّزته عن غيره، وأحسن الاستفادة منها وإعمال فكره في ما ينفع الناس، إذ ديننا يقول: (خير النّاس أنفعهم للنّاس). وأمّا المستبدّ فهو عاجز يخفي ضعفه وراء القسوة والعنف، لأنّه في منصب يسمح له باستخدام العنف. وعلامة ذلك أنّه إذا جدّ الجدّ كان همّه الفرار كما يفرّ العبيد؛ وقد تابع سكّان العالم مشهد إلقاء القبض على الرّئيس المخلوع صدّام حسين وهو يستخرج من حفرة كما تستخرج الضّباع، بعد أن كان الإعلام العربيّ الواسع يسميّه بطل القادسيّة وحارس البوّابة الشرقيّة! وما أكثر الذين تطفّلوا على السّاحات واستغلّوا الظروف والمناسبات وقفزوا على حواجز رسّختها الفطرة في النّفوس، ثمّ وجدوا لهم أقلاما وحناجر تمجّد من خلالهم الباطل، وتهمّش أهل الحقّ والشرعيّة؛ لكنّ ذلك لا يغيّر من الحقيقة شيئاً، لأنّ الحقائق لاتتبدّل بالاعتبارات، والحقائق سنن إلهيّة، ولن تجد لسنّة الله تبديلا؛

ومع أنّ أمّتنا تمتلك رصيدا لم يسبق لأمّة أن امتلكته، إذ منها أشرف الأنبياء،

٢٠

وعليه نزل الكتاب المهيمن على الكتب كلّها، وله شرعت أفضل وأوسع شريعة، ونصبت أشرف قبلة؛ إلاّ أنّنا مع ذلك نراوح في أتعس وضعيّة، حيث يحلم كثير من أبنائنا باسترجاع ماض بعيد، إثمه أكبر من نفعه، ويتّهمون كلّ صوت يشخّص الدّاء ويرشد إلى أنجع الدّواء. يرسمون حول ذلك الماضي أسوارا من الجمود والتطرّف تجعل الحديث عنه مساسا بالمقدّسات، ويطفّفون الكيل فيكتالون بمكيالين، ويحكمون في شريعة واحدة للأمثال بحكمين مختلفين. فهذا قاتل عمر بن الخطّاب مجوسيّ مع أنّ عمر نفسه شهد للعجم المقيمين بالمدينة أنّهم صلّوا صلاتهم وتكلّموا لسانهم! وذاك ابن ملجم قاتل عليّ بن أبي طالب عليه السلام مجتهد متأوّل مأجور.

والخارج عن أبي بكر مرتدّ حلال الدّم، بينما الخارج عن عليّ بن أبي طالب عليه السلام مجتهد مأجور مبشّر بالجنّة! ومن انتقد سلوك صحابيّ ما بموضوعيّة وإنصاف فهو زنديق، وأما من سبّ وشتم ولعن عليّ بن أبي طالب عليه السلام فهو ثقة صدوق لا نزاع فيه! تلك ثمار ثقافة الكرسيّ؛ وبالمناسبة إنّه لمن المؤسف حقّا أن يتجاهل المسلمون جيلا بعد جيل أقوال وأفعال ومواقف فاطمة بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لكونها لا تسير في ظلّ ثقافة الكرسيّ، وهم في نفس الوقت يصلّون عليها يوميّا في كلّ صلواتهم فرضا ونفلا!

أضع بين يدي القارئ أخبارا وأحاديث تتعلّق بسيرة عمر بن الخطّاب، وأحاول تحليلها والتّعليق عليها بما يبدو لي منسجما مع المقاييس والمعايير التي دعا إليها القرآن الكريم، وعلى رأسها قول الله تعالى( إِنّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللّهِ أَتْقَاكُمْ ) ، وقوله تعالى( وَأَن لّيْسَ لِلْاِنسَانِ إِلّا مَا سَعَى ) . وما توفيقي إلاّ بالله عليه توكّلت وإليه أنيب.

تنبيه:

ابن أبي الحديد يشترط على نفسه أن ينقل من كتب السنة لا من كتب الشيعة.

قال ابن أبي الحديد: (الفصل الأوّل: فيما ورد من الأخبار والسّير المنقولة من

٢١

أفواه أهل الحديث وكتبهم، لا من كتب الشّيعة ورجالهم. لأنّا مشترطون على أنفسنا ألاّ نحفل بذلك، وجميع ما نورده في هذا الفصل من كتاب أبي بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ في السقيفة وفدك وما وقع من الاختلاف والاضطراب عقب وفاةالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأبو بكر الجوهري هذا عالم محدّث كثير الأدب، ثقة ورع، أثنى عليه المحدثون ورووا عنه مصنفاته)(1) .

وإنّما نبّهت إلى هذا لأنّ في المحدّثين والمؤرّخين من ينسب ابن أبي الحديد إلى التّشيّع، وذلك يؤدّي إلى نقض ما يورده مما يشكل به على مخالفي أهل البيت عليهم السّلام. قال إدوارد فنيك في معرض ذكر ابن أبي الحديد: أما ابن أبي الحديد فهو عبد الحميد بن هبة الله المدائني الشيعي المعتزليّ الكاتب المحسن الشّاعر المجيد؛ له كتاب الفلك الدائر على المثل السائر، قيل إنّه صنّفه في ثلاثة عشر يوما، وله أيضا ديوان شعر وغيرهما كثير(2) .

أقول: ولا يلام إدورد فنيك على هذا الخطا إذ كان شائعا بين المحدّثين والرّجاليّين والمؤرّخين؛ وفي اعتقادي أنّه خطأ متعمّد يرمي إلى سلب الحجّيّة عن كلّ ما يستدلّ به ابن أبي الحديد عند مناقشة الأحاديث والوقائع، وإلاّ فإنّه هو نفسه يردّ على علماء الشّيعة في أكثر من موطن في شرح نهج البلاغة، ويتتبّع عبارات الشّريف المرتضى واحدة واحدة قصد تفنيد مضمونها. وهذا الخلط المتعمّد منهم إنّما يقدح في نزاهتهم وأمانتهم، ويلب عنهم صفة الموضوعيّة. فالاختلاف بين الشّيعة والمعتزلة واضح في كلّ شيء، في العقائد والفقه والأصول وغيرها. وترى المعتزلة في الفقه يقلّدون أصحاب المذاهب، وليس شأن الشّيعة الإمامية كذلك. وللمعتزلة رأيهم في قضيّة الإمامة وهو مخالف لما عليه الشّيعة الإماميّة.

____________________

(1) شرح نهج البلاغة: ج 16 ص 210 باب ذكر ما ورد من السير والأخبار في أمر فدك. دار أحياء الكتب العربية ط، 1962 م.

(2) اكتفاء القنوع، ج 1 ص 344، اكتفاء القنوع بما هو مطبوع، إدوارد فنديك، صححه السيد محمد علي البيلاوي، دار صادر، بيروت، 1896 م.

٢٢

وقد تردّدت عبارة (شيعي معتزلي) في كتاب المغني في الضّعفاء (ج 1 ص 54 وج 2 ص 462) و كتاب ميزان الاعتدال في نقد الرّجال (ج 1 ص 280 وج 1 ص 369 وج 5 ص 217 وج 6 ص 502) وكتاب لسان الميزان (ج 5 ص 72 وج 4 ص 280 وج 1 ص 262 وج 6 ص 82) وكتاب تاريخ الإسلام للذهبيّ (ج 27 ص 398) وكتاب إيضاح المكنون في الذيل على كشف الظنون (ج 3 ص 181).

٢٣

٢٤

الفصل الأول

نسب عمر بن الخطّاب

٢٥

٢٦

نسب عمر

عمر بن الخطّاب عدويّ من قبيلة عديّ، وهي قبيلة شهد عليها أبو سفيان صخر بن حرب أنّها وقبيلة تيم أذلّ حيّ قريش(1) !، وقد اختلفوا في سنّه حين وفاته، وهو ما ينتج الاختلاف في سنة مولده، وسيأتي ذلك مفصّلا في فصل (وفاة عمر).

قال ابن قتيبة: كان الخطّاب بن نفيل من رجال قريش، وأمّه امرأة من فهم، وكانت تحتنفيل فتزوّجها عمرو بن نفيل بعد أبيه (!) فولدت له زيدا، فأمّه أمّ الخطاب، وزيد هذا هوأبو سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل أحد العشرة الذين بشّرهم رسول الله بالجنّة. فولد الخطّاب زيد بن الخطّاب وعمر بن الخطّاب(2) .

إذاً فقد تزوج عمّ عمر بن الخطّاب زوجة أبيه بعد هلاكه، وهو أمر تشمئزّ منه النّفوس بمقتضى الفطرة؛ ويشهد لذلك الوجدان في كلّ الثّقافات والملل دون الرّجوع إلى دين ما. فلا معنى لقول من يقول (كان ذلك في الجاهلية).

قال ابن قتيبة: (وأمّا عمر بن الخطّاب فيكنى أبا حفص وأمّه حنتمة بنت هشام بن المغيرة المخزومي)(3) . وبنو مخزوم هم الذين نزل فيهم قرآن بشهادة عمر نفسه. قال السّيوطي: (وأخرج ابن مردويه عن ابن عباسرضي‌الله‌عنه أنه قال لعمررضي‌الله‌عنه : يا أمير المؤمنين، هذه الآية( الّذِينَ بَدّلُوا نِعْمَتَ اللّهِ كُفْراً ) قال: هم الأفجران من قريش، أخوالي وأعمامك؛ فأمّا أخوالي فاستأصلهم الله يوم بدر، وأمّا أعمامك فأملى الله لهم إلى حين(4) .

والمقصود بالأخوال أبو جهل والوليد بن المغيرة وغيرهما من صناديد بني مخزوم.

وقد شهد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على بني مخزوم أنّهم يبغضونه ويبغضون أهل بيته. روى

____________________

(1) قال ابن عبد ربه في العقد الفريد ج 3 ص 271: فلما قدم [أبو سفيان] المدينة جعل يطوف في أزقتها ويقول:

بني هاشم لا تطمع الناس فيكم

ولا سيما تيم بن مرة أو عدي

فما الأمر إلا فيكم وإليكم

وليس لها إلا أبو حسن علي

فقال عمر لأبي بكر: إنّ هذا قد قدم، وهو فاعل شرّا، وقد كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يستألفه على الإسلام، فدع له ما بيده من الصدقة. ففعل، فرضي أبو سفيان.

(2) المعارف، ابن قتيبة، ج 1 ص 179.

(3) المعارف، ابن قتيبة، ج 1 ص 180.

(4) تفسير الطبري، ج 13 ص 219، وتفسير ابن كثير، ج 2 ص 540 وتفسير البحر المحيط، ج 5 ص 413. والدر المنثور، السيوطي، ج 5 ص 41.

٢٧

الحاكم حديثا يكشف حقيقة بني أميّة وبني مخزوم فقال: أخبرني محمّد بن المؤمل [..] عن أبي نضرة قال: قال أبو سعيد الخدريّرضي‌الله‌عنه قال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ أهلبيتي سيلقون من بعدي من أمّتي قتلا وتشريدا، وإنّ أشدّ قومنا لنا بغضنا بنو أميّة وبنو المغيرة وبنو مخزوم. قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه(1) . ونفس الحديث في فتن نعيم(2) . وفي هذا تصريح من النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ بني أميّة وبني مخزوم يبغضونه، فإنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال (وإنّ أشدّ قومنا لنا بغضا) ولم يقل (وإنّ أشدّ قومنا بغضا لأهل بيتي) كيما يتأوّل متأوّل. ومعلوم أنّ بغض النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يخرج صاحبه من دائرة الإيمان.

وأم عمر حنتمة بنت هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم أخت أبي جهل(3) . فتحصّل ممّا سبق أنّه ليس في نسب عمر ما يفتخر به لا من جهة الأب ولا من جهة الأمّ!

قال ابن أبي الحديد: قدم عمرو بن العاص على عمر وكان واليا لمصر، فقال له: في كم سرت؟ قال: في عشرين، قال عمر: لقد سرت سير عاشق. فقال عمرو: إنّي والله ما تأبّطتني الإماء ولا حملتني في غبرات المآلي، فقال عمر: والله ما هذا بجواب الكلام الذي سألتك عنه! وإنّ الدّجاجة لتفحص في الرّماد فتضع لغير الفحل، وإنّما تنسب البيضة إلى طرقها. فقام عمرو مربد الوجه. قلت: المآلي: خرق سود يحملها النوائح ويسرن بها بأيديهنّ عند اللّطم، وأراد خرق الحيض هاهنا وشبّهها بتلك، وأنكر عمر فخره بالأمّهات وقال: إنّ الفخر للأب الذي إليه النّسب. وسألت النّقيب أبا جعفر عن هذا الحديث في عمر فقال: إنّ عمرا فخر على عمر لأنّ أمّ الخطّاب زنجيّة، وترعف بباطحلى، تسمّى سهاك، فقلت له: وأمّ عمرو النّابغة أمة من سبايا العرب، فقال: أمة عربيّة من عنزة سبيت في بعض الغارات فليس يلحقها من النّقص عندهم ما يلحق الإماء

____________________

(1) المستدرك على الصحيحين ج 4، ص 534 والفتن لنعيم بن حماد ج 1، ص 131.

(2) ولعلّ الصواب بنو المغيرة من بني مخزوم، فإنّ الحديث وارد بهذا اللفظ في رواية أخرى لنعيم بن حماد في كتاب الفتن، ص 131 تحت رقم 319.

(3) مشاهير علماء الأمصار ن ج 1 ص 5.

٢٨

الزنجيات. فقلت له: أكان عمرو يقدم على عمر بمثل ما قلت؟ قال: قد يكون بلغه عنه قول قدح في نفسه فلم يحتمله له ونفث بما في صدره منه، وإن لم يكن جوابا مطابقا للسؤال(1) .

إذاً، فأمّ الخطّاب جدّة عمر بن الخطّاب زنجية، وقد عرض عمرو بن العاص به في قوله (ما تأبّطتني الإماء).

وقد كانت تبدر من عمر عبارات تشير إلى طفولته وعلاقته بأبيه، وهي علاقة تركت في نفس عمر مرارة بقي يتجرّع غصّتها حتّى في شيخوخته! وفي القصّة التّالية عبرة للمتدبّرين.

قال ابن كثير في المختصر: وعن أبي هريرة قال: خرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو غضبان محمرّ وجهه حتّى جلس على المنبر فقام إليه رجل فقال: أين أبي؟ قال: في النّار. فقام آخر فقال: من أبي؟ فقال: أبوك حذافة. فقام عمر بن الخطّاب فقال: رضينا بالله ربّا وبالإسلام دينا وبمحمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نبيّا وبالقرآن إماما؛ إنّا يا رسول الله حديثو عهد بجاهليّة وشرك، والله أعلم من آباؤنا. قال: فسكن غضبه ونزلت هذه الآية:( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ) الآية؛ إسناده جيد. وقد ذكر هذه القصّة مرسلة غير واحد من السّلف منهم السديّ(2) . فعمر بن الخطّاب في القصّة يعترف صريحا أنّه لا يدري من هو أبوه! وهو لم يقل (إنّ النّاس حديثو عهد بالجاهليّة ولا يعرفون من هم آباؤهم) وإنّما قال: (إنّا حديثو عهد بالجاهلية ولا ندري من هم آباؤنا)، فاستعمل ضمير المتكلّم وبذلك أدخل نفسه في المعنيّين.

____________________

(1) شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج 12 ص 39.

(2) مختصر ابن كثير، ج 1 ص 385 وانظر القصة في تفسير السمعاني ج 2 ص 71 وتفسير الثعلبي، ج 4 ص 113، والدر المنثور ج 3 ص 206 وتفسير أبي السعود ج 3 ص 85 وتفير ابن كثير، ج 2 ص 106 وتفسير البغوي ج 2 ص 69 وتفسير الطبري ج 7 ص 82 وزاد المسير ج 2 ص 433 وأحكام القرآن للجصاص، ج 4 ص 150 وتفسير الثعلبي، ج 4 ص 113 وفتح الباري، ج 8 ص 281 ومعتصر المختصر ج 2 ص 155 وجامع العلوم والحكم ج 1 ص 90 وتذكرة الأريب في تفسير الغريب، ج 1 ص 150.

٢٩

صفة عمر

قالوا في وصف عمر بن الخطّاب: كان طويلا آدم، أصلع، أعسر أيسر، يعني يعمل بيديه، وكان لطوله كأنه راكب، وقيل: كان أبيض أبهق يعني شديد البياض تعلوه حمزة طوالا أصلع أشيب، وكان يصفر لحيته ويرجّل رأسه، وكان مولده قبل الفجار بأربع سنين؛ وكان عمره خمسا وخمسين سنة، وقيل: ابن ستّين سنة، وقيل: ابن ثلاث وستّين سنة وأشهر. وهو الصّحيح، وقيل: ابن إحدى وستين(1) .

وفي تاريخ دمشق: كان رجلا طوالا أصلع آدم أعسر أيسر، ومات حين شارف الستّين، وقد اختلفوا في سنّه(2) .

قال الواقديّ: لا يعرف عندنا أنّ عمر كان آدم إلاّ أن يكون رآه عام الرّمادة فإنّه كان تغيّر لونه حين أكل الزيت(3) .

أقول: ولم لا يكون آدم ما دامت جدّته زنجيّة؟!

وأخرج ابن عساكر عن أبي رجاء العطاردي قال: كان عمر رجلا طويلا جسيما، أصلع شديد الصّلع، أبيض شديد الحمرة، في عارضيه خفّة، سبلته كبيرة وفي أطرافها صهبة(4) .

وفي الآحاد والمثاني: حدّثنا ابن مصفى حدّثنا سويد بن عبد العزيز عن حميد عن أنس قال: كان عمررضي‌الله‌عنه يخضب بالحنّاء(5) .

وقال الزمخشري: كان عمر بن الخطّابرضي‌الله‌عنه أضبط يعمل بكلتا يديه، وكان يخرج الضّاد من جانبي لسانه وهي أحد الأحرف الشّجريّة أخت الجيم والشين(6) .

____________________

(1) الكامل في التاريخ، ابن الأثير،ج 3 ص 53.

(2) تاريخ مدينة دمشق، ابن عساكر، ج 44 ص 478.

(3) تاريخ الخلفاء ج 1 ص 130.

(4) تاريخ الخلفاء ج 1 ص 131.

(5) الآحاد والمثاني ج 1 ص 99 تحت رقم 75.

(6) الكشاف، الزمخشري ن ج 1 ص 1345.

٣٠

أقول:

ماذا كان عمر يعمل بكلتا يديه؟ هل كان يصنع الدّروع أو يصقل السّيوف؟ هل كان حدّادا أو نجّارا أو ملاّحا؟! إنّما كان دلاّلا يجمع بين من يريد أن يبيع جملا ومن يريد أن يشتري جملا، وهذا عمل لا حاجة فيه لليدين! بل في تسميته عملا تجوّز.

وقال ابن حبيب البغدادي في تسمية الحول(1) من قريش: عمر بن الخطّاب، الفاروقرضي‌الله‌عنه ، وأبو لهب بن عبد المطّلب، وأبو جهل بن هشام، وزياد بن أبيه، وهشام بن عبد الملك بن مروان، وأبان بن عثمان بن عفان..(2) . وقال نفس الشيء في المحبّر(3) .

وإلى ذلك أشار المأمون فيما ذكره المزي في تهذيب الكمال قال:

قال أبو بكر محمد بن يحيى الصولي حدثنا أبو العيناء [..] واللّفظ لأبي العيناء قال: كنّا مع المأمون في طريق الشّام فأمر فنودي بتحليل المتعة، فقال لنا يحيى بن أكثم: بكّرا غدا إليه، فإن رأيتما للقول وجها فقولا، وإلاّ فأمسكا إلى أن أدخل. قال: فدخلنا إليه وهو يستاك ويقول وهو مغتاظ: (متعتان كانتا على عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعلى عهد أبي بكر وأنا أنهى عنهما) ومن أنت يا أحول حتى تنهى عما فعله النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأبوبكر؟! فأومأت إلى محمد بن منصور أن أمسك! رجل يقول في عمر بن الخطّاب ما يقول نكلمه نحن؟ فأمسكنا(4) !

أقول: ولم يكن المأمون ليستعمل عبارة الأحول في غير ملحّها وهو خليفة فيعاب عليه ذلك.

وعن عاصم عن زرّ قال: خرجتمع أهل المدينة في يوم عيد فرأيت عمر بن الخطّابرضي‌الله‌عنه يمشي حافيا، شيخا أصلع، آدم أعسر أيسر طوالا، مشرفا على النّاس كأنّه على دابّة، ببرد قطريّ، يقول: عباد الله هاجروا، ولا تهجروا وليتّق أحدكم الأرنب

____________________

(1) الحول جمع أحول وهو من مالت إحدى عينيه، وهذا يعني أن عمر بن الخطّاب كان أحول.

(2) المنمق، محمد بن حبيب البغدادي، ص 405.

(3) كتاب المحبر، محمد بن حبيب البغدادي 245.

(4) تهذيب الكمال، المزي، ج 31 ص 213 و 214.

٣١

يخذفها بالحصى أو يرميها بالحجر فياكلها، ولكن ليذكّ لكم الأسل، الرّماح والنّبل(1) .

وقال ابن أبي الحديد: كان [عمر] إذا غضب على واحد منهم لا يسكن غضبه حتى يعضّ على يديه عضّا شديدا فيدميها.

أقول: هذا فعل من لا يملك نفسه عند الغضب.

عن شعبة عن سماك أحسب عن رجل من قومه يقال له هلال بن عبد الله قال كان عمر يسرع يعني في مشيته، وكان رجلا آدم كأنه من رجال بني سدوس وكان في رجليه روح. و [..] عن نافع بن جبير بن مطعم قال صلع عمر فاشتد صلعه. وعن عامر بن عبد الله بن الزبير عن أسلم قال: رايت عمر إذا غضب أخذ بهذا واشار إلى سبلته فقال بها إلى فمه ونفخ فيه. و [..] عن عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه أن عمر بن الخطّاب أتاه رجل من أهل البادية فقال يا أمير المؤمنين بلادنا قاتلنا عليها في الجاهلية وأسلمنا عليها في الإسلام ثم تحمى علينا؟ فجعل عمر ينفخ ويفتل شاربه(2) .

وفي مصنّف عبد الرّزاق عن زياد بن حدير الأسدي قال: ما رأيت رجلا أدأب للسّواك من عمر بن الخطّاب وهو صائم، ولكن بعود قد ذوي يعني يابس(3) .

وعن مالك عن زيد بن أسلم عن عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه قال: كان عمررضي‌الله‌عنه إذا غضب فتل شاربه(4) .

أقول:

ليس من السنّة إطالة الشّارب؛ ففي صحيح البخاري عن ابن عمررضي‌الله‌عنه عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: من الفطرة قصّ الشارب(5) . وفي صحيح مسلم عن أنس بن مالك قال: قال أنس وقتلنا في قصّ الشارب وتقليم الأظفار ونتف الإبط وحلق العانة أن لا نترك

____________________

(1) المستدرك، الحاكم النيسابوري، ج 3 ص 81.

(2) الطبقات الكبرى، ج 3 ص 326.

(3) مصنف عبد الرزاق ج 4 ص 201 تحت رقم 7485.

(4) الآحاد والمثاني ج 1 ص 100 تحت رقم 78.

(5) صحيح البخاري ج 5 ص 2208 رقم 5549.

٣٢

أكثر من أربعين ليلة. وعن ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه أمر بإحفاء الشوارب وإعفاء اللحية.

وعن ابن عمر قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خالفوا المشركين، أحفوا الشوارب وأوفوا اللحى. وعن أبي هريرة قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جزّوا الشّوارب وأرخوا اللحى خالفوا المجوس(1) . وفي سنن النسائي الكبرى عن زيد بن أرقم قال سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول من لم يأخذ من شاربه فليس منا(2) . وعن عبد الله بن عمر قال: ذكر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المجوس فقال: إنّهم يوفّرون سبالهم ويحلقون لحاهم فخالفوهم. [قال] وكان ابن عمر يستعرض سبلته فجزها كما تجز الشاة أو يجز البعير(3) . عن أبي هريرة عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال الفطرة خمس الاختتان والاستحداد وقص الشارب وتقليم الأظفار ونتف الإبط(4) .

أقول: ثمّ أنت ترى معظم الروايات تجنّبت ذكر الحول؛ حتى الجاحظ الذي ألّف كتابا في الحولان والعميان والعرجان والبرصان من الأشراف والأعيان لم يذكر ذلك علما أنّه كان معاصرا لمحمد بن حبيب البغدادي(5) . ولو لا ما ذكره ابن حبيب البغدادي وما جرى على لسان المأمون لما وصل إلينا شيء من ذلك.

____________________

(1) صحيح مسلم، ج 1 ص 222.

(2) سنن النسائي الكبرى، ج 5 ص 406 تحت رقم 9293.

(3) سنن البيهقي الكبرى ج 1 ص 151.

(4) سنن النسائي الكبرى ج 1 ص 65. وحديث قص الشارب في المستدرك على الصحيحين ج 2 ص 293 والمسند المستخرج على صحيح مسلم ج 1 ص 315 ج 1 ص 316 ج 1 ص 318 وصحيح ابن حبان ج 12 ص 291 وصحيح ابن خزيمة ج 1 ص 47 والجمع بين الصحيحين ج 2 ص 200 ج 2 ص 653 والجمع بين الصحيحين ج 4 ص 204 وسنن أبي داود ج 1 ص 14 وسنن ابن ماجه ج 1 ص 94 ومسند أبي عوانة ج 1 ص 163 ومصنف ابن أبي شيبة ج 1 ص 178 ومصنف عبد الرزاق ج 1 ص 126 ومسند أبي يعلى ج 7 ص 198 ومسند إسحاق بن راهويه ج 2 ص 79 ومسند أحمد بن حنبل ج 2 ص 229 ومجمع الزوائد ج 5 ص 168.

(5) قال ابن خلكان: وكانت وفاة الجاحظ في المحرم سنة خمس وخمسين ومائتين بالبصرة. وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان ج 3 ص 474. وأما ابن حبيب البغدادي فتوفي سنة 245 هـ.

٣٣

تلكم كانت صفةعمر، ولا يصعب على رسّام ماهر أن يتتبّع العبارات ويترجمها على لوحته ليقدّم للنّاس صورة عمر بن الخطّاب؛ والذي لا شكّ فيه أن الصّلع والحول والرّوح والشارب الطّويل إذا اجتمعت لم تشر إلى الوسامة لا من قريب ولا من بعيد.

تربية عمر

لم يحظ عمر بن الخطّاب بطفولة هادئة، بل كانت طفولته كابوسا ظلّ يطارده حتّى الشيخوخة، فقد كان الخطاب يعامله بغلظة ويذهب معه إلى أبعد حدود العنف؛ وقد اعترف هو بنفسه بذلك أمام جمع كبير من النّاس. قال ابن المسيب: وحجّ عمر، فلمّا كان بضجنان قال: لا إله إلا الله العظيم العليّ المعطي ما شاء من شاء(1) ؛ كنت أرعى إبل الخطّاب في هذا الوادي في مدرعة صوف، وكان فظّا يتعبني إذا عملت ويضربني إذا قصّرت، وقد أمسيت وليس بيني وبين الله أحد(2) .

ومع أنّ عمر يصف أباه بالفظاظة إلاّ أنّه لا يتورّع أن يقسم به وهو يعلم أنّه مات على الشّرك. فعن نافع عن ابن عمر أنّه أدرك عمر بن الخطّاب في ركب وهو يحلف بأبيه فناداهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ألا إنّ الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، فمن كان حالفا فليحلف بالله وإلا فليصمت(3) .

وقد أثبت التجارب والنظريات العلمية الحديثة أنّ للطّفولة دورا مهمّا في تكوين شخصيّة الإنسان، وأنّ الطفولة التّعيسة تترك آثارا عميقة في نفوس أصحابها، وقد تدفعهم إلى العنف حتى مع أقرب المقرّبين؛ وذلك ما يدفع الباحث إلى محاولة الإطلال على طفولة عمر بن الخطّاب رغم قلّة النّصوص وحدّة مقصّ الرّقابة الذي

____________________

(1) هذه مغالطة من عمر، فإن الذي أعطاه الخلافة هو أبو بكر بن أبي قحافة، وهو ينسب ذلك إلى الله تعالى.

(2) الكامل في التاريخ، ج 2 ص 456 وتاريخ الطبري، ج 2 ص 575 وحجّة الله البالغة ج 1 ص 615 والاكتفاء ج 4 ص 399.

(3) صحيح البخاريّ ج 5 ص 2265 وصحيح البخاريّ وصحيح البخاريّ ج 5 ص 2265 وج 6 ص 2449 وج 6 ص 2450 وج 6 ص 2693، وصحيح مسلم ج 3 ص 1266 وصحيح مسلم ج 3 ص 1267.

٣٤

فرضته ثقافة الكرسيّ.

قال عمرو بن العاص لمحمّد بن مسلمة حين بعثه إليه عمر ليأخذ شطر ماله: لعن الله زمانا صرت فيه عاملا لعمر، والله لقد رأيت عمر وأباه على كلّ واحد منهما عباءة قطوانيّة لا تجاوز مأبض ركبتيه، وعلى عنقه حزمة حطب، والعاص بن وائل في مزرّرات الديباج(1) . وهذا يشير إلى مستوى الفقر الذي كان يكابده. فبالإضافة إلى العنف الذي يلاقيه من أبيه، كان هناك فقر مدقع بقي في ذاكرة عمرو بن العاص لشدّة ما كان عليه. وليس الفقر في ذاته عيبا، لكن إذا انضمّ إليه العنف والجهل كانت آثاره وخيمة. أضف إلى ذلك ظاهرة عامّة لم يستثن منها عمر، تتمثّل في عبادة الأصنام؛ وعليه تكون طفولة عمر بن الخطّاب عنفا وفقرا وعبادة أصنام، وهو مزيج لا يثبت له كهل في الأربعين، فكيف بصبيّ يعيش تحت سقف الخطّاب!

ومن حقّ الباحث أن يتساءل عن سبب العنف الذي كان الخطّاب يعامل به ابنه عمر، فقد كان للخطّاب ولد آخر اسمه زيد لم يؤثر عنه من التّشكّي ما أثر عن عمر، وقد بقي عمر يتجرّع الذكريات المريرة وهو في شيخوخته. ولعلّ الخطّاب تفرّس في ابنه عمر ما لم يبلغنا، ولعلّه كان يكره من عمر أمورا لم تصلنا، المهمّ أنّه ليس طبيعيّا أن يعامل رجل ولده بتلك الطّريقة ويخصّه بذلك دون سائر إخوته. ولعلّ ذلك أيضا ممّا يفسّر لنا تعامل عمر مع أبنائه، فقد كان خشنا معهم خشونة تأباها الفطرة ويأباها الذّوق السليم. روى عبد الرزاق في مصنفه عن عكرمة بن خالد قال: دخل ابن لعمر بن الخطّاب عليه، وقد ترجّل ولبس ثيابا حسانا، فضربه عمر بالدّرّة حتى أبكاه فقالت له حفصة: لم يكن فاحشا لم ضربته؟ فقال: رايته قد أعجبته نفسه فأحببت أن أصغّرها إليه(2) . فهل يعقل أن يضرب ولد صغير من طرف أبيه لأنّه أعجبته نفسه؟ لم لا يكون أمر آخر يستشفّ من وراء سلوك عمر وله علاقة بطفولة عمر؟ فهذا الولد على خلاف

____________________

(1) شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج 1 ص 175.

(2) مصنف عبد الرزاق، ج 10 ص 416 تحت رقم 19548.

٣٥

عمر تماما، فهو ابن الخليفة وعمر كان أبوه رجلا مغمورا لا في العير ولا في النّفير؛ وهو يلبس الثّياب الحسان، ويرجّل شعره، ويسمع الأذان وليس هناك أصنام تعبد، وأمامه مستقبل في ظلّ الإسلام، وعمر كان عليه عباءة قطوانية لا تجاوز مأبض ركبتيه، وعلى عنقه حزمة حطب. ألا يكون عمر بن الخطّاب قد حسد الولد على هذه النّعمة التي لم يحظ بها هو يوما واحداً؟! لقد كان حريّا بعمر أن يفرح لرؤية ولده في نعمة العافية، وكان حريّا به أن يحمد الله الذي وقى ولده شؤم الشّرك والجاهليّة والفقر، لكنّه تصرّف عكس ذلك تماماً، وحاسبه كما لو كان بالغا مكلّفا قد أتى جرما! ومثل هذا التّصرّف صدر من عمر مع ابن الزّبير؛ قال ابن تيمية: ولذلك لمّا رأى عمر بن الخطّاب على ابن الزّبير ثوبا من حرير مزّقه عليه فقال الزّبير: أفزعت الصّبيّ! فقال: لا تكسوهم الحرير(1) . وكان الزبير يدلّل ولده عبد الله.

ولعمر قصّة مماثلة مع كهل شريف في قومه؛ فعن الحسن قال: كان عمر قاعدا ومعه الدّرّة والنّاس حوله إذ أقبل الجارود فقال رجل: هذا سيّد ربيعة! فسمعه عمر ومن حوله وسمعه الجارود، فلما دنا منه خفقه بالدّرة، فقال: مالي ولك يا أمير المؤمنين؟ فقال: ما لي ولك! أما لقد سمعتها! قال: سمعتها فمه؟ قال: خشيت أن يخالط قلبك منها شيء فأحببت أن أطأطئ منك(2) .

أقول: حينما قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوموا إلى سيّدكم لم يستطع عمر أن يفعل شيئا بما أنّ الأمر يتعلّق بالزّعيم في قومه سعد بن معاذ، الذي استشهد فيما بعد، وحتى لو لم يكن سعد بن معاذ زعيما في قومه فإنّه ليس في وسع عمر أن يمعن في العنف بحضرة النّبي الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فاكتفى بقوله (سيدنا الله) وغفل عن أنّ في قوله هذا ردّا على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي ما ينطق عن الهوى؛ وقد أضفى القرآن صفة السّيادة على المؤمن وغير

____________________

(1) مجموع الفتاوى، ابن تيمية، ج 28 ص 114.

(2) كنز العمال، ج 3 ص 325 تحت رقم 8830.

٣٦

المؤمن، فقال عن يحي بن زكريا عليهما السلام (سيّدا وحصوا) وقال عن عزيز مصر (وألفيا سيّدها لدى الباب)، فكلام عمر بن الخطاب في هذا المقام مردود عليه. لكنّه لا يتحمّل أن يرى رجلا من الأنصار يشهد له النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنفسه أنّه سيّد، فقال ما قال من باب الحسد لا أكثر. أما ههنا فإن عمر بن الخطاب هو الحاكم، وسمع قول أحدهم للجارود (هذا سيّد ربيعة)، ولا ذنب للجارود في ذلك القول، ولا تزر وازرة وزر أخرى، ومع ذلك خفقه بالدرّة ولم يتعرّض للقائل!

وكما كان عمر قاسيا مع ولده الصغير كان قاسيا مع أولاده الكبار أيضا، فهذا ابنه عبد الرحمن الذي يقال له أبو شحمة شرب الخمر في مصر، وأقام عليه عمرو بن العاص الحدّ، لكنّ عمر أبى إلاّ أن يضيف إليه حدّا ثانيا لأنّه شوّه صورة آل الخطاب. ومع أنّ عبد الرحمن كان مريضا، ومع أنّه لا ينبغي إقامة حدّ الخمر على المريض حتى يبرأ خشية التّلف، إلاّ أنّ عمر أقام عليه الحدّ وكانت وفاته بعد ذلك بقليل، فكانوا يرون أنه مات بسبب ذلك.

قال ابن عبد البرّ: والحديث بذلك عند الزهريّ عن سالم عن أبيه رواه معمر وابن جريج عن الزهري عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه قال: شرب عبد الرحمن بن عمر بمصر خمرا قال كذا قال معمر - وقال ابن جريج شرابا مسكرا - في فتية منهم أبو سروعة عقبة بن الحارث فحدّهم عمرو بن العاص؛ وبلغ ذلك عمر فكتب إلى عمرو أن أبعث إلي بابني عبد الرحمن على قتب. فلمّا قدم عليه جلده عمر بيده الحدّ. قال ابن عمر: فزعم النّاس أنّه مات من ضرب عمر ولم يمت من ضربه. قال أبو عمر: جاء عن الشعبي عن يحيى بن أبي كثير وهو شيء منقطع أنّ عمر ضرب ابنه حدّا فأتاه وهو يموت فقال: يا أبت قتلتني! فقال له: إذا لاقيت ربك فأخبره أنّ عمر يقيم الحدود! وليس في هذا الخبر ما يقطع به على موته لو صحّ وحديث ابن عمر أصح(1) .

____________________

(1) الاستذكار، ابن عبد البر، ج 8 ص 6.

٣٧

أقول:

يقول ابن عمر (فزعم النّاس أنّه مات من ضرب عمر)، والنّاس في عهد ابن عمر إمّا صحابة وإمّا تابعون، ويبدو أنّ هذا القول منهم كان شائعاً، وأنّ القائلين به كانوا كثيرين، والدّليل على صحّة ما يذهبون إليه قول عبد الرحمن بن عمر (يا أبت قتلتني)، وهو ما يعني: (يا ابت إنّي مريض، وإقامة الحدّ على المريض قد تقتله؛ فلو تركتني حتى أتعافى). وجواب عمر له (إذا لاقيت ربّك فأخبره أنّ عمر يقيم الحدود!) ومعناه: (إذا متّ من أثر هذا الحدّ ولاقيت ربّك فأخبره أنّ عمر بن الخطاب يقيم الحدود، فلا لوم عليه إذا مات رجل من أثر الحدّ). فعبد الله بن عمر لا يقبل هذا، لأنّه يعزّ عليه أن يكون عمر قتل ابنه بتلك الطريقة المحرجة لآل الخطاب جميعا.

وقال ابن كثير: وفي هذه السّنة (سنة 14) ضرب عمر بن الخطّاب ابنه عبيد الله في الشّراب هو وجماعة معه(1) . وقال ابن الأثير: وفيها أعني سنة أربع عشرة ضرب عمر ابنه عبيد الله وأصحابه في شراب شربوه(2) .

أقول: وعبيدالله غير عبد الرحمن، وقد عاش عبيد الله وأدرك صفين وبها قتل، ومات عبد الرحمن بن عمر في حياة أبيه كما مرّ بك. وهذا يفيد أنّه كان لآل الخطاب ولع بالخمر بعد تحريمها، كما يفيد أنّه لم يبارك لعمر في أولاده.

آل عمر

فاقد الشّيء لا يعطيه، وعمر بن الخطّاب فاقد للمقوّمات الأساسيّة للتّربية الصّحيحة، وعلى رأسها الرّحمة. وإذا لم يكن المربّي رحيما فإنّه يحرم من يتربّى على يديه من أفضل شيء يتحلّى به آدميّ. ولأنّ الرّحمة ليس لها بديل، ولأنّها أهمّ ما يعدّ الإنسان للتّمسك بالقيم ورفض الأنانيّة والأثرة، ولأنّها العمدة في تقريب النّاس إلى الخير

____________________

(1) البداية والنهاية، ابن كثير، ج 7 ص 48.

(2) الكامل في التاريخ، ابن الأثير، ج 2 ص 336.

٣٨

وإبعادهم عن الشرّ، فإنّ الإسلام لم يفتأ يدعو إليها ويحثّ عليها ويرغّب فيها؛ ويكفي لذلك أن الله تعالى يفتتح سور كتابه الكريم ببسملة تتضمّن الرحمة مكرّرة، فهو الرحمن الرحيم. ومع أنّه العزيز الجبّار، المنتقم، المقتدر المتكبّر، شديد العقاب، ذو الطّول، إلاّ أنّه يخاطب عباده بـ (الرّحمن الرّحيم). ويصعب علينا أن نصف أمثال عمر بن الخطّاب بالرّحمة وهو الذي يذكر عنه أنه وأد ابنته، أي دفنها حية تتنفّس!! حتّى البهائم ترحم صغارها، حتّى الوحوش ترحم صغرها وتدافع عنها حتى الموت، لكنّ الآدميّ الذي خلا قلبه من الرّحمة لا يستنكف أن يدفن صغيرته حيّة ويهيل عليها التراب من دون جرم أتته. ويصعب علينا أن ندّعي أن عمر بن الخطّاب اكتسب الرّحمة بعد إسلامه، ولو حاولنا أن ندّعي له ذلك لهجمت علينا صور كثيرة ومشاهد عديدة من مشاهد العنف أحدها مشهده وهو يجمع الحطب ويهدّد بتحريق بيت فاطمة بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفي البيت حسن وحسين وزينب وأم كلثوم! لم يغيّر الإسلام من عمر بن الخطّاب إلاّ المظهر، أمّا باطنه فبقي هو هو؛ هو الذي دفن ابنته حيّة، وهو الذي أراد أن يحرّق بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأبناءها وهم أحياء.هذا الرّجل بهذه القسوة هو والد كلّ من عبد الله بن عمر وعبيد الله بن عمر وعبد الرحمن بن عمر وعاصم بن عمر وحفصة بنت عمر.. ويجمع هؤلاء جميعا بغض آل محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

قال زيني دحلان في السيرة الحلبية: وأما فضل التّسمية بهذا الاسم أعني محمدا فقد جاء في أحاديث كثيرة وأخبار شهيرة أي منها أنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: قال الله تعالى وعزتي وجلالي لا أعذب أحدا تسمّى باسمك في النّار أي باسمك المشهور وهي محمد أو أحمد. ومنها: ما من مائدة وضعت فحضر عليها من اسمه أحمد ومحمّد، وفي رواية فيها اسمي إلاّ قدّس الله ذلك المنزل كلّ يوم مرّتين. ومنها: يوقف عبدان اسم أحدهما أحمد والآخر محمد بين يدي الله تعالى فيؤمر بهما إلى الجنة فيقولان ربّنا بم استأهلنا الجنة لوم نعمل عملا تجازينا به الجنّة؟ فيقول الله تعالى: ادخلا الجنّة فإنّي آليت على نفسي أن لا يدخل النّار من اسمه أحمد أو محمّد. لكن قال بعضهم: ولم يصحّ في

٣٩

فضل التّسمية بمحمّد حديث، وكلّ ما ورد فيه فهو موضوع! قال بعض الحفّاظ: وأصحّها أي أقربها للصحّة من ولد له مولود فسمّاه محمّدا حبّا لي وتبرّكا باسمي كان هو ومولوده في الجنة(1) .

أقول: ولم يثبت أنّ عمر بن الخطاب سمّى أحد أبنائه أحمد أو محمّدا.

عبد الله بن عمر:

كان هذا الرّجل ممن يصطاد الدّنيا بالدّين، فكان يتعبّد حتى تنهكه العبادة، لكنّه في نفس الوقت لا يأنف أن يركن إلى الذين ظلموا ويعتبر حكمهم شرعيّا مسئولا عنه أمام الله تعالى، وموقفه من أهل المدينة في واقعة الحرّة معلوم، وهو موقف لا ينمّ إلاّ عن خنوع واستكانة ورضا بالباطل. وله مع ذلك أخبار تكشف عن حقيقته ومدى فهمه للإسلام. وقد كان يحدث نفسه بالخلافة أيام الفتنة وهو الذي لم يحسن طلاق امرأته، وبقي يحلم بذلك إلى أن قطع أمله معاوية ببيعة يزيد وواجهه بما لا يصبر عنه أبيّ شريف. وهو أيضا صاحب الرّوايات العجيبة في تفضيل أبيه على المطهّرين بنصّ كتاب الله الكريم، وحاشا لذي العرش أن يفضّل من عبد الصّنم عشرات السنين على من تربّى في حجر النّبي الأمين ولم يشرك بالله طرفة عين. ولا يرتاب كاتب هذه السّطور في أنّ عبد الله بن عمر من النّواصب الذين يبغضون علي بن أبي طالب عليه السلام، فإنّه لم يكن يعدّه من الخلفاء، مع أنّه كان لا يتردّد في شرعيّة حكم يزيد بن معاوية، وهذا ما لا يقول به إلاّ من انتكست فطرته وعميت بصيرته وأضلّه الله على علم.

عن نافع قال: دخل ابن عمررضي‌الله‌عنه الكعبة فسمعته وهو ساجد يقول: (قد تعلم ما يمنعني من مزاحمة قريش على هذه الدّنيا إلاّ خوفك(2) .

أقول: يرد عليه قول أبيه عمر في حقّه، وهو أعلم به من غيره، (إنّه لا يصلح للخلافة) وقد عاب عليه أنّه لم يحسن طلاق امرأته. ولقد كانت له مواقف خزي مع بني أميّة

____________________

(1) السيرة الحلبية، ج 1 ص 135.

(2) حلية الأولياء، ج 1 ص 292.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564