الفاطمة المعصومة (سلام الله عليها)

الفاطمة المعصومة (سلام الله عليها)30%

الفاطمة المعصومة (سلام الله عليها) مؤلف:
تصنيف: النفوس الفاخرة
الصفحات: 254

  • البداية
  • السابق
  • 254 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 40588 / تحميل: 6534
الحجم الحجم الحجم
الفاطمة المعصومة (سلام الله عليها)

الفاطمة المعصومة (سلام الله عليها)

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

فلها ما كان يجري عليها في حياتي، إن رأى ذلك، ومن خرجت منهن إلى زوج فليس لها أن ترجع إلى محواي، إلا أن يرى علي غير ذلك، وبناتي بمثل ذلك، ولا يزوج بناتي أحد من إخوتهن من أمهاتهن، ولا سلطان ولا عم إلا برأيه ومشورته، فإن فعلوا غير ذلك فقد خالفوا الله ورسوله وجاهدوه في ملكه، وهو أعرف بمناكح قومه، فإن أراد أن يزوج زوج، وإن أراد أن يترك ترك، وقد أوصيتهن بمثل ما ذكرت في كتابي هذا، وجعلت الله عز وجل عليهن شهيدا(١) .

ويستفاد منها أن الأمر حساس وخطير، وهو يتطلب بصيرة نافذة، ومعرفة تامة بمداخل القضايا ومخارجها، ولذلك أوكل أمر زواج بناتهعليه‌السلام إلى الإمام الرضاعليه‌السلام ، وهو المعصوم العالم بحقائق الأمور، وكان الظرف ظرف محنة وابتلاء كما يدل عليه حديث الإمام الكاظمعليه‌السلام ليزيد بن سليط الزيدي حيث قال: ثم قال لي أبو إبراهيمعليه‌السلام :

إني أوخذ في هذه السنة، والأمر هو إلى ابني علي، سمي علي وعلي، فأما علي الأول فعلي بن أبي طالب، وأما الآخر فعلي بن الحسينعليهما‌السلام ، أعطي فهم الأول وحلمه ونصره ووده ودينه ومحنته، ومحنة الآخر وصبره على ما يكره(٢) ....

____________________

(١) الأصول من الكافي ج ١ باب الإشارة والنص على أبي الحسن الرضاعليه‌السلام الحديث ١٥ ص ٣١٦ - ٣١٧.

(٢) الأصول من الكافي ج ١ باب الإشارة على أبي الحسن الرضاعليه‌السلام الحديث ١٤ ص ٣١٥.

١٠١

وليس في هذه الوصية ما يدل على المنع من التزويج، وإنما تدل على أن الأمر إلى الإمام الرضاعليه‌السلام ، فهو الأعرف بمناكح قومه، وهو الأعلم بأحوال زمانه.

فما ذكره اليعقوبي في تاريخه(١) من أن الإمامعليه‌السلام أوصى بعدم تزويج بناته فإن كان مستنده هو وصية الإمامعليه‌السلام التي ذكرناها فقد أخطأ في الاستنتاج، وإن كان غيرها فلم نقف عليه، ولا نستبعد أنه قد التبس عليه الأمر وفهم من الوصية أن الإمام قد منع من تزويج بناته، وليس الأمر كذلك.

ثم إنه من خلال ما تقدم ذكره من الأمور الخمسة يمكننا استفادة السبب وراء عدم زواج بنات الإمام الكاظمعليه‌السلام .

والذي يترجح من جميع ذلك أن السبب أمران أحدهما يكمل الآخر، وهما:

الأول: عدم وجود الكفؤ.

والثاني: الخوف من الإقدام على مصاهرة الإمامعليه‌السلام .

أما الأول فإن الفقهاء وإن اختلفوا في تحديد معنى الكفاءة، ولهم في ذلك أقوال وآراء ذكرها صاحب الجواهر(٢) وغيره إلا أنهم اتفقوا على أن المؤمن كفوء المؤمنة.

وقد روي عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال: المؤمنون بعضهم أكفاء بعض(٣) .

____________________

(١) تاريخ اليعقوبي ج ٢ ص ٤١٥.

(٢) جواهر الكلام ج ٣٠ ص ٩٢ - ١١٦.

(٣) من لا يحضره الفقيه ج ٣ - كتاب النكاح - باب الأكفاء الحديث ٥ ص ٢٤٩.

١٠٢

وخلافهم إنما هو في زواج المرأة الشريفة ممن هو أدنى منها، وأما العكس فلا خلاف بينهم في جوازه، على أن الخلاف في ذلك مما لا يعتد به، كما صرح به صاحب الجواهر حيث قال: (و) كيف كان فلا إشكال ولا خلاف معتد به في أنه (يجوز) عندنا (إنكاح الحرة العبد، والعربية العجمي، والهاشمية غير الهاشمي، وبالعكس، وكذا أرباب الصنائع الدنية) كالكناس والحجام وغيرهما (بذات الدين) من العلم والصلاح (والبيوتات) وغيرهم، لعموم الأدلة، وخصوص ما جاء في تزويج جويبر الدلفاء، ومنجح بن رباح مولى علي بن الحسينعليهما‌السلام بنت ابن أبي رافع...(١) .

والحاصل إجمالا: أن سيرة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمةعليهم‌السلام كانت على ذلك، مضافا إلى الروايات الكثيرة الواردة عنهمعليهم‌السلام الدالة على الجواز، نعم اختصت الصديقة الزهراءعليها‌السلام بهذا الشأن من دون سائر النساء، فقد روي عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال: إنما أنا بشر مثلكم أتزوج فيكم وأزوجكم إلا فاطمة، فإن تزويجها نزل من السماء(٢) .

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لولا أن الله خلق أمير المؤمنين لم يكن لفاطمة كفو على وجه الأرض، آدم فمن دونه(٣) .

وأما ما عدا فاطمة الزهراءعليها‌السلام من النساء فليست لها هذه

____________________

(١) جواهر الكلام ج ٣٠ ص ١٠٦ - ١٠٧.

(٢) الفروع من الكافي ج ٥ كتاب النكاح باب نوادر الحديث ٥٤ ص ٥٦٨.

(٣) بحار الأنوار ج ٤٣ ص ١٠٧.

١٠٣

الخصوصية، وإنما يتبع فيها الشرائط العامة في الزواج من الدين والخلق وغيرهما مما ذكره الفقهاء ورووه عن الأئمةعليهم‌السلام وتفصيل هذه المسألة بجميع أبعادها مبسوطة في كتب الفقه الاستدلالية.

وغرضنا من ذلك الإشارة إلى أنه لا شك في توفر الشرائط في بعض الأشخاص في زمان الإمام الكاظمعليه‌السلام .

ولكن ما جرى على العلويين من الأحداث حال دون ذلك، فإن حملات الإبادة من القتل والتشريد لبني هاشم ما أبقت منهم إلا القليل، فإن المسلسل الدامي بدأ مع بداية عهد المنصور، وقد تتبع العلويين، فمنهم من قتل في ميادين الحروب، ومنهم من قتل تحت الأنقاض حيث أمر المنصور بهدم السجن عليهم أو وضعوا في أساس البناء أحياء فماتوا اختناقا، ومنهم من اغتيل بالسم، ومنهم من قتل صبرا واحتفظ برؤوسهم في خزانة ولم يطلع عليها إلا بعض أهل بيته.

يقول الطبري في تاريخه لما عزم المنصور على الحج دعا ريطة بنت أبي العباس امرأة المهدي، وكان المهدي بالري قبل شخوص أبي جعفر، فأوصاها بما أراد، وعهد إليها، ودفع إليها مفاتيح الخزائن، وتقدم إليها وأحلفها، ووكد الإيمان أن لا تفتح بعض تلك الخزائن، ولا تطلع عليها أحدا إلا المهدي، ولا هي إلا أن يصح عندها موته، فإذا صح ذلك اجتمعت هي والمهدي وليس معهما ثالث حتى يفتحا الخزانة، فلما قدم المهدي من الري إلى مدينة السلام، دفعت إليه

١٠٤

المفاتيح، وأخبرته أنه تقدم إليها ألا يفتحه ولا يطلع عليه أحد حتى يصح عندها موته، فلما انتهى إلى المهدي موت المنصور، وولي الخلافة فتح الباب ومعه ريطة، فإذا أزج كبير فيه جماعة من قتلى الطالبيين، وفي آذانهم رقاع فيها أنسابهم، وإذا فيهم أطفال، ورجال شباب، ومشايخ عدة كثيرة، فلما رأى ذلك المهدي ارتاع لما رأى، وأمر فحفرت لهم حفيرة فدفنوا فيها، وعمل فوقها دكان(١) .

ومنهم من سلم من القتل ولكنه لم يسلم من التشرد فهام في البلدان متنكرا، وقد أخفى اسمه ونسبه، ومن ذلك ما رواه أبو الفرج الاصفهاني في مقاتل الطالبيين من أحوال عيسى بن زيد الذي توارى عن المنصور العباسي زمانا طويلا حتى مات متواريا، ولم يطلع زوجته وابنته على اسمه ونسبه.

روى أبو الفرج بسنده عن محمد بن المنصور المرادي قال: قال يحيى بن الحسين بن زيد: قلت لأبي: يا أبه، إني أشتهي أن أرى عمي عيسى بن زيد، فإنه يقبح بمثلي أن لا يلقى مثله من أشياخه، فدافعني عن ذلك مدة، وقال: إن هذا أمر يثقل عليه، وأخشى أن ينتقل عن منزله كراهية للقائك إياه فتزعجه، فلم أزل به أداريه وألطف به حتى طابت نفسه لي بذلك، فجهزني إلى الكوفة، وقال لي: إذا صرت إليها فاسأل عن دور بني حي، فإن دللت عليها فاقصدها في السكة الفلانية،

____________________

(١) تاريخ الطبري ج ٨ ص ١٠٤ - ١٠٥.

١٠٥

وسترى في وسط السكة دارا لها باب، صفته كذا وكذا، فاعرفه واجلس بعيدا منها في أول السكة فإنه سيقبل عليك عند المغرب كهل طويل مسنون (مستور) الوجه، قد أثر السجود في جبهته، عليه جبة صوف، يستقي الماء على جمل [وقد انصرف يسوق الجمل]، لا يضع قدما ولا يرفعها إلا ذكر الله عز وجل، ودموعه تنحدر، فقم وسلم عليه وعانقه، فإنه سيذعر منك كما يذعر الوحش، فعرفه نفسك، وانتسب له، فإنه يسكن إليك، ويحدثك طويلا، ويسألك عنا جميعا، ويخبرك بشأنه ولا يضجر بجلوسك معه، ولا تطل عليه، وودعه، فإنه يستعفيك من العودة إليه، فافعل ما يأمرك به من ذلك، فإنك إن عدت إليه توارى عنك واستوحش منك، وانتقل عن موضعه، وعليه في ذلك مشقة، فقلت: أفعل ما أمرتني، ثم جهزني إلى الكوفة وودعته وخرجت، فلما وردت الكوفة قصدت سكة بني حي بعد العصر، فجلست خارجها بعد أن تعرفت الباب الذي نعته لي، فلما غربت الشمس إذا أنا به قد أقبل يسوق الجمل، وهو كما وصف لي أبي لا يرفع قدما ولا يضعها إلا حرك شفتيه بذكر الله، ودموعه ترقرق في عينيه، وتذرف أحيانا، فقمت فعانقته فذعر مني كما يذعر الوحش من الإنس، فقلت: يا عم أنا يحيى بن الحسين بن زيد ابن أخيك، فضمني إليه، وبكى حتى قلت:

قد جاءت نفسه، ثم أناخ جمله وجلس معي، فجعل يسألني عن أهله رجلا رجلا، وامرأة امرأة، وصبيا صبيا، وأنا أشرح له أخبارهم، وهو

١٠٦

يبكي، ثم قال: يا بني أنا أستقي على هذا الجمل الماء، فأصرف ما أكتسب يعني من أجرة الجمل إلى صاحبه وأتقوت باقيه، وربما عاقني عائق عن استقاء الماء فأخرج إلى البرية، يعني بظهر الكوفة فألتقط ما يرمي الناس به من البقول فأتقوته. وقد تزوجت إلى هذا الرجل ابنته، وهو لا يعلم من أنا إلى وقتي هذا، فولدت مني بنتا، فنشأت، وبلغت وهي أيضا لا تعرفني ولا تدري من أنا، فقالت: لي أمها: زوج ابنتك بابن فلان السقاء - لرجل من جيراننا يسقي الماء - فإنه أيسر منا، وقد خطبها، وألحت علي فلم أقدر على إخبارها بأن ذلك غير جائز، ولا هو بكفؤ لها، فيشيع خبري، فجعلت تلح علي فلم أزل أستكفي الله أمرها حتى ماتت بعد أيام، فما أجدني آسى على شئ من الدنيا أساي على أنها ماتت ولم تعلم بموضعها من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وذكر أبو الفرج أن عيسى بن زيد بقي متواريا إلى أن مات في زمان المهدي العباسي، روى بسنده عن يعقوب بن داود، قال: دخلت مع المهدي في قبة في بعض الخانات في طريق خراسان، فإذا حائطها عليه أسطر مكتوبة، فدنا ودنوت معه، فإذا هي هذه الأبيات:

والله ما أطعم طعم الرقاد

خوفا إذا نامت عيون العباد

شردني أهل اعتداء وما

أذنبت ذنبا غير ذكر المعاد

آمنت بالله ولم يؤمنوا

فكان زادي عندهم شر زاد

أقول قولا قاله خائف

مطرد قلبي كثير السهاد

١٠٧

منخرق الخفين يشكو الوجى

تنكبه أطراف مرو حداد

شرده الخوف فأزرى به

كذاك من يكره حر الجلاد

قد كان في الموت له راحة

والموت حتم في رقاب العباد

قال: فجعل المهدي يكتب تحت كل بيت: لك الأمان من الله ومني، فاظهر متى شئت، حتى كتب ذلك تحتها أجمع، فالتفت فإذا دموعه تجري على خده فقلت له: من ترى قائل هذا الشعر يا أمير المؤمنين؟

قال: أتتجاهل علي؟ من عسى أن يقول هذا الشعر إلا عيسى بن زيد(١) .

ولكن لما بلغه موت عيسى بن زيد اعتبر ذلك بشرى وحول وجهه إلى المحراب وسجد وحمد الله. وكان يجد في طلبه حتى أنه حبس بعض أصحابه ثم قتلهم لأنهم لم يخبروه بموضع اختفائه(٢) .

وعهده وإن لم يكن كعهد أبيه شدة وبطشا إلا أنه ورث منه العداء لأهل البيتعليهم‌السلام ، الذي كان يعتقد أن لا بقاء له في الحكم والسلطان إلا بالقضاء على العلويين وشيعتهم.

حتى إذا جاء عهد ابنه موسى الهادي الذي اتصف بنزعات الشر والطيش والتمادي في سفك الدماء، فنقم عليه القريب والبعيد وبغضه الناس جميعا، وقد حقدت عليه أمه الخيزران، وبلغ بها الغيظ والكراهية له أنها هي التي قتلته(٣) .

وفي زمانه حدثت واقعة فخ التي ضارعت مأساة كربلاء في آلامها

____________________

(١) مقاتل الطالبيين ص ٤٠٨ - ٤١٢.

(٢) مقاتل الطالبيين ص ٤٢٢ وص ٤٢٧.

(٣) حياة الإمام موسى بن جعفرعليهما‌السلام ج ١ ص ٤٥٧.

١٠٨

وشجونها، وقد تحدث الإمام الجوادعليه‌السلام عن مدى أثرها البالغ على أهل البيتعليهم‌السلام بقوله: لم يكن لنا بعد الطف - يعني كربلاء - مصرع أعظم من فخ(١) .

فقد حملت فيها رؤوس العلويين وتركت جثثهم في العراء، وسيقت الأسرى من بلد إلى بلد، وقد قيدوا بالحبال والسلاسل، ووضعوا في أيديهم وأرجلهم الحديد، وأدخلوا على الهادي العباسي فأمر بقتل بعضهم فقتلوا صبرا وصلبوا على باب الجسر ببغداد(٢) .

ولم يكن عهد الرشيد بأحسن حالا، يقول الشيخ القرشي: وورث هارون من جده المنصور البغض العارم والعداء الشديد للعلويين، فقابلهم منذ بداية حكمه بكل قسوة وجفاء، وصب عليهم جام غضبه، وقد أقسم على استئصالهم وقتلهم، فقال: والله لأقتلنهم - أي العلويين - ولأقتلن شيعتهم.

وأرسل طائفة كبيرة منهم إلى ساحات الإعدام، ودفن قسما منهم وهم أحياء، وأودع الكثيرين منهم في ظلمات السجون، إلى غير ذلك من المآسي الموجعة التي صبها عليهم...

لقد كان الرشيد شديد الوطأة على عترة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكانوا على علم بمقته وبغضه لهم، فحينما علموا بخلافته هاموا على وجوههم

____________________

(١) سر السلسلة العلوية ص ١٤ - ١٥.

(٢) تاريخ الطبري ج ٨ ص ١٩٨ - ٢٠٠ والكامل في التاريخ ج ٦ ص ٩٣.

١٠٩

في القرى والأرياف، متنكرين لئلا يعرفهم أحد(١) .

وقد أمر الرشيد حميد بن قحطبة أن يقتل ستين علويا في ليلة واحدة، روى الصدوق بسنده عن أبي الحسين أحمد بن سهل بن ماهان، قال: حدثني عبيد الله البزاز النيسابوري، وكان مسنا قال: كان بيني وبين حميد بن قحطبة الطائي الطوسي معاملة، فرحلت إليه في بعض الأيام فبلغه خبر قدومي، فاستحضرني للوقت وعلي ثياب السفر لم أغيرها، وذلك في شهر رمضان وقت صلاة الظهر، فلما دخلت عليه رأيته في بيت يجري فيه الماء، فسلمت عليه وجلست فأتي بطشت وإبريق فغسل يديه، ثم أمرني فغسلت يدي، وأحضرت المائدة وذهب عني أني صائم، وأني في شهر رمضان، ثم ذكرت فأمسكت يدي، فقال لي حميد: مالك لا تأكل؟ فقلت: أيها الأمير هذا شهر رمضان، ولست بمريض ولا بي علة توجب الإفطار، ولعل الأمير له عذر في ذلك، أو علة توجب الإفطار، فقال: ما بي علة توجب الإفطار وإني لصحيح البدن، ثم دمعت عيناه وبكى، فقلت له بعد ما فرغ من طعامه: ما يبكيك أيها الأمير؟ فقال: أنفذ إلي هارون الرشيد وقت كونه بطوس في بعض الليل أن أجب، فلما دخلت عليه رأيت بين يديه شمعة تتقد وسيفا أخضر مسلولا، وبين يديه خادم واقف، فلما قمت بين يديه رفع رأسه إلي فقال: كيف طاعتك لأمير المؤمنين؟ فقلت:

____________________

(١) حياة الإمام موسى بن جعفرعليهما‌السلام ج ٢ ص ٧٤ - ٧٥.

١١٠

بالنفس والمال، فأطرق، ثم أذن لي في الانصراف، فلم ألبث في منزلي حتى عاد الرسول إلي وقال أجب أمير المؤمنين، فقلت في نفسي: إنا لله، أخاف أن يكون قد عزم على قتلي، وإنه لما رآني استحى مني، قعدت بين يديه فرفع رأسه إلي فقال: كيف طاعتك لأمير المؤمنين؟ فقلت: بالنفس والمال والأهل والولد، فتبسم ضاحكا، ثم أذن لي في الانصراف، فلما دخلت منزلي لم ألبث أن عاد إلي الرسول فقال: أجب أمير المؤمنين فحضرت بين يديه وهو على حاله فرفع رأسه إلي وقال لي: كيف طاعتك لأمير المؤمنين؟ فقلت: بالنفس والمال والأهل والولد والدين، فضحك، ثم قال لي: خذ هذا السيف وامتثل ما يأمرك به الخادم، قال: فتناول الخادم السيف وناولنيه، وجاء إلى بيت بابه مغلق، ففتحه، وإذا فيه بئر في وسطه وثلاثة بيوت أبوابها مغلقة، ففتح باب بيت منه فإذا فيه عشرون نفسا عليهم الشعور والذوائب شيوخ وكهول وشبان مقيدون، فقال لي: إن أمير المؤمنين يأمرك بقتل هؤلاء، وكانوا كلهم علوية من ولد علي وفاطمةعليهما‌السلام ، فجعل يخرج إلي واحدا بعد واحد، فأضرب عنقه، حتى أتيت على آخرهم، ثم رمى بأجسادهم ورؤوسهم في تلك البئر، ثم فتح باب بيت آخر فإذا فيه أيضا عشرون نفسا من العلوية، من ولد علي وفاطمةعليهما‌السلام مقيدون، فقال لي: إن أمير المؤمنين يأمرك بقتل هؤلاء، فجعل يخرج إلي واحدا بعد واحد، فأضرب عنقه، ويرمي به في تلك البئر، حتى

١١١

أتيت على آخرهم، ثم فتح باب البيت الثالث فإذا فيه مثلهم عشرون نفسا من ولد علي وفاطمةعليهما‌السلام مقيدون عليهم الشعور والذوائب، فقال لي: إن أمير المؤمنين يأمرك بقتل هؤلاء أيضا، فجعل يخرج إلي واحدا بعد واحد، فأضرب عنقه، ويرمى به في تلك البئر، حتى أتيت على تسعة عشر نفسا منهم، وبقي شيخ منهم عليه شعر، فقال لي: تبا لك يا ميشوم أي عذر لك يوم القيامة إذا قدمت على جدنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد قتلت من أولاده ستين نفسا قد ولدهم علي وفاطمةعليهما‌السلام ؟ فارتعشت يدي وارتعدت فرايصي، فنظر إلي الخادم مغضبا وزبرني فأتيت على ذلك الشيخ أيضا فقتلته، ورمى به في تلك البئر، فإذا كان فعلي هذا وقد قتلت ستين نفسا من ولد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فما ينفعني صومي وصلاتي، وأنا لا أشك أني مخلد في النار(١) .

وقيل: إن هذه الواقعة حدثت في زمان المنصور، ولعلها تكررت، ولذا قال الصدوق: للمنصور مثل هذه الفعلة في ذرية رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢) .

وعلى أي تقدير فإنها إحدى الشواهد على ما نقول.

وبعد: فإذا كان هكذا حال العلويين، فهل يبقى لأحدهم مجال للاقتران بواحدة من بنات الإمامعليه‌السلام ويستقر في حياة زوجية هانئة، وهو يعلم أن حياته في خطر؟!

____________________

(١) عيون أخبار الرضا ج ١ ص ١٠٨ - ١١١.

(٢) عيون أخبار الرضا ج ١ ص ١١١.

١١٢

إن ما ذكرته بعض المصادر(١) من أن عدم تزويج الإمامعليه‌السلام بناته إنما هو لعدم وجود الكفؤ لم يكن على خلاف الواقع، فإن ما حل بأهل البيتعليهم‌السلام من الكوارث وحملات الإبادة قد أفنتهم ولم تدع منهم إلا القليل.

وربما يقال: إذا كان هذا حال العلويين ففي رجالات الشيعة من توفرت فيه سائر الشرائط، فلم لم يزوج الإمام الكاظمعليه‌السلام بناته من الشيعة، إذ ليس من الضروري أن يكون الزوج علويا ما دامت الكفاءة من الإيمان والخلق في غير العلوي متحققة؟

ونقول: إننا قد ذكرنا أن هناك أمرا آخر نعتبره مكملا للأمر الأول وهو الخوف من الإقدام على مصاهرة الإمامعليه‌السلام ، فلم يكن الشيعة آمنين على أرواحهم، وقد بلغهم أن هارون الرشيد قد أقسم على أن يقتل الشيعة كما أقسم على إبادة العلويين.

وقد عانى الشيعة من الشدائد ما لا يخفى، وكانوا يعيشون التقية في أمورهم كما أمرهم أئمتهمعليهم‌السلام بذلك، وأصبحت حياتهم آنذاك مهددة بالأخطار، وكان الحكام لهم بالمرصاد.

ومما يدل على ذلك ما ورد في أحوال محمد بن أبي عمير، حيث روي عن الفضل بن شاذان أنه قال: سعي بمحمد بن أبي عمير إلى السلطان أنه يعرف أسامي عامة الشيعة بالعراق، فأمره السلطان أن

____________________

(١) تاريخ قم ص ٢٢١ ومنتهى الآمال ج ٢ ص ٢٨٠ - ٢٨١.

١١٣

يسميهم فامتنع، فجرد وعلق بين القفازين (العقارين) وضرب مائة سوط، قال الفضل: فسمعت ابن أبي عمير يقول: لما ضربت فبلغ الضرب مائة سوط، أبلغ الضرب الألم إلي فكدت أن أسمي، فسمعت نداء محمد بن يونس بن عبد الرحمن يقول: يا محمد ابن أبي عمير أذكر موقفك بين يدي الله تعالى، فتقويت بقوله فصبرت ولم أخبر، والحمد لله.

وقال: ضرب ابن أبي عمير مائة خشبة وعشرين خشبة بأمر هارون لعنه الله، تولى ضربه السندي بن شاهك على التشيع...(١) ويدل على ذلك أيضا ما جاء في أحوال هشام بن الحكم، فإنه عاش في آخر أيامه مشردا حتى مات من الخوف في قصة طويلة ذكرها علماء الرجال(٢) .

وغيرها من القضايا التي كان الشيعة فيها كأئمتهمعليهم‌السلام في المعاناة والخوف.

وإذا كان هذا حال الشيعة فهل ترى أن أحدا منهم يقدم على مصاهرة الإمامعليه‌السلام وقد تربصت العيون بهم الدوائر، والحكام في طلبهم وراء كل حجر ومدر؟

على أنه لم يثبت أن أحدا من العلويين أو من الشيعة تقدم لخطبة إحدى بنات الإمامعليه‌السلام فقوبل بالرفض.

____________________

(١) معجم رجال الحديث ج ١٥ ص ٢٩٤ - ٢٩٥.

(٢) معجم رجال الحديث ج ٢٠ ص ٣٠١ - ٣٠٦.

١١٤

هذا ما نرجحه من الأسباب وراء عدم تزويج بنات الإمامعليه‌السلام ، ومنهم السيدة فاطمة المعصومةعليها‌السلام .

وهناك احتمالان آخران يختصان بها، وقد يشاركها بعض أخواتها فيهما.

أحدهما: أنها وأباها وأخاها يعلمون أن عمرها قصير، فإن وفاتهاعليها‌السلام كانت سنة ٢٠١ هـ فيكون عمرها على أكثر الاحتمالات أقل من ثلاثين عاما، وهو عمر قصير بالقياس إلى الأعمار المتعارفة.

وحيث كانت تعلم بذلك فلم يكن لديها ما يرغبها في الزواج.

وثانيهما: أنها لما كانت تشاهد ما يجري على أهل بيتها وبني عمومتها من حكام بني العباس من القتل والسجن والتشريد، وما يلاقيه أبوها وأخوها من الإيذاء عزفت نفسها عن الزواج، ومن الطبيعي أن في عدم الاطمئنان في الحياة صارفا قويا عن الزواج.

هذا ولعل هناك سببا أو أسبابا أخرى وراء ذلك لم ندركها، وكما ذكرنا أن الأمر شأن خاص قد أريد إخفاء سره عن الناس.

المآسي والآلام:

إن من أقسى ما مر على أهل البيتعليهم‌السلام في تاريخهم الحافل بالمآسي والآلام أن الأيدي الآثمة قد تجاوزت الحد في خصومتها وعدوانها عليهم، فامتدت لتهتك حرماتهم، وتكشف أستارهم،

١١٥

وتعتدي على نسائهم بالضرب والسلب والنهب والأسر والتشهير.

وليس بعد قتل المعصوم ما هو أفظع وأفجع مما جرى على بنات الرسالة وعقائل الوحي، وإذا كان المتآمرون في السقيفة قد وضعوا الأساس حيث استطالت أيديهم فضربوا الزهراءعليها‌السلام ، وهي بضعة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ووكزوها بالسيف وأسقطوا حملها في وحشية عدم فيها الضمير، وإذا كان الأمويون قد ساقوا بنات الزهراء أسارى بعد السلب والنهب، فإن بني العباس جاؤوا ليكملوا ما تبقى من حلقات هذا المسلسل، بل زادوا على أولئك في التعدي والعدوان، فقد مر علينا أن أسرى واقعة فخ لما جئ بهم إلى الهادي العباسي وأدخلوا عليه وهم مقيدون بالحبال والسلاسل ووضعوا أيديهم وأرجلهم في الحديد أمر بقتل بعضهم فقتلوا صبرا وصلبوا بباب الجسر ببغداد(١) .

وقد اعترف المأمون بأن بني العباس فاقوا بني أمية في عدوانهم وظلمهم للعلويين، فقال: فأخفناهم، وضيقنا عليهم، وقتلناهم أكثر من قتل بني أمية إياهم.

ويحكم إن بني أمية إنما قتلوا منهم من سل سيفا، وإنا معشر بني العباس قتلناهم جملا، فلتسألن أعظم الهاشمية بأي ذنب قتلت؟

ولتسألن نفوس ألقيت في دجلة والفرات ونفوس دفنت ببغداد والكوفة أحياء(٢) ....

____________________

(١) تاريخ الطبري ج ٨ ص ١٩٨ - ٢٠٠ والكامل في التاريخ ج ٦ ص ٩٣.

(٢) الطرائف ج ١ ص ٢٧٨.

١١٦

وقد ذكرنا فيما تقدم شيئا مما لاقاه العلويون من بني العباس، والغرض في المقام أن نذكر شيئا مما لاقاه العلويات، ونكتفي بما يرتبط بالسيدة المعصومةعليها‌السلام وما نالها من عدوان بني العباس.

اتفق الرواة على أن محمد بن جعفر خرج في زمان الرشيد أو المأمون، وأعلن الدعوة إلى نفسه، - وقد حذره الإمام الرضاعليه‌السلام من مغبة ذلك وأخبره بأنه أمر لا يتم وأن حركته فاشلة -، فأرسل العباسيون جيشا بقيادة عيسى بن يزيد الجلودي وأمروه إن ظفر به أن يضرب عنقه، وأن يغير على دور آل أبي طالب، وأن يسلب نساءهم، ولا يدع على واحدة منهن إلا ثوبا واحدا، ففعل الجلودي ذلك، وقد كان مضى أبو الحسن موسى بن جعفرعليهما‌السلام ، فصار الجلودي إلى باب دار أبي الحسن الرضاعليه‌السلام (و) هجم على داره مع خيله، فلما نظر إليه الرضا جعل النساء كلهن في بيت ووقف على باب البيت، فقال الجلودي لأبي الحسنعليه‌السلام : لا بد من أن أدخل البيت فاسلبهن كما أمرني أمير المؤمنين، فقال الرضاعليه‌السلام : أنا أسلبهن لك، وأحلف أني لا أدع عليهن شيئا إلا أخذته، فلم يزل يطلب إليه ويحلف له حتى سكن، فدخل أبو الحسن الرضاعليه‌السلام فلم يدع عليهن شيئا حتى أقراطهن وخلاخيلهن وأزرهن إلا أخذه منهن، وجميع ما كان في الدار من قليل وكثير(١) .

ترى ما حال تلك النسوة آنذاك؟! وما حال الإمام علي بن موسى

____________________

(١) عيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٦١.

١١٧

الرضاعليهما‌السلام وهو يرى بنات الرسالة وقد سلبن كل شئ؟

وهل تظن أن الجلودي اكتفى بالهجوم على بيت الإمام الرضاعليه‌السلام دون بقية دور آل أبي طالب؟

والذي ذكرته الروايات أن الجلودي أمر بالغارة على دور آل أبي طالب، وأن يسلب نساءهم، والجلودي كان خادما مخلصا لبني العباس، ولا أظن أنه اكتفى بذلك، بل هجم على بقية الدور، وربما سلب النساء بنفسه، وإن لم تفصح الروايات عن ذلك.

والذي يؤيد ما ذكرنا ما جاء في نفس هذه الرواية، من أنه لما أدخل الجلودي على المأمون، وكان الإمام الرضاعليه‌السلام حاضرا وأراد الإمام أن يشفع فيه، فقالعليه‌السلام : يا أمير المؤمنين هب لي هذا الشيخ، فقال المأمون: يا سيدي هذا الذي فعل ببنات محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما فعل من سلبهن(١) .

فإن فيه إشعاراً بذلك.

وإذا كانت الخصومة بين الرجال فما بال النسوة؟ وما هي جنايتهن ليفعل بهن ذلك؟ وهن بنات رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وودائع النبوة!!!

وإذا لم يكن الدين رادعا ولا الضمير وازعا فلا أقل أن النسب يكون صارفا فإن لهن رحما قريبة بأولئك المتسلطين ولكن...

وعلى أي حال فقد نال السيدة فاطمة المعصومةعليها‌السلام من الخوف

____________________

(١) عيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٦١.

١١٨

والترويع والظلم ما جعل أيام حياتها القصيرة تمتزج بالآلام والأحزان والمآسي.

لوعة الوداع:

قد يتوهم البعض بأن الإمام الرضاعليه‌السلام عاش حياة مستقرة آمنة، ولا سيما أنه أمضى السنوات الأخيرة من عمره في البلاط العباسي، فكان في مأمن من ملاحقة السلطة، بل في موقع الزعامة حيث بويع بولاية العهد، فكان الرجل الثاني في دولة واسعة مترامية الأطراف، ولم يكن هناك ما يخشاه.

ولكن الحقيقة أمر آخر غير هذا الظاهر، فإن أقسى السنوات التي مرت عليه هي السنوات الأخيرة من عمره، وعاش في حصار قد فرض عليه لم يستطع الخلاص منه، حتى قيل إن الإمام الرضاعليه‌السلام كان أكثر الأئمةعليهم‌السلام عملا بالتقية، لشدة ما عاناه من سلطة بني العباس.

وتؤكد الدلائل والشواهد التاريخية على أن السياسة العباسية جعلت من الإمام وسيلة لتحقيق أهدافها، حتى إذا بلغت ما أرادته نكبت به، كما نكبت بآبائه من قبله، وبأبنائه من بعده.

إن ما فعله هارون الرشيد وأسلافه من قبله بالعلويين من القهر والبطش والإبادة والتشريد، وما تمخض عن ذلك من الثورات العلوية في أطراف البلاد، ومن النقمة العامة على الحكم العباسي حتى قال

١١٩

أحد الشعراء:

يا ليت ظلم بني مروان دام لنا

وكان عدل بني العباس في النار

كما أن الصراع الدامي بين المأمون وأخيه الأمين الذي أسفر عن مقتل الأخير، وانتقال إدارة الحكم من بغداد العاصمة العباسية إلى منطقة أخرى، واعتماد المأمون على الفرس دون العرب في إدارة شؤون الحكم، الذي أثار نقمة العباسيين وغضبهم عليه، مضافا إلى شعوره بالنقص لكونه ابن أمة فارسية وغير ذلك من الأمور(١) .

جعلت من المأمون ابن الرشيد - وكان ذا نباهة وفطنة وحنكة ودهاء - أن يتنبه ويتخذ سياسة جديدة تخالف في ظاهرها سياسة سلفه، يخمد بها غضب الناقمين، ويحتوي تلك الحركات المناوئة، ويحقق لحكومته استقرارا سياسيا، ويضمن لسلطته قوة تحميه من العباسيين، فيما لو فكروا في مناهضته كما يحقق أغراضا أخرى، ليتمتع بسلطة لا يشعر معها باضطراب، كما كان آباؤه يشعرون بذلك.

وكان الموقف يتطلب منه جرأة في اتخاذ القرار، وحزما في تنفيذه، ومضيا في عزمه.

وأول إجراء اتخذه بعد أن قضى على أخيه الأمين أنه أظهر ميله للعلويين، وكانت هذه البادرة غريبة لم تعهد من حاكم عباسي، الأمر الذي أثار التوجس عند سائر بني العباس، ودفعهم إلى الاعتراض بل

____________________

(١) الحياة السياسية للإمام الرضاعليه‌السلام ص ١٤٩.

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

[ مسألة ] ومتى قيل فما معنى قوله تعالى( وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ ) وكيف يصح التسبيح من الرعد. وجوابنا أنّ المراد دلالة الرعد وتلك الاصوات الهائلة على قدرته وعلى تنزيهه وذلك كقوله تعالى( سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) لدلالة الكل على أنّه منزه عما لا يليق ولذلك قال( وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ ) ففضل بين الامرين وقوله بعد( وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً ) معناه يخضع فالمكلف العارف بالله يخضع طوعا وغيره يخضع كرها لانا نعلم ان نفس السجود لا يقع من كل واحد.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ) ألا يدل ذلك على أنّه الفاعل لكل شيء وعلى أنّ العبد لا يفعل والا كان يتشابه فعله بفعل الله. وجوابنا أنّ قوله تعالى( قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ ) زجر للعاصي والكافر بان شبهه بالأعمى وترغيب للمؤمن بأن شبهه بالبصير ونبه بقوله( أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ ) على ان عبّاد الاصنام بمنزلة العميان في عبادتهم لها مع انها لا تنفع ولا تضر فهو معنى قوله( خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ ) ثمّ بين أنّه الخالق للنعم التي يستوجب عندها العبادة فلا تليق العبادة الا به ولا مدخل لافعال العباد في ذلك وقد بينا من قيل وجوها في ان قوله تعالى( خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ) لا يدل الا على ان المقدر من هذه الاجسام والنعم من قبله فلا وجه لا يراد ذلك وبيّن تعالى ما أراده بقوله من بعد( أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها ) فدل بذلك على مراده وقال بعده( كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ ) ثمّ قال بعده( كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى وَالَّذِينَ

٢٠١

لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ ) بأن عصوا وخالفوا ثمّ قال( أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ ) وبين صفة ذوي الالباب فقال( الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ) فانظر أيها القارئ لكتاب الله كيف صفة من ينال الحسنى ويفوز بثوابها وكيف صفة ذلك الثواب العظيم فانه جل جلاله لم يقتصر على أن لهم الجنة حتّى بين أن من صلح من الاقربين يحصل معهم هتاك ممن كلف ويحصل معهم من لم يكلف أيضا من الذرية وأن الله تعالى يأمر ملائكته بالدخول عليهم في كل وقت بالسلام والتحية ويعرّفونهم أن كل ذلك جزاء لهم على ما صبروا فانهم صبروا قليلا فدام لهم ذلك الملك والنعيم فهو معنى قوله( فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ) لانها دائمة على عظم نعمها وخلوصها من كل شائبة ثمّ إنّه تعالى ذكر خلاف ذلك فيمن خالف ربه وعصى فقال( وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ) فالملائكة تلعنهم حالا بعد حال عن أنفسهم وعن ربهم ولهم سوء الدار وهو النار الدائمة التي عقابها خالص عن كل روح وراحة وقد حكى بعض الأئمة أنّه سئل عن وصف المؤمن فتلا هذه الآية ولو أردنا أن نفسرها لطال الكتاب فان قوله( الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ ) يدخل فيه القيام بسائر الواجبات التي عهدها الينا والقيام بكل الامانات والوفاء بكل العقود وكذلك كل فضل منه ثمّ بين تعالى ( أنّه )

٢٠٢

( يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا ) يعني أهل النار ثمّ قال( وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ مَتاعٌ ) وقوله بعد ذلك( وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ ) يدل على أن المراد بالهداية ما نقول من الاثابة وغيرها.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ ) أليس ذلك مخالفا لقوله في المؤمنين حيث قال( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ) . وجوابنا أنّ الطمأنينة المذكورة هاهنا المراد بها المعرفة وسكون النفس إلى المجازاة مع الوجل والخوف من المعاصي فالكلام متفق لان المؤمن ساكن النفس إلى معرفة الله تعالى والى المجازات على الطاعات ومع ذلك خائف مما يخشاه من التقصير ووجل القلب فظن في مثل ذلك أنه مختلف اذ قد نادى على نفسه بقلة المعرفة ولذلك قال تعالى بعده( الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ ) وبين تعالى عظم شأن القرآن بقوله من بعد( وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أو قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أو كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى ) . وجواب ذلك محذوف والمراد لكان هذا القرآن وذلك يدل على أنه في الفصاحة قد بلغ نهاية الرتبة وأنه صار معجزا لذلك.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً ) أليس يدل ذلك على أنه الفاعل لكل شيء وقوله من بعد( أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً ) أليس ذلك يدل على أنّه لم يشأ من جميعهم الايمان وإلّا لهداهم. وجوابنا أنّ المراد به أنه هدى بعض الناس دون من لم يجعله بصفة المكلف ويحتمل أن يكون المراد لهداهم بالالجاء حتّى يجتمعوا على الايمان وقوله( بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً ) صحيح لان المراد اقتداره على كل شيء وأن ما يريده لا يصح فيه المنع وقوله تعالى من بعد( إِنَّ اللهَ لا

٢٠٣

يُخْلِفُ الْمِيعادَ ) يدل على أن وعده ووعيده لا يقع فيهما خلف.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ ) أليس ذلك يدل على أن الله يصد الكافرين عن طريق الخير ويفعل الاضلال وذلك لا يجوز. وجوابنا أنّ ذلك يدل على أن هذا التزيين من الشيطان ومن أنفسهم ولو لا ذلك لوجب أن يكون تعالى صادا لهم عن السبيل مع علمنا بأن ذلك لا يجوز عليه وإنّما أراد بقوله( وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ ) أي بالعقوبة على ما فعله فما له من هاد إلى الجنة ولذلك قال( لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ ) .

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ ) أليس فيه الدلالة على أن الجنة مخلوقة الآن وذلك بخلاف ما تقولون. وجوابنا أنّ جنة الخلد والثواب ليست بمخلوقه الآن وذلك بخلاف ما تقولون. وجوابنا أنّ جنة الخلد والثواب ليست بمخلوقة الآن لفنيت إذا أفنى الله تعالى العالم فكان لا يكون أكلها دائما فدل ذلك على أنه تعالى يخلقها في الآخرة فيدوم أكلها.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ ) أما يدل ذلك على جواز البدء على الله تعالى. وجوابنا أنّ المراد بذلك أنه جل جلاله يمحو عن المؤمن الصغائر لانها مغفورة ويحتمل أنه المنسوخ والناسخ ويحتمل أنه يمحو ما لا مدخل له في الثواب والعقاب ويثبت ماله مدخل في ذلك ويحتمل انه يمحوا ما كتب من آجال وأرزاق من مضى ويثبت ذلك فيمن يبقى ويحدث.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً ) كيف يصح المكر على الله إذ بين أنّه من

٢٠٤

صفات الذم. وجوابنا أنّ المراد انزاله بهم العقاب وما شاكله من حيث لا يعرفون كما ذكرنا في سورة البقرة في قوله( يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا ) وما شاكله.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ ) فيقولون كيف يصح ذلك.

وجوابنا أن حفظهم وان لم يقع من الامر فانه يقع عند تقدم الامر فالمراد يحفظونه عن أمر الله وقد يذكر الأمر ويراد به التقوية والتمكين فلما كانوا يحفظونه بأن يمكنهم ويقويهم جاز ذلك.

٢٠٥
٢٠٦

سورة ابراهيم

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إلى النُّورِ ) كيف يفعل الرسول ذلك والجواب أنّ المراد يدعوهم إلى العدول إلى الايمان عن الكفر ويبين لهم ذلك فوصف بأنه يخرج لـما كان يفعل السبب الداعي إلى ذلك ولذلك قال( بِإِذْنِ رَبِّهِمْ ) إذا المراد ان ذلك بأمره ووحيه وهذا أحد ما يدل على الايمان وما عدلوا عنه من الكفر فعلهم فيكون بيانه سببا لاختيارهم العدول عن الكفر إلى الايمان وقوله تعالى( الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ ) يدل على أن ما يقع منهم من جهتهم لانه لو كان خلقا لله فيهم لـما صح أن يستحبوا شيئا على شيء.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ ) أما يدل ذلك على أنه بعد البيان هو الذي يضل ويهدي. وجوابنا أنّ المراد أنه يضل عن طريق الجنة إلى النار ويهدي إلى الجنة من أزاح علته ببيان الرسول صلّى الله عليه وسلم لكي تكون الحجة لله عليهم وهو كقوله( وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ) وقوله( وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ ) يدل على أنّه يكلف الناس لينفعهم ولحاجتهم إلى ذلك وأنه غني عن كل شيء.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ

٢٠٧

قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللهُ ) أليس ذلك يتناقض بأن يقول آخرا لا يعلمهم إلّا الله ويقول أوّلا( أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) . وجوابنا أنّ المراد بآخره هو قوله( وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللهُ ) وأتاهم خبرهم على الجملة دون التفصيل فالكلام مستقيم ويحتمل أن يريد أنه أتاهم نبأ هؤلاء على الجملة ويريد بقوله( لا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللهُ ) التفصيل من أحوالهم فلذلك قال بعده( جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ ) وقد ذكرنا من قبل أن ذلك ذم لهم وهو كناية عن ترك القبول منهم لان هناك استعمالا لليد في رد قولهم وبيانهم ولذلك قال( أَفِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ ) فبين أن مراده تعالى بتكليفهم هذا الغفران.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( وَلكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ ) فأضافوا ايمانهم إلى الله تعالى. وجوابنا أنّ المراد بذلك الارسال والنبوّة لان قومهم قالوا انهم بشر مثلنا فأجابوهم بقولهم( إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ ) وأرادوا النبوة واظهار المعجزات هذا ونحن نضيف الايمان أيضا إلى الله تعالى ونقول انه من نعمه لـما كان الوصول اليه بيسره وألطافه مع التمكين وكذلك نقول في الطاعات إنها من الله ولا نقول ذلك في المعاصي وقد نهى عنها وزجر عن فعلها ولذلك قال تعالى بعده( وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ وَما لَنا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا ) .

[ مسألة ] وربما قيل كيف ذكر أوّلا جل وعز قولهم( وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ) ثمّ كرره ثانيا ما الفائدة في ذلك. وجوابنا

٢٠٨

أنهم في الأوّل قالوا( وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ) وأرادوا فيما يتصل بالنبوّة ثمّ قال ثانيا( وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ ) وأرادوا في صبرهم على ما يعرض في النبوّة فأحد الامرين غير الآخر.

[ مسألة ] وربما قيل كيف قال تعالى( وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ ) أليس ذلك يتناقض. وجوابنا أنّ ذلك كناية عن شدة عذابهم وان لم يكونوا أمواتا وهو كقوله( وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى ) ولذلك قال بعده( وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ ) وبين تعالى ان عمل الخير من الكفار لا ينفع فقال( مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ ) فبين أن كفرهم يحبط كل خير عملوه وبين ان ذلك هو الضلال البعيد ثمّ بين تعالى بعده بقوله حكاية عمن استكبر عند قول الاتباع( إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً ) انهم( قالُوا لَوْ هَدانَا اللهُ لَهَدَيْناكُمْ ) وذلك في الآخرة فمرادهم إذا لو هدانا الله تعالى إلى الجنة وعدل بنا عن النار لفعلنا ذلك بكم وهذا يدل على ان الهدى قد يكون على هذا المعنى كما قد يكون بمعنى الدلالة والبيان وقوله( سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ ) يدل على ان العذاب دائم لا كما يقوله بعض الجهال من انه ينقطع وقوله تعالى من بعد حكاية عن الشيطان( وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ) يدل على ان الشيطان لا يقدر الا على الوسوسة وعلى أنّ وسوسته لا تزيل الذم والعقاب عمن قبل منه وان اللوم في كل

تنزيه القرآن (١٤)

٢٠٩

فاعل على نفسه يرجع وقوله من بعد( إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ) يدل على ان الظلم من الذنوب العظام التي يستحق بها العذاب.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ) ان ذلك يدل على ان ايمانهم من فعل الله فيثبتهم عليه. وجوابنا أنّ المراد يثبتهم على الخيرات دينا ودنيا لاجل ايمانهم فلذلك قال( بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ ) ولذلك قال بعده( وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ ) أي يضلهم عما يفعله بالمؤمنين دينا ودنيا ولذلك قال بعده( أَلَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً ) تعجبا منهم من حيث لم يعرفوا موقع نعم الله تعالى وعدلوا عن شكره وطاعته ورغبنا عاجلا في الطاعة فقال( قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ ) فبين أن الذي ينفعهم في الآخرة أن يطيعوا بأنفسهم وبأموالهم قبل اليوم الذي فيه لا ينتفع أحد بمكسب وتصرف. ثمّ بين تعالى أنواع نعمه بقوله جل وعز( اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ) إلى قوله( وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها ) ترغيبا للعبد في شكر هذه النعم حالا بعد حال ثمّ قال تعالى من بعد( إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ) .

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ ) كيف يصح أن يسأل ربه هذين الأمرين ثمّ يوجد خلاف ذلك فانا نجد البلد يجري فيه الخوف العظيم ونجد في أولاده من يعبد الاصنام. وجوابنا أنّ قوله آمنا لا يدل على كل شيء فقد يكون آمنا من ضروب الخوف غير آمن من سواه ومعلوم ما يحصل بمكة من الامن ويحتمل أنه دعا ربه أن يجعله آمنا في ايامه حتّى يؤمن بعضهم

٢١٠

ويتألفوا على طاعته والمراد بقوله( وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ ) من هو موجود منهم وقد نزههم الله تعالى عن ذلك وقوله بعد ذلك( رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ ) يعني الاصنام فمراده أنهن صرن سببا للضلال لا ان الصنم يصح أن يضل ويهدي ولذلك قال بعده( فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) يعني بالتوبة.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ ) كيف يصح ذلك وهو الذي بنى البيت على ما ذكره الله تعالى في كتابه بقوله( وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ ) . وجوابنا أنّه يحتمل في قوله عند بيتك المحرم أن يكون المراد عند تلك البقعة التي بني فيها البيت. ويحتمل ان بناء البيت كان قائما ثمّ اختل فبناه ابراهيم فيكون الكلام مستقيما ومعنى قوله من بعد( وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ ) ان عنده انزال العقوبات بهم من حيث لا يشعرون وسمّاه مكرا مجازا ومعنى قوله تعالى( يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ ) انهما يصيران على خلاف هذه الصورة سماه تبديلا كما يقال ان فلانا قد تبدل إذا تغيرت أخلاقه. ويحتمل أن يكون الله تعالى يبتدئهما فيخلق أرضا غير هذه في القيامة وسماء غير هذه فيكون أقرب إلى الحقيقة.

٢١١
٢١٢

سورة الحجر

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ ) كيف يجوز ذلك ولا شك في انهم يتمنون في الآخرة ذلك فما فائدة( رُبَما ) . وجوابنا أنّ ذلك من باب الردع وربما يكون أقوى فأحدنا يقبل على ولده وقد عدا عن التعلم فيقول ربما تندم على ما أنت عليه فيكون في الزجر أبلغ ولأن الكافر قد يسلم ويتوب فلا يقطع منه على ذلك ومعنى قوله بعد( ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ) تبين صحة ما قلناه لأن ذلك وان كان بصورة الامر فهو تهديد وزجر عظيم.

[ مسألة ] وربما قيل ما فائدة قوله تعالى( وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ ) وكل شيء يفعله فهو في معلومه ويثبت في أم الكتاب فأي فائدة في هذا التخصيص. وجوابنا أنّ القوم كانوا يستعجلون العذاب من الانبياء إذا توعدوهم فبين تعالى ان ذلك مؤقت بوقت لا يقدم ولا يؤخر.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ) كيف يصح ذلك مع جحدهم لنبوّته وانكارهم ان الله تعالى أنزل ذلك عليه. وجوابنا انهم قالوا على وجه ان ذلك صفته عند نفسه لأنه صلّى الله عليه وسلم كان يدعى ذلك وهذا كرجل يدعى انه صانع فينادي بما يدعيه وان كان المنادى لا يعترف له به وبين ذلك ما ذكروه من بعد

٢١٣

( إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ) وبين تعالى لهم انه ما ينزل الملائكة الا بالحق ومتى أنزلهم لم يكن انكار وامهال وقوله تعالى من بعد( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ ) يدل على ان القرآن لا يغير ولا يبدل ولا يزاد فيه ولا ينقص وشبههم بمن يجهل ما يشاهده بقوله جل وعز( لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ ) فبين انهم في العدول عن التمسك بالنبوات والقرآن بهذه المنزلة.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ ) أما يدل ذلك على أن أفعال العباد من خلقه لدخوله في قولنا شيء. وجوابنا أنّ المراد ان عندنا علم كل شيء ولذلك قال( وَما نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ) أو يكون المراد عندنا القدرة على ما ذكرنا من النعم فلا ننزّل ذلك الا بقدر الحاجة إليه بيّن ذلك أنه تعالى قال من قبل( وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ ) فبين بعده انه قادر على إدامة ذلك وكنّى عن القدرة التي لا آخر لها بذكر الخزائن ولذلك قال بعده( وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ ) فذكر ما ينزله من الأمطار وما ينبته من الاقوات ثمّ قال( وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ ) ثمّ قال( وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ ) دل كل ذلك على عظم نعمه على عباده مرغّبا لهم في شكره وطاعته ثمّ بين تعالى كيف خلق آدم من( صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ) وكيف خلق الجان ليعتبر بذلك وكيف أمر بالسجود لآدم وتقدم القول في ذلك وبين بقوله تعالى( إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ ) ان الذي يقال من أن الشيطان محبط لا أصل له وإنه إنما يوسوس فلا يكون له سلطان

٢١٤

إلا على من يتّبعه فيقبل منه الوسوسة وعلى هذا الوجه كرر تعالى في القرآن التحذير من الشيطان فحاله في ذلك دون حال الواحد من الانس إذا رغب غيره في المعاصي فعلى هذا الوجه قال تعالى( وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ ) التابع والمتبوع ثمّ بين تعالى ما للمتقين من المنزلة بقوله تعالى( إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ ) إلى آخر الآيات وأدب الله تعالى نبيّه صلّى الله عليه وسلم بقوله( لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ ) فأمره بتحقير ما عليه الكفار من متاع الدنيا وأمره بالتواضع لمن آمن به وأمره بأن يقوم بالانذار في كلا الفريقين فلا يمنعه تمنع القوم عن الانذار كما لا يمنعه ايمان من آمن به عن ذلك. ثمّ أقسم تعالى بعد ذلك على أنه يسألهم أجمعين عما كانوا يعملون ولم يقتصر على الخبر حتّى اكده بالقسم زجرا للناس عن المعاصي فان من تصوّر أن معاصيه طول عمره محصية عليه يصير في الآخرة كالمشاهد لها جميعها يزجره ذلك عن الاقدام عليها وترك التوبة منها ولذلك قال بعده للرسول صلّى الله عليه وسلم( فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ) فقد أقمت الحجة عليهم( إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ ) الذين يقع في قلبك الخوف منهم فشبّهه تعالى بالصّادع في الابلاغ والانذار ليكون مقيما للحجة على من آمن وكفر واكد تعالى بقوله( وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ ) فقد كانوا ينسبونه مرة إلى السحر ومرة إلى الجنون ومرة إلى الفرية ومثل ذلك يعظم على المرء ويأنف منه فقوّى الله تعالى قلبه على احتماله وعلى ألا يجعله سببا للفتور في الابلاغ والبيان فلذلك قال بعده( فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ) وهذه الآداب وان خص الله تعالى بها الرسول صلّى الله عليه وسلم فهي عامة في سائر الناس وهي من عظيم نعم الله تعالى على خلقه إذا تأملوه وتمسكوا به فما أحد من المكلفين إلا وله وليّ وعدو يتردد بين محن ونعم فكل ذلك تأديب له.

٢١٥
٢١٦

سورة النحل

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ ) وكيف يكون إنزالهم بالروح وكيف يكون الروح أمرا. وجوابنا أنّ المراد به ذلك القرآن والشرع كما قال( وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ) وسمّى القرآن روحا لأنه بمنزلة الرّوح الذي يحيا به أحدنا من حيث يحيا به الانسان في أمر دينه وأنه يؤدي إلى الحياة الدائمة فإن قيل فما معنى قوله( أَتى أَمْرُ اللهِ ) وهل المراد به هذا الامر الذي تنزله الملائكة قيل له بل الأقرب في أتى أمر الله أنه الوعيد ولذلك قال بعده( فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ ) لأنهم كانوا يستعجلون العذاب كقولهم( ائْتِنا بِما تَعِدُنا ) وكما قال( وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ ) فبين أن أمر الله قد أتى بالوعيد في الآخرة والله تعالى حليم لا يعجل فلا تستعجلوه ثمّ قال تعالى( يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ ) وعنى به الاحكام وسائر الشرائع التي بيّنها الله تعالى في القرآن وعلى لسان الرسول صلّى الله عليه وسلم ولذلك قال بعده( أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ ) ثمّ قال بعده( خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ ) وبيّن أنه خلق ذلك لكي يؤمن العباد وذلك يبطل قول من يقول خلق بعضهم ليكفروا وكيف يقول جل وعز( تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ ) وهو الذي يخلق فيهم الشرك ويجعلهم بحيث لا يقدرون الا عليه.

[ مسألة ] وربما قيل كيف قال تعالى( وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ )

٢١٧

وإنما يخلق ما يخلقه لمصالح المكلفين. وجوابنا أنّ ما لا يعلمه الملائكة قد يكون صالحا لنا وقد يجوز فيما يخلقه أن يكون نفعا لنا وان لم نعلمه أو نفعا لبعض الحيوان أو تفضلا فلا يلزم ما قالوه.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ ) كيف يصحّ في قصد السبيل أن يكون على الله وكيف يصح أن يكون منها جائر. وجوابنا أنّه تعالى لـما بيّن من قبل نعمه وبين من جملتها الأنعام والخيل والبغال وكيف خلقها نفعا للمكلفين قال بعد ذلك إن على الله قصد السبيل والمراد بيان ما يلزم المكلف وازاحة سائر علله فلا يجوز أن يكلفه ما لا يصح إلا بالأنعام وغيرها إلا ويخلقها له وكذلك سائر ما يحتاج اليه وبيّن بقوله ومنها جائز أن في جملتها ما يخرج المكلف عنه ويعصى مع أن في جملتها ما يقبل ويطيع ولو شاء( لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ ) بالالجاء لكن ذلك لا ينفع.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ ) أما يدل ذلك على أنه لا فعل إلا لله. وجوابنا أنّه تعالى بيّن من قبل أصناف النعم من انزاله الماء وإنباته أنواع الخيرات والثمرات وتسخيره الليل والنهار والبحر وما فيها من النعم والنجوم ودلالتها على الامور فقال بعده تنبيها للخلق عما يلزم شكره وعبادته( أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ ) فبعث بذلك على عبادة الله تعالى وبكّت به من يعبد الاصنام وغيرها ممّا لا تصحّ منه هذه النعم ولا يدخل في ذلك أفعال العباد لأنه نبّه بذلك على أن الواجب أن يفعلوا الطاعة والشكر والعبادة وكيف يكون نفس الفعل خلقا من قبل الله تعالى ولذلك قال بعده( وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها ) فبين أن الذي قدم ذكره من نعمه هو قليل من كثير النعم التي يفعلها الله تعالى حالا بعد حال في جسم الانسان وحواسه وجوارحه وغير ذلك ثمّ قال( وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ ) يخوّف بذلك

٢١٨

العبد من أن يخالف ما يظهر من الطاعة ويبعثه على أن يكون باطنه في الاخلاص كظاهرة والذي بيّن ما قلناه قوله تعالى من بعد( وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ ) .

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ ) كيف يصح أن يحملوا أوزار غيرهم ولئن جاز ذلك لم يمتنع أن يعذب الله تعالى أطفال المشركين بذنوب آبائهم. وجوابنا أنّ الذين أضلوهم لـما كانوا سببا لضلالهم جاز أن يقول تعالى ذلك والمراد أنهم لـما ضلوا وأضلوا كانت أوزارهم أعظم كما روي عنه صلّى الله عليه وسلم ( فيمن سنّ سنّة سيّئة أنّ عليه وزرها ووزر من عملها ) والمراد مثل ذلك لا أنّ عين ما يستحقه من يتأسّى به يستحقه من سنّ فعل السنّة السيّئة.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ ) أما يدلّ ذلك على أنه تعالى يهدي ويضل وان ذلك من خلقه. وجوابنا أنّ المراد فمنهم من هدى الله إلى الثواب لتمسكه بالعبادة ومنهم من حقّت عليه الضلالة عن الثواب إلى العقاب بمعصيته وهذا كقوله( إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ ) فسمّى نفس العقاب ضلالا كما سمّى نفس الثواب هدى في قوله( الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ ) والهدى بعد القتل لا يكون الا بالاثابة ولذلك قال بعده( إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ ) فنبّه بذلك على ما ذكرنا ويحتمل أن يريد بالهدى زيادة البصيرة فيفعله بمن قبل وأطاع عنده دون من علم أنه لا يقبل كما قال تعالى( وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً ) .

٢١٩

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( وَأَوْحى رَبُّكَ إلى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً ) كيف يصح أنه يوحي إلى ما لا يعقل وعندكم أنه تعالى إنما يوحي إلى الأنبياء. وجوابنا أنّ المراد بذلك ألهمها هذه الامور وخلق فيها العلم بهذه الأشياء ولم يرد بذلك الوحي الذي يكون بانزال الملائكة وكل أمر يلقى إلى الغير على وجه الاخفاء والاستسرار يوصف بأنه وحي فلما كان ما ألهم جل وعز النحل على هذا الحد جاز أن يقول أوحى اليها ونبه بذلك على عجيب أمر النحل فيما تتعاطاه من هذا الطعام الذي هو أشرف الاطعمة وكيف تلتقط ذلك من الشجر المختلف حتّى يحصل منه هذا الطعام وكيف تتولى مكان ذلك وكيف ترتبه ومتى تأمل العاقل ذلك عرف به من عجيب نعم الله تعالى ما لا يكاد يوجد في سائر الحيوان.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( أَلَمْ يَرَوْا إلى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللهُ ) أما يدل ذلك على أنه تعالى يخلق فيها الطيران. وجوابنا أنّه تعالى لـما جعل في الجو الهواء المتكاثف الذي يصح من الطير أن يطير فيه ويتوقف عليه جاز أن يضيفه إلى نفسه بأنه سخرها لـما فعل ما لولاه لم تثبت في الجو لأنه تعالى جعل ذلك الهواء اللطيف بمنزلة الماء الذي يسبح فيه وهذا هو وجه الكلام ثمّ إنه تعالى بعد ذلك رغب في عبادة الله تعالى بأقوى وجوه الترغيب فقال( ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ ) فنبه بذلك على أن ما عندنا له نهاية وآخر وان الذي يدوم من النعم هو ما يجازي جل وعز عباده المطيعين به فرغب بذلك في فعل ما يؤدي إلى هذه النعم الباقية ولذلك قال بعده( وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ) .

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ ) كيف يصح ذلك والاستعاذة تتقدم قراءة القرآن لا أنها تتأخر عنه. وجوابنا أنّ المراد فاذا عزمت على قراءة القرآن

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254