الفاطمة المعصومة (سلام الله عليها)

الفاطمة المعصومة (سلام الله عليها)15%

الفاطمة المعصومة (سلام الله عليها) مؤلف:
تصنيف: النفوس الفاخرة
الصفحات: 254

  • البداية
  • السابق
  • 254 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 38940 / تحميل: 6098
الحجم الحجم الحجم
الفاطمة المعصومة (سلام الله عليها)

الفاطمة المعصومة (سلام الله عليها)

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

البيتعليهم‌السلام وشيعتهم أعنف الرزايا وأكثرها محنة وصعوبة، فسفكت دماؤهم وانتهكت حرماتهم وهدرت كرامتهم، بما لا مجال لوصفه وبيانه.

وقد ذكر المؤرخون أن في عهد موسى الهادي حدثت واقعة فخ التي ضارعت حادثة الطف في كيفيتها وأسماء أشخاصها، وبعض آثارها، وما جرى فيها.

وأما عهد الرشيد فكان أسوء عهد مر على العلويين والشيعة، فقد قابلهم منذ بداية حكمه بكل قسوة وجفاء، وصب عليهم جام غضبه، وأقسم على استئصالهم وقتلهم، فقال: والله لأقتلنهم - أي العلويين - ولأقتلن شيعتهم(١) .

وأمعن الرشيد في التنكيل بالعلويين وشيعتهم، وذكرت المصادر أنه كان يتتبعهم بشتى الوسائل، ويحتال لقتلهم بمختلف الطرق، وكان يرى أن بقاء ملكه وسلطانه لا يستقر إلا بإبادتهم.

لقد كان الرشيد شديد الوطأة على عترة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكانوا على علم بمقته وبغضه لهم، فحينما علموا بخلافته هاموا على وجوههم في القرى والأرياف متنكرين لئلا يعرفهم أحد، قد أحاط بهم الرعب والفزع، واستولى عليهم الخوف والإرهاب، وكان في طليعة من لقي العناء من أهل البيتعليهم‌السلام الإمام موسى بن جعفرعليهما‌السلام ، فقد فرض الرشيد عليه رقابة صارمة، ترصد عليه تحركاته وسكناته، حتى ثقل عليه وضاق

____________________

(١) حياة الإمام موسى بن جعفرعليهما‌السلام ج ٢ ص ٧٤.

٢١

به ذرعا، فغيبه في سجون البصرة وبغداد، ينقل من سجن إلى آخر، وكان آخرها سجن السندي بن شاهك حيث قضى الإمامعليه‌السلام مسموما(١) .

وقد تمخض عن ذلك تفرق سلالة الإمام الكاظمعليه‌السلام وانتشارهم في مختلف البقاع، ولم يكن هذا الأمر خاصا بأولاد الإمامعليه‌السلام ، بل كان عاما لجميع العلويين وشيعتهم، نعم كان أبناؤهعليه‌السلام من أكثرهم محنة وأشدهم ابتلاء.

وكان من آثار ذلك أن ذهب بعضهم في طي النسيان، فلم يعرف له عقب أو مكان، إذ كان بعضهم يخفي نسبه خشية أن يفاجأ بما يودي بحياته، كما كان من نتائج ذلك أيضا بروز ظاهرة التقية التي فرضت على أهل البيتعليهم‌السلام وشيعتهم فرضا لم يجدوا مناصا عنها، طلبا للنجاة، وبحثا عن الأمن والأمان.

وقد انعكست مسألة التقية على جميع مظاهر سلوكهم في عباداتهم ومعاملاتهم، ونشأ من ذلك ما يمكن أن يعبر عنه بالفقه الوقائي الذي يعنى بهذه الحالة عند تحقق موضوعها كما بينها الفقهاء، واستندوا في ذلك إلى ما رسمه الأئمةعليهم‌السلام الذين عانوا من تلك الظروف القاسية التي مرت بهم مستثنين منها بعض الموارد حيث تكون المواجهة هي الحل، وقد حددها الفقهاء وضبطوها في دراساتهم الفقهية.

على أن موضوع التقية لا ينحصر بالشيعة الإمامية وحدهم، بل هو أمر

____________________

(١) حياة الإمام موسى بن جعفرعليهما‌السلام ج ٢ ص ٤٨٥ - ٥٢٠.

٢٢

يعود إلى تأمين الحماية والوقاية من الوقوع في الخطر الذي يتهدد الحياة.

وبعبارة أخرى: إن مسألة التقية قضية فطرية تستوجب درء المخاوف عن النفس، وفق ضوابط محددة مدروسة، مع الاحتفاظ بالثوابت وصيانتها، وليست هي انسلاخا عن المبدأ وإلغاء للمعتقد، وهي عملية موقتة تعالج ظرفا طارئا ليعود الإنسان بعدها إلى طبيعته الأولى التي كان عليها في سلوكه(١) .

ومن خلال ذلك يمكننا أن ندرك أن ما يقوم به خصوم الشيعة من الحملات والتشنيع عليهم في أمر التقية ما هو إلا استغلال لظروف الشيعة الصعبة والتشهير بمحنتهم، وإلا فلو أن هؤلاء عانوا بعض ما عاناه الشيعة لحملوا لواء التقية عاليا، وما يدرينا لعلهم يتقون في بعض أعمالهم من حيث لا نشعر بأنهم يتقون.

السيدة تكتم:

عرفنا مما مر أن الإمام موسى بن جعفرعليهما‌السلام - والد السيدة المعصومة - هو أحد الأئمة المعصومين من أهل البيتعليهم‌السلام وإليه تنتمي السلالة الموسوية، ولا بد لنا من التعرف على أم السيدة المعصومة لنتمكن من الخروج بصورة واضحة عن الجو الذي عاشت فيه هذه السيدة الجليلة، والبيت الذي تلقت فيه تربيتها فإن للأب والأم

____________________

(١) عالج سماحة الأستاذ آية الله الشيخ مسلم الداوري دام ظله مسألة التقية بجميع أبعادها على ضوء المعطيات الشرعية والضوابط العقلية في دراسة مستوعبة ناضجة لم يسبق لها نظير في محاضراته الفقهية العليا فخرجت في ثلاثة أجزاء تحت عنوان « التقية في فقه أهل البيتعليهم‌السلام » بقلم المؤلف.

٢٣

دورهما الكبير الفعال في سلوك الوليد ونشأته وانعكاس أخلاق الأبوين عليه.

وقد ذكر المؤرخون وعلماء الأنساب أن أم السيدة المعصومة هي تكتم، وتسمى نجمة، وأروى، وسمانة، وأم البنين، وخيزران، وصقر، وشقراء، والطاهرة، ولنا حديث حول تعدد الأسماء سيأتي.

وهي وإن كانت جارية أم ولد إلا أن لها من الفضل والجلال والعفة والعبادة ما فاقت به نساء زمانها فكانت بذلك قرينة لإمام معصوم، وأما لإمام معصوم، وسنشير إلى بعض خصائصها ومميزاتها فيما سيأتي.

أمهات أكثر الأئمةعليهم‌السلام من الجواري... لماذا؟!

والذي نريد أن نتناوله بالبحث هنا ظاهرة الجواري وأمهات الأولاد، فإن مما يدعو إلى الالتفات ويثير التساؤل هو أن أكثر أمهات الأئمة جوار من غير العرب، فأم كل من السجاد والكاظم والرضا والجواد والهادي والعسكري والحجةعليهم‌السلام أمهات أولاد، وقعن في الأسر، واقترن بهن الأئمةعليهم‌السلام ، مع أنه لا يغيب عن بالنا ما يجري في سوق العبيد والجواري، مضافا إلى أن مسألة الإمامة ليست من المسائل العادية، فإنها تستوجب الحيطة والحذر في كل ما يرتبط بولادة الإمام المعصوم وتربيته ونشأته، وكما أن الأب ينبغي أن يكون في أعلى درجات الكمال الممكن، فكذلك الأم وعلى ذلك قامت

٢٤

الأدلة.

وهذا البحث جدير بالعناية والدراسة، وإنما نذكره هنا لصلته القوية بما نحن فيه، وذلك لما أشرنا إليه من أن السيدة المعصومة شقيقة الإمام الرضاعليه‌السلام فأمهما واحدة وهي السيدة تكتم.

والسؤال الذي يواجهنا هو ما هو السر في اختيار الأئمةعليهم‌السلام للجواري من دون الحرائر العربيات من البيوتات الرفيعة ذات المنزلة الاجتماعية؟ ولماذا يقترن الأئمةعليهم‌السلام بالجواري ليلدن لهم أفضل الأولاد والبنات؟

وللإجابة عن ذلك لا بد أن نسلط الأضواء على بعض المفاهيم العامة والركائز الأساسية ذات الصلة بما نحن فيه لنخرج من خلالها بما يرفع الغموض والإبهام عن هذه المسألة.

والذي يظهر من خلال دراسة بعض المفاهيم العامة والقواعد الأساسية أن وراء اختيار الأئمةعليهم‌السلام الجواري أسبابا أهمها ثلاثة.

الأول: إن مما لا شك فيه أن أئمة أهل البيتعليهم‌السلام - كما نعتقد وعليه قامت الأدلة - قد أوتوا العلم بحقائق الأمور والأشياء ومعرفة مداخلها ومخارجها، ومنها العلم بأحوال الناس وخصوصياتهم، وقد ورثوا ذلك عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو أطلعهم الله تعالى عليه لنفوذ بصائرهم، وصفاء نفوسهم وطهارة ذواتهم، ولما كان الأمر يتعلق بالإمامة ومنصب الولاية فلا بد من اختيار الوعاء الطاهر، والأصل الزاكي، والحجر العفيف الذي

٢٥

سيكون حاملا وحاضنا لولي الله، وخليفته على العباد، والحجة على الخلق، ويعد ذلك من المسلمات البديهية في عقيدة الشيعة الإمامية، وإنما وقع اختيار الأئمةعليهم‌السلام على هؤلاء الجواري من دون سائر النساء لعلمهمعليهم‌السلام بأنهن قد جمعن شرائط الاقتران بالمعصومعليه‌السلام وصلاحيتهن للأمومة التي ستنجب الإمام المعصوم إذ كما يشترط أن يكون الآباء طاهرين مطهرين فكذلك الحال بالنسبة للأمهات.

وغني عن البيان مدى تأثير الأم على ولدها، فإن لعامل الوراثة مدخلا كبيرا في التكوين الخلقي المنعكس على الولد من قبل أبويه، كما نصت عليه روايات أهل البيتعليهم‌السلام وأيدته البحوث العلمية التي عنيت بهذا الجانب في حياة الإنسان.

ومما يؤيد هذا الوجه أن الإمامعليه‌السلام قد يختار واحدة بعينها من دون سائر الجواري اللاتي عرضن للبيع، وقد تكون غير صالحة - بحسب المعايير المادية - للبيع والشراء إلا أن الإمامعليه‌السلام لا يختار غيرها، بل تذكر المصادر أن هذه الجارية - مثلا - قد تمتنع عن الاستسلام لأي مشتر يتقدم لشرائها حتى يكون الذي يشتريها هو الإمامعليه‌السلام ، مع أنها في ظروف لا تملك من أمرها شيئا، الأمر الذي يؤكد على أن هناك تخطيطا إلهيا متقنا لأن تكون هذه المرأة قرينة للإمامعليه‌السلام وقد أعدها الله تعالى لتصبح أما للمعصومعليه‌السلام .

روى الصدوق بسنده عن هشام بن أحمد، قال: قال أبو الحسن

٢٦

الأولعليه‌السلام : هل علمت أحدا من أهل المغرب قدم؟ قلت: لا، فقالعليه‌السلام :

بلى، قد قدم رجل أحمر، فانطلق بنا، فركب وركبنا معه حتى انتهينا إلى الرجل، فإذا رجل من أهل المغرب معه رقيق، فقال له: اعرض علينا، فعرض علينا تسع جوار كل ذلك يقول أبو الحسنعليه‌السلام : لا حاجة لي فيها، ثم قال له: اعرض علينا، قال: ما عندي شئ، فقال له: بلى اعرض علينا، قال: لا والله، ما عندي إلا جارية مريضة، فقال له: ما عليك أن تعرضها، فأبى عليه، ثم انصرفعليه‌السلام ، ثم أرسلني من الغد إليه، فقال لي: قل له: كم غايتك فيها؟ فإذا قال: كذا وكذا فقل: قد أخذتها، فأتيته، فقال: ما أريد أن أنقصها من كذا، فقلت: قد أخذتها، وهو لك، فقال: هي لك، ولكن من الرجل الذي كان معك بالأمس؟

فقلت: رجل من بني هاشم، فقال: من أي بني هاشم؟ فقلت: من نقبائهم، فقال: أريد أكثر منه، فقلت: ما عندي أكثر من هذا، فقال:

أخبرك عن هذه الوصيفة، إني اشتريتها من أقصى بلاد المغرب، فلقيتني امرأة من أهل الكتاب فقالت: ما هذه الوصيفة معك؟ فقلت:

اشتريتها لنفسي، فقالت: ما ينبغي أن تكون هذه الوصيفة عند مثلك، إن هذه الجارية ينبغي أن تكون عند خير أهل الأرض، فلا تلبث عنده إلا قليلا حتى تلد منه غلاما يدين له شرق الأرض وغربها، قال: فأتيته بها، فلم تلبث عنده إلا قليلا حتى ولدت له علياعليه‌السلام (١) .

____________________

(١) عيون أخبار الرضا ج ١ ص ١٧ - ١٨.

٢٧

ونقل المحدث القمي أنهعليه‌السلام لما ابتاعها (أي تكتم) جمع قوما من أصحابه ثم قال: والله ما اشتريت هذه الأمة إلا بأمر الله...(١) .

على أن المرأة التي يقع اختيار الإمامعليه‌السلام عليها لم تكن من عامة الناس، بل من أشرف النساء، وذات مكانة في قومها، غير أنها وقعت في الأسر وجرها ذلك إلى سوق النخاسين.

روى الشيخ الطوسي بسنده عن محمد بن بحير بن سهل الشيباني أنه قال: قال بشر بن سليمان النخاس وهو من ولد أبي أيوب الأنصاري أحد موالي أبي الحسن وأبي محمد وجارهما بسر من رأى: أتاني كافور الخادم. فقال: مولانا أبو الحسن علي بن محمد العسكري يدعوك إليه، فأتيته، فلما جلست بين يديه قال لي: يا بشر إنك من ولد الأنصار، وهذه الموالاة لم تزل فيكم يرثها خلف عن سلف، وأنتم ثقاتنا أهل البيت، وإني مزكيك ومشرفك بفضيلة تسبق بها الشيعة في الموالاة بسر أطلعك عليه، وأنفذك في ابتياع أمة، فكتب كتابا لطيفا بخط رومي ولغة رومية، وطبع عليه خاتمه، وأخرج شقيقة صفراء فيها مائتان وعشرون دينارا.

فقال: خذها، وتوجه بها إلى بغداد، واحضر معبر الفرات ضحوة يوم كذا، فإذا وصلت إلى جانبك زواريق السبايا وترى الجواري فيها، ستجد طوايف المبتاعين من وكلاء قواد بني العباس، وشرذمة من

____________________

(١) منتهى الآمال ج ٢ ص ٤٠٦.

٢٨

فتيان العرب، فإذا رأيت ذلك فأشرف من البعد على المسمى عمر بن يزيد النخاس عامة نهارك، إلى أن تبرز للمبتاعين جارية صفتها كذا وكذا، لابسة حريرين صفيقين، تمتنع من العرض ولمس المعترض، والانقياد لمن يحاول لمسها، وتسمع صرخة رومية من وراء ستر رقيق، فاعلم أنها تقول: وا هتك ستراه.

فيقول بعض المبتاعين: علي ثلاثمائة دينار فقد زادني العفاف فيها رغبة، فتقول بالعربية: لو برزت في زي سليمان بن داود، وعلى شبه ملكه ما بدت لي فيك رغبة، فاشفق على مالك، فيقول النخاس: فما الحيلة؟! ولا بد من بيعك، فتقول الجارية: وما العجلة؟ ولا بد من اختيار مبتاع يسكن قلبي إليه وإلى وفائه وأمانته، فعند ذلك قم إلى عمر بن يزيد النخاس، وقل له: إن معك كتابا ملصقا لبعض الأشراف كتبه بلغة رومية وخط رومي، ووصف فيه كرمه، ووقاره، ونبله، وسخاءه، فناولها لتتأمل منه أخلاق صاحبه، فإن مالت إليه ورضيته فأنا وكيله في ابتياعها منك.

قال بشر بن سليمان: فامتثلت جميع ما حده لي مولاي أبو الحسنعليه‌السلام في أمر الجارية، فلما نظرت في الكتاب بكت بكاء شديدا وقالت لعمر بن يزيد: بعني من صاحب هذا الكتاب وحلفت بالمحرجة والمغلظة إنه متى امتنع من بيعها منه قتلت نفسها، فما زلت أشاحه في ثمنها حتى استقر الأمر فيه على مقدار ما كان أصحبنيه

٢٩

مولايعليه‌السلام من الدنانير فاستوفاه، وتسلمت الجارية ضاحكة مستبشرة، وانصرفت بها إلى الحجيرة التي كنت آوي إليها ببغداد، فما أخذها القرار حتى أخرجت كتاب مولاناعليه‌السلام من جيبها وهي تلثمه وتطبقه على جفنها وتضعه على خدها وتمسحه على بدنها.

فقلت تعجبا منها: تلثمين كتابا لا تعرفين صاحبه؟! فقالت: أيها العاجز الضعيف المعرفة بمحل أولاد الأنبياء، أعرني سمعك وفرغ لي قلبك، أنا مليكة بنت يشوعا بن قيصر ملك الروم، وأمي من ولد الحواريين، تنسب إلى وصي المسيح شمعون أنبئك العجب....(١) .

إلى غير ذلك من القضايا التي دلت على أن الأمر لم يكن بصورة عفوية، أو من القضايا الاتفاقية، بل كانت على وفق تخطيط إلهي محكم، وإن كانت لا تخرج عن ظاهرة الخضوع للأسباب المتعارفة، والتي كانت يبدو فيها أن الأمر طبيعي جدا.

أقول: لا يبعد أن يكون هذا أحد الأسباب التي دعت إلى أن تكون أمهات بعض الأئمةعليهم‌السلام من الجواري.

وحيث أن أم الإمام الرضاعليه‌السلام كانت إحدى الجواري، وإنما وقع اختيار الإمام الكاظمعليه‌السلام عليها لأنها كانت ذات شرف ومكانة وطهر وعفاف، ولما كانت السيدة فاطمة شقيقة الإمام الرضاعليه‌السلام حيث يتحدان في الأب والأم يتبين أن أمها لم تكن امرأة عادية من سائر

____________________

(١) كتاب الغيبة ص ٢٠٨ - ٢١٠.

٣٠

النساء، بل كانت جليلة القدر عظيمة الشأن ذات منزلة رفيعة كما سيأتي بيان ذلك في محله من هذه الصفحات.

الثاني: إن من أعظم الركائز التي قام عليها الدين هو إلغاء الفوارق الطبقية بين أبنائه والمنتسبين إليه، وقد أكد القرآن الكريم في آياته، والرسول العظيمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في سيرته على ذلك، وكانت النظرة إلى جميع الناس على أساس من التساوي ونبذ الفوارق العرقية والنسبية، وأن المعيار في التفاضل بين الناس هو مقدار ما يتحلى به الإنسان من الإيمان والتقوى ومكتسباته الشخصية:( إِنَّ أَكْرَ‌مَكُمْ عِندَ اللَّـهِ أَتْقَاكُمْ ) (١) « ليس لأحد على أحد فضل إلا بالتقوى »(٢) وليس للعنصر العربي فضل على سواه، وليس لسواه فضل عليه، وليس ثمة ما يميز أحدهما على الآخر إلا مقدار قربه من الله تعالى، أو بعده عنه، ولذا رفع الإسلام من شأن سلمان الفارسي الأصل حتى غدا ينسب إلى أهل بيت العصمة فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (سلمان منا أهل البيت)(٣) ، ووضع الإسلام أبا لهب العربي الأصل والقرشي النسب، وهو عم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى غدا من أشد الناس عداوة لله ولرسوله، ونزل فيه قرآن يتلى:

( تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ﴿١﴾ مَا أَغْنَىٰ عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ ﴿٢﴾ سَيَصْلَىٰ نَارً‌ا ذَاتَ لَهَبٍ ) (٤) .

وقد اتخذ هذا المنهج القويم صورا وأشكالا مختلفة، لتثبيت هذه

____________________

(١) سورة الحجرات الآية ١٣.

(٢) مجمع البيان ج ٩ ص ١٣٨.

(٣) بحار الأنوار ج ٢٢ ص ٣٢٦.

(٤) سورة المسد الآية ١ - ٤.

٣١

القاعدة، حتى تكون هي المنطلق والأساس في تقييم الأشخاص، وسعى سعيا حثيثا بالقول تارة، وبالفعل أخرى، لبيان أن الإنسان لا يقعد به نسبه، ولا يعيقه عنصره، أو صنفه، عن تسنم أرفع الدرجات، إذا كانت على وفق ما يريد الله ورسوله:( أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ‌ أَوْ أُنثَىٰ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ ) (١) .

ولم يكن الأمر يقتصر على القضايا الرئيسية ذات الأهمية القصوى، بل كانت تشمل الشؤون الجانبية الأخرى، فما كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله يفاضل بين أحد من المسلمين في العطاء - مثلا -، وكان يرى أن المال مال الله والناس عباد الله، وهكذا كان أمير المؤمنينعليه‌السلام الذي أتخذ هذه السيرة النبوية منهاجا له، يقتفي خطى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تطبيقها على المسلمين معتبرا نفسه واحدا منهم، وأنهم جميعا أخوة في الدين، حتى أصبح هذا المبدأ أحد الأسس التي مهدت السبيل أمام كثير من الناس للالتحاق بهذا الدين والسير في ركابه.

ولو أن هذا المبدأ أخذ مجراه كما أراد الله تعالى ورسوله، وسعى أمير المؤمنينعليه‌السلام لتطبيقه، لما احتجنا إلى حروب الفتوحات التي يعتبرها البعض إحدى إنجازات الإسلام الكبرى.

وما يدرينا فلعل ما يحيق بالمسلمين من خصومهم من الكيد والعدوان إنما هو عمل انتقامي واقتصاص مما جرى في سالف الزمان

____________________

(١) سورة آل عمران الآية ١٩٥.

٣٢

من حروب الفتوحات إذ تركت حقدا دفينا تتوارثه الأجيال، حتى إذا أمكنتهم الفرصة للانتقام شنوا حروبا لا هوادة فيها على الدين والأخلاق وبأساليب مختلفة.

على أن هؤلاء القائمين على هذه الفتوحات لم يكونوا إلا ذوي أطماع في الدنيا وتهالك عليها، ولم يكن لهم نصيب من الإسلام.

والذي يؤيد ذلك: ما رواه ابن كثير في تفسيره - عند قوله تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُ‌وا لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُم مِّنَ اللَّـهِ شَيْئًا وَأُولَـٰئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ‌ ) (١) - بسنده عن أم الفضل أم عبد الله بن عباس، قالت:

بينما نحن بمكة قام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الليل فنادى: هل بلغت، اللهم هل بلغت، ثلاثا، فقام عمر بن الخطاب فقال: نعم، ثم أصبح، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ليظهرن الإسلام حتى يرد الكفر إلى مواطنه، وليخوضن رجال البحار بالإسلام وليأتين على الناس زمان يتعلمون القرآن ويقرؤنه، ثم يقولون قرأنا وعلمنا، فمن هذا الذي هو خير منا، فهل في أولئك من خير؟ (وفي رواية أخرى) فما في أولئك من خير، قالوا: يا رسول الله فمن أولئك؟ قال: أولئك منكم، وهم وقود النار(٢) .

أقول: كان هذا المبدأ أحد الركائز التي فتحت الباب على مصراعيه للدخول في دين الله، ولكن سياسة القائمين على الأمر بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هي التي أوصدت الباب، وأحكمت إغلاقه، حيث رأت غير هذا.

____________________

(١) سورة آل عمران الآية ١٠.

(٢) تفسر القرآن العظيم ج ١ ص ٣٥٧.

٣٣

وأول من أحدث الطبقية بين المسلمين وأوجد الفوارق وأحيى النعرات الجاهلية بينهم فميز العرب على غيرهم، والقرشيين على سائر القبائل، والمهاجرين على الأنصار، والأحرار على الموالي، وفرق بين المسلمين هو عمر بن الخطاب(١) .

وقد كانت هذه النزعة إحدى الفلتات التي كانت تظهر عليه في حياة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولما آل الأمر إليه اتخذها سياسة أجراها على الناس.

روى الكليني بسنده عن حنان، قال: سمعت أبي يروي عن أبي جعفرعليه‌السلام ، قال: كان سلمان جالسا مع نفر من قريش في المسجد، فأقبلوا ينتسبون، ويرفعون في أنسابهم حتى بلغوا سلمان، فقال له عمر ابن الخطاب: أخبرني من أنت؟ ومن أبوك؟ وما أصلك؟ فقال: أنا سلمان بن عبد الله، كنت ضالا فهداني الله عز وجل بمحمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكنت عائلا فأغناني الله بمحمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكنت مملوكا فأعتقني الله بمحمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، هذا نسبي، وهذا حسبي، قال: فخرج النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسلمانرضي‌الله‌عنه يكلمهم، فقال له سلمان: يا رسول الله ما لقيت من هؤلاء، جلست معهم فأخذوا ينتسبون، ويرفعون في أنسابهم حتى إذا بلغوا إلي قال عمر بن الخطاب: من أنت؟ وما أصلك؟ وما حسبك؟ فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : فما قلت له يا سلمان؟ قال: قلت له: أنا سلمان بن عبد الله، كنت ضالا فهداني الله عز ذكره بمحمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكنت عائلا فأغناني الله

____________________

(١) الإمام الحسينعليه‌السلام ص ٢٣٢ - ٢٣٣.

٣٤

عز ذكره بمحمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكنت مملوكا فأعتقني الله عز ذكره بمحمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، هذا نسبي، وهذا حسبي، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا معشر قريش إن حسب الرجل دينه، ومروءته خلقه، وأصله عقله، قال الله عز وجل:( إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ‌ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَ‌فُوا إِنَّ أَكْرَ‌مَكُمْ عِندَ اللَّـهِ أَتْقَاكُمْ ) (١) ثم قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لسلمان:

ليس لأحد من هؤلاء عليك فضل إلا بتقوى الله عز وجل، وإن كان التقوى لك عليهم فأنت أفضل(٢) .

وكانت هذه السياسة منه طامة كبرى حرفت مسار الإسلام عن طريقه المستقيم، ولو أعطينا التأمل حقه في هذا الأمر لرأينا أن ما أحدثه عمر من التمايز والتفاضل بين المسلمين على أساس من اعتبارات محضة، لا واقع لها أو بإزائها، قد أوجد ثغرة كبيرة، وأحدثت ردة فعل عنيفة راح ضحيتها كثير من المبادئ المشرقة، بل إن ذلك أوجد الخلاف والشقاق بين المسلمين أنفسهم، وما تمرد المتمردين على أمير المؤمنينعليه‌السلام إلا نتيجة طبيعية لهذه السياسة التي أسسها عمر بن الخطاب، وذلك لأن علياعليه‌السلام أراد أن يرجع بالناس إلى سيرة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأباها أكثرهم، وكان الخلاف والشقاق إذ اعترضوا على أمير المؤمنينعليه‌السلام لمساواته بينهم وبين عبيدهم، وهم يرون أن لهم شأنا، ذلك الشأن الذي غرسه عمر في أنفسهم، ووافق هوى في

____________________

(١) سورة الحجرات الآية ١٣.

(٢) الروضة من الكافي - الحديث ٢٠٣ ص ١٨١ - ١٨٢.

٣٥

قلوبهم، فصدقوا، وقد حليت الدنيا في أعينهم فأبوا الحق بل حاربوه.

ولذا فليس من البعيد القول بأن قتل عمر إنما هو نتيجة لسياسته التي انتهجها وطبقها على الناس من تفضيل العرب على غيرهم، فكان الساعي لحتفه بظلفه، وإن كانت المسألة في واقعها أبعد من ذلك.

ولقد استشرت هذه السياسة العمرية، ولا سيما في العصر الأموي وما تلاه من العصور، لأنها وافقت هوى بني أمية الذين تباهوا بأصولهم العربية حتى بلغ الأمر أن ألغي الإسلام، وكانت الجزية تؤخذ ممن أسلم بحجة أنه إنما أسلم هربا من دفع الجزية، فانطمست قيم الدين من نفوس الناس، ولم يبق من الإسلام إلا شكل لا يحمل محتوى، وأصبح هم القائمين على الأمر فرض سيطرتهم وسياستهم على الناس في معزل عن الدين، وأصبح الكتاب والشعراء بعد ذلك يتغنون بهذه الأمجاد الزائفة حيث يتشدقون بأن الإسلام قد ضرب بأطنابه في أقصى الشرق وأقصى الغرب وما علموا أو علموا وتغافلوا أن هذا الإسلام الذي يتحدثون عنه إنما هو قشور خالية من اللباب(١) ، ولذا تلاشى ذلك الإسلام عند أول وثبة من بعض أهل تلك المناطق، فعادت البلدان إلى كفرها بعد أن كانت بحسب الظاهر في عداد البلاد الإسلامية وأهلها في عداد المسلمين.

إذن كانت هذه السياسة خطيرة إلى حد كبير، وقد تربت عليها

____________________

(١) الشهاب الثاقب في بيان معنى الناصب ص ٥٩ - ٦٧.

٣٦

النفوس، وأصبح الذين يرون أنفسهم من سادة القوم أن الاقتران بالجواري عار لا يليق بالأشراف.

ويدل على ذلك ما ورد من معاتبة عبد الملك بن مروان للإمام زين العابدينعليه‌السلام ، واعتراضه عليه حين تزوج بإحدى الجواري، فقد روى الكليني بسنده عن يزيد بن حاتم، قال: كان لعبد الملك بن مروان عين بالمدينة يكتب إليه بأخبار ما يحدث فيها، وإن علي بن الحسينعليهما‌السلام أعتق جارية ثم تزوجها، فكتب العين إلى عبد الملك، فكتب عبد الملك إلى علي بن الحسينعليهما‌السلام : أما بعد، فقد بلغني تزويجك مولاتك، وقد علمت أنه كان في أكفائك من قريش من تمجد به في الصهر، وتستنجبه في الولد، فلا لنفسك نظرت، ولا على ولدك أبقيت، والسلام.

فكتب إليه علي بن الحسينعليهما‌السلام أما بعد، فقد بلغني كتابك تعنفني بتزويجي مولاتي، وتزعم أنه كان في نساء قريش من أتمجد به في الصهر، واستنجبه في الولد، وأنه ليس فوق رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرتقى في مجد ولا مستزاد في كرم، وإنما كانت ملك يميني خرجت متى أراد الله عز وجل مني بأمر التمس به ثوابه، ثم ارتجعتها على سنة، ومن كان زكيا في دين الله فليس يخل به شئ من أمره، وقد رفع الله بالإسلام الخسيسة، وتمم به النقيصة، وأذهب به اللؤم فلا لؤم على امرء مسلم، وإنما اللؤم لؤم الجاهلية، والسلام.

٣٧

فلما قرأ الكتاب رمى به إلى ابنه سليمان، فقرأه فقال: يا أمير المؤمنين لشد ما فخر عليك علي بن الحسينعليهما‌السلام ، فقال: يا بني لا تقل ذلك، فإنه ألسن بني هاشم التي تفلق الصخر، وتغرف من بحر، إن علي ابن الحسينعليهما‌السلام يا بني يرتفع من حيث يتضع الناس(١) .

وعرض بعض المحققين صورا من هذه السياسة الهوجاء التي اتبعها الحكام في احتقار كل من هو غير عربي فقال: لقد أمر الحجاج أن لا يؤم في الكوفة إلا عربي...، وقال لرجل من أهل الكوفة: لا يصلح للقضاء إلا عربي. كما طرد غير العرب من البصرة والبلاد المجاورة لها، واجتمعوا يندبون: وا محمدا و أحمدا، ولا يعرفون أين يذهبون، ولا عجب أن ترى أهل البصرة يلحقون بهم ويشتركون معهم في نعي ما نزل بهم من حيف وظلم.

بل لقد قالوا: لا يقطع الصلاة إلا حمار، أو كلب، أو مولى.

وقد أراد معاوية أن يقتل شطرا من الموالي عندما رآهم كثروا، فنهاه الأحنف عن ذلك.

وتزوج رجل من الموالي بنتا من أعراب بني سليم، فركب محمد ابن بشير الخارجي إلى المدينة، وواليها يومئذ إبراهيم بن هشام بن إسماعيل، فشكى إليه ذلك، فأرسل الوالي إلى المولى، ففرق بينه وبين زوجته، وضربه ماءتي سوط، وحلق رأسه وحاجبه ولحيته، فقال

____________________

(١) الفروع من الكافي ج ٥ - كتاب النكاح - باب آخر منه الحديث ٤ ص ٣٤٤.

٣٨

محمد بن بشير في جملة أبيات له:

قضيت بسنة وحكمت عدلا

ولم ترث الخلافة من بعيد

ولم تفشل ثورة المختار إلا لأنه استعان فيها بغير العرب، فتفرق العرب عنه لذلك.

ويقول أبو الفرج الأصفهاني:... كان العرب إلى أن جاءت الدولة العباسية إذا جاء العربي من السوق ومعه شئ ورأى مولى دفعه إليه فلا يمتنع.

بل كان لا يلي الخلافة أحد من أبناء المولدين الذين ولدوا من أمهات أعجميات.

وأخيرا فإن البعض يقول: إن قتل الحسين كان الكبيرة التي هونت على الأمويين أن يقاوموا اندفاع الإيرانيين إلى الدخول في الإسلام(١) .

ونقل المرحوم السيد عبد الرزاق المقرم في كتابه مقتل الحسينعليه‌السلام عن أحمد أمين في كتابه ضحى الإسلام قوله: الحق أن الحكم الأموي لم يكن حكما إسلاميا يسوى فيه بين الناس، ويكافئ المحسن عربيا كان أو مولى ويعاقب المجرم عربيا كان أو مولى، وإنما الحكم فيه عربي، والحكام خدمة للعرب، وكانت تسود العرب فيه النزعة الجاهلية لا النزعة الإسلامية(٢) .

ولما كان أهل البيتعليهم‌السلام هم أئمة الدين، أرادوا إظهار فساد هذه

____________________

(١) الحياة السياسية للإمام الرضاعليه‌السلام ص ٢٦ - ٢٧.

(٢) مقتل الحسينعليه‌السلام هامش ص ٢٧.

٣٩

السياسة بإجراء عملي، وبدأوا بأنفسهم، وهم وإن لم يعطوا الفرصة ليمارسوا دورهم في تطبيق تعاليم الدين إلا أنهم لا يتخلون عن أداء وظيفتهم مهما أمكن، لذلك اختاروا أمهات الأولاد الجواري - مع ملاحظة سائر الشرائط - ليثبتوا أن لا فرق بين أحد من الناس، وأن ما وضع من الامتيازات لبعض دون بعض لم تكن بحسب المقاييس الإلهية، وإذا كانت الظروف قد قهرت بعض أولئك النسوة فأصبحن يبعن في أسواق الرقيق فلا يعني ذلك أنهن خاليات من الشرف والفضيلة، بل قد يكون العكس صحيحا، فرب جارية أحاطتها العناية الإلهية لتكون قرينة للعصمة وأما للمعصوم، وهذا ما حدث بالنسبة إلى أمهات بعض الأئمةعليهم‌السلام .

ولا يقاس بعد ذلك فضل هذه الجواري والإماء اللاتي أصبحن أوعية لحمل الإمامة بأي امرأة أخرى ممن لم تحظ بهذا الشرف العظيم وإن كانت من أرقى البيوتات العربية بحسب الظاهر.

الثالث: إن مما لا شك فيه أن رسالة النبي المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هي الخاتمة الناسخة لجميع الرسالات السابقة وهي الشاملة لكافة البشر، فلا دين بعد دين الإسلام،( إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّـهِ الْإِسْلَامُ ) (١) ولا نبي بعد النبي محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

وذلك من البديهيات المسلمة التي لا مجال للنزاع فيها، وأيدت ذلك الأدلة والبراهين.

____________________

(١) سورة آل عمران الآية ١٩.

٤٠

وقد اقتضت الحكمة الإلهية أن يبقى هذا الدين محفوظا وإن رحل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى الرفيق الأعلى، وقد أوكلت مهمة حفظ الدين إلى ذرية النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعترته، وهم وراث علمه ومقامه الأئمة الاثنا عشر أولهم أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وآخرهم الحجة بن الحسن العسكريعليه‌السلام ، وعلى ذلك قامت الأدلة والبراهين أيضا.

ونتيجة ذلك أنه كما أن نبوة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عامة شاملة، فكذلك إمامة الأئمةعليهم‌السلام عامة وشاملة، ومعنى ذلك أن إمامة الأئمةعليهم‌السلام ليست مقتصرة على مجتمع معين أو عنصر معين، أو فئة من الناس معينة، فكما أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعث للأبيض والأسود على السواء، فكذلك إمامة الأئمةعليهم‌السلام لكافة الناس.

ومن هنا يتضح لنا وجه آخر في اقتران بعض الأئمةعليهم‌السلام بنساء غير عربيات بل من قوميات أخرى كالفارسية أو الرومية أو غيرهما، وقد وردت الروايات الدالة على ذلك. فإن أم الإمام السجادعليه‌السلام كانت من أصل فارسي(1) ، وكانت أم الإمام الكاظمعليه‌السلام من أشراف الأعاجم(2) ، وكانت أم الإمام الرضاعليه‌السلام من أهل المغرب(3) ، وكانت أم الإمام الجوادعليه‌السلام من أهل النوبة من قبيلة مارية القبطية أم إبراهيم ابن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكانت أفضل نساء زمانها، وأشار إليها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله: بأبي ابن خير الإماء النوبية الطيبة(4) ، وكانت أم الإمام الهاديعليه‌السلام

____________________

(1) الأنوار البهية ص 107.

(2) الأنوار البهية ص 179.

(3) عيون أخبار الرضا ج 1 ص 18.

(4) منتهى الآمال ج 2 ص 523.

٤١

مغربية، ولم يكن لها مثيل في الزهد والتقوى(1) ، وكانت أم الإمام الحسن العسكري في بلدها من الأشراف في مصاف الملوك(2) ، وكانت أم الإمام الحجة بنت قيصر ملك الروم، وأمها من ولد الحواريين، وتنسب إلى وصي المسيح شمعون(3) .

والذي نود أن نشير إليه في هذا الوجه أن الإمامة لما كانت عامة وأن الإمام إمام لكل الناس على شتى اختلاف أعراقهم وأصولهم انحدر بعض الأئمة من جهة أمهاتهم من أصول غير عربية ليكون ذلك علامة بارزة على عالمية إمامتهم، وشمولها لجميع أهل الأرض، وأن لكل من السلالات البشرية طرفا يوصلها بهذا الدين الإلهي العظيم، وتلك حكمة بالغة ولطف عام لكل البشر، وأما العروبة فليس لها خصوصية في حد ذاتها من حيث هي،( إِنَّ أَكْرَ‌مَكُمْ عِندَ اللَّـهِ أَتْقَاكُمْ ) .

ولعل هناك سرا آخر ينطوي تحت هذا الوجه قد تكشف عنه الأيام نورده كاحتمال ليس إلا، إذ لا نملك دليلا قاطعا عليه، وإن كان في نفسه غير بعيد، وحاصله: أن الإمام المهدي الموعود به على لسان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ونطق بذلك القرآن الكريم، وأكدت عليه الروايات المتواترة عن أهل البيتعليهم‌السلام سيكون له الشأن العظيم في إعلاء كلمة الله تعالى، وسيملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا، وسيقوم بأداء مهمته في أغلب أحواله بشكل طبيعي، وإن كان يأتي

____________________

(1) منتهى الآمال ج 2 ص 591.

(2) منتهى الآمال ج 2 ص 649.

(3) منتهى الآمال ج 2 ص 695.

٤٢

بالمعجزة والكرامة تأييدا من الله تعالى، ولا شك أن تلك مهمة شاقة كما شرحتها الروايات والآيات.

وإذا كانت أم الإمام المهديعليه‌السلام تنحدر من سلالة أحد أوصياء عيسى بن مريمعليهما‌السلام فما يدرينا: لعل في ذلك تمهيدا وتسهيلا لإنجاز مهمة الإمامعليه‌السلام في خضوع النصارى والكفار وتسليمهم له نظرا إلى أن أجداده لأمه منهم، فيحرك في نفوسهم الجانب العاطفي للرحم القائمة بينه وبينهم، الأمر الذي يختصر عليه كثيرا من الأمور وينجزها في سهولة ويسر.

على أن ذلك أحد أسباب اللطف العام بأولئك النصارى حيث يكونون على مقربة من الهداية والنجاة.

وبعد هذا نقول: إن أم السيدة فاطمة المعصومة هي أم الإمام الرضاعليه‌السلام ، وقد اجتمعت فيها الكمالات والفضائل التي أهلتها لأن تكون أما لولي اللهعليه‌السلام وحاضنة لكريمة أهل البيتعليهم‌السلام ، ولم تسعفنا الروايات الواردة في تاريخ مراحل حياتها إلا بالنزر القليل، وإن كان يكشف عن جلالة قدرها ورفعة مقامها، فقد ورد في بعض الروايات أنها كانت تعيش في بيت الإمام الصادقعليه‌السلام قبل اقترانها بالإمام الكاظمعليه‌السلام ، وكانت جليلة ذات عقل ودين(1) .

روى الصدوق بسنده عن علي بن ميثم أنه قال: اشترت حميدة المصفاة - وهي أم أبي الحسن موسى بن جعفرعليهما‌السلام - وكانت من

____________________

(1) منتهى الآمال ج 2 ص 405.

٤٣

أشراف العجم - جارية مولدة واسمها تكتم، وكانت من أفضل النساء في عقلها ودينها وإعظامها لمولاتها حميدة المصفاة، حتى أنها ما جلست بين يديها منذ ملكتها إجلالا لها.

وكانت علائم الجلالة والنجابة تلوح منها حتى شهدت بذلك مولاتها حميدة المصفاة على ما يروي الصدوق، فقد روى أن حميدة قالت لابنها موسىعليه‌السلام : يا بني إن تكتم جارية ما رأيت جارية قط أفضل منها، ولست أشك أن الله تعالى سيطهر نسلها، إن كان لها نسل، وقد وهبتها لك فاستوص بها خيرا(1) .

ولا شك أن الحياة في بيت الإمام الصادقعليه‌السلام ، في حد ذاتها كافية في تأسيس حياة هي أفضل ما تكون، حيث منبع الطهر والعفاف والقداسة والكمال، فإذا انضم إلى ذلك الاستعداد التام كانت النتيجة هي بلوغ الغاية الممكنة، في الكمال والاستقامة.

وقد انعكس ذلك على حياة السيدة تكتم، فكانت من أهل العبادة والتهجد، فإنها لما أنجبت الرضاعليه‌السلام وكان كما تصفه الروايات يرتضع كثيرا، وكان تام الخلقة، قالت: أعينوني بمرضعة، فقيل لها أنقص الدر؟

فقالت: لا أكذب، والله ما نقص، ولكن علي ورد من صلاتي وتسبيحي وقد نقص منذ ولدت(2) .

وفي ذلك دلالة على عظمة هذه المرأة، ومدى تعلقها بالله تعالى وارتباطها به، ولا شك أن لذلك تأثيرا على ما ينحدر منها من نسل.

____________________

(1) عيون أخبار الرضا ج 1 ص 15.

(2) عيون أخبار الرضا ج 1 ص 15.

٤٤

تنبيه:

قد تقدم أن الإمام الكاظمعليه‌السلام هو الذي اشترى السيدة تكتم حيث بعث هشاما لابتياعها له، ومر آنفا أن حميدة المصفاة أم الإمام الكاظمعليه‌السلام هي التي اشترتها وظاهر ذلك هو التنافي.

ولكن يمكن الجمع بين الروايتين بأن يقال: إن الإمام الكاظمعليه‌السلام اشتراها جارية لأمه فمكثت عند أمه مدة، ثم وهبتها أمه إليه، وبذلك يرتفع التنافي بين الروايتين.

وعلى أي تقدير فقد ذكرت الروايات أن السيدة تكتم كانت ذات حظوة عند الإمامعليه‌السلام ، وموضع عنايته، فإنها لما ولدت له الرضاعليه‌السلام سماها الطاهرة(1) .

وكان لها عدة أسماء منها: تكتم، ونجمة، وأروى، وسكن، وسمانة، وأم البنين، وقيل: خيزران، وصقر، وشقراء(2) .

____________________

(1) عيون أخبار الرضا ج 1 ص 15.

(2) منتهى الآمال ج 2 ص 404 - 405.

٤٥

تعدد الأسماء:

ومما يناسب المقام الإشارة إلى ظاهرة تعدد أسماء الجواري والعبيد، والملاحظ أن لأمهات الأولاد عدة أسماء، فإن لأم الإمام الرضاعليه‌السلام كما مر عشرة أسماء، ولغيرها من أمهات الأئمةعليهم‌السلام عدة أسماء، وهي ظاهرة تثير الالتفات، ووراءها حكمة لعلنا نستطيع استجلاءها من خلال ما تسعفنا به المصادر التي تناولت هذه الظاهرة أو أشارت إليها.

ونقول: إن لهذه الظاهرة أصلا شرعيا، فقد ورد النص بذلك، واستفاد الفقهاء منه استحباب تغيير اسم العبد أو الجارية، أما النص فهو ما رواه الكليني في الكافي بسنده عن ابن أبي عمير (عن رجل) عن زرارة، قال: كنت جالسا عند أبي عبد اللهعليه‌السلام ، فدخل عليه رجل، ومعه ابن له، فقال أبو عبد اللهعليه‌السلام : ما تجارة ابنك؟ فقال: التنخس، فقال له أبو عبد اللهعليه‌السلام : لا تشتر شينا ولا عيبا، وإذا اشتريت رأسا فلا ترين ثمنه في كفة الميزان، فما من رأس يرى ثمنه في كفة الميزان فأفلح، وإذا اشتريت رأسا فغير اسمه وأطعمه شيئا حلوا إذا ملكته، وصدق (وتصدق خ ل) عنه بأربعة دراهم(1) .

قال المحقق في الشرائع: ويستحب لمن اشترى مملوكا أن يغير اسمه(2) .

____________________

(1) الفروع من الكافي ج 5 باب شراء الرقيق الحديث 14 ص 212.

(2) شرائع الإسلام ج 2 ص 58.

٤٦

وقال العلامة في القواعد: ويستحب لمن اشترى مملوكا تغيير اسمه وإطعامه حلوة والصدقة عنه بشئ(1) .

وقال في التذكرة: يكره للرجل إذا اشترى مملوكا أن يريه ثمنه في الميزان، ويستحب له تغيير اسمه، وأن يطعمه شيئا من الحلاوة، وأن يتصدق عنه بأربعة دراهم(2) .

وقال صاحب الحدائق: ومنها أنه يستحب لمن يشتري مملوكا أن يغير اسمه، وأن يطعمه شيئا من الحلو، وأن يتصدق عنه بشئ(3) .

وغيرها من الأقوال الكثيرة الدالة على ذلك، والتي يظهر منها الاتفاق على هذا الحكم، وإن كان أمرا استحبابيا.

ويبدو الجانب الأخلاقي واضحا في هذا الحكم، فإن للرقية واستعباد الإنسان لأخيه الإنسان وصيرورته آلة لا يملك من أمره شيئا آثارا سيئة خطيرة.

ولم تكن الرقية تشريعا إلهيا، وليس في الإسلام حكم بمشروعية الاسترقاق الابتدائي، وإنما كان الرق نظاما سائدا بين الناس قبل الإسلام في الأمم السابقة.

ولما جاء الإسلام كان هذا النظام قائما بين الناس فأقره ووضع له أحكاما خاصة من شأنها القضاء عليه قضاء تاما في معالجة حكيمة لهذه المسألة المهمة.

____________________

(1) قواعد الأحكام ص 130.

(2) تذكرة الفقهاء ج 2 ص 500.

(3) الحدائق الناضرة ج 19 ص 417.

٤٧

وفي الأحكام الجزائية التي وضعها الإسلام عند المخالفات الشرعية أكبر شاهد على ذلك، إضافة إلى ما ندب إليه الدين، ورغب فيه، ووعد عليه الثواب ونيل الدرجات، وإثارة الشعور الإنساني وتحريك الجانب العاطفي عند الأحرار نحو العبيد الذين قهرتهم ظروف معينة أصبحت فيها أمورهم وشؤونهم بأيدي غيرهم.

هذا غير ما فتحه الإسلام من أبواب تمكن العبد من الدخول فيها للانطلاق من قيد الرقية، فإن لذلك دورا آخر ساهم في القضاء على هذه المشكلة.

نعم سوغ الإسلام الاسترقاق في حالة واحدة، وليست هي أمرا ابتدائيا كما ذكرنا، وهي ما ذكرته المصادر الفقهية من جواز الاسترقاق في حالة الحروب بين المسلمين وبين غيرهم من الملل الكافرة، ولكن على ضوء شرائط معينة، وفي حالات خاصة، وقد تكفلت الكتب الفقهية ببيان ذلك ضاربة بذلك أروع المثل الأخلاقية.

وإنما ساغ ذلك لأنه عمل جزائي لوقوفه في مواجهة الإسلام ومحاربته، وقد كان في معرض القتل، إلا أنه لما وقع أسيرا كان جزاؤه أن يسترق، وفي ذلك تخفيف وامتنان عليه، على أن هناك حلولا ذكرت في الفقه تعالج حالة الاسترقاق يتمكن من خلالها الخروج من هذه الحالة.

ومن ذلك يظهر أن الاسترقاق ليس مقصودا في الشرع لذاته، ولا

٤٨

غرضا من أغراضه، وإنما هو أمر استثنائي وظرف طارئ اقتضى ذلك، ولسنا في مقام دراسة هذه الناحية، وتكفينا هذه الإشارة الإجمالية التي يتضح من خلالها عظمة الإسلام وسمو أحكامه وشرف مقاصده ونبل أهدافه.

ثم نقول: إن هذا الإنسان الذي قهرته الظروف فجعلت منه آلة لا يملك من أمره شيئا، يمر بمعاناة وآلام نفسانية خطيرة، وتعتصره المرارة حيث يرى نفسه عبدا حقيرا يستعبده غيره، ممن قد يكون دونه شرفا ومكانة فتنهدم معنوياته وتنسد في وجهه الآمال والأحلام، وربما يتنقل من يد تصفع إلى أخرى تلطم، وهكذا يعيش محطما قد ارتبط مصيره بأيدي الباعة والنخاسين.

ومن هنا تتجلى الحكمة في استحباب تغيير اسمه عند الشراء لأنه بذلك يبدأ حياة جديدة ينسى فيها ماضيه البائس، وأيامه السوداء، وفي ذلك إعانة له على نسيان أو تناسي عهده السابق وتخفيف لآلامه ومعاناته.

وفي إطعامه الحلو دلالة أخرى: فإن فيها إشعارا ببداية عهد جديد لا مرارة فيه، وهكذا في التصدق عنه بشئ.

وأما كراهة أن يرى ثمنه فهي أوضح دلالة وأجلى بيانا في مراعاة الشعور وحفظ الكرامة الإنسانية التي دأب الإسلام على مراعاتها والحفاظ عليها في جميع الأحوال والظروف.

٤٩

ولسنا نقول: إن ما يعانيه هذا الإنسان من الهوان دائمي التحقق والوقوع، وإنما هو مقتضى طبيعة الاسترقاق وشأنه، وإلا فقد ينتقل المملوك من يد رحيمة إلى يد أرحم، ومن عطف إلى ما هو أشد عطفا وشفقة وحنوا، وربما كانت سعادة امرء أن يعيش مملوكا لا أن يعيش طليقا، وفي ما يذكره التاريخ من قصة زيد بن حارثة حيث فضل الحياة مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله على الحياة مع أبيه حتى بلغ الأمر أن تبناه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فكان يدعى زيد بن محمد بعد أن تبرأ منه أبوه إلى أن نزل قوله تعالى:( ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ ) (1) .

وفي ما حدث به التاريخ من سيرة أمير المؤمنينعليه‌السلام وأولاده مع مماليكهم شواهد تدل على أن ما ذكرناه ليس مطردا وفي جميع الأحوال، فإن كثيرا من أولئك العبيد والجواري قد بلغوا مبلغا من العلم والفضيلة والشرف انحنى لهم التاريخ إجلالا لمقامهم واعترافا بسمو ذواتهم، وإكبارا لعظمتهم، لأنهم حظوا بقلوب عطوفة، ونفوس رحيمة، وعقول ناضجة مدبرة، مكنتهم من تسنم أرقى الدرجات.

إذن فتغيير الاسم يكشف عن حكمة بالغة أراد منها الشرع أن يخفف من شئ من المعاناة التي قد ينالها من قهرته الظروف فساقته إلى سوق الرقيق.

ومن المحتمل أن يكون تعدد الأسماء للشخص الواحد لكونها

____________________

(1) مجمع البيان في تفسير القرآن ج 7 ص 335 - 337.

٥٠

تتضمن معاني وإشارات إلى خصائص المسمى، وهذا الأمر نقف عليه في كثير من الناس أحرارا كانوا أو عبيدا، فإن لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أكثر من اسم يحمل أكثر من معنى وأكثر من لقب كذلك، كما للأئمةعليهم‌السلام وللصديقة الزهراءعليها‌السلام ، وكان ذلك محل عناية من الآداب الشرعية التي لم تغفل هذا الجانب فرغبت في اختيار الاسم الحسن واللقب الحسن والكنية الحسنة.

ومن المحتمل أيضا أن تعدد الأسماء لم يكن عن شئ من ذلك ولا سيما في العبيد والجواري، إذ لا يعيشون حياة مستقرة، ولا يهم البائع أو المشتري اسم سلعته، فيضع بإزائها اسما ما لمجرد التمييز، فتجتمع عدة أسماء للشخص الواحد نتيجة ذلك.

ولعل هناك وجوها أخرى لم ندركها بعد وراء تعدد الأسماء، إلا أن في ما ذكرناه قد يكشف بعض الوجه في تعدد أسماء أمهات الأئمةعليهم‌السلام .

وبذلك لا نحتاج إلى تكلف البحث عن المعنى الاشتقاقي لمعنى الاسم وتطبيق المعنى المناسب على المسمى كما حاول بعضهم(1) أن يوجد المناسبة ولو كانت بعيدة ليستنتج الوجه في التسمية.

وإنما لا نحتاج إلى ذلك لأننا لا نعلم الواضع لهذه الأسماء، لنلتمس الوجه اللائق في التسمية بالاسم المعين، نعم إذا كان الواضع معروفا وهو عالم بمداليل الألفاظ قاصدا لمعانيها فلا بد من حمل كلام الحكيم

____________________

(1) كريمة أهل البيتعليهم‌السلام (فارسي) ص 83 - 86.

٥١

على ما يناسبه من المعاني، صيانة لكلامه عن اللغو، وقد مر أن الإمام الكاظمعليه‌السلام أطلق اسم الطاهرة على السيدة تكتم بعد أن أنجبت الإمام الرضاعليه‌السلام .

فهذه التسمية منهعليه‌السلام تكشف عن معنى عظيم في المسمى صدر من المعصوم في شأن أم المعصوم، وهو العالم بحقائق الأمور الذي يضع الأشياء في مواضعها، وهو نظير ما ورد عن أبي جعفر محمد بن علي الباقرعليه‌السلام ، فقد جاء في كتاب الكافي أنهعليه‌السلام لما بعث من يشتري حميدة أم الإمام الكاظمعليه‌السلام وجئ بها إليه، قال لها: ما اسمك؟ قالت:

حميدة، فقالعليه‌السلام : حميدة في الدنيا محمودة في الآخرة(1) .

فإنه وإن لم تكن التسمية منهعليه‌السلام إلا أنه إقرار لها وإمضاء منه، بل فسرهعليه‌السلام بتفسير يكشف عن معنى عظيم في هذه المرأة الطاهرة، وقد وصفها الإمام الصادقعليه‌السلام كما في الكافي بقوله: حميدة مصفاة من الأدناس كسبيكة الذهب، ما زالت الأملاك تحرسها حتى أديت إلي كرامة من الله لي، والحجة من بعدي(2) .

وبناء على هذا فبقية الأسماء إن كانت على الوجه الذي ذكرناه فهو، وإلا فلا داعي للتكلف في التماس معنى مناسب فإن بعض ما ذكر من المعاني وتطبيقه عليها بعيد جدا.

هذا، وقد ذكرت ستة أسماء أخرى لأم الإمام الرضاعليه‌السلام غير ما

____________________

(1) الأصول من الكافي ج 1 باب مولد أبي الحسن موسى بن جعفرعليه‌السلام الحديث 1 ص 477.

(2) الأصول من الكافي ج 1 باب مولد أبي الحسن موسىعليه‌السلام الحديث 2 ص 477.

٥٢

ذكرناه، وهي: سكينة، وسلامة، وتحية، ونجية، وسها، وشهد(1) .

وإلى هنا تبين أن أم الإمام الرضاعليه‌السلام والسيدة فاطمة المعصومةعليها‌السلام من سيدات النساء، وقد بلغت من الشرف والفضل والطهر والعفاف والكمال أعلى المراتب وأرفع الدرجات، حتى أصبحت قرينة المعصوم وأما للمعصوم. فسلام الله عليها وتحياته وبركاته.

____________________

(1) كريمة أهل البيتعليهم‌السلام ص 86.

٥٣

ولادة السيدة فاطمة المعصومةعليها‌السلام

في ذلك البيت الطاهر ولدت سليلة الطهر والعفاف فاطمة المعصومة، وكانت الظروف التي ألمت بأهل البيتعليهم‌السلام آنذاك عصيبة جدا إلى حد غاب فيها عن المؤرخين والرواة تسجيل أحداث الولادة وتأريخها، أو ذكر شئ مما يتعلق بها، إذ كانت السلطة العباسية قد أحكمت قبضتها وأخذت تتتبع مناوئيها ممن تتوجس منهم وترى أنهم سبب إزعاج لهم ومصدر قلق لسياستهم، وهم العلويون وفي طليعتهم الإمام الكاظمعليه‌السلام صاحب الحق الشرعي الذي ما فتئ يلمح بل ويصرح بأنه صاحب الحق، وأن العباسيين خدعوا الأمة بسياستهم الملتوية حيث أعلنوا للناس أن حركتهم ضد بني أمية إنما كانت غضبا لبني هاشم مما حل بهم من خصومهم الأمويين، وطلبا لثأرهم منهم، وأن دعوتهم كانت للرضا من آل محمدعليهم‌السلام ، وبذلك استطاعوا أن يسيروا عواطف الناس ومشاعرهم نحو تأييدهم، وانطلت اللعبة على أكثر الناس فاستجابوا لهم في سذاجة وحسن نية، وفي غفلة عما بيته

٥٤

العباسيون، حتى انخدع بذلك القواد الذين كان لهم الدور في توطيد الملك والقضاء على بني أمية وإخضاع البلاد، في ظن منهم أن الدعوة للرضا من آل محمدعليهم‌السلام دعوة صادقة، وما علموا أن بني العباس إنما استخدموهم آلات لتحقيق أغراضهم، ولذا ما إن استلم العباسيون زمام الأمر واكتشف هؤلاء القواد أنهم خدعوا فأعلنوا سخطهم حتى فتكوا بهم واستأصلوهم كأبي سلمة الخلال، وأبي مسلم الخراساني وغيرهما من القادة العسكريين(1) .

ولم تكن هذه اللعبة لتخفى على آل محمدعليهم‌السلام الذين اتخذهم العباسيون درعا تترسوا به من أجل الوصول إلى أغراضهم، وقد كشف الإمام الصادقعليه‌السلام هذه المهزلة العباسية وأخذ حذره ولم يتورط في أحداث هذه الحركة المبيتة في حين قد تورط غيره من بني عمه فانساق معهم، وكان مآله أن فتك به كما فتك بغيره.

وفي هذه الحقبة الزمنية من التاريخ أحداث كبيرة، وهي جديرة بالبحث، ولسنا في صدد الحديث عنها، ولعلنا نشير إلى بعضها في موضع آخر.

أقول: من أجل هذا تحاشى الرواة والمؤرخون من الدنو من أهل البيتعليهم‌السلام في هذه الفترة لتسجيل ونقل بعض الأحداث التي ترتبط بتاريخهم خوفا على أنفسهم من بطش الحكام وغضبهم بل انضم

____________________

(1) حياة الإمام موسى بن جعفرعليهما‌السلام ج 1 ص 347 - 372.

٥٥

بعضهم إلى صفوف الحكام تزلفا وطمعا.

وقد غاب عنا كثير من الحقائق وخفيت علينا وقائع كثيرة، وذهبت في طي النسيان، ومنها تاريخ ولادة السيدة المعصومةعليها‌السلام ، فلم يرد في شئ من الروايات ذكر السنة التي ولدت فيها فضلا عن اليوم أو الشهر.

وما بأيدينا من المصادر التي ذكرت تاريخ ولادتهاعليها‌السلام هي في الحساب متأخرة جدا، ولم تذكر مستندا لذلك، بل ذكر بعض الكتاب أن ذلك أمر مجهول(1) .

ونحن وإن ننقل ما ذكره المؤلفون إلا أننا لسنا على يقين، وتبقى حلقة مفقودة تضاف إلى كثير من الحلقات الضائعة من تاريخ أهل البيتعليهم‌السلام .

ذكر بعض المؤلفين - ونسبه إلى المؤرخين - أن ولادتهاعليها‌السلام كانت سنة 183 هـ، وهي السنة التي استشهد فيها والدها الإمام الكاظمعليه‌السلام ، في قول أكثر المؤرخين(2) .

وعلى هذا فلم تحظ السيدة المعصومة بلقاء أبيهاعليه‌السلام ورعايته، وعاشت في كنف أخيها وشقيقها الإمام الرضاعليه‌السلام وصي أبيه والقائم مقامه.

واستبعد بعضهم(3) أن تكون ولادتهاعليها‌السلام في تلك السنة، لأن السنوات الأربع الأخيرة من عمرهعليه‌السلام - على أقل التقادير - كان فيها

____________________

(1) رياحين الشريعة ج 5 (فارسي) ص 31.

(2) أعلام النساء المؤمنات ص 576.

(3) كريمة أهل البيتعليهم‌السلام ص 103.

٥٦

رهين السجون العباسية، مضافا إلى أنه قد ذكر أن للإمام الكاظمعليه‌السلام أربعا من البنات(1) ، اسم كل منها فاطمة، وأن الكبرى من بينهن هي فاطمة المعصومةعليها‌السلام ، ولذا فلا بد أن تكون ولادتها قبل سنة 179 هـ، وهي السنة التي قبض فيها على الإمامعليه‌السلام وأودع السجن.

ولكن بالالتفات إلى احتمال أن هؤلاء الفاطميات الثلاث - غير الكبرى - لسن من أم واحدة، بل من أمهات شتى، فلا استبعاد في أن تكون ولادتهن في سنة واحدة.

على أنه يمكن القول بأنه قد قبض على الإمامعليه‌السلام وأمهاتهن حوامل بهن، وكانت ولادتهن بعد سنة 179 هـ، وأن فاطمة المعصومة كانت ولادتها في سنة 179 هـ.

ولكن مع ذلك لا يمكن الجزم بشئ، نعم بناء على أن شهادة الإمام الكاظمعليه‌السلام كانت سنة 183 هـ، فمن البعيد أن تكون ولادة السيدة المعصومة في تلك السنة، ولا سيما أنها الكبرى من بين أخواتها الثلاث.

ثم إنه قد ذهب آخرون(2) إلى أن ولادتهاعليها‌السلام كانت في غرة شهر ذي القعدة سنة 173 هـ. والقائل بذلك وإن كان من الباحثين الأجلاء وله باع طويل في التحقيق والتتبع، وأرسل ذلك إرسال المسلمات إلا أنه لم يشر إلى مستنده في تحديد هذا التاريخ.

____________________

(1) تذكرة الخواص ص 351.

(2) مستدرك سفينة البحار ج 8 ص 261.

٥٧

وبناء على هذا التاريخ تكون السيدة فاطمة قد عاصرت من حياة أبيها عشر سنوات، غير أن السنين الأربع الأخيرة من عمرهعليه‌السلام كان فيها رهين السجون العباسية كما ذكرنا، فلم تحظ منه إلا بست سنوات.

ولم نقف في شئ من المصادر على غير هذين القولين في تحديد سنة ولادتهاعليها‌السلام .

وعلى أي تقدير فقد فتحت هذه السيدة عينيها على الدنيا في أيام محنة أبيها، وقد أحاطت به الخطوب، فارتسمت حياتها بالحزن والأسى، وإذا كان عمرهاعليها‌السلام ست سنوات يوم قبض على أبيها فهي في سن تدرك فيه غياب الأب عن البيت، وتعي ما يجري في هذا البيت، وما يسوده من الحزن والألم، وما يعانيه أهله من لوعة وعناء، ثم ما يتناهى إلى سمعها من شهادة أبيهاعليه‌السلام ، وما تلاها من أحداث مروعة فيعتصر الألم قلبها الصغير، وهي لا ترجو لأبيها عودة إلى البيت، وترى أن هناك أخطارا تحدق بأهل هذا البيت، وربما أثار ذلك في نفسها كثيرا من التساؤلات حول ما يجري، ولماذا قصد أبوها بالذات، وأهل بيتها بالخصوص، بأنواع الإيذاء من دون سائر الناس، ولكنها ما تلبث أن تدرك أن لهذه القضايا جذورا تمتد إلى زمان جدتها الزهراءعليها‌السلام .

فمن ذلك اليوم الذي عانت فيه أمها فاطمةعليها‌السلام آلام الظلم والعدوان، ومن ذلك اليوم الذي نحي فيه جدها أمير المؤمنينعليه‌السلام عن

٥٨

منصب الإمامة أصبح أهل هذا البيت عرضة لظلم الظالمين وتعدي الغاشمين.

وما كانت السيدة فاطمة المعصومة لتبقى مهملة بلا كفيل، فإنها وإن فقدت أباها وهي في مقتبل العمر إلا أنها عاشت في كنف شقيقها الرضاعليه‌السلام ، وأولاها العناية الخاصة في تربيتها ورعايتها، حتى غدت أفضل بنات الإمام موسى ين جعفرعليهما‌السلام .

ونشأت هذه السيدة تتلقى من أخيها العلم والحكمة في بيت العصمة والطهارة، فأصبحت ذات علم ورواية ومقام وسيوافيك عنه حديث.

أسماء وألقاب:

لا يخفى أن للتسمية أهمية كبيرة، ولها في نظر أهل البيتعليهم‌السلام عناية خاصة، وهي وإن وجدت مع وجود الإنسان باعتبار المدنية الطبيعية المقتضية للتعامل مع الأشخاص والأشياء المختلفة الموجبة للتمييز فيما بينها إلا أن تعاليم أهل البيتعليهم‌السلام أدخلت تعديلات مهمة في وضعها وإطلاقها على الأشخاص والأشياء راعت فيها الجوانب النفسانية والأخلاقية، فحثت على تخير الاسم الحسن، واعتبرت ذلك من حقوق الأبناء على آبائهم.

ففي رواية عن أبي الحسن موسىعليه‌السلام قال: جاء رجل إلى

٥٩

النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال: يا رسول الله ما حق ابني هذا؟ قال: تحسن اسمه، وأدبه، وضعه موضعا حسنا(1) .

بل إضافة على ذلك كان أهل البيتعليهم‌السلام يغيرون بعض الأسماء إذ ربما تترك أثرا سلبيا على نفس المسمى.

فقد روى الإمام الصادقعليه‌السلام عن آبائهعليهم‌السلام : أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يغير الأسماء القبيحة في الرجال والبلدان(2) .

وروي عن موسى بن جعفرعليهما‌السلام في حديث إسلام سلمان وأن اسمه كان روزبه، وأن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اشتراه من امرأة يهودية بأربعماءة نخلة - إلى أن قالعليه‌السلام -: قال سلمان: فأعتقني رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسماني سلمان(3) .

وروى الكليني بسنده عن يعقوب السراج أنه قال: دخلت على أبي عبد اللهعليه‌السلام وهو واقف على رأس أبي الحسن موسىعليه‌السلام ، وهو في المهد، فجعل يساره طويلا فجلست حتى فرغ، فقمت إليه، فقال: ادن إلى مولاك فسلم عليه، فدنوت فسلمت عليه، فرد علي بلسان فصيح ثم قال لي: إذهب فغير اسم ابنتك التي سميتها أمس، فإنه اسم يبغضه الله، وكانت ولدت لي بنت فسميتها بالحميراء، فقال أبو عبد اللهعليه‌السلام :

انته إلى أمره ترشد فغيرت اسمها(4) .

____________________

(1) وسائل الشيعة ج 15 باب 22 من أبواب أحكام الأولاد الحديث 6.

(2) وسائل الشيعة ج 15 باب 22 من أبواب أحكام الأولاد الحديث 7.

(3) كمال الدين وتمام النعمة ص 165.

(4) الأصول من الكافي ج 1 باب الإشارة والنص على أبي الحسن موسىعليه‌السلام الحديث 3 ص 308.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254