الفاطمة المعصومة (سلام الله عليها)

الفاطمة المعصومة (سلام الله عليها)0%

الفاطمة المعصومة (سلام الله عليها) مؤلف:
تصنيف: النفوس الفاخرة
الصفحات: 254

الفاطمة المعصومة (سلام الله عليها)

مؤلف: محمّد علي المعلّم
تصنيف:

الصفحات: 254
المشاهدات: 35706
تحميل: 5047

توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 254 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 35706 / تحميل: 5047
الحجم الحجم الحجم
الفاطمة المعصومة (سلام الله عليها)

الفاطمة المعصومة (سلام الله عليها)

مؤلف:
العربية

الاشتمال على مزيد ضبط الرواة(1) .

وعرفه المحقق الداماد بأنه هو ما تتابع فيه رجال الإسناد عند روايته على قول كسمعت فلانا يقول: سمعت فلانا... أو أخبرنا فلان والله، قال: أخبرنا فلان والله، إلى آخر الإسناد(2) .

وذكر أكثر من خمسة عشر نحوا من أنحاء تتابع الرواة عند رواية الحديث.

على أن هذين السندين عن فاطمةعليها‌السلام مسلسلان من وجه آخر وهو أن كل واحدة من الفواطم تروي عن عمة لها، فهو رواية خمس بنات أخ، كل واحدة منهن عن عمتها.

هذا وهناك روايات أخرى كانت السيدة فاطمة المعصومةعليها‌السلام في أسنادها وبعضها مسلسلة على النحو المتقدم.

وخلاصة القول أن هذه السيدة الجليلة نالت قسطا وافرا من العلم والمعرفة، قد تلقته من معدنه الصافي، وأخذته من منبعه العذب، حتى غدت ذات شأن ومقام وإن لم يصلنا منه إلا النزر اليسير.

المكانة الاجتماعية والشأن الرفيع:

لما كان أهل البيتعليهم‌السلام يمثلون الفطرة السليمة في أنقى حالاتها، والفضيلة في أجلى معانيها، وقد اجتمعت فيهم الكمالات البشرية

____________________

(1) أصول علم الرجال بين النظرية والتطبيق ص 353.

(2) الرواشح السماوية - الراشحة السابعة والثلاثون - ص 157 - 161.

٨١

المختلفة، وأحاطتهم العناية الإلهية في جميع أحوالهم وشؤونهم، وتقرر أن الإنسان بطبعه عاشق للكمال والفضيلة، فمن الطبيعي جدا أن تهفو القلوب نحوهم، وتميل النفوس إليهم، من دون سائر البشر.

وقد ورد في الروايات أن ذلك دعوة إبراهيمعليه‌السلام ، فقد جاء في تفسير قوله تعالى:( فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ ) (1) أن المراد هم أهل البيتعليهم‌السلام قال أمير المؤمنينعليه‌السلام : والأفئدة من الناس تهوي إلينا، وذلك دعوة إبراهيمعليه‌السلام (2) .

وقال الإمام الباقرعليه‌السلام : فنحن والله دعوة إبراهيمعليه‌السلام التي من هوانا قلبه قبلت حجته، وإلا فلا(3) .

نعم قد تتلوث بعض النفوس ويتكدر صفاؤها نتيجة لعوامل متعددة فتضل الطريق، ولكن تبقى في أعماقها ميالة إليهم راغبة فيهم، وإن كانت في ظاهر الأمر ضدهم، وهذا ما قد كشف عنه الفرزدق الشاعر المشهور، حين لقيه الحسينعليه‌السلام وهو في طريقه إلى كربلاء، وسأله عن الناس خلفه، فقال له: قلوب الناس معك وأسيافهم عليك(4)

وأما أولئك الذين انحرفت ذواتهم وخبثت أصولهم فهم في طريق آخر، ولذلك وردت عدة روايات تؤكد هذه الحقيقة، منها: ما روي عن

____________________

(1) سورة إبراهيم الآية 37.

(2) تفسير نور الثقلين ج 2 ص 551.

(3) الروضة من الكافي - الحديث 485 ص 311 - 312.

(4) الإرشاد ج 2 ص 67.

٨٢

النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال: من فارق عليا فقد فارقني، ومن فارقني فقد فارق الله عز وجل(1) .

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا علي لولاك لما عرف المؤمنون بعدي(2) .

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يخاطب عليا -: ما سلكت طريقا ولا فجا إلا سلك الشيطان غير طريقك وفجك(3) .

وجاء في التفسير عن أبي جعفرعليه‌السلام أنه قال: إن أبانا إبراهيم صلوات الله عليه كان فيما اشترط على ربه أن قال:( فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ ) (4) أما إنه لم يعن الناس كلهم، أنتم أولئك ونظراؤكم، وإنما مثلكم في الناس مثل الشعرة البيضاء في الثور الأسود، أو مثل الشعرة السوداء في الثور الأبيض(5) .

وغيرها من الشواهد الكثيرة. وقد تقدم في الحديث المروي عن السيدة فاطمةعليها‌السلام أن حب عليعليه‌السلام عنوان طيب الولادة.

والحقيقة الثابتة أن أهل البيتعليهم‌السلام حيث جمعوا الفضائل والمناقب والكمالات كانت لهم السيادة على النفوس. والمحبة في القلوب، واحتلوا موقع الصدارة بين الناس من دون فرق بين رجالهم ونسائهم، فكان رجالهم خير الرجال، ونساؤهم خير النساء، وعلى هذا فلا شك أن تكون للسيدة فاطمة المعصومةعليها‌السلام منزلتها الخاصة، ومكانتها

____________________

(1) بحار الأنوار ج 40 ص 26.

(2) بحار الأنوار ج 40 ص 26.

(3) بحار الأنوار ج 40 ص 27.

(4) سورة إبراهيم الآية 37.

(5) تفسير نور الثقلين ج 2 ص 551.

٨٣

العالية، ولذا كان لها عند الله شأن من الشأن فضلا عن شأنها عند الناس.

وقد كان لهاعليها‌السلام بأخيها الإمام الرضاعليه‌السلام صلة خاصة قل نظيرها كما كشفت عنها الروايات والأحداث وسيأتي منها ما يدل على ذلك.

وإن من أهم أسباب بلوغها هذا المقام الشامخ علمها ومعرفتها بمقام الإمامة والإمام، وقد كان إمام زمانها شقيقها الإمام الرضاعليه‌السلام ، الذي تولى تربيتها فعلى يديه نشأت، وعنه أخذت، وتحت إشرافه ونظره ترعرعت، وبأخلاقه وآدابه سمت وتكاملت.

ولذا تميزت الصلة بينهما بحيث أصبحت تعرف نفسها بأنها أخت الرضاعليه‌السلام كما سيأتي.

وهما وإن كانا ينحدران من أب واحد وأم واحدة وذلك أحد أسباب شدة الصلة بينهما إلا أن السبب الأقوى والأتم هو علمها بمقام أخيها وإمامته، إذ أن الرابطة النسبية تصبح - حينئذ - عاملا ثانويا بالقياس إلى العلم والمعرفة.

هذا، وقد نوه الأئمةعليهم‌السلام بمكانتها ومنزلتها قبل ولادتها، وبعد أن ولدت وتوفيت.

روي عن عدة من أهل الري أنهم دخلوا على أبي عبد اللهعليه‌السلام ، وقالوا: نحن من أهل الري، فقالعليه‌السلام : مرحبا بإخواننا من أهل قم، فقالوا: نحن من أهل الري، فأعاد الكلام، قالوا ذلك مرارا وأجابهم بمثل ما أجاب به أولا، فقالعليه‌السلام : إن لله حرما وهو مكة، وإن لرسول الله حرما وهو المدينة، وإن لأمير المؤمنين حرما وهو الكوفة، وإن لنا حرما وهو

٨٤

بلدة قم، وستدفن فيها امرأة من أولادي تسمى فاطمة، فمن زارها وجبت له الجنة.

قال الراوي: وكان هذا الكلام منهعليه‌السلام قبل أن يولد الكاظم(1) .

وفي رواية أخرى عن أبي عبد الله الصادقعليه‌السلام : ألا إن لله حرما وهو مكة، ألا إن لرسول الله حرما وهو المدينة، ألا إن لأمير المؤمنين حرما وهو الكوفة، ألا إن حرمي وحرم ولدي بعدي قم، إلا إن قم الكوفة الصغيرة، ألا إن للجنة ثمانية أبواب، ثلاثة منها إلى قم، تقبض فيها امرأة من ولدي، واسمها فاطمة بنت موسى، تدخل بشفاعتها شيعتنا الجنة بأجمعهم(2) .

وفي رواية أن الإمام الرضاعليه‌السلام قال لسعد الأشعري القمي: يا سعد عندكم لنا قبر، قلت له: جعلت فداك قبر فاطمة بنت موسىعليه‌السلام ، قال:

نعم، من زارها عارفا بحقها فله الجنة(3) .

وروى الصدوق في العيون بسنده عن سعد بن سعد قال: سألت أبا الحسن الرضاعليه‌السلام عن زيارة فاطمة بنت موسى بن جعفرعليهم‌السلام ، فقال:

من زارها فله الجنة(4) .

وروى ابن قولويه في كامل الزيارات بسنده عن الإمام الجوادعليه‌السلام

____________________

(1) تاريخ قم (فارسي) ص 215 وبحار الأنوار ج 60 ص 216 - 217.

(2) بحار الأنوار ج 60 ص 228.

(3) بحار الأنوار ج 102 ص 265.

(4) عيون أخبار الرضا ج 2 ص 267.

٨٥

أنه قال: من زار قبر عمتي بقم فله الجنة(1) .

وغيرها من الروايات حتى قال المحدث القمي: والروايات بهذا المضمون كثيرة(2) .

وسيأتي الحديث عن زيارتها، وإنما ذكرنا هذه الروايات في المقام لبيان ما لها من منزلة عند الأئمةعليهم‌السلام حيث أشاد ثلاثة من المعصومينعليهم‌السلام بذلك.

لماذا لم تتزوج السيدة المعصومة؟

ثم إن هناك أمرا لا بد من البحث حوله وله صلة وثيقة بما نحن فيه، إذ له مدخلية في مكانتها الاجتماعية، ومنزلتها بين الناس، ذلكم هو عدم زواج السيدة فاطمة المعصومةعليها‌السلام .

والمستفاد من جملة الروايات أن بنات الإمام الكاظمعليه‌السلام وعددهن إحدى وعشرون بنتا لم تتزوج منهن واحدة.

ونقل المحدث القمي عن تاريخ قم ما حاصله: أن هذا كان سائرا في بنات الرضائية(3) .

وهذا أمر مثير للتساؤل، ولا سيما مع ملاحظة ما ورد عن أهل

____________________

(1) كامل الزيارات باب 106 فضل زيارة فاطمة بنت موسى بن جعفرعليهم‌السلام بقم الحديث 2 ص 536.

(2) منتهى الآمال ج 2 ص 380.

(3) منتهى الآمال ج 2 ص 380 - 381.

٨٦

البيتعليهم‌السلام من الحث على التناكح والترغيب فيه، وأن به إكمال ثلث الدين أو نصفه أو ثلثيه، فيا ترى ما هي الأسباب المانعة عن هذا الأمر في حق بنات الإمام الكاظمعليه‌السلام ؟

وينبغي أن نؤكد قبل كل شئ على أن عدم اقتران واحدة من بنات الإمام الكاظمعليه‌السلام بزوج - ولا سيما السيدة فاطمة المعصومةعليها‌السلام - لم يكن عن عيب مانع في الخلق أو الخلق، وقد مر علينا أنها كانت جليلة القدر ذات شأن عظيم، ومنزلة كبيرة، على أن هذا الأمر لم تنفرد به وحدها من دون سائر أخواتها، فلا بد أن يكون المانع أمرا آخر، وهذا ما نسعى للبحث حوله بمقدار ما يسعفنا به ما ورد حول هذه القضية من الروايات.

ومن الضروري أن نلتفت قبل ذلك إلى أن هذا الأمر يعد من الشؤون الخاصة التي هي أشبه شئ بالأسرار العائلية والأسرية كغيرها من الخصوصيات التي لا تكون معرضا عاما لعامة الناس لإبداء أنظارهم وآرائهم فيها، وإنما ساغ للباحث أن يتناول بعض الشؤون بالدراسة والتحليل لأن أهل البيتعليهم‌السلام يمثلون القدوة الصالحة التي ترشد الإنسان إلى طريق الحق والهداية، وقد صدرت الأوامر الإلهية والنبوية بالاقتداء بهم، والسير على خطاهم، واقتفاء آثارهم، فإنهم لا يخرجون الناس من باب هدى ولا يدخلونهم في باب ضلالة.

ولعل السبب في قلة الروايات الواردة في هذا الشأن خصوصية هذه القضية، وأنها لا تعني سائر الناس وكونها من شؤونهمعليهم‌السلام الخاصة

٨٧

بهم دون سواهم، كما لعله أيضا لعدم اهتمام المؤرخين بهذه الناحية، كما أشرنا إلى ذلك فيما تقدم.

ولكن لما كان في هذه القضية معصوم فلا بد أن يكون الفعل معصوما موافقا لمقتضى الحكمة، وعلى طبق الموازين الإلهية سواء حالفنا التوفيق فأدركنا السبب أو أخفقنا فلم ندركه.

ثم إنه بدراسة الواقع الاجتماعي والسياسي والظروف المحيطة بأهل البيتعليهم‌السلام آنذاك قد نتمكن من إعطاء صورة تقريبية عن الأسباب الكامنة وراء هذه القضية فنقول:

أولاً: إن نظرة سريعة إلى تاريخ حياة الإمام الكاظمعليه‌السلام تدل على أن تلك الفترة كانت تتسم بالتوتر والتوجس والرهبة والخوف، فبرغم ما عاناه الإمام الصادقعليه‌السلام من حكام بني العباس وقد فرضوا عليه الحصار وتشددوا في عزله عن شيعته، وحاولوا بشتى الوسائل اصطناع شخصيات علمية مناوئة، للحيلولة دون انتشار فكر أهل البيتعليهم‌السلام ، وبرغم حملات الإبادة التي تعرض لها العلويون من قتل وسجن وتشريد. وهم - العباسيون - وإن نجحوا إلى حد ما في تفتيت البنية الظاهرية لمذهب أهل البيتعليهم‌السلام وألجئ الأئمةعليهم‌السلام إلى التقية في كثير من أحوالهم وشؤونهم على ما هو مذكور في كتب الفقه إلا أن فكر أهل البيتعليهم‌السلام بقي حيا زاخرا بالعطاء، الأمر الذي يدل دلالة قاطعة على أن العناية الإلهية تحوطه وترعاه، ويأبى الله إلا أن يتم نوره. فقد

٨٨

كان الإمام الصادقعليه‌السلام على تمام الحيطة والحذر، يحبط كثيرا من مخططاتهم بأساليبه الحكيمة، حتى إذا استشهد الإمام الصادقعليه‌السلام وقع الاضطراب الشديد في صفوف الشيعة، وقد ذكرنا في مطلع هذا البحث شيئا من ذلك، ومما زاد الأوضاع وخامة ظهور الدعاوى الكاذبة التي ساعدت على زيادة ضغط السلطة على كل من ينتمي لأهل البيتعليهم‌السلام في الفكر والعقيدة. وكادت معالم التشيع أن تنطمس لولا ظهور الإمام الكاظمعليه‌السلام في الوقت المناسب مع حراجة الظروف وخطورتها.

فكانت الفترة التي عاشها الإمام الكاظمعليه‌السلام من أشد الفترات صعوبة، ولا سيما في عهد الرشيد العباسي الذي كان على معرفة بأن الإمام الكاظمعليه‌السلام هو صاحب الحق الشرعي، وأن الشيعة لا ترضى بغيره بدلا.

وإن أشد ما يقض مضجع الحاكم ويؤرق حياته أن يرى أحدا ينافسه على السلطان، فهو إذ ذاك لا يقر له قرار، ولا يهنأ له عيش، ولا يشعر بالأمان حتى يفتك بخصمه أيا كان.

ولم يدر هؤلاء الحكام أن سلطان أهل البيتعليهم‌السلام إنما هو على القلوب والأرواح، فما عهد عن أحد من أئمة أهل البيتعليهم‌السلام أنه سعى للسلطة وتولي الحكم أو حمل سلاحا أو نظم جيشا ليقلب نظاما على صاحبه أيا كان، حتى أن أمير المؤمنينعليه‌السلام مع أنه كان الإمام والحاكم

٨٩

وقد نصبه النبي خليفة على الأمة لم يطمع في الولاية يوم استأثر بها القوم، وحملوه على قبول ولايتهم قسرا، واعتزلهم وما يفعلون، ولما قتل عثمان جاؤوا يسعون إليه وبايعوه عن طواعية واختيار، وسعى أمير المؤمنينعليه‌السلام أن يسوسهم بالعدل والحكمة، ويسير فيهم بسيرة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويحملهم على المحجة البيضاء، فلم يرق لهم ذلك، فنقضوا بيعته، وحاربوه، وكان أول من نقض البيعة وأول من حاربه هو أول من بايعه ونادى بخلافته.

إن أولئك الحكام يحسبون أئمة أهل البيتعليهم‌السلام كأنفسهم، حيث يجد الحكام أنفسهم ذوي أطماع في الحكم والسلطان، وإن أشادوا حكمهم على أشلاء الضحايا وبنوا قصورهم على أجساد الأبرياء، وسقوا أساس ملكهم بدماء المظلومين.

وعلى أي حال فقد كان عصر الإمام الكاظمعليه‌السلام عصر خوف واضطراب، وقد أحكمت السلطة قبضتها على زمام الأمر فأخمدت الأنفاس، وكتمت الأصوات، وسفكت الدماء، وضاقت السجون وتفرق الرجال.

ولم يكن الذي يجري إلا على أهل البيت وشيعتهم وفي طليعة أهل البيتعليهم‌السلام الإمام موسى بن جعفرعليهما‌السلام .

ولك أن تتصور حالات الذعر والفزع والاضطراب التي مني بها أهل البيتعليهم‌السلام وشيعتهم، رجالا ونساء وعلى مختلف الأصعدة.

٩٠

ونحن إذ نستفظع ما نقرأ، ونرتاع لما نتلوا من صحف صبغها المجرمون بدماء المظلومين، فما ظنك بمن قاسى أهوال المآسي وفوادح الخطوب.

والناس آنذاك إزاء ما يجري على أهل البيتعليهم‌السلام بين من أصبح آلة في أيدي الظالمين يحققون به أغراضهم، ويتوصلون به إلى أهدافهم، ويحقق بهم مطامعه، وبين من أرعبه الخوف والهلع، فانطوى على نفسه، وتوارى وراء التقية خوفا على نفسه وعرضه وماله، وبين من لا يعنيه من الأمر شئ فلم يبال بما يجري من أحداث.

ثانياً: إن مما تقرر في مذهب أهل البيتعليهم‌السلام أن العصمة الخاصة - في هذه الأمة - منحصرة في النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والصديقة الزهراءعليها‌السلام والأئمة الاثني عشرعليهم‌السلام دون سواهم، وقد قامت الأدلة العقلية والنقلية على ذلك، مما هو مبثوث في الكتب الكلامية، وقد أحلنا القارئ العزيز على بعض المصادر فيما تقدم.

ولئن استفيد من بعض الأدلة أو القرائن عصمة بعض الأفراد من أهل البيتعليهم‌السلام كأبي الفضل العباس، وعلي الأكبر، والسيدة زينب بنت أمير المؤمنين، والسيدة فاطمة المعصومةعليهم‌السلام ، فليس المراد بعصمة هؤلاء هي تلك العصمة الخاصة اللازمة، وإنما المراد أنهم بلغوا مرتبة عالية من الكمال لم ينلها سائر الناس. على ما بيناه فيما سبق.

وعلى هذا فما عدا هؤلاء من سائر أفراد أهل البيتعليهم‌السلام ليسوا

٩١

بمعصومين بمعنى أنه لا يصدر عنهم خطأ أو اشتباه عن تعمد كان أو عن سهو، وإن نالوا شرف الأصل والنسبة، إذ ليس من البعيد أن يصدر من بعضهم ما لا يليق صدوره من مثلهم من الهفوات الأخطاء الكبيرة أو الصغيرة التي عانى منها الأئمةعليهم‌السلام في كثير من القضايا والأمور.

وقد عانى الإمام الكاظمعليه‌السلام من بعض إخوانه كما عانى آباؤه من بعض بني عمومته من قبل، وهكذا بقية الأئمةعليهم‌السلام على ما تكفلت ببيانه الروايات وكتب التراجم.

ولولا أن الأئمةعليهم‌السلام كانوا يعالجون هذه القضايا بالحكمة، ورحابة الصدر، وبعد النظر، والصبر والتحمل لكان للصورة وجه آخر، وقد وعدنا بعدم الخوض في تفاصيل ذلك، ونكتفي بهذه الإشارة.

وهذا هو أحد الامتيازات والفوارق بين المعصوم وغيره، وإن كان هذا الغير - ينحدر في نسبه - من أهل البيتعليهم‌السلام .

وثالثاً: إن حكومة بني العباس في نظر الأئمةعليهم‌السلام لم تكن حكومة شرعية، ولم تحظ بالتأييد والمساندة منهمعليهم‌السلام ، بل كانوا يظهرون لبعض خواصهم ممن له علاقة بالسلطة الحاكمة عدم مشروعية العمل للحكام والتحذير من الدخول في ولاياتهم، أو السعي في قضاء حوائجهم، وإن كان العمل بحسب الظاهر في نفسه بعيدا عن جرائمهم ومخازيهم، ويرى الإمامعليه‌السلام أن إسداء أي خدمة لهم مهما كانت، مشاركة لهم في الجريمة، كما يكشف عن ذلك الحوار الذي جرى بين

٩٢

الإمام الكاظمعليه‌السلام وبين صفوان بن مهران الجمال، الذي روى ما جرى فقال: دخلت على أبي الحسن الأولعليه‌السلام ، فقال لي: يا صفوان كل شئ منك حسن جميل ما خلا شيئا واحدا، قلت: جعلت فداك أي شئ؟!

قال: إكراؤك جمالك من هذا الرجل - يعني هارون - قلت: والله ما أكريته أشرا، ولا بطرا، ولا للصيد، ولا للهو، ولكني أكريته لهذا الطريق - يعني طريق مكة - ولا أتولاه، ولكن أبعث معه غلماني، فقال لي: يا صفوان أيقع كراك عليهم؟ قلت: نعم جعلت فداك، فقال لي: أتحب بقاءهم حتى يخرج كراك؟ قلت: نعم، قال: فمن أحب بقاءهم فهو منهم، ومن كان منهم ورد النار، فقال صفوان: فذهبت وبعت جمالي عن آخرها، فبلغ ذلك إلى هارون، فدعاني، وقال: يا صفوان بلغني أنك بعت جمالك، قلت: نعم، فقال: لم؟ قلت: أنا شيخ كبير، وإن الغلمان لا يفون بالأعمال، فقال: هيهات، إني لأعلم من أشار عليك بهذا، أشار عليك بهذا موسى بن جعفر، قلت: مالي ولموسى بن جعفر، فقال: دع هذا عنك، فوا الله لولا حسن صحبتك لقتلتك(1) .

إن هذا الموقف الصارم وأمثاله من الإمامعليه‌السلام لا يدع مجالا للحاكم أن يشعر بالاستقرار، إذ يرى أن الخطر يتهدد سلطانه، ويزعزع أركان وجوده، وينذره بالزوال.

وهذه السلبية التي أنتهجها الإمامعليه‌السلام إزاء حكومة هارون الرشيد

____________________

(1) معجم رجال الحديث ج 10 ص 133.

٩٣

أظهرت كثيرا من الحقائق الخفية على الناس، وجعلت الحاكم يزداد في تماديه وضلاله، فيرتكب من الجرائم ما هو أبشع، ومن المنكرات ما هو أفظع، ويظهر حقيقته التي كان يسترها وراء بعض المظاهر الدينية التي قد ينخدع بها بعض من قصرت بصيرته عن إدراك الحقيقة، فقد ظن صفوان أن عمله مشروع، لأنه يكري جماله في طريق الحج، وهو أمر منفصل لا علاقة له بما يمارسه هارون الرشيد من اللهو واللعب والمحرمات، ولكن الإمامعليه‌السلام أوقفه على الحقيقة، وبين له أن البصير ينبغي أن لا ينخدع بمظهر زائف، وأن لا يكون مطية يحقق بها الظالم أغراضه.

وقد تنبه لذلك فاتخذ إجراءا حاسما، فباع جماله وتخلى عن مهنته، وأدرك هارون الرشيد السر وراء ذلك، ولولا شفاعة حسن صحبة صفوان لكان في عداد الضحايا.

ولا شك أن هذه الحادثة وأمثالها تركت هارون الرشيد يتميز من الغيظ، ويبحث عن أساليب أخرى يكيد بها الإمامعليه‌السلام .

وأما إذنهعليه‌السلام لعلي بن يقطين في تولي منصب الوزارة لهارون الرشيد ورغبتهعليه‌السلام في بقائه في الوزارة فليس ذلك نقضا لهذا الموقف، وذلك لأن الوزارة منصب عام يرتبط بعامة الناس، وله صلاحيات واسعة يستطيع علي بن يقطين من خلالها أن يؤدي خدمات كبيرة للشيعة على مختلف طبقاتهم ودفع الأخطار عنهم، ومع أن هذا

٩٤

المنصب حساس جدا وقد استأذن ابن يقطين الإمامعليه‌السلام في الاستعفاء من هذا المنصب، إلا أن الإمامعليه‌السلام رغب في بقائه لحماية الشيعة(1) ، وتكفل له بالرعاية والتسديد في مواطن الخطر. وقد أنقذه الإمامعليه‌السلام في مواضع كثيرة كاد أن يتورط فيها علي بن يقطين، على أنه كان من الجلالة والاستقامة والمعرفة بالحق ما يؤمن منه الانحراف أو تلتبس عليه الأمور.

وأما صفوان بن مهران فلم يكن عمله بهذه المثابة، بل كان خدمة خالصة لهارون الرشيد والجهاز الحاكم، وليس فيها إلا التأييد والمساندة لحكومة بني العباس، من دون أن يكون فيها نفع يذكر لغيرهم، ولذلك لم يمنعه الإمامعليه‌السلام من التخلي عن هذا العمل في حين أمر ابن يقطين بالبقاء، فلا تنافي بين الأمرين.

رابعاً: إن من أهم الركائز التي اعتمدت عليها سياسة الحكام منذ اليوم الذي استولوا فيه على مقام الزعامة واغتصبوا فيه منصب الخلافة، هو السعي لإبقاء أصحاب الحق الشرعي في عوز وفاقة، كسرا لشوكتهم وتقليصا لشأنهم، وحدا من قدراتهم وإمكانياتهم، وإظهارهم للناس بأنهم ليسوا ممن يطمع فيهم، أو يرغب في صحبتهم أو حملهم على الاستجداء والخنوع.

ومن المعلوم أن الناس أبناء الدنيا وعبيد الدرهم والدينار، إلا ما قل

____________________

(1) معجم رجال الحديث ج 13 ص 242 - 252.

٩٥

وندر، وكان ذلك أحد العوامل التي ساهمت في انحسار أغلب الناس وتخليهم عنهم بل والتنكر لهمعليهم‌السلام .

وقد اتخذ الحكام عدة إجراءات للحيلولة دون تمكن أهل البيتعليهم‌السلام من الإنفاق بما يتناسب مع شأنهم فصادروا فدكا(1) من أصحابها ومنعوهم الحق الشرعي الذي افترضه الله على عباده بنص القرآن وهو الخمس، ومنعوهم عطاءاتهم، واستولوا على بعض ممتلكاتهم، واستمرت هذه السياسة جارية في بني أمية وبني العباس، حتى بلغ الأمر أنه إذا ما تناهى إلى أسماعهم أن أحدا أعطى خمسه للإمامعليه‌السلام فإنهم ينكلون به أشد التنكيل، وكانت الرصد والعيون التي جندها الحكام على الأئمةعليهم‌السلام ترقب عليهم كل تصرف.

وكان قسم كبير من تلك الأموال التي استولى عليها الظالمون غصبا وعدوانا يبذل لأولئك الذين يتزلفون للحكام من الشعراء الذين اتخذوا من هجاء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعترته ذريعة لنيل الأموال والحصول عليها، كأبان بن عبد الحميد، ومروان بن أبي حفصة، وأضرابهما ممن طبع على قلوبهم وباع دينه بدنياه(2) .

وأما القسم الآخر - من الأموال - فكان يبذل على الفسوق والفجور، والفساد، مما حفلت بذكره كتب التاريخ(3) .

____________________

(1) بحار الأنوار ج 29 ص 183 - 213.

(2) حياة الإمام موسى بن جعفرعليهما‌السلام ج 2 ص 75 - 81.

(3) حياة الإمام موسى بن جعفرعليهما‌السلام ج 2 ص 26 - 54.

٩٦

وبقيت الأمة ولا سيما أهل البيتعليهم‌السلام يرزحون تحت وطأة القهر والحرمان.

وقد اعترف هارون الرشيد بذلك، كما جاء في حواره مع ولده المأمون لما اعترض على أبيه لقلة ما أعطى الإمام موسى بن جعفرعليهما‌السلام في حين أنه ضمن له أن يعطيه الكثير.

قال المأمون: يا أمير المؤمنين تعطي أبناء المهاجرين والأنصار وسائر قريش وبني هاشم، ومن لا يعرف نسبه خمسة آلاف دينار وتعطي موسى بن جعفر وقد أعظمته وأجللته مائتي دينار أخس عطية أعطيتها أحدا من الناس، فثار هارون وصاح في وجهه قائلا: اسكت لا أم لك، فإني لو أعطيت هذا ما ضمنته له ما كنت آمنه أن يضرب وجهي بمائة ألف سيف من شيعته ومواليه، وفقر هذا وأهل بيته أسلم لي ولكم من بسط أيديهم وأعينهم...(1) .

وخامساً: إنه برغم ما كان يمارسه حكام بني العباس من سياسة البطش والقهر، والحرمان والإبادة والتشريد، إلا أن الأئمةعليهم‌السلام ما كانوا ليتنازلون عن منصب الإمامة والولاية، فإنها حق إلهي لهم من دون سائر الناس بل كانوا يقفون مواقف التحدي للحكام ويمارسون دورهم في حدود ما تسمح به الظروف المحيطة بهم وبشيعتهم، وكان الإمام السابق ينص على إمامة اللاحق في جمع من خواص الشيعة،

____________________

(1) عيون أخبار الرضا ج 1 ص 92.

٩٧

ويؤكدون على ذلك بين حين وآخر، ويبينون لشيعتهم الأحكام والمعارف وإن كانت على خلاف ما عليه الحكام وأذنابهم.

وبعبارة أخرى: كان الأئمةعليهم‌السلام وشيعتهم في معزل عن السلطة في الفكر والعقيدة والسلوك على نحو الاستقلال التام، مع علمهم بأن الحكام لهم ولشيعتهم بالمرصاد.

ونستفيد ذلك من المواقف الصريحة التي يواجه الإمامعليه‌السلام بها رأس السلطة الحاكمة.

فقد ذكر الرواة أن هارون سأل الإمامعليه‌السلام عن فدك ليرجعها إليه، فأبى الإمامعليه‌السلام أن يأخذها إلا بحدودها، فقال الرشيد: ما حدودها؟

فقالعليه‌السلام : إن حددتها لم تردها. فأصر هارون عليه أن يبينها له قائلا:

بحق جدك إلا فعلت. ولم يجد الإمام بدا من إجابته فقال له: أما الحد الأول فعدن، فلما سمع الرشيد ذلك تغير وجهه، واستمر الإمامعليه‌السلام في بيانه قائلا: والحد الثاني سمرقند، والحد الثالث إفريقيا، والحد الرابع سيف البحر مما يلي الجزر وأرمينية، فثار الرشيد وقال: لم يبق لنا شئ، فقالعليه‌السلام : قد علمت أنك لا تردها(1) .

وفي هذا الحوار موقف الإمام الصريح وبيان أحقيته بالخلافة، ومن الطبيعي أن يترك ذلك الحوار أثرا في نفس هارون حيث يرى نفسه غاصبا ليس له من الأمر شئ.

____________________

(1) بحار الأنوار ج 48 ص 144.

٩٨

ونظير هذا الموقف موقف آخر للإمامعليه‌السلام مع هارون لما أرادعليه‌السلام أن يبين شدة صلته وقربه من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد سأله هارون: لم قلت: إنك أقرب إلى رسول الله منا؟ فقالعليه‌السلام : لو بعث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيا، وخطب منك كريمتك هل كنت تجيبه إلى ذلك؟ فقال هارون:

سبحان الله! وكنت أفتخر بذلك على العرب والعجم.

فقالعليه‌السلام : لكنه لا يخطب مني ولا أزوجه لأنه والدنا لا والدكم، فلذلك نحن أقرب إليه منكم، ثم قالعليه‌السلام : هل كان يجوز له أن يدخل على حرمك وهن مكشفات فقال هارون: لا، فقال الإمام: لكن له أن يدخل على حرمي، ويجوز له ذلك، فلذلك نحن أقرب إليه منكم(1) .

وقد اعترف هارون بأحقية الإمامعليه‌السلام حين أخذته هيبة الإمامعليه‌السلام ولم ير بدا من إظهار احترامه وإجلاله، الأمر الذي أثار ابنه المأمون فدفعه للسؤال قائلا: يا أمير المؤمنين من هذا الرجل الذي عظمته، وقمت من مجلسك إليه، فاستقبلته، وأقعدته في صدر المجلس، وجلست دونه، ثم أمرتنا بأخذ الركاب له؟ فقال هارون: هذا إمام الناس وحجة الله على خلقه، وخليفته على عباده، قال المأمون: يا أمير المؤمنين أو ليست هذه الصفات كلها لك وفيك؟ فقال: أنا إمام الجماعة في الظاهر بالغلبة والقهر، وموسى بن جعفر إمام حق، والله يا بني إنه لأحق بمقام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مني ومن الخلق جميعا، ووالله لو

____________________

(1) حياة الإمام موسى بن جعفرعليهما‌السلام ج 2 ص 457.

٩٩

نازعتني هذا الأمر لأخذت الذي فيه عيناك، فإن الملك عقيم(1) .

وهكذا كان الأئمةعليهم‌السلام مع الحكام في كل عصر من عصورهم، فلم يكن أحد من الأئمةعليهم‌السلام ليتخلى عن منصب الإمامة مهما كانت الظروف، ولئن لم يتمكن الأئمةعليهم‌السلام من ممارسة أدوارهم في الظاهر إلا أنهم قاموا بوظيفتهم في الواقع، وإذا كان ثمة تقصير فهو من الناس حيث ضلوا الطريق فتاهوا، لا من الأئمةعليهم‌السلام ، وقد فاز بذلك شيعة أهل البيتعليهم‌السلام فساروا في ركاب أئمتهم، وركبوا في سفينتهم والعاقبة للمتقين.

ولا شك أن هذا الموقف الصارم من الأئمةعليهم‌السلام في مسألة الإمامة يجعل ردة الفعل من قبل الحكام عنيفة جدا، بحيث تصبح حياة الأئمةعليهم‌السلام وشيعتهم مهددة بالأخطار ولا ينافي ذلك أمر التقية، لأنها إنما تسوغ في بعض المواطن وليس هذا منها.

وبعد هذا كله نقول: جاء في وصية الإمام الكاظمعليه‌السلام لابنه الإمام الرضاعليه‌السلام بما يتعلق بهذا الموضوع أنهعليه‌السلام قال: وإني قد أوصيت إلى علي وبني بعد معه، إن شاء وآنس منهم رشدا، وأحب أن يقرهم فذاك له، ولا أمر لهم معه... وإلى علي أمر نسائي دونهم... وإن أراد رجل منهم أن يزوج أخته فليس له أن يزوجها إلا بإذنه وأمره، فإنه أعرف بمناكح قومه،... وأمهات أولادي من أقامت منهن في منزلها وحجابها

____________________

(1) عيون أخبار الرضا ج 1 ص 91.

١٠٠