موسوعة عبد الله بن عبّاس الجزء ١

موسوعة عبد الله بن عبّاس8%

موسوعة عبد الله بن عبّاس مؤلف:
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
تصنيف: متون حديثية
ISBN: 964-319-501-5
الصفحات: 487

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 487 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 158744 / تحميل: 6172
الحجم الحجم الحجم
موسوعة عبد الله بن عبّاس

موسوعة عبد الله بن عبّاس الجزء ١

مؤلف:
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
ISBN: ٩٦٤-٣١٩-٥٠١-٥
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

فالخواص : ترك مصانعة الناس في الحق ، وسلامة القلب وحفظ اللسان ، تُصِب
بها سرور الرعية ، وسلامة الدين ورضى الرب » (١) .

وقد نظم هذه الوصية جملة من العلماء ذكر منهم السخاوي في كتابه التبر
المسبوك في ذيل السلوك ، قول شيخه ابن حسان وقد كتبه عنه :

أصفح تحبّب ودار اصبر تجد شرفاً

واكتم لسرٍفهذيالخمس قد أوصى

بهنّ عثمانَ عباسٌ فدع جدلاً

وانظر إلى قدرمن أوصى وماالموصى الموصّى

     

قال السخاوي : وقد أنشدنا شيخنا أبو النعيم العقبي في هذا المعنى قوله :

واظب على الخمس التي أوصى بها

العباس عم المصطفى عثمانا

اصفح ودار اكتم تحبّب واصبرنّ

تزدد بها يا مؤمناً إيمانا

قال : وكذا أنشد البقاعي ممّا لم يعمل بمضمونه قوله :

إن رمت عيشاً صافياً أزمانا

لا تتبعاً في الرأي من قدمانا

واصفح تحبّب دارِ واصبر واكتم ال‍

‍عباس قد أوصى بها عثمانا

قال : وانشدني المحيوي عبد القادر القرشي بعد دهر في ذلك :

احفظ وصايا قالها العباس إذ

أوصى بها عثمان ذا النورين

اصفح تحبب دار اكتم واصطبر

تُكسى البَها والعز في الدارين(٢)



_______________________

(١)أخبار الدولة العباسية / ٢١ ط دار الطليعة بيروت.

(٢)التبر السبوك في ذيل السلوك / ٣٧٢.

١٤١

وصية العباس للإمام :

لقد تقدم ذكر الوصية عند ذكر وفاة العباس إلّا أنّ ثمة تفاوت وتعقيب
وتذنيب اقتضى أعادتها.

قال ابن أبي الحديد : « قرأت في كتاب صنفه أبو حيان التوحيدي في
تفريط الجاحظ ، قال : نقلت من خط الصولي : قال الجاحظ : إنّ العباس بن عبد
المطلب أوصى عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام في علته التي مات فيها فقال : أي بُنيّ إني
مشفٍ على الظعن عن الدنيا إلى الله الذي فاقتي إلى عفوه وتجاوزه أكثر من
حاجتي إلى ما أنصحك فيه وأشير عليك به ، ولكن العِرق نبوض ، والرحم
عروض ، واذا قضيت حق العمومة فلا أبالي بعد ، إن هذا الرجلـيعني عثمانـ
قد جاءني مراراً بحديثك ، وناظرني ملايناً ومخاشناً في أمرك ، ولم أجد عليك إلّا
مثل ما أجد منك عليه ، ولا رأيت منه لك إلّا مثل ما أجد منك له ، ولست تؤتى
من قلة علم ولكن من قلة قبول ، ومع هذا كله فالرأي الذي أودّعك به أن تمسك
عنه لسانك ويدك ، وهمزك وغمزك ، فإنه لا يبدؤك ما لم تبدؤه ، ولا يجيبك عما
لم يبلغه ، وأنت المتجني وهو المتأني ، وأنت العائب وهو الصامت فإن قلت كيف
هذا وقد جلس مجلساً أنا أحق ، فقد قاربت ولكن ذاك بما كسبت يداك ، ونكص
عنه عقباك ، لأنك بالأمس الأدنى هرولتَ اليهم ، تظن أنهم يُحلّون جيدك
ويُختمّون أصبعك ، ويطؤون عقبك ، ويرون الرشد بك ، ويقولون لا بد لنا منك ،
ولا معدل لنا عنك ، وكان هذا من هفواتك الكُبر ، وهناتك التي ليس لك منها
عذر ، والآن بعد ما ثللت عرشك بيدك ، ونبذت رأي عمك في البيداء ، يتدهده
في السافياء ، خذ بأحزم ممّا يتوضح به وجه الأمر ، لا تشارّ هذا الرجل ولا تماره ،
ولا يبلغه عنك ما يحنقه عليك ، فإنه إن كاشفك أصاب أنصاراً ، وإن كاشفته لم تر

١٤٢

إلا ضِراراً ، ولم تستلج إلا عثاراً ، واعرف مَن هو بالشام له وَمَن ههنا حوله ومن
يطيع أمره ويمتثل قوله ، ولا تغترر بناس يطيفون بك ، ويدّعون الحنوّ عليك
والحبّ لك ، فإنهم بين مولى جاهل ، وصاحب متمنّ ، وجليس يرعى العين
ويبتدر المحضر ، ولو ظن الناس بك ما تظن بنفسك لكان الأمر لك والزمام في
يدك ، ولكن هذا حديث يوم مرض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فات ، ثم حرم الكلام فيه حين
مات ، فعليك الآن بالعزوف عن شيء عرضك له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلم يتم ،
وتصدّيت له مرة بعد مرة فلم يستقم ، ومن ساور الدهر غلب ، ومن حرص على
ممنوع تعب ، فعلى ذلك فقد أوصيت عبد الله بطاعتك ، وبعثته على متابعتك ،
وأوجرته محبتك ، ووجدت عنده من ذلك ظني به لك ، لا توتر قوسك إلّا بعد
الثقة بها ، واذا أعجبتك فانظر إلى سيتها ، ثم لا تفوّق إلّا بعد العلم ، ولا تغرق في
النزع إلّا لتصيب ، وانظر لا تطرف يمينك عينَك ، ولا تجنِ شمالك شينك ، ودّعني
بآيات من آخر سورة الكهف (١) وقم إذا بدا لك »(٢) .

تعقيب ابن أبي الحديد على الوصية :

قال ابن أبي الحديد بعد ذكره الوصية المتقدمة : « قلت الناس يستحسنون
رأي العباس لعليّ عليه‌السلام في أن لا يدخل في أصحاب الشورى ، وأمّا أنا فاني
أستحسنه إن قصد به معنى ، ولا استحسنه إن قصد به معنى آخر ، وذلك لأنه إن
_______________________

(١)هي قوله تعالى :( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا *
خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا
* قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ
أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا
* قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَٰهُكُمْ
إِلَٰهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا
)
الكهف / ١٠٧ ـ ١١٠.

(٢)شرح النهج لابن أبي الحديد ٣ / ٢٨٢ ط مصر الاُولى.

١٤٣

أجري بهذا الرأي إلى ترفّعه عليهم وعلوّ قدره عن أن يكون مماثلاً لهم ، أو
أجري به إلى زهده في الامارة ورغبته عن الولاية ، فكل هذا رأي حسن وصوابه ،
وإن كان منزعه في ذلك إلى أنك إن تركت الدخول معهم وانفردت بنفسك في
دارك أو خرجت عن المدينة إلى بعض أموالك فإنهم يطلبونك ويضربون اليك
آباط الإبل حتى يولّوك الخلافة ، وهذا هو الظاهر من كلامه ، فليس هذا الرأي
عندي بمستحسن ، لأنه لو فعل لولّوا عثمان أو واحداً منهم غيره ، ولم يكن
عندهم من الرغبة إليه عليه‌السلام ما يبعثهم على طلبه ، بل كان تأخره عنهم قرّة أعينهم ،
وواقعاً بإيثارهم فان قريشاً كلها كانت تبغضه أشد البغض ، ولو عمّر عمر نوح
وتوصل إلى الخلافة بجميع أنواع التوصل كالزهد فيها تارة ، والمناشدة بفضائله
تارة ، وبما فعله في ابتداء الأمر من اخراج زوجته وأطفاله ليلاً إلى بيوت الأنصار ،
وبما اعتمده اذ ذاك من تخلّفه في بيته واظهار انّه قد عكف على جمع القرآن ،
وبسائر أنواع الحيل فيها لم تحصل له إلّا بتجريد السيف كما فعله في آخر الأمر.

ولست ألوم العرب لا سيما قريشاً في بغضها له وانحرافها عنه ، فإنّه وترها
وسفك دماءها ، وكشف القناع في منابذتها ، ونفوس العرب وأكبادها كما تعلم ،
وليس الإسلام بمانع من بقاء الأحقاد في النفوس ، كما نشاهد اليوم عياناً ، والناس
كالناس الأول ، والطبائع واحدة ، فاحسب انك كنت من سنتين أو ثلاث جاهلياً
أو من بعض الروم وقد قتل واحد من المسلمين ابنك أو أخاك ثم أسلمت ، أكان
اسلامك يُذهب عنك ما تجده من بغض ذلك القاتل وشنآنه ، كلا انّ ذلك لغير
ذاهب ، هذا إذا كان الإسلام صحيحاً والعقيدة محققة لا كاسلام كثير من
العرب ، فبعضهم تقليداً ، وبعضهم للطمع والكسب ، وبعضهم خوفاً من السيف ،

١٤٤

وبعضهم على طريق الحمية والانتصار ، أو لعداوة قوم آخرين من أضداد
الإسلام وأعدائه.

واعلم أنّ كل دم أراقه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بسيف عليّعليه‌السلام وبسيف غيره ،
فان العرب بعد وفاته عليه‌السلام عصبت تلك الدماء بعليّ بن أبي طالبعليه‌السلام وحده ،
لأنّه لم يكن في رهطه مَن يستحق في شرعهم وسنتهم وعادتهم أن يعصب به
تلك الدماء إلّا بعليّ وحده ، وهذه عادة العرب إذا قتل منها قتلى طالبت بتلك
الدماء القاتل ، فإن مات أو تعذرت عليها مطالبته طالبت بها أمثل الناس من
أهله. لمّا قتل قوم من بني تميم أخاً لعمرو بن هند ، قال بعض أعدائه يحرض
عمراً عليهم :

من مبلغ عمراً بأن المرء لم يخلق صباره

وحوادث الأيام لا يبقى لها إلّا الحجاره

ها إنّ عجزة أمه بالسفح أسفل من أواره

تسفيالرياح خلاككشيحه وقد سلبوا أزاره

     

فأمره أن يقتل زرارة بن عدس رئيس بني تميم ، ولم يكن قاتلاً أخا
الملك ولا حاضراً قتله. ومن نظر في أيام العرب ووقائعها ومقاتلها عرف ما
ذكرناه » (١) .

رأي على رأي!



_______________________

(١)شرح النهج لابن أبي الحديد ٣ / ٢٨٣ ط الأولى بمصر.

١٤٥

قال ابن أبي الحديد : « سألت النقيب أبا جعفر يحيى بن أبي زيد رحمهالله
فقلت له : إني لأعجب من عليّ عليه‌السلام كيف بقي تلك المدة الطويلة بعد رسول
الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟ وكيف ما قتل وفتك به في جوف منزله مع تلظي الأكباد عليه؟

فقال : لولا انّه أرغم أنفه بالتراب ووضع خده في حضيض الأرض لقتل ،
ولكنه أخمل نفسه واشتغل بالعبادة والصلاة والنظر في القرآن ، وخرج عن ذلك
الزي الأول وذلك الشعار ونسي السيف ، وصار كالفاتك يتوب ويصير سائحاً في
الأرض أو راهباً في الجبال ، ولما أطاع القوم الذين ولوا الأمر تركوه وسكتوا
عنه ، ولم تكن العرب لتقدم عليه إلّا بمواطاة من متولي وباطن في السر منه ، فلمّا
لم يكن لولاة الأمر باعث وداع إلى قتله وقع الإمساك عنه ، ولولا ذلك لقتله ، ثم
أجلٌ بعدُ معقل حصين.

فقلت له : أحق ما يقال في حق خالد؟

فقال : إنّ قوماً من العلوية يذكرون ذلك ، ثم قال : وقد روي أنّ رجلاً جاء
إلى زفر بن الهذيل صاحب أبي حنيفة فسأله عما يقول أبو حنيفة في جواز
الخروج من الصلاة بأمر غير التسليم نحو الكلام والفعل الكثير أو الحدث ، فقال :
إنه جائز ، قد قال أبو بكر في تشهده ما قال.

فقال الرجل : وما الذي قاله أبو بكر؟ قال : لا عليك ، فأعاد عليه السؤال ثانية
وثالثة ، فقال : أخرجوه أخرجوه قد كنت أحدث أنه من أصحاب أبي الخطاب.

قلت له : فما الذي تقوله أنت؟

قال : أنا أستبعد ذلك وإن روته الإمامية ، ثم قال : أمّا خالد فلا استبعد منه
الإقدام عليه بشجاعته في نفسه ولبغضه اياه ، ولكني استبعده من أبي بكر فإنّه كان

١٤٦

ذا ورع ولم يكن ليجمع بين أخذ الخلافة ومنع فدك وإغضاب فاطمة وقتل
عليّ عليه‌السلام ، حاشى لله من ذلك.

فقلت له : أكان خالد يقدر على قتله؟

قال : نعم ولم لا يقدر على ذلك والسيف في عنقه وعلي أعزل غافل عما
يراد به ، قد قتله ابن ملجم غيلة وخالد أشجع من ابن ملجم.

فسألته عما ترويه الإمامية في ذلك كيف الفاظه؟ فضحك وقال : كم عالم
بالشيء وهو يسائل ، ثم قال : دعنا من هذا. ما الذي تحفظ في هذا المعنى؟ قلت
قول أبي الطيب :

نحن أدرى وقد سألنا بنجد

أطويل طريقنا أم يطول

وكثير من السؤال اشتياق

وكثير من ردّه تعليل

فاستحسن ذلك وقال : لمن عجز البيت الذي استشهدت به؟ قلت لمحمد
ابن هانيء المغربي وأوله :

في كل يوم استزيد تجاربا

كم عالم بالشيء وهو يسائل

فبارك عليّ مراراً(١)

وللعباسرضي‌الله‌عنه كلام يجري مجرى الخطبة ، منه ما قاله في ليلة بيعة العقبة
الثانية حيث كان مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ».

ذكر ابن سعد في الطبقات بسنده عن معاذ بن رفاعة قال : « كان أول من
تكلم العباس بن عبد المطلب فقال يا معشر الخزرج. وكانت الأوس والخزرج

_______________________

(١)شرح النهج لابن أبي الحديد ٣ / ٢٨٣.

١٤٧

تدعى الخزرجـإنكم قد دعوتم محمداً إلى ما دعوتموه إليه ، ومحمد من
أعز الناس في عشيرته يمنعه والله من كان منا على قوله ومن لم يكن منا على
قولـه منعة للحسب والشرف ، وقد أبى محمّد الناس كلهم غيركم ، فإن كنتم أهل
قوة وجلدٌ وبَصَرٌ بالحرب ، واستقلال بعداوة العرب قاطبة فانها سترميكم عن
قوس واحدة ، فارتؤوا رأيكمُ وأئتمروا أمركم ولا تفرقوا إلّا عن ملأ منكم
واجتماع ، فان أحسن الحديث أصدقهُ. وأخرى صفوا إليّ الحرب كيف تقاتلون
عدوكم؟

فأجابوه ووصفوا له ما أراد فقال : أنتم اصحاب حرب فهل فيكم دروع؟
قالوا نعم شاملة. وعند البيعة كان العباس آخذاً بيد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يؤكد له البيعة
تلك الليلة على الانصار » (١) .

وقال البلاذري في أنساب الأشراف فتكلم العباس فقال : « يا معشر الأوس
والخزرج قد دعوتم محمداً إلى ما دعوتموه إليه ، ونحن عشيرته ولسنا بمسلميه ،
فإن كنتم قوماً تنهضون بنصرته ، وتقوون عليها ، وإلا فلا تغروه وأصدقوه ، فان
خير القول أصدقُه » (٢) .

وقال ابن هشام في سيرته : « كان أول متكلم العباس بن عبد المطلب فقال :
يا معشر الخزرجـوكانت العرب إنّما يسمون هذا الحي من الأنصار الخزرج
خزرجها وأوسهاـإن محمداً منا حيث قد علمتم ، وقد منعنا من قومنا ممن هو
على مثل رأينا فيه ، فهو في عز من قومه ، ومنعة في بلده ، وانه قد أبى إلّا الانحياز
_______________________

(١)طبقات ابن سعد ٤ ق١ / ٣.

(٢)انساب الأشراف ١ / ٢٥٤.

١٤٨

اليكم واللحوق بكم ، فإن كنتم ترون انكم وافون له بما دعوتموه إليه ، ومانعوه
من خالفه ، فأنتم وما تحملتم من ذلك ، وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه
بعد الخروج به اليكم ، فمن الآن فدعوه ، فإنّه في عز ومنعة من قومه وبلده » (١) .

ومن كلام للعباسرضي‌الله‌عنه قاله لأبي بكر ومن معه حين أتوه يطمعوه في أن
يجعلوا له ولعقبه من بعده نصيباً ليقتطعوه من جانب عليّ وذلك بعد موت
النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسيأتي تفصيل ما قالوه له في ما يأتي من فصول الكتاب.

قال : فتكلم العباس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : إن الله بعث محمداًصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ
كما زعمتـنبيّاً وللمؤمنين وليّاً فمنّ الله بمقامه بين أظهرنا حتى اختار له ما
عنده ، فخلّى على الناس أمرهم وليختاروا لأنفسهم مصيبين للحق ، لا مائلين عنه
بزيغ الهوى ، فإن كنت برسول الله طلبت فحقنا أخذت ، وإن كنت بالمؤمنين
طلبت فنحن منهم ، متقدمون فيهم ، وإن كان هذا الأمر إنّما يجب لك بالمؤمنين
فما وجب إذ كنا كارهين ، فأما ما بذلت لنا فإن يكن حقاً لك فلا حاجة لنا فيه ،
وإن يكن حقاً للمؤمنين فليس لك أن تحكم عليهم ، وإن كان حقنا لم نرض
عنك فيه ببعض دون بعض ، وأما قولك إن رسول الله منا ومنكم ، فإنه قد كان من
شجرة نحن أغصانها وانتم جيرانها (٢) .

قال ابن أبي الحديد : « لمّا قبض رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واشتغل عليّعليه‌السلام بغسله
ودفنه ، وبويع أبو بكر خلا الزبير وابو سفيان وجماعة المهاجرين بعباس
وعلي عليه‌السلام لإجالة الرأي وتكلموا بكلام يقتضي الاستنهاض والتهييج.

_______________________

(١)بهامش الروض الأنف ١ / ٢٧٥.

(٢)الامامة والسياسة ١ / ١٦ ط مصر سنة ١٣٢٨ ه‍.

١٤٩

فقال العباسرضي‌الله‌عنه : قد سمعنا قولكم فلا لقلة نستعين بكم ، ولا لظنّة نترك
آراءكم فامهلونا نراجع الفكر ، فان يكن لنا من الإثم مخرج يصرّ بنا وبهم الحق
صرير الجدجد ، ونبسط إلى المجد أكفاً لا نقبضها أو نبلغ المدى ، وان تكن
الأخرى فلا لقلة في العدد ، ولا لوهن في الأيد ، والله لولا أنّ الإسلام قيد الفتك
لتدكدكت جنادل صخر يسمع اصطكاكها من المحل العليّ » (١) .

وخلاصة القول في أبي الفضل العباس رحمهالله انه كان كما وصفه ابنه
عبد الله وقد سأله معاوية عن ذلك فقال : رحم الله أبا الفضل ، كان والله عم نبيّ
الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقرة عين رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سيد الاعمام والأخدان ، جد الأجداد ، وآباؤه
الأجواد ، واجداده الأنجاد ، له علم بالأمور ، قد زانه حلم وقد علاه فهم ، كان
يكسب حباله كل مهند ، ويكسب لرأيه كل مخالف رعديد ، تلاشت الأخدان
عند ذكر فضيلته ، وتباعدت الأنساب عند ذكر عشيرته ، صاحب البيت والسقاية ،
والنسب والقرابة ، ولم لا يكون كذلك؟ وكيف لا يكون كذلك؟! ومدبّر سياسته
اكرم من دبّر ، وأفهم من نشأ من قريش وركب (٢) .

ومن كلام له يجري مجرى الوصية لابنه عبد الله وذلك في أيام عمر.
قال له : « أنت أعلم مني ولكني أشد تجربة للأمور منك ، وان هذا الرجلـيعني
عمرـقد قربّك وقدّمك يستخليك ويستشيرك ويقدمك على الأكابر من
أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإني أوصيك بخلال أربع : فلا تفشين له سراً ، ولا يجرينّ

_______________________

(١)شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٣ / ٧٣ ط الاولى بمصر.

(٢)مستدرك الحاكم ٣ / ٣٢٩.

١٥٠

عليك كذباً ، ولا تغتابن عنده مسلماً ، ولا تحدّثه بشيء حتى يسألك
عنه » (١) .

قال الشعبي : قلت لابن عباس : كل واحدة خير من ألف ، قال : اي والله ومن
عشرة آلاف.

وقال له : « يا بني لا تعلّم العلم لثلاث خصال : لا ترائي به ، ولا تماري به ، ولا
تباهي به ، ولا تدعه لثلاث خصال : رغبة في الجهل ، وزيادة في العلم ، واستحياء
من التعلم » (٢) .

وفاة العباس :

ولقد أعتق من العبيد عند موته سبعين عبداً في سبيل الله تعالى(٣) .

وله عند موته وصيّة أوصى بها الإمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام
قال له : « أي بُني إني مشرف على الظعن إلى الله الذي فاقتي إلى عفوه وتجاوزه
أكثر من حاجتي إلى ما أنصحك فيه وأشير عليك به ، ولكن العِرق نبوض ،
والرحم عروض ، واذا قضيت حق العمومة فلا تأل بي بعد ، إن هذا الرجلـيعني
_______________________

(١)أنساب الأشراف للبلاذري ترجمة ابن عباس نسخة مخطوطة عندي ٣ / ٥١ ، وفتح الباري
١٠ / ٣٦٦ ط مصطفى محمّد البابي الحلبي سنة ١٣٧٨ ه‍ نقلاً عن مكارم الأخلاق
للخرائطي. وتاريخ ابن عساكر ١٢ / ٣٠٥ ، وسير أعلام النبلاء للذهبي ٤ / ٤٤٨ ويوجد تفاوت
في اللفظ وفي بعض المصادر : ولا يجربنّ عليك كذباً ، وعيون الاخبار لابن قتيبة ١ / ١٩
ط دار الكتب المصرية ، والعقد الفريد ١ / ٧ ، وأنباء نجباء الأبناء ص ٨١ ، والكامل للمبرد
٢ / ٣١٢ ، والمستظرف / ٨٩ ، وسراج الملوك للطرطوشي / ٢٢٢ ، والأداب لجعفر بن شمس
الخلافة / ٢٨ ط الخانجي سنة ١٣٤٩ ه‍ ، والفتوحات الاسلامية لزين دحلان ٢ / ٣٣٨
وغيرها.

(٢)جامع بيان العلم لابن عبد البر ١ / ١٧٠.

(٣)سير أعلام النبلاء للذهبي ٢ / ٧٠ ، وتاريخ مدينة دمشق لابن عساكر ٢٦ / ٢٧٦ ط دار الفكر
سنة ١٩٩٥م.

١٥١

عثمانـقد ناجاني مراراً بحديثك وناظرني ملايناً ومخاشناً في أمرك ، ولم أجد
منه عليك إلّا مثل ما أجده منك عليه ، ولا رأيت منه لك إلّا مثل ما رأيت منك له ،
ولست تؤتي من قلة علم ، ولكن من قلة قبول ، ومع هذا كله فالرأي الذي أودعك
به أن تمسك عنه لسانك ويدك ، فإنه لا يبدأك ما لم تبدأه ، ولا يجبك عما لم
يبلغه ، فإن قلتَ كيف هذا وقد جلس مجلساً أنا صاحبه ، فقد قاربت ، ولكن
حديث يوم مرض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فات(١) ، ثم حرم الكلام فيه حين مات ، فعليك
الآن بالعزوب عن شيء أرادك له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلم يتم ، وتصديت له مرة بعد
أخرى فلم يستقم ، ومن ساور الدهر غُلِب ، ومَن حرص على ممنوع تعب ، وعلى
ذلك فقد أوصيت عبد الله بطاعتك ، وبعثته على متابعتك ، وأوجرته محبتك ، ووجدت
عنده من ظني به لك ، لا توتر قوسك إلّا بعد الثقة بها ، واذا أعجبتك فانظر إلى
سيتها (٢) ثم لا تفوّق(٣) إلاّ بعد العلم ، ولا تغرق في النزع(٤) إلّا لتصيب الرميّة.

وأنظر لا بطرف يمينك عينك ، ولا تجز شمالك شينك ، ودّعني بآيات من
آخر سورة الكهف وقم إذا بدا لك » (٥) .

ثم قال لأبنه عبد الله لمّا حضر أجله : « يا بني والله ما مت موتاً ولكني فنيت
فناء ، واني موصيك بحب الله وحب طاعته ، وخوف الله وخوف معصيته ، فإنك إذا


_______________________

(١)يشير إلى حديث الكتف والدواة الآتي تفصيله عند الحديث عن حياة حبر الأمة في عهد
الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

(٢)سية القوس طرفها المنحني (المصباح المنير : سية).

(٣)فُوقُ السهم وزان قفل موضع الوتر (المصباح المنير : فوق).

(٤)نزع في القوس مدّها (المصباح المنير : نزع).

(٥)الدرجات الرفيعة / ٩٨.

١٥٢

كنت كذلك لم تكره الموت متى أتاك ، وإني استودعك الله يا بني ، ثم استقبل
القبلة فقال : لا اله إلّا الله ، ثم شخص ببصره فمات » (١) .

وروى ابن أبي شيبة في المصنف عن مجاهد قال : « أعتق العباس بعض
رقيقه في مرضه. فرد ابن عباس منهما اثنين كانوا يُروَن أنهما أولاد زنا » (٢) .

وتوفي في الثاني عشر من شهر رجب ، وقيل من شهر رمضان ، وقيل في
أول سنة ٣٢ ه‍ ، وقيل سنة ٣٤ ه‍ ، في خلافة عثمان وهو ابن ثماني وثمانين سنة ،
وذكر ابن سعد في الطبقات وصف تشييعه العظيم ومن تولى غسله ودفنه (٣)
وصلى عليه أمير المؤمنين عليّ ومعه عثمان (٤) ودفن بالبقيع في بقعة خاصة به ،
ودفن فيها بعده أربعة من أئمة المسلمين وسادة اهل البيت الطاهرين وهم الأئمة
الحسن الزكي وعلي بن الحسين ومحمد الباقر وجعفر الصادق عليهمالسلام.
وبنى عليهم الخليفة العباسي الناصر لدين الله في سنة٦١٠ (٥) قبة معظمة بقيت
حتى هدمها الوهابيون في ٨ شوال سنة ١٣٤٤ ه‍ بفتوى أحد علمائهم ، نسأل الله
تعالى أن يهدينا وجميع المسلمين إلى سواء السبيل.

_______________________

(١)تهذيب ابن عساكر ٧ / ٢٥٣ ط افست دار السيرة ، وتاريخ مدينة دمشق لابن عساكر ٢٦ / ٢٧٦
ط دار الفكر.

(٢)المصنف لابن أبي شيبة ٤ ق ١ / ٦٠ ، وفي فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل ٢ / ٩٤٥ الرقم
١٨٢٥ ط مؤسسة الرسالة بيروت سنة ١٤٠٣ : فرد منهم اثنين قال الراوي : فكنا نرى إنما
ردهم انهم كانوا أولاد زنا.

(٣)طبقات ابن سعد ٤ ق١ / ٢١ ، وراجع سير أعلام النبلاء للذهبي ٢ / ٧٤ ط مصر ، و ٣ / ٤١٣ ط
دار الفكر.

(٤)نفس المصدر.

(٥)لقد قال عنها الذهبي المتوفي ٧٤٨ في سير أعلام النبلاء ٢ / ٧١ ط مصر ، و ٣ / ٤١٢ ط دار
الفكر ، وعلى قبره اليوم قبة عظيمة من بناء خلفاء آل العباس وقال في ص ٧٣ : وله قبة
شاهقة على قبره بالبقيع.

١٥٣

ولمّا مات العباس جلس ابنه الحبر عبد الله للعزاء ، ودخل عليه الناس
يعزونه ، وكان فيمن دخل عليه أعرابي وضع يده في يده وقال :

اصبر نكن بك صابرين فإنما

صبر الرعية بعد صبر الرأس

خير من العباس أجرك بعده

والله خير منك للعباس

فقال ابن عباس : ما عزاني أحد أحسن من تعزيته(١) .

قال ابن قيم الجوزية : « أحجم الناس عن تعزية ولده عبد الله إجلالاً له
وتعظيماً ، حتى قدم رجل من البادية فأنشده قال فسرّي عنه واقبل الناس على
تعزيته » (٢) .

وذكر الكتاني في التراتيب الادارية نقلاً عن كتاب رونق التحبير في حكم
السياسة والتدبير لمحمد بن أبي العلا بن سماك ، والفروق للقرافي : « روي انّ
العباس بن عبد المطلب لمّا مات عظم المصاب به على ابنه عبد الله ، وكان عبد
الله بن عباس عظيماً عند الناس في نفسه لأنه كان ترجمان القرآن وافر العقل
جميل المحاسن والجلالة والأوصاف الحميدة فأعظمه الناس على التعزية إجلالاً
له ومهابة بسبب عظمته في نفسه وعظمة من أصيب به ، فإن العباس عم رسول الله
صلىاللهعليهوآلهوسلموبقي بعد وفاته مثل والده فلمّا مات عظم خطبه
وجلت رزيته في صدور الناس وفي صدر ولده عبد الله وأحجم الناس عن
تعزيته ، فأقاموا على ذلك شهراً كما ذكره المؤرخون ، فبعد الشهر قدم أعرابي من
البادية فسأل عن عبد الله بن عباس فقال الناس ما تريد؟ قال أريد أن أعزي عبد
_______________________

(١)احياء علوم الدين للغزالي ٤ / ١١٣.

(٢)بدائع الفوائد ٤ / ٢١٧.

١٥٤

الله بن عباس فقام الناس معه عساه أن يفتح لهم باب التعزية ، فلمّا رأى عبد الله بن
عباس قال له السلام عليك يا أبا الفضل فرد عليه عبد الله فأنشده :

اصبر نكن بك صابرين البيتين.

فلمّا سمع الشعر عبد الله زال ما كان به واسترسل الناس في تعزيته ...اه‍ »(١) .

أقول : وأثر الصنعة في تفصيل هذا الخبر ظاهر غير انه لم يكن ذلك من
فراغ ، والمقبول مجيئ الأعرابي لتعزية ابن عباس وانشاده شعره ، وقول ابن عباس
ما عزاني أحد أحسن من تعزيته.

أولاد العباس :

وخلف العباس من الأولاد : عشرة ذكور وأربع إناث وهم :

الفضل وهو أكبرهم وبه كان يكنى ، وعبد اللهـوهو الحبر صاحب كتابنا
هذاـوعبيد الله ، وقثم وكان من المشبهين بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكان أبوه العباس يرقصه
ويقول :

أيا بُنيّ يا قثم

أبا شبيه ذي الكرم(٢)

قال النووي : وكان أخا الحسين بن علي من الرضاعة(٣) .



_______________________

(١)التراتيب الادارية ٢ / ٤١٦ ط افست دار احياء التراث الإسلامي بيروت ، والفروق للقرافي
٢ / ١٩٥.

(٢)المحبر / ٤٦.

(٣)تهذيب الاسماء واللغات ١ / ٥٩.

١٥٥

وعبد الرحمن توفي بالشام ولم يعقب ، ومعبد استشهد بافريقية ، وأم حبيب
أمهم جميعاً أم الفضل لبابة بنت الحارث الهلالية ، وفي ولدها يقول عبد الله بن
يزيد الهلالي :

ما ولدت نجيبة من فحل(١)

بجبل نعلمه أو سهل

كستة من بطن أم الفضل

اكرم بها من كهلة وكهل

عم النبيّ المصطفى ذي الفضل

وخاتم الرسل وخير الرسل(٢)

وله أيضاً كثير(٣) وتمام وكان من أشد قريش. كما يقول الذهبي. لأم ولد
تسمى سباء وهي رومية وقيل حميرية ، والحارث أمه من هذيل (٤) ، وعون ،
وأمينة ، وأم كلثوم ، وصفية لأمهات أولاد شتى ، فهؤلاء عشرة ذكور وأربع اناث ،
وكان تمام أصغر بنيه الذكور ، وفيه يقول أبوه العباس :

تموا بتمام فصاروا عشرة

يا رب فاجلهم كراماً بررة(٥)



_______________________

(١)كانت العرب لا تعد المرأة منجبة لها أقل من ثلاثة بنين أشراف ، فام الفضل لها اكثر من
ثلاثة لذلك قال الشاعر عنها انها منجبة ، لاحظ المحبر لمحمد بن حبيب / ٤٥٥.

(٢)سير أعلام النبلاء للذهبي ٢ / ٦٢ ط مصر ، و ٣ / ٤٠٤ ط دار الفكر ، ومجمع الزوائد ٩ / ٢٧١ ،
والاستيعاب ٢ / ٥٥٨ ط حيدر آباد ، واسد الغابة ٥ / ٥٣٩.

(٣)وهو الذي فيما ذكر البلاذري في أنسابه ١ / ٤٠٢ فعل مثل ما فعلته فاطمة الزهراءعليها‌السلام
من الاغتسال عند حضور الموت واعداد الكفن وانه كتب على أطراف اكفانه : كثير بن
العباس يشهد أن لا اله إلّا الله. قال الذهبي : وكان فقيها.

(٤)في سير أعلام النبلاء ٣ / ٤٠٤ ط دار الفكر : أمه حجيلة بنت جندب التميمية.

(٥)الدرجات الرفيعة / ١٥٣ ، ومجمع الزوائد ٩ / ٢٧١.

١٥٦

أحاديث العباس :

وقد روى الحديث عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إلّا أنّه لم يكن مكثراً من الرواية ، فلم
يخرّج له أصحاب الصحاح والسنن كثيراً وأحاديثه لا تبلغ العشرين ، وقد ذكر
ابن النديم في الفهرست في مؤلفات إبراهيم الحربي المتوفى سنة ٢٨٥ (مسند
العباس) ولمّا لم يصل إلينا لنعرف ما فيه فنكتفي بذكر ما روي عنه في كتب
الحديث (١) وإليك منها : ثلاثة عشر حديثاً على النحو التالي :

_______________________

(١)لقد ورد له في المسند الجامعـالمؤلف حديثاًـ٢١ حديثاً في ٨ / ١٢٢ـ١٣٧ بينها
أحاديث موضوعة على لسانه كما في حديث أبي طالب في ضحضاح من نار المروي في
صحيح مسلم ، ويكفي في سقوطه سنداً وجود عبد الملك بن عمير اللخمي الذي عاش
فترة من حكم معاوية ثم ابنه يزيد ثم بني مروان ، وولي القضاء بالكوفة لهم ، وهو الذي
ذبح عبد الله بن يقطر رسول الحسينعليهالسلامإلى أهل الكوفة فقبض عليه وأمر به
ابن زياد أن يلقى من أعلى القصر فرمي وتكسرت عظامه وبقي به رمق ، فأتاه عبد الملك
بن عمير اللخمي فذبحه ولما عيب عليه قال أردت أن أريحه ، ثم صار بعد ذلك يروي
الحادثة ويكني عن نفسه فيقول ذبحه رجل. وأخيراً فقد ساء حفظه فكان أبو حاتم وابن
معين وأحمد يضعفونهـميزان الاعتدال وفيه كان شعبة لا يرضاهـهذا من ناحية
سقوط السند.

وأما من جهة المتن فهو مخالف للكتاب حيث يقول عز من قائل :( كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ
رَهِينَةٌ
) ـإلى قوله تعالىـ( فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ ) المدثر ٣٨ـ٤٨. فلو قلنا
بصحة الحديث لأن مسلماً رواه في صحيحه ، فلا شفاعة للنبيّ بحق عمه لأنه مات
مشركاً كما يزعم الزاعمونـولو صدقت الأحلام للزمنا تزييف الحديث لمناقضته
لحديث آخر رواه مسلم أيضاً في نفس الموضع عن أبي سعيد الخدري حيث روى (لعله
تنفعه شفاعتي يوم القيامة...) بينما في حديث العباس ان النبيّ صلى الله عليه وسلم
نفع عمه فأنقذه بشفاعته (هو في ضحضاح من نار ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من
النار) فالحديث كسائر الأحاديث المكذوبة على لسان العباس وغيره الموضوعة في
العهد الأموي إيغالاً في بغض الإمام أميرالمؤمنين عليه السلام ، وإلّا أبو طالب ما كان
مشركاً بل كان موحداً حنيفاً مسلماً على ملة إبراهيم ولما أتى الإسلام آمن به وصار
يكتم إيمانه حفاظاً على سلامة النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ودفاعاً عنه ، وشعره
الطافح بإيمانه في سره وإعلانه ، يغني المرء عن بيانه فهو كمؤمن آل فرعون كما ورد في

١٥٧

١ـحديث : (كنت بالبطحاء في عصابة فيهم رسول الله صلى الله عليه
(وآله)وسلم فمرّت بهم سحابة) أخرجه أبو داود في كتاب السنّة عن محمّد بن
الصباح البزاز ، وأخرجه الترمذي في التفسير عن عبد بن حميد ، وأخرجه ابن
ماجة في السنّة عن محمّد بن يحيى.

٢ـحديث : (لا تزال أمتي على الفطرة ما لم يؤخروا المغرب حتى تشتبك
النجوم) أخرجه ابن ماجة في الصلاة عن محمّد بن يحيى.

٣ـحديث : (إذا سجد العبد سجد معه سبعة آراب وجهه وكفـّاه )
أخرجه كل من مسلم وابي داود والترمذي في الصلاة عن قتيبة ، وأخرجه
النسائي في الصلاة عن قتيبة وعن محمّد بن عبد الله بن عبد الحكم ، وأخرجه ابن
ماجة في الصلاة عن يعقوب بن حميد بن كاسب.

٤ـحديث : (ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً وبالاسلام ديناً وبمحمد
رسولاً) أخرجه مسلم في الإيمان عن محمّد بن يحيى بن أبي عمر ، وبشر بن
الحكم ، وأخرجه الترمذي في الإيمان أيضاً عن قتيبة.

٥ـحديث : (قلت يا رسول الله علّمني شيئاً أسأله الله قال : سل الله العافية)
أخرجه الترمذي في الدعوات عن أحمد بن منيع.

٦ـحديث : (قلت يا رسول الله إن قريشاً جلسوا فتذاكروا أحسابهم)
أخرجه الترمذي في المناقب عن يوسف بن موسى القطان البغدادي.

٧ـحديث : (قال ابن عباس سمعت أبي يقول في الجاهلية : إسقنا كأساً
دهاقاً) أخرجه البخاري في أيام الجاهلية عن اسحاق بن إبراهيم.

_____________________________________

جملة من أحاديثنا عن أهل البيت عليهمالسلام ، وهم أعرف به من الأرجاس الذين
وضعوا الحديث على لسان العباس.

١٥٨

٨ـحديث : (لمّا نزل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرّ الظهران ، قال العباس : قلت والله إن
دخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مكة عنوة ) أخرجه أبو داود في الخراج عن محمّد بن عمرو
الرازي زنيج.

٩ـحديث : (أنه قال للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنا نريد أن نكنس زمزم وإن فيها من هدّة
الجنان) أخرجه أبو داود في الأدب عن أحمد بن منيع.

١٠ـحديث : (شهدت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم حنين فلزمته أنا وأبو سفيان
بن الحارث فلم نفارقه) أخرجه مسلم في المغازي عن أبي الطاهر أحمد بن عمرو
ابن السرح.

١١ـحديث : (كنا نلقى النفر من قريش وهم يتحدثون فيقطعون حديثهم)
أخرجه ابن ماجة في السنّة عن محمّد بن طريف.

١٢ـحديث : (سمعت العباس يقول للزبير : يا أبا عبد الله ها هنا أمرك
النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن تركز الراية يوم فتح مكة) أخرجه البخاري في الجهاد عن أبي
كريب.

١٣ـحديث : (لا قود في المأمومة ولا الجائفة ولا المنقلة) أخرجه ابن
ماجة في الديات عن أبي كريب.

وأخيراً فقد ذكر له رأي فقهي مع أنّه لم يُعرف مع فقهاء الصحابة ، إلّا أنّ
الشيخ الطوسي ذكر رأيه في كتابه الخلاف في مسألة عدم جواز استقبال القبلة
واستدبارها ببول أو غائط. فقد قال : وقال الشافعي : لايجوز ذلك في الصحاري
دون البنيان ، وبه قال العباس بن عبد المطلب.

أقول : وهذا نقله عنه أيضاً غير الطوسي(١) .

_______________________

(١)أنظر نيل الأوطار ١ / ٩٤ ، وتحفة الأحوذي ١ / ٥٦ ، وعمدة القاري ٢ / ٢٧٨.

١٥٩

مسك الختام بالسلام عليه( عليهالسلام ) :

روى المجلسي في زاد المعاد في أعمال اليوم السابع عشر من شهر ربيع
الأول قال : قال الشيخ المفيد والشهيد والسيد ابن طاووس رحمهمالله إذا اردت
زيارة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ما عدا المدينة الطيبة من البلاد فاغتسل ومثّل بين يديك شبه
القبر واكتب عليه اسمه الشريف ثم قف وتوجه بقلبك إليه ثم ذكروا زيارة
طويلة جاء في بعض فقراتها : السلام على عمك حمزة سيد الشهداء السلام على
عمك العباس السلام على عمك وكفيلك أبي طالب... الخ.

كما ورد التنويه بذكره في زيارة يوم الغدير المروية عن الإمام الهاديعليه‌السلام
باسناد معتبر ، حيث جاء قوله : « وعمك العباس ينادي المنهزين يا أصحاب سورة
البقرة يا أهل بيعة الشجرة حتى استجاب له قوم » إلى غير ذلك فسلام الله عليه
ورحمة منه وبركاته.

١٦٠







ثانياً : اُمه ـ لبابة بنت الحارث

هي لبابة بنت الحارث بن حزن بن بجير بن الهُزم بن رويبة بن عبد الله بن
هلال بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن ، وامها هند بنت عوف بن
زهير بن الحارث بن حماطة بن جرش بن حمير. المعروفة بالعجوز الجرشية
اكرم الناس أصهاراً (1) وأكرم عجوز في الأرض أصهاراً. فقد كان لها ثمان أو
تسع بنات تزوجهن الأشراف من الناس وهن :

1ـميمونة بنت الحارث ، وهي أسعد أخواتها ، فقد تزوجها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم
زوّجه بها العباس بن عبد المطلب ، وأصدقها عنه ، وبنى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بها بسرف(2) سنة
سبع من الهجرة وبه توفيت أيضاً سنة 51 ، 63 ، 66 ودفنت هناك ، وهذا من غريب
المصادفات في حياتها ، كما انها آخر من تزوج بها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وآخر أزواجه موتاً
عند بعضهم.

_______________________

(1)التنبيه والاشراف للمسعودي / 228 ، والاصابة 8 / 277 ، والاستيعاب 2 / 758 ، وثمار القلوب
للثعالبي / 78.

(2)سرف : موضع على عشرة أميال من مكة ، السمط الثمين للمحب الطبري / 114 ـ 115.

١٦١

قال ابن قتيبة : وكانت قبلهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تحت أبي سبرة بن أبي رهم العامري.

2 ـ لبابة الكبرى ـ وهي أم زعيمنا حبر الأمة وصاحب الترجمة ـ.

3ـلبابة الصغرى ، واسمها العصماء ، وقد تزوجها الوليد بن المغيرة
المخزومي ، فولدت له خالد بن الوليد.

وهذه الثلاث كلّهن بنات الحارث بن حزن الهلالي. ولهن أخوات أيضاً
من أمها ، وهن :

1 ـ عزة : وكانت عند الحجاج بن علاط السلمي.

2ـسلمى : وقد تزوجها حمزة بن عبد المطلب سيد الشهداءعليه‌السلام فولدت
له : أمة الله ، وقيل أمامة وقال ابن قتيبة : التي كانت تحته هي زينب بنت عميس ،
وسلمى تحت شداد بن الهاد.

3ـأسماء : وقد تزوجها جعفر بن أبي طالبعليه‌السلام فولدت له : عبد الله وعوناً
ومحمداً ، ثم خلف عليها أبو بكر بعد مقتل جعفر فولدت له محمداً ، ثم خلف
عليها الإمام عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام بعد موت أبي بكر فولدت له يحيى وعوناً
ولا عقب لهما ، ولسلمى وأسماء أخت ثالثة وهي سلامة وهن بنات عميس بن
معد بن الحارث بن تيم بن كعب بن مالك بن قحافة بن عامر بن ربيعة من خثعم
ابن أنمار.

ولبابة الكبرى من السابقات إلى الإسلام ، وقالوا : إنها أول امرأة أسلمت بعد
خديجة أم المؤمنين كما ذكر ذلك جماعة من المؤرخين (1) ، وقد روى سفيان بن
_______________________

(1)منهم ابن سعد في الطبقات 8 / 203 ، وحكاه عن الواقدي ، وابن الأثير في أسد الغابة
5 / 539 ، وابن حجر في الاصابة 8 / 276 ، وابن عبد البر في الاستيعاب 2 / 758 ، والمقريزي
في امتاع الاسماع / 524 ، والمحب الطبري في ذخائر العقبى / 224 ، والتقي الفاسي في

١٦٢

عينية عن عبيد الله بن أبي يزيد قال : « سمعت ابن عباس يقول : كنت أنا وأمّي من
المستضعفين ، كانت أمي من النساء وكنت أنا من الصبيان » (1) .

وقال ابن عباس : فعذر الله أهل العذر منهم ، وأهلك من لا عذر ، وقال :
وكنت أنا وأمي ممن كان له عذر. وفيما يلي حديث فيه دلالة على جانب من
الاستضعاف الذي كان يعانيه المسلمون ومنهم أم الفضل ، كما فيه دلالة على قوة
العقيدة والإيمان في نفوس المؤمنين ومنهم أم الفضل.

فقد أخرج الطبراني بسنده عن أبي رافع مولى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « كنتُ
غلاماً للعباس بن عبد المطلب وكنت قد أسلمت وأسلمت أم الفضل وأسلم
العباس ، وكان يكتم إسلامه مخافة قومه وكان أبو لهب قد تخلف عن بدر وبعث
مكانه العاص بن هشامـوكان اخا أبي جهل وخال عمر بن الخطابـوكان له
عليه دين (2) فقال له : اكفني هذا الغزو وأترك لك ما عليك ، ففعل ، فلمّا جاء الخبر
_____________________________________

العقد الثمين 8 / 314 ، والعلاء السكتواري في محاضرة الأوائل / 31 وحكاه عن السيوطي ،
وغيرهم.

(1)أخبار الدولة العباسية / 121بتحقيق الدوري والمطلبي ، والحديث أخرجه ابن جرير في
تفسيره الآية ( إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ ) ورواه البخاري في صحيحه في
عدة مواضع والبيهقي في سننه 9 / 13 ، والطبري في معجمه 11 / 99 و 217 ، ولكن ابن حزم
في المحلى 2 / 15حاولـمكابراًـأن يجعل اسلام ابن عباس بعد فتح مكة قبل موت
النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعامين ونصف فقط ، وهذا محض هراء بلا امتراء ، كيف يصدق على ذلك ،
والعباس هاجر قبل الفتح ومعه اهله وبنوه ومنهم عبد الله فالتقى الركب النبوي في
الطريق كما مر.

(2)روى أبو الفرج الاصفهاني في كتاب الاغاني 4 / 174 ط دار الكتب المصرية ، وعنه
النويري في نهاية الارب 17 / 13 ط دار الكتب المصرية ، واللفظ له : عن مصعب بن عبد
الله قال : قامر أبو لهب العاص بن هشام في عشرة من الابل فقمره ، ثم في عشرة فقمره ،
ثم في عشرة فقمره ، إلى أن خلعه من ماله فلم يبق له شيئاً فقال : إني ارى القداح قد

١٦٣

وكبتَ الله أبا لهب ، وكنت رجلاً ضعيفاً أنحت هذه الأقداح في حجرة ، ومر بي ،
فوالله اني لجالس في الحجرة أنحت أقداحي وعندي أم الفضل ، إذ الفاسق أبو
لهب يجر رجليه أراه قال : حتى جلس عند طنب الحجرة ، فكان ظهره إلى
ظهري ، فقال الناس : هذا أبو سفيان بن الحارث ، فقال أبو لهب : هلم الي يابن
أخي ، فجاء أبو سفيان حتى جلس عنده ، فجاء الناس فقاموا عليهما ، فقال : يابن
أخي كيف كان أمر الناس؟ قال : لا شيء والله ما هو إلّا أن لقيناهم فمنحناهم
أكتافنا يقتلوننا كيف شاؤا ، ويأسروننا كيف شاؤا ، وأيم الله لما لمت الناس ،
قال : ولم؟ فقال رأيت رجالاً بيضاً على خيل بلق ، لا والله ما تليق شيئاً ، ولا يقوم
لها شيء.

قال : فرفعت طنب الحجرة فقلت : تلك والله الملائكة ، فرفع أبو لهب يده
فلطم وجهي ، وثاورته فاحتملني فضرب بي الأرض حتى نزل عليّ. برك ظ.
فقامت أم الفضل فاحتجزت فأخذت عموداً من عُمُد الحجرة فضربته به ، ففلقت
في رأسه شجةً منكرة وقالت : أي عدو الله استضعفته أن رأيت سيده غائباً عنه ،
فقام ذليلاً ، فوالله ما عاش إلّا سبع ليال حتى ضربه الله بالعدسة فقتلته فلقد تركاه
ابناه ليلتين أو ثلاث ما يدفناه حتى أنتن ، فقال رجل من قريش لابنيه : ألا
تستحيان؟ إن أباكما قد أنتن في بيته ، فقالا : إنا نخشى هذه القرحة. وكانت قريش
_____________________________________

حالفتك يابن عبد المطلب فهلم أقامرك يابن عبد المطلب فأيّنا غُلب كان عبداً
لصاحبه ، قال افعل ففعل فقمره أبو لهب ، فكره أن يسترّقه فتغضب بنو مخزوم فمشى
اليهم فقال افتدوه مني بعشرة من الابل فقالوا : لا والله ولا بوبرة ، فاسترقّه فكان يرعى
له إبله إلى أن خرج المشركون إلى بدر. قال وقال غير مصعب : فاسترقّه واحتبسه قيناً
يعمل الحديد فلمّا خرج المشركون إلى بدر ، أخرجه أبو لهب عنه لأنه كان عليلاً ، على إنه
إن عاد اعتقه فقبل العاص.

١٦٤

يتقون العدسة كما يتقون الطاعون ، فقال رجل : انطلقا فانا معكما ، قال : فوالله ما
غسّلوه إلّا قذفاً بالماء عليه من بعيد ، ثم احتملوه فقذفوه في أعلا مكة إلى جدارٍ
وقذفوا عليه الحجارة » (1) .

أقول : ورواه الحاكم(2) ، والهيثمي في المجمع(3) ، وأحمد في مسنده(4) ،
والبزار (5) ، والنويري(6) ، وغيرهم.

ومن هذا الحديث يظهر إن استضعاف المشركين للمسلمين كان حتى بعد
واقعة بدر وأن ابا رافع كان من المسلمين المستضعفين ، كما يدل عليه قول أم
الفضل لأبي لهب ، كما أنّ ما فعلته بأبي لهب عدو الله وعدو رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليدل
على قوة إيمانها وصلابة عقيدتها؟ كما يدل على قوة جنانها وشجاعتها. شكر الله
تعالى لها ذلك الموقف البطولي الذي أودت فيه بحياة عدو من ألدّ أعداء
الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وقد ذكر المؤرخون : انّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يزورها في بيتها ، ويقيلـمن
القيلولة وهي نومة الضحى ـ عندها أيام كان بمكة (7) .

وكانت من فواضل النساء ، هاجرت إلى المدينة بهجرة زوجها ، وقد روي
في حقها وحق أخواتها شهادة من النبيّ الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإيمانهن.

_______________________

(1)المعجم الكبير للطبراني 1 / 308 ط الثانية.

(2)مستدرك الحاكم 3 / 322.

(3)مجمع الزوائد 6 / 89.

(4)مسند أحمد 6 / 9.

(5)مسند البزار / ح 778.

(6)نهاية الارب 17 / 31.

(7)الاستيعاب 2 / 758 ، والعقد الثمين للفاسي 8 / 315.

١٦٥

فقد أخرج ابن حجر في الإصابة عن الزبير بن بكار وغيره انّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :
« الأخوات الأربع مؤمنات : أم الفضل ، وميمونة ، وأسماء ، وسلمى » (1) ، وفي رواية
البلاذري : « قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أحبهنّ لإيمانهنّ »(2) .

وأخرج أيضاً عن الواقدي بسنده عن كريب : « ذكرت ميمونة وأم الفضل
وأخواتها لبابةـوهي بكرـوعزة ، وأسماء ، وسلمى فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنّ
الاخوات مؤمنات » (3) .

وهذه الاخوات مع اخت سابعة لهن اسمها حميدة ، هن اللواتي ترحم
عليهن الإمام أبو جعفر محمّد بن عليّ الباقر عليه‌السلام فيما أخرجه الشيخ الصدوق
محمّد بن عليّ بن بابويه في كتابه الخصال بسنده عن أبي بصيرـوالسند
صحيحـقال سمعتهـيعني الباقرـيقول : رحم الله الأخوات من أهل الجنة ،
فسماهنّ : أسماء بنت عميس الخثعمية ، وكانت تحت جعفر بن أبي طالب عليه‌السلام ،
وسلمى بنت عميس الخثعمية ، وكانت تحت حمزة بن عبد المطلب ، وخمس
من بني هلال : ميمونة بنت الحارث ، كانت تحت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأم الفضل عند
العباسـوأمها هندـوالعصماء أم خالد ، وعزة كانت في ثقيف عند الحجاج بن
علاط ، وحميدة لم يكن لها عقب (4) . وكفى بشهادة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وشهادة ابنه
وحفيده الإمام الباقر عليه‌السلام في حق تلكم الأخوات دليلاً على حسن حالهن ، وعلو
مقامهنّ ، فرحمهنّ الله تعالى برحمته.

_______________________

(1)الاصابة 8 / 276.

(2)أنساب الأشراف (ترجمة أبي طالب) / 44.

(3)الاصابة لابن حجر 8 / 276 ، ومعجم الطبراني 11 / 327 ، ومجمع الزوائد 9 / 260 ، وقال : رواه
الطبراني بإسنادين ورجال أحدهما رجال الصحيح ، ورواه الحاكم في المستدرك 4 / 32 ـ
33 وصححه على شرط مسلم ووافقه الذهبي.

(4)الخصال (باب السبعة) / 332 ـ ط الحيدرية.

١٦٦

وقد روت أم الفضل عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الحديث ، فقد أخرج لها البخاري
ومسلم والترمذي والنسائي ومالك في الموطأ وابو داود وابن ماجة كلهم في
كتاب الصلاة عن أم الفضل انها سمعتهـالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـوهو يقرأ والمرسلات
عرفاً ، وفيه : انها لآخر ما سمعت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقرأ بها في المغرب(1) .

وأخرج لها البخاري في الحج والصوم والاشربة ، ومسلم في الصوم ، وأبو
داود في الصوم ، ومالك في الموطأ في الحج حديث : « انّ الناس تماروا عندِها
يوم عرفة في صيام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأرسلت إليه بقعب من لبن وهو واقف
فشربه » (2) .

وأخرج لها مسلم في النكاح ، والنسائي وابن ماجة فيه أيضاً حديث : « لا
تحرم الرضعة والرضعتان » (3) .

وأخرج لها أبو داود في الطهارة ، وابن ماجة فيه وفي الرؤيا حديث : « كان
الحسين بن عليّ في حجر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فبال عليه »(4) .

ولفظه لابن ماجة في الرؤيا : « قالت أم الفضل : يا رسول الله رأيت كأن في
بيتي عضواً من أعضائك ، قال : خيراً رأيتِ ، تلد فاطمة غلاماً فترضعيه ، فولدت
حسيناً أو حسناً ، فأرضعته بلبن قثم ، قالت : فجئت به إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فوضعته في
حجره فبال ، فضربت كتفه ، فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أوجعت ابني رحمك الله »(5) .

وهذا الحديث أخرجه الحاكم في المستدرك بلفظ أوفى ولفظه : « بسنده
عن شداد بن عبد الله عن أم الفضل بنت الحارث انها دخلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم
_______________________

(1)ذخائر المواريث في الدلالة على مواضع الحديث للنابلسي 4 / 286.

(2)نفس المصدر 4 / 286.

(3)نفس المصدر.

(4)نفس المصدر.

(5)سنن ابن ماجة 2 / 237 ط الأولى بمصر سنة 1313.

١٦٧

فقالت : يا رسول الله إني رأيت حلماً منكراً الليلة ، قال : وما هو؟ قالت : انّه شديد ،
قال : وما هو؟ قالت : رأيت كأن قطعة من جسدك قطعت ووضعت في حجري ،
فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : رأيت خيراً ، تلد فاطمة إن شاء الله غلاماً فيكون في حجرك ،
فولدت فاطمة عليها‌السلام الحسينعليه‌السلام فكان في حجري كما قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ،
فدخلت يوماً على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فوضعته في حجره ثم حانت مني التفاتة ، فاذا
عينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تهريقان من الدموع ، قالت : فقلت يا نبي الله ، بأبي أنت وأمي
مالك؟ قال : أتاني جبريل فأخبرني أنّ أمتي ستقتل ابني هذا ، فقلت : هذا؟ فقال :
نعم ، وأتاني بتربة من تربته حمراء قال الحاكم : هذا حديث صحيح على شرط
الشيخين » (1) .

وأخرج أحمد في المسند(2) ، وابن ماجة في السنن(3) ، وابن سعد في
الطبقات (4) ، وابن عساكر كما في تهذيب تاريخه(5) ، والمتقي الهندي في كنز
العمال هذا الحديث بالفاظ متقاربة (6) . وعندهم : خيراً رأيتِ ، تلد فاطمة غلاماً
وترضعينه ، فتكفلينه بلبن ابنك قثم. وكانت أم الفضل في مدة رضاعها
الحسين عليه‌السلام ترقصه وهي تقول:

يا ابن رسول الله

يا ابن كبير الجاه

_______________________

(1)مستدرك الحاكم 3 / 176 وأخرجه في 179 بصورة أخصر ، كما أخرج الحديث بصورته
الأولى في مشكاة المصابيح كما في ينابيع المودة / 382 ط الحيدرية ، وتهذيب ابن
عساكر 4 / 313 ، وتذكرة الخواص / 232 ، وكفاية الطالب / 418.

(2)مسند أحمد 6 / 339.

(3)سنن ابن ماجه / ح 3923.

(4)طبقات ابن سعد 8 / 304 ط بيروت.

(5)تاريخ مدينة دمشق 4 / 316.

(6)كنز العمال / ح 41465.

١٦٨

فرداً بلا اشباه

أعاذه إلهي

من أمم الدواهي(1)

         

وكانت هي مع النساء في بيت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مرضه الذي توفي فيه.

فقد روى الشيخ المفيد بسنده إلى زيد بن عليّ بن الحسينعليه‌السلام قال :
« وضع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مرضه الذي توفي فيه رأسَه في حجر أم الفضل وأغمي
عليه فقطرت قطرة من دموعها على خدّه ففتح عينيه وقال : ما لك يا أم الفضل؟ قالت
نعيتَ الينا نفسَك وأخبرتنا أنك ميت ، فإن يكن الأمر فينا فبشرنا ، وان يكن في غيرنا
فأوص بنا قال فقال لها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنتم المقهورون والمستضعفون من بعدي »(2) .

وروى نحو هذا مرة أخرى بسند آخر ينتهي إلى أم الفضل بن العباس
قالت : « لمّا ثقل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مرضه الذي توفي فيه أفاق إفاقة ونحن نبكي
حوله فقال : ما الذي يبكيكم؟

قلنا : يا رسول الله نبكي لغير خصلة : نبكي لفراقك إيانا ، ولانقطاع خبر
السماء عنا ، ونبكي للأمة من بعدك فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أمّا إنكم المقهورون والمستضعفون
من بعدي » (3) .

وتوفيت أم الفضل بعد زوجها العباس(4) . ومن الغريب أنّ الحصري
القيرواني ذكر في كتابه زهر الآداب قال : يقال أنّ امرأة العباس عم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم
قالت ترثي بنيها :

_______________________

(1)المناقب لابن شهر اشوب 3 / 159 ط الحيدرية ، وكتاب قمقام لفرهاد ميرزا / 30. ومرّ عن
النووي ان قثم بن العباس كان أخاً للحسين من الرضاعة.

(2)أمالي المفيد / 112 ط الحيدرية سنة 1367 ه‍.

(3)نفس المصدر / 188.

(4)في كثير من المصادر أنها توفيت قبل زوجها العباس وذلك في زمن خلافة عثمان ولكن
سيأتي في الحديث عن شأن الناكثين لبيعة الإمام عليه‌السلام بعد مقتل عثمان وما أجتمع عليه

١٦٩

دعوا من المجد اكنافاً إلى أجل

حتى إذا كملت اظماؤهم وردوا

ميت بمصر وميت بالعراق ومي‍

ـت بالحجاز منايا بينهم بدد

كانت لهم همم فرقنّ بينهم

إذا القعاديد عن امثالهم قعدوا

بث الجميل وتفريج الجليل واعط

وإعطاء الجزيل الذي لم يعطه أحد(1)

أقول : من الغريب انه لم يعقب على ذلك بشيء ، من حيث القبور. فان بني
العباس وإن كانوا كما قال أبو صالح صاحب التفسير : ما رأينا بني أم أبعد قبوراً
من بني العباس لأم الفضل (2) .

إلّا أنّ في البيت الثاني قوله : وميت بالعراق فمن هو يا ترى ذلك الميت؟!

على أنّ الأبيات المذكورة أوردها أبو عليّ القالي في أماليه منسوبة لأم
معدان الأنصارية بزيادة في أولها وهي :

لا يبعد الله فتياناً رُزئتهم

بانوا لوقت مناياهم فقد بعدوا

أضحت قبورهم شتى ويجمعهم

زوّ المنون(3) ولم يجمعهم بلد

ثم الأبيات الأربعة السابقة باختلاف في الترتيب(4) .

فرحمة الله على أم الفضل وأخواتها المؤمنات.


_____________________________________

رأيهم بمكة من اعلان العصيان ، ان أم الفضل كانت بمكة وعلمت بذلك فاستأجرت
رجلاً من جهينة اسمه ظفر وكتبت معه عن نية القوم ، وأمرته أن يسرع في ايصال كتابها
إلى الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام بالمدينة. وعلى هذا فهي كانت باقية حيّة إلى زمن خلافة
الإمام عليه‌السلام .

(1)زهر الأداب 4 / 104.

(2)المعارف لابن قتيبة / 122 ، ووفيات الاعيان 3 / 64.

(3)زوّ المنون : أحداثها.

(4)الأمالي للقالي 2 / 96.

١٧٠

١٧١
١٧٢





في عهد النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

تبدأ شخصية حبر الاُمة بالظهور المتلأليء في عهد ابن عمه صاحب
الرسالة صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتحتل بفضل نبوغها المبكّر مكانتها اللائقة بمثله ، بفضل ما حصلت
عليه ، ممّا صار يغبطه عليهاـبعد ذلكـكثير من أبناء الصحابة ، بل وحتى من
الصحابة الّذين فاقهم بأستعداده الفطري ، وحسن تلقّيه ، وشدة ذكائه ، ما جعله
متميزاًـبفضل ما لديه من الموروث والمكتسبـفكان حرياً بأن يوليه
النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو مربّيه عنايته التامة ، ويغدق عليه من فضل معارفه ، ما أكسبه أن
يكون بحق (حبر الاُمة) بالرغم من قصر تلك الفترة الّتي حظي فيها بصحبته. وإن
تكن الروايات الّتي تحدثت عن فترة صحبته للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم تخل من مزايدات
مناقبية عباسية البصمات ، كما لم تسلم من مفارقات أموية الطابع ، فكانت مثار
بعض الشبهات ولكن عكست آثارها على المروي عنه وفيه ، وبالرغم من دس
هذه وتلك ، فإنّه يسع الباحث أن يستخلص من بين أكداس الشوائب ما يصحّ
له فيتحدّث عنه. وذلك من خلال سلامة الرواية طريقاً واتفاق الأنصار والخصوم
على روايته.

وإذا رجعنا إلى تاريخ بدء هجرته ونهاية صحبته فلا تتجاوز تلك الفترة
أعوامها الثلاثة ، فقد مرّ بنا أنّه كان مع أبيه في هجرته في أواخر عام ثمان من

١٧٣

الهجرة والتقوا بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومعه المسلمون في طريقهم إلى مكة وذلك في شهر
رمضان فكانوا معه. وانتهت تلك الفترة بالتحاق النبيّ الكريم بالرفيق الأعلى في
صفر أو ربيع الأوّل عام أحد عشر فهي لم تتجاوز الثلاثة أعوام. وإذا أردنا
تحديدها بدقة فلنأخذ بما قاله الذهبي في كتابه : « صحب النبيّ صلّى الله عليه
(وآله)وسلّم نحواً من ثلاثين شهراً وحدّث عنه بجملة صالحة » (1) ، وهو تحديد
قريب من الواقع. ومهما يكن عمر تلك الصحبة طولاً وقصراً فقد كانت غنية
بالعطاء ، مليئة بالبركات ، فضلت صحبة كثير ممّن طالت صحبتهم ولم ينتفعوا بها
فلم تغن عنهم شيئاً.

وليس من شك كان له من العناية الآلهية التوفيق خير مساعد على درك ما
اكتسب ، حين توفرت له أسباب النجاح ، فكان حفظه عن تعقل وبفضل ما عليه
من استعداد في نفسه للتلقي وإعداد من ابن عمه في الإفاضة ، فكان يرعاه ويوليه
عنايته ، فأصبح بفضل تلك المواهب والعناية (حبر هذه الاُمة) ، وما حفظه
المحكم من القرآن وهو ابن عشر سنينـكما حدث بذلكـإلّا دليل نبوغه
المبكّر وشدة ذكائه. وليس حفظ المحكمـوهو من سورة محمّد إلى آخر
القرآنـسهلاً على من كان في مثل سنّه ، وبل وحتى على من كان أكبر منه.

ألم نقرأ عن آخرين من الصحابة وفيهم من نيّف على الأربعين وأكثر من
عمره لم يستطع تعلم سورة من القرآن إلّا بعد جهد ، وكان بعضهم نحر جزوراً
عندما ختم سورة البقرة في أثنتي عشرة سنة (2) .

_______________________

(1)سير أعلام النبلاء 4 / 439.

(2)لاحظ شرح الموطأ للزرقاني 2 / 194جاء فيه : وأخرج الخطيب في رواية مالك عن ابن
عمر قال : تعلم عمر في أثنتي عشرة سنة فلمّا ختمها نحر جزوراً ، وقارن ربيع الأبرار
للزمخشري 2 / 77 ط الأوقاف ببغداد ، ولاحظ أيضاً شرح الموطأ للزرقاني 2 / 194 ، وذخائر

١٧٤

وسيأتي في مستقبل تأريخه أنّه صار يقريء جماعة من الصحابة ، وجاء عند
البخاري وغيره ذكر عبد الرحمن بن عوف منهم (1) وعمر بن الخطاب(2) ، فحفظه
للمحكم في أوائل سنيّ صحبته دليل على حسن تلقّيه ومدى أستعداده. ولم
يكن تلقّيه مجرد حفظ آيات وسور ، بل لابدّ أن يكون قد تلقّى التأويل كما
تلقّى التنزيل من أبن عمه صاحب الرسالة ومن فلَقِ فيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . وإذا صح ما يروى
أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو الّذي لقبه ب‍ (ترجمان القرآن)(3) ففي ذلك دلالة على أنّه وجد
فيه ما يؤهله لأن يكون كذلكَ بفضل ما تعلّمه منه تنزيلاً وتأويلاً.

وزاد حرص حبر الأمة على طلب المزيد ، كثرة متابعته للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فكان
ملازماً له ما وسعه ، ذلكَ وساعده على استزادة فرص تلك الملازمة ، وجود خالته
أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث عند النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فكان يدخل بيتها ويبيت أحياناً
عندها ، ليتابع معرفة أحوال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بيته ، وحاله في نومه ويقظته ، وربما دعاه
النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى المبيت عند خالته كما سيأتي.

ولنقرأ عن ذلك :





_______________________

المواريث 2 / 101عن مالك في الموطأـفي الصلاةـقال مالك : بلغني أن عبد الله بن عمر
مكث على سورة البقرة ثمان سنين يتعلمها.

(1)المصنف لعبد الرزاق 5 / 439 ، صحيح البخاري بشرح فتح الباري 12 / 121.

(2)ذكر ذلك المحب الطبري في ذخائر العقبى / 233.

(3)راجع ما مرّ في كنيته ولقبه.

١٧٥
١٧٦




هجرته وبيعته :

انتشر الإسلام وخفقت رايته على ربوع الحجاز ، وظهر أمر الله وقريش له
كارهون ، وكثر المسلمون بعد هجرة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقويت شوكتهم بعد موقعة بدر
الكبرى ، حيث نصر الله نبيّه على قريش وأيّده بجنود لم يروها ، ومضت ستة
أعوام على هجرته فيحنّ الرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى أم القرى ، لزيارة بيت ربّه ،
ومقام أبيه إبراهيم عليه‌السلام ، فيتهيأ ويدعو المسلمين ، ويخرج ومعه الف وستمائة
رجل ، فذي ركائبهم تجوب البيداء القاحلة ، وذا هديهم معهم قد ساقوه حيث
ساق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتخرج قريش عندما علمت بمقدمه فتصدّه عن دخول مكة ،
فيقيم بالحديبية (1) يبعث إليهم إني ما خرجت أريد قتالاً ، وإنّما أردت زيارة هذا
البيت ، فلم يقبلوا منه ، وواعدوه أن يخلوا له مكة من قابل ثلاثة أيام يزور فيها
البيت ويؤدي مناسكه ، وتكتب بذلك وثيقة الصلح بين الفريقين ، وفيها اشترطوا :
أن لا تؤذي قريش أحداً من المسلمينـوان كان بمكةـولا من حلفائهم ، كما
لا يؤذي المسلمون أحداً من قريش ولا من حلفائهم ، واتفقوا أن تكون مدة
الصلح عشر سنين وجرت من بعض رموز الصحابة مواقف غير مُرضّية بل
مدخولة وَمَرضية (2) .

_______________________

(1)مكان على تسعة أميال من مكة ممّا يلي طرف الحرم.

(2)قال عمر : مازلت أصوم وأتصدق وأصلي وأعتق من الّذي صنعت يومئذ ، مخافة كلامي
الّذي تكلمت به ، حتى رجوت أن يكون خيراً (تاريخ الطبري 2 / 634 ط دار المعارف).

١٧٧

فنحر فيها الرسول الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هديه ، وحلّ من احرامه ، ورجع إلى
يثرب دار هجرته ، وبعد مضي عام على ذلك يخرج صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى زيارة
البيت ليعتمر عمرة القضاء ، وتخلي له قريش مكة ، ويبقى بها ثلاثاً ، ثمّ يخرج
وفاءً بالشرط. ولم تمض برهة طويلة حتى كان تجاوز بني بكرـوهم حلفاء
قريشـعلى خزاعةـوهم حلفاء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـلتراث بينهما ، ونصرت
قريش بني بكر على خزاعة ، وبذلك نقضوا ما أشترطوه في عقد الصلح
مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، واستنجدت خزاعة بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأرسلت وفداً يضم أربعين
راكباً بزعامة شاعرهم عمرو بن سالم ، فدخلوا المسجد ، ووقف شاعرهم على
رأس النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ينشده :

يا رب إني ناشد محمدا

حلف أبينا وأبيه الأتلدا(1)

كنت لنا أباً وكنّا ولدا

ثمة أسلمنا فلم ننزع يدا

فانصر رسول الله نصراً عتدا(2)

وادع عباد الله يأتوا مددا

فيهم رسول الله قد تجرّدا

إن سيم خسفاً وجهه تربّدا

في فيلق كالبحر يجري مزبدا

إن قريشا أخلفوك الموعدا

ونقضوا ميثاقك المؤكّدا

وجعلوا لي في كداء(3) رصدا

وزعموا أن لست أدعوا أحداً

وهم أذلّ وأقلّ عددا

_______________________

(1)الأتلد : الأقدم.

(2)العَتدَ : من العتيد : بمعنى الحاضر المهيأ وفرس عتَدَ بفتحتين معدّ للجري والركوب.

(3)كداء : بالفتح والمد : ثنيّة بأعلى مكة عند المحصّب دار النبيعليه‌السلام من ذي طوى إليها
(مراصد الاطلاع).

١٧٨

هم بيّتونا بالوتير(1) هُجّدا

وقتّلونا ركّعا وسجّداً(2)

فقال الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (لا نصرتُ إن لم أنصر بني كعب)(3) ـيعني خزاعةـ
وأحلّ الله له نقض ما كان بينه وبين قريش ، حيث بدأوا بالنكث ، ( فَمَن نَّكَثَ
فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَىٰ نَفْسِهِ
) (4) .

ويخرجصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لنصرة خزاعة ، ومعه المسلمون وعدتهم يومئذ عشرة آلاف(5) .

ولمّا وصل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومعه المسلمون إلى السقياـقرية من أعمال الفرعـ
أو الجحفةـعلى بعد تسعة عشر ميلاً من السقيا وعلى ثلاث مراحل من م.كةـ
أو ذي الحليفةـعلى خمسة أميال من المدينةـالتقىـفيما يقول أصحاب
السيرةـعمه العباس بن عبد المطلب رضي‌الله‌عنه وقد جاء مهاجراً بأهله ورحله إلى
المدينة دار الهجرة والإيمان.

_______________________

(1)الوتير : بالفتح ثمّ الكسر : اسم ماء بأسفل مكة لخزاعة ، نفس المصدر.

(2)السيرة لإبن هشام 3 / 227 ط مصر سنة 1329 بالمطبعة الخيرية ، والسيرة الحلبية 3 / 71ـ
78 ، والاستيعاب 2 / 533 ، والإصابة 2 / 529 ، وقد أحتج سعيد بن المسيب في مسجد
النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهذه المناشدة حين قال له عمران بن أبي كثير : يا أبا أن قبيصة بن ذؤيب جاء
برجل من أهل العراق فأدخله على عبد الملك بن مروان فحدثه عن أبيه عن المغيرة بن
شعبة أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : (الخليفة لا يناشد) ، فرفع سعيد يده فضرب بها الأخرى فقال :
قاتل الله قبيصة كيف باع دينه بدنيا فانية؟ والله ما من أمرأة من خزاعة قعيدة في بيتها
إلا وقد حفظت قول عمرو بن سالم الخزاعي لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أفيناشد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا
يناشد الخليفة؟ قاتل الله قبيصة كيف باع دينه بدنيا فانية؟ (كتاب الغارات لإبراهيم بن
محمد الثقفي 2 / 574).

(3)طبقات بن سعد 2 / 97 ط لبنان ، وتخريج الأحاديث والأثار للزيلعي 2 / 56ط دار خزيمة
الرياض ، وفي الاستيعاب (ترجمة عمرو بن سالم) : (لا نصر في الله إن لم أنصر بني
كعب) ، وكذا في مجمع الزوائد 6 / 161 ، والمطالب العالية 4 / 241.

(4)الفتح / 10.

(5)التنبيه والإشراف للمسعودي / 231ط مصر.

١٧٩

وينزل الجميع ذلك المكان ، ويفرح كلٌ بلقاء الآخر ، ويعرف العباس نيّة
النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في وجهه ذلك ، فيرسل بركائبه إلى المدينة وقد مرّ منا أنّه وصل إلى
المدينة قبل خروج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى فتح مكة اعتماداً على حديث ابن عباس في
الصوم في السفر (1) ومهما يكن فقد أنتظم هو وبعض بنيه في سلك النفر
المجاهدين ، ويعود إلى مكة مع أبن أخيه قاصداً حرب قريش الّذين نكثوا العهد
ونقضوا الأيمان ، فانقطعت العصمة فحلّ للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يخرج إليهم بذلك
الجيش.

وكان للعباسرضي‌الله‌عنه مقامه في جيش المسلمين ، وإن ذكر الصفوري : انّ
النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عقد له راية سوداء كما أنّ راية الأنصار كانت في ذلك اليوم صفراء(2) .
ولا أكاد أصدقه في ذلك ، نعم كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يشاور عمه مع المشيرين وكان عبد
الله بن عباس رضي‌الله‌عنه زعيم هذه السيرة في المسيرة من بين أخوته الّذين رجعوا مع
أبيهم إلى مكة بصحبة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو يومئذٍ بعدُ لم يبلغ الحلم ، إذ كان له من
العمر أحد عشرة سنة. كما أنّ بيعته للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانت في ذلك السنّ ، فقد ذكر أنّه
لم يبايع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طفلٌ غيره وغير الحسنينعليهما‌السلام وغير ابن جعفر(3) .

وعلى هذا يمكننا أن نعتبر أنّ اولى صفحات تاريخ حياته ذات الدلالة تبدأ
من هذا الحين ، وإن سبق القول حكاية دخول الإسلام بيته بمكة ، إلّا أنّه لم يكن
قد رأى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأبتدأ يحضر عند الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويشاهد مجالسه ، ومن ثَمّ يحدّث
_______________________

(1)سيأتي في شواهد ومشاهد برقم 11.

(2)نزهة المجالس للصفوري 1 / 112.

(3)عمدة الطالب / 36 ط النجف في ذكر عبد الله بن جعفر وقد وَهَم ابن ظفر المكي في
كتابه أنباء نجباء الأبناء / 81 ، فعدّ مكان ابن جعفر عبد الله بن الزبير ، ولم أجد فيما
رأيت من المصادر فعلاً من ذكره ، والثابت المشهور ما ذكرناه.

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487