موسوعة عبد الله بن عبّاس الجزء ١

موسوعة عبد الله بن عبّاس12%

موسوعة عبد الله بن عبّاس مؤلف:
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
تصنيف: متون حديثية
ISBN: 964-319-501-5
الصفحات: 487

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 487 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 158933 / تحميل: 6193
الحجم الحجم الحجم
موسوعة عبد الله بن عبّاس

موسوعة عبد الله بن عبّاس الجزء ١

مؤلف:
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
ISBN: ٩٦٤-٣١٩-٥٠١-٥
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

الثواب و العقاب الروحانيان و كيف تصور العامة ذلك حتى يرغبوا و يرهبوا كلا بل لم تصور لهم الشريعة النصرانية من ذلك شيئا غير أنهم يكونون في الآخرة كالملائكة و هذا لا يفي بالترغيب التام و لا ما ذكروه من العقاب الروحاني و هو الظلمة و خبث النفس كاف في الترهيب و الذي جاءت به شريعة الإسلام حسن لا زيادة عليه انقضى كلام هذا الحكيم.فأما كون الاستغفار سببا لنزول القطر و درور الرزق فإن الآية بصريحها ناطقة به لأنها أمر و جوابه قال اِسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ اَلسَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً كما تقول قم أكرمك أي إن قمت أكرمتك و عن عمر أنه خرج يستسقي فما زاد على الاستغفار فقيل له ما رأيناك استسقيت فقال لقد استسقيت بمجاديح السماء التي يستنزل بها المطر.و عن الحسن أن رجلا شكا إليه الجدب فقال استغفر الله فشكا آخر إليه الفقر و آخر قلة النسل و آخر قلة ريع أرضه فأمرهم كلهم بالاستغفار فقال له الربيع بن صبيح رجال أتوك يشكون أبوابا و يشكون أنواعا فأمرتهم كلهم بالاستغفار فتلا له الآية.قوله استقبل توبته أي استأنفها و جددها و استقال خطيئته طلب الإقالة منها و الرحمة و بادر منيته سابق الموت قبل أن يدهمه.

٨١

قوله ع لا تهلكنا بالسنين جمع سنة و هي الجدب و المحل قال تعالى( وَ لَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ ) و قال النبي ص يدعو على المشركين اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف و السنة لفظ محذوف منه حرف قيل إنه الهاء و قيل الواو فمن قال المحذوف هاء قال أصله سنهة مثل جبهة لأنهم قالوا نخلة سنهاء أي تحمل سنة و لا تحمل أخرى و قال بعض الأنصار

فليست بسنهاء و لا رجبية

و لكن عرايا في السنين الجوائح

و من قال أصلها الواو احتج بقولهم أسنى القوم يسنون إسناء إذا لبثوا في المواضع سنة فأما التصغير فلا يدل على أحد المذهبين بعينه لأنه يجوز سنية و سنيهة و الأكثر في جمعها بالواو و النون سنون بكسر السين كما في هذه الخطبة و بعضهم يقول سنون بالضم.و المضايق الوعرة بالتسكين و لا يجوز التحريك و قد وعر هذا الشي‏ء بالضم وعورة و كذلك توعر أي صار وعرا و استوعرت الشي‏ء استصعبته.و أجاءتنا ألجأتنا قال تعالى( فَأَجاءَهَا اَلْمَخاضُ إِلى‏ جِذْعِ اَلنَّخْلَةِ ) .و المقاحط المجدبة السنون الممحلة جمع مقحطة.و تلاحمت اتصلت.و الواجم الذي قد اشتد حزنه حتى أمسك عن الكلام و الماضي وجم بالفتح يجم وجوما.قوله و لا تخاطبنا بذنوبنا و لا تقايسنا بأعمالنا أي لا تجعل جواب دعائنا لك ما تقتضيه ذنوبنا كأنه يجعله كالمخاطب لهم و المجيب عما سألوه إياه كما يفاوض الواحد

٨٢

منا صاحبه و يستعطفه فقد يجيبه و يخاطبه بما يقتضيه ذنبه إذا اشتدت موجدته عليه و نحوه.و لا تقايسنا بأعمالنا قست الشي‏ء بالشي‏ء إذا حذوته و مثلته به أي لا تجعل ما تجيبنا به مقايسا و مماثلا لأعمالنا السيئة.قوله سقيا ناقعة هي فعلى مؤنثة غير مصروفة.و الحيا المطر و ناقعة مروية مسكنة للعطش نقع الماء العطش نقعا و نقوعا سكنه و في المثل الرشف أنقع أي أن الشراب الذي يرشف قليلا قليلا أنجع و أقطع للعطش و إن كان فيه بطء.و كثيرة المجتنى أي كثيرة الكلأ و الكلأ الذي يجتنى و يرعى و القيعان جمع قاع و هو الفلاة.و البطنان جمع بطن و هو الغامض من الأرض مثل ظهر و ظهران و عبد و عبدان

٨٣

144 و من خطبة له ع

بَعَثَ اَللَّهُ رُسُلَهُ بِمَا خَصَّهُمْ بِهِ مِنْ وَحْيِهِ وَ جَعَلَهُمْ حُجَّةً لَهُ عَلَى خَلْقِهِ لِئَلاَّ تَجِبَ اَلْحُجَّةُ لَهُمْ بِتَرْكِ اَلْإِعْذَارِ إِلَيْهِمْ فَدَعَاهُمْ بِلِسَانِ اَلصِّدْقِ إِلَى سَبِيلِ اَلْحَقِّ أَلاَ إِنَّ اَللَّهَ تَعَالَى قَدْ كَشَفَ اَلْخَلْقَ كَشْفَةً لاَ أَنَّهُ جَهِلَ مَا أَخْفَوْهُ مِنْ مَصُونِ أَسْرَارِهِمْ وَ مَكْنُونِ ضَمَائِرِهِمْ وَ لَكِنْ لِيَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً فَيَكُونَ اَلثَّوَابُ جَزَاءً وَ اَلْعِقَابُ بَوَاءً أَيْنَ اَلَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّهُمُ اَلرَّاسِخُونَ فِي اَلْعِلْمِ دُونَنَا كَذِباً وَ بَغْياً عَلَيْنَا أَنْ رَفَعَنَا اَللَّهُ وَ وَضَعَهُمْ وَ أَعْطَانَا وَ حَرَمَهُمْ وَ أَدْخَلَنَا وَ أَخْرَجَهُمْ بِنَا يُسْتَعْطَى اَلْهُدَى وَ يُسْتَجْلَى اَلْعَمَى إِنَّ اَلْأَئِمَّةَ مِنْ قُرَيْشٍ غُرِسُوا فِي هَذَا اَلْبَطْنِ مِنْ هَاشِمٍ لاَ تَصْلُحُ عَلَى سِوَاهُمْ وَ لاَ تَصْلُحُ اَلْوُلاَةُ مِنْ غَيْرِهِمْ أول الكلام مأخوذ من قوله سبحانه( رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اَللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ اَلرُّسُلِ ) و قوله تعالى( وَ ما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ) .

٨٤

فإن قلت فهذا يناقض مذهب المعتزلة في قولهم بالواجبات عقلا و لو لم تبعث الرسل.قلت صحة مذهبهم تقتضي أن تحمل عموم الألفاظ على أن المراد بها الخصوص فيكون التأويل لئلا يكون للناس على الله حجة فيما لم يدل العقل على وجوبه و لا قبحه كالشرعيات و كذلك وَ ما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً على ما لم يكن العقل دليلا عليه حتى نبعث رسولا.الإعذار تقديم العذر ثم قال إن الله تعالى كشف الخلق بما تعبدهم به من الشرعيات على ألسنة الأنبياء و لم يكن أمرهم خافيا عنه فيحتاج إلى أن يكشفهم بذلك و لكنه أراد ابتلاءهم و اختبارهم ليعلم أيهم أحسن عملا فيعاقب المسي‏ء و يثيب المحسن.فإن قلت الإشكال قائم لأنه إذا كان يعلم أيهم يحسن و أيهم يسي‏ء فما فائدة الابتلاء و هل هو إلا محض العبث قلت فائدة الابتلاء إيصال نفع إلى زيد لم يكن ليصح إيصاله إليه إلا بواسطة هذا الابتلاء و هو ما يقوله أصحابنا إن الابتلاء بالثواب قبيح و الله تعالى يستحيل أن يفعل القبيح.قوله و للعقاب بواء أي مكافأة قالت ليلى الأخيلية

فإن تكن القتلى بواء فإنكم

فتى ما قتلتم آل عوف بن عامر

و أبأت القاتل بالقتيل و استبأته أيضا إذا قتلته به و قد باء الرجل بصاحبه أي قتل به

٨٥

و في المثل باءت عرار بكحل و هما بقرتان قتلت إحداهما بالأخرى و قال مهلهل لبجير لما قتل بؤ بشسع نعل كليب.قوله ع أين الذين زعموا هذا الكلام كناية و إشارة إلى قوم من الصحابة كانوا ينازعونه الفضل فمنهم من كان يدعي له أنه أفرض و منهم من كان يدعي له أنه أقرأ و منهم من كان يدعي له أنه أعلم بالحلال و الحرام هذا مع تسليم هؤلاء له أنه ع أقضى الأمة و أن القضاء يحتاج إلى كل هذه الفضائل و كل واحدة منها لا تحتاج إلى غيرها فهو إذن أجمع للفقه و أكثرهم احتواء عليه إلا أنه ع لم يرض بذلك و لم يصدق الخبر الذي قيل أفرضكم فلان إلى آخره فقال إنه كذب و افتراء حمل قوما على وضعه الحسد و البغي و المنافسة لهذا الحي من بني هاشم أن رفعهم الله على غيرهم و اختصهم دون من سواهم.و أن هاهنا للتعليل أي لأن فحذف اللام التي هي أداة التعليل على الحقيقة قال سبحانه( لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اَللَّهُ عَلَيْهِمْ ) و قال بعض النحاة لبعض الفقهاء الزاعمين أن لا حاجة للفقه إلى النحو ما تقول لرجل قال لزوجته أنت طالق إن دخلت الدار فقال لا يقع إلا بالدخول فقال فإن فتح الهمزة قال كذلك فعرفه أن العربية نافعة في الفقه و أن الطلاق منجز لا معلق إن كان مراده تعليل الطلاق بوقوع الدخول لاشتراطه به.ثم قال بنا يستعطى الهدى أي يطلب أن يعطى و كذلك يستجلى أي يطلب جلاؤه.ثم قال إن الأئمة من قريش إلى آخر الفصل

٨٦

اختلاف الفرق الإسلامية في كون الأئمة من قريش

و قد اختلف الناس في اشتراط النسب في الإمامة فقال قوم من قدماء أصحابنا إن النسب ليس بشرط فيها أصلا و إنها تصلح في القرشي و غير القرشي إذا كان فاضلا مستجمعا للشرائط المعتبرة و اجتمعت الكلمة عليه و هو قول الخوارج.و قال أكثر أصحابنا و أكثر الناس إن النسب شرط فيها و إنها لا تصلح إلا في العرب خاصة و من العرب في قريش خاصة و قال أكثر أصحابنا معنى

قول النبي ص الأئمة من قريش أن القرشية شرط إذا وجد في قريش من يصلح للإمامة فإن لم يكن فيها من يصلح فليست القرشية شرطا فيها.و قال بعض أصحابنا معنى الخبر أنه لا تخلو قريش أبدا ممن يصلح للإمامة فأوجبوا بهذا الخبر وجود من يصلح من قريش لها في كل عصر و زمان.و قال معظم الزيدية إنها في الفاطميين خاصة من الطالبيين لا تصلح في غير البطنين و لا تصح إلا بشرط أن يقوم بها و يدعو إليها فاضل زاهد عالم عادل شجاع سائس و بعض الزيدية يجيز الإمامة في غير الفاطميين من ولد علي ع و هو من أقوالهم الشاذة.و أما الراوندية فإنهم خصصوها بالعباسرحمه‌الله و ولده من بين بطون قريش كلها و هذا القول هو الذي ظهر في أيام المنصور و المهدي و أما الإمامية فإنهم جعلوها سارية في ولد الحسين ع في أشخاص مخصوصين و لا تصلح عندهم لغيرهم.و جعلها الكيسانية في محمد بن الحنفية و ولده و منهم من نقلها منه إلى ولد غيره.فإن قلت إنك شرحت هذا الكتاب على قواعد المعتزلة و أصولهم فما قولك في هذا

٨٧

الكلام و هو تصريح بأن الإمامة لا تصلح من قريش إلا في بني هاشم خاصة و ليس ذلك بمذهب للمعتزلة لا متقدميهم و لا متأخريهم.قلت هذا الموضع مشكل و لي فيه نظر و إن صح أن عليا ع قاله قلت كما قال لأنه ثبت عندي

أن النبي ص قال إنه مع الحق و أن الحق يدور معه حيثما دار و يمكن أن يتأول و يطبق على مذهب المعتزلة فيحمل على أن المراد به كمال الإمامة كما حمل

قوله ص لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد على نفي الكمال لا على نفي الصحة : مِنْهَا آثَرُوا عَاجِلاً وَ أَخَّرُوا آجِلاً وَ تَرَكُوا صَافِياً وَ شَرِبُوا آجِناً كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى فَاسِقِهِمْ وَ قَدْ صَحِبَ اَلْمُنْكَرَ فَأَلِفَهُ وَ بَسِئَ بِهِ وَ وَافَقَهُ حَتَّى شَابَتْ عَلَيْهِ مَفَارِقُهُ وَ صُبِغَتْ بِهِ خَلاَئِقُهُ ثُمَّ أَقْبَلَ مُزْبِداً كَالتَّيَّارِ لاَ يُبَالِي مَا غَرَّقَ أَوْ كَوَقْعِ اَلنَّارِ فِي اَلْهَشِيمِ لاَ يَحْفِلُ مَا حَرَّقَ أَيْنَ اَلْعُقُولُ اَلْمُسْتَصْبِحَةُ بِمَصَابِيحِ اَلْهُدَى وَ اَلْأَبْصَارُ اَللاَّمِحَةُ إِلَى مَنَازِلِ اَلتَّقْوَى أَيْنَ اَلْقُلُوبُ اَلَّتِي وُهِبَتْ لِلَّهِ وَ عُوقِدَتْ عَلَى طَاعَةِ اَللَّهِ اِزْدَحَمُوا عَلَى اَلْحُطَامِ وَ تَشَاحُّوا عَلَى اَلْحَرَامِ وَ رُفِعَ لَهُمْ عَلَمُ اَلْجَنَّةِ وَ اَلنَّارِ فَصَرَفُوا عَنِ اَلْجَنَّةِ وُجُوهَهُمْ وَ أَقْبَلُوا إِلَى اَلنَّارِ بِأَعْمَالِهِمْ وَ دَعَاهُمْ رَبُّهُمْ فَنَفَرُوا وَ وَلَّوْا وَ دَعَاهُمُ اَلشَّيْطَانُ فَاسْتَجَابُوا وَ أَقْبَلُوا

٨٨

آثروا اختاروا و أخروا تركوا الآجن الماء المتغير أجن الماء يأجن و يأجن.و بسئ به ألفه و ناقة بسوء ألفت الحالب و لا تمنعه و شابت عليه مفارقه طال عهده به مذ زمن الصبا حتى صار شيخا و صبغت به خلائقه ما صارت طبعا لأن العادة طبيعة ثانية.مزبدا أي ذو زبد و هو ما يخرج من الفم كالرغوة يضرب مثلا للرجل الصائل المقتحم.و التيار معظم اللجة و المراد به هاهنا السيل و الهشيم دقاق الحطب.و لا يحفل بفتح حرف المضارعة لأن الماضي ثلاثي أي لا يبالي.و الأبصار اللامحة الناظرة و تشاحوا تضايقوا كل منهم يريد ألا يفوته ذلك و أصله الشح و هو البخل.فإن قلت هذا الكلام يرجع إلى الصحابة الذين تقدم ذكرهم في أول الخطبة.قلت لا و إن زعم قوم أنه عناهم بل هو إشارة إلى قوم ممن يأتي من الخلف بعد السلف أ لا تراه قال كأني أنظر إلى فاسقهم قد صحب المنكر فألفه و هذا اللفظ إنما يقال في حق من لم يوجد بعد كما قال في حق الأتراك كأني أنظر إليهم قوما كأن وجوههم المجان و كما قال في حق صاحب الزنج كأني به يا أحنف قد سار في الجيش و كما قال في الخطبة التي ذكرناها آنفا كأني به قد نعق بالشام يعني به عبد الملك و حوشي ع أن يعني بهذا الكلام الصحابة لأنهم ما آثروا العاجل و لا أخروا الآجل و لا صحبوا المنكر و لا أقبلوا كالتيار لا يبالي ما غرق و لا كالنار لا تبالي ما أحرقت و لا ازدحموا على الحطام و لا تشاحوا على الحرام و لا صرفوا عن الجنة وجوههم و لا أقبلوا

٨٩

إلى النار بأعمالهم و لا دعاهم الرحمن فولوا و لا دعاهم الشيطان فاستجابوا و قد علم كل أحد حسن سيرتهم و سداد طريقتهم و إعراضهم عن الدنيا و قد ملكوها و زهدهم فيها و قد تمكنوا منها و لو لا قوله كأني أنظر إلى فاسقهم لم أبعد أن يعني بذلك قوما ممن عليه اسم الصحابة و هو ردي‏ء الطريقة كالمغيرة بن شعبة و عمرو بن العاص و مروان بن الحكم و معاوية و جماعة معدودة أحبوا الدنيا و استغواهم الشيطان و هم معدودون في كتب أصحابنا و من اشتغل بعلوم السيرة و التواريخ عرفهم بأعيانهم

٩٠

145 و من خطبة له ع

أَيُّهَا اَلنَّاسُ إِنَّمَا أَنْتُمْ فِي هَذِهِ اَلدُّنْيَا غَرَضٌ تَنْتَضِلُ فِيهِ اَلْمَنَايَا مَعَ كُلِّ جَرْعَةٍ شَرَقٌ وَ فِي كُلِّ أَكْلَةٍ غَصَصٌ لاَ تَنَالُونَ مِنْهَا نِعْمَةً إِلاَّ بِفِرَاقِ أُخْرَى وَ لاَ يُعَمَّرُ مُعَمَّرٌ مِنْكُمْ يَوْماً مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ بِهَدْمِ آخَرَ مِنْ أَجَلِهِ وَ لاَ تُجَدَّدُ لَهُ زِيَادَةٌ فِي أَكْلِهِ إِلاَّ بِنَفَادِ مَا قَبْلَهَا مِنْ رِزْقِهِ وَ لاَ يَحْيَا لَهُ أَثَرٌ إِلاَّ مَاتَ لَهُ أَثَرٌ وَ لاَ يَتَجَدَّدُ لَهُ جَدِيدٌ إِلاَّ بَعْدَ أَنْ يَخْلَقَ لَهُ جَدِيدٌ وَ لاَ تَقُومُ لَهُ نَابِتَةٌ إِلاَّ وَ تَسْقُطُ مِنْهُ مَحْصُودَةٌ وَ قَدْ مَضَتْ أُصُولٌ نَحْنُ فُرُوعُهَا فَمَا بَقَاءُ فَرْعٍ بَعْدَ ذَهَابِ أَصْلِهِ الغرض ما ينصب ليرمى و هو الهدف و تنتضل فيه المنايا تترامى فيه للسبق و منه الانتضال بالكلام و بالشعر كأنه يجعل المنايا أشخاصا تتناضل بالسهام من الناس من يموت قتلا و منهم من يموت غرقا أو يتردى في بئر أو تسقط عليه حائط أو يموت على فراشه.ثم قال مع كل جرعة شرق و في كل أكلة غصص بفتح الغين مصدر قولك غصصت يا فلان بالطعام و روي غصص جمع غصة و هي الشجا و هذا مثل قول بعضهم المنحة فيها مقرونة بالمحنة و النعمة مشفوعة بالنقمة

٩١

و قد بالغ بعض الشعراء في الشكوى فأتى بهذه الألفاظ لكنه أسرف فقال:

حظي من العيش أكل كله غصص

مر المذاق و شرب كله شرق

و مراد أمير المؤمنين ع بكلامه أن نعيم الدنيا لا يدوم فإذا أحسنت أساءت و إذا أنعمت أنقمت.ثم قال لا ينالون منها نعمة إلا بفراق أخرى هذا معنى لطيف و ذلك أن الإنسان لا يتهيأ له أن يجمع بين الملاذ الجسمانية كلها في وقت فحال ما يكون آكلا لا يكون مجامعا و حال ما يشرب لا يأكل و حال ما يركب للقنص و الرياضة لا يكون جالسا على فراش وثير ممهد و على هذا القياس لا يأخذ في ضرب من ضروب الملاذ إلا و هو تارك لغيره منها.ثم قال و لا يعمر معمر منكم يوما من عمره إلا بهدم آخر من أجله و هذا أيضا لطيف لأن المسرور ببقائه إلى يوم الأحد لم يصل إليه إلا بعد أن قضى يوم السبت و قطعه و يوم السبت من أيام عمره فإذا قد هدم من عمره يوما فيكون قد قرب إلى الموت لأنه قد قطع من المسافة جزءا.ثم قال و لا تجدد له زيادة في أكله إلا بنفاد ما قبلها من رزقه و هذا صحيح فإن فسرنا الرزق بما وصل إلى البطن على أحد تفسيرات المتكلمين فإن الإنسان لا يأكل لقمة إلا و قد فرغ من اللقمة التي قبلها فهو إذا لا يتجدد له زيادة في أكله إلا بنفاد ما قبلها من رزقه.ثم قال و لا يحيا له أثر إلا مات له أثر و ذلك أن الإنسان في الأعم الأغلب لا ينتشر صيته و يشيع فضله إلا عند الشيخوخة و كذلك لا تعرف أولاده و يصير لهم اسم في الدنيا إلا بعد كبره و علو سنه فإذا ما حيي له أثر إلا بعد أن مات له أثر و هو قوته و نشاطه و شبيبته و مثله قوله و لا يتجدد له جديد إلا بعد أن يخلق له جديد.

٩٢

ثم قال و لا تقوم له نابتة إلا و تسقط منه محصودة هذه إشارة إلى ذهاب الآباء عند حدوث أبنائهم في الأعم الأغلب و لهذا قال و قد مضت أصول نحن فروعها فما بقاء فرع بعد ذهاب أصله و قد نظر الشعراء إلى هذا المعنى فقالوا فيه و أكثروا نحو قول الشاعر:

فإن أنت لم تصدقك نفسك فانتسب

لعلك تهديك القرون الأوائل

فإن لم تجد من دون عدنان والدا

و دون معد فلتزعك العواذل

و قال الشاعر:

فعددت آبائي إلى عرق الثرى

فدعوتهم فعلمت أن لم يسمعوا

لا بد من تلف مصيب فانتظر

أ بأرض قومك أم بأخرى تصرع

و قد صرح أبو العتاهية بالمعنى فقال:

كل حياة إلى ممات

و كل ذي جدة يحول

كيف بقاء الفروع يوما

و قد ذوت قبلها الأصول

مِنْهَا وَ مَا أُحْدِثَتْ بِدْعَةٌ إِلاَّ تُرِكَ بِهَا سُنَّةٌ فَاتَّقُوا اَلْبِدَعَ وَ اِلْزَمُوا اَلْمَهْيَعَ إِنَّ عَوَازِمَ اَلْأُمُورِ أَفْضَلُهَا وَ إِنَّ مُحْدَثَاتِهَا شِرَارُهَا

٩٣

البدعة كل ما أحدث مما لم يكن على عهد رسول الله ص فمنها الحسن كصلاة التراويح و منها القبيح كالمنكرات التي ظهرت في أواخر الخلافة العثمانية و إن كانت قد تكلفت الأعذار عنها.و معنى قوله ع ما أحدثت بدعة إلا ترك بها سنة أن من السنة ألا تحدث البدعة فوجود البدعة عدم للسنة لا محالة.و المهيع الطريق الواضح من قولهم أرض هيعة أي مبسوطة واسعة و الميم مفتوحة و هي زائدة.و عوازم الأمور ما تقادم منها من قولهم عجوز عوزم أي مسنة قال الراجز:

لقد غدوت خلق الثياب

أحمل عدلين من التراب

لعوزم و صبية سغاب

فآكل و لاحس و آبي

و يجمع فوعل على فواعل كدورق و هوجل و يجوز أن يكون عوازم جمع عازمة و يكون فاعل بمعنى مفعول أي معزوم عليها أي مقطوع معلوم بيقين صحتها و مجي‏ء فاعلة بمعنى مفعولة كثير كقولهم عيشة راضية بمعنى مرضية و الأول أظهر عندي لأن في مقابلته قوله و إن محدثاتها شرارها و المحدث في مقابلة القديم

٩٤

146 و من كلام له ع و قد استشاره عمر في الشخوص لقتال الفرس بنفسه

إِنَّ هَذَا اَلْأَمْرَ لَمْ يَكُنْ نَصْرُهُ وَ لاَ خِذْلاَنُهُ بِكَثْرَةٍ وَ لاَ بِقِلَّةٍ وَ هُوَ دِينُ اَللَّهِ اَلَّذِي أَظْهَرَهُ وَ جُنْدُهُ اَلَّذِي أَعَدَّهُ وَ أَمَدَّهُ حَتَّى بَلَغَ مَا بَلَغَ وَ طَلَعَ حَيْثُمَا طَلَعَ وَ نَحْنُ عَلَى مَوْعُودٍ مِنَ اَللَّهِ وَ اَللَّهُ مُنْجِزٌ وَعْدَهُ وَ نَاصِرٌ جُنْدَهُ وَ مَكَانُ اَلْقَيِّمِ بِالْأَمْرِ مَكَانُ اَلنِّظَامِ مِنَ اَلْخَرَزِ يَجْمَعُهُ وَ يَضُمُّهُ فَإِنِ اِنْقَطَعَ اَلنِّظَامُ تَفَرَّقَ وَ ذَهَبَ ثُمَّ لَمْ يَجْتَمِعْ بِحَذَافِيرِهِ أَبَداً وَ اَلْعَرَبُ اَلْيَوْمَ وَ إِنْ كَانُوا قَلِيلاً فَهُمْ كَثِيرُونَ بِالْإِسْلاَمِ عَزِيزُونَ بِالاِجْتِمَاعِ فَكُنْ قُطْباً وَ اِسْتَدِرِ اَلرَّحَى بِالْعَرَبِ وَ أَصْلِهِمْ دُونَكَ نَارَ اَلْحَرْبِ فَإِنَّكَ إِنْ شَخَصْتَ مِنْ هَذِهِ اَلْأَرْضِ اِنْتَقَضَتْ عَلَيْكَ اَلْعَرَبُ مِنْ أَطْرَافِهَا وَ أَقْطَارِهَا حَتَّى يَكُونَ مَا تَدَعُ وَرَاءَكَ مِنَ اَلْعَوْرَاتِ أَهَمَّ إِلَيْكَ مِمَّا بَيْنَ يَدَيْكَ إِنَّ اَلْأَعَاجِمَ إِنْ يَنْظُرُوا إِلَيْكَ غَداً يَقُولُوا هَذَا أَصْلُ اَلْعَرَبِ فَإِذَا اِقْتَطَعْتُمُوهُ اِسْتَرَحْتُمْ فَيَكُونُ ذَلِكَ أَشَدَّ لِكَلْبِهِمْ عَلَيْكَ وَ طَمَعِهِمْ فِيكَ فَأَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنْ مَسِيرِ اَلْقَوْمِ إِلَى قِتَالِ اَلْمُسْلِمِينَ فَإِنَّ اَللَّهَ سُبْحَانَهُ هُوَ أَكْرَهُ لِمَسِيرِهِمْ مِنْكَ وَ هُوَ أَقْدَرُ عَلَى تَغْيِيرِ مَا يَكْرَهُ وَ أَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنْ عَدَدِهِمْ فَإِنَّا لَمْ نَكُنْ نُقَاتِلُ فِيمَا مَضَى بِالْكَثْرَةِ وَ إِنَّمَا كُنَّا نُقَاتِلُ بِالنَّصْرِ وَ اَلْمَعُونَةِ

٩٥

نظام العقد الخيط الجامع له و تقول أخذته كله بحذافيره أي بأصله و أصل الحذافير أعالي الشي‏ء و نواحيه الواحد حذفار.و أصلهم نار الحرب اجعلهم صالين لها يقال صليت اللحم و غيره أصليه صليا مثل رميته أرميه رميا إذا شويته و في الحديث أنه ص أتي بشاة مصلية أي مشوية و يقال أيضا صليت الرجل نارا إذا أدخلته النار و جعلته يصلاها فإن ألقيته فيها إلقاء كأنك تريد الإحراق قلت أصليته بالألف و صليته تصلية و قرئ( وَ يَصْلى‏ سَعِيراً ) و من خفف فهو من قولهم صلى فلان بالنار بالكسر يصلى صليا احترق قال الله تعالى( هُمْ أَوْلى‏ بِها صِلِيًّا ) و يقال أيضا صلى فلان بالأمر إذا قاسى حره و شدته قال الطهوي:

و لا تبلى بسالتهم و إن هم

صلوا بالحرب حينا بعد حين

و على هذا الوجه يحمل كلام أمير المؤمنين ع و هو مجاز من الإحراق و الشي‏ء الموضوع لها هذا اللفظ حقيقة.و العورات الأحوال التي يخاف انتقاضها في ثغر أو حرب قال تعالى( يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَ ما هِيَ بِعَوْرَةٍ ) و الكلب الشر و الأذى

يوم القادسية

و اعلم أن هذا الكلام قد اختلف في الحال التي قاله فيها لعمر فقيل قاله له في

٩٦

غزاة القادسية و قيل في غزاة نهاوند و إلى هذا القول الأخير ذهب محمد بن جرير الطبري في التاريخ الكبير و إلى القول الأول ذهب المدائني في كتاب الفتوح و نحن نشير إلى ما جرى في هاتين الوقعتين إشارة خفيفة على مذهبنا في ذكر السير و الأيام.فأما وقعة القادسية فكانت في سنة أربع عشرة للهجرة استشار عمر المسلمين في أمر القادسية فأشار عليه علي بن أبي طالب في رواية أبي الحسن علي بن محمد بن سيف المدائني ألا يخرج بنفسه و قال إنك إن تخرج لا يكن للعجم همة إلا استئصالك لعلمهم أنك قطب رحى العرب فلا يكون للإسلام بعدها دولة و أشار عليه غيره من الناس أن يخرج بنفسه فأخذ برأي علي ع.و روى غير المدائني أن هذا الرأي أشار به عبد الرحمن بن عوف قال أبو جعفر محمد بن جرير الطبري لما بدا لعمر في المقام بعد أن كان عزم على الشخوص بنفسه أمر سعد بن أبي وقاص على المسلمين و بعث يزدجرد رستم الأرمني أميرا على الفرس فأرسل سعد النعمان بن مقرن رسولا إلى يزدجرد فدخل عليه و كلمه بكلام غليظ فقال يزدجرد لو لا أن الرسل لا تقتل لقتلتك ثم حمله وقرا من تراب على رأسه و ساقه حتى أخرجه من باب من أبواب المدائن و قال ارجع إلى صاحبك فقد كتبت إلى رستم أن يدفنه و جنده من العرب في خندق القادسية ثم لأشغلن العرب بعدها بأنفسهم و لأصيبنهم بأشد مما أصابهم به سابور ذو الأكتاف فرجع النعمان إلى سعد فأخبره فقال لا تخف فإن الله قد ملكنا أرضهم تفاؤلا بالتراب.قال أبو جعفر و تثبط رستم عن القتال و كرهه و آثر المسالمة و استعجله يزدجرد مرارا و استحثه على الحرب و هو يدافع بها و يرى المطاولة و كان عسكره مائة و عشرين ألفا

٩٧

و كان عسكر سعد بضعا و ثلاثين ألفا و أقام رستم بريدا من الرجال الواحد منهم إلى جانب الآخر من القادسية إلى المدائن كلما تكلم رستم كلمة أداها بعضهم إلى بعض حتى تصل إلى سمع يزدجرد في وقتها و شهد وقعة القادسية مع المسلمين طليحة بن خويلد و عمرو بن معديكرب و الشماخ بن ضرار و عبدة بن الطبيب الشاعر و أوس بن معن الشاعر و قاموا في الناس ينشدونهم الشعر و يحرضونهم و قرن أهل فارس أنفسهم بالسلاسل لئلا يهربوا فكان المقرنون منهم نحو ثلاثين ألفا و التحم الفريقان في اليوم الأول فحملت الفيلة التي مع رستم على الخيل فطحنتها و ثبت لها جمع من الرجالة و كانت ثلاثة و ثلاثين فيلا منها فيل الملك و كان أبيض عظيما فضربت الرجال خراطيم الفيلة بالسيوف فقطعتها و ارتفع عواؤها و أصيب في هذا اليوم و هو اليوم الأول خمسمائة من المسلمين و ألفان من الفرس و وصل في الثاني أبو عبيدة بن الجراح من الشام في عساكر من المسلمين فكان مددا لسعد و كان هذا اليوم على الفرس أشد من اليوم الأول قتل من المسلمين ألفان و من المشركين عشرة آلاف و أصبحوا في اليوم الثالث على القتال و كان عظيما على العرب و العجم معا و صبر الفريقان و قامت الحرب ذلك اليوم و تلك الليلة جمعاء لا ينطقون كلامهم الهرير فسميت ليلة الهرير.و انقطعت الأخبار و الأصوات عن سعد و رستم و انقطع سعد إلى الصلاة و الدعاء و البكاء و أصبح الناس حسرى لم يغمضوا ليلتهم كلها و الحرب قائمة بعد إلى وقت الظهر فأرسل الله تعالى ريحا عاصفا في اليوم الرابع أمالت الغبار و النقع على العجم فانكسروا و وصلت العرب إلى سرير رستم و قد قام عنه ليركب جملا و على رأسه العلم فضرب هلال بن علقمة الحمل الذي رستم فوقه فقطع حباله و وقع على هلال أحد العدلين فأزال فقار ظهره و مضى رستم نحو العتيق فرمى نفسه فيه و اقتحم هلال عليه فأخذ

٩٨

برجله و خرج به يجره حتى ألقاه تحت أرجل الخيل و قد قتله و صعد السرير فنادى أنا هلال أنا قاتل رستم فانهزمت الفرس و تهافتوا في العقيق فقتل منهم نحو ثلاثين ألفا و نهبت أموالهم و أسلابهم و كانت عظيمة جدا و أخذت العرب منهم كافورا كثيرا فلم يعبئوا به لأنهم لم يعرفوه و باعوه من قوم بملح كيلا بكيل و سروا بذلك و قالوا أخذنا منهم ملحا طيبا و دفعنا إليهم ملحا غير طيب و أصابوا من الجامات من الذهب و الفضة ما لا يقع عليه العد لكثرته فكان الرجل منهم يعرض جامين من ذهب على صاحبه ليأخذ منه جاما واحدا من فضة يعجبه بياضها و يقول من يأخذ صفراوين ببيضاء.و بعث سعد بالأنفال و الغنائم إلى عمر فكتب إلى سعد لا تتبع الفرس و قف مكانك و اتخذه منزلا فنزل موضع الكوفة اليوم و اختط مسجدها و بنى فيها الخطط للعرب

يوم نهاوند

فأما وقعة نهاوند فإن أبا جعفر محمد بن جرير الطبري ذكر في كتاب التاريخ أن عمر لما أراد أن يغزو العجم و جيوش كسرى و هي مجتمعة بنهاوند استشار الصحابة فقام عثمان فتشهد فقال أرى يا أمير المؤمنين أن تكتب إلى أهل الشام فيسيروا من شامهم و تكتب إلى أهل اليمن فيسيروا من يمنهم ثم تسير أنت بأهل هذين الحرمين إلى المصرين البصرة و الكوفة فتلقى جمع المشركين بجمع المسلمين فإنك إذا سرت

٩٩

بمن معك و من عندك قل في نفسك ما تكاثر من عدد القوم و كنت أعز عزا و أكثر إنك لا تستبقي من نفسك بعد اليوم باقية و لا تمتع من الدنيا بعزيز و لا تكون منها في حرز حريز إن هذا اليوم له ما بعده فاشهد بنفسك و رأيك و أعوانك و لا تغب عنه.قال أبو جعفر و قام طلحة فقال أما بعد يا أمير المؤمنين فقد أحكمتك الأمور و عجمتك البلايا و حنكتك التجارب و أنت و شأنك و أنت و رأيك لا ننبو في يديك و لا نكل أمرنا إلا إليك فأمرنا نجب و ادعنا نطع و احملنا نركب و قدنا ننقد فإنك ولي هذا الأمر و قد بلوت و جربت و اختبرت فلم ينكشف شي‏ء من عواقب الأمور لك إلا عن خيار.

فقال علي بن أبي طالب ع أما بعد فإن هذا الأمر لم يكن نصره و لا خذلانه بكثرة و لا قلة إنما هو دين الله الذي أظهره و جنده الذي أعزه و أمده بالملائكة حتى بلغ ما بلغ فنحن على موعود من الله و الله منجز وعده و ناصر جنده و إن مكانك منهم مكان النظام من الخرز يجمعه و يمسكه فإن انحل تفرق ما فيه و ذهب ثم لم يجتمع بحذافيره أبدا و العرب اليوم و إن كانوا قليلا فإنهم كثير عزيز بالإسلام أقم مكانك و اكتب إلى أهل الكوفة فإنهم أعلام العرب و رؤساؤهم و ليشخص منهم الثلثان و ليقم الثلث و اكتب إلى أهل البصرة أن يمدوهم ببعض من عندهم و لا تشخص الشام و لا اليمن إنك إن أشخصت أهل الشام من شامهم سارت الروم إلى ذراريهم و إن أشخصت أهل اليمن من يمنهم سارت الحبشة إلى ذراريهم و متى شخصت من هذه الأرض انتقضت عليك العرب من أقطارها و أطرافها حتى يكون ما تدع وراءك أهم إليك مما بين يديك من العورات و العيالات إن الأعاجم إن ينظروا

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220



أوّلاً : حجة الوداع « حجة الإسلام »

وإلى القارئ ما ورد عنه في تلك الحجة بدءاً من تسميتها ، ومروراً بالمشاعر
وأحكامها ، وانتهاءاً برجوع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى المدينة بعد انقضائها ، ويصح منا
تسمية ذلك بمنسك ابن عباس كما رواه عنه أصحاب المصادر التالية :

١ـأخرج ابن سعد بسنده عن طاووس عن ابن عباس أنّه كره أن يقول
حجة الوداع ، قال : فقلت : حجة الإسلام؟ قال : نعم حجة الإسلام (١) .

٢ـاخرج ابن كثير في السيرة النبوية نقلاً عن أحمد بسنده عن سعيد بن
جبير قال : « قلت لعبد الله بن عباس : يا أبا العباس عجباً لاختلاف أصحاب رسول
الله صلّى الله عليه(وآله)وسلّم في إهلال رسول الله صلّى الله عليه(وآله)وسلّم
حين أوجب؟! فقال : إنّي لأعلم الناس بذلك ، إنّما كانت من رسول الله صلّى الله
عليه(وآله)وسلّم حجة واحدة ، فمن هناك اختلفوا.

خرج رسول الله صلّى الله عليه(وآله)وسلّم حاجاً ، فلمّا صلّى في مسجده
بذي الحليفة ركعتيه ، أوجب في مجلسه ، فأهلّ بالحجّ حين فرغ من ركعتيه ،
فسمع ذلك منه قوم ، فحفظوا عنه ، ثمّ ركب ، فلمّا أستقلت به ناقته أهلّ ، وأدرك
ذلك منه أقوام ، وذلك إن الناس إنّما كانوا يأتون إرسالاً ، فسمعوه حين أستقلت به
ناقته يُهلّ ، فقالوا : إنّما أهلّ رسول الله صلّى الله عليه(وآله)وسلّم حين أستقلّت
_______________________

(١)طبقات ابن سعد ٢ق١ / ١٣٥.

٢٢١

ناقته. ثمّ مضى رسول الله صلّى الله عليه(وآله)وسلّم ، فلمّا علا شرَف البيداء(١)
أهلّ ، وأدرك ذلك منه أقوام فقالوا : إنّما أهلّ رسول الله صلّى الله عليه(وآله)
وسلّم حين علا شرّف البيداء. وأيم الله لقد أوجب في مصلّاه ، وأهلّ حين علا
شرف البيداء » (٢) .

٣ـأخرج ابن سعد بسنده عن ابن عباس قال : « انّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : (لبيك
اللّهم لبّيك ، لبّيك لا شريك لك لبّيك ، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك
لك) » (٣) .

٤ـأخرج البخاري في صحيحه بسنده عن ابن عباس قال : « انطلق النبيّ
صلّى الله عليه(وآله)وسلّم من المدينة بعد ما ترجّل وادهن ولبس إزاره ورداءه ،
هو وأصحابه ولم ينه عن شيء من الأردية والأزر تُلبس ، إلّا المزعفرة الّتي تردع
على الجلد ، فأصبح بذي الحليفة ، ركب راحلته حتى أستوى على البيداء أهلّ هو
وأصحابه ، وقلّد بدنَه ، وذلك لخمس بقين من ذي القعدة. فقدم مكة لأربع خلون
من ذي الحجة ، فطاف بالبيت ، وسعى بين الصفا والمروة ، ولم يحلّ من أجل بُدنه
لأنّه قلّدها ، ثمّ نزل بأعلى مكة عند الحجون ، وهو مهلٌ بالحجّ ، ولم يقرب الكعبة
بعد طوافه بها حتى رجع من عرفة ، وأمر أصحابه أن يطوفوا بالبيت ، وبين الصفا
والمروة ، ثمّ يقصّروا من رؤوسهم ثمّ يَحلّوا ، وذلك لمن لم يكن معه بدَنَة قلّدها ،
ومَن كانت معه أمرأته فهي له حلال ، والطيب والثياب » (٤) .

_______________________

(١)البيداء : موضع امام ذي الحليفة ، سمي بذلك لأنّه ليس فيه بناء ولا أثر.

(٢)السيرة النبوية ٤ / ٢٣٠ ـ ٢٣١.

(٣)طبقات ابن سعد ٢ق٢ / ١٢٧.

(٤)صحيح البخاري ١ / ١٩٧ ط بولاق ، باب ما لا يلبس المحرم من الثياب والأردية والأزر.

٢٢٢

٥ـأخرج الطبراني في معجمه الكبير بسنده عن جابر وابن عباس قالا :
« قدمنا مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا نريد إلّا الحجّ ، فأهللنا بالحجّ ، وطاف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على
راحلته يستلم الركن بمحجن كان معه ، ثمّ عدل إلى السقاية ، فقال : (اسقوني
منها) ، فقال العباس : يا رسول الله ألا نسقيك من شراب قد مسّته الأيدي ، قال : (لا
اسقوني منها) ، ثمّ شرب ، ثمّ عدل إلى زمزم فقال : (انزعوا لي منها) ، فنزعوا له
دلواً ، فأخذ حسوة فمضمض ثمّ مجّه في الدلو ، ثمّ قال : (أعيدوه فيها) ، فقال : (يا
بني هاشم إنكم على عمل صالح ، لولا أن تُغلبوا أو تُتخذ سنّة لأخذت معكم) ،
ثمّ أتى منزله فخطب أصحابه وقال : (انّ العمرة دخلت في حجكم فحلّوا ، إلّا من
كان معه هدي) ، وقال : (لولا أنّ معي هدياً لكثرتكم) ، فقام سراقة بن مالك فقال :
يا رسول الله ألعامنا أم للأبد؟ قال : (لا بل للأبد) ، وكان يعجبهم ما وافق صنيعهُم
صنيعَ أهل الجاهلية. وكان أهل الجاهلية يقولون : إذا انسلخ صفر ، وعفا الوَبر ،
وبرأ الدَبر ، فقد حلت العمرة لمن أعتمر » (١) .

٦ـأخرج ابن كثير في السيرة النبوية نقلاً عن البخاري والترمذي عن ابن
عباس قال : « طاف النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالبيت على بعير ، فلمّا أتى الركن أشار إليهـوفي
حديث آخر ـ أستلمه بمحجن ، فلمّا فرغ من طوافه أناخ فصلّى ركعتين » (٢) .

٧ـأخرج ابن كثير نقلاً عن مسلم وأبي داود ، والطبراني في معجمه(٣) ،
وغيرهم عن أبي الطفيل قال : « قلت لابن عباس : يزعم قومك أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم
قد رَمَل بالبيت وان ذلك من سنّته؟ قال : صدقوا وكذبوا ، فقلت : ما صدقوا وما
_______________________

(١)المعجم الكبير ١١ / ٣٣ ط الموصل.

(٢)السيرة النبوية ٤ / ٣١٦ ـ ٣١٧.

(٣)المعجم الكبير ١٠ / ٢٦٨ ط الموصل.

٢٢٣

كذبوا؟ قال : صدَقوا رَمَل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكذبوا ليس بسنّة ، إنّ قريشاً قالت زمن
الحديبية ، دعوا محمداً وأصحابه حتى يموتوا موت النغف (١) فلمّا صالحوه على
أن يحجوا من العام المقبل فيقيموا بمكة ثلاثة أيام ، فقدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم
والمشركون من قبل قيقعان (٢) فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأصحابه : أرملوا بالبيت ثلاثاً.
وليس بسنّة.

قلت : يزعم قومك انّ رسول الله طاف بين الصفا والمروة على بعير ، وأن
ذلك سنّة؟

قال : صدقوا وكذبوا. قلت : ما صدقوا وما كذبوا؟

قال : صدقوا قد طاف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين الصفا والمروة على بعير ، وكذبوا
ليس بسنّة ، كان الناس لا يُدفعون عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا يُصرفون عنه ، فطاف
على بعير ليسمعوا كلامه وليروا مكانه ، ولا تناله أيديهم.

قلت : أخبرني عن الطواف بين الصفا والمروة راكباً أسنّة هو؟ فإن قومك
يزعمون أنّه سنة.

قال : انّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كثر عليه الناس يقولون هذا محمّد هذا محمّد ، حتى
خرج العواتق من البيوت وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يُضرب الناس بين يديه ، فلمّا
كثر عليه الناس ركب.

قال ابن عباس : والمشي والسعي أفضل »(٣) .

_______________________

(١)النغف : الدود ، وهو مثل يضرب للمستحقَر.

(٢)قيقعان : جبل مشرف على مكة من جهة الثنية السفلى الّتي بني عليها باب مكة
المعروف بباب الشبيكة وهو ممتد من حارة الباب إلى الشامية (شفاء الغرام للفاسي
/ ٢٧٧ متناً وهامشاً) ط سنة ١٩٥٦ بمصر.

(٣)السيرة النبوية ٤ / ٣٢٤ ـ ٣٢٥.

٢٢٤

٨ـأخرج ابن كثير نقلاً عن البخاري بسنده عن عطاء عن جابر وعن
طاووس عن ابن عباس قالا : « قدم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه صُبح رابعة من ذي الحجة
يهلّون بالحجّ لا يخلطه بشيء ، فلمّا قدمنا أمرنا فجعلناها عمرة ، وأن نحلّ إلى
نسائنا ، ففشت في ذلك المقالة » (١) .

٩ـأخرج ابن كثير نقلاً عن الترمذي بسنده عن ابن عباس قال : « صلّى بنا
رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمنى الظهر العصر والمغرب والعشاء والفجر ثمّ غدا إلى
عرفات » (٢) .

١٠ـأخرج ابن كثير نقلاً عن الصحيحين عن ابن عباس قال : « سمعت
رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يخطب بعرفات : (من لم يجد نعلين فليلبس الخفّين ، ومن لم يجد
إزاراً فليلبس السراويل للمحرم) » (٣) .

١١ـأخرج ابن كثير نقلاً عن أحمد بسنده عن عطاء قال : « دعا عبد الله بن
عباس الفضل بن عباس إلى الطعام يوم عرفة ، فقال : إني صائم ، فقال عبد الله : لا
تُصم فإنّ رسول الله قُرّب إليه حِلّاب (٤) فيه لبن يوم عرفة فشرب منه ، فلا تُصم
فإنّ الناس يستنّون بكم » (٥) .

١٢ـأخرج الطبراني بسنده عن ابن عباس : « انّ أم الفضل أرسلت إلى
النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بلبن فشرب وهو يخطب بعرفة »(٦) .

_______________________

(١)نفس المصدر ٤ / ٣٣٢.

(٢)نفس المصدر ٤ / ٣٣٩.

(٣)نفس المصدر ٤ / ٣٤٢.

(٤)الحلّاب : القعب الّذي يحلب فيه اللبن.

(٥)السيرة النبوية ٤ / ٣٤٥.

(٦)المعجم الكبير ١٠ / ٣٢٦ ط الموصل.

٢٢٥

١٣ـأخرج ابن كثير نقلاً عن البخاري بسنده عن ابن عباس قال : « بينما
رجل واقف مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعرفة إذ وقع عن راحلته فوقصنه(١) فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :
(اغسلوه بماء وسدر ، وكفّنوه في ثوبين ، ولا تُمِسّوه طيبا ، ولا تخمّروا رأسه ، ولا
تحنّطوه ، فإنّ الله يبعثه يوم القيامة ملبّيا) » (٢) .

١٤ـأخرج ابن كثير نقلاً عن الطبراني في مناسكه بسنده عن ابن عباس
قال : « كان فيما دعا به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حجة الوداع : (اللّهم إنّك تسمع كلامي ،
وترى مكاني ، وتعلم سرّي وعلانيتي ، ولا يخفى عليك شيء من أمري ، أنا البائس
الفقير ، المستغيث المستجير ، الوجل المشفق ، المقرّ المعترف بذنبه ، أسألك مسألة
المسكين ، وأبتهل إليك ابتهال الذليل ، وأدعوك دعاء الخائف الضرير ، من
خضعت لك رقبتُه ، وفاضت لك عبرَتُه ، وذلّ لك جَسَدُه ، ورغم لك أنفُه ، اللّهم لا
تجعلني بدعائك ربّ شقياً ، وكن بي رؤفاً رحيماً يا خير المسؤولين ، ويا خير
المعطين) » (٣) .

١٥ـأخرج ابن كثير نقلاً عن البيهقي بسنده عن ابن عباس قال : « رأيت
رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يدعو بعرفة ، يداه إلى صدره كاستطعام المسكين »(٤) .

١٦ـأخرج ابن كثير نقلاً عن أحمد بسنده عن ابن عباس قال : « لما أفاض
رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من عرفات أوضَعَ الناس(٥) فأمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منادياً ينادي : (أيها
_______________________

(١)الوقص : وقصت الناقة براكبها ركمت به فدَقّت عنقه (المصباح المنير).

(٢)السيرة النبوية ٤ / ٣٤٦.

(٣)السيرة النبوية ٤ / ٣٥١ ، وأخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد ٣ / ٢٥٢ نقلاً عن الطبراني في
الكبير والصغير.

(٤)السيرة النبوية ٤ / ٣٥٠.

(٥)الإيضاع : أوضع البعير أسرع في سيره (المنجد).

٢٢٦

الناس ليس البرّ بإيضاع الخيل ولا الركاب) ، قال : فما رأيت من رافعة يديها
غادية حتى نزل جَمعاً. وقال : لم ينزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من عرفات وجَمع إلّا أريق
الماء » (١) .

١٧ـأخرج ابن كثير في السيرة النبوية ، والبلاذري نقلاً عن البخاري بسنده
عن ابن عباس قال : « أنا ممّن قدّم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليلة المزدلفة في ضَعفَة أهله »(٢) .

١٨ـأخرج ابن كثير نقلاً عن أحمد بسنده عن ابن عباس قال : « قدّمنا
رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أغيلمة بني عبد المطلب على حُمراتنا فجعل يلطخـيضرب ببطن
كفهـأفخاذنا بيده ويقول : اَبَنيَّ لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس ، قال ابن
عباس ما أخال أحداً يرمي الجمرة حتى تطلع الشمس » (٣) .

١٩ـأخرج ابن سعد بسنده عن ابن عباس قال : « قال لي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم
غداة العقبة (إلقط لي) (٤) فلقطت له حصى الحذف ، فلمّا وضعتهنّ في يده
قال : (نعم بأمثال هؤلاء ، وإياكم والغلوّ إنّما هلك مَن كان قبلكم بالغلوّ في
الدين) » (٥) .

_______________________

(١)السيرة النبوية ٤ / ٣٥٨.

(٢)السيرة النبوية ٤ / ٣٦٢ ، وانساب الاشراف (ترجمة ابن عباس).

(٣)السيرة النبوية ٤ / ٣٦٢.

(٤)لقد مرّ ان ابن عباس (حبر الأمة) ممّن قدّمه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليلة العقبة مع أغيلمة بني عبد
المطلب وضعفة أهله إلى منى وأوصاهم أن لا يرموا الجمرة حتى تطلع الشمس ، فكيف
يصح ما رواه ابن سعد عنه ان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال له غداة العقبة القط ليـيعني حصى
الحذفـوالالتقاط انما يستحب أن يكون من المزدلفة؟ فربّما كان المراد بابن عباس
في هذا الحديث هو الفضل بن العباس الّذي سيأتي ما يدل على أنّه بقي مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم
وروى عنه ما قاله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للناس حين دفعوا من المزدلفة وروى ذلك عنه أخوه حبر الأمة. أو
أن الألتقاط كان بمنى ، والأول هو الأقرب.

(٥)طبقات ابن سعد ٢ق١ / ١٣٠.

٢٢٧

٢٠ـأخرج ابن سعد بسنده عن ابن عباس « انّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لبّى حتى
رمى الجمرة يوم النحر » (١) .

٢١ـأخرج ابن كثير نقلاً عن أحمد بسنده عن ابن عباس قال : « أهدى
رسول الله في حجة الوداع مائة بدنة ، نحر منها ثلاثين بدنة بيده ، ثمّ أمر عليّاً فنحر
ما بقي منها ، وقال : أقسم لحومها وجلودها وجلالها بين الناس ، ولا تعطينّ جزّاراً
منها شيئاً ، وخذ لنا من كلّ بعير حذيةـأي قطعةـمن لحم ، واجعلها في قدر
واحدة حتى نأكل من لحمها ونحسوا من مرقها. ففعل » (٢) .

٢٢ـأخرج ابن كثير نقلاً عن أحمد بسنده عن ابن عباس قال : « رمى
رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جمرة العقبة ثمّ ذبح ثمّ حلق »(٣) .

٢٣ـأخرج ابن كثير نقلاً عن سفيان الثوري بسنده عن ابن عباس قال : « إذا
رميتم الجمرة فقد حللتم من كلّ شيء كان عليكم حراماً إلّا النساء ، حتى تطوفوا
بالبيت ، فقال رجل : والطيب يا أبا العباس؟ فقال له : إنّي رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم
يضمّخ رأسه بالمسك ، أفطيبٌ هو أم لا؟ » (٤) .

٢٤ـأخرج ابن كثير نقلاً عن البخاري في صحيحه في باب الخطبة أيام
منى بسنده عن ابن عباس : « أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خطبَ الناس يوم النحر فقال : (يا
أيها الناس أيّ يوم هذا؟) قالوا : يوم حرام ، قال : (فأيّ بلد هذا؟) قالوا : بلد حرام ،
قال : (فأيّ شهر هذا؟) قالوا : شهر حرام قال : (فإنّ دماءكم وأموالكم وأعراضكم
_______________________

(١)نفس المصدر ٢ق ١ / ١٣٥.

(٢)السيرة النبوية ٤ / ٣٧٦.

(٣)نفس المصدر ٤ / ٣٧٧.

(٤)نفس المصدر ٤ / ٣٧٩.

٢٢٨

عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا) قال : فأعادها
مراراً ، ثمّ رفع رأسه ، فقال : (اللّهم هل بلّغت؟ اللّهم قد بلّغت؟)ـقال ابن عباس :
فوالذي نفسي بيده إنّها لوصيته إلى أمتهـفليبلّغ الشاهدُ الغائب ، لا ترجعوا بعدي
كفّاراً يضرب بعضكم رقاب بعض » (١) .

٢٥ـأخرج ابن كثير نقلاً عن أحمد وأبي داود بسنديهما عن ابن عباس :
« انّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طاف بالبيت وهو على بعير واستلم الحجر بمحجن كان معه ،
قال : وأتى السقاية فقال : (اسقوني) ، فقالوا : إنّ هذا يخوضه الناس ولكنّا نأتيك به
من البيت ، فقال : (لا حاجة لي فيه ، اسقوني ممّا يشرب الناس) » (٢) .

٢٦ـأخرج ابن كثير نقلاً عن أحمد بسنده عن ابن عباس أنّه قال : « جاء
النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى زمزم فنزعنا له دلواً فشرب ثمّ مجّ فيها ، ثمّ أفرغناها في زمزم ، ثمّ
قال : (لولا أن تغلبوا عليها لنزعتُ بيدي) » (٣) .

٢٧ـأخرج المحدث الثقة عليّ بن إبراهيم القمي عن عبد الله بن عباس
قال : « حججنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حجة الوداع فأخذ بحلقة باب الكعبة ثمّ أقبل
علينا بوجهه فقال : (ألا أخبركم بأشراط الساعة؟) وكان أدنى الناس منه يومئذ
سلمان رحمه‌الله فقال : بلى يا رسول الله فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (انّ أشراط القيامة اضاعة الصلاة
واتباع الشهوات ، والميل إلى الأهواء ، وتعظيم أصحاب المال ، وبيع الدين بالدنيا ،
فعندها يذوب قلب المؤمن في جوفه كما يذاب الملح في الماء ممّا يرى من
المنكر فلا يستطيع أن يغيّره).

_______________________

(١)نفس المصدر ٤ / ٣٨٨.

(٢)نفس المصدر ٤ / ٣٨٥.

(٣)نفس المصدر ٤ / ٣٨٦.

٢٢٩

قال سلمان : وإنّ هذا لكائن يا رسول الله؟ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (إي والّذي نفسي بيده ،
يا سلمان عندها تليهم أمراء جورة ، ووزراء فسقة ، وعرفاء ظلمة ، وأمناء خونة).

قال سلمان : وإنّ هذا لكائن يا رسول الله؟ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (إي والّذي نفسي بيده ،
يا سلمان إنّ عندها يكون المنكر معروفاً والمعروف منكراً ، ويؤتمن الخائن
ويخون الأمين ، ويصدّق الكاذب ويكذّب الصادق).

قال سلمان : وإنّ هذا لكائن يا رسول الله؟ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (إي والّذي نفسي بيده ،
يا سلمان فعندها تكون إمارة النساء ، ومشاورة الإماء ، وقعود الصبيان على المنابر ،
ويكون الكذب طُرفاً ، والزكاة مغرما ، والفيء مغنما ، ويجفو الرجل والديه ، ويبرّ
صديقه ، ويطلع الكوكب المذنّب).

قال سلمان : وإنّ هذا لكائن يا رسول الله؟ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (إي والّذي نفسي بيده ،
يا سلمان وعندها تشارك المرأة زوجها في التجارة ، ويكون المطر قيظاً ، ويغيظ
الكرام غيظاً ، ويحتقر الرجل المعسر فعندها تقارب الأسواق ، إذا قال هذا لم أبع
شيئاً وقال هذا لم أربح شيئاً فلا ترى إلّا ذاماً لله).

قال سلمان : وإنّ هذا لكائن يا رسول الله؟ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (إي والّذي نفسي بيده ،
يا سلمان فعندها يليهم أقوام إن تكلموا قتلوهم ، وإن سكتوا أستباحوهم ،
ليستأثرونَ بفيئهم ، وليطؤنّ حرمتهم ، وليسفكنَّ دماءهم ، ولتملأنَّ قلوبهم دغلاً
ورعباً ، فلا تراهم إلّا وجلين خائفين مرعوبين مرهوبين).

قال سلمان : وإنّ هذا لكائن يا رسول الله؟ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (إي والّذي نفسي بيده ،
يا سلمان إنّ عندها يؤتى بشيء من المشرق وشيء من المغرب يلون أمتي ،

٢٣٠

فالويل لضعفاء أمتي منهم والويل لهم من الله ، لا يرحمون صغيراً ، ولا يوقّرون
كبيراً ، ولا يتجاوزون عن مسيء ، جثثهم جثث الآدميين وقلوبهم قلوب الشياطين).

قال سلمان : وإنّ هذا لكائن يا رسول الله؟ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (إي والّذي نفسي بيده ،
يا سلمان وعندها تكتفي الرجال بالرجال والنساء بالنساء ، ويغار على الغلمان كما
يغار على الجارية في بيت أهلها ، وتشبه الرجال بالنساء ، والنساء بالرجال ، ويركبن
ذوات الفروج السروج فعليهنّ من أمتي لعنة الله).

قال سلمان : وإنّ هذا لكائن يا رسول الله؟ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (إي والّذي نفسي بيده ،
يا سلمان إنّ عندها تزخرف المساجد كما تزخرف البيع والكنائس ، وتحلّى
المصاحف ، وتطول المنارات ، وتكثر الصفوف بقلوب متباغضة وألسن مختلفة).

قال سلمان : وإنّ هذا لكائن يا رسول الله؟ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (إي والّذي نفسي بيده ،
يا سلمان وعندها تحلّى ذكور أمتي بالذهب ، ويلبسون الحرير والديباج ،
ويتخذون جلود النمور صفاقاً).

قال سلمان : وإنّ هذا لكائن يا رسول الله؟ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (إي والّذي نفسي بيده ،
يا سلمان وعندها يظهر الزنا ، ويتعاملون بالغيبة (بالعينة خ ل) والرُشا ، ويوضع
الدين وترتفع الدنيا).

قال سلمان : وإنّ هذا لكائن يا رسول الله؟ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (إي والّذي نفسي بيده ،
يا سلمان وعندها تظهر القينات والمعازف ويليهم شرار أمتي).

قال سلمان : وإنّ هذا لكائن يا رسول الله؟ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (إي والّذي نفسي بيده ،
يا سلمان وعندها تحج أغنياء أمتي للنزهة ، وتحج أوساطها للتجارة ، وتحج
فقراؤهم للرياء والسمعة ، فعندها يكون أقوام يتعلمون القرآن لغير الله ويتخذونه

٢٣١

مزامير ، ويكون أقوام يتفقهون لغير الله ، ويكثر أولاد الزنا ، ويتغنّون بالقرآن
ويتهافتون بالدنيا).

قال سلمان : وإنّ هذا لكائن يا رسول الله؟ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (إي والّذي نفسي بيده
يا سلمان ، ذاك إذا انتهكت المحارم ، وأكتسبت المآثم ، وسلّط الأشرار على
الأخيار ، ويفشوا الكذب ، وتظهر اللجاجة وتفشوا الحاجة ، ويتباهون في اللباس ،
ويمطرون في غير أوان المطر ، ويستحسنون الكذبة والمعازف ، وينكرون الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر ، حتى يكون المؤمن في ذلك الزمان أذل من الأمة ،
ويظهر قراؤهم وعبّادهم فيما بينهم التلاوم ، فأولئك يدعون في ملكوت
السماوات الأرجاس الأنجاس).

قال سلمان : وإنّ هذا لكائن يا رسول الله؟ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (إي والّذي نفسي بيده ،
يا سلمان عندها لا يخشى الغني إلّا الفقر ، حتى أنّ السائل ليسأل فيما بين
الجمعتين لا يصيب أحداً يضع في كفه شيئاً).

قال سلمان : وإنّ هذا لكائن يا رسول الله؟ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (إي والّذي نفسي بيده ،
يا سلمان عندها يتكلم الرويبضة).

فقال سلمان : وما الرويبضة يا رسول الله فداك أبي وأمي؟ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (يتكلم
في أمر العامة من لم يكن يتكلم ، فلم يلبثوا إلّا قليلاً حتى تخور الأرض خورة
فلا يظن كلّ قوم إلّا انها خارت في ناحيتهم ، فيمكثون ما شاء الله ثمّ يمكثون في
مكثهم ، فتلقي لهم الأرض أفلاذ كبدها ، قال ذهب وفضةـثمّ أومى بيده إلى
الأساطين ـ فقال : مثل هذا ، فيومئذٍ لا ينفع ذهب ولا فضة) ».

٢٣٢

قال عليّ بن إبراهيم : « فهذا معنى قوله تعالى :( فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا ) »(١) .

وإلى هنا نوقف متابعة أحاديث ابن عباس عن رحلة العودة من حجة
الوداع (حجة الإسلام) (٢) ، حيث سنقرأ شيئاً منها في حديثه عن بيعة الغدير.
والّذي ذكرناه منها يصلح أن نسميه منسكاً يكاد أن يكون متكاملاً لأهمّ أعمال
الحجّ من فروض وسنن ، ولا يعني ذلك أنا نلتزم بصحة جميع معانيه ، بل عهدة ما
ورد فيه على راويه ، على أنا نشك في سلامة بعض ممّا وصل إلينا من الأحاديث
المروية عن ابن عباس في هذا المقام وفي غيره ، وسيأتي مزيد بيان عن ذلك في
حياته العلمية ، حيث سنذكر ما طالت عليه الأيدي الأثيمة وتناولته بالحذف
والإضمار.

ومن اللافت للنظر حقاً فيما ذكرناه في هذا المقام ، خلّوه عن ذكر خطبتي
الرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عرفة وفي ثاني أيام التشريق. إذ لا يعقل إهمال ابن عباس
لهما ، وهو الحريص على متابعة جميع ما كان يصدر عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حجته تلك
من أقوال وأفعال ، حتى ورد عنه روايته عن أخيه الفضل بن العباس ما قاله
النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للناس حين دفعوا من المزدلفة ، إذ لم يكن هو حاضراً ، بل لأنّه قدّمهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم
مع أغيلمة بني عبد المطلب وضعفة أهله فدفعوا بليل وأوصاهم أن لا يرموا
الجمرة حتى تطلع الشمس. فروى عن أخيه الفضل أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال للناس :
عليكم بالسكينة ، وهو كافّ ناقتَه حتى دخل محسّراـوهو من منىـقال :
عليكم بحصى الحذف الّذي يُرمى به الجمرة ، قال : ولم يزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يلبّي
حتى رمى الجمرة.

_______________________

(١)تفسير علي بن إبراهيم القمي (تفسير سورة محمّد)ـحديث خطبة النبيّ صلّى الله عليه
وآله وسلّم.

(٢)السيرة النبوية ٤ / ٣٧٦.

٢٣٣

فمن كان بهذه المثابة من الحرص على أن لا يفوته شيء من أقوال
النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأفعاله ، كيف يفوته سماع الخطبتين وروايتهما بتمامهما ولو عن غيره.
أليس هو القائل لسعيد بن جبير وقد سأله عن اختلاف قومهـقريشـفي
مناسك حجته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال ابن عباس : إني لأعلم الناس بذلك. ولا مماراة في ذلك
حتى شهدت له بذلك بعض أمهات المؤمنين فقالت أم سلمة : هو أعلم بالمناسك ،
وقالت عائشة : هو أعلم بالسنّة ، هو أعلم بالمناسك (١) .

ثمّ إنّ ما روي عنه من خطبة يوم النحر هو الآخر لم يسلم من مسّ اليد
الأثيمة ، فلم يصل إلينا بتمامه ، والفجوات فيه بيّنة ولا نحتاج في إثباتها إلى بيّنة.
ألا يكفينا مؤشّراً واضحاً قوله المعترض في وسط الخطبة : « فوالّذي نفسي بيده
إنّها لوصيته إلى أمته ».

ومن أراد أن يعرف مقدار ما لعبت به رواة السوء من تغيير أو حذف أو
إضمار ، فليقارن بين ما روي عنه وبين ما رواه غيره من الصحابة الّذين شهدوا
الخطبة فرووها ، ليدرك مدى التفاوت ، وإلى القارئ إشارة عابرة إلى جانب
من ذلك.

خذ مثلاً حديث الثقلين المستفيض أستفاضة تكاد تبلغ حد التواتر ، فإن من
موارد ذكره كان في خطبة يوم النحر. وقد روى الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام خطبة
النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ذلك اليوم وفيها قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (يا أيها الناس إنّي تركت فيكم الثقلين لن
تضلوا ما تمسكتم بهما : الأكبر منهما كتاب الله ، والأصغر عترتي أهل بيتي ، وإن
اللطيف الخبير عهد إليّ أنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض كهاتينـأشار
_______________________

(١)البداية والنهاية ٨ / ٣٠١.

٢٣٤

بالسبّابتينـولا أنّ أحدهما أقدم من الآخر ، فتمسكوا بهما ، لن تضلوا ، ولا تقدّموا
منهم ، ولا تخلّفوا عنهم ، ولا تعلّموهم فإنّهم أعلم منكم) (١) .

وابن عباس من رواة الحديث المذكور في موارده الأخرى ، كيف يعقل
أن يروي الخطبة وهو من شهودها ، ثمّ يغفل رواية الحديث المذكور. وهكذا
نبقى في دوامة الشك والريبة ، من مدوّني السيرة والحديث ، وفي قنواتهم المتصلة
بابن عباس ، وغفلوا عن انّ حبل الكذب قصير ، والناقد بصير ، وفاتهم انّ قول ابن
عباس : « فوالّذي نفسي بيده إنها لوصيته إلى أمته » إنّما يناسب حديث الثقلين
شكلاً ومضموناً دون باقي فقرات الخطبة النبوية ، لكن رواة السوء كتموا ما لم
يرق لهم ولأوليائهم روايته ، ودوّنوا لهم ما شاؤا ، وبذلك ضيّعوا الأمانة ،
فأستحقّوا الإدانة.

ويزيدنا بصيرةً بمراد ابن عباسرضي‌الله‌عنه في قوله : « فوالّذي نفسي بيده إنّها
لوصيته إلى أمته » ما رواه رضي‌الله‌عنه عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال قال : (من سره أن يحيى حياتي ،
ويموت مماتي ، ويسكن جنة عدن غرسها ربي فليوال عليّاً من بعدي ، وليوال
وليه ، وليقتد بالأئمّة من بعدي ، فإنهم عترتي ، خلقوا من طينتي ، ورزقوا فهماً
وعلماً ، ويل للمكذبّين بفضلهم من أمتي ، القاطعين فيهم صلتي ، لا أنالهم الله
شفاعتي) (٢) .




_______________________

(١)أنظر ينابيع المودة / ٣٤ ط أستانبول.

(٢)حلية الأولياء ١ / ٨٦ ، فرائد السمطين ١ / ٥٣.

٢٣٥
٢٣٦



ثانياً : بيعة الغدير

قال ابن عباس : « لمّا اُمر النبيّ صلّى الله عليه(وآله)وسلّم أن يقوم بعليّ بن
أبي طالب المقام الّذي قام به ، فانطلق النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى مكة فقال : رأيت الناس
حديثي عهدٍ بكفر بجاهلية ، ومتى أفعل هذا به ، يقولوا صَنع هذا بابن عمه ، ثمّ
مضى حتى قضى حجة الوداع ، ثمّ رجع حتى إذا كان بغدير خم أنزل الله عزوجل( يَا أَيُّهَا
الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ
مِنَ النَّاسِ
) (١) الآية.

فقام منادِ فنادى الصلاة جامعة ، ثمّ قام وأخذ بيد عليّرضي‌الله‌عنه فقال : (من كنت
مولاه فعلي مولاه ، اللّهم وال من والاه وعادِ من عاداه) » (٢) .

وقال في حديث آخر : « لمّا خرج النبيّ صلّى الله عليه(وآله)وسلّم إلى
حجة الوداع ، نزل بالجحفة فأتاه جبرئيل عليه‌السلام فأمره أن يقوم بعليّ فقال : (أيها
الناس ألستم تزعمون أني أولى بالمؤمنين أنفسهم؟) قالوا : بلى يا رسول الله قال :
(من كنت مولاه فعلي مولاه ، اللّهم وال من والاه وعاد من عاداه ، وأحب من
أحبّه ، وأبغض من أبغضه ، وأنصر من نصره ، وأعز من أعزّه ، وأعن من أعانه) ، قال
ابن عباس : وجبت والله في أعناق القوم » (٣) .

_______________________

(١)المائدة / ٦٧.

(٢)أمالي الحافظ المحاملي وعنه الوصّابي الشافعي في كتابه الاكتفاء بفضائل الخلفاء.
كما في الغدير ١ / ٥٢.

(٣)كتاب الولاية للحافظ السجستاني كما في الغدير ١ / ٥٢.

٢٣٧

وعنه قال : « لمّا كان يوم غدير خم ، قام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خطيباً ، ثمّ دعا عليّ
بن أبي طالب عليه‌السلام فأخذ بضبعيه ثمّ رفع يديه حتى رأى بياض إبطيهما وقال
للناس : (ألم أبلّغكم الرسالة؟ ألم أنصح لكم؟) قالوا : اللّهم نعم ، قال : (فمن كنت
مولاه فعلي مولاه ، اللّهم وال من والاه وعاد من عاداه) ، قال : ففشت هذه في
الناس ، فبلغ ذلك الحرث بن النعمان الفهري فرحّل راحلته ، ثمّ أستوى عليها ،
ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ ذاك بالأبطح فأناخ راحلته ثمّ عقلها ثمّ أتى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثمّ قال :
يا عبد الله إنّك دعوتنا إلى أن نقول لا إله إلّا الله ففعلنا والقلب فيه ما فيه ، ثمّ
دعوتنا إلى أن نقول إنّك رسول الله ففعلنا ، ثمّ قلت لنا صلوا فصلينا ، ثمّ قلت
صوموا فصمنا ، ثمّ قلت حجوا فحججنا ، ثمّ قلت لنا من كنت مولاه فعلي مولاه
اللّهم وال من والاه وعاد من عاداه ، فهذا عنك أم عن الله؟

فقال له : (بل عن الله) ، فقالها ثلاثاً ، فنهض وإنه لغضِب وانه ليقول : اللّهم إن
كان ما يقول محمّد حقاً فأمطر علينا حجارة من السماء تكون نعمة في أولنا وآية
في آخرنا ، وان كان ما يقوله محمّد كذباً فأنزل به نقمتك ، ثمّ أثار ناقته واستوى
عليها ، فرماهـاللهـبحجر على رأسه فسقط ميتاً ، فأنزل الله تبارك وتعالى : ( سَأَلَ
سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ
* لِّلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ * مِّنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ ) (١) »(٢) .

وبنحو ما مرّ وردت عنه أحاديث أخر تلتقي مع ما مرّ مضموناً ، فلا نطيل
بذكرها ، ويكفينا ممّا ذكرناه تعقيبه على بعض ما رواه وحدّث به بقوله : « وجبت
والله في أعناق القوم » (٣) يعني بيعة الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام .

_______________________

(١)المعارج / ١ ـ ٣.

(٢)تفسير محمّد بن العباس بن ماهيار كما في غاية المرام / ٩٢ ط الحجرية ، وفي تفسير
الشربيني ٤ / ٣٦٤ قال أختلف في هذا الداعي فقال ابن عباس هو النضر بن الحرث وقيل
هو الحرث بن النعمان.

(٣)كتاب الولاية للحافظ السجستاني كما في الغدير ١ / ٥٢.

٢٣٨

ولا يقل عن ذلك أهمية في روايته ما حدّث به عن مشهد آخر شهده مع
النبيّ الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد رجوعه من حجة الوداع فقال : « لمّا رجعنا من حجة الوداع
جلسنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مسجده ، قال : (أتدرون ما اقول لكم؟) قالوا
المسلمون : الله ورسوله أعلم ، قال : (أعلموا أنّ الله عزوجل منّ على أهل الدين إذ
هداهم بي ، وأنا أمنّ على أهل الدين إذ أهديهم بعليّ بن أبي طالب ابن عمي
وأبي ذريتي ، ألا ومن أهتدى بهم نجا ، ومن تخلّف عنهم ضلّ وغوى.

أيّها الناس الله الله في عترتي وأهل بيتي ، فان فاطمة بضعة مني ، وولداها
عضداي ، وأنا وبعلها كالضوء ، اللّهم ارحم من رحمهم ، ولا تغفر لمن ظلمهم) ،
ثمّ دمعت عيناه وقال : (كأنّي أنظر إلى الحال) » (١) .

وأهم مشهده شهده ابن عباس بعد ذلك من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان مشهد يوم
الخميس ، وما أدراك ما يوم الخميس ، فكان إذا ذكره قال : « الرزية كلّ الرزية ».

ولنقرأ حديث الرزية ففيه كلّ الرزية ، فهو حديث ذو شجون ، ملؤه
أسى ومرارة ، يبعث التحدث عنه في النفس الشجن ، ويترك العين ترمض
بالقذى.






_______________________

(١)بحار الأنوار ٧ / ٤٣ ط حجر بتبريز نقلاً عن روضة الكافي وفضائل ابن شاذان.

٢٣٩
٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487