موسوعة عبد الله بن عبّاس الجزء ١

موسوعة عبد الله بن عبّاس8%

موسوعة عبد الله بن عبّاس مؤلف:
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
تصنيف: متون حديثية
ISBN: 964-319-501-5
الصفحات: 487

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 487 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 158886 / تحميل: 6187
الحجم الحجم الحجم
موسوعة عبد الله بن عبّاس

موسوعة عبد الله بن عبّاس الجزء ١

مؤلف:
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
ISBN: ٩٦٤-٣١٩-٥٠١-٥
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

ومن كان دوره التبليغ ، والتبليغ فقط لأنّ الله سبحانه يقول :( وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا
بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ
* لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ ) (١) .

فليس من حقّه أن يكون له أيّ دور سوى تبليغ ما أمره الله به ، وقد مرّ
التصريح منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذلك حين أعترض عليه جلف جاف في أمر بيعة الغدير
لعليّ عليه‌السلام : منك أو من الله؟ فأجاب قائلاً : الله الّذي لا إله إلّا هو. من الله.

وحيث أنّ بيعة الغدير وكتابة الكتاب لو تمت ، كلتاهما كانت لبيعة
عليّ عليه‌السلام وخلافته ، وهما من واد واحد ، وفي الأولى كان عبداً مأموراً فكذلك هو
في الثانية كان عبداً مأموراً ، وأيضاً ليس من حقّ أيّ أحد أن يعترض عليه في
تنفيذ أمره.

وإذا لم نقل بهذا فما هو إلّا الإختيار ، وإنّما أراد عليّاً من نفسه لعواطف
شخصية ـ والعياذ بالله ـ فلننظر لماذا تلك العواطف؟

هل كانت نسبية ، فهو قريبه وابن عمه؟ وهذا غير مقبول ولا معقول ، لأن
للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مِنَ العمومة وأبناء العمومة غير عليّ ، وفيهم من هو أكبر سناً من عليّ ،
وليس فيهم من تحقد عليه قريش كما كانت تحقد على عليّ لأنّه قتل
صناديدهم ووترهم في الله. فلماذا لم يشر إلى أيّ واحد من أولئك الأحياء
فيؤهله لأي قيادة أو إمارة أو ولاية لا تصريحاً ولا تلميحاً.

إذن ليست رابطة النسب وحدها هي المرجّح لعليّ دون غيره ، وليس
لقاعدة النسب أيّ دور في الترشيح.

ثمّ هل كانت رابطة المصاهرة لأنّه كان صهراً له على أبنته؟ وهذا أيضاً غير
مقبول ولا معقول إذ لم تكن رابطة المصاهرة تكفي للترشيح ، على أنّها ليست
أقوى من رابطة القربى.

_______________________

(١)الحاقة / ٤٤ ـ ٤٦.

٤٠١

وقد كان للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أصهاراً غير عليّ ، وهم أقدم مصاهرة منه ، وتجمعه
وإياهم قربى نسب من بُعد ، كما في عثمان وهو من بني عبد مناف. فلماذا لم
يحض عثمان بشرف ذلك الإختيار؟

إذن ليس تعيين عليّعليه‌السلام للخلافة دون غيره على حساب القربى النسبية
وحدها ، ولا عليها وعلى رابطة المصاهرة. ولابدّ أن يكون ليس للأختيار
الشخصي من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تعيينه أيّ دور ، وإنّما هو أمر من الله تعالى ، ودوره هو
التبليغ فقط ، للمؤهلات الّتي كانت في عليّ عليه‌السلام ولم توجد في غيره.

( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ
مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا
) (١) .

النتائج :

لقد تبين بوضوح على الأسئلة المتشابكة على النحو التالي :

١ـماذا أراد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يكتب في الكتاب؟ الجواب : أراد أن يكتب كتاباً
يعيّن فيه وليّ الأمر بعده.

٢ـمن أراد أن يكتب أسمه في الكتاب؟ الجواب : أراد أن يكتب اسم عليّ
في ذلك الكتاب.

٣ـلماذا أراد أن يكتب له ذلك الكتاب؟ الجواب : لأنّه رأى ضغائن قوم
خشي عليه منهم.

٤ـلماذا أراد عليّاًعليه‌السلام دون غيره؟ الجواب : لأن الله تعالى أمره بذلك.

_______________________

(١)الأحزاب / ٣٦.

٤٠٢

من هم المعارضة؟

إذا رجعنا نستقريء صور الحديث نجد تعتيماً متعمداً على أسماء
المعارضة سوى اسم عمر بطلها المقدام صاحب الكلمة النافذة ، كالسهم في قلب
النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى (غمّ) أغمي عليه. وباختصار نجد : في الصورتين : (١ ، ٢)
المرويتين عن عليّ عليه‌السلام وابن عباس ، فقام بعضهم ليأتي به فمنعه رجل من
قريش(؟)وقال : « انّ رسول الله يهجر ».

وفي الصورتين(٣ ، ٤) المرويتين عن عمر : « فكرهنا ذلك أشد
الكراهية » (؟).

وفي الصورة(٥)المروية عن جابر : فكان في البيت لغط وكلام وتكلم
عمر ...

وفي الصورة(٦)فأختلف من في البيت وأختصموا فمن قائل يقول : القول
ما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن قائل يقول : القول ما قال عمر.

وفي الصورة(٧)فقال بعض أصحابه : « انّه يهجر » ، قال :ـوأبى أن يسمي
الرجل ـ فجئنا بعد ذلك ، فأبى رسول الله أن يكتبه لنا.

وفي الصورة(٨)فقال بعض من كان عنده : « إنّ نبيّ الله ليهجر ».

وفي الصورة(٩)برواية البخاري : فتنازعوا فقالوا : « هجر رسول الله ».

وبروايته الأخرى عن سفيان فقالوا : « ما له أهجر » استفهموه.

وبرواية الطبري فقالوا : « ما شأنه أهجر » استفهموه.

وفي الصورة(١٠)برواية البلاذري ، فقال : « أتراه يهجر » ، وتكلموا ولغطوا.

وبرواية ابن سعد ، فقالوا : « إنّما يهجر رسول الله ».

٤٠٣

وفي الصورة (١١) فقال بعض من كان عنده : « انّ نبيّ الله ليهجر ».

وفي الصورة (١٢) فقال عمر : « قد غلبه الوجع » فاختلف أهل البيت
فأختصموا فمنهم من يقول يكتب لكم ومنهم من يقول ما قال عمر فلمّا
كثر اللغط والاختلاف ، وغمّوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : (قوموا عني).

وفي الصورة (١٤) فأقبل القوم في لغطهم.

وفي الصورة (١٥) فأخذ من عنده من الناس في لغط.

وفي الصورة (١٧) فلغطوا فقال : قوموا.

وفي الصورة (١٨) فتنازعوا عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال رجل من القوم : انّ
الرجل ليهجر ، فغضب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأمر بإخراجه وإخراج صاحبه.

وفي الصورة (١٩) فقال المعذول : انّ النبيّ يهجر كما يهجر المريض ،
فغضب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : فأخرجوه فأخرجناه.

وفي الصورة (٢٠) فمنعه رجل

وفي الصورة (٢١) فدعا العباس بصحيفة ودواة ، وقال بعض من حضر : « انّ
النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يهجر ».

وفي الصورة (٢٢) فقالوا : « ما شأنه أهجر ».

وفي الصورة (٢٤) إنّ قوما قالوا عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ذلك اليوم : « ما شأنه
هجر ». رواه ابن حزم.

وفي الصورة (٢٥) فتنازعوا فقال بعضهم : ما له أهجر استعيدوه ، فقال عمر
قد غلبه الوجع. كما في رواية المقريزي.

٤٠٤

هذه حصيلة ما ورد في صور الحديث الّذي تكثّرت وتكسّرت ، حتى
يصعب على الرائي فيها تجميع أجزائها بصورة واحدة. وهذا ما يدل على مدى
التضبيب الّذي لفّ الهالة لتمييع الحالة ، وتضييع القالة. ولكن لم يخف وجه
الكراهية الّتي أبدتها المعارضة بشدة ، فهم الّذين نابذوا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منذ بدء
دعوته وحتى ساعة وفاته وما بينهما من مواقف ، وما بالهم نسوا أنّ الخير كان
ويكون فيما كانوا يكرهون.

( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ ) (١) .

وبعد هذا هل يصح أن يقول علماء التبرير أخيرهم العقاد وليس آخرهم ،
إنّ النبيّ كان يحبّ أن يحبّ الناس عليّاً ، فهو يحبّه ويمهدّ له وينظر إلى غده
ثمّ يقول : وليس من الممكن وليس من الممكن ولابدّ لنا الآن من النظر في
حال عمر وماذا أراد بقوله؟

ماذا قال عمر؟

ليس من شك فيما قال عمر ، إذ نسب قول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى الهجر : إنّ النبيّ
يهجر ، إنّما يهجر رسول الله.

وليس من شك في أنّ علماء التبرير أضفوا على جفاء هذه الكلمة ، نسيجاً
أوهى من نسيج العنكبوت ، وألقوا ظلالاًـوضَلالاًـمن التشكيك في تحوير ما
قال لسماجته ، وقد مرّ في صور الحديث ما طرأ على الكلمة من تحريف شائن ،
كما مرّ في أقوال علماء التبرير مقالة متهالك مائن ، في تصريف الكلمة على
وجوهها غير الصرفية ، فقالوا يهجر إلى ليهجر ، إلى أهجر إلى هَجر هَجَر
_______________________

(١)النجم / ٣ ـ ٤.

٤٠٥

وأستنبطوا لكلٍ وجهاً في القراءة ، حتى جعلوها من الإنشاء إلى الاخبار ثمّ عادوا
إلى الإستفهام في مقام الإنكار وهو تشريق وتغريب ، وتصعيد بلا تصويب ، وإذ
لم يجدوا مناصاً في إنكارها ، جعلوها فضيلة لعمر بعد أن كانت وصمة عليه.
فقالوا إنّما قال ذلك إنكاراً على من تخلف عن أمتثال أمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهذا التفسير
يأباه عليهم حتى عمر.

ومهما يكن فإنّ الصحيح عندي أنّه قال : « انّ الرجل ليهجر » كما رواها
الغزالي (١) ، وإن ورد أيضاً : « انّه يهجر » كما في الصورة الحادية عشرة من صور
الحديث ، وقد مرّت نقلاً عن ابن سعد في الطبقات (٢) ، ونقلها البيهقي مسنداً(٣) ،
وذكرناها عن المستخرج للإسماعيلي ، نقلاً عن الملا عليّ القارئ في شرح
الشفاء (٤) ، وفي طبقات ابن سعد أيضاً ، ومسند أحمد(٥) ، وكتاب السنّة للخلال
المتوفى سنة ٣١١ (٦) ، ومعجم الطبراني الكبير(٧) ، وغيرها : « فقالوا : إنّما يهجر رسول
الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم » ، وفي لفظ الطبري : « انّ رسول الله يهجر »(٨) ، وفي تاريخ ابن خلدون :
« فتنازعوا وقال بعضهم : انّه يهجر ، وقال بعضهم : أهجر؟ يستفهم » (٩) .

_______________________

(١)سرّ العالمين / ٩ ط مصر سنة ١٣١٤ ه‍. ولا يضرنا التشكيك في نسبة الكتاب إلى
الغزالي بعد أن نسبه إليه سبط ابن الجوزي الحنبلي في تذكرة الخواص.

(٢)طبقات ابن سعد ٢ ق ٢ / ٣٦.

(٣)سنن البيهقي ٣ / ٤٣٥ ط بيروت سنة ١٤١١ (باب كتابة العلم في الألواح والأكتاف).

(٤)شرح الشفاء لملا علي القارئ ٢ / ٣٥٣ ط استنابول سنة ١٣١٦ ، ونسيم الرياض للخفاجي
٤ / ٢٧٩ ط أفست دار الكتاب العربي بيروت.

(٥)مسند أحمد ٥ / ٣٥٥.

(٦)كتاب السنّة ١ / ٢٧١ ط الرياض.

(٧)معجم الطبراني الكبير ١١ / ٤٤٥ ط الموصل.

(٨)تاريخ الطبري ٣ / ١٩٣ط دار المعارف.

(٩)تاريخ ابن خلدون ١ / ٨٤٩ ط دار الكتب اللبناني.

٤٠٦

وجاء في حديث سليم بن قيس الهلالي عن ابن عباس : « فقال رجل منهم :
انّ رسول الله يهجر » (١) ، وغير هؤلاء.

ويدلنا على نسبة عمر الهجر إليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، تلجلج بعضهم عند ذكر كلمته
فيقول : « قال كلمة معناها إنّ الوجع غلب عليه » ، وهذا ما صنعه ابن أبي الحديد
وسائر من استهجن الكلمة من علماء التبرير لما فيها من مساس بقداسة الرسول
وقدسية رسالته. فحذفوها وأثبتوا البديل عنها : « قد غلب عليه الوجع ».

والآن ليفكر القارئ في أمر عمر أيّ شيء كان يدعوه لتلك المقالة النابية
والكلمة القارصة؟ وماذا عليه لو كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كتب ذلك الكتاب ليعصم عمر
وغير عمر من الأمة من الضلالة إلى الأبد؟

وهل كان عمر يحب أن يبقى الناس في طخياء الضلالة يعمهون؟ فليقل
علماء التبرير ما عندهم؟ وهل كان عمر يعتقد في نفسه « إنّ النبيّ يهجر »؟
وكذلك فليقولوا ما شاؤا في ذلك ، وقد مرّ بعض ما عندهم من تخليط.

أم كان عمر يريد أمراً آخر من وراء كلمته ، فلم يرَ لديه أبلغ ممّا قاله ليبلغ
مراده؟ وهذا ما نراه ولا نتجنّى عليه ، فقد كان هو أيضاً يراه ، وقد صرّح بذلك ، ومرّت
بعض تصريحاته في التعقيب على ما قاله علماء التبرير (عمريون أكثر من عمر) فراجع
حيث علم أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يريد أن يكتب الكتاب باسم عليّ فمنع من ذلك.

فمنها قوله : « ولقد أرادـرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـأن يصرّح بأسمهـيعني عليّاًـ
فمنعت من ذلك اشفاقاً وحيطة على الإسلام »؟!

ومنها قوله : « لقد كان من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذرواً من قول لا يثبت حجة ولا
يقطع عذراً ».

_______________________

(١)وسيأتي الحديث بتمامه.

٤٠٧

ومنها قوله : « إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أراد ذلك وأراد الله غيره ، فنفذ مراد الله ولم
ينفذ مراد رسوله ، أو كلّ ما أراد رسول الله كان »؟!

ومنها قوله : « فكرهنا ذلك أشد الكراهية » (؟)

ولماذا يا أبا حفص؟ ولا نحتاج إلى الجواب ، ما دمت أنت القائل لابن
عباس : « إنّ قومكم كرهوا أن يجمعوا لكم الخلافة والنبوة ». ولماذا أيضاً؟
وأنت تعلم أنّ عليّاً كان أحق بها من غيره ، وأنت الّذي أعترفت بذلك وقلت لابن
عباس : « أما والله يا بني عبد المطلب لقد كان عليّ فيكم أولى بهذا الأمر مني
ومن أبي بكر ».

وهذه الأقوال جميعها قد مرّت مسندة إلى مصادر موثوقة فراجع (عمريون
أكثر من عمر).

من أين علم عمر مراد الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟

والآن لنبحث من أين علم عمر أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أراد أن يكتب الكتاب باسم
عليّ عليه‌السلام ، وهو لم يذكره باسمه كما في الحديث ، ولم يكتب بعد كتابه ليعلم
بذلك عمر ، فمن أين علم بذلك فقال « انّه ليهجر »؟

لقد علم ذلك من قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (لن تضلوا بعده ـ بعدي ـ أبداً).

وهذه الكلمة لم ترد في شيء من الأحاديث النبوية إلّا في بضعة أحاديث
كلّها توحي بفضل عليّ منفرداً أو مجتمعاً مع أهل بيته خاصة ، وهم فاطمة
والحسن والحسين الّذين هم قرناء الكتاب ، كما في حديث الثقلين والتمسك
بهما عاصم من الضلالة.

٤٠٨

وإلى القارئ تلكم الأحاديث الّتي وردت فيها جملة : (لن تضلوا) ، وهي
دالة على انّ التمسك بعليّ وأهل بيته أمان من الضلالة ، ولم ترد في حقّ أيّ
إنسان سواهم :

أوّلاً : حديث الثقلين وهو من الأحاديث المتواترة رواه أكثر من أربعين
صحابياً في ستة مواطن ، وأخرجت أحاديثهم المصادر الكثيرة وقد نافت على
المائة (١) . ولفظه كما في أكثر من موطن قاله رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيه ذلك : (أيّها الناس
إنّي تركت فيكم الثقلين لن تضلوا ما تمسكتم بهماـالأكبر كتاب الله ، والأصغر
عترتي أهل بيتيـوإنّ اللطيف الخبير عهد إليَّ أنّهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ
الحوض كهاتينـأشار بالسبابتينـولا أنّ أحدهما أقدم من الآخر ، فتمسكوا
بهما ، لن تضلوا ولا تقدّموا منهما ولا تخلفوا عنهما ، ولا تعلّموهم فإنّهم أعلم
منكم).

وهذا ما قاله في حجة الوداع في يوم عرفة وفي مسجد الخيف بمنى وفي
غدير خم ، سوى ما قاله قبل ذلك في يوم فتح الطائف عام ثمان من الهجرة ،
وسوى ما قاله بعد حجة الوداع وآخر مرة في هجرته وعلى منبره يوم قبض صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وقد كان أبو بكر يقول : « عليّ عترة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم » كما أخرج ذلك عنه
السيوطي في جمع الجوامع وعنه المتقي الهندي في كنز العمال (٢) .

ثانياً : ما رواه الحسن بن عليّ وعائشة وأنس وجابر مرفوعاً قال : « ادعوا إليَّ
سيّد العربـيعني عليّ بن أبي طالبـفقالت عائشة : ألستَ سيّد العرب؟ فقال :
(أنا سيّد ولد آدم وعليّ سيّد العرب) ، فلمّا جاء أرسل إلى الأنصار فأتوه فقال
_______________________

(١)اُنظر كتاب عليّ إمام البررة ١ / ٢٩٢ ـ ٣١٨ ط دار الهادي.

(٢)كنز العمال ١٥ / ١٠١ ط الثانية حيدر آباد.

٤٠٩

لهم : (يا معشر الأنصار ألا أدلكم على ما إن تمسكتم به (لن تضلوا) بعده أبداً)؟
قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : (هذا عليّ فأحبوه بحبي وأكرموه بكرامتي ، فان
جبرئيل أمرني بالذي قلت لكم من الله عزوجل ) »(١) .

ثالثاً : ما روته أم سلمة قالت : « خرج رسول الله صلّى الله عليه(وآله)وسلّم
إلى صرحة هذا المسجد فنادى بأعلى صوته فقال : (ألا لا يحلّ هذا المسجد
لجنب ولا لحائض إلّا لرسول الله وعليّ وفاطمة والحسن والحسين ، ألا قد بيّنت
لكم الأسماء أن لا تضلوا) » (٢) .

رابعاً : ما رواه زيد بن أرقم قال : « كنا جلوساً عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : (ألا
أدلكم على من لو أسترشدتموه (لن تضلوا) ولن تهلكوا)؟ قالوا : بلى يا رسول الله
قال : (هو هذا وأشار إلى عليّ بن أبي طالب) ثمّ قال : (وآخوه ووازروه وصدّقوه
وانصحوه فإنّ جبرئيل أخبرني بما قلت لكم) » (٣) .

خامساً : وثمة حديثـرواه ابن حجر في الصواعق(٤) ـجاء فيه التصريح
باسم عليّ عقب ذكر حديث الثقلين فاقرأ ذلك : « إنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قالـفي مرض موتهـ
(أيّها الناس يوشك أن أقبض قبضاً سريعاً فينطلق بي وقد قدّمت إليكم القول
_______________________

(١)أخرجه أبو نعيم في الحلية ١ / ٦٣ وقال رواه أبو بشر عن سعيد بن جبير عن عائشة ، نحوه
في السؤدد مختصراً ، والطبراني في معجمه الكبير ٣ / ٨٨ ، والهيثمي في مجمع الزوائد
٩ / ١٣١ ، والمحب الطبراني في الرياض النضرة ٢ / ١٧٧ ، وفي الذخائر / ٧٠ ، والسيوطي في
جمع الجوامع كما في ترتيبه ، كنز العمال ٢ / ٢١٦ و ٥ / ١٢٦ ، وغيرهم وكلهم عن عائشة.

(٢)أخرجه البيهقي في السنن الكبرى ٧ / ٦٥ ، والسيوطي في اللئالي المصنوعة ١ / ١٨٣ ط
مصر الاُولى نقلاً عن سنن البيهقيـوعلى القارئ المقارنة ليجد كيف تلاعبت الأهواء
بالسيوطي فحرّف وغيّر.

(٣)أخرجه ابن المغازلي المالكي في المناقب / ٢٤٥.

(٤)الصواعق المحرقة / ٧٥ ط الميمنية ١٣١٢.

٤١٠

معذرة إليكم ، ألا وإني مخلّف فيكم كتاب ربيعزوجل وعترتي أهل بيتي ثمّ أخذ
بيد عليّ فرفعها فقال : هذا عليّ مع القرآن ، والقرآن مع عليّ ، لا يفترقان حتى يردا
عليَّ الحوض ، فاسألوهما ما خلّفت فيهما) ».

سادساً : ما رواه ابن عباسرضي‌الله‌عنه قال : « قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (لن تضلوا ولن
تهلكوا وأنتم في موالاة عليّ ، وإن خالفتموه فقد ضلّت بكم الطرق والأهواء في
الغيّ فاتقوا الله ، فإنّ ذمة الله عليّ بن أبي طالب) » (١) .

وأحسب انّ هذا هو تتمة ما مرّ قبله ، ومهما يكن فهذه جملة أحاديث
وردت فيها صيغة (لن تضلوا) (أن لا تضلوا) وكلها في أهل البيت عليهم‌السلام منها
ما يخصّ عليّاً بمفرده ، ومنها ما يعمّه وبقية أهل بيته ، فهل من المعقول والمقبول
دعوى انّ عمر لم يسمعها؟ ليس من الممكن أن لا يكون عمر سمعها من
النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو ممّن سمعها منه كلّها أو بعضها ، وحيث لم يرد في مورد جملة
(لن تضلوا) إلّا وهي توحي بذكر عليّ وأهل بيته عليهم‌السلام ، فلذلك لمّا قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :
(ائتوني بدواة وكتف لأكتب لكم كتاباً لن تضلوا) ، أستشعر عمر من ذلك ما هو
إلّا التصريح باسم عليّ في ذلك الكتاب ، فتلك حجة مكتوبة ليس من السهل
عليه ولا على غيره إنكارها. وذلك هو ما اعترف به لابن عباس بعد ذلك ،
فلم يجد سلاحاً أقوى عنده يشهره في وجه الشرعية في ذلك الوقت غير كلمة
« انّ النبيّ ليهجر » وبذلك نسفٌ للمحاولة الفعلية ولجميع المحاولات
اللاحقة الّتي ربّما يفاجأ بها. وهذا معنى كلماته الّتي مرّت على القارئ في
تعترافاته الخطيرة ، فراجع.

_______________________

(١)أنظر ينابيع المودة للقندوزي ٢ / ٢٨٠.

٤١١

فنسبة الهجر إلى النبيّ المعصوم إقدامٌ جريء ، مع إساءة أدب مع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم
ومساس بشخصه الكريم ، وأجرأ من ذلك دعواه في كلمته الأخرى « وعندكم
القرآن حسبنا كتاب الله » ، ولنستذكر ما مرّ من أقوال علماء التبرير الّذين رأوا في
هذه الكلمة دليلاً على فقاهة عمر بل وأفقهيته على ابن عباس ، حيث اكتفى
بالقرآن ولم يكتف ابن عباس به (؟!) وهذا ما مرّ عن ابن بطال والنووي وغيرهما
فراجع. فقد بيّنا هناك من هو الأفقه منهما بحجج لا يقوى زوامل الأسفار على
حملها فضلاً عن ردّها.

والآن فلنعد إلى تفسير كلمته « حسبنا كتاب الله » وما تعنيه من دلالة
ظاهرة وما تخفي من معنى أشتملت عليه ، وماذا أراد عمر بقوله : « وعندكم
القرآن حسبنا كتاب الله » :

ماذا أراد عمر بقوله : « حسبنا كتاب الله »؟

ليس في قوله : « حسبنا » أيّ غموض لغوي ، ولا أشتراك لفظي ، ومعناه كفانا ،
و (حَسبَ) اسم معنى لا اسم فعل ، بدليل زيادة الباء عليه في قولهم بحسبك درهم ،
وهكذا قول الداعي حسبي الله ، أي كفاني دون غيره ، كما يصح أن يقول (بحسبي)
أي كفاني ، هذا من ناحية المعنى في اللغة العربية. إذن ماذا أراد عمر غير ذلك؟
وهل وراء ذلك مراد لعمر؟ نعم إنّه الكناية عن الاستغناء بالقرآن دون عديله ، وما
عسى ذلك الرفض إلّا لمن عيّنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حديث الثقلين ، وهم العترة ،
الّذين هم الثقل الأصغر ، وهو الآخر الّذي يأباه عمر فاستبعده جاهداً ، وفرض
الاستغناء بالقرآن وحده فقال : « وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله ». وذلك ما دلّ
عليه معنى (حسبنا) أي كفانا ، وإن قيل ما الدليل على انّ ذلك مراد عمر؟

٤١٢

فإنّا نقول : دليلنا على ذلك اعترافاته السابقة بأنّه فهم ذلك فقال : « حسبنا...
الخ ».

ولولا أن يكون ذلك مراد عمر لما كان معنى لقوله : « حسبنا كتاب الله »
ولا معنى لقوله : « وعندكم القرآن » ، واحتمال أنّه أراد الاستغناء بالقرآن وحده
لأنّه فيه تبيان كلّ شيء ، لقوله تعالى : ( مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ ) (١) كما
قاله علماء التبرير فليس ذلك بصحيح ولا يمكن أن يُصحَح له ، لأن القرآن وحده
لا يغني ما لم يكن معه مَن يعلم تأويله قال تعالى : ( وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ
وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ
) (٢) ، والله سبحانه يقول :( فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا
تَعْلَمُونَ
) (٣) ، وقد ورد عن الإمام عليّعليه‌السلام قوله في تفسير هذه الآية فقال : (نحن
أهل الذكر) ولا شك أنّ عليّاً عليه‌السلام كان منهم بل ومن أفاضلهم ، كيف لا وهو
الّذي دعا له الرسول بأن يكون الأذن الواعية ، وفيه نزل قوله تعالى : ( وَتَعِيَهَا أُذُنٌ
وَاعِيَةٌ
) (٤) ، وهذا هو الّذي أدركه عمر وفهمه ، لذلك استبعد الضميمة عن القرآن ،
فرفضها ومنع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من كتابة الكتاب الّذي لن تضل أمته من بعده ما إن
تمسكوا به.

وفي حديث الثقلين دلالة واضحة أنّ التمسك بهما معاًـالقرآن والعترةـهو
السبيل العاصم من الضلالة. وليس التمسك بأحدهما دون الآخر بعاصم وحده.

_______________________

(١)الأنعام / ٣٨.

(٢)آل عمران / ٧.

(٣)النحل / ٤٣.

(٤)شواهد التنزيل للحسكاني ٢ / ٢٧٢ ، وحلية الأولياء ١ / ٦٧ ، وفرائد السمطين للحمويني ،
وكنز العمال ١٥ / ١٥٧ ط الثانية ، ومناقب ابن المغازلي الحديث / ٣٦٦ ، وسمط النجوم
العوالي ٢ / ٥٠٤ ، وتفسير الطبري ٢٩ / ٥٥ ، وتفسير الدر المنثور للسيوطي في تفسير الآية
نقلاً عن ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه.

٤١٣

ونحن إذا استذكرنا ما مرّ آنفاً من انّ عمر كان جاداً في دفع عليّ عما أراده
الله تعالى له على لسان نبيّه ، ولمّا كان عليّ عليه‌السلام هو واحد من العترة بل هو
سيدهم ، أدركنا المعنى الحقيقي لكلمة عمر : « حسبنا كتاب الله » وهي تعني
التفكيك بين القرآن والعترة عند التمسك بهما. والرد الحاسم على استبعاد العترة
من أهلية التمسك بها ، لذلك ارتكب ما ارتكب ممّا لا يجوز لمثله أن يفعله ، وقال
ما قال ممّا ليس من حقّه أن يقوله. ولكنه اليقظ الحذر والمتمرّس على الخلاف
على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وشواهد ذلك يكفي منها يوم صلح الحديبية ، ويوم الصلاة على
ابن أبيّ. وغير ذلك.

فأي مانع له الآن أن يعلن الخلاف ، ويقول ما لا يحل له ولأي مسلم أن
يقوله فينسب الهجر إلى النبيّ المعصوم. ما دام هو بذلك يرفض قرناء الكتاب ،
وكان من الطبيعي لمثله ، وهو يريد ذلك أن يقول للحاضرين : « وعندكم
القرآن »ـيعني لا حاجة لنا بالعترة الّتي يدعونا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى التمسك
بالكتاب وبها كما في حديث الثقلين ـ.

ولندع هذا الجانب التفسيري لكلمته ، ولنعد إلى الجانب اللفظي لها.
ولنستغفل عقولنا ثانية ، وكأننا نبحث عن حاقّ المعنى لقوله. فماذا كان يعني
بكلمته : « حسبنا كتاب الله »؟ أو ليس معنى ذلك هو رفض السنّة؟ الّتي هي تلو
الكتاب؟ أفهل كان يرى حقاً عدم حجية السنّة؟

نعم كان وكان ، ولسنا نحمّله إلّا تبعة أفعاله ، لأنّه ممّن أمر في أيامه
بتحريقها ومحوها (١) . وما دام ليس من حقنا أن نحمّله خشية الإتهام بأنا لسنا معه
_______________________

(١)الجامع لأحكام القرآن ١٧ / ٥ و ١٤ / ١٠٨ ، وشواهد التنزيل ١ / ٣٣٤ ـ ٣٣٧.

٤١٤

على رأي فلنترك الحديث لأئمّة عمريّين لا يشك في ولائهم لعمر ، مثل الإمام
الشافعي وابن حزم ، والبيهقي ، والسيوطي.

فلنقرأ ما يقول كلّ واحد في عدم الإستغناء بالكتاب وحده ولابدّ من السنّة
معه ، وهم غير متهمين فيما يقولونه في إدانة من قال بالإستغناء بالكتاب وحده
حتى ولو كان عمر :

١ ـ ماذا قال الشافعي؟

قال الإمام الشافعي في الرسالة ونقله عنه البيهقي في المدخل(١) : « قد
وضع الله رسوله صلّى الله عليه(وآله)وسلّم من دينه وفرضه وكتابه الموضع
الّذي أبان جلّ ثناؤه أنّه جعله علماً لدينه بما أفترض من طاعته ، وحرّم من
معصيته وأبان من فضيلته ، بما قرن بين الإيمان به مع الإيمان به فقال تبارك
وتعالى : ( فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ) (٢) وقال :( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ
وَرَسُولِهِ
) (٣) فجعل كمال ابتداء الإيمان الّذي ما سواه تبع له الإيمان بالله ثمّ
برسوله معه.

قال الشافعي : وفرض الله على الناس إتباع وحيه وسنن رسوله فقال في
كتابه : ( لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو
عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ
) (٤) .

_______________________

(١)نقل كلامه بنصه السيوطي في رسالته مفتاح الجنة في الأحتجاج بالسنّة / ٣ـ٤ ضمن
مجموعة الرسائل المنيرية أواخر المجلد الثاني.

(٢)الأعراف / ١٥٨.

(٣)النور / ٦٢.

(٤)آل عمران / ١٦٤.

٤١٥

قال الشافعي : فذكر الله الكتاب والقرآن ، وذكر الحكمة فسمعت من
أرضى من أهل العلم بالقرآن يقول : الحكمة سنّة رسول الله صلّى الله عليه
(وآله)وسلّم. وقال : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي
الْأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ
) (١) ـثمّ ساق
الكلام إلى أن قال : فأعلمهم أنّ طاعة رسول الله صلّى الله عليه(وآله)وسلّم
طاعته فقال : ( فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا
يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا
) (٢) .

واحتج أيضاً في فرض اتباع أمره بقوله :( لَّا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ
كَدُعَاءِ بَعْضِكُم بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ
يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
) (٣) وقوله :( وَمَا
آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا
) (٤) وغيرها من الآيات الّتي دلت
على اتباع أمره ولزوم طاعته فلا يسع أحد رد أمره لفرض الله طاعة نبيه ».

٢ ـ ماذا قال ابن حزم؟

قال ابن حزم في الإحكام في أصول الأحكام : « لاتعارض بين شيء من
نصوص القرآن ونصوص كلام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما نقل من أفعاله فقال سبحانه خبراً
عن رسوله : ( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ ) (٥) ، وقوله تعالى :
_______________________

(١)النساء / ٥٩.

(٢)النساء / ٦٥.

(٣)النور / ٦٣.

(٤)الحشر / ٧.

(٥)النجم / ٣ ـ ٤.

٤١٦

( لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ) (١) ، وقوله :( وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ
لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا
) (٢) . فأخبرعزوجل انّ كلام نبيّه وحي من عنده كالقرآن
في أنّه وحي ...اه‍ » (٣) .

٣ ـ ماذا قال البيهقي؟

وقال البيهقي بعد احكامه هذا الفصل : « ولولا ثبوت الحجة بالسنّة لما قال
صلّى الله عليه(وآله)وسلّم في خطبته بعد تعليم من شهده أمر دينهم (ألا فليبلغ
الشاهد منكم الغائب فربّ حامل مبلّغ أوعى من سامع) ثمّ أورد حديث : (نضّر
الله امرؤاً سمع منا حديثاً فأدّاه كما سمعه ، فربّ مبلّغ أوعى من سامع) ». وهذا
الحديث متواتر كما سأبينه.

قال الشافعي : « فلمّا ندب رسول الله صلّى الله عليه(وآله)وسلّم إلى استماع
مقالته وحفظها وأدائها ، دلّ على أنّه لا يأمر أن يؤدّى عنه إلّا ما تقوم به الحجة
على من أدي إليه ، لأنّه إنّما يؤديَ عنه حلال يؤتى ، وحرام يجتنب ، وحدّ يقام ،
ومال يؤخذ ويعطى ، ونصيحة في دين ودنيا ».

ثمّ أورد البيهقي من حديث أبي رافع قال : « قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (لا ألفين
أحدكم متكئاً على أريكته يأتي الأمر من أمري ممّا أمرتُ به أو نَهيتُ عنه
فيقول : لا أدري ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه) » (٤) .

_______________________

(١)الأحزاب / ٢١.

(٢)النساء / ٨٢.

(٣)الإحكام في اُصول الأحكام ١ / ١٧٤.

(٤)رواه أحمد ، وأبو داود ، والترمذي ، وابن ماجة ، والحاكم ، والبيهقي في دلائل النبوة ، وإسناده
صحيح ، وقال الترمذي حسن صحيح ، مشكاة المصابيح ١ / ٥٧.

٤١٧

وأخرج البيهقي بسنده عن شبيب بن أبى فضالة المكي : « انّ عمران بن
حصين رضي‌الله‌عنه ذكر الشفاعة فقال رجل من القوم : يا أبا نجيد إنكم تحدثونا بأحاديث
لم نجد لها أصلاً في القرآن؟ فغضب عمران وقال لرجل قرأت القرآن؟ قال :
نعم ، فهل وجدت فيه صلاة العشاء أربعاً ووجدت المغرب ثلاثاً ، والغداة ركعتين ،
والظهر أربعاً ، والعصر أربعاً؟ قال : لا ، قال : فعن من أخذتم ذلك؟ ألستم عنا
أخذتموه وأخذناه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

أوجدتم فيه من كلّ أربعين شاة شاة ، وفى كلّ كذا بعير كذا ، وفي كلّ
كذا درهماً كذا؟ قال : لا ، قال فعن من أخذتم ذلك؟ ألستم عنا أخذتموه وأخذناه
عن النبيّ صلّى الله عليه(وآله)وسلّم.

وقال : أوجدتم في القرأن :( وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ) (١) ، أو وجدتم فيه
فطوفوا سبعاً ، واركعوا خلف المقام؟ أو وجدتم في القرآن : لاجلب ولاجنب
ولا شغار في الإسلام؟

أما سمعتم الله يقول في كتابه :( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ
فَانتَهُوا
) (٢) ؟

قال عمران : فقد أخذنا عن رسول الله صلّىاللهعليهوآلهوسلّمأشياء ليس
لكم بها علم » (٣) .

وأخرج البيهقي والحاكم عن الحسن قال : « بينما عمران بن الحصين
يحدث عن سنّة رسول الله إذ قال له رجل يا أبا نجيد حدّثنا بالقرآن ، فقال له
_______________________

(١)الحج / ٢٩.

(٢)الحشر / ٧.

(٣)مفتاح الجنّة في الإحتجاج بالسنّّة للسيوطي / ٥ ضمن مجموعة الرسائل المنيريه
المجلد الثاني.

٤١٨

عمران أنت وأصحابك تقرؤن القرأن!؟ اكنت تحدّثني عن الصلاة وما فيها
وحدودها؟

أكنت تحدّثني عن الزكاة في الذهب والإبل والبقر وأصناف المال؟ ولكن
قد شهدتُ وغبتَ أنتَ ، ثمّ قال : فرضَ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الزكاة كذا وكذا ، فقال
الرجل : أحييني أحياك الله.

قال الحسن فما ماتَ ذلك الرجل حتى صار من فقهاء المسلمين »(١) .

٤ ـ ماذا قال السيوطي؟

قال في ديباجة كتابه : « اعلموا يرحمكم الله انّ من العلم كهيئة الدواء ، ومن
الآراء كهيئة الخلاء ، لاتذكر إلّا عند داعية الضرورة ، وان ممّا فاح ريحه في هذا
الزمان. وكان دارساً بحمد الله تعالى منذ أزمان ، وهو انّ قائلاً رافضياً(؟)زنديقاً أكثر
في كلامه : انّ السنّة النبوية والأحاديث المرويةـزادها الله علواً وشرفاًـلايحتج بها ،
وأنّ الحجة في القرآن خاصة ، وأورد على ذلك حديث : ماجاءكم عني من حديث
فاعرضوه على القرآن ، فإن وجدتم له أصلاً فخذوا به وإلّا فردّوه. هكذا سمعت هذا
الكلام بجملة منه وسمعه منه خلائق غيري فاعلموا رحمكم الله من أنكر كون
حديث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقولاً كان أو فعلاً بشرطه المعروف في الأصول حجة ، كفر وخرج
عن دائرة الإسلام وحشر مع اليهود والنصارى أو مع من شاء الله من فرق الكفرة ...

وأصل هذا الرأي الفاسد أنّ الزنادقة وطائفة من غلاة الرافضة ذهبوا إلى
إنكار الاحتجاج بالسنّة والاقتصار على القرآن » (٢) إلى آخر كلامه.

_______________________

(١)مفتاح الجنة في الإحتجاج بالسنّّة للسيوطي / ٢٣ ضمن مجموعة الرسائل المنيريه
المجلد الثاني.

(٢)نفس المصدر / ٢.

٤١٩

ونحن لانريد مناقشته في حكمه الكلي على الكبرى فهو عين الصواب ،
ولكن هلّم الخطب في تطبيق الحكم على الصغرى في المقام.

ويجب أن لايُستغفَل القارئ بما قاله السيوطي الّذي شنّها حرباً شعواء على
ذلك الرافضي المجهول الهوية. كما يجب أن لانظلمه مادامت حجته صحيحة
كما حكاها عنه السيوطي نفسه.

فإنّ الّذي زعمه السيوطي في حكاية قوله : « هو إهمال السنّة بالمرة فلا
يحتج بها ». بينما الّذي حكاه من فحوى دليله هو وجوب عرض السنّة على
الكتاب ، والأخذ بها ما دامت غير مخالفة له. وأين هذا من عدم حجيتها
والاكتفاء بالقرآن؟.

وإذا صحّ ماذكره السيوطي عنه من الدليل يكون الرافضي المجهول الهوية
على حق في كلامه ، لأنّ الحديث الّذي يخالف القرآن زخرف وباطل ويضرب
به عرض الجدار. وهذا هو المنطق الصحيح والسليم الّذي يقطع جهيزة كلّ
الوضاعين والمدلّسين الّذين كذبوا في الحديث ونسبوه زوراً إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو
منه ومنهم بريء.

وأين هذا ماشهّر به السيوطي بقوله : « إنكار الاحتجاج بالسنّة والاقتصار
على القرآن »؟ وهل من الإنصاف أن يرمي بالزندقة لأنّه يقول إنّ السنّة ليست
ناسخة للقرآن ولا قاضية عليه ، ولأنّ السنّة الصحيحة هي الّتي لاتخالف القرآن!

ثمّ ما رأي السيوطي في قول عمر : « حسبنا كتاب الله وعندكم القرآن »
أليس ذلك نبذه للسنّة نبذ الحصاة وراء ظهره؟

٤٢٠

ثمّ ما رأي السيوطي في قول عمر في خطبته : « لا يبقين أحد عنده كتاباً إلّا
أتاني به فأرى فيه رأيي » ، فظنوا أنّه يريد النظر فيها ليقوّمها على أمر لا يكون فيه
اختلاف ، فأتوه بكتبهم فأحرقها بالنار (1) . كما بعث إلى الامصار يأمرهم : من كان
عنده شيء فليمحه؟ (2) .

فيا هل ترى من هو الّذي أنكر الاحتجاج بالسنّة؟ ذلك الرافضي المنكود
حظه؟ أم هو عمر بن الخطاب المشهود رفضه؟

ثمّ هل من حقّنا ان نسأل السيوطي عن حكمه هل هو مخصوص بذلك
الرافضي؟ أم هو عام لكل من أنكر الاحتجاج بالسنّة؟ وهل يرضى أن يحكم به
على عمر؟ وهل يرضى بذلك علماء التبرير وهو منهم؟ ثمّ ماباله وهو من أهل
السنّة ، ومادام غيوراً على السنّة ، يستنكر ما قاله الرافضي الّذي حامى عن
حريم السنّة بأن لا تشوبها شوائب الكذابين ، بل كان الأولى أن يدعو له ويستغفر
له ، فهو يريد حماية السنّة لاعدم الاحتجاج بها ونبذها كمن قال : « حسبنا كتاب
الله وعندكم القرآن » ، بالله لقد صحّ المثل السائر : (رمتني بدائها وانسلّت) ،
وما علينا الآن إلّا أن نقول للسيوطي رضينا بك حَكَماً بيننا وبينك ورضينا
بحكمك على كلّ من قال بعدم الاحتجاج بالسنّة من الأولين والآخرين من أيّ
فرق المسلمين.

ويكفينا في إدانة السيوطي كتابه : (اللاليء المصنوعة في الأحاديث
الموضوعة) لماذا كتبه؟ أليس لتخليص السنّة من الشوائب. إذن فقول الرافضي
بعرض السنّة على الكتاب خير ميزان وليس فيه عين ، وكتابه المذكور لم يخلّص
_______________________

(1)طبقات ابن سعد 5 / 188 ، وتقييد العلم للخطيب البغدادي.

(2)جامع بيان العلم لابن عبد البر.

٤٢١

السنّة من كلّ شين.( أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لَّا يَهِدِّي إِلَّا أَن
يُهْدَىٰ فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ
) (1) .

وأخيراً فقد تبين لنا أنّ عمر إنّما قال : « حسبنا كتاب الله ، عليكم
بالقرآن » ليستفرد بالكتاب وهو الثقل الأكبر ويستبعد الثقل الأصغر وهم
العترة ، وسيّد العترة عليّ كما هو معلوم عند المسلمين ، وكان أبو بكر يقول
ذلك أيضاً (2) . وليس معنى ذلك الاستبعاد لأهل البيت عن ساحة الخلافة ،
يعني بالضرورة أن لانجد عمر يتحدّث بفضائلهم كما كان أبو بكر يفعل
كذلك ، حتى لقد عقد المحب الطبري في الرياض النضرة باباً في ذكر ما
رواه أبو بكر في فضائل أمير المؤمنين عليه‌السلام وباباً (في ذكر مارواه عمر في
عليّ) ، ووردت عنهما أحاديث كثيرة في فضائل أهل البيت ، يقف عليها
الطالب في كتب المناقب للخوارزمي الحنفي وابن المغازلي المالكي
والفصول المهمة لابن الصباغ المالكي سوى ما أورده الحاكم في
المستدرك وابن عساكر الشافعي في تاريخ دمشق وغيرهم وغيرهم.
فالحديث بفضائل أهل البيت ليس بضارّ لهما بل ربّما أصابا منه نفعاً من
تطييب النفوس بإظهار المودة بعد ما تمّ استبعادهم عن الخلافة ، ثمّ
تجريدهم حتى من بعض اختصاصهم.

ألم يروي الطبراني في الأوسط وعنه الهيثمي في مجمع الزوائد عن عمر
قال : « لمّا قبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جئت أنا وأبو بكر إلى عليّ فقلنا ما تقول فيما ترك
رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟ قال : نحن أحقّ الناس برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : فقلت والّذي بخيبر؟
_______________________

(1)يونس / 35.

(2)كنز العمال 15 / 10 ط حيدر آباد الثانية.

٤٢٢

قال : والّذي بخيبر ، قلت : والّذي بفدك؟ قال : والّذي بفدك. فقلت أما والله حتى
تحزّوا رقابنا بالمناشير فلا » (1) .

5 ـ ماذا قال السندي في حاشيتيه على البخاري؟

قال : إنّ الأمر الصادر يفيد أنّه أمن من الضلال ، فالكتاب الّذي يريد
الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يكتبه سبب للأمن من الضلال ودوام الهداية. فكيف يخطر على
بال إنسان أنّه سيترتب عليه عقوبة أو فتنة أو عجز.

أمّا قوله : « حسبنا كتاب الله » لأنّه تعالى قال :( مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن
شَيْءٍ
) (2) ، ويقول :( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ) (3) ، فكلّ من الآيتين لا يفيد الأمن
من الضلال ودوام الهداية للناس ، ولو كان كذلك لما وقع الضلال ، ولكن
الضلال والتفريق في الأمة قد وقع بحيث لا يرجى رفعه ، كما أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم
يقل لهم أنّ مراده أن يكتب لهم الأحكام حتى يقال على ذلك : إنّه يكفي فهمها
من كتاب الله ، ولو فرض أنّ مراد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان كتابة بعض الأحكام ، فلعل النص
على تلك الأحكام منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سبب للأمن من الضلالة. وعلى هذا لا وجه لقولهم :
« حسبنا كتاب الله » ، بل لو لم يكن فائدة النص إلّا الأمن من الضلالة لكان
مطلوباً جداً ، ولا يصح تركه للإعتماد على أنّ الكتاب جامع لكلّ شي ، كيف
والناس محتاجون إلى السنّة أشد احتياج مع كون الكتاب جامعاً ، وذلك لأنّ
الكتاب وإن كان جامعاً إلّا أنّه لا يقدر كلّ أحد على الإستخراج منه. وما يمكن
لهم استخراجه منه لا يقدر كلّ أحد استخراجه منه على وجه الصواب.

_______________________

(1)مجمع الزوائد 9 / 39.

(2)الأنعام / 38.

(3)المائدة / 3.

٤٢٣

ولهذا فوّض الله لرسوله البيان مع كون الكتاب جامعاً فقال تعالى لنبيّه :
( لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ) (1) ، ولاشك أنّ إستخراجهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الكتاب على
وجه الصواب يكفي ويغني في كونه نصاً مطلوباً لنا ، لاسيما إذا أمرنا به ،
ولاسيما إذا وعد على ذلك الأمن من الضلال ، فما معنى قول « حسبنا كتاب
الله » بعد ذلك (2) ؟

6 ـ ماذا في القراءة الخلدونية(3) ؟

ليس من جديد عند ابن خلدون سوى التفافه على حديث الدواة والكتف ،
بقفزة غير بارعة فطواه وطمس معالم الإدانة فيه في موضع مقدمته فقال :ـوهو
يذكر أمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باحضار الدواة والقرطاس ليكتب صلّى الله عليه(وآله)
الوصيةـ: « وان عمر منع من ذلك » (!). ثمّ قال : « وما تدعيه الشيعة من وصيته
لعليّ رضي‌الله‌عنه وهو أمر لم يصح ولا نقله أحد من أئمة النقل.

والّذي وقع في الصحيح من طلب الدواة والقرطاس ليكتب الوصية وان
عمر منع من ذلك ، فدليل واضح على أنّه لم يقع » (4) .

ثمّ عاد في تاريخه فقال : « في مرضهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ثمّ جمع أصحابه فرحّب بهم
وعيناه تدمعان ودعا لهم كثيرأ وقال : (أوصيكم بتقوى الله وأوصي الله بكم واستخلفه
_______________________

(1)النحل / 44.

(2)حاشية السندي على صحيح البخاري 1 / 33 ، نقلاً عن معالم الفتن لسعيد أيوب / 260.

(3)القراءة الخلدونية اسم لكتاب كان يدرس في الصف الأوّل من المدارس الإبتدائية في
العهد الملكي في العراق نسبة لمؤلفها أبن خلدون. وهزءاً بعقلية ابن خلدون في رأيه في
المقام شبّهنا ما لديه بما في القراءة الخلدونية.

(4)مقدّمة ابن خلدون / 380 ط دار الكتاب اللبناني.

٤٢٤

عليكم ، وأودّعكم إليه إني لكم نذير وبشير ألّا تعلوا على الله في بلاده وعباده فإنه قال
لي ولكم : ( تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا
وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ
) (1) ، وقال :( أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ ) (2) ).

ثمّ سألوه عن مغسِّله؟ فقال : (الأدنون من أهلي).

وسألوه عن الكفن؟ فقال : (في ثيابي هذه أو بياض مصر أوحلّة يمانية).

وسألوه عن الصلاة عليه؟ فقال : (دعوني على سريري في بيتي على شفير
قبري ، ثمّ اخرجوا عني ساعة ، حتى تصلي عليّ الملائكة ، ثمّ ادخلوا فوجاً بعد
فوج فصلّوا وليبدأ رجال من أهل بيتي ثمّ نساؤهم).

وسألوه عمّن يدخله القبر؟ فقال : (أهلي).

ثمّ قال : (إئتوني بدواة وقرطاس ، اكتب لكم كتاباً لاتضلّون بعده) فتنازعوا
وقال بعضهم : إنه يهجر ، وقال بعضهم : أهجر؟ يستفهم ، ثمّ ذهبوا يعيدون عليه ، ثمّ
قال : (دعوني فما أنا فيه خير ممّا تدعونني إليه). وأوصى بثلاث : أن يخرجوا
المشركين من جزيرة العرب ، وأن يجيزوا الوفد كما كان يجيزهم. وسكت عن
الثالثة أو نسيها الراوي ، وأوصى بالأنصار فقال : (إنّهم كرشي وعيلتي الّتي أويت
إليها ، فأكرموا كريمهم ، وتجاوزوا عن مسيئهم ، فقد اصبحتم يامعشر المهاجرين
تزيدون والأنصار لا يزيدون). ثمّ قال : (سدّوا هذه الأبواب في المسجد إلّا باب
أبي بكر فإنّي لا أعلم أمرءاً أفضل يداً عندي في الصحبة من أبي بكر ولو كنت
متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً ، ولكن صحبة إخاء وإيمان حتى يجمعنا الله
عنده).

_______________________

(1)القصص / 83.

(2)العنكبوت / 68.

٤٢٥

ثمّ ثقل به الوجع واغمي عليه ، فاجتمع إليه نساؤه وبنوه ، وأهل بيته والعباس
وعليّ.

ثمّ حضر وقت الصلاه فقال : (مروا أبا بكر فليصل بالناس) فقالت عائشة :
« إنّه رجل أسيف لايستطيع أن يقوم مقامك فمر عمر ». فامتنع عمر وصلّى أبو
بكر ، ووجد رسول الله صلّى الله عليه(وآله)وسلّم خفّة فخرج ، فلمّا اُحس به
أبو بكر تأخر فجذبه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأقامه مكانه ، وقرأ من حيث انتهى أبو بكر ثمّ
كان أبو بكر يصلي بصلاته والناس بصلاة أبي بكر.

قيل صلوا كذلك سبع عشرة صلاة. وكان يدخل يده في القدح وهو في
النزع فيمسح وجهه في الماء ويقول : (اللّهم أعنّي على سكرات الموت).

فلمّا كان يوم الاثنين وهو يوم وفاته خرج إلى صلاة الصبح عاصباً رأسه ،
وأبو بكر يصلي فنكص عن صلاته ورده رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بيده صلّى قاعداً على
يمينه ثمّ أقبل على الناس بعد الصلاة فوعظهم وذكرهم. ولمّا فرغ من كلامه قال
له أبو بكر : « إنّي أراك قد أصبحت بنعمة الله وفضله كما تحب » ، وخرج إلى
أهله في السنح ، ودخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بيته فاضطجع في حجرة عائشة. ودخل
عبد الرحمن بن أبي بكر عليه وفي يده سواك أخضر فنظر إليه وعرفت عائشة أنّه
يريده قالت : « فمضغته حتى لانَ واعطيته إياه فاستنّ به ثمّ وضعه » ، ثمّ ثقل في
حجري (1) فذهبت أنظر في وجهه ، فإذا بصره قد شخص وهو يقول : (الرفيق
_______________________

(1)وابن خلدون حين يروي لنا حديث عائشة عن السواك الأخضر الّذي بيد عبد الرحمن
بن أبي بكر ومضغ عائشة له وأعطته للنبيّ فاستنّ به ثمّ وضعه ثمّ ثقل في حجرها
الخ ولم يعقّب عليه بشيء ، وكأنه مصدّق به ، ومهما تباله الراوي وأستغفل القارئ فلا
يكاد يُصدّق بأن إنساناً في حالة النزع يمكنه أخذ السواك ليستنّ به. وما أدري كيف غفل
ابن خلدون أو تغافل عن ذكر تتمة معزوفة السواك الّذي مضغته السيدة عائشة حين
قالتـفجمع الله بين ريقي وريقه في آخر يوم من الدنيا (سير أعلام النبلاء للذهبي

٤٢٦

الأعلى من الجنة) ، فعلمت أنّه خُيّر فأختار. وكانت تقول : قبض رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين
سحري ونحري وذلك نصف نهار يوم الاثنين لليلتين من شهر ربيع الأوّل... » (1) .

هذا ما أردنا نقله من قراءة ابن خلدون في مقدمته وتاريخه ، لنوقف القارئ
على تخبطه في عرض ماجرى في فترة مرض النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحتى وفاتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وكأنّه قد جنّد نفسه لتكثيف حضور أبي بكر وآل أبي بكر. فأبو بكر فهم
نعي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نفسه حين قال : (انّ عبداً من عباد الله خيّره الله بين الدنيا وبين
ماعنده) ، وفهمها أبو بكر فبكى فقال : « بل نفديك بأنفسنا وأبنائنا » فقال : (على
رسلك يا أبا بكر)؟

وأبو بكر يحظى ببقاء بابه شارعاً إلى المسجد وتغلق سائر الأبواب غير بابه؟

وأبو بكر يؤمر بالصلاة دون غيره؟ وأخيراً أضطجع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حجرة ابنة
أبي بكر ، وعبد الرحمن بن أبي بكر يدخل وفي يده سواك أخضر فينظر إليه
النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتعلم عائشة ابنة أبي بكر أنّه يريده فتأخذه وتمضغه حتى لان وتعطيه
فيستنّ به. وأخيراً توفي وهو في حجرها وبين سحرها ونحرها. فهذا الحضور
المكثّف لأبي بكر وآل أبي بكر يثير التساؤل عن عمل أهل بيت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبقية
نسائه أين كانوا وماذا كان في حضورهم؟ في قراءة أبن خلدون؟

_______________________

1 / 431 نقلاً عن البخاري. وفي الهامش تخريجه عن مسلم في صحيحه ، والقرطبي في
تفسيره ، والبيهقي في سننه الكبرى ، والتبريزي في مشكاة المصابيح ، والزبيدي في
اتحاف السادة المتقين ، والعراقي في المغني عن حمل الأسفار ، وابن حجر في فتح
الباري. فراجع موارد ذكرهم).

وفي لفظ آخر : وإن الله جمع بين ريقي وريقه عند الموت (سير أعلام النبلاء 1 / 431)
نقلاً عن البخاري ، وفي الهامش مصادر تخريجه فراجع ، ولعل الرجل كان على قدر من
الحكنة أحسّ بأن ذكر الحبكة بجميع خيوطها سيكشف للقاريء عن زيفها جملة
وتفصيلاً.

(1)تاريخ ابن خلدون 2 / 849 ط دار الكتاب اللبناني.

٤٢٧

ألم يقرأ ابن خلدون حديث سلمان الفارسي قال : « دخلت عليهـأي على
النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـصبيحة يوم قبل اليوم الّذي مات فيه فقال لي : (ياسلمان ألا تسأل عما
كابدته الليلة من الألم والسهر أنا وعليّ) فقلت يا رسول الله : ألا أسهر الليلة
معك بدله؟ فقال : (لا هو أحق بذلك منك) » (1) .

ألم يقرأ ابن خلدون حديث حذيفة قال : « كان عليّ أسند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم
إلى ظهره فقلت لعليّ هلمّ أراوحك؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (هو أحق به) »(2) .

وإذا كان ابن خلدون لم يقرأ ذلك ، فهل هو لم يقرأ. حضور العباس
وحديث اللدود (3) ؟ قال ابن أبي الحديد : « وقد وقع اتفاق المحدثين كلّهم
على انّ العباس كان ملازماً للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيام مرضه في بيت عائشة وهذا
لاينكره أحد » (4) .

وهو لم يقرأ حديث مسارّة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لابنته فاطمة؟ مرتين بكت في الاُولى
وضحكت في الثانية وهذا ما رواه الشيخان وغيرهما ممّا جل عن البيان (5) .

وهو لم يقرأ حديث ابن عباس : « إنه خرج في مرضه الّذي مات فيه
عاصباً رأسه بعصابة دسماء ملتحفاً بملحفة على منكبيه فجلس على المنبر
وأوصى بالأنصار فكان آخر مجلس جلسه » (6) .

_______________________

(1)شرح النهج لابن أبي الحديد 2 / 591 ط مصر الأولى.

(2)ذخائر العقبى / 95 ط القدسي.

(3)سيرة ابن هشام تح‍ السقا ورفاقه 4 / 225 ، وطبقات ابن سعد 2 / 232 ، وتاريخ الطبري 3 /
188 ـ 189 و 195 وغيرها.

(4)شرح النهج لابن أبي الحديد 1 / 591 ط الاُولى و 10 / 268 ط محققة بمصر.

(5)صحيح البخاري برقم 6285 و 6286 ، وصحيح مسلم برقم 2450 و 2450 / 98 و 2450 / 99 ،
وسنن ابن ماجه / 2621 ، ومسند أحمد 6 / 282 ، وطبقات ابن سعد 2 ق ، ومشكل الآثار
للطحاوي 1 / 48 ، ومشكاة المصابيح للتبريزي / 6129 ، وحلية أبي نعيم 2 / 40 ، وغيرها.

(6)صحيح البخاري برقم 3799 و 3801 وغيره.

٤٢٨

وهو لم يقرأ حديث الفضل بن العباس : « وقال له النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا فضل شدّ
هذه العصابة على رأسي فشدّها... الخ » (1) .

وهو لم يقرأ حديث أم الفضل قالت : « خرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو عاصب
رأسه في مرضه وصلّى بنا المغرب فقرأ بالمرسلات ، فما صلّى بعدها حتى لقي
الله تعالى » (2) .

وهو لم يقرأ حديث أم ألمؤمنين زينب : « ـ وهي تقول لأصحاب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم
الّذين لغطوا عندما أمر بأحضار الدواة وصحيفة ليكتب لهم كتاباً لن يضلوا بعده
أبداًـفقال عمر بن الخطاب من لفلانة وفلانةـمدائن الرومـإنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم
ليس بميّت حتى نفتتحها ولو مات لانتظرناه كما انتظرت بنو إسرائيل موسى
فقالت زينب زوج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ألا تسمعون النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعهد اليكم فلغطوا فقال :
(قوموا) ، فلمّا قاموا قُبض النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مكانه »(3) .

وهو لم يقرأ حديث أم المؤمنين أم سلمة قالت : « والّذي أحلف به إن
كان عليّ لأقرب الناس عهداً برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قالت عدنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غداة
بعد غداة يقول : جاء عليّـمراراًـقالت : وأظنه كان بعثه في حاجة قالت :
فجاء بعد وظننت إنّ له عليه حاجة ، فخرجنا من البيت فقعدنا عند الباب
فكنت من أدناهم إلى الباب ، فأكبّ عليه عليّ فجعل يسارّه ويناجيه ، ثمّ
قبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من يومه ذلك فكان أقرب الناس به عهداً »(4) .

_______________________

(1)طبقات ابن سعد 2 ق 2 / 45.

(2)مسند أحمد 3 / 91.

(3)طبقات ابن سعد 2 ق 2 / 38 ط ليدن.

(4)مسند أحمد 6 / 300 ، والخصائص للنسائي / 40 ط التقدم ، ومستدرك الحاكم 3 / 138ـ139 ،
وغيرها.

٤٢٩

وإذا كان ابن خلدون لم يقرأ كلّ ذلك ، فهل يعقل أنّه لم يقرأ ما روته
عائشة وأخرجه البخاري عنها مكرراً وكلاهما عنده في المقام الأسمى من
خروجه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم متوكئاً على العباس ورجلـهو عليّـولكن عائشة لا تطيق لها
نفس أن تذكره بخير وهي تستطيع كما قال ابن عباس فيما رواه الطبري (1) .

ألم يقرأ ابن خلدون هذا الحضور لعليّ والعباس عند النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد خرج
متوكئاً عليهما حين صلّى أبو بكر فنحّاه وصلّى هو صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالناس؟ أوليس هذا في
صحيح البخاري وتاريخ الطبري وطبقات ابن سعد ، وابن خلدون قد رأى تلك
الكتب جميعها وأخذ عنها خصوصاً عن كتاب الطبري الّذي قال عنهـفي ذكره
أمر الجملـاعتمدناه للوثوق به لسلامته من الأهواء الموجودة في كتب ابن
قتيبة.

ثمّ ما بال الناس الّذين سألوه عن مغسّله وكفنه والصلاة عليه وحتى عمّن
يدخله القبر ، ما بالهم لم يسألوه عمّن يتولى أمرهم من بعده؟

ثمّ ما بالهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يقدم أبا بكر للصلاة عليه أولاً مادام قد أمر بتقديمه
للصلاة بالمسلمين مكانه كما يروي ابن خلدون وغيره؟ ولندع ذكر ما في قراءة
ابن خلدون من مثار التساؤل ، ونعود إلى إنكاره الوصية للإمام كما مرّ عن
مقدمته. وإلى إقراره بأن الّذي منع من كتابة ذلك هو عمر ، وما صرّح به ثانياً بأنّ
الّذي منع قال : « أنّه يهجر » فتكون النتيجة ماسبق أن ذكرناه في (ماذا قال عمر؟)
وأنّه الّذي قال : « انّ الرجل ليهجر ».

_______________________

(1)تاريخ الطبري 2 / 433 ، صحيح البخاري 1 / 135 باب إنّما جُعل الإمام ليؤتم به... ط
بولاق.

٤٣٠

وأمّا كون النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكتب الكتاب لمنع عمر ليس يعني أنّه لم يكن قد
أوصى عليّاً ، فما نعى به على الشيعة في ذلك ، وزعم أنّه أمر لم يصح ولا نقله أحد
من أئمة النقل. فنقول له إنه أمر صحيح ونقله جماعة من أئمة النقل.

ونحن لا نطيل الوقوف معه في سرد ما يستدل به الشيعة على وصاية عليّ
عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ لم يكن دليلهم منحصراً بذلك الكتاب الّذي أرادصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يكتبه
ومنع عمر منه فلم يقع. فإن لديهم من الأدلة الأخرى والّتي رووها عن مصادرهم
ومصادر غيرهم وفي هذا القسم الثاني ما يرغم ابن خلدون على قبول أحاديثهم
ففيها من صحاح قومه وسننهم ومسانيدهم وتواريخهم ، وفيها أحاديث دلت على
أنّ عليّاً كان وصيّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قبل يوم الخميس يوم حديث الرزية ، بل
كان هو وصيّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من يوم بدء الدعوة كما في حديث الإنذار. وإليك
بعض ما جاء في ذلك صريحاً بالوصية :

1 ـ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (إنّ هذا أخي ووصيّي وخليفتي فيكم)(1) .

2 ـ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (فأنت أخي ووزيري ووصي وخليفتي من بعدي ...)(2) .

فإذا كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جعله وصياً واختاره أخاً ووزيراً ووصياً ووارثاً
وخليفةً من بعده منذ بدء الدعوة وحتى سائر المشاهد بعد ذلك وفيها أكثر من
شاهد ، فما ذنب الشيعة إذا آمنوا بصحّة ما رواه أسلافهم وأخلافهم ، ووافقهم
عليه سواهم من لم يمنعهم خلافهم. وحديث الوصية شائع ذائع هتف به الصحابه
شعراً ونثراً ، ولم ينكر عليهم أحد ذلك.

_______________________

(1)أنظر تاريخ الطبري 2 / 216 ط الحسينية ، و 2 / 319 ط دار المعارف ، و 3 / 1172 ط ليدن ،
وكنز العمال 6 / 392ـ397 ط الاُولى حيدر آباد ، و 15 / 100 ط الثانية حيدر آباد ، نقلاً عن
ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه وأبي نعيم والبيهقي كليهما في
الدلائل.

(2)أنظر السيرة الحلبية 1 / 286 ط البهية : عن ابن جرير والبغوي انهما رويا ذلك.

٤٣١

قال ابن أبي الحديد المعتزلي الحنفيـعلى ما بباليـ: « وممّا رويته من
الشعر القول صدر الإسلام المتضمّن كونه عليه‌السلام وصيّ رسول الله قول عبد الله بن
أبي سفيان بن الحرث بن عبد المطلب :

ومنا عليّ ذاك صاحبُ خيبرٍ

وصاحب بدر يوم سالت كتائبه

وصيّ النبيّ المصطفى وابن عمّه

فمن ذا يدانيه ومن ذا يقاربه

ـثمّ استطرد يذكر أشعاراً لجماعة من الصحابة في ذلك منهم : عبد
الرحمن بن جعيل ، وأبو الهيثم بن التيهانـوكان بدرياًـوعمر بن حارثة
الأنصاري ، وسعيد بن قيس الهمداني ، وزياد بن لبيد الأنصاري ، وحجر بن عدي
الكندي ، وخزيمة بن ثابت الأنصاري ذي الشهادتينـوكان بدرياًـوابن بديل
بن ورقاء الخزاعي ، وعمرو بن أحيحة ، وزحر بن قيس الجعفي ...ـوقال بعد ذكر
أشعار هؤلاء العشرةـذكر هذه الأشعار والأراجيز بأجمعها أبو مخنف لوط بن
يحيى في كتاب وقعة الجمل ، وأبو مخنف من المحدثين وممن يرى صحة
الإمامة بالاختيار ، وليس من الشيعة ولامعدوداً من رجالها ثمّ قال :

وممّا رويناه من أشعار صفين الّتي تتضمن من تسميتهعليه‌السلام بالوصي ماذكره
نصر بن مزاحم بن يسار المنقري في كتاب صفين وهو من رجال الحديث ، ثمّ
ذكر أشعاراً وأراجيز لكل من الإمام أمير المؤمنين نفسه ، وللأشعث بن قيس ،
وزحر بن قيس أيضاً ، وجرير بن عبد الله البجلي ، والنعمان بن عجلان الأنصاري ،
وعبد الرحمن بن ذؤيب الأسلمي ، والمغيرة بن الحرث بن عبد المطلب وأخيراً
قول صاحبنا عبد الله بن عباس حبر الأمة :

وصيّ رسول الله من دون أهله

وفارسه إن قيل هلمن منازل

فدونكه إن كنت تبغي مهاجرا

أشمكنصلالسيف غير حلاحل

٤٣٢

ـثمّ ختم ابن الحديد ذلك بقوله :ـوالأشعار الّتي تتضمن هذه اللفظة
كثيرة جداً ، ولكنا ذكرنا منها ههنا بعض ماقيل في هذين الحربينـيعني الجمل
وصفينـفأما ما عداهما فإنه يجلّ عن الحصر ، ويعظم عن الإحصاء والعدّ : ولولا
خوف الملالة والإضجار ، لذكرنا من ذلك مايملأ أوراقاً كثيرة اه‍ » (1) .

ولنعم ما استدل به عبد الرزاق الصنعاني صاحب المصنف فقد ذكر فيه
بسنده عن معمر عن قتادة أنّ عليّاً قضى عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أشياء بعد وفاته كان عامتها
عِدَة. قال : حسبت أنّه قال خمس مائة ألف.

قال عبد الرزاق : يعني دراهم.

قلنا لعبد الرزاق وكيف قضى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأوصى إليه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذلك؟

قال : نعم لا أشك أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أوصى إلى عليّ ، فلولا ذلك ما تركوه أن
يقضي (2) .

فبعد هذا كيف يستنكر ابن خلدون ما تدّعيه الشيعة من وصية النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم
لعليّ عليه‌السلام ومادام هو نفسه اعترف بأنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر بإحضار دواة وقرطاس
ليكتب لأمته كتاباً لن يضلوا بعده أبداً ، واعترف أيضاً بأنّ عمر هو الّذي منع ،
واعترف بأنّ بعضهمـالمانعينـقال : (إنّه يهجر). ولم يكن ذلك إلّا عمر. فما
دام ابن خلدون اعترف بجميع ذلك عليه أن يذعن بصحة ما تدعيه الشيعة ، لأن
ذلك ورد في اعترافات عمر ، كما ذكرنا في (عمريون أكثر من عمر).

_______________________

(1)شرح النهج لابن أبي الحديد 1 / 47 ط الاُولى بمصر. وقد ترجم المرحوم السيد هاشم
البحراني في كتابه التحفة البهية طائفة من أقوال قدماء الشعراء المتضمنة انّ أمير
المؤمنين عليه‌السلام وصي النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فناهزت التسعين ، وما فاته منهم ومن أشعار المحدّثين
أضعاف ذلك.

(2)أنظر المصنف لعبد الرزاق 7 / 294.

٤٣٣

فقد اعترف لابن عباس حبر الأمةـفي حديث بينهما حول الإمام
والخلافةـ: « ولقد أرادـرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـفي أنّ يصرّح باسمهـيعني عليّاًـ
فمنعت من ذلك إشفاقاً وحيطة على الإسلام ».

وقال مرة أخرى في محاورة بينهما في الموضوع نفسه : « إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم
أراد ذلك وأراد الله غيره فنفذ مراد الله ولم ينفذ مراد رسوله »؟!

وقال في مرة ثالثة : « لقد كان من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذرواً من قول لايثبت حجة
ولايقطع عذراً ».

إلى آخر ما هنالك من اعترافات خطيرة ذكرناها هناك فليرجع إليها من
شاء.

والّذي يلفت النظر في القراءة الخلدونية التصريح بأنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو الّذي
عيّن قبره في بيته فقال : (دعوني على سريري في بيتي على شفير قبري) ، فهو لم
يترك ذلك مجهولاً حتى يحار أهل البيت في مكان دفنه فينقذهم من الحيرة أبو
بكر بتعيين المكان كما يحلو رواية ذلك للبكريين ، كما إنّ في تصريحه ذلك أيضاً
نفي لمن زعم أنّ البيت هو لعائشة بل هو بيت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإنما لها حجرتها فيه.

ومهما قيل عن فهم ابن خلدون في الاجتماع وفلسفة التاريخ فهو غير بارع
في التحوير ، ولا أمين في العرض كما رأيناه فيما مرّ من خلط عنده وخبط ممّا
لايخفى على القارئ النبيه.

وإن لم يكن هو بدعاً في ذلك فقد رأينا قبله من وافق ابن خلدون في
هواه ، ومن بعده من شايعه على دعواه ، وذلك هو الشهاب الخفاجي الّذي
بهت الشيعة كما بهتهم ابن خلدون ، فقال : « وقد ادعى الرافضة أنّ الكتاب

٤٣٤

الّذي أراد النبيّ صلّى الله عليه(وآله)وسلّم كتابته كان فيه الوصية بخلافة
عليّ ، فلذا منع منه عمر. وهو كذب منهم عليه » (1) .

وبقيت تهمته للشيعة بوضع حديث الرزية منطوقاً ومفهوماً حتى الأمس
القريب. ألم يقل محمّد عزة دروزة في كتابه (تاريخ العرب في الإسلام
تحت راية الخلفاء الراشدين) : « ونحن لا نستبعد أن تكون الرواية من
مصنوعات الشيعة المتأخرين » (2) .

أقول : ونحن قد ذكرنا مصادر الرواية وعرضنا أسماء الرواة حسب القرون
ولم نذكر فيهم من الشيعة أحداً ، فهل كلّ أُولئك الحفاظ كانوا في غفلة عما رآه
دروزة أو أنها منه طعنة الهمزة اللمزة!

والرجل بالرغم من كثرة كتبه التأريخية لا أراه إلّا راجلاً في تميز
أحداث التاريخ ، ولست متجنياً عليه ، فهنا يقرأ له قوله بعد ذكر رواية
الطبري في إجبار أمير المؤمنين على البيعة لأبي بكر : « ونرجح أنّ هذا
الخبر مصنوع مدسوس من الشيعة » (3) ، ولم يَزَل يرسل في غير سدد ، حتى
جعل رواية أبي بكر في مطالبة الزهراء عليها‌السلام بفدك فروى لها « إنا لا
نورّث ما تركناه صدقة » ، هي نهاية الخصام وبها انقطع الكلام ، ولعلّه يحاول
من طرف خفي إشارة إلى الوئام فقال : « ويكون ماعدا ذلك من مزيدات
الشيعة ومدسوساتهم » (4) .

_______________________

(1)نسيم الرياض بشرح الشفاء للقاضي عياض للشهاب الخفاجي 4 / 284 ط أفست دار
الكتاب العربي بيروت.

(2)تاريخ العرب في الإسلام تحت راية الخلفاء الراشدين / 16 ـ17.

(3)نفس المصدر / 16 ـ 17.

(4)نفس المصدر.

٤٣٥

وكم له ولغيره من تهم بهتوا بها الشيعة ، ومرّت نحو هذه النغمة عن غيره ،
ومهما يكن فالجواب على بهتانه ، يعلم ممّا مرّ في ردّ ابن خلدون وبطلانه وممّا
مرّ فيما سبق من بيان ماذا أراد أن يكتبه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فراجع.

ثمّ إنّ من الغريب من ابن خلدون وأضرابه من الناصبة ذكرهم لقول
عائشة : « مات بين سحري ونحري » ، من دون أي تعليق عليه ، أو توجيه له ،
مع أنّها لمّا حدثت به من سألها عن مرض النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجاء السائل فذكر
ذلك لحبر الأمة عبد الله بن عباس فاستنكر عليه قولها وأبى تصديقها في
زعمها ، فقال له : « أتعقل والله لتوفي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإنه لمستند إلى
صدر عليّ » (1) ، وفي حديث ثانٍ رواه الطبراني عن ابن عباس قال : « جاء ملك
الموت إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مرضه الّذي قبض فيه فأستأذن ورأسه في
حجر عليّ » (2) .

وفي حديث ثالث عن ابن عباس أيضاً : « انّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثقل وعنده عائشة
وحفصة إذ دخل عليّ عليه‌السلام فلمّا رآه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رفع رأسه ثمّ قال أدن مني
أدن مني فأسنده إليه فلم يزل عنده حتى توفي » (3) .

فهذا يعني أنّ قول عائشة لم يكن متفقاً على صحته بل هو مرفوض من قبل
حبر الأمة عبد الله بن عباس وهو من أهل البيت الّذين كانوا عند النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين
الوفاة. فكان على من يقول بقول عائشة معالجة ماورد عن ابن عباس في رفضه ،
_______________________

(1)طبقات ابن سعد 2 ق 2 / ط ليدن.

(2)مجمع الزوائد 9 / 35.

(3)نفس المصدر 9 / 36.

٤٣٦

وليعلم القارئ أنّه لم يكن ابن عباس وحده يرفض ذلك فعن أم سلمة ورد مثل
ذلك كما مرّ (1) وعن عمر مايؤيده أيضاً(2) .

أيّهما الشفيق الرفيق النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أم عمر؟

لقد مرّت بنا كلمة عمرـمراراًـ« فمنعت من ذلك اشفاقاً وحيطة على
الإسلام »؟ كما مرّ في أقوال علماء التبرير انّ ذلك اشفاقاً منه على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم
ومرت كلمته الأخرى : « أراد أن يذكره للأمر في مرضه فصددت عنه خوفاً من
الفتنة » ، وليس فيها من الشفقة شيء ، وقد استوجب ذلك علينا أن نعمل الموازنة
في الشفقة على المسلمين والرفق بهم بين الرسول الكريم الأمين صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبين عمر.

وإنّها من سخرية القدر واحدى الكبر ، ولكن فرضها علينا أبناء عمر ورددها
الببغائيون فلا ضير ولاجير في ذلك :

فالرسول الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الّذي وصفه الله تعالى بقوله :( وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ
عَظِيمٍ
) (3) ، وقال فيه تعالى مخاطباً المؤمنين :( لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ
عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ
) (4) ، فهل بعد هذا من
مجال للقول؟ أم هل يكون من المقبول والمعقول أن لايكون شفيقاً رفيقاً
بالمؤمنين ويكون عمر هو الشفيق الرفيق فيحتاط على الإسلام ويخاف الفتنة؟!

_______________________

(1)مسند أحمد 6 / 300 ط مصر الاُولى ، والخصائص للنسائي / 40 ط التقدم بمصر ،
ومستدرك الحاكم 3 / 138ـ139 ، والرياض النضرة 2 / 180 ط الخانجي ، وذخائر العقبى
/ 72 ط القدسي ، ومجمع الزوائد 9 / 112 ، وتذكرة الخواص / 47 ط الغري.

(2)طبقات ابن سعد 2 ق 2 / 51.

(3)القلم / 4.

(4)التوبة / 128.

٤٣٧

سبحانك اللّهم إن هذا إلّا بهتان عظيم. وإشفاق عمر على من؟ أعلى
النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد صدمه بكلمته حتى أغمي عليه! أم على المسلمين وقد أضاع
عليهم نعمة الإعتصام من الضلالة بالكتاب؟ وكيف يصدق ذلك إنسان في مثل
عمر الّذي كان في أخلاقه وألفاظه جفاء وعنجهية ظاهرةـكما وصفه أبن أبي
الحديدـوهو ممّن لايتهم عليه (1) فهل يُصدّق في زعمه؟ اشفاقاً وحيطةً على
الإسلام؟

وعمر هو الّذي قال فيه الصحابة لأبي بكر حين أراد استخلافه عليهم بعده :
« تستخلف علينا فظاً غليظاً ، فلو قد ولينا كان أفظ وأغلظ فما تقول لربك إذا
لقيته » (2) .

وعمر هو الّذي خطب في الناس فقال : « بلغني انّ الناس قد هابوا شدتي ،
وخافوا غلظتي ، قد كان عمر يشتد علينا ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين أظهرنا ، ثمّ أشتد علينا
وأبو بكر رضي‌الله‌عنه والينا دونه ، فكيف الآن وقد صارت الأمور إليه. ولعمري من قال
ذلك فقد صدق » (3) .

وهو الّذي وصف الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام في خطبته الشقشقية أيامه
وطبيعته في الحكم فليرجع إليها.

أهكذا إنسان يمكن أن يوصف بأن ماصدر منه بتلك الغلظة والشدة ، ونبّو الكلمة
وجفوة اللهجة ، كان منه ذلك إشفاقاً وحيطةً وخوف الفتنة!! والرسول الصادق الأمين
الّذي يسدّده الوحي ( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ ) (4) ، ويقول
_______________________

(1)شرح النهج لابن أبي الحديد 1 / 183 ط محققة.

(2)كنز العمال 3 / 136 ط الأولى.

(3)اُنظر حياة الحيوان للدميري 1 / 49.

(4)النجم / 3 ـ 4.

٤٣٨

لأمته : (ائتوني بدواة وكتف لأكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً) ليس شفيقاً
على أمته!؟ وعمر بمنعه يكون منه اشفاقاً وحيطة على الإسلام؟! ولامجال لأن
يكونا معاً شفيقين لتعارضهما في مورد الشفقة ، وهكذا تضيع المقاييس عند ضياع
العقول في متاهات الهوى ، فما ذكر من تعليل زعم الشفقة من عمر تعليل عليل ،
وليس هو بمقبول ، حتى لدى السذج وبسطاء العقول ، فضلاً عن النابهين
والباحثين من العلماء الواعين.

عملية التزوير من أنحاء التبرير :

لمّا كان حديث الكتف والدواة واضح الدلالة على أنّ المراد منه كان هو
تأكيد النص على ولاية عليّ عليه‌السلام ولذلك منع منه عمر كما أعترف هو بذلك ،
وقد مرّ ذكره والإشارة إليه مراراً. وكذلك فهمه من تابعه على منعه. ولكن
تعرض للمسخ والتشويه والتشكيك ولم يسلم من زبانية الوضاعين ، ويزيد القارئ
إيماناً بأنّهم فهموا ذلك منه ، ما تشبث به رواة السوء وسجلته الأقلام المشبوهة
تشويهاً للحقيقة ، وإمعاناً في غثيثة التزوير حيث انبرى فريق منهم إلى مسخ أصل
الحديث وتحوير نصه ، بعد ان عجزوا في تبرير ما قاله عمر وما ساقوه من أعذار
تافهة. فذكروا انّ الحديث كان لصالح أبي بكر ، فرووا في ذلك عن عائشة وعن
أخيها عبد الرحمن. فقد أخرج مسلم وأحمد والبغوي وغيرهم عن عائشة قالت :
« قال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مرضه الذي مات فيه : (ادعي لي عبد الرحمن بن أبي
بكر أكتب لأبي بكر كتاباً لايختلف عليه أحد). ثمّ قال : (معاذ الله أن يختلف
المؤمنون في أبي بكر) » (1) .

_______________________

(1)وروى نحو هذا الحديث كثير من المؤلفين في الحديث والتاريخ. فراجع مصابيح السنّة
للبغوي 2 / 194 ، وصواعق ابن حجر / 13 ، ومشكاة المصابيح 3 / 220 ، وشرح مشارق الأنوار

٤٣٩

وأخرج ابن عساكر كما نقله عنه المتقي في كنز العمال عن عبد الرحمن
ابن أبي بكر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : (إئتني بدواة وكتف أكتب كتاباً لاتضلوا
بعده أبداً). ثمّ قال : (يأبى الله والمؤمنون إلّا أبا بكر) (1) .

قال ابن أبي الحديد في شرح النهج : « وضعوه في مقابلة الحديث المروي
عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مرضه : (إئتوني بدواة وبياض أكتب لكم ما لاتضلون بعده أبداً) ،
فاختلفوا عنده ، وقال قوم لقد غلبه الوجع حسبنا كتاب الله » (2) .

وفي قول هذا المعتزلي وهو غير متهم على الوضاعين البكريين وهو من
علماء التبرير أيضاً. ما يغني عن التعليق على ما في الحديثين من نظر ، وفيه
مايكفينا للتدليل على كذب الحديثين.

ففي آخر الحديث الأوّل : (معاذ الله أن يختلف المؤمنون في أبي بكر)
وهذا ما قد وقع في السقيفة وخارجها ، وتخلف عن بيعته أمير المؤمنين عليه‌السلام ومعه
بنو هاشم وتخلف عنها سعد بن عبادة ومن معه من الأنصار وتخلف عنها سلمان
وأبو ذر والمقداد وعمار وبريدة و و و فهل يجرأ أحد ان يقول هؤلاء جميعاً
ليسوا من المؤمنينـوالعياذ باللهـمعاذ الله أن يقول ذلك أحد ، كيف وهم من
خيرة المؤمنين وفيهم أوّل المؤمنين إيماناً وهو عليّ عليه‌السلام .

فمعاذ الله أيضاً أن يكون النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال كذلك.

_______________________

لابن الملك 2 / 258 ، وبهجة المحافل للعامري ، وشرح البهجة للأشخر اليماني ، ونور
الأبصار للشبلنجي ، وقد مرّ اعتماد ابن حزم في كتابه الأحكام 7 / 123 على هذا الحديث
في حل ما أستشكل عليه من حديث أبن عباس في حديث الرزية. ومرّ منا التعقيب عليه
في أقوال علماء التبرير.

(1)تهذيب تاريخ ابن عساكر 3 / 139 ، ومنهاج السنّة لابن تيمية 3 / 135 ط الاُولى. وغير ذلك.

(2)شرح النهج لابن أبي الحديد 3 / 17 ط الاُولى.

٤٤٠

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487