موسوعة عبد الله بن عبّاس الجزء ١

موسوعة عبد الله بن عبّاس12%

موسوعة عبد الله بن عبّاس مؤلف:
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
تصنيف: متون حديثية
ISBN: 964-319-501-5
الصفحات: 487

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 487 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 158976 / تحميل: 6193
الحجم الحجم الحجم
موسوعة عبد الله بن عبّاس

موسوعة عبد الله بن عبّاس الجزء ١

مؤلف:
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
ISBN: ٩٦٤-٣١٩-٥٠١-٥
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

الازل في جهة [ من جهات ](١) العالم، لان ما هي عليه من الحجم والجثة يوجب ذلك.

ثم لا يخلو كونها في تلك الجهة اما أن تكون للنفس أو لمعنى قديم أو لمعنى محدث أو بالفاعل.

فاذا بين فساد جميع ذلك علم أنها لم تكن قديمة ولا يجوز أن تكون في الازل في جهة الفاعل، لان من شأن الفاعل أن يتقدم على فعله، ولو تقدم فاعلها عليها لكانت محدثة، لان القديم لا يمكن أن يتقدم عليه غيره، والمعنى المحدث لا يوجب صفة في الازل.

وكونها في الجهة للنفس يوجب استحالة انتقالها، لان صفات النفس لا يجوز تغيرها وزوالها، والمعلوم ضرورة صحة انتقالها، فبطل أن يكون كذلك للنفس.

ولا يجوز أن تكون كذلك لمعنى قديم، لانها لو كانت كذلك لوجب اذا انتقل الجسم أن يبطل ذلك المعنى، لان وجوده فيه على ما كان يوجب كونه في الجهتين، وذلك محال.

والانتقال لا يجوز على المعنى، لانه من صفات الجسم.

فقد بطل جميع الاقسام، وفي بطلان جميعها بطلان كونها قديمة وثبوت كونها محدثة، لانه لا واسطة بين الامرين على ما بيناه.

(وبيان الطريقة الثانية) أن نبين أربعة فصول: أحدها أن في الاجسام معان غيرها، والثاني أن نبين أن تلك المعاني محدثة، والثالث أن نبين أن الجسم لم يسبقها في الوجود، والرابع أن مالم يسبق المحدث يجب أن يكون محدثا.

والذي يدل على الفصل الاول: انا نعلم أن الجسم يكون على صفات من

___________________________________

(١) الزيادة من ج.

٢١

اجتماع وحركة فتتغير إلى أن يصير مفترقا وساكنا، فلابد من أمر غيره، لانه لو لم يكن أمر لبقي على ما كان عليه.

ولا يجوز أن يكون ذلك الامر نفس الجسم، ولا ما يرجع اليه من وجود أو حدوث أو جسمية، لان جميع ذلك يكون حاصلا مع انتقاله من جهة إلى غيرها، فكيف يكون هو المؤثر في تغير الصفات.

ولا يجوز أن يكون ذلك لعدم معنى، لان عدم معنى لا اختصاص له بجسم دون جسم ولا بجهة دون غيرها، وكان يجب أن تتغير الاجسام كلها وتنتقل إلى جهة تغيرها، وذلك باطل.

ولا يجوز أن يكون كذلك بالفاعل، لانه: ان أريد بذلك أنه فعل فيه معنى أوجب تغيره وانتقاله، فذلك وفاق وهو المطلوب.

وان أرادوا أن الفاعل جعله على هذه الصفات ولم يفعل معنى فذلك باطل، لان من شأن ما يتعلق بالفاعل من غير توسط معنى أن يكون القادر عليه قادرا على احداث تلك الذات.

ألا ترى أن من قدر على احداث كلامه قدر على أن يجعله على جميع أوصافه من أمر ونهي وخبر وغير ذلك، وكلام الغير لما لم يكن قادرا على احداثه لم يكن قادرا على جعله أمرا ونهيا وخبرا.

والواحد منا يقدر على أن يجعل الجسم متحركا أو ساكنا أو مجتمعا أو متفرقا ولا يقدر على احداثه، فدل ذلك على أن هذه الصفات غير متعلقة بالفاعل، فلم يبق بعد ذلك شئ يعقل الا أنه صار كذلك لمعنى.

والذي يدل على حدوث ذلك المعنى أن المجتمع اذا فرق أو المتحرك اذا سكن لا يخلوا أن يكون ذلك المعنى الذي كان فيه باقيا كما كان أو انتقل عنه أو عدم.

ولا يجوز أن يكون موجودا كما كان، لان ذلك يوجب كونه مجتمعا متفرقا متحركا ساكنا، لوجود المعنيين معا فيه في حالة واحدة، وذلك محال

٢٢

ولا يجوز أن يكون انتقل عنه، لان الانتقال من صفات الجسم دون العرض، ولانه لو انتقل لم يخلو اما أن يكون انتقل مع جواز ألا ينتقل أو وجب انتقاله.

ولو كان انتقاله جائزا لاحتاج إلى معنى كالجسم، وذلك يؤدي إلى اثبات معان لا نهاية لها، ولو وجب انتقاله لادى إلى وجوب انتقال الجسم، والمعلوم أن الجسم لا يجب انتقاله ان لم ينقله ناقل، فلم يبق من الاقسام الا أنه عدم.

ولو كان قديما لما جاز عدمه، لانه قديم لنفسه، وصفات النفس لا يجوز خروج الموصوف عنها.

ألا ترى أن السواد لا يجوز بياضا ولا الجوهر عرضا ولا الحركة اعتمادا وغير ذلك، لان هذه الاشياء على ما هي عليه لنفسها فلا يجوز عليها التغيير.

فلما ثبت عدمها على أنها لم تكن قديمة، واذا لم تكن قديمة وجب كونها محدثة.

والذي يدل على الفصل الثالث - وهو أن الجسم لم يخل منها هو أنه معلوم ضرورة أن الاجسام للعالم لا تخلو من أن تكون مجتمعة أو مفترقة أو متحركة أو ساكنة، فثبت بذلك أنها لا تخلو من الاجتماع والافتراق.

ومن قال ان الاجسام كانت هيولى لا مجتمعة ولا مفترقة.

ربما أشار بذلك إلى أنها كانت معدومة فسماها موجودة، كما يقولون موجود بالقوة وموجود في العلم، وذلك عندنا ليس بوجود في الحقيقة.

ومتى أرادوا ذلك كان خلافا في العبارة لا يعتد به.

وأما الفصل الرابع فالعلم به ضرورة، لان من المعلوم ان كل ذاتين وجدا معا ولم تسبق احداهما الاخرى، فان حكمهما حكم واحد [ في الوجود ](١) ألا ترى انا اذا فرضنا ميلاد زيد وعمرو في وقت واحد فلا يجوز مع ذلك أن يكون أحدهما أسبق من الاخر لان ذلك متناقض، وكذلك اذا فرضنا أن الجسم

___________________________________

(١) الزيادة من ر.

٢٣

لم يسبق المحدث ولم يخل منه علمنا أن حكمه حكمه في الحدوث.

وقول من قال: ان فيها معان لا نهاية له(١) شيئا قبل شئ لا إلى أول.

باطل لان وجود مالا نهاية له محال، لانه كان يصير من شروط وجود كل واحد منها أن يتقدم قبله مالا نهاية له، فلا يصح وجود شئ منها البتة، والمعلوم خلافه.

على أن القائل بذلك قد ناقض، لانه اذا قال انها محدثة اقتضى أن لها أولا، فاذا قال بعد ذلك لا أول لها اقتضى ذلك قدمها، وذلك متناقض.

وأيضا فاذا قال الجسم قديم أفاد ذلك وجوده في الازل، [ فاذا سلم أنه لا يخلو من معنى فقد أثبت فيه معنى في الازل](٢) ، والمعنى الموجود في الازل يكون قديما، فيكون في ذلك رجوع عن كونها محدثة.

أو يقول فيما لم يزل لم يكن فيها معنى فيكون فيها رجوع في أن الجسم لم يخل من معنى، وذلك فاسد.

فقد بان بهذه الجملة حدوث الاجسام، ثم تدل فيما بعد على ان لها صانعا يخالفها.

وأما الطريقة الثانية فهو أن نبين أن ههنا معان كالالوان والطعوم والقدرة والحياة والشهوة والنفار وكمال العقل، ونبين أن أحدا من المخلوقين لا يقدر على شئ منها، فيعلم عند ذلك أن صانعها مخالف لها.

وبيان ذلك: أن الواحد منا قد يدعوه الداعي إلى تبيض الاسود أو تسود الابيض أو يحيى ميتا أو يقدر عاجزا أو يكمل عقل من لا عقل له، وهو قادر متصرف غير ممنوع والدواعي متوفرة، ويبالغ في ذلك ويجتهد في تحصيله مع احتمال المحل لذلك فيتعذر ولا يتحصل لا لوجه معقول الا أنه ليس بمقدور له، فيعلم عند ذلك أن صانعها مخالف لها ومباين لنا، فيكون ذلك علما بالله

___________________________________

(١) كذا في النسختين ولعله « لا نهاية لها ».

(٢) الزيادة ليست في ر.

٢٤

على الجملة.

فاذا عرف بعد ذلك صفاته وما يجوز عليه وما لا يجوز عليه ومالا يجوز حصل علمه به على طريق التفصيل.

فصل: (في اثبات صانع العالم وبيان صفاته)

اذا ثبت حدوث الاجسام بما قدمنا، فالذي يدل على أن لها محدثا هو ما ثبت في الشاهد من أن الكتاب لابد لها من كاتب والبناء لابد له من بان والنساجة لابد لها من ناسج وغير ذلك من الصنائع.

وانما وجب ذلك فيها لحدوثها، فيجب أن تكون الاجسام اذا شاركتها في الحدوث أن تكون محتاجة إلى محدث.

فان قيل: كيف تدعون العلم بذلك وههنا من يخالف في ذلك ويقول الكتابة لا تعلق لها بالكاتب ولا البناء بالباني ولا غير ذلك من الصنائع، وهو الاشعري وأصحابه، لان عندهم أن هذه الصنائع لا كسب للعبد فيها وانما هي من فعل الله وحده.

قلنا: الاشعري لم يدفع حاجة البناء إلى بان ولا الكتابة إلى كاتب، وانما قال فاعلها هو الله تعالى دون العبد.

ونحن لم ندع العلم بحاجة هذه الافعال إلى فاعل معين بل ادعينا حاجتها إلى صانع ما في الجملة.

ثم هل هو القديم أو الواحد منا؟ موقوف على الدليل، ودليله هو أنه يجب وقوع هذه الافعال بحسب دواعينا وأفعالنا ويجب انتفاؤها بحسب صوارفنا وكراهتنا، فلو كانت متعلقة بغيرنا لما وجب ذلك، كما لا يجب ذلك في طولنا وقصرنا وخلقنا وهيأتنا لم لما تكن متعلقة بنا، فالوجوب الذي اعتبرناه يبطل تعلقها بغيرنا.

٢٥

فان قيل: ما أنكرتم أن يكون ذلك [ بالعادة دون أن يكون ](١) واجبا.

قلنا: ذلك فاسد من وجهين: أحدهما: ان ذلك يبطل الفرق بين الواجب والمعتادة، فيؤدي إلى أنه لا فرق بينهما، وان يقول قائل انتفاء السواد بالبياض بالعادة وحاجة العلم إلى الحياة بالعادة وغير ذلك من الواجبات، فبأي شئ فرقوا بينهما فهو فرقنا بين أن يكون ذلك واجبا أو معتادا.

الثاني: أنه لو كان ذلك بالعادة لوجب أن يكون من لا يعرف العادات ولا نشأ بين أهلها أن يجوز أن تبنى دار من قبل نفسها أو تنكتب كتابة طويلة بلا كاتب أو أن تنسج نساجة عجيبة من غير ناسج وغير ذلك.

والمعلوم خلاف ذلك، لانه لا يجوز مثل ذلك الا مؤف العقل فاسد التصور.

فان قيل: لو خلق الله تعالى عاقلا ابتداء‌ا، فشاهد قصرا مبنيا وكتابة هل كان يعلم أن لها بانيا وكاتبا أم لا، فان قلتم يعلم قلنا وأي طريق له إلى ذلك، وان قلتم لا يعلم بذلك فقد بطل ادعاؤكم العلم.

قلنا: من خلقه الله وحده ابتداء‌ا وشاهد الكتابة أو القصر فهو لا يعلمهما محدثين متجددين [ فلذلك لا يعلم لهما بانيا وكاتبا، فيحتاج أن يتأمل حالهما حتى يعلمهما محدثين متجددين ](١) ، فاذا علمهما متجددة الوجود علم تعلقهما بفاعل.

ونظير ذلك أن من شاهد الاجسام قبل النظر في حدوثها، فانه لا يعلم أن لها محدثا، فاذا تأمل وعلم حدوثها علم عند ذلك ان لها محدثا.

وانما قلنا ان علة حاجة هذه الحوادث الينا حدوثها لا غير لامرين: أحدهما: أن الذي يتجدد عند دواعينا حدوث

___________________________________

(١) الزيادة ليست في ر.

٢٦

هذه الصنائع وينتفى عند صوارفنا حدوثها أيضا، فعلمنا أن علة حاجتها الينا حدوثها.

والثاني: أن هذه الاشياء لها ثلاثة أحوال: حال عدم، وحال حدوث، وحال بقاء.

فهي لا تحتاج الينا في حال عدمها، لكونها معدومة في الازل، وهي تستغني عني في حال بقائها، وانما تتعلق بنا وتحتاج الينا في حال حدوثها، فعلمنا بذلك أن علة حاجتها الينا الحدوث، فعند ذلك نحكم بحاجة الاجسام، اذا ثبت حاجة حدوثها إلى محدث للاشتراك في علة الحاجة.

وهذه الجملة كافية في هذا الباب، فان استيفاء ذلك ذكرناه في شرح الجمل، وفي هذا القدر كفاية انشاء الله تعالى.

وأما ما يجب أن يكون عليه من الصفات: فأول ذلك أنه يجب أن يكون قادرا، لان الفعل لا يصح أن يصدر الا من قادر.

ألا ترى أنا نجد فرقا بين من يصح منه الفعل وبين من يتعذر عليه ذلك، فلابد من أن يكون من صح منه الفعل مختصا بأمر ليس عليه من تعذر عليه ذلك والا تساويا في الصحة أو التعذر [ وقد علمنا خلافه ](١) .

وأهل اللغة من اختص بهذه المفارقة يسمونه قادرا، فأثبتت المفارقة لمقتضى العقل والتسمية لاجل اللغة، فاذا كان صانع العالم صح منه الفعل وجب أن يكون قادرا.

على أنا دللنا على أن أفعالنا محتاجة الينا دال على حاجتها إلى من له صفة المختارين، فاسنادها إلى من ليس له صفة المختارين في البطلان كبطلان اسنادها إلى مؤثر، وكلاهما فاسدان.

على أن صانع العالم لا يخلو من أن يكون قادرا مختارا أو موجبا هو علة أو سبب، ولا يجوز أن يكون علة ولا سببا، لانهما لا يخلو من أن يكونا قديمين أو محدثين، فلو كانا محدثين لاحتاجا إلى علة أخرى أو سبب آخر، وذلك يؤدي إلى مالا نهاية له من العلل والاسباب، وان كانا قديمين وجب أن يكون

___________________________________

(٢) الزيادة من ر.

٢٧

العالم قديما، لان العلة توجب معلولها في الحال والسبب يوجب المسبب اما في الحال أو الثاني، وكلاهما يوجبان قدم الاجسام وقد دللنا على حدوثها، فبطل بذلك أن يكون صانع العالم موجبا ولم يبق بعد ذلك الا أن يكون مختارا له صفة القادرين.

واذا ثبت كونه قادرا وجب أن يكون حيا موجودا، لان من المعلوم أن القادر لا يكون الا كذلك، فثبت أنه تعالى قادر حي موجود.

وأما الذي يدل على أنه عالم هو أن الاحكام ظاهر في أفعاله كخلق الانسان وغيره من الحيوان، لان فيه من بديع الصنعة ومنافع الاعضاء وتعديل الامزجة وتركيبها على وجه يصح معه أن يكون حيا لا يقدر عليه الا من هو عالم بما يريد فعله، لانه لو لم يكن عالما لما وقع على هذا الوجه من الاحكام والنظام ولاختلف في بعض الاحوال، ولما كان ذلك واقعا على حد واحد ونظام واحد واتساق واحد دل على أن صانعه عالم.

وكذلك خلقه الثمار في أوقات مخصوصة لا تختلف وفي كل شجر ما هو من جنسه وفي كل حيوان من شكله دال على أن خالق ذلك عالم، والا لكان يجوز أن يخلق الفواكه الصيفية في الشتاء والشتوية في الصيف، ويخلق في البهيمة من جنس ابن آدم أو في ابن آدم من جنس البهائم، أو يخلق في النخل نبقا وفي الرمان تفاحا وغير ذلك.

وفي علمنا بالمطابقة في هذا الباب دليل على أن صانعها عالم بما صنعه.

ألا ترى أن في المشاهد لا تقع الكتابة الا ممن هو عالم بها، ولا النساجة الا ممن هو عالم بترتيبها وكيفية ايقاعها، وغيره وان كان أقدر منه يتعذر عليه مثله لفقد علمه، والضعيف القليل القدر يصح منه ذلك لعلمه بكيفية ايقاعه.

واذا كان القدر اليسير من أفعالنا المحكمة لا تقع الا من عالم، فألا تقع

٢٨

الافعال التي أشرنا اليها الزائدة على احكام كل محكم أولى وأحرى، فثبت بذلك أن صانع العالم عالم.

ولا يجوز أن يكون بصفة الظانين ولا المعتقدين، [ لان الصنائع المحكمة تحتاج إلى من له صفة العالمين دون الظانين المعتقدين ](١) ، لانها تحتاج إلى أمر يلزم كمال العقل ولا يخرج عنه من ثبوت عقله، والظن والاعتقاد الذي ليس بعلم لا يوجب لزومه لكمال العقل.

فوجب من ذلك أن يكون صانع العالم عالما دون أن يكون ظانا أو معتقدا.

ويجب أيضا أن يكون مدركا للمدركات سميعا بصيرا، لان الحي الذي لا آفة به متى وجدت المدركات وارتفعت الموانع واللبس وجب أن يكون مدركا لها.

ألا ترى أن من كانت حواسه صحيحة ووجدت المرئيات وارتفعت الموانع واللبس وجب أن يكون رائيا لها، وكذلك اذا وجدت الاصوات وسمعه صحيح وجب أن يدركها ويفصل بين حاله وهو مدرك لها وبين أن لا يدركها.

وهذا الفرق لا يستند إلى كونه حيا، لانه كان حيا قبل ذلك ولم يجد نفسه كذلك ولا إلى كونه عالما لانه يكون عالما بها قبل ادراكها(٢) ولا يجد نفسه على هذه الحال.

ألا ترى أن الانسان يعلم الصوت بعد تقضيه ويعلمه أيضا قبل وجوده ولا يجد نفسه على مايجد عليه اذا أدركه، وكذلك المتألم يدرك الالام وان لم يعلمها.

فثبت بذلك أن الادراك غير العلم والحياة.

واذا كان القديم تعالى حيا والآفات والموانع لا تجوز عليه لانه ليس يرى بحاسة ووجدت المدركات وجب أن يكون مدركا لها.

وليس لواحد أن يقول: ان الواحد منا يدرك بمعنى هو ادراك، والمعنى ولا يجوز عليه تعالى، وذلك أن الادراك ليس بمعنى، وانما الواحد منا يدرك لكونه حيا، بدلالة أنه لو كان معنى لجا زأن يكون حيا وحواسه صحيحة

___________________________________

(١) الزيادة ليست في ر.

(٢) أضاف في ر هنا « وبعد انقضائها ».

٢٩

والموانع مرتفعة واللبس زائل ولو وجد المدركات فلا يدركها بأن لا يفعل فيه الادراك، وذلك يؤدي إلى السفسطة والشك في المشاهدات وأن لا يثق بشئ من المدركات، وما أدى إلى ذلك يجب أن يكون باطلا.

ويجب أيضا أن يكون سميعا بصيرا، لانه حي لا آفة به.

وفائدة السميع البصير أنه على صفة يجب معها أن يسمع المسموعات ويبصر المبصرات، وذلك يرجع إلى كونه حيا لا آفة به.

وعلى هذا يوصف تعالى بذلك في الازل ولو كان له بكونه سميعا بصيرا صفة زائدة على ما قلناه لجاز أن يكون الواحد منا حيا لا آفة به ولا يوصف بأنه سميع بصير، والمعلوم خلاف ذلك.

وأما سامع مبصر فمعناه أنه مدرك للمسموعات والمبصرات، وذلك يقتضي وجود المسموعات والمبصرات، ولذلك لا يوصف بهما في الازل.

وأما شام وذائق فليس المراد بهما كونه مدركا، بل المستفاد بالشام أنه قرب الجسم المشموم إلى حاسة شمه، والذائق أنه قرب الجسم المذوق إلى حاسة ذوقه.

ولذلك يقولون شممته فلم أجد له رائحة، وذقته فلم أجد له طعما ولا يقولون أدركته فلم أدركه لانه مناقضة، وجرى مجرى قوله أصغيت اليه فلم أسمعه، فهاتان يكون؟ سبب الادراك على وجه دون أن يكون نفس الادراك.

ويجب أيضا أن يكون تعالى مريدا وكارها، لانه ثبت أنه آمر وناه ومخبر والامر لا يقع الا ممن هو مريد للمأمور به، والنهي لا يقع نهيا الا مع كراهية المنهي عنه، والخبر لا يقع خبرا الا بارادة كونه خبرا.

بدلالة أن هذه الصيغ كلها توجد فيما ليس بأمر ولا نهي ولا خبر.

٣٠

ألا ترى أن قوله تعالى( وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُم بِصَوْتِكَ ) (١) وقوله تعالى( اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ ) (٢) بصورة لامر والمراد به التهديد، وقوله تعالى( فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ ) (٣) صورته صورة الامر والمراد به التحدي، وقوله تعالى( وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا ) (٤) المراد به الاباحة.

ونظائر ذلك كثيرة جدا، فلا يمكن مع ذلك أن يكون آمرا لجنسه ولا لصيغته ولا لحدوثه، لان جميع ذلك يوجد فيما ليس بأمر، فلم يبق الا أنه يكون آمرا لارادة المأمور به.

والكلام في النهي والخبر مثل ذلك.

وأيضا فقد ثبت أنه تعالى خلق الخلق ولا بد أن يكون له فيه غرض، لانه ان لم يكن له فيه غرض كان عبثا، وذلك لا يجوز عليه.

ولا يجوز أن يكون خلقهم لنفع نفسه، لان ذلك لا يجوز عليه، لانا سنبين استحالة المنافع عليه.

فلم يبق الا أنه خلق الخلق لمنافعهم، ومعناه أنه أراد نفعهم بذلك، فثبت بذلك أنه مريد.

ويجب أن يكون تعالى قديما موجودا في الازل، لانه لو كان محدثا لاحتاج إلى محدث، والكلام في محدثه كالكلام فيه، فكان يؤدي إلى محدثين ومحدثي المحدثين إلى مالا نهاية له، وذلك فاسد.

وأيضا فانه فاعل الاجسام والاعراض المخصوصة من الالوان والطعوم وغيرهما، والمحدث لا يصح منه فعل الجسم ولا هذه الاعراض المخصوصة، فوجب أن يكون من صحت فيه قديما.

وانما كان كذلك لان المحدث لا يكون

___________________________________

(١) سورة الاسراء: ٦٤.

(٢) سورة فصلت: ٤٠.

(٣) سورة البقرة: ٢٣.

(٤) سورة المائدة: ٢.

٣١

قادرا الا بقدرة، والقدرة لا يصح بها فعل الاجسام.

وانما قلنا « ان المحدث لا يصح أن يكون قادرا لنفسه » لانه لو جاز أن يكون الجسم قادرا لنفسه لوجب أن تكون الاجسام كلها قادرة لنفسها لانها متماثلة، والمعلوم خلاف ذلك.

وانما قلنا « ان القدرة لا يقع بها فعل جسم » لانا لو اجتهدنا كل الجهد أن نوجد جسما أو جوهرا لتعذر ذلك، ولا وجه لتعذره الا أنه غير مقدور لنا وبذلك نفصل بين ما هو مقدور لنا وبين ماليس بمقدور لنا.

فبان بذلك أن من صح منه الجسم لا يكون الا قديما ولا يكون محدثا. وهو تعالى متكلم.

والطريق الذي يعلم كونه متكلما السمع، لان العقل لا يدل عليه، وانما يدل على أنه قادر على الكلام، لانه جنس من الافعال وهو قادر على جميع الاجناس.

وقد أجمع المتكلمون على أنه تعالى متكلم لا خلاف بينهم، واجماعهم حجة.

ومعلوم أيضا من دين النبي عليه السلام أنه تعالى متكلم، وان هذا القرآن كلام الله تعالى.

فان قيل: السمع مستند إلى قول النبي عليه السلام، والنبي بأي شئ يعلم أنه متكلم؟ فان قلتم بسمع آخر أدى إلى مالا نهاية له من المستمعين، أو ينتهى إلى مسمع علم عقلا أنه متكلم، والا فما الجواب؟ قيل: لا يمتنع أن يعلم النبي كونه متكلما بكلام يسمعه يتضمن بأنه كلام الله، ويقترن بذلك علم معجز، فيقطع على ذلك أنه كلامه وأنه متكلم.

ويمكن أيضا أن يخلق الله تعالى فيه العلم الضروري بأنه ليس بكلام أحد من المخلوقين وقد تقرر في عقله أن المحدث لابد أن يكون له محدث، فيعلم عند ذلك أنه كلامه القديم، لانه لا واسطة بين القديم والمحدث، واذا بطل انه كلام محدث ثبت أنه كلام قديم.

٣٢

فصل: (في كيفية استحقاقه لهذه الصفات)

يجب أن يكون تعالى قادرا في الازل، لانه لو تجدد كونه قادرا بعد أن لم يكن كذلك وجب أن يكون قادرا بقدرة، لان شرط صحة كونه قادرا عدم المقدور، وهو حاصل في الازل.

ولو كان قادرا بقدرة وجب أن تكون تلك القدرة محدثة، لانها لو كانت قديمة لوجب كونه قادرا في الازل، ولو كانت محدثة لوجب أن يكون من فعله، اذا المحدث لابد له من محدث، ولو كانت من فعله لوجب أن يكون قادرا قبل ايجادها، لان الفعل لا يصدر الا من قادر.

وعلى هذا المذهب هو تعالى لا يكون قادرا الا بعد وجود القدرة، فيتعلق كونه قادرا بوجود القدرة ووجود القدرة بكونه قادر، فلا يصح واحد من الامرين.

وذلك باطل، لانا علمنا خلاف ذلك.

واذا ثبت كونه قادرا في الازل وجب أن يكون قادرا لنفسه، لانه لا يمكن استناد ذلك إلى الفاعل والقدرة المحدثة، لان ما يتعلق بالفاعل من شرطه تقدم الفاعل عليه، وذلك لا يصح في الحاصل في الازل.

والقدرة المحدثة لا توجب صفة في الازل، لان معلول العلة لا يتقدمها.

ولا يجوز أن يكون قادرا بقدرة قديمة، لانه كان يجب أن تكون تلك القدرة مثلا له ومشاركة له في جميع صفاته، وهو تعالى مشارك للقدرة في جميع صفاتها لاشتراكهما في القدم الذي هو صفة النفس، والاشتراك في صفة النفس توجب التماثل، كماأن ما شارك السواد في كونه سوادا كان سوادا،

٣٣

وما شارك الجوهر في كونه جوهرا كان جوهرا.

وكان يجب من ذلك أن يكون تعالى بصفة القدرة والقدرة بصفة القادر، وذلك باطل، فلم يبق الا أنه قادر لنفسه.

وبمثل ذلك يعلم [ أنه عالم لنفسه، لانه لو تجدد ](١) كونه عالما بعد أن لم يكن لوجب أن يكون عالما بعلم محدث، اذ لا شرط يقف كونه عالما عليه، لان المعدوم يصح العلم به كما يصح بالموجود، بدلالة أنا نعلم ما كان أمس ونعلم ما يكون في الغد، وكل ذلك معدوم.

ولو كان عالما بعلم محدث لوجب أن يكون من فعله، اذ لا أحد يقدر ان يفعل علما لا في محل لو صح وجود غيره، ولو كان هو الفاعل له لوجب ان يتقدم او لا كونه عالما، لان العلم لا يقع الا من عالم، لان جميع الوجوه التي يقع الاعتقاد عليها فيكون علما يتقدم أو لا كون فاعله عالما، وذلك يؤدي إلى تعلق كونه عالما بوجود العلم ووجود العلم بكونه عالما.

واذا ثبت بذلك كونه قادرا عالما بنفسه لوجب أن يكون قادرا على جميع الاجناس ومن كل جنس على مالا يتناهى، لانه لا مخصص له بقدر دون قدر.

ويجب مثل ذلك في كونه عالما أن يكون عالما بجميع المعلومات، اذ لا مخصص له ببعضها دون بعض، فيجب من ذلك كونه عالما قادرا على مالا يتناهى.

واذا ثبت كونه قادرا عالما في الازل وجب كونه حيا موجودا في الازل، اذ القادر العالم لابد أن يكون حيا موجودا.

ويجب أن يكون موصوفا بأنه سميع بصير في الازل، لانه يفيد كونه على صفة يجب أن يدرك المسموعات والمبصرات اذا وجدت، وذلك يرجع إلى كونه حيا لا آفة به.

ولا يوصف بأنه سامع مبصر في الازل، لانهما يقتضيان وجود المسموعات

___________________________________

(١) الزيادة ليست في ر.

٣٤

والمبصرات في الازل، ووجودهما في الازل محال لانهما محدثان، فلا يصح وجودهما في الازل.

وأما كونه مدركا فانه يتجدد له بعد أن لم يكن اذا وجدت المدركات، والمقتضي له كونه حيا، لان احدا متى حصل كونه حيا ووجدت المدركات وارتفعت الموانع المعقولة وجب أن يكون مدركا، ولو كان المقتضي غير كونه حيا لما وجب ذلك وقد علمنا وجوبه.

فأما كونه مريدا وكارها فيجب ان يحصلا له بارادة محدثة موجودة لا في محل، لانه لا يخلو أن يكون مريدا لنفسه او بارادة قديمة او محدثة فيه أو في غيره من جماد أو حيوان، أو موجودة لا في محل.

ولا يجوز أن يكون مريدا لنفسه، لانه كان يؤدي إلى أن يكون مريدا للشئ كارها له على وجه واحد في وقت واحد، لوجوب سماع صفات النفس.

وما به علمنا كونه مريدا علمنا كونه كارها، واجتماع الصفتين محال، لتضادهما ولانه كان يجب أن يكون مريدا لكل ما يصح حدوثه، فيجب من ذلك أن يكون مريدا للقبائح، وذلك صفة نقص يتعالى الله عن ذلك.

ولا يجوز أن يكون مريدا بارادة قديمة، لانه كان يجب أن تكون تلك الارادة مثلا له لمشاركتها له في القدم على ما بيناه في القدرة والعلم وقد بينا فساده.

ولا يجوز أن يكون مريدا بارادة قائمة به، لانه ليس بمتحيز والمعاني لا تقوم الا بالمتحيز.

ولو وجدت في غيره من الجماد استحال ذلك، لان الارادة يستحيل وجودها في الجماد.

ولو وجدت في حي لوجب أن تكون ارادة لذلك الحي، فلم يبق الا أنه يجب أن يكون مريدا بارادة توجد لا في محل.

فأما كونه متكلما فلا يكون الا بكلام محدث، لان حقيقة المتكلم من وقع

٣٥

منه الكلام الذي هو هذا المعقول بحسب دواعيه وأحواله.

والكلام المعقول ما انتظم من حرفين فصاعدا من هذه الحروف المعقولة التي هي ثمانية وعشرون حرفا اذا وقع ممن يصح منه أو من قبله للافادة.

والدليل على ذلك أنه اذا وجدت هذه الحروف على هذا الوجه سمى كلاما، واذا اختل واحد من الشروط لا يسمى بذلك، فعلمنا أنه حقيقة الكلام متى وقع ما سميناه كلاما [ بحسب دواعيه ](١) واحواله سمي متكلما فعرفنا بذلك حقيقة المتكلم.

واذا ثبت حقيقة الكلام والمتكلم ثبت أن كلامه محدث، لان هذه الاضافة تقتضي ذلك.

وليس لاحد أن يقول: لو لم يوصف تعالى فيما لم يزل بأنه متكلم يوصف بضده من الخرس والسكوت، وذلك أن الخرس انما هو فساد آلة الكلام [ والسكوت هو تسكين آلة الكلام ](٢) ، والله تعالى ليس بمتكلم بآلة فلا يوصف بشئ من ذلك.

ثم ذلك ينتقض بالصائح والصارخ، فانه لا يوصف بالخرس ولا بالسكوت ولا بالكلام، فبطل ما قالوه.

وينبغي أن يوصف كلام الله [ بما سماه الله ](٣) تعالى به من كونه محدثا، قال الله تعالى( مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ ) (٤) ، والذكر هو القرآن بدلالة قوله( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ ) (٥) وقوله( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) (٦)

___________________________________

(١) الزيادة ليست في ر.

(٢) الزيادة ليست في ر.

(٣) الزيادة من ر.

(٤) سورة الانبياء: ٢.

(٥) سورة النحل: ٤٤.

(٦) سورة الحجر: ٩.

٣٦

ولا يجوز أن يكون المراد به الرسول، لقوله( إِلَّا اسْتَمَعُوهُ ) والكلام هو الذي يصح استماعه دون الرسول، ويصفه بأنه مجعول كما قال( إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا ) (١) ، ونعته بأنه منزل قال الله تعالى( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ ) وقال( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ ) ، ويوصف بأنه عربي كما قال( بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ ) (٢) والعربية محدثة.

ولا يوصف بأنه مخلوق، لانه يوهم أنه مكذوب أو مضاف إلى غير قائله لانه المعتاد من هذه اللفظة، قال الله تعالى( إِنْ هَـٰذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ ) (٣) و( إِنْ هَـٰذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ ) (٤) وقال( وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا ) (٥) ، فلم يوصف الكلام بالخلق الا اذا أريد به الكدب أو الانتحال كما يقولون هذه قصيدة مخلوقة ومختلقة اذا كانت منتحلة مضافة إلى غير قائلها.

وهذه الجملة تكفي فيما قصدناه، لان شرح جميعه بيناه في شرح الجمل وذكره يطول به ما قصدناه.

فصل: (فيما يجوز عليه تعالى ومالا يجوز)

لا يجوز أن يكون له تعالى مائية على ما يذهب اليه ضرار بن عمرو الضبي وأبوحنيفة، لان الطريق إلى اثباته تعالى واثبات صفاته أفعاله، فلا يجوز أن يثبت

___________________________________

(١) سورة الزخرف: ٣.

(٢) سورة الشعراء: ١٩٥.

(٣) سورة ص: ٧.

(٤) سورة الشعراء: ١٣٧.

(٥) سورة العنكبوت: ١٧.

٣٧

على صفة لا يدل عليها الفعل اماما بنفسه أو بواسطة، لانا ان لم نراع هذا الاصل لزم أن يكون له كيفية وكمية وغير ذلك من الاقوال الفاسدة، وذلك باطل.

والفعل بمجرده يدل على كونه قادرا، وبوقوعه محكما على كونه عالما وبوقوعه على وجه دون وجه على كونه مريدا أو كارها، وكونه قادرا عالما على كونه حيا موجودا، وكونه حيا موجودا على كونه مدركا سميعا بصيرا.

ووجوب هذه الصفات له في الازل يدل على صفته الذاتية عند من أثبتها وليس في الفعل ما يدل على أن له مائية، فوجب نفيها.

وقول الامة: ان الله تعالى أعلم بنفسه منا.

معناه انه يعلم من تفاصيل مقدوراته ومعلوماته مالا يعلمه أحد، لانه يعلم منها مالا نهاية له، والواحد منا يعلم ذلك على وجه الجملة، فلا يجوز التوصل بذلك إلى القول بالمائية.

ولا يجوز أن يكون تعالى بصفة الجسم أو الجوهر، لان مادل على كون الجسم محدثا(١) قائم في جميع الاجسام، فلو كان تعالى جسما لادى إلى كونه محدثا أو كون الاجسام قديمة، وكلا الامرين فاسد.

وأيضا لو كان جسما لما صح منه فعل الاجسام كما لا يصح منا، على ما مضى القول فيه، والعلة في ذلك كونها أجساما، وقد دللنا على أنه فاعل الاجسام فبطل كونه جسما.

ولا يجوز وصفه بأنه جسم مع انتفاء حقيقة الجسم عنه، لان ذلك نقض اللغة، لان أهل اللغة يسمون الجسم ماله طول وعرض وعمق، بدلالة قولهم « هذا أطول من هذا » اذا زاد طولا، و « هذا أعرض من هذا » اذا زاد عرضا و « هذا أعمق من هذا » اذا زاد عمقا، و « هذا أجسم من هذا » اذا جمع الطول والعرض والعمق.

فعلم بذلك أن حقيقة الجسم ما قلناه، وذلك يستحيل

___________________________________

(١) في ر « كون الجسم متحركا محدتا ».

٣٨

فيه تعالى، فلا يجوز وصفه بذلك.

وقولهم « انه جسم لا كالاجسام » مناقضة، لانه نفي ما أثبت نفيه، لان قولهم « جسم » يقتضي أن له طولا وعرضا وعمقا، فاذا قيل بعد ذلك « لا كالاجسام » اقتضى نفي ذلك نفيه، فيكون مناقضة.

وليس قولنا « شئ لا كالاشياء » مناقضة، لان قولنا « شئ » لا يقتضي اكثر من أنه معلوم وليس فيه حس؟، فاذا قلنا « لا كالاشياء المحدثة » لم يكن في ذلك مناقضة.

وقوله( الرَّحْمَـٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَىٰ ) (١) معناه استولى عليه لما خلقه، كما قال الشاعر(٢) :

قد استوى بشر على العراق * من غير سيف ودم مهراق

وقوله( لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ) (٣) معناه انه تولى خلقه بنفسه، كما يقول القائل « هذا ما عملت يداك » أي أنت فعلته.

وقيل: معناه لما خلقت لنعمتي الدينية والدنيوية.

وقوله( فِي جَنبِ اللَّـهِ ) (٤) معناه في ذات الله وفي طاعته.

وقوله( وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ) (٥) أي بقدرته، كما قال الشاعر(٦) :

اذا ما راية رفعت لمجد * تلقاها عرابة باليمين

___________________________________

(١) سورة طه: ٥.

(٢) لسان العرب (سوى).

(٣) سورة ص: ٧٥.

(٤) سورة الرمز: ٥٦.

(٥) سورة الزمر: ٦٧.

(٦) البيت لشماخ، انظر لسان العرب (يمن).

٣٩

وقوله( تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا ) (١) أي ونحن عالمون.

ولا يجوز أن يكون تعالى بصفة شئ من الاعراض، لانه قد ثبت حدوث الاعراض أجمع، فلو كان بصفة شئ من الاعراض لكان محدثا، وقد بينا قدمه.

ولانه لو كان بصفة شئ من الاعراض لم يخلو من أن يكون بصفة ما يحتاج إلى محل أو بصفة مالا يحتاج إلى المحل كالغناء وارادة القديم تعالى وكراهته فان كان بصفة القسم الاول أدى إلى قدم المحال وقد بينا حدوثها، ولو كان بصفة القسم الثاني لاستحال وجوده وقتين كاستحالة ذلك على هذه الاشياء.

وأيضا لو كان بصفة الغناء لاستحال وجود الاجسام معه، وذلك باطل.

ولا يجوز عليه تعالى الحلول، لانه لا يخلو أن يكون الحلول واجبا له أو جائزا، ولو كان واجبا لوجب ذلك في الازل، وذلك يوجب وجود ما يحله في الازل، وفي ذلك قدم المحال، وقد بينا فساده.

ولو كان وجوده متجددا [ وهو واجب ](٢) لوجب أن يكون له مقتضى، فلا يخلو أن يكون مقتضيه صفته الذاتية أو كونه حيا، ولا يجوز أن تكون صفته الذاتية مقتضية لذلك، لان صفة الذات لا تقتضي صفة اخرى بشرط منفصل، ووجود المحل منفصل.

ولو كان كونه حيا مقتضيا لذلك اقتضاه فينا، كما أنه لما اقتضى كونه مدركا اقتضاه فينا، وذلك باطل.

وان كان حلوله جائزا احتاج إلى معنى، وذلك المعنى لابد أن يختص به والاختصاص يكون اما بالحلول أو المجاورة، وكلاهما يقتضيان كونه جوهرا وقد أفسدناه، فبطل بجميع ذلك عليه الحلول.

ولا يجوز أن يكون تعالى في جهة من غير أن يكون شاغلا لها، لانه ليس

___________________________________

(١) سورة القمر: ١٤.

(٢) الزيادة من ر.

٤٠



تمهيد

الحياة العربية بمكة قبل الإسلام :

مهما تفاوتت وجهات النظر في طريقة كتابة التاريخ ، فهي لا تعدو عن
حقيقة ثابتة هي أنّ التاريخ يصنع من النصوص ، كما انه يكفي في تاريخ الأفراد
سرد الواقع للشخص فيما يختصه ، أمّا تاريخ الجماعات فلا يكفي ذلك ، بل لا
سبيل إلى تحقيقه دون إعمال الفكر في انتقاء الحدث النموذجي للدلالة على
معرفة المجتمع معرفة تامة ولو بالتحليل الفلسفي للأحداث لفهم كنه الروابط
بينها بإمعان ودقة ، ويبقى القاسم المشترك بين تاريخ الفرد وتاريخ المجتمع هو
دقة الملاحظة ، ونقل الحوادث بأمانة ، دون النزوع إلى العاطفة ، بل الرجوع إلى
الحق في الاستنتاج.

ولمّا كانت حالة الحياة العربية في مكة المكرمة قبل الإسلام ، يستدعي
البحث عنها إلى استخدام المعلومة من تاريخ الجماعات لغرض التعرف التام إلى

٤١

المجتمع المكي ، فلا أجد مصدراً أصدق أنباءً من القرآن الكريم ، فهو أبلغ نصاً
وأوضع مفهوماً من جميع المصادر الأخرى.

لقد عرض القرآن الكريم في بعض آياته لوحات تصوّر (حال الحياة
العربية) ، قبيل الإسلام وبعده في شتى أنحاء الجزيرة العربية وبواديه فسمّى
(الأعراب) كما ورد ذلك في القرآن المجيد في عشر آيات تنديداً بمعظمهم ،
ولم يرد تسميتهم (بالعرب) ولا مرّة واحدة ، نعم إنّما وردت النسبة إلى العرب
مدحاً في وصف القرآن ولغته ، فمن الجدير بالذكر التنبّه إلى وجوب الفرق بين
العرب والأعراب ، ولمّا كانت فترة ما قبل الإسلام تسمى (الجاهلية) وتلك فترة
كتبت عنها أقلام تفاوت أصحابها زماناً ومكاناً ، وفهماً وإيماناً ، ولم تسلم
أحكامهم غالباً من الجنوح العاطفي بين إفراط وتفريط ، وإن استند بعضهم إلى
آي القرآن الكريم ، ولكنه أساء فهم المعنى فلم يفرّقـمثلاًـبين العرب
والأعراب ، كما لم يراع طبيعة المكان والزمان ، ولا بين الحاضرة والبادين من
الأعراب.

(ولكي نكون منصفين في الأحكام ، عادلين غير ظالمين ، علينا التفريق بين
الأعراب وبين العرب ، فما يقال : عن الأعراب يجب ألّا يتخذ قاعدة عامة تطبّق
على العرب ، لما بين العرب والأعراب من تباين في الحياة النفسية والعقل.

ثم علينا لكي نكون منصفين أيضاً أن نفرق بين عرب وعرب. لما أصاب
عرب كل أرض من أرض العرب من أثر تركه الأجانب فيهم... والامتزاج
والاندماج يؤثران بالطبع في أخلاق أهل المنطقة التي وقعا فيها) (١) .

_______________________

(١)المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام ٤ / ٢٩٨ ط الأولى بيروت.

٤٢

وقد أشار إلى وجوب التفريق من اللغويين الأزهري ، وذهب إلى مذهبه
ابن خلدون وهو من المؤرخين ، فقال الأزهري في تهذيب اللغة ونقله عنه
الزبيدي في تاج العروس فقال : « والذي لا يفرق بين العرب والأعراب ، والعربي
والأعرابي ، ربما تحامل على العرب بما يتأوله في هذه الآيةـ ( الأَعْرَابُ أَشَدُّ
كُفْرًا وَنِفَاقًا
) (١) ـوهو لا يميّز بين العرب والأعراب ، ولا يجوز أن يقول
للمهاجرين والأنصار أعراب ، إنما هم عرب ، لأنهم استوطنوا القرى العربية ،
وسكنوا المدن ، سواء منهم الناشيء بالبدو ثم استوطن القرى ، والناشيء بمكة ثم
هاجر إلى المدينة » (٢) .

وما قلناه من وجوب التفريق بين الأسمين فكذلك يجب علينا أخذ الحيطة
فيما نجده في بعض كتب الحديث من أحاديث مدح أو ذم للعرب أو للأعراب ،
وأن نكون بمنتهى الوعي في أخذ الحذر ممّا نراه مبثوثاً في الكتب ، حتى وان
كانت قد أُضيفت عليها قداسة الحديث النبوي الشريف.

فمثلاً ما نجده في بعض كتب التفسير والصحاح والسنن ، ونتخيّل لأول
وهلة أنّ ما أخرجه أصحابها إنّما هو القول الفصل ، وليس إلى الخدش فيه من
سبيل ، خصوصاً إذا كان في مثل صحيح البخاري الذي قيل عنه أنه أصح كتاب
بعد كتاب الله؟ أو في أمثاله من الصحاح والسنن. فضلاً عن كتب التاريخ
والأدب ممّا دسّ فيها الشعوبيون أو غيرهم من قصص ونوادر ، لا ينبغي لنا أن
نقيم عليه صرحاً ، ونجعله ميزاناً في تقييم الأمم والشعوب ، بل لكل أمة حسناتها
كما أنّ عليها سيئاتها ، والكمال هو لله وحده سبحانه وتعالى.

_______________________

(١)التوبة / ٩٧.

(٢)تاج العروس ١ / ٣٧١ (عرب).

٤٣

شعوبية بغيضة :

ولست الآن في صدد الخوض عن العروبة وما لها وما عليها ، بل كفانا ذلك
القرآن الحكيم الذي دعا أولاً الناس كافة بقوله : ( يَاأَيُّهَا النَّاسُ ) ، ثم خاطب
المؤمنين بعد انتشار الإسلام بقوله : ( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ) ، ولم يرد فيه أيّ نداء
لأمة حسب هويّتها القومية. وإنّما الذي دعاني إلى تقديم ما ذكرت ما قد يجده
القارئ من آيات أو أحاديثـمدحاً أو ذماًـللعرب ، وهو يتخيّل أنّ ذلك
لجميع العرب ، ولم يفرق بين العرب والأعراب من جهة ، كما أنه قد يُخدع بما
يجده في مثل صحيح البخاري مثلاً حين يقرأ باب قصة زمزم وجهل العرب ثم
لا يجد فيه إلّا الحديث التالي :

أخرج البخاري في صحيحه كتاب المناقب (باب قصة زمزم وجهل
العرب)ـفالعنوان إن دل على شيء إنما يدل على شعوبية بغيضةـبسنده عن
ابن عباس رضياللهعنهما قال : « إذا سرّك أن تعلم جهل العرب فاقرأ ما فوق
الثلاثين ومائة في سورة الأنعام ( قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ )
إلى قوله : ( قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ) (١) »(٢) .

فيتخيّل القارئ أنّ ذلك القولـإن صحت نسبته إلى ابن عباس رضيالله
عنه ـ هو عن كل العرب وليس ذلك بصحيح.

_______________________

(١)الأنعام / ١٤٠.

(٢)صحيح البخاري ٤ / ١٨٥ ط سنة ١٣١٤ الأميرية بولاق ، وانظر شرح فتح الباري لابن حجر
٧ / ٣٦٢ ، وشرح إرشاد الساري للقسطلاني ٦ / ٨.

٤٤

ونحو ذلك أيضاً ما يقرأ في سنن الدارمي ، بسنده عن هارون بن معاوية
قال : « كان الرجل في الجاهلية إذا سافر حمل معه أربعة أحجار ، ثلاثة لقدره
والرابع يعبده ، ويربّي كلبه ويقتل ولده » (١) .

فإنّ هذه الأقوال وأمثالها ـ إن صحت ـ فإنما هي عن الأعراب ، لا العرب.

يقول المرحوم الدكتور جواد علي في كتابه (المفصّل في تاريخ العرب
قبل الإسلام) : « الحق اننا إذا أردنا البحث عن مورد يصوّر لنا أحوال الحياة
الجاهلية ، ويتحدث لنا عن تفكير أهل الحجاز عند ظهور الإسلام ، فلا بدّ لنا من
الرجوع إلى القرآن الكريم ، ولا بدّ لنا من تقديمه على سائر المراجع الإسلامية ،
وهو فوقها بالطبع ، ولا أريد أن أدخله فيها ، لأنّه كتاب مقدّس ، لم ينزل كتاباً
في التاريخ أو اللغة أو ما شاكل ذلك ، ولكنه نزل كتاباً عربيّاً ، لغته هي اللغة
العربية التي كان يتكلم بها أهل الحجاز ، وقد خاطب قوماً فوصف حالتهم ،
وتفكيرهم وعقائدهم ، ونصحهم وذكّرهم بالأمم والشعوب العربية الخالية (٢)
وطلب منهم (٣) ترك ما هم عليه ، وتطرّق إلى ذكر تجاراتهم وسياساتهم وغير
ذلك. وقد مثّلهم أناس كانت لهم صلات بالعالم الخارجي ، واطلاع على أحوال
من كان حولهم ، وفيه تفنيد لكثير من الآراء المغلوطة التي نجدها في المصادر
العربية الإسلامية ، فهو مرآة صافية للعصر الجاهلي ، وهو كتاب صدق لا سبيل
إلى الشك في صحة نصّه.

_______________________

(١)سنن الدارمي ١ / ٤ مط الاعتدال بدمشق سنة ١٣٤٩.

(٢)سورة هود / ٩٥ ، سورة الحج / ٤٢ ، سورة الشعراء / ١٤١ ، سورة الحاقة / ٤ ، سورة ق / ١٤ ، سورة
الدخان / ٣٧ ، سورة الفيل / ١ ، سورة البروج / ٤. (تنبيه : حذفنا أرقام السور التي ذكرها
المؤلف).

(٣)وطلب اليهم.

٤٥

وفي القرآن الكريم ذكر لبعض أصنام أهل الحجاز ، وذكر لجدلهم مع
الرسول في الإسلام ، وفي الحياة ، وفي المثل الجاهلية وفيه تعرض لنواحٍ من
الحياة الاقتصادية والسياسية عندهم.

وفيه أمور أخرى تخص الجاهلية وردت فيه على قدر ما كان لها من علاقة
بمعارضة قريش للقرآن والإسلام. وفي كل ما ورد فيه دليل على أنّ صورة
الإخباريين التي رسموها للجاهلية ، لم تكن صورة صحيحة متقنة ، وأنّ ما زعموه
من عزلة جزيرة العرب ، وجهل العرب وهمجيتهم في الجاهلية الجهلاء ، كان
زعماً لا يؤيده القرآن الكريم الذي خالف كثيراً ما ذهبوا إليه » (١) .

فعلى ضوء ما قدّمناه ينبغي لنا أن نعرف ما يقال عن وصف الحالة في
الجزيرة العربية بأنّها كانت جاهلية مظلمة.

حالة العرب قبل الإسلام :

جاهلية مظلمة ، وجور سائد ، وظلم فاشٍ ، يقاسي الضعيف من القوي
الأمرين ، وينال العبد من مواليه البلاء ، وينوش الأنثى أحياناً الهضم والظلم ، إنّما
هي حالة الأعراب ، نعم وهي كذلك حالة بعض العرب قبل الإسلام ، وهي
تختلف في الشدّة والضعف باختلاف قبائل العرب ، وتفاوت مداركهم
وتمازجهم مع أصحاب الحضارات من بلاد الروم وفارس.

حسبنا ما روي من حديث جعفر بن أبي طالب مع النجاشي : « ملك الحبشة
كنا أهل جاهلية : نعبد الأصنام ، ونأكل الميتة ، ونأتي الفواحش ، ونقطع الأرحام ،
_______________________

(١)المفصّل في تاريخ العرب قبل الإسلام ١ / ٦٦ ط الاُولى سنة ١٩٦٨ بيروت.

٤٦

ونسيء الجوار ، ويأكل القوي منا الضعيف ، فكنا على ذلك حتى بعث الله لنا
رسولاً كما بعث الرسل إلى من قبلنا... » (١) .

ولم يقصر عنه كلام المغيرة بن شعبة مع كسرى يزدجرد في وصفه لحالة
العرب ، فقد ذكر ابن كثير عن المغيرة قوله : « كنا نأكل الخنافس والجعلان ،
والعقارب والحيات ، ونرى ذلك طعامنا ، وأمّا المنازل فإنما هي ظهر الأرض ، ولا
نلبس إلّا غزلنا من أوبار الإبل وأشعار الغنم... وديننا أن لا يقتل بعضنا بعضاً وأن
لا يبغي بعضنا على بعض... وإن كان أحدنا ليدفن ابنته وهي حية كراهية أن
تأكل من طعامه... » (٢) .

ولعل الباحث لا يعدم الشواهد على أنّ الحال في قلب الجزيرة العربية
كان أخف وطأة وأحسن حالاً ، كما هو الحال في مكة المكرمة. فإن فيها
من المتحنفين الذين يدينون بالحنيفية كعبد المطلب وأمية بن أبي الصلت
وزيد بن عمرو ، وفي العرب أمثال قس بن ساعدة ، ولعل زهير بن أبي سلمى
منهم فقد كان في شعره مؤمناً بالله وبالمعاد والحشر والحساب إلى غير
هؤلاء.

كما أنّ من كان بمكة من القاطنين أكثر رفاهية في الحياة ، واستقراراً في
الأمن من سائر أقطار الجزيرة. لأنّ أهلها اتخذوا مكة مثابة للناس وأمناً ، وجعلوا
في السنة الأشهر الحرم فلا حرب فيها ، وكانت تجارتها رابحة تتصل بالشام
واليمن والعراق وفارس وجل أهلها تدير شؤونهم تلك التجارة الواسعة ، إمّا تجاراً
_______________________

(١)السيرة الحلبية ١ / ٣٤٠ ، سيرة ابن هشام ١ / ٢١٨.

(٢)البداية والنهاية ٧ / ٤٢.

٤٧

أو مضاربين أو حماة لما يمرّ بأرضهم من التجارة في طريقها إلى الشام أو اليمن ،
فهم برحلتي الشتاء والصيف يُغيّرون طابع حياتهم.

ومكة نفسها وقعت في دائرة التنازع الدولي الذي كان قائماً بين
الإمبراطورية الفارسية والإمبراطورية البيزنطية ، وقد بذلت محاولات من جانب
الأحباش والبيزنطيين للسيطرة عليها ، لكن رجال مكةـالحريصين على الحيادـ
عارضوا كل تدخل في شؤونهم واستطاعوا أن يتعاملوا مع رجال الدولة من
الفرس والروم على السواء ، كما كانوا يحذقون التعامل مع الأعراب من أهل
البادية (١) .

وقد دخلت مكة في طور النظام الاجتماعي بعد أن مرت بطور من
الاضطراب والرحلات والغزوات والقتال على السيادة (٢) .

نبوغ قصي في مكة :

وتاريخ مكة الحقيقي يبدأ من أيام قصي بن كلاب بن مرة القرشي الذي
تولى أمر مكة حوالي منتصف القرن الخامس الميلادي ، وبحكم قصيّ استقرت
قبيلة قريش في مكة ، ونهضت بها ، وجعلت منها مدينة ذات مركز اقتصادي




_______________________

(١)دور الحجاز في الحياة السياسية العامة في القرنين الأول والثاني للهجرة / ١٥ ط الأولى
١٩٦٨ ، دار الفكر العربي د. أحمد إبراهيم الشريف.

(٢)أنظر سيرة ابن هشام ١ / ١٢٣ـ١٣٠ ، تاريخ اليعقوبي ١ / ١٨١ـ١٩٨ ، تاريخ الطبري ٢ / ٢٥٥ـ
٢٨٦ ، البداية والنهاية ٢ / ١٨٥ ـ ١٩٠.

٤٨

وديني وأدبي ممتاز ، وأصبحت في عهده تتمتع بتوجيه عربي عام في أواخر
القرن السادس وأوائل السابع حين ظهر الإسلام (١) .

فكان قصي أول رجل من بني كنانة أصاب ملكاً ، وأطاع له به قومه فكانت
إليه الحجابة ، والرفادة ، والسقاية ، والندوة ، واللواء ، والقيادة ، وفي ذلك يقول
حذافة بن غانم الجحمي يمدحه :

أبوهم قصيٌّ كان يدعى مجمّعا

به جمع الله القبائل من فهر(٢)

فحاز قصي شرف مكة وأنشأ (دار الندوة) وفيها كانت قريش تقضي
أمورها ، ولم يكن يدخلها من قريش من غير ولد قصي إلّا ابن أربعين سنة
للمشورة ، وكان يدخلها ولد قصي كلهم أجمعون ، وحلفاؤهم (٣) .

وكان عبد مناف بن قصي قد شرف في زمان أبيه وذهب شرفه كل
مذهب ، ولم يبلغ بنو قصي ولا أحد من قومهم من قريش ما بلغ عبد مناف من
الذكر والشرف ، وبدت بوادر تنذر بالشر نتيجة الحسد ، فأجمع قصي أن يقسم
أمور مكة الستة التي فيها الذكر والشرف والعز بين ابنيه ، عبد الدارـوهو أكبر
بنيهـفأعطاه السدانة وهي الحجابة ودار الندوة ، واللواء ، وأعطى عبد مناف
السقاية ، والرفادة والقيادة (٤) .

وهكذا امتازت مكة عن غيرها بنحو من التنظيم الذي سنّه قصيّ ، والذي
يكفل لقريش وأبنائه مكان الزعامة والصدارة ما قاموا بتلك الشؤون.


_______________________

(١)دور الحجاز في الحياة السياسية العامة / ١٦ د. أحمد إبراهيم الشريف.

(٢)تاريخ مكة للأزرقي / ١٠٧ ـ ١٠٨.

(٣)نفس المصدر / ١٠٩ ـ ١١٠.

(٤)نفس المصدر / ١١٠.

٤٩

قال أبو هلال العسكري : كانت قريش تسمى في الجاهلية (العالمية)
لفضلهم وعلمهم ، قال الفضل بن العباس بن عتبة :

ألسنا أهل مكة عالميا

وأدركنا السلام بها رطابا(١)

آل الله :

قال ابن عبد ربه : كانت قريش تسمى آل الله ، وجيران الله ، وسكان
حرم الله.

وفي ذلك يقول عبد المطلب بن هاشم :

نحن آل الله في ذمته

لم نزل فيها على عهدٍ قدم

إن للبيت لرباً مانعاً

من يرد فيه بإثمٍ يخترم

لم تزل لله فينا حرمةٌ

يدفع الله بها عنا النقم(٢)

وقال ابنه أبو طالب :

ويصبح آل الله بيضاً كأنما

كستهم حبيرا ريدة ومعافر(٣)

وقال الثعالبي : « كان يقال لقريش في الجاهلية : أهل الله ، لما تميّزوا به عن
سائر العرب من المحاسن والمكارم ، والفضائل والخصائص ، التي هي أكثر من
أن تحصى.

_______________________

(١)التاريخ الإسلامي العام / ٩٥ د. عليّ إبراهيم حسن.

(٢)العقد الفريد ٣ / ٣١٣ ، وقارن تاريخ اليعقوبي ١ / ٢١٠ فما بعدها تجد الأبيات أكثر من
عشرة قالها عبد المطلب لما كان من أصحاب الفيل ما كان.

(٣)ديوان أبي طالب / ٣٧ ط الحيدرية / ١٣٥٦.

٥٠

فمنها : مجاورتهم بيت الله تعالى ، وايثارهم سكن حرمه على جميع بلاد الله ،
وصبرهم على لأواء مكة وشدتها ، وخشونة العيش بها.

ومنها : ما تفردوا به من الإيلاف والوفادة والرفادة والسقاية والرياسة
واللواء والندوة.

ومنها : كونهم على ارث من دين أبويهم إبراهيم وإسماعيلعليهما‌السلام من قرى
الضيف ورفد الحاج والمعتمرين ، والقيام بما يصلحهم ، وتعظيم الحرم ، وصيانته
عن البغي فيه والإلحاد ، وقمع الظالم ومنع المظلوم.

ومنها : كونهم قبلة العرب وموضع الحج الأكبر ، يؤتون من كل أوبٍ بعيد ،
وفجٍ عميق ، فترد عليهم الأخلاق والعقول ، والآداب والألسنة ، واللغات والعادات ،
والصور والشمائل عفواً بلا كلفة ولا غُرم ، ولا عَزم ولا حيلة ، فيشاهدون ما لم
تشاهده قبيلة. وليس من شاهد الجميع كمن شاهد البعض...

ومنها : بات وجودهم وجزيل عطاياهم ، واحتمالهم المؤن الغِلاظ في
أموالهم المكتسبة من التجارة...

وأعجب من ذلك أنهم من بين جميع العرب دانوا بالتحمّس والتشدّد في
الدين فتركوا الغزو كراهة للسبي واستحلال الأموال... » (١) .

وإذا بحثنا عن السبب في تميّز مكة عن غيرها في ذلك المضمار ، لم نعد
الحقيقة في أن نرجع الفضل في ذلك إلى سببين هما :

أوّلاًـوجود البيت الحرام الذي وفّر لمكة من الشرف على سائر البلاد ما
لم يتوفر لغيرها ، حيث كان مدعاة لحج الناس إليه ، وفي ذلك من الفضل
والشرف ما يسمو بها عن غيرها إلى مرتبة القداسة.

_______________________

(١)ثمار القلوب / ١٠ ـ ١١ تح‍ محمّد أبو الفضل إبراهيم. ط دار النهضة مصر سنة ١٣٨٤ ه‍.

٥١

ثانياًـوجود أبناء قصي الذين استأثرت مكة بهم زعامة وفضلاً
وشرفاً ومنعة ، ممّا جعل لهم من المكانة في نفوس الآخرين أن أقروا لهم
بالزعامة فكانوا يقصدونهم للحكومة وفصل التخاصم ، وينعموا في ظلهم
بأمنٍ ورغد عيش.

مكانة قريش بين العرب :

وأصبحت زعامة قريش بين العرب زعامة حقيقية لا شك فيها قبل الإسلام ،
وأبرز مثل يوضح هذه الزعامة القرشية هو أنه حين وقفت قريش موقف
المعارضة للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يجد استجابةـكاملةـلدعوته بين العرب ، فلمّا ألقت
قريش لواء المعارضة بعد فتح مكة سنة ٨ ه‍ لم يلبث العرب أن دخلوا في
الإسلام طائعين (١) .

وقد أظهرت قريش قدرة على التنظيم ، فاستطاعت أن تقيم نوعاً من التنظيم
الحكومي في مكة ، هو في جوهره تنظيم قبلي تطور بحسب مقتضيات ظروف
الاستقرار في مكة ، وبحسب اتصالاتها الواسعة وقيامها على التجارة واحتكاكها
بالعالم المتحضر.

وقد تميزت الوظائف الحكومية إلى نوعين رئيسين :

الأول : الوظائف المتعلقة بالكعبة وهي السدانة والسقاية والرفادة.

الثاني : ما يتعلق بإدارة الشؤون العامة في البلد الحرام.


_______________________

(١)دور الحجاز في الحياة السياسية د. أحمد إبراهيم الشريف.

٥٢

وكلها تهدف إلى رعاية البيت الحرام وإعداده للزائرين ، وتوفير الراحة
للوافدين عليه في موسم الحج ، كما تكفل للمقيمين الطمأنينة والاستقرار.

وقد قام بإدارة تلك الوظائف رجال من مختلفي بطون قريش ، تفادياً لما
يمكن أن يحدث بينها من تنافس على الحكم ، وضماناً لإسهامها في رعاية شئون
مكة ، ولكي يتجنب أهل مكة كل ما من شأنه أن يثير التنافس فقد جعلوا على
ضوء تقسيم قصيـكما أشرناـلكل بطن وظيفة معينة ، يختار البطن لها من
رجاله من يشغلها على أساس العرف القبلي ، الذي يعتبر الكفاءة الشخصية أساساً
للتصدر (١) .

وإذا أردنا أن نتعرف تاريخ اولئكم الزعماء الذين ترجع إليهم الأمور ،
وتكفلوا بالنظر في حقوق العرب فيما بينهمـفي فترة ما قبل الإسلامـنجدهم
لا يتعدون البطون التالية :

وهم الذين يقال لهم قريش الأباطح ، وقريش البطاح ، لأنهم لباب قريش
وصميمها الذين اختطوا بطحاء مكة وهي سرّتها فنزلوها وهم بنو عبد مناف ، وبنو
عبد الدار ، وبنو زهرة ، وبنو تيم بن مرة ، وبنو مخزوم ، وبنو سهم ، وبنو عبد العزّى ،
وجمح ، وبنو عدي بن كعب ، وبنو عامر بن لؤي ، وبنو هلال بن أهيب (٢) .

_______________________

(١)نفس المصدر.

(٢)وكان الشعراء يمتدحون أبناءهم بالنسبة إلى الأباطح والبطاح فالبحتري يقول كما في
ديوانه ٢ / ٣٢٠ :

ابن الأباطح من أرضٍ أباطحها

في ذروة المجد أعلى من روابيه

والسري الرفاء يقول في قصيدة يمدح آل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما في ديوانه ٢ / ٧١٦ ـ ٧١٨ :

إذا عددنا قريشاً في أباطحها

كانوا الذوائب فيها والعرانينا

ولاحظ معجم البلدان ٢ / ٢١٣ ط الأولى بمصر ، وثمار القلوب للثعالبي / ٩٦.

٥٣

ومع قيام ذلك التحالف وتوزيع الوظائف الفخرية بين البطون القرشية ، فإنّ
السيادة والشرف لبني هاشم ، لأنهم على حدّ قول شيخهم وشيخ البطحاء أبي
طالب رضي‌الله‌عنه :

فإنّا بمكة قدماً لنا

به العزّ والخطرُ الأعظم

ومن يكُ فيها له عزّةٌ

حديثاً فعزّتنا الأقدم

ونحن ببطحائها الرائسون

والقائدون ومن يحكم

نشأنا فكنا قليلاً بها

نجير وكنّا بها نطعم

إذا عضّ أزمُ السنين الأنام

وجَبَّ القتارَ بها المعدم

نماني شيبة ساقي الحجيج

ومجدٌ منيف الذرى مُعلَمُ(١)

ونظراً لذلك التفاوت فيما بينها في المكانة المرموقة ومنعة الجانب وحسن
إدارة تلك الشئون فقد نافس بعضهم بعضاً في تولي الزعامة العامة بالرغم من
الاحتياط الذي أشرنا إليه للتفادي عن المنافسة ، وخاصة مع (هاشم) الذي علا
نجمه ، وطال شأنه وكثر حساده ، فكانت منافرات معه ومع أبنائه من حسادهم
وبسببها عُقدت أحلاف ، وكان منها حلف المطيبّين لبني عبد مناف (٢) ، وكانت
الأحلاف لبني عبد الدار (٣) ، وكانت وكانت.

_______________________

(١)ديوان أبي طالب / ٩٧ ـ ٩٨ ، صنعة أبي هفان / تحآل يس.

(٢)سُمو بالطيبين لأنهم لما تعاقد بنو عبد مناف وبنو زهرة وبنو تيم وبنو أسد بن عبد
العزى وبنو الحارث بن فهر ، أخرجت عاتكة بنت عبد المطلب جفنة فيها طيب فغمسوا
أيديهم فيها. لذلك سموا المطيبين (المنمق / ٢٢٣).

(٣)سموا الأحلاف ولعقة الدم أيضاً وذلك أن بني عبد الدار ومعهم بنو سهم وبنو جمح وبنو
مخزوم وبنو عدي نحروا جزوراً فغمسوا أيديهم في دمها فسموا الأحلاف ، ولعق رجل من
بني عدي لعقة من دم ولعقوا منه فسموا لعقة الدم (المنمق / ٢٢٣).

٥٤

وقد بقيت آثار ذلك النزاع والتخاصم حتى بعد ما جاء الإسلام ، فكانت
النعرات القبلية الجاهلية تطفو على السطح بين الحين والآخر ، وكانت لها آثارها
السيئة في نخر بُنية التكامل الإسلامي (١) .

ولكن مهما طال النزاع ومهما اشتدت الخصومة ، فإنّ فضل بني هاشم لا
يوازي ، إذ ليس بيت كمثله في رفعته وسموه. وهم على حد قول ابن عباس رضي‌الله‌عنه
لمعاوية ، وقد أثار معاوية نخوة الجاهلية في حديثٍ له. قال : ليس حي من قريش
يفخرون بأمر إلّا والى جنبهم من يشركهم إلّا بني هاشم (٢) .

الحالة الدينية بمكة :

وكانت الحالة الدينية في مكة على نحو ما كانت عليه حالة العرب في
سائر أنحاء الجزيرة ، فثمة أصنام تعبد ويتقرب إليها ، إلّا أنّ بين أهلها من كان
ينظر في الكتب السماوية ، ويدين بالحنيفية البيضاءـدين إبراهيم الخليلعليه‌السلامـ
ومنهم هاشم بن عبد مناف وورقة بن نوفل وزيد بن عمرو وأمية بن أبي الصلت ،
_______________________

(١)وقد أشار إلى ذلك شيخ البطحاء أبو طالب في أشعاره فقال :

رجال تمالوا حاسدين وبغضةً

لأهل العلا فبينهم أبداً وتر

وليد أبوه كان عبداً لجدنا

إلى علجة زرقاء جال بها السحرُ

وتيم ومخزوم وزهرة منهم

وكانوا بنا أولى إذا بُغي النصر

إلى أن يقول :

فوالله لا تنفك منا عداوة

ولا منهم ما دام من نسلنا شفر

(٢)أنظر العقد الفريد ٢ / ٣١٨ ، والملاحم والفتن لابن طاووس الحسني / ٨١ـ٨٢ ، وسيأتي
في احتجاجاته مع معاوية.

٥٥

وكانوا ينكرون بعض الترهات التي كان عليها قومهم كعبادة الأصنام ، وكانوا
يجاهرون بعقيدتهم في البحث عن ألوهية واحد متفرد بالجلال والعظمة والقدرة ،
ويعترفون بالبعث والنشور ، ويقولون بالثواب والعقاب ، وكان بعضهم من أعلن
عن قرب ظهور نبي من العرب قد أطلّ زمانه يهدي الناس إلى الصراط
المستقيم (١) .

حديث البعثة النبوية :

قال الإمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام :

(إنّ الله بعث محمداًصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، نذيراً للعالمين ، وأميناً على التنزيل ، وأنتم معشر
العرب على شر دين وفي شر دار متنّخون (٢) بين حجارة خُشن ، وحيّات صُم ،
تشربون الكدِرَ وتأكلون الجشب ، وتسفكون دماءكم ، وتقطعون أرحامكم ،
الأصنام فيكم منصوبة ، والآثام بكم معصوبة) (٣) .

وقال أيضاً : (بعثه والناس ضُلّال في حيرة ، وخابطون في فتنة ، قد استهوتهم
الأهواء ، واستزلّتهم الكبرياء ، واستخفتهم الجاهلية الجهلاء ، حيارى في زلزال من
الأمر ، وبلاء من الجهل ، فبالغ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في النصيحة ، ومضى على الطريقة ودعا إلى
الحكمة والموعظة الحسنة) (٤) .


_______________________

(١)أنظر مروج الذهب للمسعودي ١ / ٦٧ ـ ٧٥.

(٢)متنخون أي مقيمون ، من أناخ بالمكان أقام به.

(٣)نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١ / ٦٦.

(٤)نفس المصدر ١ / ١٨٦.

٥٦

بعث النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من بني هاشم ، فأيّ دعوة هذه التي يجب أن ينقاد إليها بنو
أمية وبنو سهم وبنو عدي وبنو زهرة وبنو تيم وبنو مخزوم وبنو أسد ، وسائر
البطون من قريش والقبائل من كنانة ، إنّها الاستهانة بكيان الأفخاذ وأمجادها في
عرفهم ، وإنّها الاستكانة لداعٍ سيحوز الفخر لبني هاشم دونهم فما بالهم لا
يقاومون؟ (١) .

فوقفت قريش في وجه الدعوة لا يصيخون لداعي السماء وهو يدعوهم :
قولوا : (لا إله إلّا الله تفلحوا).

وكان أول من دعاهم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هم رهطه الأدنون ، وذلك بأمر من ربه تعالى
حيث يقول : ( وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ) (٢) .

ولهذه الدعوة حديث طريف يجده القارئ في مظانّه(٣) ، وأول من أجاب
من عشيرته هو ابن عمه عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ، فهو أول ذكران العالمين إسلاماً
_______________________

(١)تاريخ مكة لأحمد السباعي ١ / ٤٧.

(٢)الشعراء / ٥.

(٣)أخرج حديث بدء الدعوة كل من الطبري في تفسيره في سورة الشعراء وتاريخه ٢ / ٢١٦ ،
وأبو جعفر الاسكافي في كتابه نقض العثمانية كما في شرح نهج البلاغة لابن أبي
الحديد ٣ / ٢٦٣ ، والثعلبي في تفسيره ، وابن الأثير في تاريخه ٥ / ٢٤ ، وأبو الفداء في
تاريخه ١ / ١١٦ ، والسيوطي في جمع الجوامع ٦ / ٣٩٢ نقلاً عن الطبري. وفي ص ٣٩٧ نقلاً
عن الحفّاظ الستة ابن إسحاق ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، وأبي نعيم ،
والبيهقي في سننه ودلائله ، وأحمد في مسنده ١ / ١١١ ، وابن أبي الحديد في شرح النهج
٣ / ٢٥٤ ، وابن تيمية في منهاج السنة ٤ / ٨٠ ، والخازن في تفسيره ٥ / ٣٩٠ ، والشهاب
الخفاجي في شرح الشفاء ٣ / ٣٧ وبتر آخره ، والكنجي الشافعي في كفاية الطالب / ٨٩ ،
وابن ظفر المكي في انباء نجباء الأبناء / ٤٦ـ٤٨ ، والحلبي في سيرته ١ / ٣٠٤ ، ومحمد
حسين هيكل في كتابه حياة محمّد / ١٠٤ الطبعة الأولى وغيرهم وغيرهم. وللأستزادة
راجع الغدير ٢ / ٥٣ـ٢٥٦ ، وشواهد التنزيل للحسكاني ١ / ٣٧١ و ٤٢٠ مع ما في الهامش ،

٥٧

كما أنّ أول إناثهم هي زوج النبيّ الكريم السيدة أُم المؤمنين خديجة بنت
خويلد ، فهما أول من آمن به من الناس (١) .

_______________________ _____________________________________

وتاريخ ابن عساكر (ترجمة الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام ) الحديث ١٣٢ وتواليه فقد رواه ابن
عساكر بسبعِ طرق ، و د. عليّ إبراهيم حسن في التاريخ الإسلامي العام / ١٦٧.

(١)روى الهيثمي في مجمع الزوائد ٩ / ٢٢٠ بسنده عن أبي رافع قال : « أول من أسلم من
الرجال عليّ عليه‌السلام وأول من أسلم من النساء خديجة قال : رواه البزار ورجاله رجال
الصحيح ».

وروى أيضاً عن بريدة قال : « خديجة أول من اسلم مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعليّ بن أبي
طالب عليه‌السلام » رواه الطبراني.

وروى عن مالك بن الحويرث قال : « أول من أسلم من الرجال عليّ ومن النساء خديجة »
رواه الطبراني. والأحاديث في سبق إسلام عليّ عليه‌السلام متظافرة تكاد لا تحصر ، وفي
مقدمتها أقوال الرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كقوله في حديث عائشة : (يا عائشة دعي لي أخي فإنّه
أول الناس إسلاماً ، وآخر الناس بي عهداً ، وأول الناس لي يوم القيامة) الاصابة ٨ ق
١ / ١٨٣ في ترجمة ليلى الغفارية ، وكذلك الاستيعاب. وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد أخذ بيده : (ان هذا
اول من آمن بي ، وهذا اول من يصافحني يوم القيامة ، وهذا الصديق الأكبر) أخرجه
الطبراني عن سلمان وأبي ذر ، والبيهقي والعدني عن حذيفة ، ونحو هذا كثير جداً.

أمّا أقوال الصحابة الموقوفة عليهم فضلاً عن المرفوعة إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهي أيضاً كثيرة ،
نقتصر على تسمية من قال ذلك مع الاشارة إلى مصدر قوله.

١ـزيد بن أرقمـمسند أحمد ٤ / ٣٦٨ و ٣٧١ ، والنسائي في خصائصه / ٢ ، وابن سعد في
الطبقات ٣ / ١ / ١٢ ، ومستدرك الحاكم ٣ / ١٣٦ ، وتاريخ الطبري ٢ / ٥٥.

٢ـأبو موسى الأشعري ـ مستدرك الحاكم ٣ / ٤٦٥.

٣ـسلمان المحمدي نفس المصدر ٣ / ١٣٦ ، وتاريخ بغداد ٢ / ١٨ ، واُسد الغابة ٤ / ١٧ ،
والاستيعاب ٢ / ٤٥٧ ، وكنز العمال ٦ / ٤٠٠ ، ومجمع الزوائد ٩ / ١٠٢ وقال أخرجه الطبراني.

٤ ـ سعد بن أبي وقاص ـ مستدرك الحاكم ٣ / ٤٩٩.

٥ ـ جابر بن عبد الله ـ الاصابة ٤ق١ / ١١٨ ، والاستيعاب ٢ / ٤٥٦.

٦ ـ أبو ذر الغفاري ـ الاستيعاب ٢ / ٤٥٦.

٧ ـ المقداد بن عمرو ـ نفس المصدر.

٨ ـ خباب بن الارت ـ المصدر السابق.

٥٨

وقابلت قريش دعوة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بكل ما تملك من وسائل الحول والطول ،
وأصاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمسلمين عنت شديد. وما كان الباعث لقريش على ذلك إلّا
الحسد والتعصب والانصياع لعصبية القبيلة ، والحفاظ على تقاليدهم الموروثة.
فكانت ممعنة في ايذاء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والنفر المسلمين ، وسلكت في سبيل ذلك
مسالك كان منها مطاردة المسلمين وتعذيب بعضهم بالضرب والجلد حتى مات
بعضهم تحت العذاب (١) .

ولمّا لم تجد كل تلك الوسائل في صد تلك الدعوة ، اتخذوا قرارهم
المشئوم بتحالفهم على مقاطعة بني هاشم وبني المطلب : (ألا ينكحوا إليهم ولا
يُنكحوهم ، ولا يبيعوا لهم شيئاً ولا يبتاعوا منهم حتى ينبذوا محمّداً) فكانت تلك
الصحيفة القاطعة نقطة تحوّل في موقف بني هاشم وحلفائهم وذلك بعد أن
كتبتها قريش ، ووضعوا فيها ثمانين خاتماً وعلقوها في جوف الكعبة توكيداً على
أنفسهم (٢) .

وكان الذي كتبها منصور بن عكرمة فشلّت يده(٣) .

_______________________ _____________________________________

٩ ـ أبو سعيد الخدري ـ المصدر السابق.

١٠ ـ عبد الله بن عباس ـ المصدر السابق ٢ / ٤٥٨ قال : « أول من أسلم عليّعليه‌السلام ».

وهناك أحاديث عن عمر وابنه عبد الله وانس بن مالك وغيرهم من الصحابة انهم رووا
عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله لعليّعليه‌السلام : (انه أول الناس إسلاماً). وأمام هذه الجمهرة من أحاديث
الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأقوال الصحابة ، لا تثبت لمتخرّصـمهما حاولـقائمة ، والصبح أبلج لذي
عينين.

(١)أنظر تاريخ اليعقوبي ٢ / ١٧ـ٢٦ ، وابن هشام ١ / ٢٧٨ـ٤٠٠ ، وابن سعد ١ / ١٨٤ـ ١٩٥ ،
والطبري ٢ / ٣٢٢ ـ ٣٤٤ ، والعقد الثمين ١ / ٢٢٨.

(٢)سيرة ابن هشام ١ / ٢٧٢.

(٣)تاريخ الطبري ٢ / ٣٤٣ ، والفاسي في العقد الثمين ١ / ٢٢٩ ـ ٢٣٠.

٥٩

وإليك حديث الصحيفة :

صحيفة المقاطعة :

أخرج البيهقي في دلائل النبوة بسنده عن ابن شهاب الزهري قال :

« ثم إنّ المشركين اشتدوا على المسلمين كأشد ما كانوا حتى بلغ
المسلمين الجهد واشتد عليهم البلاء ، واجتمعت قريش في مكرها أن يقتلوا
رسول الله صلى الله عليه(وآله)وسلم علانية ، فلما رأى أبو طالب عمل القوم
جمع بني عبد المطلب وأمرهم أن يدخلوا رسول الله صلى الله عليه(وآله)وسلم
شعبهم ويمنعوه ممن أراد قتله ، فاجتمعوا على ذلك مسلمهم وكافرهم فمنهم من
فعله حميّة ومنهم من فعله إيماناً ويقيناً ، فلمّا عرفت قريش انّ القوم قد منعوا
رسول الله صلى الله عليه(وآله)وسلم واجتمعوا على ذلك ، اجتمع المشركون من
قريش ، فأجمعوا أمرهم أن لا يجالسوهم ولا يبايعوهم ولا يدخلوا بيوتهم حتى
يسلموا رسول الله صلى الله عليه(وآله)وسلم للقتل ، وكتبوا في مكرهم صحيفة
وعهوداً ومواثيق لا يقبلوا من بني هاشم أبداً صلحاً ولا تأخذهم بهم رأفة حتى
يسلموه للقتل ، فلبث بنو هاشم في شعبهم ثلاث سنين واشتد عليهم البلاء
والجهد ، وقطعوا عنهم الأسواق فلا يتركوا طعاماً يقدم مكة ولا بيعاً إلّا بادروهم
إليه فاشتروه ، يريدون بذلك أن يدركوا سفك دم رسول الله صلى الله عليه
(وآله)وسلم.

وكان أبو طالب إذا أخذ الناس مضاجعهم أمر رسول الله صلى الله عليه
(وآله)وسلم فاضطجع على فراشه حتى يُري ذلك من أراد مكراً به واغتياله ، فإذا
نوّم الناس أمر أحد بنيه أو أخوته أو بني عمومته فاضطجع على فراش رسول الله

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487