موسوعة عبد الله بن عبّاس الجزء ١

موسوعة عبد الله بن عبّاس8%

موسوعة عبد الله بن عبّاس مؤلف:
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
تصنيف: متون حديثية
ISBN: 964-319-501-5
الصفحات: 487

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 487 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 158944 / تحميل: 6193
الحجم الحجم الحجم
موسوعة عبد الله بن عبّاس

موسوعة عبد الله بن عبّاس الجزء ١

مؤلف:
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
ISBN: ٩٦٤-٣١٩-٥٠١-٥
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40



تمهيد

الحياة العربية بمكة قبل الإسلام :

مهما تفاوتت وجهات النظر في طريقة كتابة التاريخ ، فهي لا تعدو عن
حقيقة ثابتة هي أنّ التاريخ يصنع من النصوص ، كما انه يكفي في تاريخ الأفراد
سرد الواقع للشخص فيما يختصه ، أمّا تاريخ الجماعات فلا يكفي ذلك ، بل لا
سبيل إلى تحقيقه دون إعمال الفكر في انتقاء الحدث النموذجي للدلالة على
معرفة المجتمع معرفة تامة ولو بالتحليل الفلسفي للأحداث لفهم كنه الروابط
بينها بإمعان ودقة ، ويبقى القاسم المشترك بين تاريخ الفرد وتاريخ المجتمع هو
دقة الملاحظة ، ونقل الحوادث بأمانة ، دون النزوع إلى العاطفة ، بل الرجوع إلى
الحق في الاستنتاج.

ولمّا كانت حالة الحياة العربية في مكة المكرمة قبل الإسلام ، يستدعي
البحث عنها إلى استخدام المعلومة من تاريخ الجماعات لغرض التعرف التام إلى

٤١

المجتمع المكي ، فلا أجد مصدراً أصدق أنباءً من القرآن الكريم ، فهو أبلغ نصاً
وأوضع مفهوماً من جميع المصادر الأخرى.

لقد عرض القرآن الكريم في بعض آياته لوحات تصوّر (حال الحياة
العربية) ، قبيل الإسلام وبعده في شتى أنحاء الجزيرة العربية وبواديه فسمّى
(الأعراب) كما ورد ذلك في القرآن المجيد في عشر آيات تنديداً بمعظمهم ،
ولم يرد تسميتهم (بالعرب) ولا مرّة واحدة ، نعم إنّما وردت النسبة إلى العرب
مدحاً في وصف القرآن ولغته ، فمن الجدير بالذكر التنبّه إلى وجوب الفرق بين
العرب والأعراب ، ولمّا كانت فترة ما قبل الإسلام تسمى (الجاهلية) وتلك فترة
كتبت عنها أقلام تفاوت أصحابها زماناً ومكاناً ، وفهماً وإيماناً ، ولم تسلم
أحكامهم غالباً من الجنوح العاطفي بين إفراط وتفريط ، وإن استند بعضهم إلى
آي القرآن الكريم ، ولكنه أساء فهم المعنى فلم يفرّقـمثلاًـبين العرب
والأعراب ، كما لم يراع طبيعة المكان والزمان ، ولا بين الحاضرة والبادين من
الأعراب.

(ولكي نكون منصفين في الأحكام ، عادلين غير ظالمين ، علينا التفريق بين
الأعراب وبين العرب ، فما يقال : عن الأعراب يجب ألّا يتخذ قاعدة عامة تطبّق
على العرب ، لما بين العرب والأعراب من تباين في الحياة النفسية والعقل.

ثم علينا لكي نكون منصفين أيضاً أن نفرق بين عرب وعرب. لما أصاب
عرب كل أرض من أرض العرب من أثر تركه الأجانب فيهم... والامتزاج
والاندماج يؤثران بالطبع في أخلاق أهل المنطقة التي وقعا فيها) (١) .

_______________________

(١)المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام ٤ / ٢٩٨ ط الأولى بيروت.

٤٢

وقد أشار إلى وجوب التفريق من اللغويين الأزهري ، وذهب إلى مذهبه
ابن خلدون وهو من المؤرخين ، فقال الأزهري في تهذيب اللغة ونقله عنه
الزبيدي في تاج العروس فقال : « والذي لا يفرق بين العرب والأعراب ، والعربي
والأعرابي ، ربما تحامل على العرب بما يتأوله في هذه الآيةـ ( الأَعْرَابُ أَشَدُّ
كُفْرًا وَنِفَاقًا
) (١) ـوهو لا يميّز بين العرب والأعراب ، ولا يجوز أن يقول
للمهاجرين والأنصار أعراب ، إنما هم عرب ، لأنهم استوطنوا القرى العربية ،
وسكنوا المدن ، سواء منهم الناشيء بالبدو ثم استوطن القرى ، والناشيء بمكة ثم
هاجر إلى المدينة » (٢) .

وما قلناه من وجوب التفريق بين الأسمين فكذلك يجب علينا أخذ الحيطة
فيما نجده في بعض كتب الحديث من أحاديث مدح أو ذم للعرب أو للأعراب ،
وأن نكون بمنتهى الوعي في أخذ الحذر ممّا نراه مبثوثاً في الكتب ، حتى وان
كانت قد أُضيفت عليها قداسة الحديث النبوي الشريف.

فمثلاً ما نجده في بعض كتب التفسير والصحاح والسنن ، ونتخيّل لأول
وهلة أنّ ما أخرجه أصحابها إنّما هو القول الفصل ، وليس إلى الخدش فيه من
سبيل ، خصوصاً إذا كان في مثل صحيح البخاري الذي قيل عنه أنه أصح كتاب
بعد كتاب الله؟ أو في أمثاله من الصحاح والسنن. فضلاً عن كتب التاريخ
والأدب ممّا دسّ فيها الشعوبيون أو غيرهم من قصص ونوادر ، لا ينبغي لنا أن
نقيم عليه صرحاً ، ونجعله ميزاناً في تقييم الأمم والشعوب ، بل لكل أمة حسناتها
كما أنّ عليها سيئاتها ، والكمال هو لله وحده سبحانه وتعالى.

_______________________

(١)التوبة / ٩٧.

(٢)تاج العروس ١ / ٣٧١ (عرب).

٤٣

شعوبية بغيضة :

ولست الآن في صدد الخوض عن العروبة وما لها وما عليها ، بل كفانا ذلك
القرآن الحكيم الذي دعا أولاً الناس كافة بقوله : ( يَاأَيُّهَا النَّاسُ ) ، ثم خاطب
المؤمنين بعد انتشار الإسلام بقوله : ( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ) ، ولم يرد فيه أيّ نداء
لأمة حسب هويّتها القومية. وإنّما الذي دعاني إلى تقديم ما ذكرت ما قد يجده
القارئ من آيات أو أحاديثـمدحاً أو ذماًـللعرب ، وهو يتخيّل أنّ ذلك
لجميع العرب ، ولم يفرق بين العرب والأعراب من جهة ، كما أنه قد يُخدع بما
يجده في مثل صحيح البخاري مثلاً حين يقرأ باب قصة زمزم وجهل العرب ثم
لا يجد فيه إلّا الحديث التالي :

أخرج البخاري في صحيحه كتاب المناقب (باب قصة زمزم وجهل
العرب)ـفالعنوان إن دل على شيء إنما يدل على شعوبية بغيضةـبسنده عن
ابن عباس رضياللهعنهما قال : « إذا سرّك أن تعلم جهل العرب فاقرأ ما فوق
الثلاثين ومائة في سورة الأنعام ( قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ )
إلى قوله : ( قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ) (١) »(٢) .

فيتخيّل القارئ أنّ ذلك القولـإن صحت نسبته إلى ابن عباس رضيالله
عنه ـ هو عن كل العرب وليس ذلك بصحيح.

_______________________

(١)الأنعام / ١٤٠.

(٢)صحيح البخاري ٤ / ١٨٥ ط سنة ١٣١٤ الأميرية بولاق ، وانظر شرح فتح الباري لابن حجر
٧ / ٣٦٢ ، وشرح إرشاد الساري للقسطلاني ٦ / ٨.

٤٤

ونحو ذلك أيضاً ما يقرأ في سنن الدارمي ، بسنده عن هارون بن معاوية
قال : « كان الرجل في الجاهلية إذا سافر حمل معه أربعة أحجار ، ثلاثة لقدره
والرابع يعبده ، ويربّي كلبه ويقتل ولده » (١) .

فإنّ هذه الأقوال وأمثالها ـ إن صحت ـ فإنما هي عن الأعراب ، لا العرب.

يقول المرحوم الدكتور جواد علي في كتابه (المفصّل في تاريخ العرب
قبل الإسلام) : « الحق اننا إذا أردنا البحث عن مورد يصوّر لنا أحوال الحياة
الجاهلية ، ويتحدث لنا عن تفكير أهل الحجاز عند ظهور الإسلام ، فلا بدّ لنا من
الرجوع إلى القرآن الكريم ، ولا بدّ لنا من تقديمه على سائر المراجع الإسلامية ،
وهو فوقها بالطبع ، ولا أريد أن أدخله فيها ، لأنّه كتاب مقدّس ، لم ينزل كتاباً
في التاريخ أو اللغة أو ما شاكل ذلك ، ولكنه نزل كتاباً عربيّاً ، لغته هي اللغة
العربية التي كان يتكلم بها أهل الحجاز ، وقد خاطب قوماً فوصف حالتهم ،
وتفكيرهم وعقائدهم ، ونصحهم وذكّرهم بالأمم والشعوب العربية الخالية (٢)
وطلب منهم (٣) ترك ما هم عليه ، وتطرّق إلى ذكر تجاراتهم وسياساتهم وغير
ذلك. وقد مثّلهم أناس كانت لهم صلات بالعالم الخارجي ، واطلاع على أحوال
من كان حولهم ، وفيه تفنيد لكثير من الآراء المغلوطة التي نجدها في المصادر
العربية الإسلامية ، فهو مرآة صافية للعصر الجاهلي ، وهو كتاب صدق لا سبيل
إلى الشك في صحة نصّه.

_______________________

(١)سنن الدارمي ١ / ٤ مط الاعتدال بدمشق سنة ١٣٤٩.

(٢)سورة هود / ٩٥ ، سورة الحج / ٤٢ ، سورة الشعراء / ١٤١ ، سورة الحاقة / ٤ ، سورة ق / ١٤ ، سورة
الدخان / ٣٧ ، سورة الفيل / ١ ، سورة البروج / ٤. (تنبيه : حذفنا أرقام السور التي ذكرها
المؤلف).

(٣)وطلب اليهم.

٤٥

وفي القرآن الكريم ذكر لبعض أصنام أهل الحجاز ، وذكر لجدلهم مع
الرسول في الإسلام ، وفي الحياة ، وفي المثل الجاهلية وفيه تعرض لنواحٍ من
الحياة الاقتصادية والسياسية عندهم.

وفيه أمور أخرى تخص الجاهلية وردت فيه على قدر ما كان لها من علاقة
بمعارضة قريش للقرآن والإسلام. وفي كل ما ورد فيه دليل على أنّ صورة
الإخباريين التي رسموها للجاهلية ، لم تكن صورة صحيحة متقنة ، وأنّ ما زعموه
من عزلة جزيرة العرب ، وجهل العرب وهمجيتهم في الجاهلية الجهلاء ، كان
زعماً لا يؤيده القرآن الكريم الذي خالف كثيراً ما ذهبوا إليه » (١) .

فعلى ضوء ما قدّمناه ينبغي لنا أن نعرف ما يقال عن وصف الحالة في
الجزيرة العربية بأنّها كانت جاهلية مظلمة.

حالة العرب قبل الإسلام :

جاهلية مظلمة ، وجور سائد ، وظلم فاشٍ ، يقاسي الضعيف من القوي
الأمرين ، وينال العبد من مواليه البلاء ، وينوش الأنثى أحياناً الهضم والظلم ، إنّما
هي حالة الأعراب ، نعم وهي كذلك حالة بعض العرب قبل الإسلام ، وهي
تختلف في الشدّة والضعف باختلاف قبائل العرب ، وتفاوت مداركهم
وتمازجهم مع أصحاب الحضارات من بلاد الروم وفارس.

حسبنا ما روي من حديث جعفر بن أبي طالب مع النجاشي : « ملك الحبشة
كنا أهل جاهلية : نعبد الأصنام ، ونأكل الميتة ، ونأتي الفواحش ، ونقطع الأرحام ،
_______________________

(١)المفصّل في تاريخ العرب قبل الإسلام ١ / ٦٦ ط الاُولى سنة ١٩٦٨ بيروت.

٤٦

ونسيء الجوار ، ويأكل القوي منا الضعيف ، فكنا على ذلك حتى بعث الله لنا
رسولاً كما بعث الرسل إلى من قبلنا... » (١) .

ولم يقصر عنه كلام المغيرة بن شعبة مع كسرى يزدجرد في وصفه لحالة
العرب ، فقد ذكر ابن كثير عن المغيرة قوله : « كنا نأكل الخنافس والجعلان ،
والعقارب والحيات ، ونرى ذلك طعامنا ، وأمّا المنازل فإنما هي ظهر الأرض ، ولا
نلبس إلّا غزلنا من أوبار الإبل وأشعار الغنم... وديننا أن لا يقتل بعضنا بعضاً وأن
لا يبغي بعضنا على بعض... وإن كان أحدنا ليدفن ابنته وهي حية كراهية أن
تأكل من طعامه... » (٢) .

ولعل الباحث لا يعدم الشواهد على أنّ الحال في قلب الجزيرة العربية
كان أخف وطأة وأحسن حالاً ، كما هو الحال في مكة المكرمة. فإن فيها
من المتحنفين الذين يدينون بالحنيفية كعبد المطلب وأمية بن أبي الصلت
وزيد بن عمرو ، وفي العرب أمثال قس بن ساعدة ، ولعل زهير بن أبي سلمى
منهم فقد كان في شعره مؤمناً بالله وبالمعاد والحشر والحساب إلى غير
هؤلاء.

كما أنّ من كان بمكة من القاطنين أكثر رفاهية في الحياة ، واستقراراً في
الأمن من سائر أقطار الجزيرة. لأنّ أهلها اتخذوا مكة مثابة للناس وأمناً ، وجعلوا
في السنة الأشهر الحرم فلا حرب فيها ، وكانت تجارتها رابحة تتصل بالشام
واليمن والعراق وفارس وجل أهلها تدير شؤونهم تلك التجارة الواسعة ، إمّا تجاراً
_______________________

(١)السيرة الحلبية ١ / ٣٤٠ ، سيرة ابن هشام ١ / ٢١٨.

(٢)البداية والنهاية ٧ / ٤٢.

٤٧

أو مضاربين أو حماة لما يمرّ بأرضهم من التجارة في طريقها إلى الشام أو اليمن ،
فهم برحلتي الشتاء والصيف يُغيّرون طابع حياتهم.

ومكة نفسها وقعت في دائرة التنازع الدولي الذي كان قائماً بين
الإمبراطورية الفارسية والإمبراطورية البيزنطية ، وقد بذلت محاولات من جانب
الأحباش والبيزنطيين للسيطرة عليها ، لكن رجال مكةـالحريصين على الحيادـ
عارضوا كل تدخل في شؤونهم واستطاعوا أن يتعاملوا مع رجال الدولة من
الفرس والروم على السواء ، كما كانوا يحذقون التعامل مع الأعراب من أهل
البادية (١) .

وقد دخلت مكة في طور النظام الاجتماعي بعد أن مرت بطور من
الاضطراب والرحلات والغزوات والقتال على السيادة (٢) .

نبوغ قصي في مكة :

وتاريخ مكة الحقيقي يبدأ من أيام قصي بن كلاب بن مرة القرشي الذي
تولى أمر مكة حوالي منتصف القرن الخامس الميلادي ، وبحكم قصيّ استقرت
قبيلة قريش في مكة ، ونهضت بها ، وجعلت منها مدينة ذات مركز اقتصادي




_______________________

(١)دور الحجاز في الحياة السياسية العامة في القرنين الأول والثاني للهجرة / ١٥ ط الأولى
١٩٦٨ ، دار الفكر العربي د. أحمد إبراهيم الشريف.

(٢)أنظر سيرة ابن هشام ١ / ١٢٣ـ١٣٠ ، تاريخ اليعقوبي ١ / ١٨١ـ١٩٨ ، تاريخ الطبري ٢ / ٢٥٥ـ
٢٨٦ ، البداية والنهاية ٢ / ١٨٥ ـ ١٩٠.

٤٨

وديني وأدبي ممتاز ، وأصبحت في عهده تتمتع بتوجيه عربي عام في أواخر
القرن السادس وأوائل السابع حين ظهر الإسلام (١) .

فكان قصي أول رجل من بني كنانة أصاب ملكاً ، وأطاع له به قومه فكانت
إليه الحجابة ، والرفادة ، والسقاية ، والندوة ، واللواء ، والقيادة ، وفي ذلك يقول
حذافة بن غانم الجحمي يمدحه :

أبوهم قصيٌّ كان يدعى مجمّعا

به جمع الله القبائل من فهر(٢)

فحاز قصي شرف مكة وأنشأ (دار الندوة) وفيها كانت قريش تقضي
أمورها ، ولم يكن يدخلها من قريش من غير ولد قصي إلّا ابن أربعين سنة
للمشورة ، وكان يدخلها ولد قصي كلهم أجمعون ، وحلفاؤهم (٣) .

وكان عبد مناف بن قصي قد شرف في زمان أبيه وذهب شرفه كل
مذهب ، ولم يبلغ بنو قصي ولا أحد من قومهم من قريش ما بلغ عبد مناف من
الذكر والشرف ، وبدت بوادر تنذر بالشر نتيجة الحسد ، فأجمع قصي أن يقسم
أمور مكة الستة التي فيها الذكر والشرف والعز بين ابنيه ، عبد الدارـوهو أكبر
بنيهـفأعطاه السدانة وهي الحجابة ودار الندوة ، واللواء ، وأعطى عبد مناف
السقاية ، والرفادة والقيادة (٤) .

وهكذا امتازت مكة عن غيرها بنحو من التنظيم الذي سنّه قصيّ ، والذي
يكفل لقريش وأبنائه مكان الزعامة والصدارة ما قاموا بتلك الشؤون.


_______________________

(١)دور الحجاز في الحياة السياسية العامة / ١٦ د. أحمد إبراهيم الشريف.

(٢)تاريخ مكة للأزرقي / ١٠٧ ـ ١٠٨.

(٣)نفس المصدر / ١٠٩ ـ ١١٠.

(٤)نفس المصدر / ١١٠.

٤٩

قال أبو هلال العسكري : كانت قريش تسمى في الجاهلية (العالمية)
لفضلهم وعلمهم ، قال الفضل بن العباس بن عتبة :

ألسنا أهل مكة عالميا

وأدركنا السلام بها رطابا(١)

آل الله :

قال ابن عبد ربه : كانت قريش تسمى آل الله ، وجيران الله ، وسكان
حرم الله.

وفي ذلك يقول عبد المطلب بن هاشم :

نحن آل الله في ذمته

لم نزل فيها على عهدٍ قدم

إن للبيت لرباً مانعاً

من يرد فيه بإثمٍ يخترم

لم تزل لله فينا حرمةٌ

يدفع الله بها عنا النقم(٢)

وقال ابنه أبو طالب :

ويصبح آل الله بيضاً كأنما

كستهم حبيرا ريدة ومعافر(٣)

وقال الثعالبي : « كان يقال لقريش في الجاهلية : أهل الله ، لما تميّزوا به عن
سائر العرب من المحاسن والمكارم ، والفضائل والخصائص ، التي هي أكثر من
أن تحصى.

_______________________

(١)التاريخ الإسلامي العام / ٩٥ د. عليّ إبراهيم حسن.

(٢)العقد الفريد ٣ / ٣١٣ ، وقارن تاريخ اليعقوبي ١ / ٢١٠ فما بعدها تجد الأبيات أكثر من
عشرة قالها عبد المطلب لما كان من أصحاب الفيل ما كان.

(٣)ديوان أبي طالب / ٣٧ ط الحيدرية / ١٣٥٦.

٥٠

فمنها : مجاورتهم بيت الله تعالى ، وايثارهم سكن حرمه على جميع بلاد الله ،
وصبرهم على لأواء مكة وشدتها ، وخشونة العيش بها.

ومنها : ما تفردوا به من الإيلاف والوفادة والرفادة والسقاية والرياسة
واللواء والندوة.

ومنها : كونهم على ارث من دين أبويهم إبراهيم وإسماعيلعليهما‌السلام من قرى
الضيف ورفد الحاج والمعتمرين ، والقيام بما يصلحهم ، وتعظيم الحرم ، وصيانته
عن البغي فيه والإلحاد ، وقمع الظالم ومنع المظلوم.

ومنها : كونهم قبلة العرب وموضع الحج الأكبر ، يؤتون من كل أوبٍ بعيد ،
وفجٍ عميق ، فترد عليهم الأخلاق والعقول ، والآداب والألسنة ، واللغات والعادات ،
والصور والشمائل عفواً بلا كلفة ولا غُرم ، ولا عَزم ولا حيلة ، فيشاهدون ما لم
تشاهده قبيلة. وليس من شاهد الجميع كمن شاهد البعض...

ومنها : بات وجودهم وجزيل عطاياهم ، واحتمالهم المؤن الغِلاظ في
أموالهم المكتسبة من التجارة...

وأعجب من ذلك أنهم من بين جميع العرب دانوا بالتحمّس والتشدّد في
الدين فتركوا الغزو كراهة للسبي واستحلال الأموال... » (١) .

وإذا بحثنا عن السبب في تميّز مكة عن غيرها في ذلك المضمار ، لم نعد
الحقيقة في أن نرجع الفضل في ذلك إلى سببين هما :

أوّلاًـوجود البيت الحرام الذي وفّر لمكة من الشرف على سائر البلاد ما
لم يتوفر لغيرها ، حيث كان مدعاة لحج الناس إليه ، وفي ذلك من الفضل
والشرف ما يسمو بها عن غيرها إلى مرتبة القداسة.

_______________________

(١)ثمار القلوب / ١٠ ـ ١١ تح‍ محمّد أبو الفضل إبراهيم. ط دار النهضة مصر سنة ١٣٨٤ ه‍.

٥١

ثانياًـوجود أبناء قصي الذين استأثرت مكة بهم زعامة وفضلاً
وشرفاً ومنعة ، ممّا جعل لهم من المكانة في نفوس الآخرين أن أقروا لهم
بالزعامة فكانوا يقصدونهم للحكومة وفصل التخاصم ، وينعموا في ظلهم
بأمنٍ ورغد عيش.

مكانة قريش بين العرب :

وأصبحت زعامة قريش بين العرب زعامة حقيقية لا شك فيها قبل الإسلام ،
وأبرز مثل يوضح هذه الزعامة القرشية هو أنه حين وقفت قريش موقف
المعارضة للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يجد استجابةـكاملةـلدعوته بين العرب ، فلمّا ألقت
قريش لواء المعارضة بعد فتح مكة سنة ٨ ه‍ لم يلبث العرب أن دخلوا في
الإسلام طائعين (١) .

وقد أظهرت قريش قدرة على التنظيم ، فاستطاعت أن تقيم نوعاً من التنظيم
الحكومي في مكة ، هو في جوهره تنظيم قبلي تطور بحسب مقتضيات ظروف
الاستقرار في مكة ، وبحسب اتصالاتها الواسعة وقيامها على التجارة واحتكاكها
بالعالم المتحضر.

وقد تميزت الوظائف الحكومية إلى نوعين رئيسين :

الأول : الوظائف المتعلقة بالكعبة وهي السدانة والسقاية والرفادة.

الثاني : ما يتعلق بإدارة الشؤون العامة في البلد الحرام.


_______________________

(١)دور الحجاز في الحياة السياسية د. أحمد إبراهيم الشريف.

٥٢

وكلها تهدف إلى رعاية البيت الحرام وإعداده للزائرين ، وتوفير الراحة
للوافدين عليه في موسم الحج ، كما تكفل للمقيمين الطمأنينة والاستقرار.

وقد قام بإدارة تلك الوظائف رجال من مختلفي بطون قريش ، تفادياً لما
يمكن أن يحدث بينها من تنافس على الحكم ، وضماناً لإسهامها في رعاية شئون
مكة ، ولكي يتجنب أهل مكة كل ما من شأنه أن يثير التنافس فقد جعلوا على
ضوء تقسيم قصيـكما أشرناـلكل بطن وظيفة معينة ، يختار البطن لها من
رجاله من يشغلها على أساس العرف القبلي ، الذي يعتبر الكفاءة الشخصية أساساً
للتصدر (١) .

وإذا أردنا أن نتعرف تاريخ اولئكم الزعماء الذين ترجع إليهم الأمور ،
وتكفلوا بالنظر في حقوق العرب فيما بينهمـفي فترة ما قبل الإسلامـنجدهم
لا يتعدون البطون التالية :

وهم الذين يقال لهم قريش الأباطح ، وقريش البطاح ، لأنهم لباب قريش
وصميمها الذين اختطوا بطحاء مكة وهي سرّتها فنزلوها وهم بنو عبد مناف ، وبنو
عبد الدار ، وبنو زهرة ، وبنو تيم بن مرة ، وبنو مخزوم ، وبنو سهم ، وبنو عبد العزّى ،
وجمح ، وبنو عدي بن كعب ، وبنو عامر بن لؤي ، وبنو هلال بن أهيب (٢) .

_______________________

(١)نفس المصدر.

(٢)وكان الشعراء يمتدحون أبناءهم بالنسبة إلى الأباطح والبطاح فالبحتري يقول كما في
ديوانه ٢ / ٣٢٠ :

ابن الأباطح من أرضٍ أباطحها

في ذروة المجد أعلى من روابيه

والسري الرفاء يقول في قصيدة يمدح آل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما في ديوانه ٢ / ٧١٦ ـ ٧١٨ :

إذا عددنا قريشاً في أباطحها

كانوا الذوائب فيها والعرانينا

ولاحظ معجم البلدان ٢ / ٢١٣ ط الأولى بمصر ، وثمار القلوب للثعالبي / ٩٦.

٥٣

ومع قيام ذلك التحالف وتوزيع الوظائف الفخرية بين البطون القرشية ، فإنّ
السيادة والشرف لبني هاشم ، لأنهم على حدّ قول شيخهم وشيخ البطحاء أبي
طالب رضي‌الله‌عنه :

فإنّا بمكة قدماً لنا

به العزّ والخطرُ الأعظم

ومن يكُ فيها له عزّةٌ

حديثاً فعزّتنا الأقدم

ونحن ببطحائها الرائسون

والقائدون ومن يحكم

نشأنا فكنا قليلاً بها

نجير وكنّا بها نطعم

إذا عضّ أزمُ السنين الأنام

وجَبَّ القتارَ بها المعدم

نماني شيبة ساقي الحجيج

ومجدٌ منيف الذرى مُعلَمُ(١)

ونظراً لذلك التفاوت فيما بينها في المكانة المرموقة ومنعة الجانب وحسن
إدارة تلك الشئون فقد نافس بعضهم بعضاً في تولي الزعامة العامة بالرغم من
الاحتياط الذي أشرنا إليه للتفادي عن المنافسة ، وخاصة مع (هاشم) الذي علا
نجمه ، وطال شأنه وكثر حساده ، فكانت منافرات معه ومع أبنائه من حسادهم
وبسببها عُقدت أحلاف ، وكان منها حلف المطيبّين لبني عبد مناف (٢) ، وكانت
الأحلاف لبني عبد الدار (٣) ، وكانت وكانت.

_______________________

(١)ديوان أبي طالب / ٩٧ ـ ٩٨ ، صنعة أبي هفان / تحآل يس.

(٢)سُمو بالطيبين لأنهم لما تعاقد بنو عبد مناف وبنو زهرة وبنو تيم وبنو أسد بن عبد
العزى وبنو الحارث بن فهر ، أخرجت عاتكة بنت عبد المطلب جفنة فيها طيب فغمسوا
أيديهم فيها. لذلك سموا المطيبين (المنمق / ٢٢٣).

(٣)سموا الأحلاف ولعقة الدم أيضاً وذلك أن بني عبد الدار ومعهم بنو سهم وبنو جمح وبنو
مخزوم وبنو عدي نحروا جزوراً فغمسوا أيديهم في دمها فسموا الأحلاف ، ولعق رجل من
بني عدي لعقة من دم ولعقوا منه فسموا لعقة الدم (المنمق / ٢٢٣).

٥٤

وقد بقيت آثار ذلك النزاع والتخاصم حتى بعد ما جاء الإسلام ، فكانت
النعرات القبلية الجاهلية تطفو على السطح بين الحين والآخر ، وكانت لها آثارها
السيئة في نخر بُنية التكامل الإسلامي (١) .

ولكن مهما طال النزاع ومهما اشتدت الخصومة ، فإنّ فضل بني هاشم لا
يوازي ، إذ ليس بيت كمثله في رفعته وسموه. وهم على حد قول ابن عباس رضي‌الله‌عنه
لمعاوية ، وقد أثار معاوية نخوة الجاهلية في حديثٍ له. قال : ليس حي من قريش
يفخرون بأمر إلّا والى جنبهم من يشركهم إلّا بني هاشم (٢) .

الحالة الدينية بمكة :

وكانت الحالة الدينية في مكة على نحو ما كانت عليه حالة العرب في
سائر أنحاء الجزيرة ، فثمة أصنام تعبد ويتقرب إليها ، إلّا أنّ بين أهلها من كان
ينظر في الكتب السماوية ، ويدين بالحنيفية البيضاءـدين إبراهيم الخليلعليه‌السلامـ
ومنهم هاشم بن عبد مناف وورقة بن نوفل وزيد بن عمرو وأمية بن أبي الصلت ،
_______________________

(١)وقد أشار إلى ذلك شيخ البطحاء أبو طالب في أشعاره فقال :

رجال تمالوا حاسدين وبغضةً

لأهل العلا فبينهم أبداً وتر

وليد أبوه كان عبداً لجدنا

إلى علجة زرقاء جال بها السحرُ

وتيم ومخزوم وزهرة منهم

وكانوا بنا أولى إذا بُغي النصر

إلى أن يقول :

فوالله لا تنفك منا عداوة

ولا منهم ما دام من نسلنا شفر

(٢)أنظر العقد الفريد ٢ / ٣١٨ ، والملاحم والفتن لابن طاووس الحسني / ٨١ـ٨٢ ، وسيأتي
في احتجاجاته مع معاوية.

٥٥

وكانوا ينكرون بعض الترهات التي كان عليها قومهم كعبادة الأصنام ، وكانوا
يجاهرون بعقيدتهم في البحث عن ألوهية واحد متفرد بالجلال والعظمة والقدرة ،
ويعترفون بالبعث والنشور ، ويقولون بالثواب والعقاب ، وكان بعضهم من أعلن
عن قرب ظهور نبي من العرب قد أطلّ زمانه يهدي الناس إلى الصراط
المستقيم (١) .

حديث البعثة النبوية :

قال الإمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام :

(إنّ الله بعث محمداًصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، نذيراً للعالمين ، وأميناً على التنزيل ، وأنتم معشر
العرب على شر دين وفي شر دار متنّخون (٢) بين حجارة خُشن ، وحيّات صُم ،
تشربون الكدِرَ وتأكلون الجشب ، وتسفكون دماءكم ، وتقطعون أرحامكم ،
الأصنام فيكم منصوبة ، والآثام بكم معصوبة) (٣) .

وقال أيضاً : (بعثه والناس ضُلّال في حيرة ، وخابطون في فتنة ، قد استهوتهم
الأهواء ، واستزلّتهم الكبرياء ، واستخفتهم الجاهلية الجهلاء ، حيارى في زلزال من
الأمر ، وبلاء من الجهل ، فبالغ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في النصيحة ، ومضى على الطريقة ودعا إلى
الحكمة والموعظة الحسنة) (٤) .


_______________________

(١)أنظر مروج الذهب للمسعودي ١ / ٦٧ ـ ٧٥.

(٢)متنخون أي مقيمون ، من أناخ بالمكان أقام به.

(٣)نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١ / ٦٦.

(٤)نفس المصدر ١ / ١٨٦.

٥٦

بعث النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من بني هاشم ، فأيّ دعوة هذه التي يجب أن ينقاد إليها بنو
أمية وبنو سهم وبنو عدي وبنو زهرة وبنو تيم وبنو مخزوم وبنو أسد ، وسائر
البطون من قريش والقبائل من كنانة ، إنّها الاستهانة بكيان الأفخاذ وأمجادها في
عرفهم ، وإنّها الاستكانة لداعٍ سيحوز الفخر لبني هاشم دونهم فما بالهم لا
يقاومون؟ (١) .

فوقفت قريش في وجه الدعوة لا يصيخون لداعي السماء وهو يدعوهم :
قولوا : (لا إله إلّا الله تفلحوا).

وكان أول من دعاهم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هم رهطه الأدنون ، وذلك بأمر من ربه تعالى
حيث يقول : ( وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ) (٢) .

ولهذه الدعوة حديث طريف يجده القارئ في مظانّه(٣) ، وأول من أجاب
من عشيرته هو ابن عمه عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ، فهو أول ذكران العالمين إسلاماً
_______________________

(١)تاريخ مكة لأحمد السباعي ١ / ٤٧.

(٢)الشعراء / ٥.

(٣)أخرج حديث بدء الدعوة كل من الطبري في تفسيره في سورة الشعراء وتاريخه ٢ / ٢١٦ ،
وأبو جعفر الاسكافي في كتابه نقض العثمانية كما في شرح نهج البلاغة لابن أبي
الحديد ٣ / ٢٦٣ ، والثعلبي في تفسيره ، وابن الأثير في تاريخه ٥ / ٢٤ ، وأبو الفداء في
تاريخه ١ / ١١٦ ، والسيوطي في جمع الجوامع ٦ / ٣٩٢ نقلاً عن الطبري. وفي ص ٣٩٧ نقلاً
عن الحفّاظ الستة ابن إسحاق ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، وأبي نعيم ،
والبيهقي في سننه ودلائله ، وأحمد في مسنده ١ / ١١١ ، وابن أبي الحديد في شرح النهج
٣ / ٢٥٤ ، وابن تيمية في منهاج السنة ٤ / ٨٠ ، والخازن في تفسيره ٥ / ٣٩٠ ، والشهاب
الخفاجي في شرح الشفاء ٣ / ٣٧ وبتر آخره ، والكنجي الشافعي في كفاية الطالب / ٨٩ ،
وابن ظفر المكي في انباء نجباء الأبناء / ٤٦ـ٤٨ ، والحلبي في سيرته ١ / ٣٠٤ ، ومحمد
حسين هيكل في كتابه حياة محمّد / ١٠٤ الطبعة الأولى وغيرهم وغيرهم. وللأستزادة
راجع الغدير ٢ / ٥٣ـ٢٥٦ ، وشواهد التنزيل للحسكاني ١ / ٣٧١ و ٤٢٠ مع ما في الهامش ،

٥٧

كما أنّ أول إناثهم هي زوج النبيّ الكريم السيدة أُم المؤمنين خديجة بنت
خويلد ، فهما أول من آمن به من الناس (١) .

_______________________ _____________________________________

وتاريخ ابن عساكر (ترجمة الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام ) الحديث ١٣٢ وتواليه فقد رواه ابن
عساكر بسبعِ طرق ، و د. عليّ إبراهيم حسن في التاريخ الإسلامي العام / ١٦٧.

(١)روى الهيثمي في مجمع الزوائد ٩ / ٢٢٠ بسنده عن أبي رافع قال : « أول من أسلم من
الرجال عليّ عليه‌السلام وأول من أسلم من النساء خديجة قال : رواه البزار ورجاله رجال
الصحيح ».

وروى أيضاً عن بريدة قال : « خديجة أول من اسلم مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعليّ بن أبي
طالب عليه‌السلام » رواه الطبراني.

وروى عن مالك بن الحويرث قال : « أول من أسلم من الرجال عليّ ومن النساء خديجة »
رواه الطبراني. والأحاديث في سبق إسلام عليّ عليه‌السلام متظافرة تكاد لا تحصر ، وفي
مقدمتها أقوال الرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كقوله في حديث عائشة : (يا عائشة دعي لي أخي فإنّه
أول الناس إسلاماً ، وآخر الناس بي عهداً ، وأول الناس لي يوم القيامة) الاصابة ٨ ق
١ / ١٨٣ في ترجمة ليلى الغفارية ، وكذلك الاستيعاب. وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد أخذ بيده : (ان هذا
اول من آمن بي ، وهذا اول من يصافحني يوم القيامة ، وهذا الصديق الأكبر) أخرجه
الطبراني عن سلمان وأبي ذر ، والبيهقي والعدني عن حذيفة ، ونحو هذا كثير جداً.

أمّا أقوال الصحابة الموقوفة عليهم فضلاً عن المرفوعة إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهي أيضاً كثيرة ،
نقتصر على تسمية من قال ذلك مع الاشارة إلى مصدر قوله.

١ـزيد بن أرقمـمسند أحمد ٤ / ٣٦٨ و ٣٧١ ، والنسائي في خصائصه / ٢ ، وابن سعد في
الطبقات ٣ / ١ / ١٢ ، ومستدرك الحاكم ٣ / ١٣٦ ، وتاريخ الطبري ٢ / ٥٥.

٢ـأبو موسى الأشعري ـ مستدرك الحاكم ٣ / ٤٦٥.

٣ـسلمان المحمدي نفس المصدر ٣ / ١٣٦ ، وتاريخ بغداد ٢ / ١٨ ، واُسد الغابة ٤ / ١٧ ،
والاستيعاب ٢ / ٤٥٧ ، وكنز العمال ٦ / ٤٠٠ ، ومجمع الزوائد ٩ / ١٠٢ وقال أخرجه الطبراني.

٤ ـ سعد بن أبي وقاص ـ مستدرك الحاكم ٣ / ٤٩٩.

٥ ـ جابر بن عبد الله ـ الاصابة ٤ق١ / ١١٨ ، والاستيعاب ٢ / ٤٥٦.

٦ ـ أبو ذر الغفاري ـ الاستيعاب ٢ / ٤٥٦.

٧ ـ المقداد بن عمرو ـ نفس المصدر.

٨ ـ خباب بن الارت ـ المصدر السابق.

٥٨

وقابلت قريش دعوة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بكل ما تملك من وسائل الحول والطول ،
وأصاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمسلمين عنت شديد. وما كان الباعث لقريش على ذلك إلّا
الحسد والتعصب والانصياع لعصبية القبيلة ، والحفاظ على تقاليدهم الموروثة.
فكانت ممعنة في ايذاء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والنفر المسلمين ، وسلكت في سبيل ذلك
مسالك كان منها مطاردة المسلمين وتعذيب بعضهم بالضرب والجلد حتى مات
بعضهم تحت العذاب (١) .

ولمّا لم تجد كل تلك الوسائل في صد تلك الدعوة ، اتخذوا قرارهم
المشئوم بتحالفهم على مقاطعة بني هاشم وبني المطلب : (ألا ينكحوا إليهم ولا
يُنكحوهم ، ولا يبيعوا لهم شيئاً ولا يبتاعوا منهم حتى ينبذوا محمّداً) فكانت تلك
الصحيفة القاطعة نقطة تحوّل في موقف بني هاشم وحلفائهم وذلك بعد أن
كتبتها قريش ، ووضعوا فيها ثمانين خاتماً وعلقوها في جوف الكعبة توكيداً على
أنفسهم (٢) .

وكان الذي كتبها منصور بن عكرمة فشلّت يده(٣) .

_______________________ _____________________________________

٩ ـ أبو سعيد الخدري ـ المصدر السابق.

١٠ ـ عبد الله بن عباس ـ المصدر السابق ٢ / ٤٥٨ قال : « أول من أسلم عليّعليه‌السلام ».

وهناك أحاديث عن عمر وابنه عبد الله وانس بن مالك وغيرهم من الصحابة انهم رووا
عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله لعليّعليه‌السلام : (انه أول الناس إسلاماً). وأمام هذه الجمهرة من أحاديث
الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأقوال الصحابة ، لا تثبت لمتخرّصـمهما حاولـقائمة ، والصبح أبلج لذي
عينين.

(١)أنظر تاريخ اليعقوبي ٢ / ١٧ـ٢٦ ، وابن هشام ١ / ٢٧٨ـ٤٠٠ ، وابن سعد ١ / ١٨٤ـ ١٩٥ ،
والطبري ٢ / ٣٢٢ ـ ٣٤٤ ، والعقد الثمين ١ / ٢٢٨.

(٢)سيرة ابن هشام ١ / ٢٧٢.

(٣)تاريخ الطبري ٢ / ٣٤٣ ، والفاسي في العقد الثمين ١ / ٢٢٩ ـ ٢٣٠.

٥٩

وإليك حديث الصحيفة :

صحيفة المقاطعة :

أخرج البيهقي في دلائل النبوة بسنده عن ابن شهاب الزهري قال :

« ثم إنّ المشركين اشتدوا على المسلمين كأشد ما كانوا حتى بلغ
المسلمين الجهد واشتد عليهم البلاء ، واجتمعت قريش في مكرها أن يقتلوا
رسول الله صلى الله عليه(وآله)وسلم علانية ، فلما رأى أبو طالب عمل القوم
جمع بني عبد المطلب وأمرهم أن يدخلوا رسول الله صلى الله عليه(وآله)وسلم
شعبهم ويمنعوه ممن أراد قتله ، فاجتمعوا على ذلك مسلمهم وكافرهم فمنهم من
فعله حميّة ومنهم من فعله إيماناً ويقيناً ، فلمّا عرفت قريش انّ القوم قد منعوا
رسول الله صلى الله عليه(وآله)وسلم واجتمعوا على ذلك ، اجتمع المشركون من
قريش ، فأجمعوا أمرهم أن لا يجالسوهم ولا يبايعوهم ولا يدخلوا بيوتهم حتى
يسلموا رسول الله صلى الله عليه(وآله)وسلم للقتل ، وكتبوا في مكرهم صحيفة
وعهوداً ومواثيق لا يقبلوا من بني هاشم أبداً صلحاً ولا تأخذهم بهم رأفة حتى
يسلموه للقتل ، فلبث بنو هاشم في شعبهم ثلاث سنين واشتد عليهم البلاء
والجهد ، وقطعوا عنهم الأسواق فلا يتركوا طعاماً يقدم مكة ولا بيعاً إلّا بادروهم
إليه فاشتروه ، يريدون بذلك أن يدركوا سفك دم رسول الله صلى الله عليه
(وآله)وسلم.

وكان أبو طالب إذا أخذ الناس مضاجعهم أمر رسول الله صلى الله عليه
(وآله)وسلم فاضطجع على فراشه حتى يُري ذلك من أراد مكراً به واغتياله ، فإذا
نوّم الناس أمر أحد بنيه أو أخوته أو بني عمومته فاضطجع على فراش رسول الله

٦٠

صلى الله عليه(وآله)وسلم ، وأمر رسول الله صلى الله عليه(وآله)وسلم أن يأتي
بعض فرشهم فينام عليه ، فلما كان رأس ثلاث سنين تلاوم رجال من بني عبد
مناف ومن بني قصيّ ورجال سواهم من قريش قد ولدتهم نساءٌ من بني هاشم
ورأوا أنهم قد قطعوا الرحم واستخفوا بالحق ، واجتمع أمرهم من ليلتهم على
نقض ما تعاهدوا عليه من الغدر والبراءة منه.

وبعث اللهعزوجل على صحيفتهم التي فيها المكر برسول الله صلى الله عليه
(وآله)وسلم الأرضة فلحست كل ما كان فيها من عهد وميثاق ، ويقال : كانت
معلقة في سقف البيت ، ولم تترك إسماً لله عزوجل فيها إلّا لحسته ، وبقي ما كان فيها
من شرك أو ظلم أو قطيعة رحم ، واطلع الله عزوجل رسوله على الذي صنع
بصحيفتهم.

فذكر ذلك رسول الله صلى الله عليه(وآله)وسلم لأبي طالب ، فقال
أبو طالب : لا والثواقب ما كذبني ، فانطلق يمشي بعصابة من بني عبد المطلب
حتى أتى المسجد وهو حافل من قريش ، فلما رأوهم عامدين لجماعتهم أنكروا
ذلك وظنوا أنهم خرجوا من شدة البلاء ، فأتوا ليعطوهم رسول الله صلى الله عليه
(وآله)وسلم ، فتكلم أبو طالب فقال : قد حدثت أمور بينكم لم نذكرها لكم
فأتوا بصحيفتكم التي تعاهدتم عليها فلعله أن يكون بيننا وبينكم صلح ، وإنّما
قال ذلك خشية أن ينظروا في الصحيفة قبل أن يأتوا بها ، فأتوا بصحيفتهم
معجبين بها لا يشكّون أنّ رسول الله صلى الله عليه(وآله)وسلم مدفوعٌ إليهم ،
فوضعوها بينهم وقالوا قد آن لكم أن تقبلوا وترجعوا إلى أمر يجمع قومكم ،
فإنّما قطع بيننا وبينكم رجل واحد جعلتموه خطراً لهلكة قومكم وعشيرتكم
وفسادهم.

٦١

فقال أبو طالب : إنّما أتيتكم لأعطيكم أمراً لكم فيه نَصفَ ، إنّ ابن أخي قد
أخبرني ولم يكذبني انّ الله عزوجل بريء من هذه الصحيفة التي في أيديكم ، ومحا
كل اسم هو له فيها ، وترك فيها غدركم وقطيعتكم إيانا وتظاهركم علينا
بالظلم (1) ، فإن كان الحديث الذي قال ابن أخي كما قال فأفيقوا ، فوالله لا نسلمه
أبداً حتى نموت من عند آخرنا ، وإن كان الذي قال باطلاً دفعناه إليكم فقتلتم أو
استحييتم.

قالوا : قد رضينا بالذي يقول ، ففتحوا الصحيفة فوجدوا الصادق المصدوق
صلى الله عليه(وآله)وسلم قد أخبر خبرها ، فلما رأتها قريش كالذي قال أبو
طالب ، قالوا والله إن كان هذا قط إلّا سحراً من صاحبكم ، فارتكسوا وعادوا بشرّ
ما كانوا عليه من كفرهم والشدة على رسول الله صلى الله عليه(وآله)وسلم
وعلى المسلمين رهطه والقيام بما تعاهدوا عليه ، فقال أولئك النفر من بني عبد
المطلب : إنّ أولى بالكذب والسحر غيرنا فكيف ترون ، فإنّا نعلم أنّ الذي اجتمعتم
عليه من قطيعتنا أقرب إلى الجبت والسحر من أمرنا ، ولولا أنكم اجتمعتم على
السحر لم تفسد صحيفتكم وهي في أيديكم ، طمس الله ما كان فيها من اسم ، وما
كان من بغي تركه ، أفنحن السحرة أم أنتم؟!.

(نقض الصحيفة)

فقال عند ذلك النفر من بني عبد مناف وبني قصيّ ورجال من قريش
ولدتهم نساء بني هاشم ، منهم أبو البختري والمطعم بن عدي وزهير بن أبي أمية
_______________________

(1)في جملة من المصادر التاريخية وكتب السيرة : ان الأرضة أكلت جميع ما في الصحيفة
من قطيعة وظلم ولم تدع سوى اسم الله تعالى فقط : وكانوا يكتبون (باسمك اللّهم).

٦٢

ابن المغيرة وزمعة بن الأسود وهشام بن عمرو ، وكانت الصحيفة عنده وهو من
بني عامر بن لوي في رجال من أشرافهم ووجوههم نحن برآء ممّا في هذه
الصحيفة فقال أبو جهل : هذا أمر قضي بليل ، وأنشأ أبو طالب يقول الشعر في
صحيفتهم ، ويمتدح النفر الذين تبرأوا منها ونقضوا ما كان فيها من عهد ،
ويمتدح النجاشي » (1) .

_______________________

(1)دلائل النبوة للبيهقي 3 / 80 ـ 83 ط الأولى نشر المكتبة السلفية 1389 ه‍.

أقول : ومما قاله في الشِعب قصيدته اللامية العصماء كما عن العيني في شرح البخاري
والبغدادي في شرح شواهد الرضي ، وهذا هو المشهور ، لكن ابن هشام ذكر في سيرته عن
ابن إسحاق انه قالها لما خشي من دهماء العرب على نفسه وقومه. فمن هم أولكم
الذين سمّاهم بالدهماء؟ اليسوا هم قريشاً؟! فلماذا التعتيم؟ وتلك القصيدة العصماء
قال عنها ابن كثير : قصيدة بليغة جداً لا يستطيع أن يقولها إلّا من نُسبت إليه ، وهي
أفحل من المعلقات السبع ، وأبلغ في تأدية المعنى ، وقد استنشدها السفاح العباسي من
موسى بن عبد الله الحسنيـكما في مقاتل الطالبين / 396ـوهي قصيدة طويلة ، أوردها
أبو هفان في شرح ديوان أبي طالب في / 121 بيتاً ، وابن هشام في / 94 بيتاً.

وشرحها كثيرون : منهم البغدادي في خزانة الأدب 1 / 251 ـ 231.

ومنهم السهيلي في الروض الأنف 1 / 174.

ومنهم المرحوم الشيخ جعفر نقدي شرحها بكتاب خاص سماه (زهرة الأدباء في شرح
لامية شيخ البطحاء) وقد طبع في المطبعة الحيدرية سنة 1356 ه‍.

ومنهم المرحوم عليّ فهمي (مفتي بلاد الهرسك ، ومعلم الأدبيات العربية في دار الفنون)
وشرحه مطبوع باسم (طلبة الطالب في شرح لامية أبي طالب) في مطبعة روشن تركية
1327 ه‍ وهو أوفى شرحاً من غيره.

ولأبي طالبرضي‌الله‌عنه في ديوانه من غرر الأشعار يذكر فيها أسباب عداوة قريش لبني هاشم
وأهمها الحسد ، فاقرأ مثلاً قوله
رضي‌الله‌عنه :

إذا اجتمعت يوماً قريش لمفخر

فعبد مناف سرُّها وصميمُها

وان حُصِّلت أشراف كل قبيلةٍ

ففي هاشم أشرافُها وقديمُها

وإن فخرت يوماً فإن محمداً

هو المصطفى من سرّها وكريمُها

تداعت قريش غثُّها وسمينُها

علينا فلم تظفر وطاشت حلومُها

٦٣

معاناة الحصار :

قال البلاذري : « فَلمّا رأى أب وطالب انهمـقريشـعازمون على
الاستمرار في قطيعتهم ، خاف على ابن أخيه ، ثم انطلق بهمـببني هاشم
والمطلبـفأقامهم بين أستار الكعبة فدعوا على ظلمة قومهم ، واجتمعت قريش
على أمرها ، فقال أبو طالب : اللّهم إن قومنا قد أبوا إلّا البغي فعجّل نصرنا وحل
بينهم وبين قتل ابن أخي » (1) اللّهم انصرنا على من ظلمنا وقطع أرحامنا واستحلّ
ما يحرم عليه منا.

وقالت قريش : لا صلح بيننا وبين بني هاشم وبني المطلب ولا رحم ولا إلّ
ولا حرمة إلّا على قتل هذا الرجل الكذاب السفيه.

وعاد أبو طالب إلى الشعب ومعه بنو هاشم وبنو المطلب مَن كان على دين
النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن لم يكن ، ولكن للحسب والشرف إلّا أبو لهب فإنّه خرج إلى
قريش فظاهرهم على بني عبد المطلب » (2) .

ولنقرأ ما كتبه الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام وهو ممن عاش
في ذلك الظرف العصيب ، وعانى الكثير الكثير فقال يصف تلك المحنة :

_____________________________________

وكنا قديماً لا نقرّ ظلامةً

إذا ما ثنَوا صعر الخدود نقيمُها

ونحمي حماها كل يوم كريهةٍ

ونضرب عن أبحارها من يرومَها

بنا انتعش العودُ الذويّ وإنما

بأكنافنا تَندى وتنمي أرومُها

يدين لهم كل البرية طاعةً

ويكرمها ما الأرض عندي أديمُها

(ديوان أبي طالب بن عبد المطلب) صنعة أبي هفان عبد الله بن أحمد المهزمي البصري
المتوفى سنة 257 ه‍ تحقيق العلامة الشيخ محمّد حسن آل يس / 121ـ122 وتحقيق
العلامة المحمودي / 72.

(1)أنساب الاشراف 1 / 230 ط دار المعارف بمصر.

(2)بلوغ الأرب 1 / 326.

٦٤

فأراد قومنا قتل نبيّنا واجتياح أصلنا ، وهموا بنا الهموم وفعلوا بنا الأفاعيل
ومنعونا العَذبَ الماء وأحلِسونا الخوف ، واضطرونا إلى جبل وعر ، وأوقدوا لنا نار
الحرب ، فعزم الله لنا على الذبّ عن حوزته والرمي من وراء حومته ، مؤمننا يبغي
بذلك الأجر ، وكافرنا يحامي عن الأصل ، ومن أسلم من قريش خلوٌ ممّا نحن
فيه ، بحلف يمنعه أو عشيرة تقوم دونه ، فهو من القتل بمكان أمنٍ (1) .

ومن أصدق من علي وصفاً ، وهو الذي كان مع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منذ نعومة
أظفاره ، فقد كفله عنده منذ أصابت قريشاً أزمة شديدةـكما يقول مجاهد
راوي الحديثـوكان أبو طالب كثير العيال ، فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للعباسـوكان من
أيسر بني هاشمـ(يا عباس انّ أخاك أبا طالب كثير العيال وقد ترى ما أصاب
الناس من هذه الأزمة ، فانطلق بنا فلنخفف عنه من عياله آخذ واحداً من بنير
وتأخذ واحداً فنكفيهما عنه) ، فقال العباس : نعم فانطلقا حتى أتيا أبا طالب فقالا
له : انّا نريد أن نخفف عنك من عيالك حتى ينكشف عن الناس ما هم فيه ، فقال
لهما : إنّ تركتما لي عقيلاً فاصنعا ما شئتما ، فأخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليّاً فضمّه إليه ،
وأخذ العباس جعفراً فضمه إليه ، فلم يزل علي بن أبي طالب عليه‌السلام مع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم
حتى بعثه الله نبياً فاتبعه عليّ فأقرّ به وصدّقه ، ولم يزل جعفر عند العباس حتى
أسلم واستغنى عنه (2) .




_______________________

(1)شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد 3 / 303.

(2)نفس المصدر 3 / 251 ، وروضة الواعظين / 86 ط الحيدرية.

٦٥
٦٦

٦٧
٦٨




وليد الشعب :

قال ابن أبي الحديد في شرح النهج في بيان أسماء من كان في الشعب من
بني هاشم : « كانوا صنفين مسلمين وكفاراً : فكان عليّ عليه‌السلام وحمزة بن عبد
المطلب مسلمَين ، واختلف في جعفر بن أبي طالب هل حصر في الشعب معهم أم
لا؟ فقيل : حصر في الشعب معهم ، وقيل : بل كان قد هاجر إلى الحبشة ولم يشهد
حصار الشعب ، وهذا هو القول الأصح.

وكان من المسلمين المحصورين مع بني هاشم عبيدة بن الحارث بن
المطلب بن عبد مناف ، وهو وإن لم يكن من بني هاشم إلّا أنّه يجري مجراهم ،
لأن بني المطلب وبني هاشم كانوا يداً واحدة لم يفترقوا في جاهلية ولا
في إسلام ، وكان العباسرحمهاللهفي الشعب إلّا أنّه كان على دين قومه ،
وكذلك عقيل وطالب ابنا أبي طالب ونوفل بن الحراث بن عبد المطلب
وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وابنه الحارث بن نوفل بن الحارث
ابن عبد المطلبـوكان شديداً على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ...ـوكان سيد
المحصورين في الشعب ورئيسهم وشيخهم أبا طالب بن عبد المطلب وهو
الكافل والمحامي له » (1) .

_______________________

(1)شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد 3 / 310.

٦٩

فكان من أولئك الذين أخذتهم الحمية للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عمه العباس بن عبد
المطلب فقد دخل الشعب هو وأفراد أسرته تبعاً لرأي زعيمهم شيخ البطحاء (أبي
طالب) وإرضاءً لأبن أخيه محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وأصاب بني هاشم عنتٌ شديد من جراء تلك المقاطعة ، حتى أنّ الرجل
منهم ليخرج بالنفقة فما يباع منه شيئاً ، وخرج العباس مرة من الشعب ليشتري
طعاماً فأراد أبو جهل أن يسطو به ، فمنعه الله منه (1) .

وفي أيام الشعب كانت للعباس بادرة مع الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ربما توحي باختبار
أو تصديق فراسة منه في ابن أخيه.

فقد روى ابن كثير الدمشقي في تاريخه : انّ العباس قال للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا محمّد
أرى أم الفضل قد اشتملت على حمل ، فأجابه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (لعل الله أن يقر أعينكم
بغلام) ، وفي رواية : (لعل الله أن يبيض وجوهنا بغلام) (2) .

وأخرج الخطيب البغدادي في تاريخه خبراً بسنده عن أم الفضل بنت
الحارث الهلالية قالت : مررت بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو في الحجر فقال : (يا أم الفضل إنك
حامل بغلام) ، قالت : يا رسول الله وكيف وقد تحالف الفريقان أن لا يأتوا النساء؟
قال : (هو ما أقول لك. فإذا وضعتيه فأتيني به) ، قالت : فلمّا وضعته أتيتُ به رسول
الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأذّن في إذنه اليمنى وأقام في إذنه اليسرى وقال : (أذهبي بأبي الخلفاء).

قالت : فأتيت العباس فأعلمته فكان رجلاً جميلاً لبّاساً فأتى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلمّا
رآه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قام إليه فقبّل بين عينيه ثم أقعده عن يمينه ، ثم قال: (هذا عمي
فمن شاء فليباه بعمه).

_______________________

(1)أنظر أنساب الأشراف 1 / 235.

(2)البداية والنهاية 8 / 295 ، وانظر المعرفة والتاريخ للفسوي 1 / 541.

٧٠

قال : يا رسول الله بعض هذا القول : قال : (يا عباس لم لا أقول هذا القول
وأنت عمي وصنو أبي ، وخير من أخلف بعدي من أهلي) فقلت : يا رسول الله ما
شيء أخبرتني به أم الفضل عن مولودنا هذا؟

قال : (نعم يا عباس إذا كانت سنة خمس وثلاثين ومائة فهي لك ولولدك
منهم السفاح ومنهم المنصور ومنهم المهدي) (1) .

وأخرج الحديث أيضاً أبو نعيم في دلائل النبوة وفي آخره : « منهم من
يصلي بعيسى بن مريم عليه‌السلام »(2) . والخبر باطل كما قال الذهبي في ترجمة أحمد
ابن راشد في ميزانه حيث قال : « عن سعيد بن خثيم بخبر باطل في ذكر بني
العباس ثم ساق الرواية ، وقال : وهو الذي اختلقه بجهل » (3) .

مباركة الوليد الجديد :

وفي آخر أيام الشعب تلد أم الفضل ولدها عبد الله بن عباس ، وتصدق
النبوءة ويبدو أنّ العباس استبشاراً بوليده وإيماناً بصدق فراسته في ابن أخيه حين
أخبر عن ولادته ، يتقدم بوليده إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليباركه ، فأخذه وحنكه بريقه(4)
وسماه عبد الله.

وثمة رواية أخرى تذكر أنّ الذي تقدم به إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هي أمه أم الفضل
ولكن لا أكاد أصدق بصحتها ، نظراً لاشتمالها على سُنن لم تشرع بعد ، نحو
_______________________

(1)تاريخ بغداد 1 / 63.

(2)دلائل النبوة / 482 ـ 483.

(3)ميزان الاعتدال 1 / 97 / 375.

(4)قال مجاهد : فلا نعلم أحداً حنكه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بريقه غيره. أنظر البداية والنهاية
8 / 295.

٧١

الأذان في أذنه اليمنى والإقامة في اليسرى ، وهذا لا يصمد أمام ما روي في
تاريخ ابتداء الأذان ، وأن تشريعه كان في السنة الثانية من الهجرة (1) .

ولم تقتصر تلك الرواية في مباركة الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وليد عمّه على ذكر
الأذان ، كما في الرواية السابقة ، بل ذكر أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخذه فحنكه ، ولتّه بريقه ، ودعا
له ، وسماه عبد الله.

وذكر البلاذري : « عن عباس بن هشام عن أبيه عن جده عن أبي صالح
قال : ولد عبد الله ابن عباس وبنو عبد المطلب في الشعب ، وذلك قبل هجرة
النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى المدينة بثلاث سنين ، فجاء به أبوه إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقبّله ومسح وجهه
ورأسه ودعا له فقال : اللّهم املأ جوفه فهماً وعلماً ، واجعله من عبادك الصالحين.
ثم قال : ياعم هذا عن قليل حبر أمتي وفقيهها ، والمؤدي لتأويل التنزيل » (2) .

ولا شك أنّ في الرواية سنداً ومتناً أكثر من مناقشة ، بل عليها آثار
الوضع بادية! ومع ذلك لا نشك أنّ الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان إذا أتوه بوليد
يدعو له ويباركه ، فمن غير المستبعد أن أجرى ذلك لأبن عمه خصوصاً وهم في
حال الحصار ، وقد دخل أبوه العباس الشعب حميّة لأبن أخيه ، ولم يكن بعد
قد أسلم.

وقد ذكر أبو جعفر الطبري في تهذيب الآثار في السفر الأول (مسند عبد
الله بن عباس) تحقيقاً شاملاً حول أحاديث : (اللّهم علمه الحكمة) ، (اللّهم علمه
_______________________

(1)لعل من الغريب أن يذهب أبو القاسم السهمي في الفضائل إلى القول بهذه الرواية نقلاً
عن أبي عمرو مع ما فيها من آثار الوضع الظاهرة. أنظر تاريخ الخميس للديار بكري
1 / 167 ط الوهبية 1283 ه‍.

(2)عيون الأثر لابن سيد الناس 1 / 129.

٧٢

الكتاب) ، (اللّهم ألهمه التأويل وعلّمه الحكمة) ، (اللّهم فقّهه في الدين وعلّمه
التأويل) ، (اللّهم علمه الحكمة وتأويل القرآن) ، إلى آخر ما ذكره من أخبار ورد
فيها دعاء الرسول الكريم بأسانيد مختلفة ومتون متفاوتة ، وليست كلها قالها عند
ولادته ، بل صريح بعضها أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قالها في المدينة(1) .

ثم قال : « القول البيان عن معنى ما في هذا الخبر ، والذي فيه : الإبانة عما
خصّ الله تعالى ذكره به نبيّنا صلى الله عليه(وآله)وسلم من الفضيلة باجابة
دعائه ، وإعطاء مسألته ، وذلك أنه دعا عليه‌السلام لابن عمه عبد الله بن عباس بأن يعلّمه
الحكمة وتأويل القرآن ، وأن يفقهه في الدين فأعطاه ذلك ، وأجاب له دعاءه بما
دعا به فيه ، فكان عالماً بالحكمة وتأويل القرآن ، فقيهاً في الدين ، مقدّماً في ذلك ،
نقّاباً مبرّزاً على أقرانه ، لا يتقدمه منهم أحد ، بل لا يدانيه ولا يقاربه منهم بشرٌ في
أيامه ، يشهد له بذلك الجلة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه(وآله)وسلم
والتابعين لهم بإحسان » (2) .

ثم ساق شهادات بعلمه عن كل من ابن مسعود ، وعائشة ، وابن عمر ،
ومجاهد ، وميمون بن مهران ، وعكرمة ، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة ، وسليم أبي
هنّاد ، وطاوس ، والأعمش وسعيد بن جبير ، وشقيق ، وحكيم بن جبير (3) . (وستأتي
في تاريخه العلمي ، الحلقة الثالثة)

أقول : وبعد هذا الذي ذكره الطبري من الشهادات الدالة على ظهور آثار
الدعوة النبوية في ابن عمه حبر الأمة عبد الله بن عباس ، نطمئن إلى صدور
الدعوة المباركة ، اجمالاً مهما كانت الشكوك في التفاصيل الأخرى.

_______________________

(1)تهذيب الآثار (السفر الأول) / 163.

(2)نفس المصدر / 171.

(3)نفس المصدر / 172 ـ 181.

٧٣

لقد ورد في كتاب أخبار الدولة العباسية أبيات شعر قالها المسور بن
مخرمة الزهري في تصديق ذلك :

أدنى النبيّ ابن عباس وقال له

قولاً فقُدس فيه الأهل والولد

والعلم والسلم كانا رأس دعوته

ما مثلُ هذا بما يُرجى له أحد

وقبلها دعوة كانت مباركةً

ثم الظهور بما فيهم وما ولدوا

كم دعوة سبقت فيهم مباركة

فيها افتخارٌ وفيها يكثر العدد(1)

أقول : وأنا أشك في صحة نسبة الأبيات إلى المسور لأنّه مات سنة 64 كما
ذكر الذهبي في سير أعلام النبلاء (2) ، والأبيات فيما يبدو من نسج شاعر عباسي
متزلفٌ.

تحقيق في تاريخ زمان ومكان الولادة :

لا نشك في مكان وزمان الولادة ، وأنها كانت في الشعب في آخر سني
الحصار ، بل وفي أخريات أيامه ، فإذا كان مبدأ الحصار ليلة هلال المحرم سنة
سبع من حين نبئ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وعرفنا أنّ خروج بني هاشم كان في السنة
العاشرة ، وكان مدة مكثهم ثلاث سنين (3) ، فتكون ولادته في أحد أشهر الحج
(شوال ، ذي القعدة ، ذي الحجة) ، وما روي من أقوال أخرى في سنة ولادته من
خلال تعيين سنّه عند وفاة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا تثبت عند التمحيص.

_______________________

(1)أخبار الدولة العباسية / 26 (لمؤلف مجهول تحقيق الدكتور عبد العزيز الدوري والدكتور
عبد الجبار المطلبي) ط دار الطليعة.

(2)سير أعلام النبلاء 4 / 481.

(3)أنساب الأشراف (ترجمة ابن عباس) 1ق1 / 269 ب ، (مصور بمكتبة الأمام أمير
المؤمنين عليه‌السلام ).

٧٤

وقد وهنّها غير واحد من المحدثين ، فلا حاجة بنا إلى الإطناب بنقلها
ومناقشتها لأنّها غير معتبرة عند الأئمة من أهل العلم ، ونكتفي بما قاله الواقدي
وأبو عمر في الاستيعاب.

فقد قال الواقدي : « لا خلاف عند أئمتنا انه ولد في الشعب حين حصرت
قريش بني هاشم ، وانه كان له عند موت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثلاث عشرة سنة »(1) .

وقال أبو عمر : « لا أختلاف عند أهل العلم عندنا : انّ ابن عباس ولد في
الشعب وبنو هاشم محصورون قبل خروجهم منه بيسير ، وذلك قبل الهجرة بثلاث
سنين » (2) .

وبناءً على ذلك فتكون ولادته في الشهور الأخيرة من السنة الثالثة
لحصارهم ولما كان فك الحصار في أول المحرم ، فلعل ولادته كانت في أيام
شهور الحج.

وقد يؤيد ذلك بما رواه مالك والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي
والنسائي وابن ماجة وأحمدـواللفظ لهـ: « من حديث مالك عن الزهري عن
عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس أنه قال : مررت في حجة الوداع على
حمارٍ أنا والفضل وقد راهقت يومئذٍ الاحتلام ، والنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يصلي... الخ »(3) .

وهذا حديث احتج به غالب أصحاب السنن والصحاح في باب الرخصة
في المرور بين يدي المصلي مستدلّين على جوازه بحديث ابن عباس هذا ، فإن
حجة الوداع كانت في السنة العاشرة للهجرة ، وإذا أضفنا إليها ثلاث سنين قبلها
فتكون ثلاث عشرة سنة ، فإبنها مراهق للإحتلام.

_______________________

(1)الاصابة 2 / 330.

(2)أنظر ترجمته في الاستيعاب.

(3)أنظر ذخائر المواريث 2 / 40 ط 1الأزهرية 1352.

٧٥

قال الواقدي : « وهذا أثبت ممّا روى هشيم عن أبي بشر عن سعيد بن جبير
في سنّه » (1) ـ يعني قول ابن عباس : توفي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأنا ابن عشر حجج ـ.

كنيته ولقبه :

قال ابن الأثير : « إنّما جيء بالكنية لاحترام المكنى بها ، واكرامه وتعظيمه ،
كيلا يصرّح في الخطاب باسمه ومنه قول الشاعر :

أكنيه حين أناديه لأكرمه

ولا ألقّبه والسوءة اللقبا

وقال أيضاً : ولمّا كان أصل الكنيَة أن تكون بالأولاد تعيّن أن يكون بالذين
ولدوهم ، كأبي الحسن في كنية عليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه ، فمن لم يكن
له ابن وكان له بنت كنّوه بها ...

وقال أيضاً : وكذلك فعلوا في اضافة الأبناء والبنات اكراماً واحتراماً لهم
باضافتهم إلى آبائهم مع ترك أسمائهم ، فقالوا ابن عباس وابن عمر لما كان
اشرف من ابنيهما ، وكذلك كانوا يقولون للحسين بن عليّ يابن بنت رسول الله
كرامة له بأمه... اه » (2) .

هذا عن الكنية أمّا عن اللقب فقد تطور في الاستعمال ، فبعد أن كان
مشعراً بالسوءة كما مر في قول الشاعر ، وورد ذلك المعنى في القرآن الكريم
حيث قال سبحانه : ( وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ ) (3) ، لكنه تطوّر بعد ذلك ، ففي
تفسير الآية الكريمة المراد ما يكره من الأسماء والأوصاف لكن بتطور
_______________________

(1)طبقات ابن سعد 1 / 114 تح‍ د محمّد بن صامل السُلمي.

(2)المرصع لابن الأثير / 41 ـ 43.

(3)الحجرات / 11.

٧٦

الاستعمال صار اللقب مشعراً برفعة المسمّى ، ولعل في غلبة استعمال (اللقب) في
المدح ، واستعمال (النبز) في الذم ما يشير إلى ذلك التطور. ومهما يكن فإنّ
الألقاب المستحسنة كانت ولا تزال تشعر عن مكانة الملقّبينَ ورفعتهم ، قال
الشاعر :

وقلّما أبصرت عيناك من رجل

إلا ومعناه إن فكّرت في لقبه(1)

ويرى الفقهاء في استعمال الألقاب المستحسنة والمستحبة الجواز ، بخلاف
استعمال النبز والألقاب القبيحة (2) ، وكان لحبر الأمة عبد الله بن عباس كنىً
متعددة ، كما له ألقاب عديدة.

فمن كناه : (ابن عباس) وهي التي أشتهر بها ، حتى طغت على باقي كناه
والقابه ، بل وحتى على أسمه ، فكاد أن لا يعرف إلا بها ، وقد اختصت به ،
فلا يعرف بها عند اطلاقها غيره حتى من أخوته على كثرتهم إلّا بقرينة حالية
أو مقالية. قال ابن الأثير : « غلبت عليه بنوة أبيهـابن عباسـدون باقي
أخوته » (3) .

وبتلك الكنية كان يعبّر عنه الرواة وأهل الحديث في كتب التفسير والسنةـ
غالباً ، وحتى كتب الأدب واللغة والتاريخ ، بخلاف كنيته الأخرى (أبو العباس)
إذ وكان له ولد أسمه العباس ويلقب بالأعنق ، وكان أكبر ولده (4) وإن لم يكن
أشهرهم ولا أفضلهم.

_______________________

(1)لطائف المعارف للثعالبي / 45.

(2)أنظر الجامع لأحكام القرآن 16 / 330.

(3)المرصّع / 248.

(4)جاء في تاريخ الخلفاء ط موسكو سنة 1967 سلسلة الآثار الشرقية : وكان العباس بن عبد
الله أكبر أولاده ، وبه كان يكنى ولا عقب له ، وقارن طبقات ابن سعد 1 / 111 من الطبقة

٧٧

وكنيته بأبي العباس ، كانت شائعة الاستعمال ، فقد وردت في جملة من
الآثار دعاه بها سيد أهله الإمام أمير المؤمنين كما في قوله : (يا أبا عباس إذا
صليت العشاء الآخرة فالحقني إلى الجبانة ) (1) ، ودعاه الناس أيضاً بها.

فعن مجاهد قال : « كان ابن عباس لا يدري ما فاطر السموات؟ حتى جاءه
اعرابيان يختصمان في بئر فقال أحدهما : يا أبا عباس بئري وأنا فطرتها؟ فقال :
خذها يا مجاهد ، فاطر السموات » (2) .

وفي حديث خالد بن المهاجر بن خالد المخزومي أخبر : أنّه بينما هو
جالس عند ابن عباس جاءه رجل ، فاستفتاه في المتعة ، فأمره ابن عباس بها ، فقال
له ابن أبي عمرة الأنصاري : مهلاً يا أبا عباس ، فقال ابن عباس : ما هي والله لقد
فعل ـ نكاح المتعة ـ في عهد إمام المتقين (3) .

وخاطبه بها عمر بن الخطاب حين قال له : « يا أبا عباس قد طرأت علينا
أقضية عضل فأنت لها ولأمثالها » (4) .

وخاطبه بذلك معاوية في حديثه معه بعد وفاة الإمام الحسنعليه‌السلام فقال له :
« آجرك الله أبا عباس في أبي محمّد الحسن بن عليّ » (5) .

_____________________________________

الخامسة تح‍ محمّد صامل السُلمي ، وفي الرياض النضرة 2 / 280 في ترجمة الزبير : ان
العباس هذا خلف عليّ هند بنت الزبير فأولدها عوناً.

(1)سعد السعود لابن طاووس / 285.

(2)الكنى والاسماء للدولابي 1 / 82 ط حيدر آباد سنة 1322.

(3)المعرفة والتاريخ 1 / 373 وسيأتي الحديث عن فتياه في المتعة في فقهه.

(4)فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل برقم 1913ط مؤسسة الرسالة 1403.

(5)البيان والتبيين 4 / 71 تح‍. هارون ، وسيأتي ذكر ما جرى في ذلك المجلس في محاوراته
واحتجاجاته.

٧٨

وفي حديث آخر له فقال : « يا أبا العباس هل تكون لكم دولة؟ »(1) .

كما سيأتي في حديث خروج الحسين من مكة إلى العراق وممانعة ابن
عباس في ذلك قال له الحسين : « أبا العباس إنك شيخ قد كبُرت » (2) ، وفي حديث
أبي الزبير عن طاووس قال : « فقلت : يا أبا عباس » (3) .

أمّا ألقابه فكثيرة تتفاوت ظهوراً وخفاءً في شياع الاستعمال وعدمه ، ولعل
أشهرها هو لقبه (حبر الأمة) اللقب الذي كان يلقبّه به جماعة من الصحابة
والتابعين ، أمثال أبي بن كعب وهو احد أصحاب القراءات ، ومحمد بن الحنفية
التابعي الجليل ، وأبي نجيح أحد علماء التابعين ورواتهم ومن تلاميذ ابن عباس ،
وغيرهم.

وربما كان سبب شهرته ما أضفي عليه من قداسته ، حيث روى البلاذري
في كتابه أنساب الأشراف في أول ترجمته (عبد الله بن عباس) رواية عن ولادته
في الشعب ومباركة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم له عندما أتاه عمه العباس بوليده ، وأنه قال : (يا عم
هذا عن قليل (حبر أمتي) وفقيهها والمؤدي لتأويل التنزيل) (4) ، وسواء صحت
هذه الرواية أم لا فإنّ معناها قد حصل وكان ابن عباس (حبر الأمة) وفقيهها
والمؤدي لتأويل التنزيل.

_______________________

(1)المعرفة والتاريخ 1 / 535 ، والبداية والنهاية 6 / 245 و 10 / 50 ، وسيأتي ذكر ما جرى في
صفحات احتجاجاته.

(2)طبقات ابن سعد (ترجمة الحسينعليه‌السلام ) تح‍ الطباطبائي ط مؤسسة آل البيت ، و ص 450
(ترجمة الحسين عليه‌السلام ) الطبقة الخامسة من الصحابة تح‍ محمّد صامل السلمي ط
الأولى سنة 1414 ه‍.

(3)الكنى والأسماء للدولابي 1 / 82.

(4)الانساب ، نسخة مصورة بمكتبة الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام العامة في النجف وعنها
مخطوطة بمكتبتي.

٧٩

ومن ألقابه : (حبر العرب) ويقال : إنّ أول من لقّبه به هو جرجير ملك
المغرب بافريقية ، وسيأتي تفصيل ذلك في حضور الحبر غزاة أفريقية.

وقد جرى عليه هذا اللقب حتى كان أخص تلامذته يعبر به عنه أحياناً.
فقد أخرج البخاري في صحيحه بسنده عن سعيد بن جبير قال : « سألني يهودي
من الحيرة أيّ الأجلين قضى موسى عليه‌السلام ؟ قلت : لا أدري حتى أقدم على حبر
العرب فأسأله ، فقدمت فسألت ابن عباس ، فقال : قضى أكثرهما وأطيبهما ،
إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا قال فعل »(1) . وقال الجاحظ : « وكان يُسمّى البحر وحبر
قريش » (2) .

وقد اختلف اللغويون في ضبط (الحبر) فقال بعضهم : بالكسر : حِبر ، وقال
بعضهم : بالفتح : حَبر ، ومهما كان اختلافهم فانهم لا يختلفون في أنّه الرجل
العالم.

قال أبو عبيد : « والذي عندي انه الحَبر : بالفتح ، ومعناه العالم بتحبير الكلام
والعلم وتحسينه ، وقال : وهكذا يرويه المحدثون كلهم بالفتح » (3) .

ومن ألقابه (ترجمان القرآن) وهو أشرف ألقابه نسبة وأفضلها معنى ، وثانيها
شهرة ، وإن صح ما رواه بعض المؤرخين من « انّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سماه به أيضاً يوم
مولده في الشعب » (4) فإنّ ذلك يضفي عليه نوعاً من القداسة ، لأنّ تسمية
الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إن صحت ، لا تخلو من نبوءة وفراسة.

_______________________

(1)صحيح البخاري 3 / 181.

(2)البيان والتبيين 1 / 331.

(3)تاج العروس 3 / 117 (حبر).

(4)أخرجه الديار بكري في تاريخ الخميس 1 / 167 نقلاً عن الطائي.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487