موسوعة عبد الله بن عبّاس الجزء ٢

موسوعة عبد الله بن عبّاس0%

موسوعة عبد الله بن عبّاس مؤلف:
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
تصنيف: متون حديثية
ISBN: 964-319-502-3
الصفحات: 357

موسوعة عبد الله بن عبّاس

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد حسن الموسوي الخرسان
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
تصنيف: ISBN: 964-319-502-3
الصفحات: 357
المشاهدات: 61152
تحميل: 4136


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 357 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 61152 / تحميل: 4136
الحجم الحجم الحجم
موسوعة عبد الله بن عبّاس

موسوعة عبد الله بن عبّاس الجزء 2

مؤلف:
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
ISBN: 964-319-502-3
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وقد مرّ بنا في ترجمة العباس موقفه في فتح مكة وأتيانه بأبي سفيان حتى أسلم بعد جهدٍ من العباس. فلنقرأ ماذا كان جزاؤه من قريش! وهو الّذي كان كما في حديث رواه الحاكم في المستدرك : « قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (العباس عم نبيكم أجود قريشاً كفاً وأحناه عليكم) »(1) ، وفي لفظ آخر : (أوصلها لها).

فقد أخرج ابن أبي شيبة في مصنفه : « أن العباس دخل على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مَن أغضبك؟ قال : يا رسول الله ما لنا ولقريش إذا تلاقوا بينهم تلاقوا بوجوه مبشرة ، وإذا لقونا لقونا بغير ذلك. قال : فغضب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى أحمرّ وجهه وحتى أستدر عرقٌ بين عينيه ـ وكان إذا غضب أستدرّ ـ فلمّا سرّي عنه قال : والذي نفس محمّد بيده لا يدخل قلب رجل الإيمان حتى يحبكم لله ولرسوله. ثمّ قال : أيها الناس من آذى عمي العباس فقد آذاني ، إن عم الرجل صنو أبيه »(2) .

ولم يقف بغضهم عند حدّ حتى كان رجل من المهاجرين يلقى العباس فيقول له يا أبا الفضل أرأيت عبد المطلب بن هاشم والغيطلة كاهنة بني سهم جمعهما الله جميعاً في النار ، فصفح عنه ، ثمّ لقيه الثانية فقال له مثل ذلك فصفح عنه ، ثمّ لقيه الثالثة فقال له مثل ذلك ، فرفع العباس يده فوجأ أنفه فكسره ، فأنطلق الرجل كما هو إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلمّا رآه قال : ما هذا؟ قال : العباس ، فأرسل إليه فجاءه فقال : ما أردت إلى رجل من المهاجرين؟ فقال : يا رسول الله والله لقيني فقال ـ وذكر مقالته ـ فصفحت عنه مراراً ، ثمّ والله ما ملكت نفسي ، وما إياه أراد ولكنه أرادني.

__________________

(1) مستدرك الحاكم 3 / 328.

(2) مصنف ابن أبي شيبة 12 / 108ط باكستان ، وقارن سنن الترمذي (المناقب) ، ومستدرك الحاكم 3 / 333.

٢٨١

فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (ما بال أحدكم يؤذي أخاه في الأمر ...)(1) ، وكأن المهاجرين لم يسمع قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (لا تسبوا الأموات فتؤذوا الأحياء)(2) .

ولئن تكتم الراوي على اسم الرجل من المهاجرين في هذا الحديث ، إلاّ أنّ قتادة نمّ على استحياء على اسمه فقال : كان بين عمر وبين العباس قول فأسرع إليه العباس ، فجاء عمر إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : « ألم تر عباساً فعل بي كذا وكذا وفعل فأردت أن أجيبه فذكرت مكانه منك فكففتَ عنه ، فقال : يرحمك الله إن عمّ الرجل صنو أبيه »(3) .

وفي حديث آخر كشف العباس السبب في تمعّر الوجوه عند ملاقاتهم فقال : « يا رسول الله إنا لنرى وجوه قوم من وقائع أوقعتها فيهم. فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (لن يصيبوا خيراً حتى يحبوكم لله ولقرابتي. ترجو سلهف شفاعتي ولا يرجوها بنو عبد المطلب) »(4) .

والآن فقد تبيّن سبب انقباض قريش من بني هاشم فكانت تلاقيهم بوجوه عليها غبرة ترهقها قترة. لأنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أوقع فيهم وقائع أورثتهم البغضاء وملأت قلوبهم الشحناء.

وإذا رجعنا إلى تاريخ تلك الوقائع نجد الإمام عليّعليه‌السلام هو فارسها المقدّم في جميع الحروب فبدءاً من وقعة بدر وهي الّتي أعز الله بها المسلمين وأذل قريش المشركين ، نجد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ندب عمه الحمزة وعبيدة بن الحارث من بني

__________________

(1) طبقات ابن سعد 3 ق 1 / 16.

(2) مجمع الزوائد 8 / 76.

(3) طبقات ابن سعد 3 ق 1 / 17.

(4) المصنف لابن أبي شيبة 12 / 109 ، وتهذيب ابن عساكر لابن بدران 7 / 239. وسلهف حي من أحياء العرب.

٢٨٢

المطلب وابن عمه عليّ بن أبي طالب فكانوا أوّل المجاهدين من المسلمين في تلك الوقعة وقد قتلوا ثلاثة من صناديد قريش وكلّهم من بني أمية ، وهم عتبة وشيبة والوليد ، وفي هذه الوقعة مات عبيدة مرتثاً بجراحه ، فبقي الحمزة وعليّ ، حتى إذا كان يوم أحد واستشهد الحمزة بتحريض هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان وأم معاوية فقد أغرت وحشياً على أن يقتل لها أحد الثلاثة محمّداً أو الحمزة أو عليّ ، فأصاب الحمزة ، ومثلـّت به هند حتى استخرجت كبده فلاكتها ، وبقي عارها عليها وعلى ابنها معاوية فكان يعيّر بابن آكلة الأكباد ، فبنو حرب لم ينسوا ما كان من حمزة وعليّ وعبيدة في يوم بدر ، كما ان بني هاشم لم ينسوا ما كان من هند يوم أحد ، وبعد يوم أحد لم يبق من الثلاثة الذين عضدوا النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من بني هاشم يوم بدر إلاّ عليّ ، فكان يخوض غمار الوقائع فكان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كلما فغرت فاغرة للمشركين قذف أخاه في لهواتها ، فلا ينكفيء حتى يطأ صماخها بأخمصه مكدوداً دؤباً في سبيل الله ، فانظر تاريخ الوقائع في الأحزاب ، وخيبر وحنين وغيرها تجد شواهد الصدق ، فتلكم هي الوقائع الّتي أورثت الأضغان في القرشيين ، فكانوا لا يحبون الهاشميين ، ومنهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فكانوا وهم يظهرون الإسلام ويخرجون مع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حروبه ، إلاّ أنّهم يسرّون حسواً في أرتغاء ، وما دحرجة الدباب ليلة العقبة إلاّ دليل ذلك الحقد الدفين والكاشف عن النفاق.

ففي صحيح مسلم بسنده عن أبي الطفيل قال : « كان بين رجل من أهل العقبة وبين حذيفة ما يكون بين الناس ، فقال : أنشدك الله كم كان أصحاب العقبة؟ فقال له القوم : أخبره إذ سألك.

قال : كنا نجد أنّهم أربعة عشر ، فإن كنت فيهم فقد كان القوم خمسة عشر ، وأشهد بالله أن إثني عشر منهم حرب لله ولرسوله ويوم يقوم الأشهاد ، وعذر

٢٨٣

ثلاثة ، وقالوا : ما سمعنا منادي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا علمنا بما أراد القوم ، وقد كان في حرّة فمشى فقال : إن الماء قليل فلا يسبقني إليه أحد ، فوجد قوماً قد سبقوه فلعنهم يومئذ »(1) فأنجاه الله ممّا مكروا وأرادوا به كيداً فجعلهم الأخسرين.

__________________

(1) جاء في هامش صحيح مسلم 8 / 123 قولهعليه‌السلام في أمتي اثنا عشر منافقاً وهم الذين قصدوا قتل النبيّعليه‌السلام ليلة العقبة مرجعه من تبوك ، حين أخذ النبيّعليه‌السلام مع عمّار وحذيفة طريق الثنيّة والقوم بطن الوادي ، فطمع أثنا عشر رجلاً في المكر به فاتبعوه ساترين وجوههم غير أعينهم ، فلمّا سمع رسول الله خشفة القوم من ورائه أمر حذيفة أن يردّهم ، فخوّفهم الله حين أبصروا حذيفة ، فرجعوا مسرعين على أعقابهم حتى خالطوا الناس ، فأدرك حذيفة النبيّعليه‌السلام فقال لحذيفة : هل عرفت أحداً منهم؟ قال : لا فإنهم كانوا متلثمين ، ولكن أعرف رواحلهم ، فقالعليه‌السلام : إن الله أخبرني بأسمائهم وأسماء آبائهم ، وسأخبرك بهم إن شاء الله عند الصباح ، فمن ثمة كان الناس يراجعون حذيفة في أمر المنافقين ، قيل : أسرّه النبيّ أمر هذه الفئة المشؤمة لئلا تهيج الفتنة من تشهيرهم أهـ مبارق. ولم يرق لابن حزم ذلك فقال : وأمّا حديث حذيفة فساقط ، لأنه من طريق الوليد ابن جميع وهو هالك ولا نراه يعلم من وضع الحديث ، فانه قد روى أخباراً فيها أن أبا بكر وعمر وعثمان وطلحة وسعد بن أبي وقاصرضي‌الله‌عنه أرادوا قتل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والقاءه من العقبة في تبوك. وهذا هو الكذب الموضوع الّذي يطعن الله واضعه.

أقول : وما ذكره ابن حزم في توهين الوليد بن جميع إنما هو دفع بالصدور وليس بشيء ، ويبدو التشنج في كلامه واضحاً حيث رماه بالهلكة وليس هو كذلك ، فقد ذكره رجال الجرح والتعديل من العامة فأثنوا عليه وقالوا : هو الوليد بن عبد الله بن جميع الزهيري وقد ينسب إلى جده. قال ابن سعد كان ثقة له أحاديث قال أحمد وأبو داود : ليس به بأس ، وقال ابن معين والعجلي : ثقة ، وقال أبو زرعة : لا بأس به ، وقال أبو حاتم صالح الحديث. وقال عمرو بن عليّ : كان يحيى بن سعيد لا يحدثنا عنه ، فلمّا كان قبل موته بقليل حدثنا عنه. وذكره ابن حبان في الثقات قال ابن حجر : وذكره أيضاً في الضعفاء وقال : ينفرد عن الأثبات بما لا يشبه حديث الثقات فلمّا فحش ذلك منه بطل الإحتجاج به.

وقال البزار : أحتملوا حديثه وكان فيه تشيّع ، وقال العقيلي في حديثه أضطراب ، وقال الحاكم : لو لم يخرج له مسلم لكان أولى. راجع ميزان الأعتدال4 / 337 ، وتهذيب التهذيب 11 / 138.

أقول : فتبيّن بعد عرض هذه الأقوال ان الرجل لم يكن من الهالكين كما قال ابن حزم ، كما لم يكن فحش تفرّده فبطل الأحتجاج به كما قال ابن حبان في الضعفاء ، وانما

٢٨٤

تلكم قريش الّتي كانت تتجهم في وجوه أهل البيت ، وهي الّتي ظاهرت وتظاهرت بالعداوة لهم في حياة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبعد وفاته ، كلّ ذلك لما أصابها من خذلان وخسران في الوقائع على يد الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام قالعليه‌السلام : (ما لي ولقريش ، والله لقد قاتلتهم كافرين ، ولأقاتلنّهم مفتونين ، وإني لصاحبهم بالأمس كما أنا صاحبهم اليوم)(1) .

(اللّهمّ إنّي أستعينك على قريش ومن أعانهم ، فإنهم قطعوا رحمي ، وصغّروا عظيم منزلتي ، وأجمعوا على منازعتي أمراً هو لي ، ثمّ قالوا : إلاّ إنّ في الحقّ أن تأخذه ، وفي الحقّ أن تتركه).

قال الشيخ محمّد عبده في شرحه : « ثمّ قالوا أي أنّهم أعترفوا بفضله ، وأنّه أجدرهم بالقيام به ففي الحقّ أن يأخذه ، ثمّ لمّا اختار المقدّم في الشورى غيره ، عقدوا له الأمر وقالوا للإمام : في الحقّ أن تتركه ، فتناقض حكمهم بالحقية في القضيتين ، ولا يكون الحقّ في الأخذ إلاّ لمن توفرت فيه الشروط »(2) .

وقالعليه‌السلام :

تلكم قريش تمناني لتقتلني

فلا وربّك ما برّوا وما ظفروا

__________________

قال ذلك ـ فيما أحسب ـ لأنه يروي حديث حذيفة وأمثال ذلك مما فيه أسماء رموز القرشيين ، ثمّ ما قاله الحاكم لو لم يخرّج له مسلم لكان أولى ، أفلا عطف على مسلم أبا داود والترمذي والنسائي فكلّهم أخرج له في سننه ، فالرجل معدود من رجال الصحاح ، الّذين قالوا بوثاقتهم حيّ على الفلاح ، فليس هو بهالك وحديثه يصح أعتباره من المدارك. وقد أخرجه أحمد في مسنده عن أبي الطفيل ورواه الهيثمي في مجمع الزوائد وقال : رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح. فسقط التعلق به والحمد لله رب العالمين.

اُنظر المحلى لابن حزم 11 / 221 ـ 224 وراجع منتخب كنز العمال بهامش مسند أحمد 5 / 91 نقلاً عن ابن أبي شيبة في المصنف.

(1) شرح نهج البلاغة لمحمّد عبده 1 / 77 ط الإستقامة.

(2) نفس المصدر 2 / 103 وفي بعض الروايات اللّهم إنّي أستعديك على قريش.

٢٨٥

فإن هلكت فرهن ذمتي لهم

بذات روقين ما يعفو لها أثر(1)

وقد مرت بعض كلمات عمر مع ابن عباس وتأتي كاملة في صفحة أحتجاجاته ، وفيها أقواله المعربة عن كراهية قريش للإمام نحو قوله : « ولكن قريش لا تحتمله » ، وقوله : « وقريش لما قد وترها » ، وقوله : « وبغض قريش له ».

وقد ردّ ابن عباس على عمر أقواله كلّها فمن ذلك قوله : « وأمّا بغض قريش له ، فوالله ما يبالي ببغضهم له بعد أن جاهدهم في الله حين أظهر الله دينه ، فقصم أقرانها ، وكسر آلهتها ، وأثكل نساءها في الله ، لامه من لامه »(2) .

وإنّ أبلغ تمثيل قاله عمر في تصوير منتهى حقد قريش وكراهيتهم للإمام وتصويره : « إنّ قريشاً ينظرون إلى الإمام نظر الثور إلى جازره » ، ولم أقف على هذا التشبيه عند غيره ، وهو تشبيه بالغ الدقة في التصوير والتعبير. فهو قد جزر منهم سبعين.

قال عمر بن الخطاب لابن عباس. في حديث سيأتي بطوله في صفحة احتجاجاته. : « ما منع قومكم منكم؟

قال : لا أعلم يا أمير المؤمنين ، قال : اللّهمّ اغفر إنّ قومكم كرهوا أن تجتمع لكم النبوة والخلافة فتذهبون في السماء بذخاً وشمخاً ، لعلكم تقولون : انّ أبا بكر أراد الإمرة عليكم وهضمكم ، قال : لكنه حضره أمر لم يكن عنده أحزم ممّا فعل ، ولولا رأي أبي بكر فيّ بعد موته لأعاد أمركم إليكم ، ولو فعل ما هنأكم مع قومكم ، إنّهم لينظرون إليكم نظر الثور إلى جازره »(3) .

__________________

(1) الفائق للزمخشري (روق) وذات الروقين أي الداهية العظيمة قال أبو عثمان المازني : لم يصح عندنا أن عليّاً تكلم من الشعر بشيء إلاّ هذين البيتين.

(2) فرائد السمطين 1 / 335 تح ـ المحمودي.

(3) شرح النهج لابن أبي الحديد 1 / 63 ط مصر الأولى.

٢٨٦

ولايتهم عمر في ذلك على قريش وهو منهم ، أمّا عثمان فهو الأوهن من عمر عند الناس ، لكنه الأكثر شدة مع بني هاشم.

فاقرأ ما قاله عثمان لابن عباس ـ في حديث سيأتي بطوله في صفحة احتجاجاته ـ : « الله إنّك ما تعلم من عليّ ما شكوتُ منه؟ قال : اللّهمّ لا إلاّ أن يقول كما يقول الناس ، ينقم كما ينقمون فمن أغراك به وأولعك بذكره دونهم؟ فقال عثمان : إنّما آفتي من أعظم الداء الّذي ينصب نفسه لرأس الأمر وهو عليّ ابن عمك. وهذا والله كلّه من نكده وشؤمه.

قال ابن عباس : مهلا استثن يا أمير المؤمنين قل ان شاء الله. فقال : إن شاء الله ثمّ قال إنّي أنشدك يا بن عباس الإسلام والرحم فقد والله غلبتُ وابتليت بكم ، والله لوددت ان هذا الأمر كان صار إليكم دوني فحملتموه عني ، وكنت أحد أعوانكم عليه ، اذاً والله لوجدتموني لكم خيراً ممّا وجدتكم لي. ولقد علمت أنّ الأمر لكم ولكن قومكم دفعوكم عنه وأختزلوه دونكم ، فوالله ما أدري أرفعوه عنكم أم رفعوكم عنه؟

قال ابن عباس : مهلاً يا أمير المؤمنين فإنا ننشدك الله والإسلام والرحم مثل ما نشدتنا أن تطمع فينا وفيك عدواً ، وتشمت بنا وبك حسوداً ، إنّ أمرك إليك ما كان قولا ، فإذا صار فعلا فليس إليك ولا في يديك ، وإنا والله لنخالفنّ إن خولفنا ، ولننازعنّ إن نوزعنا ، وما تمنّيك أن يكون الأمر صار إلينا دونك إلاّ أن يقول قائل منا ما يقوله الناس ، ويعيب كما عابوا.

فأمّا صرف قومنا عنّا الأمر فعن حسد قد والله عرفته ، وبغي قد والله علمته ، فالله بيننا وبين قومنا.

٢٨٧

وأمّا قولك : إنّك لا تدري أرفعوه عنا أم رفعونا عنه؟ فلعمري إنّك لتعرف أنّه لو صار إلينا هذا الأمر ما أزددنا به فضلاً إلى فضلنا ، ولا قدراً إلى قدرنا ، وإنا لأهل الفضل والقدر ، وما فضل فاضل إلاّ بفضلنا ، ولا سبق سابق إلاّ بسبقنا ، ولولا هدينا ما أهتدى أحد ، ولا أبصروا من عمى ، ولا قصدوا من خور.

فقال عثمان : حتى متى يا ابن عباس يأتيني عنكم ما يأتيني هبوني كنت بعيداً ما كان لي من الحقّ عليكم أن أراقـَب وأن أناظر ، بلى ورب الكعبة ولكن الفـُرقة سهّلت لكم القول فيّ ، وتقدمت إلى الإسراع إليّ والله المستعان »(1) .

وروى أبو سعد الآبي في كتابه(2) عن ابن عباس قال : « وقع بين عثمان وعليّعليه‌السلام كلام فقال عثمان : ما أصنع إن كانت قريش لا تحبكم وقد قتلتم منهم يوم بدر سبعين كأن وجوههم شنوف(3) الذهب تصرع أنـُفـُهُم قبل شفاههم »(4) .

ومن حقّ السائل أن يسأل عثمان وشيعته عن المقتولين ببدر أليس كانوا مستحقين للقتل؟ فإن كانوا فما ذنب مَن قتلهم ما داموا كفاراً والإسلام أمر بقتلهم لأنهم هم الذين جاؤا لحربه؟

ثمّ ما بال عثمان يتحرق ـ وهو خليفة المسلمين ـ لقتل الكافرين ، ثمّ يصفهم وصف المتلهف عليهم؟ إنّ ذلك معيب عليه لكن الرجل لم يتخل عن أمويته وتعصبه لقومه جميعاً كافرهم ومسلمهم ، ميتهم وحيّهم ، فهو يحقد على

__________________

(1) نفس المصدر 2 / 395 ـ 396 ط الأولى بمصر.

(2) اسم كتابه نثر الدرر وقد طبع منه سابقاً بعضاً بمصر وطبع حديثاً في بيروت على ما بلغني.

(3) الشنوف والشَنف وهو القرط الأعلى ، أو معلاق في قوف الأذن ، أو ما علق في أعلاها ، وأمّا ما علّق في أسفلها فقرط (قطر المحيط ـ شنف).

(4) شرح النهج لابن أبي الحديد 2 / 400.

٢٨٨

من قتل الكافر منهم كما يحقد على من عاب عليه من نصحه في عميته مع قومه الأحياء حتى تمنى لو بيده مفاتيح الجنة لأدخل جميع بني أمية فيها(1) .

وما قريش الّتي لا تحب عليّاً ولا بني هاشم وينظرون إليهم نظر الثور إلى جازره كما مرّ عن عمر إلاّ وهم قريش الّتي ذكرها عثمان بقوله لعليّ : « ما أصنع إن كانت قريش لا تحبكم الخ ». رواه أبو نعيم في كتابه معرفة الصحابة ولفظه عن ابن عباس : « قال عثمان لعليّرضي‌الله‌عنهما : ما ذنبي إن لم يحبك قريش وقد قتلت منهم سبعين رجلا كأن وجوههم سيوف الذهب »(2) .

وأحسب أن المعني لعثمان أوّلاً وآخراً هو الإمام عليّعليه‌السلام لأنّه قاتل المشركين والكفار ، فأوردهم النار وألزم آخرهم العار. لذلك عظمت بليّته ، فكانت قريش بجميع بطونها ومنهم بنو أمية تحقد على بني هاشم ونبيها ـ كما مرّ عن عمر ذلك ـ ولا تحبّهم ـ كما قال عثمان ـ فكان سهم الإمام عظيماً كعظمته ، وكثيراً كثرة جهاده.

روى ابن عساكر بسنده : « انّ رجلا سأل أحمد بن حنبل عن قول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (عليّ قسيم النار) فقال : هذا حديث يضطرب طريقه عن الأعمش ولكن الحديث الّذي ليس عليه لبس قول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (يا عليّ لا يحبّك إلاّ مؤمن ولا يبغضك إلاّ منافق) وقال الله (عزّ وجلّ) :( إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ ) (3) ؟ فمن أبغض عليّاً فهو في الدرك الأسفل من النار »(4) .

__________________

(1) مسند أحمد 1 / 217 ط محققة ، 1 / 62 ط أفست مصر الأولى.

(2) معرفة الصحابة 1 / 300 ـ 301 ط الأولى أطروحة دكتوراه تح ـ د محمّد راضي بن حاج عثمان سنة 1408.

(3) النساء / 145.

(4) تاريخ مدينة دمشق (ترجمة الإمام عليّ) 2 / 253.

٢٨٩

ومن راجع كتاب (السفيانية) للجاحظ و (النزاع والتخاصم) للمقريزي وأضرابهما يجد جذور العداوة بين بني أمية وهم من قريش وبين بني هاشم ضاربة في أصولها متنامية في فروعها ، ولم يخف ذلك على الباحثين من قدامى ومحدثين.

فإلى ما قاله واحد منهم وهو محمّد بن سليمان(1) حاجب الحجاب ، وهذا الرجل لم يكن يتعصب لمذهب بعينه كما قال ابن أبي الحديد وقد رآه ، فلنقرأ ما يقول : « وقد سأله جعفر بن مكي الحاجب عما عنده في أمر عليّ وعثمان فقال : هذه عداوة قديمة النسب بين عبد شمس وبين بني هاشم ، وقد كان حرب بن اُمية نافر عبد المطلب بن هاشم ، وكان أبو سفيان يحسد محمّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحاربه ، ولم تزل الثنتان متباغضتين وإن جمعتهما المنافية ، ثمّ إن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم زوّج عليّاً بابنته ، وزوّج عثمان بابنته الاُخرى وكان اختصاص رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لفاطمة أكثر من اختصاصه للبنت الأخرى ، وللثانية الّتي تزوجها عثمان بعد وفاة الأولى. واختصاصه أيضاً لعليّ وزيادة قربه منه وامتزاجه به واستخلاصه إياه لنفسه ، أكثر وأعظم من اختصاصه لعثمان ، فَنَفَس عثمان ذلك عليه فتباعد ما بين قلبيهما ».

إلى أن قال : « ثمّ أتفق أن عليّاًعليه‌السلام قتل جماعة كثيرة من بني عبد شمس في حروب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فتأكد الشنآن ، واذا أستوحش الإنسان من صاحبه أستوحش صاحبه منه.

ثمّ مات رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فصبا إلى عليّ جماعة يسيرة لم يكن عثمان منهم ، ولا حضر في دار فاطمة مع مَن حضر من المخلّفين عن البيعة ، وكانت في نفس عليّعليه‌السلام أمور من الخلافة لم يمكنه إظهارها في أيام أبي بكر وعمر لقوة عمر وشدّته ، وانبساط يده ولسانه.

__________________

(1) وصفه ابن أبي الحديد بأنه حاجب الحجاب وقال : وكان ظريفاً أديباً وقد أشتغل بالرياضيات من الفلسفة ولم يكن يتعصب لمذهب بعينه.

٢٩٠

فلمّا قتل عمر وجعل الأمر شورى بين الستة ، وعدل بها عبد الرحمن عن عليّ إلى عثمان ، لم يملك عليّ نفسه فأظهر ما كان كامناً ، وأبدى ما كان مستوراً ، ولم يزل الأمر يتزايد بينهما حتى شرف وتفاقم.

ومع ذلك فلم يكن عليّعليه‌السلام لينكر من أمره إلاّ منكراً ، ولا ينهاه إلاّ عما تقتضي الشريعة نهيه عنه.

وكان عثمان مستضعفاً في نفسه ، رخواً ، قليل الحزم ، واهي العقدة ، وسلّم عنانه إلى مروان يصرّفه كيف شاء ، فالخلافة له في المعنى ولعثمان في الإسم ، فلمّا انتقض على عثمان أمره استصرخ عليّاً ولاذ به ، وألقى زمام أمره إليه ، فدافع عنه حيث لا ينفع الدفاع ، وذبّ عنه حين لا يغني الذبّ ، فقد كان الأمر فسد فساداً لا يرجى صلاحه »(1) .

ومع هذه العداوة المتأصلة في جذورها كيف يبرئ معاوية وبنو اُمية الإمام وبني هاشم ، مع أنّهم وأعوانهم كانوا يشهدون ببراءته وبراءتهم ، ولكنها الأحقاد الأموية فاقرأ ما قاله عبد الله بن عمر لمن سأله هل شرك عليّ في دم عثمان؟ فقال : « لا والله ما علمت ذلك في سر ولا علانية ، ولكنه كان رأساً يفزع إليه فألحق به ما لم يكن »(2) .

واقرأ لابن عمر كلمته الاُخرى في حقّ ابن عباس وبراءته من دم عثمان قال : « ما زال ابن عباس ينهى عن قتل عثمان ويعظّم شأنه حتى جعلت ألوم نفسي على أن لا أكون قلت مثل ما قال »(3) .

__________________

(1) شرح النهج لابن أبي الحديد 2 / 401 ط مصر الأولى.

(2) أنساب الأشراف 1 ق 4 / 593.

(3) نفس المصدر 1 ق 4 / 595.

٢٩١

وقال ابن سيرين : « لقد قتل عثمان يوم قتل وما أحد يتهم عليّاً في قتله »(1) .

ولكن معاوية قال لابن عباس في كتاب كتبه إليه بعد صلح الإمام الحسنعليه‌السلام . جاء فيه : « لعمري لو قتلتك بعثمان رجوت أن يكون ذلك لله رضا ، وأن يكون رأياً صواباً ، فإنّك من الساعين عليه ، والخاذلين له ، والسافكين دمه ، وما جرى بيني وبينك صلح فيمنعك مني ولا بيدك أمان ».

فأجابه بجواب طويل جاء فيه : « وأمّا قولك إنّي من الساعين على عثمان والخاذلين والسافكين له وما جرى بيني وبينك صلح فيمنعك مني ، فأقسم بالله لأنت المتربّص بقتله والمحبّ لهلاكه ، والحابس الناس قبلك عنه على بصيرة من أمره ، ولقد أتاك كتابه وصريخه يستغيث بك ويستصرخ ، فما حفلت به حتى بعثت إليه معذراً بأمر أنت تعلم أنّهم لن يتركوه حتى يقتل ، فقتل كما كنت أردت ، ثمّ علمت عند ذلك أن الناس لن يعدلوا بيننا وبينك فطفقت تنعى عثمان وتلزمنا دمه ، وتقول قتل مظلوماً ، فإن يك قتل مظلوماً فأنت أظلم الظالمين ، ثمّ لم تزل مصوّباً ومصعّداً وجاثماً ورابضاً تستغوي الجهّال ، وتنازعنا حقنا بالسفهاء حتى أدركت ما طلبت ، وان أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين »(2) .

نعم أنّ بني هاشم كانوا من الكارهين لولاية عثمان أولاً لأنهم يرون أن الحقّ لهم ، وكانوا من الساخطين على سيرته ثانياً حين أسخط المسلمين عملُه ، ولم يكونوا وحدهم قد سخطوا سيرته ، بل جميع الصحابة في المدينة وخارجها كانوا كذلك.

فقد روى شعبة بن الحجاج عن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف قال : « قلت له : كيف لم يمنع أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن عثمان؟

__________________

(1) نفس المصدر 1 ق 4 / 594.

(2) شرح النهج لابن أبي الحديد 4 / 58.

٢٩٢

فقال : إنّما قتله أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم »(1) .

وروى عن أبي سعيد الخدري أنّه سئل عن مقتل عثمان هل شهده أحد من أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟ فقال : « نعم شهده ثمانمائة »(2) .

فهذان القولان وإن لم يعيّنا بالاسم مَن هم أولئك الصحابة الذين شهدوا مقتل عثمان ولم يمنعوا عنه ، بل إن منهم من قتله ، لكن لم يكن عليّ ولا ابن عباس ولا بقية بني هاشم مع أولئك الصحابة القاتلين لعثمان وإذ لم يكونوا معهم ، فما بال بني أمية عصبوا قتله بهم؟ انهم لم يكونوا مع القاتلين ولا مع المحرّضين عليه ، بل كانوا من المدافعين عنه ، وقد ردّوا عنه كثيراً حتى أعجزهم هو حين لم يأخذ بنصائحهم وكان يتـّهمهم لما في نفسه من جذور العداوة المتأصلة بين بيتي عبد مناف ـ بني هاشم وبني أمية ـ.

والآن إلى ما رواه البلاذري والطبري وابن الأثير وابن كثير والنويري نقلاً عن الواقدي من نصائح الإمام أمير المؤمنين لعثمان ، ننقلها بلفظ الطبري قال ـ بعد ذكر نقمة الناس وتداعي الأمصار بالنكير على سيرة عثمان ـ : « فاجتمع الناس وكلّموا عليّ بن أبي طالب ، فدخل على عثمان فقال : الناس ورائي وقد كلّموني فيك والله ما أدري ما أقول لك ، وما أعرف شيئاً تجهله ، ولا أدلـّك على أمر لا تعرفه ، إنّك لتعلم ما علمنا ما سبقناك إلى شيء فنخبرك عنه ، ولا خلونا بشيء فنبلّغكه ، وما خصصنا بأمر دونك ، وقد رأيتَ وسمعتَ وصحبتَ رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم ونلتَ صهره.

وما ابن أبي قحافة بأولى بعمل الحقّ منك ، ولا ابن الخطاب بأولى بشيء من الخير منك ، وإنّك أقرب إلى رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم رَحِماً ،

__________________

(1) نفس المصدر 1 / 231.

(2) نفس المصدر.

٢٩٣

ولقد نلتَ من صهر رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم ما لم ينالا. ولا سبقاك إلى شيء ، فالله الله في نفسك ، فإنك والله ما تـُبصّر من عَمى ، ولا تعلّم من جهل ، وإنّ الطريق لواضح بيّن ، وإن أعلام الدين لقائمة ، تعلم يا عثمان انّ أفضل عباد الله عند الله إمام عادل ، هُدي وهَدىَ ، فأقام سنة معلومة ، وأمات بدعة متروكة ، فوالله إن كلاً لبيّن وإن السنن لقائمة لها أعلام ، وإنّ البدع لقائمة لها أعلام ، وإن شرّ الناس عند الله إمام جائر ضلَّ وضُلّ به ، فأمات سنّة معلومة ، وأحيا بدعة متروكة. وإنّي سمعت رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم يقول : (يؤتى يوم القيامة بالإمام الجائر وليس معه نصير ولا عاذر ، فيلقى في جهنم ، فيدور في جهنم كما تدور الرحا ، ثمّ يرتطم في غمرة جهنم).

وإنّي أحذّرك الله ، وأحذّرك سطوته ونقماته ، فإن عذابه شديد أليم. وأحذّرك أن تكون إمام هذه الأمة المقتول ، فإنّه يقال : يقتل في هذه الأمة إمام ، فيفتح عليها القتل والقتال إلى يوم القيامة ، وتـُلبّس أمورُها عليها ، ويتركهم شيعاً ، فلا يبصرون الحقّ لعلوّ الباطل ، يموجون فيها موجاً ، ويمرجون فيها مرجاً. فلا تكونن لمروان سيّقة يسوقك حيث شاء بعد جلال السنّ وتقضّي العمر.

فقال عثمان : قد والله علمتُ ، ليقولـُنّ الّذي قلتَ ، أما والله لو كنتَ مكاني ما عنفتك ولا أسلمتك ، ولا عبت عليك ، ولا جئت مُنكراً أن وصلتَ رحماً ، وسددت خلّة ، وآويت ضائعاً ، ووليت شبيهاً بمن كان عمر يولّي.

أنشدك الله يا عليّ هل تعلم أن المغيرة بن شعبة ليس هناك؟ قال : نعم ، قال : فتعلم أن عمـر ولاّه؟ قال : نعم ، قال : فلـم تلومني أن ولّيت ابن عامر فـي رحمه وقرابته؟

٢٩٤

قال عليّ : سأخبرك ، انّ عمر بن الخطاب كان كلّ من ولّى فإنّما يطأ على صماخه ، إن بلغه عنه حرف جلبه ثمّ بلغ به أقصى الغاية وأنت لا تفعل ، ضعفتَ ورقـَقتَ على أقربائك.

قال عثمان : هم أقرباؤك أيضاً. فقال عليّ : لعمري إن رحمهم مني لقريبة ، ولكن الفضل في غيرهم.

قال عثمان : هل تعلم إنّ عمر ولّى معاوية خلافته كلّها؟ فقد وليته.

فقال عليّ : أنشدك الله هل تعلم إنّ معاوية كان أخوف من عمر من يرفأ غلام عمر منه؟ قال : نعم.

قال عليّ : فإن معاوية يقتطع الأمور دونك وأنت تعلمها ، فيقول للناس : هذا أمر عثمان فيبلغك فلا تغيّر على معاوية. ثمّ خرج عليّ من عنده.

وخرج عثمان على أثره ، فجلس على المنبر فقال : أمّا بعد ، فإن لكل شيء آفة ، ولكلّ أمر عاهة ، وإن آفة هذه الأمة ، وعاهة هذه النعمة عيّابون طعّانون ، يُرونكم ما تحبون ، ويُسرّون ما تكرهون ، يقولون لكم وتقولون ، أمثال النعام يتبعون أوّل ناعق ، أحبّ مواردها إليها البعيد ، لا يشربون إلاّ نَغَصاً ، ولا يردون إلاّ عكَراً ، لا يقوم لهم رائد ، وقد أعيتهم الأمور ، وتعذّرت عليهم المكاسب.

ألا فقد والله عبتم عليّ بما أقررتم لابن الخطاب بمثله ، ولكنه وطأكم برجله ، وضربكم بيده ، وقمعكم بلسانه ، فدنتم له على ما أحببتم أو كرهتم ، ولنتُ لكم ، وأوطأت لكم كنفي ، وكففت يدي ولساني عنكم ، فأجترأتم عليَّ. أما والله لأنا أعزّ نفراً ، وأقرب ناصراً ، وأكثر عدداً ، وأقمن إن قلت هلمّ أُتي إليّ ، ولقد أعددت لكم أقرانكم ، وأفضلت عليكم فضولها ، وكشّرت لكم عن نابي وأخرجتم مني خُلـُقاً لم أكن أحسِنَه ، ومنطقاً لم أنطق به ، فكفـّوا عليكم ألسنتكم

٢٩٥

وطعنكم وعيبكم على ولاتكم ، فاني قد كففت عنكم مَن لو كان هو الّذي يكلمكم لرضيتم منه بدون منطقي هذا.

ألا فما تفقدون من حقّكم؟ والله ما قصّرت في بلوغ ما كان يبلغ مَن كان قبلي ، ومن لم تكونوا تختلفون عليه. فَضَل فضلٌ من مال ، فما لي لا أصنع في الفضل ما أريد! فلمَ كنت إماماً؟!

فقام مروان بن الحكم فقال : إن شئتم حكّمنا والله بيننا وبينكم السيف نحن وأنتم كما قال الشاعر :

فرشنا لكم أعراضَنا فنبت بكم

معارسُكم تبنون في دمن الثرى

فقال عثمان : أسكت لا سكتّ ، دعني وأصحابي ، ما منطقك في هذا؟ ألم أتقدّم إليك ألا تنطق! فسكت مروان ونزل عثمان »(1) .

وختاماً فإنّ لابن عباس مواقف مع الشانئين من قريش سنأتي على ذكرها في صفحة احتجاجاته ، كما أنّ له أحاديث مرفوعة يرويها للمسلمين حرصاً على هدايتهم أن يخدعهم الإعلام الكاذب من حكام قريش.

فمن الأحاديث ما رواه مرفوعاً عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : (يا بني عبد المطلب إنّي سألت الله لكم أن يعلّم جاهلكم وأن يثبّت قائمكم ، وأن يهدي ضالكم ، وأن يجعلكم نجداء جوداء رحماء ، أما والله لو أن رجلاً صفّ قدميه بين الركن والمقام مصلياً ، ولقي الله وهو يبغضكم أهل البيت لدخل النار)(2) .

__________________

(1) تاريخ الطبري 4 / 337 ـ 339 ط دار المعارف. وأنظر أنساب الأشراف 1 ق4 / 549 تح ـ احسان عباس ، تاريخ الكامل 3 / 62 ـ 64 ط بولاق ، والبداية والنهاية 7 / 168 ط السعادة ، ونهاية الإرب 19 / 470.

(2) أمالي المفيد / 134 ط الحيدرية سنة 1367.

٢٩٦

ومن بعض المواقف مع الشانئين ما رواه ابن أبي الحديد في شرح النهج نقلاً عن الزبير بن بكار بسنده عن عثمان بن عبد الرحمن قال : « قال عبد الله بن عباس : والله لقد علمت قريش إن أوّل من أخذ الإيلاف وأجاز لها العيرات لهاشم. والله ما شدّت قريش رحالاً ولا حبلاً بسفر ، ولا أناخت بعيراً لحضر إلاّ بهاشم. والله ان أوّل من سقى بمكة ماءً عذباً ، وجعل باب الكعبة ذهباً لعبد المطلب »(1) .

معرفة نتائج السخط :

فلنقرأ منها أوّلاً ما كتبه طه حسين في الفتنة الكبرى قال : « ويكاد المؤرخون يجمعون على أنّ الأعوام الستة الأولى من خلافة عثمان مرّت بسلام ، فلمّا أستقبل عثمان الشطر الثاني من خلافته ظهرت المصاعب وقامت المشكلات. ويخيّل إليَّ أنّ المسلمين رضوا بخلافة عثمان ست سنين ، ثمّ أحتملوها أربع سنين ، فلمّا جاوز عثمان بخلافته الأعوام العشرة ، جعل المسلمين يضيقون به ويستطيلون خلافته ، يظهرون ذلك في شيء من الرفق أوّل الأمر ، ثمّ في شيء من الحِدّة بعد ذلك ، ثمّ في عنف جعل يتزايد شيئاً فشيئاً حتى أنتهى إلى غايته المنكرة وهي قتل الإمام.

وليس معنى ذلك انّ عثمان لم يلق معارضة أثناء هذه الأعوام العشرة ، فقد ظهرت المعارضة منذ اليوم الأوّل لخلافته بالقياس إلى قضية عبيد الله بن عمر ، وإنّما معناه انّ المعارضة لم تبلغ طور الخطورة إلاّ في العامين الأخيرين من حياة عثمان

ويقول الرواة : انّ عبد الرحمن بن عوف كان أوّل من اجترأ على عثمان ، فألغى بعض أمره وأطمع الناس فيه. وذلك ان بعض السعاة أقبلوا بإبل الصدقة ،

__________________

(1) شرح النهج لابن أبي الحديد 3 / 458.

٢٩٧

فوهبها عثمان لبعض أهل الحَكَم ، فلمّا بلغ ذلك عبد الرحمن دعا بعض أصحاب النبيّ وأرسلهم فأستردّوا له هذه الإبل وقسّمها في الناس. وعثمان في الدار لم يُنكر ذلك ولم يغيّره ، بل لم يكلّم فيه عبد الرحمن وأصحابه.

فكان اجتراء عبد الرحمن وأصحابه خطراً في نفسه لأنه تغيير لأمر السلطان.

وكان سكوت عثمان على هذا الإجتراء أشد منه خطراً ، لأنّه اعتراف بالخطأ ونقص من هيبة السلطان »(1) .

وقال أيضاً : « ثمّ جعلت المعارضة تشتد في الأمصار وتصل أصداؤها إلى المدينة ، حتى اضطر عثمان إلى أصطناع النفي الإداري ، وجعلت المعارضة تشتد في المدينة وتصل أصداؤها إلى الأمصار فتزيد المعارضين في الأقاليم شدة وأجتراء. حتى أضطر عثمان إلى أن يصطنع الشدة مع معارضيه أنفسهم ، فيوعد وينذر ، ولا يملك نفسه أحياناً من البطش ببعض المعارضين وقد روى المؤرخون : أن الناس كثروا على عثمان ونالوا منه أشنع ما نيل من أحد سنة أربع وثلاثين. وكان أصحاب النبيّ يرون ويسمعون ثمّ لا ينهون ولا يذبّون إلاّ جماعة ضئيلة : زيد بن ثابت وأبو أسيد الساعدي وكعب بن مالك وحسان بن ثابت.

بل كان من أصحاب النبيّ الذين أقاموا بالمدينة يكتبون إلى أصحاب النبيّ الذين تفرّقوا في الثغور يستقدمونهم إلى المدينة لتقويم ما أعوجّ من أمر الخلافة ، يقولون لهم : إنكم خرجتم تطلبون الجهاد ، وانما الجهاد وراءكم ، فارجعوا إلى المدينة لإقامة الدين وصيانته ، فقد عرّضه السلطان لشر عظيم ، واجتمع الناس فتذاكروا الأحداث والخطوب ، ولاموا عثمان فأكثروا لومه ثمّ كلّفوا عليّاً أن يدخل على عثمان فيكلّمه.

__________________

(1) الفتنة الكبرى 1 / 200.

٢٩٨

قال المؤرخون : فدخل عليّ على عثمان فقال له : الناس ورائي وقد كلموني فيك »(1) .

ثمّ ذكر ما مرّ بنا ذكره في آخر مظاهر الحب والبغض.

وقال أيضاً : « تلقـّى أهل الأمصار وعداً من إمامهم فأطمأنوا إليه ، ثمّ تبينوا أنّ الخليفة لم يصدق وعده فأقبلوا ثائرين يريدون أن يفرغوا من هذا الأمر ، وألاّ يعودوا حتى يفرغوا

إنّما كانوا يريدون أن يحاصروا الإمام ويعاجلوه حتى يصلوا إلى خلعه أو إلى قتله ، وقد بلغوا ما أرادوا فدخلوا المدينة وحاصروا الإمام

يريد الثائرون أن يخلع نفسه ، ويأبى هو أن ينزع قميصاً قد كساه الله (عزّ وجلّ) إياه ولكن الأمور تتعقد فجأة فقد عرف الثائرون أن عثمان قد أرسل إلى العمّال في الأمصار يأمرهم بأن يرسلوا إليه الجند لينصروه

وما يكاد الثائرون يعرفون هذا النبأ حتى يتغير الحصار وتتغير معه سيرتهم مع عثمان »(2) .

وقال أيضاً : « ثمّ ثار الناس فتحاصبوا وحُصب عثمان حتى صُرع ، وأحتمل مغشياً عليه ، فأدخل داره فلم يخرج منها إلاّ مقتولا اهـ »(3) .

هذه كانت نتائج السخط العارم الّذي اجتاح حكومة عثمان حتى أودى بحياته ، فأعقب الأمة شراً مستطيراً ، وكان الصحابة الّذي عاشوا تلك الأيام من الساخطين إلاّ نفر يسير لم يتجاوزوا عدد الأصابع وهم لم يغنوا عنه شيئاً.

__________________

(1) نفس المصدر 1 / 202.

(2) نفس المصدر 1 / 210.

(3) نفس المصدر 1 / 212.

٢٩٩

ومرّ بنا حضور حبر الاُمة عبد الله بن عباس في أكثر من موقف مع عثمان ، حيث أطلّ علينا باسمه عاتباً ومستعتباً ، ورسولا وعاذلا ، ولم نجد لعثمان عنده يداً تذكر له فتشكر ، وكان نصيبه ـ كسائر بني هاشم ـ الحرمان حتى ممّا أفاء الله على رسوله ممّا لهم فيه الحقّ. وبقيت له مشاركات يمكن أن نتعرّف فيها المزيد من أخباره ، مع عثمان في محنته بإختباره ، سيأتي الحديث عنها.

كما مرت بنا مواقف الصحابة مع عثمان خصوصاً أولئك الذين أغدق عليهم العطاء فكان الجزاء منهم له شر جزاء. وهي الّتي سميتها بمواقف سنّمارية ، ولم تقصر عنها مواقف بني أمية الذين قتل عثمان من أجلهم ، فقد كانوا معه يوم قتله ولم يدافعوا عنه فلمّا قتل لجأوا إلى أم حبيبة وتركوه جثة هامدة بين زوجتيه نائلة وأم البنين ، فجعلت أم حبيبة آل العاص والحرب وآل أبي العاص وآل أسيد في كندوج ـ مخزن الغِلال ـ وجعلت سائرهم في مكان آخر(1) .

قال المسعودي : « فإذا كان بنو أمية لم يغنوا عنه شيئاً فما الّذي يرجى من غيرهم إذا كان مثل عمرو بن العاص وهو من الساخطين فكان يقول : أسخط عثمان قوماً وآثرهم فأنكر ذلك أهل السخط فغلبوا أهل الأثرة فقتل ، ولمّا بلغه مقتل عثمان وهو بفلسطين فقال : أنا أبو عبد الله إنّي إذا حككت قرحة أدميتها ونكأتها »(2) .

وهذا حذيفة بن اليمان قال لمّا بلغه قتل عثمان : « إنّ عثمان استأثر فأساء الأثرة ، وجزعنا فأسأنا الجزع ، رأوا منه أشياء أنكروها ، وليرونّ أنكرَ منها فلا ينكرونها »(3) .

__________________

(1) نظر معاوية يوماً إلى عمرو بن سعيد يختال في مشيته فقال : بأبي وأمي أم حبيبة ما كان أعلمها بهذا الحيّ حين جعلتك في كندوج ، أنساب الأشراف 1 ق4 / 571.

(2) مروج الذهب 2 / 355 ، واُنظر أنساب الأشراف 1 ق 4 / 579.

(3) أنساب الأشراف 1 ق 4 / 579.

٣٠٠