موسوعة عبد الله بن عبّاس الجزء ٢

موسوعة عبد الله بن عبّاس0%

موسوعة عبد الله بن عبّاس مؤلف:
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
تصنيف: متون حديثية
ISBN: 964-319-502-3
الصفحات: 357

موسوعة عبد الله بن عبّاس

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد حسن الموسوي الخرسان
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
تصنيف: ISBN: 964-319-502-3
الصفحات: 357
المشاهدات: 61143
تحميل: 4136


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 357 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 61143 / تحميل: 4136
الحجم الحجم الحجم
موسوعة عبد الله بن عبّاس

موسوعة عبد الله بن عبّاس الجزء 2

مؤلف:
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
ISBN: 964-319-502-3
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

2 ـ عن عمر إنّه قال له : « والله إنك لأصبح فتياننا وجهاً ، وأحسنهم عقلاً ، وأفقههم في كتاب الله (عزّ وجلّ) »(1) .

3 ـ عن سعد بن أبي وقاص : « ولقد رأيت عمر بن الخطاب يدعوه ـ لابن عباس ـ للمعضلات ثم يقول : عندك قد جاءتك معضلة ، ثم لا يجاوز قوله ، وانّ حوله لأهل بدر من المهاجرين والأنصار »(2) .

4 ـ عن أبي الزناد : « أنّ عمر بن الخطاب دخل على ابن عباس يعوده وقد حُمّ فقال له عمر : أخلّ بنا مرضك فالله المستعان »(3) .

5 ـ إنّ عمر قال له : « قد طرأت علينا عُضلُ أقضية أنت لها ولأمثالها ، فإذا قال فيها رضي قوله »(4) .

6 ـ عن ابن عباس قال : « دعاني عمر فإذا حصير بين يديه عليه الذهب منثوراً كثير الحثا فأمرني بقسمه »(5) . وقال : « هلمّ فاقسم هذا بين قومك »(6) .

7 ـ عن ابن عباس قال : « دخلت على عمر بن الخطاب يوماً فسألني عن مسألة كتب إليه بها يعلى بن أمية من اليمن ، وأجبته فيها ، فقال عمر : أشهد أنك تنطق عن بيت نبوّة »(7) .

__________________

(1) المعرفة والتاريخ للفسوي 1 / 535.

(2) طبقات ابن سعد 2 ق2 / 122 ط ليدن.

(3) طبقات ابن سعد 2 ق2 / 123 ، وكنز العمال / 7 / 53 ط الأولى حيدر آباد.

(4) أنساب الأشراف (ترجمة ابن عباس) ، اعلام الموقعين 1 / 14ط المنيرية ، وزاد أحمد في فضائل الصحابة / 1913 : (وما كان يدعو لذلك أحداً سواه إذا كانت تلك العَضل).

(5) الفائق للزمخشري 1 / 121 ط حيدر آباد. والحثا هو دقائق التبن لأن الريح تحثوه حثواً.

(6) طبقات ابن سعد 2 ق1 / 218.

(7) طبقات ابن سعد 2 ق2 / 122 ط ليدن.

٨١

8 ـ عن يعقوب بن يزيد قال : « كان عمر بن الخطاب يستشير عبد الله بن عباس في الأمر إذا أهمّه ويقول : غص غوّاص »(1) .

9 ـ أخرج أحمد بن حنبل في فضائله بسنده : « كان عمر يوماً جالساً وعنده العباس فسئل عمر عن مسألة فقال فيها ، فقام إليه ابن عباس فسارّه فقال : يا أمير المؤمنين ليس الأمر هكذا ، فأقبل عمر على العباس فقال : يا أبا الفضل بارك الله لك في عبد الله ، إنّي قد أمّرته على نفسي ، فإذا أخطأت فليأخذ عليَّ »(2) .

10 ـ وعزّى عبد الله بن عباس عمر بن الخطاب في بُنيّ له صغير فقال : « عوّضك منه ما عوّضه الله منك »(3) . وقد أخذ ابن عباس التعزية من كلمة الإمام عليّ له بمولود له صغير قد مات فقالعليه‌السلام : (لمصيبة في غيرك لك أجرها أحبّ إليّ من مصيبة فيك لغيرك ثوابها ، فكان لك الأجر لا بك ، وحسن لك العزاء لا عنك ، وعوّضك الله عنه مثل الّذي عوّضه منك)(4) .

الحبر في مجلس شورى عمر :

1 ـ أخرج الفسوي بسنده عن ابن عباس قال : « دعاني عمر وكان يدعوني مع أشياخ أصحاب محمّد حتى كان بعضهم يجد من ذلك في نفسه ، وقد كان أمرني أن لا أتكلم حتى يتكلموا.

قال : فدعاني وهم عنده فقال : إنكم قد علمتم ما قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ليلة القدر اطلبوها في العشر الأواخر وتراً. ففي أيّ العشر ترونها؟

__________________

(1) نفس المصدر (الطبقة الخامسة / ترجمة ابن عباس) 1 / 141 تح ـ السُلمي.

(2) فضائل الصحابة 2 / 982 برقم 1942ط مؤسسة الرسالة 1403 بيروت تح ـ وصي الله محمّد عباس.

(3) العقد الفريد 3 / 304 تح ـ أحمد أمين ورفاقه.

(4) تحف العقول / 209 ط الإسلامية.

٨٢

قال : فلم يتركوا شيئاً في وتر العشرة إلا ذكروه. فقال لي : ما لك لا تتكلم يابن عباس؟ قال : قلت إن شئت تكلّمت. قال : ما دعوتك إلا لتتكلم »(1) .

وفي لفظ عند ابن سعد : « فقال عمر لابن عباس ألا تتكلم؟ قال الله أعلم قال قد نعلم إن الله أعلم ، إنّما نسألك عن علمك فقال ابن عباس : الله وتر يحب الوتر ، خلق من خلقه سبع سموات فاستوى عليهن ، وخلق الأرض سبعاً وخلق عدة الأيام سبعاً ، وجعل طوافاً بالبيت سبعاً ورمي الجمار سبعاً ، وبين الصفا والمروة سبعاً ، وخلق الإنسان من سبع ، وجعل رزقه من سبع.

قال فقال عمر : فكيف خلق الإنسان من سبع؟ وجعل رزقه من سبع فقد فهمت من هذا أمراً ما فهمتـُه.

قال ابن عباس : إنّ الله يقول :( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ) حتى بلغ إلى قوله :( فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ) (2) ثـم قـرأ :( أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلاً * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا ) (3) .

فأمّا السبعة فلبني آدم ، وأمّا الأبّ فما أنبتت الأرض للأنعام ، وأمّا ليلة القدر فأراها ـ إن شاء الله ـ إلاّ ليلة ثلاث وعشرين يمضين وسبع يبقين »(4) .

__________________

(1) المعرفة والتاريخ 1 / 519 ـ 520.

(2) المؤمنون / 12 ـ 14.

(3) عبس / 26 ـ 31.

(4) طبقات ابن سعد 1 / 140 ط 5 تح ـ السُلمي وإسناده حسن ، وأورده السيوطي في الدر المنثور نقلا عن ابن سعد وعبد بن حميد ، وأورد الحاكم في المستدرك جزءا منه في 3 / 39 وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه ، وصححه الذهبي في التلخيص أيضا.

٨٣

فقال عمر : « أعجزتم أن تقولوا مثل ما قال هذا الغلام الّذي لم تستو شؤون رأسه. ثم قال : إنّي نهيتك أن تتكلم فذا دعوتك معهم فتكلم »(1) .

ولئن كنّى ابن عباس من أدبه عن الذين وجدوا في أنفسهم من حضوره بكلمة (بعضهم) ، فإن ابن حجر حكى عن عبد الرزاق في حديثه : أن الساخطين هم جماعة المهاجرين ولفظه : قال المهاجرون لعمر ألا تدعو أبناءنا كما تدعو ابن عباس؟ فقال : ذاكم فتى الكهول له لسان سؤول وقلب عقول(2) .

أمّا البخاري فقد روى في صحيحه بسنده قال : « كان عمررضي‌الله‌عنه يدني ابن عباس فقال عبد الرحمن بن عوف : إن لنا أبناء مثله؟ فقال : انه من حيث تعلم »(3) .

ومهما يكن الساخط واحداً أو أكثر فليس بعجيب لو تسخط ، إنّما العجب أن يكون عبد الرحمن بن عوف ساخطاً ويبدي سخطه ، وهو الّذي بعدُ لم يزل يقرأ القرآن عند ابن عباس.

ألم يروِ لنا البخاري في صحيحه حديث الفلتة في باب رجم الحبلى. وفيه : « أنّ ابن عباس كان يُقريء جماعة من المهاجرين منهم عبد الرحمن بن عوف »(4) وذلك في آخر حجة حجّها عمر من سنّي ولايته.

2 ـ أخرج ابن سعد(5) والفسوي واللفظ له عن ابن عباس قال : « كان عمر يأذن لأهل بدر ويأذن لي معهم فقال بعضهم : أتأذن لهذا الفتى ومن أبنائنا مَن هو

__________________

(1) قارن الفقيه والمتفقه للخطيب 2 / 132 ، ومستدرك الحاكم 3 / 539 ، وسنن البيهقي 4 / 313 ، وتفسير ابن كثير 4 / 533 ، وتفسير الدر المنثور للسيوطي 6 / 374 ، وفتح الباري لابن حجر 4 / 211.

(2) الإصابة 2 / 325 ط مصطفى محمّد.

(3) صحيح البخاري 4 / 204 ط بولاق باب علامات النبوة في الإسلام.

(4) نفس المصدر 8 / 168 ط بولاق.

(5) طبقات ابن سعد 2ق2 / 120.

٨٤

مثله؟ فقال : فيه ممن قد علمتم ، فأذن لهم يوماً وأذن لي معهم ، فسألهم عن هذه السورة( إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا ) (1) فقالوا : أمر الله (عزّ وجلّ) نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا فتح الله (عزّ وجلّ) عليه أن يستغفره وأن يتوب عليه.

فقال لي : ما تقول يا بن عباس؟ فقلت ليس كذلك ، ولكنه أخبر نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بحضور أجله فقال :( إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْح ـ فتح مكة ـوَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا ـ أي فعند ذلك علامة موتك ـفَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا ) (2) .

فقال لهم : كيف تلومونني عليه بعد ما ترون »(3) .

3 ـ أخرج الحاكم والطبري عن ابن أبي مليكة وعطاء : « انّ عمر بن الخطابرضي‌الله‌عنه تلا هذه الآية :( أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ ) إلى ها هنا( فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ ) (4) ، فسأل عنها القوم وقال : فيما ترون أنزلت( أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ ) ؟ فقالوا : الله ورسوله أعلم ، فغضب عمر وقال : قولوا نعلم أو لا نعلم. فقال ابن عباس : في نفسي شيء منها يا أمير المؤمنين. قال : يا بن أخي قل ولا تحقـّر نفسك ، قال ابن عباس : ضربت مثلا لعمل »(5) ، وفي رواية الطبري عن عطاء : « هذا مثل ضربه الله (عزّ وجلّ) فقال : أيود أحدكم أن يعمل عمره بعمل أهل الخير

__________________

(1) النصر / 1 ـ 3.

(2) النصر / 1 ـ 5.

(3) المعرفة والتاريخ 1 / 515.

(4) البقرة / 266.

(5) مستدرك الحاكم 3 / 542.

٨٥

وأهل السعادة حتى إذا كان أحوج ما يكون إلى أن يختمه بخير حين فني عمره وأقترب أجله ختم ذلك بعمل من عمل أهل الشقاء فأفسده كله فحرقه. أحوج ما كان إليه »(1) .

وهذا الحضور البارز هو الدافع لحسد المهاجرين ، أو بعض أشياخ أصحاب محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أو خصوص عبد الرحمن بن عوف ، وهو اللافت لنظر الحطيئة الشاعر وقد مرّ على مجلس عمر فنظر إلى ابن عباس وقد قرع القوم بكلامه غالباً عليهم ، فسأل عنه وقال : من هذا الّذي برع الناس بعلمه ، وعلاهم في قوله ونزل عن القوم بسنّه؟ قالوا : هذا ابن عباس فقال أبياتاً منها :

إنّي وجدت بيان المرء نافلة

تُهدى له ووجدت العيّ كالصمم

والمرء يبلى ويبقى الكلم سائرة

وقد يلام الفتى يوماً ولم يلم(2)

وبقي حضور ابن عباس بين شيوخ المهاجرين والأنصار ماثلاً ومؤثراً عند عمر فقد كان عند الخلاف يرجع إلى قوله ويعتدّ به على حداثة سنّه على حد قول يحيى بن أبي بكر العامري(3) ولم يمنع ذلك التقريب والتقريض ، وذلك الإختصاص من ظهور مواقف متضادة بين الرجلين ، إذ لم يكن ابن عباس موائماً لعمر في مزاجه ، ولا موافقاً له على جميع تصرفاته ، بل كانت تحدث بينهما محاورات إحتجاجية ربما وصلت إلى حدّ المشادّة العنيفة ، لكنها لم تصل إلى حدّ القطيعة التامة ، والآن إلى شواهد تلك.

__________________

(1) تفسير الطبري 3 / 47 ط الميمنية.

(2) عيون الأخبار لابن قتيبة 1 / 229 ط دار الكتب ، والأصابة 2 / 325 ط مصطفى محمّد ، والأستيعاب بهامش الإصابة 2 / 346 ، وأنباء نجباء الأبناء لابن ظفر المكي ط مصر. ومن الغريب أن هذين البيتين لم يذكرا في ديوان الحطيئة بتحقيق نعمان أمين طه (ماجستير في الأدب العربي ـ جامعة القاهرة) ط مصطفى البابي الحلبي سنة 1378 هـ.

(3) الرياض المستطابة / 52 ط الشاهجاني بهوبال الهند سنة 1303 هـ.

٨٦

شواهد الصرامة من الطرفين :

بالرغم من ذلك التقارب الحضوري فلم يمنع من ظهور خلافات ذات دلالة عميقة تعتمل في صدر كلّ منهما ، تكاد تطغى على ما يقال في سبب ذلك إلى التفاوت بينهما سنّاً ومكانة ، والإختلاف بين المزاجين شدّة ووداعة ، ولنقرأ بعض الشواهد :

1 ـ أخرج الفسوي بسنده عن ابن عباس قال : [ قدم على عمر بن الخطاب رجل فجعل عمر يسأله عن الناس ، فقال : يا أمير المؤمنين قرأ منهم القرآن كذا كذا. فقال ابن عباس : والله ما أحبّ أن يسارعوا يومهم هذا في القرآن هذه المسارعة قال : فزبرني عمر ثم قال : ـ وفي لفظ الحاكم : « قال : كنت قاعداً عند عمر بن الخطاب إذ جاءه كتاب أن أهل الكوفة قد قرأ منهم القرآن كذا وكذا فكبّر (ره) فقلت أختلفوا. فقال : أف وما يدريك قال : فغضب فأتيت منزلي قال فأرسل إليَّ بعد ذلك فاعتللت » ـ فينا أنا كذلك إذ أتاني رجل فقال : أجب أمير المؤمنين ـ وفي لفظ الحاكم : « عزمت عليك إلاّ جئت » ـ.

قال : فخرجت فإذا هو قائم قريباً ينتظرني ، فأخذ بيدي ثم خلا بي فقال : ما كرهتَ ممّا قال الرجل؟ قال : قلت : يا أمير المؤمنين إن كنت أسأت فأستغفر الله (عزّ وجلّ) وأتوب إليه « لا أعود إلى شيء بعدها » ، فقال : عزمت عليك إلاّ أعدت عليَّ الّذي قلتَ. قلتُ قلتَ كتب إليَّ انّه قد قرأ القرآن كذا وكذا فقلت اختلفوا. قال : ومن أي شيء عرفت؟

٨٧

قلت : قرأت( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ ) حتى انتهيت إلى( وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ ) (1) فإذا فعلوا ذلك لم يصبر صاحب القرآن. ثم قرأت( وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ * وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ) (2) قال : صدقت والّذي نفسي بيده.

فقلت : يا أمير المؤمنين إنّهم متى ما يسارعوا هذه المسارعة تحنّقوا ، ومتى تحنقوا اختلفوا ، ومتى اختلفوا يفشلوا. قال : لله أبوك والله لقد كنت أكاتمها الناس حتى جئت بها ](3) .

2 ـ أخرج الحاكم بسنده عن عبد الله بن عبيد بن عمير قال : « بينما ابن عباس مع عمررضي‌الله‌عنه وهو آخذ بيده ، فقال عمر : أرى القرآن قد ظهر في الناس ، فقلت ما أحب ذاك يا أمير المؤمنين.

قال : فاجتذب يده من يدي وقال : لم؟ قلت : لأنهم متى يقرؤا يتقرّوا ، ومتى ما يتقرّوا اختلفوا ومتى ما يختلفوا يضرب بعضهم رقاب بعض. قال : فجلس عني وتركني ، فظللت عنه بيوم لا يعلمه إلاّ الله ثم أتاني رسوله الظهر فقال : أجب أمير المؤمنين فأتيته فقال : كيف قلت؟ فأعدت مقالتي قال عمررضي‌الله‌عنه إن كنت لأكتمها الناس »(4) .

__________________

(1) البقرة / 204.

(2) البقرة / 206 ـ 207.

(3) المعرفة والتاريخ 1 / 516 ـ 517 ط الارشاد بغداد سنة 1394 هـ ، وما بين القوسين من المستدرك على الصحيحين للحاكم 3 / 540 ، وقارن الإصابة في ترجمة ابن عباس وتلخيص الذهبي بهامش المستدرك.

(4) مستدرك الحاكم 3 / 541 وتلخيص الذهبي بهامش المستدرك.

٨٨

3 ـ روى الشاطبي في الموافقات عن إبراهيم التيمي قال : « خلا عمر ذات يوم فجعل يحدّث نفسه كيف تختلف هذه الأمة ونبيّها واحد وقبلتها واحدة؟ فقال ابن عباس : يا أمير المؤمنين إنا أنزل علينا القرآن فقرأناه ، وعلمنا فيم أنزل ، وإنّه سيكون بعدنا أقوام يقرؤن القرآن ولا يدرون فيم نزل ، فيكون لهم فيه رأي ، فإذا كان لهم فيه رأي اختلفوا ، فإذا اختلفوا إقتتلوا.

قال : فزجره عمر وانتهى ، فانصرف ابن عباس ، ونظر عمر فيما قال فعرفه ، فأرسل إليه فقال : أعد عليّ ما قلتَ ، فأعاده عليه ، فعرف عمر قوله وأعجبه. وما قاله صحيح في الاعتبار »(1) .

هذه ثلاثة شواهد دلّت على شدة في خُلق عمر وتسرّع في الغضب دون التروّي فيما قاله ابن عباس بدلالة إسراعه في استدعائه بعد مغاضبة وطلب إعادة ما قاله ثم سرعان ما صدّقه.

وفي مقابل ذلك نسوق مثلها شواهد على مواقف لابن عباس متصلباً فيها حتى ليمكن أن تعدّ تلك مشادّة نعجب كيف قبلها عمر وأغضى عنها ، ولم تصل إلى حد القطيعة بينهما.

1 ـ روى عبد الرزاق في المصنف أن ابن عباس قال : « إنّي لصاحب المرأة الّتي أتي بها عمر وضعت لستة أشهر فأنكر الناس ذلك ، فقلت لعمر : لم تظلم(2) ؟ فقال : كيف؟ قال : قلت له اقرأ( وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا ) (3) وقال :( وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ) (4) كم الحول؟ قال : سنة ،

__________________

(1) الموافقات 3 / 348 ط الرحمانية بمصر.

(2) في الدر المنثور 6 / 40 (لا تظلم).

(3) الأحقاف / 15.

(4) البقرة / 233.

٨٩

قال : قلت كم السنة؟ قال : اثني عشر شهراً. قال : قلت : فأربعة وعشرون شهراً حولان كاملان ، ويؤخر من الحمل ما شاء الله ويقدّم. فاستراح عمر إلى قولي »(1) .

2 ـ أرسل عمر إلى ابن عباس فقال : « يا بن عباس إن عامل حمص هلك وكان من أهل الخير ، وأهل الخير قليل ، وقد رجوتُ أن تكونَ منهم (فدعوتك لأستعملك عليها) وفي نفسي منك شيء (أخافه) لم أره منك وأعياني ذلك (أنا أخشاه عليك) فما رأيك في العمل؟

قال : لن أعمل حتى تخبرني بالذي في نفسك؟ قال : وما تريد إلى ذلك؟

قال : أريده فإن كان شيء أخاف منه على نفسي خشيتُ منه عليها الّذي خشيتَ ، وإن كنت بريئاً من مثله علمت أنّي لست من أهله فقبلت عملك هنالك ، فإنّي قلّ ما رأيت أو ظننت شيئاً إلاّ عاينته.

فقال : يا بن عباس (إنّي أطمح حالك أنّك لا تجدني قريب الجد) وإنّي أخشى أن يأتي عليَّ الّذي هو آت وأنت في عملك فتقول : هلمّ إلينا ولا هلمّ إليكم دون غيركم ، إنّي رأيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم استعمل الناس وترككم.

قال : والله قد رأيت من ذلك فلم تراه فعل ذلك؟

قال : والله ما أدري أضنّ بكم عن العمل فأهل ذلك أنتم؟ أم خشي أن تبايعوا بمنزلتكم منه فيقع العقاب (عليكم) ولابدّ من عتاب ، فقد قرعت لك (وفرغت لي وفرغت لك) فما رأيك؟

قال ابن عباس : قلت أراني أن لا أعمل لك؟ قال : ولم؟ قال : قلت إن عملت لك وفي نفسك ما فيها لم أبرح قذى في عينك.

__________________

(1) المصنف 7 / 352 برقم 13449.

٩٠

قال : فأشر عليَّ ، قلت : إنّي أرى أن تستعمل صحيحاً منك صحيحاً لك.

(قال : فكن أنت ذلك الرجل ، قال : لا تنتفع بي مع سوء ظني بك وسوء ظنك بي) »(1) .

وليتدبر القارئ هذا التصريح الّذي ختم به ابن عباس تلك المحاورة من تبادل سوء الظن بينه وبين عمر ، وسكوت عمر على ذلك اقرار لما قاله ابن عباس.

3 ـ أخرج الفسوي(2) بسنده عن ابن عباس قال : « كان عمر بن الخطاب إذا صلى صلاة جلس للناس ، فمن كان له حاجة كلّمه ، وإن لم تكن لأحد حاجة قام ودخل ، فصلى صلوات لا يجلس للناس فيهنّ.

قال ابن عباس : فحضرت الباب فقلت : يا يرفأ ـ غلام عمر وحاجبه ـ أتى أمير المؤمنين شكاة؟ فقال : ما بأمير المؤمنين من شكاة. قال : فجلست فجاء عثمان ابن عفان فجلس ، فخرج يرفأ فقال : قم يا بن عفان قم يا بن عباس ، قال : فدخلنا على عمر فاذا بين يديه صُبَرٌ من مال على كلّ صُبرة منها كرفة(3) فقال عمر : إنّي نظرت في أهل المدينة فوجدتكما من أكثر أهلها عشيرة فخذا هذا المال فاقسماه فما كان من فضل فرُدّا. قال : فأمّا عثمان فحثا ، وأمّا أنا فجثوت على ركبتي وقلت : وإن كان نقصاناً رددتَ علينا؟

__________________

(1) راجع عن هذه المحاورة مروج الذهب للمسعودي 1 / 427 ط البهية سنة 1346 ، وكتاب الخراج لأبي يوسف ط السلفية ، وكتاب البديع لابن المعتز / 54 ط أوربا ، وأدب الدنيا والدين للماوردي / 187 وغيرها.

(2) المعرفة والتاريخ 1 / 521 ـ 522.

(3) الكرفة : لم أقف على معناها ولعل الكلمة مصحفة خطأ عن (الكرنفة) وهي أصول الكرب ، وكانوا يكتبون عليها وجاء في مناقب عمر / 166 (على كلّ صبرة منها كنيف) وفي الهامش عن اللسان : الكنيف الساتر. ولكن ابن سعد روى القصة في الطبقات 3 ق1 / 207 (على كلّ صبرة كتف) وهو الأصح.

٩١

فقال عمر : شنشنة أعرفها من أخزم ، أما كان هذا عند الله ، ومحمد وأصحابه يأكلون القدّ؟ فقلتُ بلى والله لقد كان هذا عند الله (عزّ وجلّ) ومحمد حي ، ولو عليه فتح صنع فيه غير الّذي تصنع. قال : فغضب عمر وقال : إذاً صنع ماذا؟ قال : قلت إذاً أكل وأطعمنا. قال : فنشج عمر حتى أختلفت أضلاعه ثم قال : وددتُ أني خرجت منها كفافاً لا عليَّ ولا لي »(1) .

هذه ثلاثة شواهد فيها دلالة على جرأة ابن عباس في قولة الحق وإن أغضبت عمر ، فلم يمتنع في الأوّل من أن يقول له : (لم تظلم أو لا تظلم) ، وهي كلمة لا شك بأنّها كانت كبيرة على عمر ، ولولا استدلال ابن عباس على صحة رأيه لما غفر له عمر تلك الجرأة.

كما أنّه في الشاهد الثاني طالت المحاورة ، وتبدّى بعض ما يجد كلّ منهما على صاحبه ، وحسبنا ما جاء في ختامها من تبادل سوء الظن بينهما كلٌ بصاحبه.

أمّا الشاهد الثالث فقد أدرك فيه عمر ما يعني ابن عباس. فآلمه حتى نشج باكياً وودّ لو أنه خرج من الخلافة كفافاً لا عليه ولا له ، وأنى له بذلك ، وهنا لابدّ لنا من تعقيب على المثل الّذي أستشهد به عمر ، فإن ذكره له يدّل على ما في نفسه من كوامن غيظ على العباس تنازعه نفسه لإظهار تلك الكوامن ، متى حدثت؟

تعقيب بلا تثريب :

قال أبو عبيد البكري في فصل المقال عند شرحه المثل (شنشنة أعرفها من أخزم) : « وهذا المثل يروى أن عمر بن الخطاب قاله في ابن عباسرضي‌الله‌عنهما يشبّهه في رأيه بأبيه أهـ »(2) .

__________________

(1) قارن مناقب عمر لابن الجوزي / 166ط بيروت تجد حذف ما بعد كلمة عمر (فردّا) إلى قوله شنشنة أعرفها من أخزم.

(2) فصل المقال في شرح كتاب الأمثال / 219 ط دار الأمانة بيروت.

٩٢

وقال سفيان ـ أحد الرواة ـ : « يعني حجراً من جبل ».

وقال الميداني : « وفي الحديث أنّ عمر قال لابن عباسرضي‌الله‌عنه حين شاوره فأعجبه إشارته شنشنة أعرفها من أخزم ، وذلك أنّه لم يكن لقرشي مثل رأي العباسرضي‌الله‌عنه فشبهه بأبيه في جودة الرأي »(1) .

وإذا لاحظنا أصل المثل نجد أن قائله كان له ابن عاق اسمه أخزم فمات وخلف أبناءه فعقـّوا جدهم وزملوه بدمه فقال :

إنّ بَني زمّلوني بالدم

شنشنة أعرفها من أخزم(2)

وذكر الجاحظ في البيان والتبيين فقال : « ومن الخطباء الذين لا يضاهون ولا يجارون عبد الله بن عباس ونظر إليه ـ عمر ـ يتكلم فقال : شنشنة أعرفها من أخزم.

والشعر لأبي أخزم الطائي وهو جد أبي حاتم طيء أو جدّ جدّه ، وكان له ابن يقال له أخزم ، فمات وترك بنين فتوثبوا يوماً على جدّهم أبي أخزم فأدموه فقال :

إنّ بَني زمّلوني بالدم

شنشنة أعرفها من أخزم

أي أنّهم أشبهوا أباهم في طبيعته وخلقه ، وأحسبه كان به عاقاً ، هكذا ذكر ابن الكلبي ، والشنشنة مثل الطبيعة والسجّية فأرادرحمه‌الله إنّي أعرف فيك مَشابـِهَ من أبيك في رأيه وعقله ، ويقال : انّه لم يكن لقرشي مثل رأي العباس »(3) .

إذا لاحظنا ذلك عرفنا إنّه يقال في قرب الشبه في الفعل ذماً وتبرماً ، وفي المقام كذلك فقد قال ابن عباس لعمر قولاً يعني به ما هو من رأي أبيه وأهل بيته

__________________

(1) مجمع الأمثال 1 / 330 ط مصر.

(2) نفس المصدر.

(3) البيان والتبيين 1 / 330 ـ 331 تح ـ هارون.

٩٣

بالنسبة للمال وحقهم فيه : لذلك تمثّل عمر بالمثل متبرّماً وهو مصيب في ذلك ، وليس كما يقول الميداني بانّه قاله حيث شاوره فأعجبه اشارته ، فليست ثمة مشاورة ، وإنّما كانت من ابن عباس مبادرة ومن عمر مناورة ، طفح بها كيله فتمثل بالمثل.

وقد روى الزمخشري هذا الخبر وفيه : « فقال عمر : نشنشة من أخشن يعني حجر من جبل ثم قال الزمخشري : هكذا جاء في الحديث مع التفسير ، وكأن الحجر سُمّي نشنشة من نشنشه ونصنصه إذا حركه.

والأخشن الجبل الغليظ كالأخشب

وفيه معنيان : أحدهما أن يشبّهه بأبيه العباس في شهامته ورميه بالجوابات المصيبة ، ولم يكن لقريش مثل رأي العباس.

والثاني أن يريد أن كلمته هذه منه حجر من جبل ، يعني أن مثلها يجيء من مثله ، وأنه كالجبل في الرأي والعلم وهذه قطعة منه »(1) .

والآن إلى معرفة المواقف الّتي أغاظ فيها العباس عمر فاضطغنها عليه :

1 ـ موقف في حياة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث جاء عمر ساعياً يطلب صدقة العباس فطرده وأغلظ له لأنّه كان قد دفعها ، فأتى عمر عليّاً وذكر ذلك له ليذكره للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأتاه عليّ فأخبره فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعمر : تربت يداك ، أما علمت أن عم الرجل صنو أبيه ، إن العباس أسلفنا زكاة العام عام الأوّل(2) .

2 ـ موقف بعد موت الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين أراد عمر توسعة المسجد النبوي الشريف ، واشترى ما حوله من الدور إلاّ دار العباس فكلمه عمر أن يبيعها له بما

__________________

(1) الفائق في غريب الحديث 2 / 279 ط حيدر آباد ، و 3 / 429 ط دار الفكر.

(2) المعرفة والتاريخ للفسوي 1 / 500 ، وطبقات ابن سعد 4 ق1 / 17.

٩٤

شاء من مال المسلمين ، فأبى فقال له عمر اختر مني إحدى ثلاث : إمّا أن تبيعنيها بما شئت من مال المسلمين وإمّا أن أخطط لك حيث شئت من المدينة وأبنيها لك وإمّا أن تتصدّق بها على المسلمين

فقال العباس : لا ولا واحدة منها ، فقال عمر : اجعل بيني وبينك من شئت. فقال أبيّ بن كعب فانطلقا إلى أبي وحدّثهما بحديث داود وبناء بيت المقدس وفي خطته دار إسرائيلي أبى أن يبيعها فأراد داود أن يأخذها بالقوة فأوحى الله إليه وليس من شأني الغصب

فأخذ عمر بمجامع ثياب أبيّ وقال جئتك بشيء فجئت بما هو أشدّ لتحرجنّ ممّا قلت ، فجاء يقوده حتى أدخله المسجد فأوقفه على حلقة من أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيهم أبو ذر فأستنشدهم أبي بالله من سمع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يذكر حديث بناء بيت المقدس ، فقال أبو ذر : أنا سمعته من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال آخر : أنا سمعته ، فأرسل عمر أبيّا ، فقال له أبيّ أتتهمني على حديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟! فقال عمر : يا أبا المنذر لا والله ما أتهمتك عليه ، ولكن كرهت أن يكون الحديث عن رسول الله ظاهراً (؟) وقال للعباس : اذهب فلا أعرض لك في دارك.

فقال العباس : أمّا إذا فعلت هذا فإني تصدّقتُ بها على المسلمين أوسّع بها عليهم في مسجدهم فأمّا وأنت تخاصمني فلا(1) .

3 ـ وموقف ثالث : ليس دون ما سبق في غلظة العباس مع عمر وإغاظته حتى ضاق به ذرعاً فقال لعبد الله : خذ بيد أبيك. وهذا ما رواه ابن سعد في طبقاته عن أبي جعفر محمّد بن عليّ ـ يعني الإمام الباقرعليه‌السلام ـ قال : « أنّ العباس جاء

__________________

(1) طبقات ابن سعد 4 ق1 / 13باقتضاب ، وجاء في تاريخ اليعقوبي 2 / 126 ط الغري بالنجف : ان ذلك كان في توسعة المسجد الحرام بمكة ولا مانع من التعدد ، فراجع.

٩٥

إلى عمر فقال له : إنّ النبيّ أقطعني البحرين ، قال : من يعلم ذلك؟ قال : المغيرة بن شعبة ، فجاء به فشهد له ، قال : فلم يُمض له عمر ذلك كأنه لم يقبل شهادته. فأغلظ له العباس. فقال عمر : يا عبد الله خذ بيد أبيك »(1) .

4 ـ وموقف رابع : يزيد على ما سبق وذلك حين أقبل العباس وعليّ يختصمان فيما أفاء الله على رسوله من أموال بني النضير فقال عمر يذكر ما صنعه أبو بكر في ذلك إلى أن أقبل على عليّ والعباس فقال : « وأنتما تزعمان إنّه فيها ظالم جائر ثم قال : وأنتما تزعمان أنّي فيها ظالم جائر إلى آخر ما قاله ».

ففي هذا الموقف يقول عمر لعليّ والعباس أنّهما يقولان فيه وفي أبي بكر ظالم جائر ، ولم ينكرا ذلك من قوليهما وهذا الحديث أخرجه البخاري(2) ومسلم(3) وعبد الرزاق(4) وغيرهم. وقد تلاعب الرواة فيه كما ذكر ابن حجر في فتح الباري(5) فراجع تجد « تزعمان أنّ أبا بكر كذا وكذا » وفي رواية مسلم من الزيادة « فرأيتماه كاذباً آثماً غادراً خائناً » وقال : وكان الزهري كان يحدّث به تارة فيصرح وتارة فيكني ، وكذلك مالك إلى آخر ما نقل وحكاه ، فراجع.

وقد مرت بنا قصة الميزاب وقلع عمر له وما جرى له حتى أعاده (راجع ترجمة العباس في أول الكتاب) فليس غريباً من عمر أن يستشهد بالمثل المذكور مشيراً إلى ما تكنّه الصدور ، ممّا لا تزيله الأعوام والشهور.

__________________

(1) طبقات ابن سعد 4 ق1 / 14 ، وقارن تاريخ ابن خلكان 2 / 456 في ترجمة يزيد بن ربيعة.

(2) صحيح البخاري 6 / 124.

(3) صحيح مسلم 2 / 90.

(4) المصنف 5 / 470.

(5) فتح الباري 7 / 13 ط مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر سنة 1378 هـ.

٩٦

وهكذا تبقى تلك الشنشنة يعرفها عمر وغير عمر بما لها من تراكمات وتداعيات تطفو على السطح حين تجد إلى البثّ سبيلاً ، وكم يجد الباحث من الشواهد على ذلك. خاصة بين ابن عباس حين يستفزّه عمر بكلام عن الإمام والخلافة ، وكأن عمر في محاوراته مع ابن عباس يروم أستخراج خبيئة أسراره ، فيستدرجه إلى حيث يستثيره ، فيقول له ابن عباس ما يكشف له عن تمسّكه بالمواقف المبدئية العامة للهاشميين جميعاً من الخلافة وصاحبها وأنّه الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام ، كما أنه يصارحه بجرأة منقطعة النظير أنّه هو الّذي صرف الأمر عنه ، ويعترف له عمر بتلك الحقيقة لمصلحة زعم أنّه رآها ، ولأن قريشاً تأبى أن تجتمع النبوة والخلافة لبني هاشم ، وهذا كله وأكثر منه يجده القارئ في صفحة إحتجاجاته في الحلقة الثالثة تاريخه العلمي دراسة وعطاء. فقد وجدت فيما بحثت ـ حتى الآن ـ ثلاثة عشر موقفاً صارماً حضراً وسفراً فعشرة منها في الحضر وثلاثة في السفر كانت نتائجها متشابهة وحسبنا ما جاء.

في المحاورة الأولى ، دخل عليه ابن عباس في أول خلافته وقد ألقي له صاع من تمر على خصفة فدعاه إلى الأكل فأكل تمرة واحدة وأكل عمر الباقي حتى أتى عليه ، ثم شرب من جرّ كان عنده ، وأستلقى على مرفقة يحمد الله ، ثم سأله عن ابن عمه أين خلّفه فتجاهل ـ ربما متعمداً ـ فأجابه عن ابن جعفر ، فأفصح له عمر في سؤاله وانه يريد عظيم أهل البيت ـ يعني عليّاً ـ فأجابه ابن عباس بانّه يمتح بالغرب ـ أي بالدلو ـ على نخيلات من فلان وهو يقرأ القرآن.

ومن هنا بدأ الإستدراج فيقول له : يا عبد الله عليك دماء البُدن إن كتمتنيها ، هل بقي في نفسه شيء من أمر الخلافة؟ فأجابه نعم. فيقول له عمر : أيزعم أنّ

٩٧

رسول الله نص عليه؟ فقال ابن عباس : نعم وأزيدك سألت أبي عما يدّعيه فقال صدق.

وهنا تكمن الإثارة فقال عمر : لقد كان من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أمره ذرواً من قول ، لا يثبت حجة ولا يقطع عذراً ، ولقد كان يربع في أمره وقتاً ما. ولقد أراد في مرضه أن يصرّح بأسمه فمنعت من ذلك إشفاقاً وحيطة على الإسلام (؟!).

وهنا طغت الضغائن فصارت تبدو فيقول عمر : لا وربّ هذه البنّية لا تجتمع عليه قريش أبداً ، ولو وليها لانتقضت عليه العرب من أقطارها. فعلم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّي علمتُ ما في نفسه فأمسك وأبى الله إلاّ إمضاءَ ما حتم.

وقس على هذه المحاورة ما سواها ، فستجد فيها مرة ثانية يطرقه عمر بعد هدأة من الليل ليخرجه معه إلى بعض نواحي المدينة ، فيخرج معه ويأتي البقيع وهناك يتأوّه عمر الصعداء ، ويستفهمه ابن عباس سبب ذلك فيقول له عمر : أمر الله يا بن عباس. فيقول له ابن عباس إن شئت أخبرتك بما في نفسك؟ فقال : غص يا غواص ، إن كنت تقول فتحسن.

ويبدأ ابن عباس بغوصه في نفس عمر ، وأنّه يفكر فيمن يجعل له الأمر من بعده ثم يسمّي له ابن عوف وسعداً وطلحة والزبير وعثمان فيطعنهم عمر بما يبعدهم عن أهلية الولاية ثم يسكت فيقول لابن عباس : أمضها يا بن عباس أترى صاحبكم لها موضعاً؟ فيجيبه ابن عباس بفضله وسابقته وقرابته وعلمه ، ويصدّقه عمر وأنّه لو وليهم لحملهم على منهج الطريق إلا أنّ فيه خصالاً : الدعابة ، واستبداد الرأي ، والتبكيت للناس مع حداثة السنّ.

٩٨

وهذا هو الإستفزاز ، فيقول له ابن عباس : هلاّ أستحدثتم سنّه يوم الخندق وهلاّ سبقتموه بالإسلام. فقال : إليك يا بن عباس أتريد أن تفعل بي كما فعل أبوك وعليّ بأبي بكر يوم دخلا عليه(1) .

وتنتهي المحاورة بقول عمر : والله يا بن عباس إنّ عليّاً ابن عمك لأحقّ الناس بها ولكنّ قريشاً لا تحتمله

كما تجده تارة أخرى يماشيه في سكة من سكك المدينة ، فيبدأ عمر بالقول : ما أرى صاحبك إلا مظلوماً. يقول ابن عباس : فقلت في نفسي والله لا يسبقني بها. فقلت : يا أمير المؤمنين فأردد إليه ظلامته.

فانتزع يده من يدي ومضى وهو يهمهم ساعة ثم وقف فلحقته ، فقال : ما أظن القوم منعهم عنه إلاّ أنّهم أستصغره قومه. فقلت في نفسي : هذه والله شرٌ من الأولى ، فقلت : والله ما أستصغره الله ورسوله حين أمره أن يأخذ سورة براءة من صاحبك أبي بكر.

قال : فأعرض عني وأسرع فرجعت عنه.

وروي عن ابن عباس قال : « حضرت مسألة فعجز عمر عن ردّها فقال : ما تقولون يا صحابة رسول الله؟ من ترون يقوم بجواب هذه المسألة؟ قالوا : أنت أعرف منا.

قال : كلنا والله يعلم ابن بجدتها والخبير بها ، فقالوا : لعلك أردت عليّ بن أبي طالب؟ قال : وأنى يعدل بي عنه. قالوا : لو بعثت إليه لأتاك ، قال : هيهات هناك شمخ من هاشم وإثرة من علم يؤتى ولا يأتي ، قوموا بنا إليه ، فقام القوم بأجمعهم فإذا هوعليه‌السلام في حايط له متكٍ على مسحاة في يده يتلو قوله تعالى :( أَيَحْسَبُ

__________________

(1) قريباًًً ترى الموقف الرابع ما أشار إليه عمر هنا فراجع.

٩٩

الْأِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ) (1) ودموعه تجري على خديه ، فأجهش القوم لبكائه ثم سكت وسكتوا ، فأصدر إليه عمر مسألته وأدى على جوابها ، فقال له عمر : يا أبا الحسن لقد أرادك الحق ولكن أبى قومك : فقال : يا أبا حفص احفظ عليك من هنا ومن هنا ، إن يوم الفصل كان ميقاتا ، فلمّا أراد عمر الإنصراف قال : ألا اُونسك يا بن عباس؟

قال ابن عباس : فأخذ بيدي وقال : يا ابن عباس لقد كان ابن عمك أحق بهذا الأمر لولا ثلاث.

قلت : وما هي؟ قال : حداثة سنه ، ومحبته لأهل بيته ، وبغض قريش له.

قال : فقلت يا أميرالمؤمنين أتأذن في الجواب؟ فقال : قل ، قلت : أمّا حداثة سنه فوالله ما استحدثه الله حين جعله أخاً لنبيه وجعل نفسه كنفسه ، وأمّا محبته لأهل بيته فقد عمل بقول الله تعالى فيهم :( قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) (2) ، وأمّا بغض قريش له ، فعلى من نقمت قريش؟! أعلى الله حيث أمر رسوله بحربها؟ أم على رسوله حيث أمر عليّاً بقتالها؟ أم على عليّ حيث أطاع الله ورسوله فيها؟ قال : فجذب يده من يدي وقال : يابن عباس إنك لتغرف مـن بحر »(3) .

وعلى هذا النمط تأتي بقية المحاورات حيث تبدأ باستدراج من عمر ، ثم إثارة ، ثم استفزاز ، ثم إظهار الكوامن ، وبالتالي اعتراف بالحقيقة. ومع ذلك كله فلا تصل النتائج إلى القطيعة التامة بين الصاحبَين غير المتصافيَين. بل كان عمر

__________________

(1) القيامة / 36 ـ 37.

(2) الشورى / 23.

(3) أنظر المنتخب للطريحي / 33 ـ 34 ط الثالثة بالحيدرية سنة 1369 هـ ـ 1949م.

١٠٠