موسوعة عبد الله بن عبّاس الجزء ٣

موسوعة عبد الله بن عبّاس0%

موسوعة عبد الله بن عبّاس مؤلف:
تصنيف: متون حديثية
الصفحات: 285

موسوعة عبد الله بن عبّاس

مؤلف: السيد حسن الموسوي الخرسان
تصنيف:

الصفحات: 285
المشاهدات: 49742
تحميل: 4057


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 285 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 49742 / تحميل: 4057
الحجم الحجم الحجم
موسوعة عبد الله بن عبّاس

موسوعة عبد الله بن عبّاس الجزء 3

مؤلف:
العربية

ساعة من النهار )(1) ، فلمّا بايع قمت وصعدت المنبر ، فرام إنزالي منه فقلت : أنت تنزلني عن المنبر؟ وأخذت بقائم سيفي فقلت : أثبت مكانك ، والله لئن نزلتُ إليك هذّبتك به.

فلم يبرح ، فبايعت الناس لعليّ ، وخلعت أبا موسى في الحال ، واستعملت مكانه قرظة بن كعب ( عبد الله ) الأنصاري. ولم أبرح من الكوفة حتى سيّرت في البر والبحر من أهلها سبعة آلاف رجل ولحقته بذي قار »(2) .

رحمك الله أبا العباس ، نعمت الخدعة ونعم الإستدراج ، وإنّها وقدة ذهن ونفوذ بصيرة تختبر بها الرجال ، فلمّا علمت دخيلة الأشعري تقدمت إليه بما استدرجته به حتى تملكت به مشاعره وملكت به قياده ، وكشفت للناس حقيقته حين أوقعته في الفخ ، فهو بالأمس يقول للناس : « إنّها فتنة صماء وعمياء تطأ في خطاها ، النائم فيها خير من القائم ، والقائم خير من الماشي ». واليوم يصعد المنبر ويدعو الناس إلى مبايعة الإمام!!

إنّه التناقض الّذي سلب ثقة الناس به وبدأ الناس يتجهزون للمسير ، وتهيأ رسُل الإمام للخروج إلى ذي قار ، وخفّ معهم كثير من أهل الكوفة فوردوا على الإمام وهو لم يزل بذي قار ينتظرهم ، ويبدو أنّ ابن عباس سبقهم بالخروج فوصل إلى الإمام فأخبره بما عليه الناس من الجد والعزم وأنّهم لاحقون به عن قريب ، فسرّه ذلك.

في ذي قار :

روى أبو مخنف عن الكلبي عن أبي صالح عن زيد بن عليّ عن ابن عباس قال : « لمّا نزلنا مع عليّ ( عليه السلام ) ذا قار قلت : يا أمير المؤمنين ما أقل من يأتيك من

____________________

(1) ما بين القوسين من حديث الشيخ المفيد الأوّل.

(2) كتاب الجمل / 126.

١٢١

أهل الكوفة فيما أظن فقال : والله ليأتيني منهم ستة آلاف وخمسمائة وستون رجلاً ، لا يزيدون ولا ينقصون.

قال ابن عباس : فدخلني والله من ذلك شك شديد في قوله ، وقلت في نفسي : والله إن قدموا لأعدنّهم ».

قال أبو مخنف : فحدّث ابن إسحاق عن عمّه عبد الرحمن بن يسار قال : « نفر إلى عليّ ( عليه السلام ) إلى ذي قار من الكوفة في البحر والبرستة آلاف وخمسمائة وستون رجلاً ، أقام عليّ بذي قار خمسة عشر يوماً ، حتى سمع صهيل الخيل وشحيج البغال حوله ، قال : فلمّا سار بهم منقلة(1) قال ابن عباس : والله لأعدنّهم فإن كانوا كما قال ، وإلاّ أتممتهم من غيرهم ، فإنّ الناس قد كانوا سمعوا قوله. قال : فعرضتهم فوالله ما وجدتهم يزيدون رجلاً ولا ينقصون رجلاً ، فقلت : الله أكبر! صدق الله ورسوله ، ثمّ سرنا ».

أقول : هاتان روايتان رواهما لنا أبو مخنف كلٌ بسند غير الآخر ، وحكاهما عنه ابن أبي الحديد(2) . ويبدو أنّ أبا مخنف لم يكن دقيقاً في نقله في المقام خصوصاً في سند الرواية الأولى الّتي رواها زيد بن عليّ عن ابن عباس! فإنّ ابن عباس مات سنة 68 من الهجرة وزيد بن عليّ ولد في سنة 80 من الهجرة أي بعد موت ابن عباس بما يقرب من اثنتي عشرة سنة فكيف يتصور روايته عنه!!

والصحيح أنّ زيد بن عليّ روى ذلك إلاّ أنّه لم يذكر روايته لها عن ابن عباس ، فهي كما رواها الشيخ المفيد نقلاً عن نصر ـ بن مزاحم ـ عن عمرو بن سعد عن الأجلح عن زيد بن عليّ قال : « لمّا أبطأ على عليّ ( عليه السلام ) خبر أهل البصرة وكانوا في فلاة ، قال عبد الله بن عباس : فأخبرت عليّاً بذلك ، فقال لي : أسكت

____________________

(1) المنقلة كمرحلة السفر زنة ومعنى ( القاموس المحيط ).

(2) شرح النهج لابن أبي الحديد 1 / 176.

١٢٢

يابن عباس فوالله ليأتينا في هذين اليومين من الكوفة ستة آلاف وستمائة رجل ، وليُغلبنّ أهل البصرة ، وليقتلنّ طلحة والزبير ، فوالله إنّني استشرف الأخبار واستقبلها ، حتى إذا أتى راكب فاستقبلته واستخبرته ، فأخبرني بالعدة الّتي سمعتها من عليّ ( عليه السلام ) لم تنقص برجل واحد »(1) .

قال الطبري في تاريخه(2) ، وقال ابن الأثير في الكامل بلفظ الثاني إلاّ ما بين القوسين من الأوّل : « وقيل : إنّ عدد من سار من الكوفة اثنا عشر ألف رجل ورجل. قال أبو الطفيل : سمعت عليّاً يقول ذلك قبل وصولهم فقعدت فأحصيتهم فما زادوا رجلاً ولا نقصوا رجلاً.

وكان على كنانة وأسد وتميم والرباب ومزينة معقل بن يسار الرياحي ، وكان على سبع قيس سعد بن مسعود الثقفي عم المختار ، وعلى بكر وتغلب وعلة بن محدوج الذهلي ، وكان على مذحج والاشعريين حجر بن عدي ، وعلى بجيلة وأنمار وخثعم والأزد مخنف بن سليم الأزدي ، فقدموا على أمير المؤمنين بذي قار ، فلقيهم في ناس معه فيهم ابن عباس فرحّب بهم وقال : يا أهل الكوفة أنتم قاتلتم ملوك العجم وفضضتم جموعهم حتى صارت اليكم مواريثهم ، فمنعتم حوزتكم وأعنتم الناس على عدوهم ، وقد دعوتكم لتشهدوا معنا اخواننا من أهل البصرة فإن يرجعوا فذاك الّذي نريد ، وإن يلجّوا داويناهم بالرفق ( وباينّاهم ) حتى يبدؤنا بظلم ، ولم ندع أمراً فيه صلاح إلاّ آثرناه على ما فيه الفساد إن شاء الله ، واجتمعوا عنده بذي قار ، وعبد القيس بأسرها في الطريق بين عليّ والبصرة ينتظرونه وهم ألوف ( وفي الماء ألفان وأربعمائة ) »(3) .

____________________

(1) كتاب الجمل / 141 ط الحيدرية سنة 1368.

(2) تاريخ الطبري 4 / 487 ط دار المعارف.

(3) الكامل 3 / 98 ط بولاق.

١٢٣

وفي ذي قار كان خبر الصحيفة الّتي رآها ابن عباس عند الإمام ، والّتي حدّث عنها بعد أكثر من ربع قرن وذلك في سنة 61 من الهجرة لمّا بلغه الخبر بمقتل الحسين ( عليه السلام ) وأهل بيته.

والخبر كما رواه المجلسي نقلاً عن فضائل ابن شاذان بالإسناد عن سليم بن قيس أنّه قال : « لمّا قتل الحسين بن عليّ بن أبي طالب ( عليهم السلام ) بكى ابن عباس بكاءً شديداً ثمّ قال : ما لقيت هذه الأمة بعد نبيّها ، اللّهمّ إنّي أشهدك أنّي لعليّ بن أبي طالب ولولده ولي ، ولعدوه عدو ، ومن عدوّ ولده بريء ، وأنّي سلم لأمرهم ، ولقد دخلت على ابن عم رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) بذي قار فأخرج لي صحيفة وقال لي : يا بن عباس هذه صحيفة أملاها رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وخطي بيدي ، فقلت : يا أمير المؤمنين إقرأها عليّ ، فقرأها وإذا فيها كلّ شيء منذ قبض رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ). وكيف يقتل الحسين ( عليه السلام ) ومَن يقتله ومَن ينصره ومَن يستشهد معه ، وبكى بكاءً شديداً وأبكاني ، وكان فيما قرأه كيف يصنع به ، وكيف تستشهد فاطمة ( عليها السلام ) ، وكيف يستشهد الحسن ( عليه السلام ) ، وكيف تغدر به الأمة ، فلمّا قرأ مقتل الحسين ( عليه السلام ) ومَن يقتله أكثر البكاء ، ثمّ أدرج الصحيفة وفيها ما كان وما يكون إلى يوم القيامة.

وكان فيما قرأ أمر أبي بكر وعمر وعثمان ، وكيف يملك كلّ إنسان منهم ، وكيف يقع على عليّ بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، ووقعة الجمل ومسير عائشة والزبير. ووقعة صفين ومَن يقتل بها. ووقعة النهروان وأمر الحكمين وملك معاوية ، ومَن يقتل من الشيعة ، وما تصنع الناس بالحسن ( عليه السلام ) ، وأمر يزيد بن معاوية ، حتى أنتهى إلى قتل الحسين ( عليه السلام ) ، فسمعت ذلك ، فكان كما قرأ لم يزد ولم ينقص. ورأيت خطه في الصحيفة لم يتغير ولم يعفّر ، فلمّا أدرج الصحيفة ، قلت : يا أمير المؤمنين لو كنت قرأت على بقية الصحيفة؟ قال : لا ، ولكن أحدّثك بما فيها من أمر بنيك وولدك ،

١٢٤

وهو أمر فظيع من قتلهم لنا وعداوتهم لنا وسوء ملكهم وشؤم قدرتهم ، فأكره أن تسمعه فتغتّم ، ولكني أحدّثك : أخذ رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) عند موته بيدي ففتح لي ألف باب من العلم يفتح لي من كلّ باب ألف باب ، وأبو بكر وعمر ينظران إليَّ وهو يشير إليَّ بذلك ، فلمّا خرجت ، قالا لي : ما قال لك رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم )؟ فحدثتهما بما قال لي ، فحرّكا أيديهما ثمّ حكيا قولي ، ثمّ ولّيا. يا بن عباس إنّ ملك بني أمية إذا زال أوّل من يملك ولدك من بني هاشم فيفعلون الأفاعيل.

قال ابن عباس : لأن نسخت ذلك الكتاب فلهو أحب إليَّ ممّا طلعت عليه الشمس »(1) .

وقال ابن أعثم : « فاجتمع الناس بذي قار مع عليّ بن أبي طالب ستة آلاف من أهل المدينة وأهل مصر وأهل الحجاز ، وتسعة آلاف من أهل الكوفة ، وجعل الناس يجتمعون حتى صاروا في تسعة عشر ألف رجل من فارس وراجل. وسار عليّ ( رضي الله عنه ) من ذي قار يريد البصرة في جميع أصحابه ، والناس يتلاحقون به من كلّ أوب »(2) .

وأخرج الطبراني عن الأجلح بن عبد الله عن زيد بن عليّ عن أبيه عن ابن عباس قال : « لمّا بلغ أصحاب عليّ حين ساروا إلى البصرة قد أجتمعوا لطلحة والزبير شقّ عليهم ووقع في قلوبهم. فقال عليّ : والّذي لا إله غيره ليظهرنّ على أهل البصرة ، وليقتلنّ طلحة والزبير ، وليخرجنّ اليكم من الكوفة ستة آلاف وخمسمائة وخمسون رجلاً ـ أو خمسة آلاف وخمسمائة وخمسون رجلاً ـ شك الأجلح.

____________________

(1) البحار 8 / باب إخبار الله تعالى نبيّه ، وإخبار النبيّ بما جرى على أهل بيته من الظلم والعدوان ، نقلاً عن فضائل ابن شاذان / 131 ط حجرية ، والروضة ملحقاً بعلل الشرائع / 141.

(2) الفتوح 2 / 293.

١٢٥

قال ابن عباس : فوقع ذلك في نفسي ، فلمّا أتى أهل الكوفة خرجت فقلت لأنظرنّ ، فإن كان كما تقوّل فهو أمر سمعه ، وإلاّ فهي خديعة حرب ، فلقيت رجلاً من الجيش فسألته ، فوالله ما عتم أن قال ما قال عليّ. قال ابن عباس : وهو ممّا كان رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) يخبره »(1) .

وأخرج المفيد والطوسي عن المنهال بن عمرو قال : « أخبرني رجل من تميم قال : كنا مع عليّ بن أبي طالب ( عليه السلام ) بذي قار ونحن نرى أنّا سنتخطّف في يومنا فسمعته يقول : والله لنظهرنّ على هذه الفرقة ، ولنقتلن هذين الرجلين ـ يعني طلحة والزبير ـ ولنستبيحنّ عسكرهما ، قال التميمي : فأتيت إلى عبد الله بن عباس فقلت : أما ترى إلى ابن عمك وما يقول؟ فقال : لا تعجل حتى تنظر ما يكون. فلمّا كان من أمر البصرة ما كان أتيته فقلت : لا أرى ابن عمك إلاّ قد صدق فقال : ويحك إنّا كنّا نتحدّث اصحاب محمّد أنّ النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) عهد إليه ثمانين عهداً لم يعهد شيئاً منها إلى أحد غيره ، فلعل هذا ممّا عهد إليه »(2) .

إلى البصرة :

قال الشيخ المفيد : « وروى إسماعيل بن عبد الملك بن يحيى بن شبل عن أبي جعفر محمّد بن عليّ ( عليه السلام ) قال : لمّا سار عليّ من ذي قار قاصداً البصرة حتى نزل الخريبة في أثني عشر ألف. وعلى الميمنة عمّار بن ياسر في ألف رجل وعلى الميسرة مالك الأشتر في ألف رجل ، ومعه في نفسه عشرة آلاف رجل ،

____________________

(1) المعجم الكبير 10 / 305.

(2) آمالي المفيد / 335 ط دار المفيد ، آمالي الطوسي 1 / 112 ط النعمان وقارن بشارة المصطفى / 247 ، وكشف الغمة للإربلي 1 / 368 ط منشورات الشريف الرضي بقم ، وينابيع المودة / 78 ط اسلامبول.

١٢٦

وخرج إليه من البصرة ألفا رجل ، وخرجت إليه ربيعة كلّها إلاّ مالك بن مسمع منها ، وجاءته عبد القيس بأجمعها سوى رجل واحد تخلف عنها ، وجاءته بنو بكر يرأسهم شقيق بن ثور السدوسي ، ورأس عبد القيس عمر بن جرموس العبدي ، وأتاه المهلب بن أبي صفرة فيمن تبعه من الأزد اهـ »(1) .

وقد روى المسعودي : بسنده عن المنذر بن الجارود العبدي قال : « لمّا قدم عليّ ( رضي الله عنه ) البصرة ، دخل ممّا يلي الطف فأتى الزاوية ، فخرجت أنظر إليه ، فورد موكب في نحو ألف فارس ـ ثمّ ذكر أصحاب الألوية إلى أن قال ـ : ثمّ مرّ بنا فارس آخر على فرس أشهل ، ما رأينا أحسن منه عليه ثياب بيض وعمامة سوداء ، قد سدلها من بين يديه بلواء ، قلت : من هذا؟ قيل هو عبد الله بن العباس في عدة من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه ( وآله ) وسلّم »(2) .

ويقرب من هذا الوصف ما رواه محمّد بن زكريا الغلابي المتوفي سنة 298 هـ في كتابه الجمل بسنده عن معن بن عيسى أبي عيسى بن معن العبدي قال : « حدثني أبي قال : حدثني شيخاننا وعجائزنا قالوا : لمّا قدم عليّ بن أبي طالب ـ ( عليه السلام ) ـ البصرة دخل من الزاوية ، فجلسنا على سطوح لنا وفي طرقنا ننظر إليهم فمر راكب ـ إلى أن قال ـ : فمر بنا فارس آخر ما رأينا أحسن منه وجهاً ، عليه عمامة سوداء متقلداً سيفاً ، متنكّبا قوساً ، وبيده لواء أبيض ، فقلنا من هذا؟ فقيل : عبد الله بن العباس بن عبد المطلب ، وهذا معه لواء رسول الله صلّى الله عليه ( وآله ) وسلّم »(3) .

____________________

(1) كتاب الجمل / 142 ط الحيدرية سنة 1368 هـ.

(2) مروج الذهب 2 / 368 تح ـ محمّد محي الدين عبد الحميد.

(3) وقعة الجمل / 30.

١٢٧

ولحديث المنذر بن الجارود العبدي عند المسعودي ، وحديث معن بن عيسى العبدي عند الغلاّبي. دلالة على ان الطريق السالك لجيش الإمام كان يمرّ ببني عبد القيس ، كما لهما دلالة على التنظيم في تصنيف القادة والمتبوعين من حيث ألوان اللباس وألوان الألوية وألوان الخيل بأوصاف رائعة.

وقد روى ذلك الوصف من المتأخرين شارح شافية أبي فراس(1) ومحمّد تقي خان حكيم(2) والسيد الأمين(3) .

وقال المسعودي : « فساروا حتى نزل الموضع المعروف بالزاوية ، فصلى ـ يعني الإمام ـ أربع ركعات وعفّر خديه على التراب ، وقد خالط ذلك دموعه ، ثمّ رفع يديه يدعو : اللّهمّ ربّ السموات وما أظلّت ، والأرضين وما أقلّت ، وربّ العرش العظيم ، هذه البصرة أسألك من خيرها وأعوذ بك من شرّها ، اللّهمّ أنزلنا فيها خير منزل وأنت خير المنزلين ، اللّهمّ ان هؤلاء القوم قد خلعوا طاعتي ، وبغوا عليَّ ونكثوا بيعتي ، اللّهمّ احقن دماء المسلمين.

وبعث إليهم من يناشدهم الله في الدماء ، وقال : علام تقاتلونني؟ فأبوا إلاّ الحرب »(4) .

وروى الطبري بسنده عن قتادة قال : « سار عليّ من الزاوية يريد طلحة والزبير وعائشة ، وساروا من الفُرضة يريدون عليّاً ، فالتقوا عند موضع قصر عبيد الله بن زياد في النصف من جمادي الآخرة سنة ست وثلاثين يوم الخميس »(5) .

____________________

(1) شرح الشافية / 79 ط حجرية.

(2) كنج دانش / 117 ط ايران.

(3) أعيان الشيعة 1 / 39.

(4) مروج الذهب 2 / 370 تح ـ محمّد محي الدين عبد الحميد.

(5) تاريخ الطبري 4 / 501 ط المعارف.

١٢٨

سفارات إبن عباس لحقن الدماء :

( الأولى ) قال ابن أعثم : « فلمّا كان من الغد دعا عليّ ( رضي الله عنه ) بزيد بن صوحان وعبد الله بن عباس فقال لهما : امضيا إلى عائشة فقولا لها : ألم يأمركِ الله تبارك وتعالى أن تقرّي في بيتك؟ فخُدعتِ وانخدعتِ ، واستُنفرتِ فنفرتِ ، فاتقي الله الّذي إليه مرجعكِ ومعادكِ ، وتوبي إليه فإنّه يقبل التوبة عن عباده ، ولا يحملنّكِ قرابة طلحة وحبّ عبد الله بن الزبير على الأعمال الّتي تسعى بكِ إلى النارِ.

قال ابن أعثم : فانطلقا اليها وبلّغاها رسالة عليّ ( رضي الله عنه ) فقالت عائشة : ما أنا برادّة عليكم شيئاً ، فإنّي أعلم أنّي لا طاقة لي بحجج عليّ بن أبي طالب »(1) .

وجاء أيضاً في المناقب لابن شهر اشوب فقال ابن عباس : « لا طاقة لك بحجج المخلوق فكيف طاقتك بحجج الخالق؟

فرجعا إلى الإمام وأخبراه فقال ( عليه السلام ) : الله المستعان »(2) .

( الثانية ) قال المفيد في كتاب الجمل : « ثمّ دعا عبد الله بن عباس فقال : انطلق إليهم فناشدهم وذكّرهم العهد الّذي لي في رقابهم »(3) .

مع طلحة :

قال ابن عباس : « جئتهم فبدأت بطلحة فذكّرته العهد. فقال لي : يا بن عباس والله لقد بايعت عليّاً واللج(4) على رقبتي ، فقلت له إنّي رأيتك بايعت طائعاً ، أو لم يقل لك عليّ قبل بيعتك له إن أحببتَ أبايعك؟ فقلت : لا بل نحن نبايعك.

____________________

(1) الفتوح 2 / 306.

(2) مناقب ابن شهر اشوب 3 / 339.

(3) الجمل / 150.

(4) اللج : السيف تشبيهاً بلجّ الماء ( المنجد ).

١٢٩

فقال طلحة : إنّما قال لي ذلك وقد بايعه قوم فلم استطع خلافهم ، والله يا بن عباس انّ القوم الّذين معه يغرّونه إن لقيناه فسيسلمونه ، أما علمت يا بن عباس اني جئت إليه والزبير ولنا من الصحبة ما لنا مع رسول الله والقِدم في الإسلام ، وقد أحاط به الناس قياماً على رأسه بالسيوف ، فقال لنا : ـ بهزل ـ إن أحببتما بايعت لكما ، فلو قلنا نعم ، أفتراه يفعل وقد بايع الناس له؟ فيخلع نفسه ويبايعنا لا والله ما كان يفعل ، وحتى يغري بنا مَن لا يرى لنا حرمة ، فبايعناه كارهين. وقد جئنا نطلب بدم عثمان ، فقل لابن عمك إن كان يريد حقن الدماء وإصلاح أمر الأمة ، فليمكننا من قتلة عثمان فهم معه ، ويخلع نفسه ويردّ الأمر ليكون شورى بين المسلمين ، فيولّوا من شاؤا ، فإنّما عليّ رجل كاحدنا ، وإن أبى أعطيناه السيف ، فما له عندنا غير هذا.

قال ابن عباس : يا أبا محمّد لست تنصف ( ألست تتعسف؟ ) ألم تعلم أنّك حصرت عثمان حتى مكث عشرة أيام يشرب ماء بئره وتمنعه من شرب الفرات ـ القراح ـ حتى كلّمك عليّ في أن تخلّي الماء له وأنت تأبى ذلك ، ولمّا رأى أهل مصر فعلك وأنت صاحب رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) دخلوا عليه بسلاحهم فقتلوه.

ثمّ بايع الناس رجلاً له من السابقة والفضل والقرابة برسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) والبلاء العظيم ما لا يُدفع ، وجئت أنت وصاحبك طائعَين غير مكرهين حتى بايعتما ثمّ نكثتما.

فعجبٌ والله اقرارك لأبي بكر وعمر وعثمان بالبيعة ، ووثوبك على عليّ بن أبي طالب ، فوالله ما عليّ دون أحدٍ منهم ، وأمّا قولك : يمكنني من قتلة عثمان ، فما يخفى عليك مَن قتل عثمان ، وأمّا قولك : ان أبى عليّ فالسيف ، فوالله إنّك تعلم أنّ عليّاً لا يخوّف.

فقال طلحة : إيهاً الآن عنا من جدالك.

١٣٠

قال ـ ابن عباس ـ فخرجت إلى عليّ وقد دخل البيوت بالبصرة ، فقال : ماوراء؟ فأخبرته الخبر ، فقال : اللّهمّ افتح بيننا بالحقّ وأنت خير الفاتحين.

مع عائشة :

ثمّ قال : ارجع إلى عائشة ، واذكر لها خروجها من بيت رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، وخوّفها من الخلاف على الله ( عزّ وجلّ ) ونبذها عهد النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، وقل لها : إنّ هذه الأمور لا تصلحها النساء ، وأنّك لم تؤمري بذلك ، فلم يرض بالخروج عن أمر الله في تبرّجك ببيتك الّذي أمرك النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) بالمقام فيه ، حتى أخرجت إلى البصرة فقتلتِ المسلمين ، وعمدتِ إلى عمّالي فأخرجتهم ، وفتحتِ بيت المال ، وأمرتِ بالتنكيل بالمسلمين ، وأمرتِ بدماء الصالحين فأريقت فراقبي الله ( عزّ وجلّ ) فقد تعلمين أنّك كنتِ أشد الناس على عثمان فما هذا ممّا وقع؟

قال ابن عباس : فلمّا جئتها وأدّيت الرسالة وقرأت كتاب عليّ ( عليه السلام ) عليها.

قالت : يا بن عباس ابن عمك يرى أنّه قد تملّك البلاد ، لا والله ما بيده منها شيء إلاّ وبيدنا أكثر منه.

فقلت : يا أماه إنّ أمير المؤمنين ( عليه السلام ) له فضل وسابقة في الإسلام وعظم وعناء.

قالت : ألا تذكر طلحة وعناه يوم أحد؟

قال : فقلت لها والله ما نعلم أحداً أعظم عناءً من عليّ ( عليه السلام ).

قالت : أنت تقول هذا ومع عليّ أشباه كثيرة.

قلت لها : الله الله في دماء المسلمين.

قالت : وأي دم يكون للمسلمين إلاّ أن يكون عليّ يقتل نفسه ومن معه.

قال ابن عباس : فتبسمت ، فقالت : ممّا تضحك يا بن عباس؟

فقلت : والله معه قوم على بصيرة من أمرهم يبذلون مهجهم دونه.

١٣١

قالت : حسبنا الله ونعم الوكيل.

مع الزبير وابنه :

قال ـ ابن عباس ـ : وقد كان أمير المؤمنين ( عليه السلام ) أوصاني أن ألقى الزبير ، وإن قدرت أن أكلّمه وابنه ليس بحاضر ، فجئت مرة أو مرتين كلّ ذلك أجده عنده ، ثمّ جئت مرة أخرى فلم أجده عنده ، فدخلت عليه ، وأمر الزبير مولاه سرجس أن يجلس على الباب ، ويحبس عنا الناس. فجعلت أكلّمه فقال : عصيتم إن خولفتم ، والله لتعلمنّ عاقبة ابن عمك ، فعلمت أنّ الرجل مغضّب فجعلت ألاينه فيلين مرة ويشتد أخرى ، فلمّا سمع سرجس ذلك أنفذ إلى عبد الله بن الزبير ، وكان عند طلحة ، فدعاه فأقبل سريعاً حتى دخل علينا فقال : يا بن عباس دع بيّنات الطريق ، بيننا وبينكم عهد خليفة ، ودم خليفة ، وانفراد واحد واجتماع ثلاثة ، وأم مبرورة ، ومشاورة العامة.

قال ـ ابن عباس ـ : فأمسكت ساعة لا أكلّمه ثمّ قلت : لو أردت أن أقول لقلت.

فقال ابن الزبير : ولم تؤخر ذلك وقد لحم الأمر وبلغ السيل الزبى.

قال ابن عباس : فقلت أمّا قولك : عهد خليفة ، فإنّ عمر جعل المشورة إلى ستة نفر ، فجعل النفر أمرهم إلى رجل منهم يختار لهم منهم ويخرج نفسه منها ، فعرض الأمر على عليّ ( وعلى عثمان ) فحلف عثمان وأبى عليّ أن يحلف ، فبايع عثمان ، فهذا عهد خليفة.

وأمّا دم خليفة : فدمه عند أبيك ، لا يخرج أبوك من خصلتين : إمّا قتل أو خذل.

وأمّا انفراد واحد واجتماع ثلاثة ، فإنّ الناس لمّا قتلوا عثمان فزعوا إلى عليّ ( عليه السلام ) فبايعوه طوعاً وتركوا أباك وصاحبَه ولم يرضوا بواحد منهما.

١٣٢

وأمّا قولك : إنّ معكم أماً مبرورة ، فإنّ هذه الأم أنتما أخرجتماها من بيتها ، وقد أمرها الله أن تقرّ فيه. فأبيت أن تدعها ، وقد علمتَ أنت وأبوك أنّ النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) حذّرها من الخروج وقال : يا حميراء إياك أن تنبحك كلاب الحوأب ، وكان منه ما قد رأيت.

وأمّا دعواك مشاورة العامة ، فكيف يشاور فيمن قد أُجمع عليه ، وأنت تعلم أنّ أباك وطلحة بايعاه طائعَينَ غير كارهَين.

فقال ابن الزبير : الباطل والله ما تقول يا بن عباس ، وقد سُئل عبد الرحمن بن عوف عن أصحاب الشورى فكان صاحبكم أخسّهم عنده ، وما أدخله عمر في الشورى إلاّ وهو يعرفه ، ولكنه خاف فتنة في الإسلام.

وأمّا قتل خليفة فصاحبك كتب إلى الآفاق حتى قدموا عليه ثمّ قتلوه وهو في داره بلسانه ويده وأنا معه أقاتل دونه حتى جُرحتُ بضعة عشر جُرحاً.

وأمّا قولك إنّ عليّاً بايعه الناس طائعين ، فوالله ما بايعوه إلاّ كارهَين والسيف على رقابهم ، غصبهم أمرهم. فقال الزبير : دع عنك ما ترى يا بن عباس ، جئتنا لتوفينا؟

فقال له ابن عباس : أنتم طلبتم هذا ، والله ما عددناكم قط إلاّ منّا بني هاشم في برّك لأخوالك ومحبّتك لهم ، حتى أدرك ابنك هذا فقطع أرحامهم.

فقال الزبير : دع عنك هذا. فرجع ابن عباس وأخبر الإمام بإصرار القوم على الخلاف ، فلم يبرح الإمام يبعث مَن يعظهم ويحذرهم مغبّة العواقب ، وكان أكثر رُسله سفارة هو ابن عمه عبد الله بن عباس.

( الثالثة ) فقد دخل على عائشة بالبصرة قال : فذكّرتها هذا الحديث ـ يعني به حديثها معه يوم الصلصل وقد مرّ في الجزء الأوّل ـ فقالت : ذاك المنطق الّذي تكلمت به يومئذ هو الّذي أخرجني ، لم أر لي توبة إلاّ الطلب بدم عثمان ، ورأيت أنّه قتل مظلوماً.

١٣٣

قال ابن عباس : فقلت لها : فأنتِ قتلتيه بلسانك ، فأين تخرجين ، توبي وأنتِ في بيتكِ أو أرضي ولاة دم عثمان ولده.

قالت دعنا من جدالك فلسنا من الباطل في شيء.

( الرابعة ) قال الشريف الرضي في نهج البلاغة : « من كلام له ( عليه السلام ) لابن عباس لمّا أرسله إلى الزبير يستفيئُه إلى طاعته قبل حرب الجمل : ( لا تلقينّ طلحة ، فإنك إن تلقه تجده كالثور عاقصاً قرنه ، يركب الصعبَ ويقول هو الذلول ، ولكن ألقَ الزبير ، فإنّه ألين عريكة ، فقل له يقول لك ابن خالك : عرفتني بالحجاز وأنكرتني بالعراق ، فما عَدا ممّا بدا؟ ).

قال الرضي : أقول : هو أوّل من سُمعت منه هذه الكلمة أعني ( فما عدا ممّا بدا ).

قال الزبير بن بكار في الموفقيات عن ابن عباس قال : « فأتيت الزبير فوجدته في بيت يتروّح في يوم حار ، وعبد الله ابنه عنده فقال : مرحباً بك يا بن لبابة ، أجئت زائراً أم سفيراً؟ قلت : كلاً ان ابن خالك يقرأ عليك السلام ـ ( وذكر الرسالة ) ويقول لك يا أبا عبد الله كيف عرفتنا بالمدينة وأنكرتنا بالبصرة. فقال :

علقتهم أنّي خلفت عصبة

قتادة تعلقت بنشبة

لن أدعهم حتى أولّف بينهم. قال ـ ابن عباس ـ فأردت منه جواباً غير ذلك فقال لي ابنه عبد الله قل له بيننا وبينك دم خليفة قال : فعلمت أنّه ليس وراء هذا الكلام إلاّ الحرب فرجعت إلى عليّ ( عليه السلام ) فأخبرته »(1) .

____________________

(1) قال الزبير بن بكار : هذا الحديث كان يرويه عمي مصعب ثمّ تركه وقال : إني رأيت جدي أبا عبد الله الزبير بن العوام في المنام وهو يعتذر من يوم الجمل ، فقلت له كيف تعتذر منه وأنت القائل : علقتهم أنّى خلفت عصبة قتادة تعلقت بنشبة ، لن أدعهم حتى أولّف بينهم؟ فقال : لم أقله. وهذا من النصوص الضائعة من كتاب الموفقيات المطبوع ولم

١٣٤

أقول : قال السيد عليخان المدني الشيرازي(1) : « وروى أنّ أمير المؤمنين ( عليه السلام ) قال : من كان له ابن عم مثل ابن عباس فقد أقرّ الله عينه ».

وكلمة الإمام « فما عدا ممّا بدا » لم يقلها أحد قبله. قال ابن خلكان(2) : « وفي وقعة الجمل قبل مباشرة الحرب أرسل عليّ بن أبي طالب ( رضي الله عنه ) ابن عمه عبد الله بن العباس ( رضي الله عنهما ) إلى طلحة والزبير ( رضي الله عنهما ) برسالة يكفّهما عن الشروع في القتال ، ثمّ قال له : لا تلقينّ طلحة فإنك إن تلقه تجده كالثور عاقصاً أنفه يركب الصعب ويقول هو الذلول ، ولكن القَ الزبير فإنّه ألين عريكة منه ، وقل له : يقول ابن خالك : عرفتني بالحجاز وأنكرتني بالعراق فما عدا ممّا بدا؟ قال ابن خلكان : وعليّ ( رضي الله عنه ) أوّل من نطق بهذه الكلمة فأخذ ابن المعلم المذكور هذا الكلام وقال :

منحوه بالجزع الكلام وأعرضوا

بالغور عنه « فما عدا ممّا بدا »

وهذا القول من جملة قصيدة طويلة ».

( الخامسة ) قال ابن أبي الحديد : « وقد روى المدائني قال : بعث عليّ ( عليه السلام ) ابن عباس يوم الجمل إلى الزبير قبل الحرب فقال له : إن أمير المؤمنين يقرأ عليك السلام ويقول لكم : ألم تبايعني طائعاً غير مكرَه فما الّذي رابَك مني فاستحللت به قتالي؟ قال فلم يكن له جواب إلاّ انه قال : إنا مع الخوف الشديد لنطمع ، لم يقل غير ذلك.

____________________

يستدركه المحقق ، وقد بلغ ما استدركته عليه أربعة عشر نصاً ، وقد ذكر هذه الرسالة المفضل بن سلمة في الفاخر / 301 ط مصر وابن عبد ربه في العقد الفريد 4 / 314 تح ـ أحمد أمين ورفيقيه.

(1) الدرجات الرفيعة / 108.

(2) وفيات الأعيان في ترجمة أبي الغنائم الواسطي المعروف بابن المعلم المتوفى سنة 592.

١٣٥

قال أبو إسحاق ـ الراوي للخبر ـ فسألت محمّد بن عليّ بن الحسين ( عليه السلام ) ما تراه يعني بقوله هذا؟ فقال : والله ما تركت ابن عباس حتى سألته عن هذا؟ فقال يقول : إنّا مع الخوف الشديد ممّا نحن عليه نطمع أن نلي مثل الّذي ولّيتم »(1) .

وقد روى هذه السفارة كلّ من الجاحظ في البيان والتبيين عن عبد الله بن مصعب(2) ، ورواها أبو الفرج الاصبهاني في الأغاني بأسانيد متعددة ، ولعل روايته أوسع ممّا مرّ ، وإليك نصها قال : « حدّثني أحمد بن عيسى بن أبي موسى العجلي الكوفي ، وجعفر بن محمّد بن الحسن العلوي الحسني ، والعباس بن عليّ بن العباس ، وأبو عبيد الصيرفي قالوا : حدثنا محمّد بن عليّ بن خلف العطار قال حدثنا عمرو بن عبد الغفار عن سليمان النوري عن جعفر بن محمّد عن أبيه عن عليّ بن الحسين ( عليه السلام ) قال : حدّثني ابن عباس قال قال لي عليّ صلوات الله عليه : إئت الزبير فقل له يقول لك عليّ بن أبي طالب نشدتك الله ألستَ قد بايعتني طائعاً غير مكره فما الّذي أحدثت فاستحللتَ به قتالي.

وقال أحمد بن يحيى في حديثه : قل لهما : إنّ أخاكما يقرأ عليكما السلام ويقول : هل نقمتما عليّ جوراً في حكم أو استئثاراً بفيء؟ فقالا : لا ولا واحدة منهما ، ولكن الخوف وشدة الطمع.

وقال محمّد بن خلف في خبره : فقال الزبير : مع الخوف شدة المطامع(3) . فأتيت عليّاً ( عليه السلام ) فأخبرته بما قال الزبير ، فدعا بالبغلة فركبها وركبت معه فدنوا حتى اختلفت أعناق دابتيهما ، فسمعت عليّاً صلوات الله عليه يقول : نشدتك الله يا زبير ، أتعلم أنّي كنت أنا وأنت في سقيفة بني فلان تعالجني وأعالجك فمر بي ـ

____________________

(1) شرح النهج لابن أبي الحديد 2 / 499.

(2) البيان والتبيين 3 / 221 تح ـ عبد السلام محمّد هارون ط الأولى.

(3) المصنف لابن أبي شيبة 15 / 267 ط باكستان.

١٣٦

يعني النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) فقال : كأنّك تحبّه ، فقلتُ : وما يمنعني قال : أما انّه ليقاتلنك وهو لك ظالم؟

فقال الزبير : اللّهمّ نعم ذكرتني ما نسيت ، وولّى راجعاً »(1) .

وروى البلاذري ، والذهبي ، وابن عساكر في تاريخه واللفظ له : « انّ ابن عباس قال للزبير يوم الجمل : يا بن صفية هذه عائشة تمتلك الملك لطلحة وأنت على ماذا تقاتل قريبك؟ فرجع »(2) .

( السادسة ) وهي آخر مرة لإتمام الحجة ، وللإعذار قبل الإنذار وقبل أن يسبق السيف العَذل ، فقد أرسله الإمام إلى الناكثين وهو يحمل مصحفاً منشوراً يدعوهم إلى ما فيه.

قال محمّد بن إسحاق : « حدّثني جعفر بن محمّد ـ الصادق ـ عن أبيه ـ الباقر ( عليهما السلام ) عن ابن عباس ( رضي الله عنه ) قال : بعثني عليّ ( عليه السلام ) يوم الجمل إلى طلحة والزبير وبعث معي بمصحف منشور ، وان الريح لتصفق ورقه. فقال لي : قل لهما : هذا كتاب الله بيننا وبينكم فما تريدان. فلم يكن لهما جواب إلاّ أن قالا : نريد ما أراد ، كأنّهما يقولان الملك ، فرجعت إلى عليّ فأخبرته »(3) .

ولهذه السفارة حديث أوفى فيما رواه الشيخ المفيد في كتاب الجمل قال : « ثمّ إنّ أمير المؤمنين ( عليه السلام ) رحل بالناس إلى القوم غداة الخميس لعشر مضين

____________________

(1) الأغاني 16 / 127 ط الساسي. وفي تاريخ الطبري 5 / 204 حوادث سنة 36 ط الحسينية : ( قال له : كنا نعدّك من بني عبد المطلب حتى بلغ ابنك ابن السوء ففرّق بيننا وبينك وعظم عليه أشياء فذكر ان النبيّ ( ص ) مرّ عليهما فقال لعلي : ما يقول ابن عمّك ليقاتلنك وهو لك ظالم ).

(2) تهذيب تاريخ ابن عساكر 5 / 367 ط دار المسيرة بيروت ، أنساب الأشراف ( ترجمة الإمام ) / 252 تح ـ المحمودي ، تاريخ الإسلام 2 / 151 ط القدسي.

(3) شرح النهج لابن أبي الحديد 2 / 499 ط مصر الأولى.

١٣٧

من جمادي الأولى ، وعلى ميمنته الأشتر وعلى ميسرته عمّار بن ياسر ، وأعطى الراية محمّد بن الحنفية ابنه ، وسار حتى وقف موقفاً ثمّ نادى في الناس : ( لا تعجلوا حتى أعذر إلى القوم ). ودعا عبد الله بن العباس فاعطاه المصحف وقال : ( امض بهذا المصحف إلى طلحة والزبير وعائشة ، وادعهم إلى ما فيه ، وقل لطلحة والزبير : ألم تبايعاني مختارَين فما الّذي دعاكما إلى نكث بيعتي ، وهذا كتاب الله بيني وبينكما ).

قال عبد الله بن العباس : فبدأت بالزبير وكان عندي أبقاهما علينا ، وكلّمته في الرجوع ، وقلت له : إنّ أمير المؤمنين يقول لك : ألم تبايعني طائعاً فبم تستحل قتالي ، وهذا المصحف وما فيه بيني وبينك فإن شئت تحاكمنا إليه.

قال : ارجع إلى صاحبك فإنّا بايعنا كارهَين وما لي حاجة في محاكمته.

فانصرفت عنه إلى طلحة ، والناس يشتدون والمصحف في يدي ، فوجدته قد لبس الدرع وهو محتب بحمائل سيفه ودابته واقفة. فقلت له : إنّ أمير المؤمنين يقول لك ما حملك على الخروج وبما استحللت نقض بيعتي والعهد عليك؟

قال : خرجت أطلب بدم عثمان ، أيظن أبن عمك انه قد حوى على الأمر حين حوى على الكوفة وقد والله كتبت إلى المدينة يؤخذ لي بمكة.

فقلت له : أتق الله يا طلحة فإنّه ليس لك أن تطلب بدم عثمان وولده أولى بدمه منك ، هذا أبان بن عثمان ما ينهض في طلب دم أبيه.

قال طلحة : نحن أقوى على ذلك منه ، قتله ابن عمك وابتزّ أمرنا.

فقلت له : اذكرك الله في المسلمين وفي دمائهم ، وهذا المصحف بيننا وبينكم ، والله ما أنصفتم رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) إذ حبستم نساءكم في بيوتكم ، وأخرجتم حبيسة رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، فأعرض عني ، ونادى أصحابه ناجزوا القوم فإنكم لا تقومون لحجاج ابن أبي طالب.

١٣٨

فقلت : يا أبا محمّد أبالسيف تخوّف ابن أبي طالب ، أما والله ليعاجلنك للسيف.

فقال : ذلك بيننا وبينكَ.

قال : فانصرفت عنهما إلى عائشة وهي في هودج مدقق بالدفوف(1) على جملها عسكر ، وكعب بن سور القاضي آخذ بخطامه ، وحولها ألازد وضبّة ، فلمّا رأتني قالت : ما الّذي جاء بك يا بن عباس؟ والله لا سمعت منك شيئاً ، ارجع إلى صاحبك فقل له : ما بيننا وبينك إلاّ السيف ، وصاح مَن حولها : ارجع يا بن عباس لا يسفك دمك.

فرجعت إلى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فأخبرته الخبر وقلت : ما تنتظر والله ما يعطيك القوم إلاّ السيف فاحمل إليهم قبل أن يحملوا عليك. فقال : ( لنستظهر بالله عليهم ) ، قال ابن عباس : فوالله ما رمت من مكاني حتى طلع عليَّ نشّابهم كأنّه جراد منتشر ، فقلت : ما ترى يا أمير المؤمنين إلى ما يصنع القوم ، مرنا ندفعهم ، فقال : ( حتى أعذر إليهم ثانية ) ، ثمّ قال : ( من يأخذ هذا المصحف فيدعوهم إليه وهو مقتول وأنا ضامن له على الله الجنة ) ، فلم يقم أحد إلاّ غلام عليه قباء أبيض حدث السنّ من عبد القيس ، يقال له مسلم كأنّي أراه ، فقال : أنا أعرضه يا أمير المؤمنين عليهم وقد احتسبت نفسي عند الله تعالى.

فأعرض عنه ( عليه السلام ) إشفاقاً عليه ، ونادى ثانية : ( من يأخذ هذا المصحف ويعرضه على القوم ، وليعلم أنه مقتول وله الجنة ) ، فقام مسلم بعينه وقال : أنا أعرضه ، ونادى ثالثة فلم يقم غير الفتى.

فدفع المصحف إليه وقال : امضِ إليهم واعرضه عليهم ، وادعهم إلى ما فيه.

____________________

(1) أي مثبت بالسرج.

١٣٩

فأقبل الغلام حتى وقف بأزاء الصفوف ونشر المصحف وقال : هذا كتاب الله ( عزّ وجلّ ) وأمير المؤمنين يدعوكم إلى ما فيه. فقالت عائشة : اشجروه بالرماح قبّحه الله ، فتبادروا إليه بالرماح فطعنوه من كلّ جانب ، وكانت أمه حاضرة فصاحت وطرحت نفسها عليه وجرّته من موضعه ، ولحقها جماعة من عسكر أمير المؤمنين ( عليه السلام ) أعانوها على حمله ، حتى طرحته بين يدي أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وهي تبكي وتقول :

يا ربّ إنّ مسلماً دعاهم

يتلو كتاب الله لا يخشاهم

يأمر بالمعروف من مولاهم

فخضّبوا من دمه قناهم

وأمهم قائمة تراهم

تأمرهم بالقتل لا تنهاهم(1)

ولم يبرح إذ جاء من الميمنة عبد الله بن عباس ومعه عبد الله بن بديل ، يحملان ابناً لابن بديل ـ أو أخاً له ـ قد قتل بسهام القوم الطائشة ، فقال ابن بديل : حتى متى يا أمير المؤمنين ندلي نحورنا للقوم يقتلونا رجلاً رجلاً ، قد والله أعذرتَ إن كنت تريد الإعذار.

وعندها تهيأ للحرب ورفع يديه إلى السماء وقال : ( اللّهمّ إليك شخصت الأبصار ، وأفضت القلوب وأتقرب إليك بالأعمال ، ربّنا افتح بيننا وبين قومنا بالحقّ وأنت خير الفاتحين ) ، وأعطى الراية ولده محمّد ابن الحنفية ، ثمّ نادى : ( أيّها الناس لا تقتلوا مدبراً ، ولا تجهزوا على جريح ، ولا تكشفوا عورة ، ولا تهيجوا امرأة ، ولا تمثلوا بقتيل ) ، فبينما يوصي أصحابه إذ أظلّتهم نبال القوم فقتل رجل من أصحابه فقال : اللّهمّ اشهد.

____________________

(1) قارن الطبري 4 / 511 ـ 512 ط دار المعارف ، وشرح النهج لابن أبي الحديد 2 / 431 ، والفتوح لابن أعثم 2 / 313 ، وأنساب الأشراف ( ترجمة الإمام ) 2 / 240 ـ 241 تح ـ المحمودي.

١٤٠