موسوعة عبد الله بن عبّاس الجزء ٣

موسوعة عبد الله بن عبّاس0%

موسوعة عبد الله بن عبّاس مؤلف:
تصنيف: متون حديثية
الصفحات: 285

موسوعة عبد الله بن عبّاس

مؤلف: السيد حسن الموسوي الخرسان
تصنيف:

الصفحات: 285
المشاهدات: 49762
تحميل: 4057


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 285 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 49762 / تحميل: 4057
الحجم الحجم الحجم
موسوعة عبد الله بن عبّاس

موسوعة عبد الله بن عبّاس الجزء 3

مؤلف:
العربية

( المورد الأوّل ) : قال في تاريخه : « أخبار أبي ذر رحمه الله تعالى :

وفي هذه السنة ـ أعني سنة ثلاثين ـ كان ما ذكر من أمر أبي ذر ومعاوية ، وإشخاص معاوية إياه من الشام إلى المدينة وقد ذُكر في سبب إشخاصه إياه منها أمور كثيرة كرهت ذكر أكثرها.

فأمّا العاذرون معاوية في ذلك فإنّهم ذكروا في ذلك قصة كتب بها الي السري يذكر أن شعيباً حدثه عن سيف ».

ـ ثمّ ساق القصة ، وأتبعها بخبر آخر بنفس السند الأوّل ، وهكذا بثالث ورابع وكلّها عن سيف المتهم بالزندقة فضلاً عن كونه ساقطاً في الرواية كما مرّ عن الدار قطني ، إلى غير ذلك من الأقوال في تجريحه ـ ثمّ قال : « وأمّا الآخرون ، فإنّهم رووا في سبب ذلك أشياء كثيرة وأموراً شنيعة كرهت ذكرها »(1) .

لماذا ذكر أخبار العاذرين ، وكلّها عن سيف فلم يكره ذكرها؟ حتى إذا وصلت النوبة إلى أخبار الآخرين احرنجم عن ذكرها.

( المورد الثاني ) : قال : « ذكر الخبر عن قتل عثمان ( رضي الله عنه ) :

وفي هذه السنة قتل عثمان بن عفان ( رضي الله عنه ). ذكر الخبر عن قتله وكيف قتل : قال أبو جعفر ( رحمه الله ) : قد ذكرنا كثيراً من الأسباب الّتي ذكر قاتلوه أنهم جعلوها ذريعة إلى قتله ، فأعرضنا عن ذكر كثير منها لعللٍ دعت إلى الإعراض عنها »(2) .

لماذا الإعراض يا شيخ المؤرخين؟

____________________

(1) تاريخ الطبري 4 / 283 ط دار المعارف.

(2) نفس المصدر 4 / 365.

٢٤١

( المورد الثالث ) : قال : « خبر وقعة الجمل من رواية أخرى :

قال أبو جعفر : وأمّا غير سيف فإنّه ذكر من خبر هذه الوقعة وأمر الزبير غير الّذي ذكر سيف عن صاحبيه »(1) .

ثمّ قال : « واحتمل محمّد بن أبي بكر عائشة فضُرب عليها فسطاط ، فوقف عليّ عليها فقال : استفززت الناس وقد فزّوا ، فألّبتِ بينهم حتى قتل بعضهم بعضاً في كلام كثير. فقالت عائشة : يا بن أبي طالب ملكت فاسجح نعم ما أبليتَ قومك اليوم ، فسرّحها عليّ ، وأرسل معها جماعة »(2) .

ماذا كان الكلام الكثير؟ ولماذا غصّ الطبري بذكره؟ ولماذا لم يذكر كيف كان أمر تسريحها؟ ومن الّذي أتاها وأمرها وحاورها وحاورته؟ وهذا ما ذكره غيره ، وأعرض هو عنه ، وهكذا تطمس الحقائق. وهذا ما يتعلق بابن عباس في هذا المقام ، فكم ممّا يتعلق بغيره وطمسته الأقلام؟

( المورد الرابع ) : قال : « وذكر هشام عن أبي مخنف قال : وحدثني يزيد بن ظبيان الهمداني : أن محمّد بن أبي بكر كتب إلى معاوية بن أبي سفيان لما وُلّي ، فذكر مكاتبات جرت بينهما كرهت ذكرها لما فيه ممّا لا يحتمل سماعَها العامة »(3) .

وعلى هذه الموارد فقس ما سواها.

رابعاً : ما ذكره من استبعاد صدور مثل ذلك من ابن عباس مع امرأة مهزومة فكيف بمثل عائشة مكانة وحرمة.

____________________

(1) نفس المصدر 4 / 508.

(2) نفس المصدر 4 / 509 ـ 510.

(3) نفس المصدر 4 / 557.

٢٤٢

فنقول له : لماذا الاستبعاد فابن عباس داهية بني هاشم كما سمّيته أنتَ في كتابك ، وهو رسول( وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ ) (1) وعائشة تعلم يقيناً بما عليه ابن عباس من قوة الحجة وما عنده من قوة الشخصية ، وهي كما تصفها امرأة مهزومة ، وهي كذلك بالفعل لكنها لم تتخل عن عنادها ، فلم تأذن له ، ولو أذنت له وسمعت منه لجنّبت نفسها كثيراً ممّا جرى حتى أجرى دمعها وسمع نشيجها ، لكنها على نفسها جنت عائش ، وهي بعد لها حرمتها ومكانتها ، فما كان عليها إلاّ الإذن واستماع ما جاء به الرسول ، وتقبل ذلك بعين الرضا ، ولو كان مرّ ذلك كله بسلام ، لما جرى بينها وبين ابن عباس من كلام وخصام ، ولكنها بدأت الشر ، ومن الطبيعي لا يدفع الشر إلاّ بالشر ، ولكل نبأ مستقر.

خامساً : نقده لابن عباس من دون استحياء ، لأنّه نسب سبب أمومة المؤمنين إلى أسرته ، وكذلك صديقية أبيها. وأن ذلك من صنع الله.

فنقول له : لئن غلبتك عائشتك في الدفاع عن أم المؤمنين ، فهل استحوذت على مشاعرك حتى أنستك مباديء المعاني والبيان والمثل القائل ( أنبت الربيع البقل )؟

وإذا كان قد بعد العهد بذلك فقد غاب عنك ما قاله عمر بن الخطاب للحسين بن عليّ ـ سبط الرسول وريحانته ـ وقد صعد إليه على المنبر وقال له : « إنزل عن منبر أبي واذهب إلى منبر أبيك ، فقال عمر : لم يكن لأبي منبر ، فأخذه وأجلسه معه ، ولمّا نزل أخذه معه إلى منزله وقال له من علّمك؟ فقال : والله ما علّمنيه أحد. قال له يا بني لو جعلت تغشانا؟ فأتاه يوماً وهو خال بمعاوية وابن عمر على الباب فرجع فلقيه بعد فقال : لم أرك فقال : جئت وأنت خالٍ بمعاوية

____________________

(1) النور / 54 ، والعنكبوت / 18.

٢٤٣

وابن عمر بالباب فرجع ابن عمر ورجعنا معه. فقال عمر : أنت أحق بالإذن من ابن عمر ، وإنّما أنبت ما ترى في رؤوسنا الله ثمّ أنتم ». وفي طبقات ابن سعد قال : « ووضع يده على رأسه ».

وهذا ما أخرجه ابن سعد في الطبقات(1) ، والخطيب البغدادي في تاريخه(2) ، ورواه في كنز العمال وقال : أخرجه ابن سعد وابن راهويه والخطيب(3) ، وأخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق كما في المختصر(4) ، والذهبي في سير أعلام النبلاء وصححه(5) ، وابن حجر العسقلاني في الإصابة وصححه(6) ، وأخرجه ابن حجرالمكي في الصواعق(7) إلاّ أنّه قال ذلك مع الحسن ( عليه السلام ).

وربّما بعدت عليه الشقّة عن هذه المصادر فهل غاب عنه قول الله سبحانه لعيسى بن مريم روحه وكلمته( إذ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إذ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ ) إلى قوله تعالى :( وَإذ تَخْلُقُ مِنْ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي ) (8) إلى آخر الآية. وأياً ما كان فلا منافاة بين أن يكون الأمر بتوفيق من الله سبحانه وإرادته ثمّ هو يجعل سبب التشريف بالفعل بيد غيره كما مرّ في الآية المباركة وقول عمر والمثل العربي. فتصح نسبة الفعل إلى الغير.

سادساً : قال : « وكلّ مسلم يعلم أنّ زواج عائشة كان بوحي من الله ».

____________________

(1) طبقات ابن سعد 1 / 394 ط الطائف تح ـ د محمّد بن صامل السُلمي.

(2) تاريخ بغداد 1 / 141.

(3) كنز العمال 7 / 105 ط الاُولى حيدر آباد و 16 / 264 أيضاً حيدر آباد ط 2.

(4) مختصر تاريخ ابن عساكر 7 / 127.

(5) أعلام النبلاء 3 / 285.

(6) الإصابة 2 / 77 ـ 78.

(7) الصواعق المحرقة / 107 ط الاُولى.

(8) المائدة / 110.

٢٤٤

وهذا زعم باطل لم يصح فيه حديث واحد ، وأنّ ما يراه القارىء في صحاح القوم ومسانيدهم من ذلك فكله من روايات عائشة نفسها ، وضعه سماسرة الحزبية الأموية حين صافتهم وصافقتهم فكانت لهم عوناً وسنداً ، فشادوا بذكرها ورفعوا من أمرها.

ولتنوير القارئ حول هذا الموضوع نقول له :

إنّ أسانيد روايات زواجها ترجع إليها ويرويها غالباً عنها ابن اختها عروة بن الزبير وعنه ابنه هشام بن عروة ، وهو متهم في سماعه وحديثه ، قال يعقوب بن شيبة ثقة ثبت لم ينكر عليه شيء إلاّ بعد ما صار إلى العراق فإنّه انبسط في الرواية عن أبيه ممّا كان يسمعه من غير أبيه عن أبيه. وقال ابن خراش : كان مالك لا يرضاه. وقال ابن لهيعة : كان أبو الأسود يعجب من حديث هشام عن أبيه ، وربّما مكث سنة لا يكلّمه(1) .

وأخيراً فليراجع القارئ معجم الطبراني الكبير سيجد ثلاثة أحاديث حول هذا الزواج المزعوم ، تختلف اختلافاً بيّناً في المتن مع أنّها جميعاً عن هشام عن أبيه عن عائشة ، كما يجد حديثاً عن قتادة فيه : « وقد زعموا أن جبريل قال هذه امرأتك قبل أن يتزوجها ». وهذا أيضاً في اسناده زهير بن العلاء القيسي وقد تكلم فيه ، ومع ذلك فهو مرسل ، لأنّ قتادة لم يدرك عائشة(2) .

وبالتالي : إنّ المتيقن في زواج احدى زوجات النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) من السماء ليس إلاّ زواج زينب بنت جحش وهي ابنة عمته فقد نزل في ذلك القرآن وذلك قوله

____________________

(1) تهذيب التهذيب 11 / 50 ـ 51.

(2) المعجم الكبير 23 / 16 ـ 17 ( المتن والهامش ).

٢٤٥

تعالى :( فلمّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا ) الآية(1) . قال محمّد بن حبيب الهاشمي في المحبّر : « وتزويجها احدى مناقب بني أسد ، وكانت زينب تفخر على صواحبها فتقول : أنتنّ زوّجكنّ أولياؤكنّ وأنا زوجني الله ( عزّ وجلّ ) وكان السفير جبريل ( عليه السلام ) »(2) .

ويبقى زعم الأفغاني في تزويج عائشة بأمر الوحي لا يعلمه إلاّ هو ومن على شاكلته ، وكان عليه أن يحتاط في تعميمه العلم في قوله : « وكلّ مسلم يعلم » فليس كلّ مسلم يعلم ذلك ، وما ذكره فهو كسائر خصائصها الّتي نافت عنده على الأربعين فيما ذكرها في مقدمة كتاب ( الإجابة فيما استدركته عائشة على الصحابة ) ، وهي دعاوى فارغة من دون حجة بالغة.

ولنا عودة مع سعيد الأفغاني حول ما جاء في تحقيقه كتاب الإجابة عند ذكر استدراكها على ابن عباس وهي ثمانية أحاديث ، سوف نذكرها ونناقشها في الحلقة الثالثة من تاريخه العلمي إن شاء الله تعالى.

سابعاً : ما ذكره عن المسعودي متحاملاً عليه بوصفه ( المؤرخ الحزبي ) ومتهجماً عليه بأنّ جعله ممّن لا عقل له ولا رويّة ومن المؤرخين العصبيين ، ولستُ بصدد الدفاع عن المسعودي بقدر ما يهمنّي بيان الخطأ في كلام الأفغاني.

فقد قال : « أمّا الّذي لا يمكن أن يقبله امرؤ ذو رويّة فما رواه المسعودي ( المؤرخ الحزبي ) فقد زعم أنّ عائشة قالت لعليّ بعد خطب طويل كان بينها : إني أحبّ أن أقيم معك فأسير إلى قتال عدوك عند مسيرك ، فقال عليّ : بل ارجعي إلى البيت الّذي تركك فيه رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم )(3) .

____________________

(1) الأحزاب / 37.

(2) المحبّر / 86.

(3) مروج الذهب 2 / 9.

٢٤٦

وهذا خبر غير معقول البتة ، وهو مخالف منطق الحوادث : أمن تجييش الجيوش على عليّ إلى القتال معه؟ أهكذا انقلاباً فجائياً من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار ، بهذه الخفة والسرعة الخاطفة؟؟! ألا قليلاً من العقل والروية أيها المؤرخون العصبيون!؟ ».

فنقول له : أمّا ما ذكرته من حملة مسعورة فلا مبرّر لها ، فالرجل مؤرخ كسائر المؤرخين يروي ما وجده في كتب الأقدمين ، وقد أحصيت من ذكرهم في أوّل كتابه فنافوا على الثمانين ، وهو رقم عالٍ جداً لم يبلغه غيره فيما أحسب. ومن كان يروي عن كتب أولئك والّتي لم يصلنا منها إلاّ بضعه قليلة لا تبلغ العشرة ، أمّا الباقي فقد ضاع ولم نعلم منها وعنها إلاّ ما ذكره المسعودي في كتابه ، فلا سبيل للتحامل عليه بما تهوى النفوس.

ثمّ إنّ الخبر المذكور أقصى مناقشته الأفغاني له ، إنّه يرى في موقف عائشة انقلاباً فجائياً من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار ـ كما يقول ـ ويبدو أن الأفغاني أمرؤ نسيّ ، ألم يمرّ عنده في كتابه ( ص68 ) موقف مشابه لهذا الموقف ، حيث تبدلت عائشة بمنتهى الخفة والسرعة الخاطفة ، فمن أقصى اليمين إلى أقصى اليسار ، ولا بأس بأن ننقل للقارئ ما كتبه بنفسه وبلفظه في كتابه قال : « فلمّا قضت عمرتها خرجت متوجهة نحو المدينة ، فلمّا انتهت إلى ( سَرٍف ) لقيها رجل من أخوالها من بني ليث ، وكانت السيدة واصلة لهم رقيقة عليهم يقال له عبيد بن أبي سلمة ويعرف بأمه أم كلاب ، قادماً من المدينة ، فقالت ( مهيم ) فأصمّ ودمدم(1) فقالت : ويحك علينا أم لنا؟ فقال : لا ندري ، قتل عثمان وبقوا

____________________

(1) المصدر السابق ـ الطبري ـ 3 / 468 مهيم كلمة استفهام من معانيها : ماوراءك؟ الدمدمة : الغضب.

٢٤٧

ثمانيةً ، فاستعجلت قائلة : ثمّ صنعوا ماذا؟ قال : أخذوا أهل المدينة بالاجتماع على عليّ ، فجازت بهم الأمور إلى خير مجاز. فقالت : ليت أن هذه انطبقت على هذه إن تمّ الأمر لصاحبك! ثمّ قالت : ردوني ردوني. قتل والله عثمان مظلوماً ، والله لأطلبنّ بدمه. فقال لها ابن أم كلاب : ولم؟ فوالله إنّ أوّل من أمال حرفه لأنتِ ، ولقد كنتِ تقولين : اقتلوا نعثلاً فقد كفر(1) ، قالت : انّهم استتابوه ثمّ قتلوه ، وقد قلت وقالوا ، وقولي الأخير خير من قولي الأوّل. فقال لها ابن أم كلاب :

فمنك البداء ومنك الغير

ومنكِ الرياح ومنك المطر

وأنت أمرت بقتل الإمام

وقلت لنا : إنه قد كفر

فهبنا(2) أطعناك في قتله

وقاتله عندنا من أمر

ولم يسقط السقف من فوقنا

ولم ينكسف شمسنا والقمر

وقد بايع الناس ذا تدراءِ

يزيل الشبا ويقيم الصعر(3)

ويلبس للحرب أثوابها

وما من وفى مثل من غدر(4)

وانصرفت السيدة راجعة إلى مكة وهي لا تقول شيئاً ولا يخرج منها شيء(5) »(6) . هذا ما كتبه.

____________________

(1) مرّ بك دحض هذه الفرية عن السيدة / 44.

(2) هناك رواية ثانية فيها : ( ونحن ) مكان ( فهبنا ).

(3) رجل ذو تُدرَاءٍ : مدافع ذو عز ومنعة ـ الشبا : العلو ، الحد ـ الصعر : إمالة الخد عن النظر إلى الناس تهاوناً وكبراً.

(4) يقع في خلدي أنّ هذه الأبيات مصنوعة لنصرة هوىً سياسي فزيدت في هذا الخبر.

(5) جمعنا بين روايتين للطبري 3 / 468 / 477 ، ويزيد صاحب الإمامة والسياسة / 42 : أن طلحة لما لقيها بمكة وأخبرها بما جرى قائلاً : بايعوا عليّاً ثمّ أتوني فاكرهوني ولببّوني حتى بايعت. قالت : وما لعليّ يستولي على رقابنا؟ لا أدخل المدينة ولعليّ فيها سلطان.

(6) عائشة والسياسة / 68 نفس الصفحة السابقة.

( تنبيه ) الهوامش المذكورة فيما نقلنا عنه كلها للأفغاني ذكرها في كتابه.

٢٤٨

أليس في موقفها بسرِف؟ وفي حديثها مع ابن أم كلاب تبدّل مفاجيء وبالسرعة الخاطفة ، فمن نقد لعثمان والدعوة لقتله إلى المطالبة بدمه؟ هذا ما ذكره الأفغاني ملفقاً له من روايتين عند الطبري كلاهما من أخبار سيف.

ثمّ لنرجع البصر الحديد من جديد إلى ما مرّ منه من استبعاد أن يصدر ذلك من ابن عباس مع امرأة مهزومة ثمّ تأكيده عدم تصديق ذلك لما سيمرّ به ـ فيما يقول ـ من معاملة عليّ ونبله لعائشة ومخالفيه ، ممّا يجعل المنصفين يضربون بكثير من روايات ابن أبي الحديد أو صنّاع بعض أخباره ممّا يرويه الصديق الجاهل عرض الحائط. فهل لنا أن نسأله ولنفترضه هو العدو العاقل كيف لنا أن نضرب بجميع ـ أو بكثير على الأصح ـ ممّا رواه أنصار عائشة من مواقفها المتشنجة مع أهل البيت بدءاً من سيدهم عليّ ومروراً بابنائه الحسنين وانتهاءً بالهاشميين؟

مواقف عائشة المتشنجة مع أهل البيت :

ولعل الأفغاني غافل أو جاهل ، أو يتعامى عن ملاحظة ما في تلك المواقف ، الّتي تؤكد صحة مفردات المحاورة الّتي دارت بين ابن عباس وبين عائشة.

وإلى القارئ بعض تلك المواقف :

1 ـ فمع عليّ :

وقد ذكرها هو في كتابه فقال : « الفصل الأوّل في طبيعة علائقهما ـ يعني عليّاً وعائشة ـ الماضية ـ ثمّ ساق أموراً جنح فيها إلى جانب عائشة حسبنا ما ذكره فقال ـ :

٢٤٩

5 ـ إشارات عارضة استخرجتها من مواطنها لأنّه ـ كذا والصواب لأنّها ـ عظيمة الدلالة على رأيها في عليّ وعاطفتها نحوه ، أوردها تباعاً قبل الشروع في الكلام على مقدمات حرب الجمل ، إذ أنها ستكون المفتاح لما بعدها ، والمصباح ينير طريق الباحث فيما يستقبل من أحداث :

أمّا الأولى فقد رواها عطاء بن يسار قال جاء رجل فوقع في عليّ وفي عمّار ( رضي الله عنهما ) عند عائشة فقالت : « أمّا عليّ فلست قائلة لك فيه شيئاً ، وأمّا عمّار فإني سمعت رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) يقول : لا يخيّر بين أمرين إلاّ اختار أرشدهما »(1) .

وأمّا الثانية فلهجتها في نفي الوصاية : « سئلت : أكان رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) أوصى إلى عليّ؟ فقالت : لقد كان رأسه في حجري فدعا بالطست فبال فيها ، فلقد انخنث ( انعطف ) في حجري وما شعرت به ، فمتى أوصى إلى عليّ؟ »(2) .

وأمّا الثالثة وفيها البلاغ ولقد نبّه إليها داهية بني هاشم عبد الله بن عباس فإليك حديثها عن الطبري : « روي عن عائشة أنّها قالت : لمّا أشتد بالرسول وجعه دعا نساءه فاستأذنهنّ أن يمرّض في بيتي ، فأذنّ له ، فخرج رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) بين رجلين من أهله أحدهما الفضل بن العباس ورجل آخر ، تخط قدماء الأرض عاصباً رأسه حتى دخل بيتي.

قال راوي الحديث : فحدثت بهذا الحديث عنها عبد الله بن عباس فقال : هل تدري من الرجل الآخر؟ قلت : لا ، قال : عليّ بن أبي طالب ، ولكنها لا تقدر على أن تذكره بخير وهي تستطيع »(3) .

____________________

(1) مسند أحمد 6 / 113.

(2) طبقات ابن سعد 8 / 49 ، والإصابة / 94.

(3) تاريخ الطبري 2 / 433 ـ لكن ابن عبد ربه روى عن السيدة تقريظاً لعليّ موفياً على الغاية في الثناء ، قالت وقد ذكر يوماً عندها : ( ( ما رأيت رجلاً أحبّ إلى رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) منه ، ولا إمرأة كانت أحب إليه من امرأته ) ) ( تريد السيدة فاطمة ) العقد الفريد 3 / 94.

٢٥٠

وحتى بعد انقضاء حرب الجمل وانتهاء الأمر بينهما على خير وتبادل ثناء (؟؟!) لم يزل ما في نفسها نحوه ، فقد ذكروا أنه لما انتهى إلى عائشة قتل عليّ قالت متمثلة :

فألقت عصاها واستقر بها النوى

كما قرّ عيناً بالإياب المسافر

فمن قتله؟ فقيل رجل من مراد فقالت :

فإن يك نائياً فلقد نعاه

غلام ليس في فيه التراب

فذكروا أنّ زينب بنت أبي سلمة كانت حاضرة فقالت : « ألعليّ تقولين؟ فقالت : إنّي أنسى فإذا نسيت فذكّروني »(1) .

قال الأفغاني : وأنا أجد هذا الخبر مفصحاً عن طويّتها نحو عليّ خير إفصاح ، وشارحاً ما قدمت لك من إنها تخضع من حيث لا تريد لتوجيه عاطفتها ( اللاشعورية ) ، ولست أشك أنّها كانت حينئذ شاردة ، وأن عقلها الباطن هو الّذي تمثل بهذين البيتين قبل أن تنبّه إلى ما فيهما من بُعد عن الجميل »(2) .

أقول : ولقد فاته ما هو أصرح دلالة على ما تكنّه عائشة من شنآن لعليّ ، ولعله أعرض عنه عمداً ، ومهما يكن فالخبر رواه ابن سعد في الطبقات بسنده عن

____________________

(1) تاريخ الطبري الطبري 4 / 115.

(2) عائشة والسياسة / 61.

هذا ما اردنا نقله عن الأفغاني متناً وهامشاً ، ولئن اقتصر في تخريجه الأخير على الطبري فانا نضيف إليه طبقات ابن سعد 3 ق1 / 27 ، ومقاتل الطالبين / 42 وفيه انها تمثلت بعد هذا :

ما زال أهـداء الـقصـائـد بـينـنا

باسم الصديق وكثرة الالقـاب

حتى تركت وكأن قولك فيهم

فـي كـل مـجـتمع طـنين ذباب

مضافاً الي الموفقيات للزبير بن بكار / 131 ، وأنساب الأشراف للبلاذري ترجمة الإمام تح ـ المحمودي / 505 ، وكامل ابن الأثير / 157.

٢٥١

أبي غطفان قال : « سألت ابن عباس أرأيت رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) توفي ورأسه في حجر أحد؟ قال : توفي وهو مستند إلى صدر عليّ ، قلت : فإنّ عروة حدّثني عن عائشة أنّها قالت : توفي رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) بين سحري ونحري فقال ابن عباس : أتعقل والله لتوفّي رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وإنّه لمستند إلى صدر عليّ ، وهو الّذي غسّله وأخي الفضل بن عباس وأبى أبي أن يحضر وقال : انّ رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) كان يأمرنا أن نستتر فكان عند الستر »(1) . فهذا بعض حالها في البغض والشنآن والإحن والاضغان.

وقد جاوز الحزام الطبيين ـ كما في المثل ـ حين قالت : « والله لوددت أني لم أذكر عثمان بكلمة قط وإني عشت في الدنيا برصاء سالخ ، ولأصبع عثمان الّذي يشير بها إلى السماء خير من طلاع الأرض من عليّ »(2) .

قال ابن أبي الحديد في شرح النهج : « على أنّ أمير المؤمنين ( عليه السلام ) أكرمها وصانها وعظم من شأنها ولو كانت فعلت بعمر ما فعلت به ، وشقت عصا الأمة عليه ثمّ ظفر بها لقتلها ومزّقها إربا أربا ، ولكن عليّاً كان حليماً كريماً »(3) .

2 ـ ومع الحسنين :

قال الأفغاني : « ولعل آخر تعبير عن موقفها السلبي من عليّ بن أبي طالب ، انقباضها عن ولديه الحسن والحسين ، فلقد كانت تحتجب منهما وهما لها من المحارم : انّهما سبطا زوجها لا تحل لهما ولا يحلان لها ، ومن المعروف بداهة أنّه ( لا تحل امرأة الرجل لولده ولا لولد ولده ولا لأولاد بناتهم )(4) .

____________________

(1) طبقات ابن سعد 2 ق 2 / 51.

(2) نعيم بن حماد ـ الفتن تح ـ أبو عبد الله محمّد محمّد عرفة / 80 برقم 208 انتشارات المكتبة الحيدرية.

(3) شرح النهج لابن أبي الحديد 17 / 254.

(4) طبقات ابن سعد 8 / 50.

٢٥٢

وهي تعرف ذلك حق المرأة ، لكنها ـ على ذلك ـ حجبتهما ولم تكن تأذن لهما إلاّ من وراء حجاب ، مبالغة في مباعدتهما »(1) .

ولقد علّق على هذا الحادث ابن عباس بقوله : « إنّ دخولهما عليها لحلّ »(2) .

أقول : ولعلماء التبرير في هذا مداخلة تضليل!

فقد روى ابن سعد في طبقاته قال : « أخبرنا سفيان بن عيينة عن عمرو عن أبي جعفر محمّد بن عليّ قال : كان الحسن والحسين لا يريان أمهات المؤمنين فقال ابن عباس : إنّ رؤيتهن لهما لحلال »(3) ( لأنهنّ زوجات جدهما رسول الله صلّى الله عليه ( وآله ) وسلّم )(4)

فيا هل ترى يصح ذلك؟ أو ليس هو نحو تحوير وتدجيل لما مرّ من منع عائشة وقول ابن عباس في ذلك.

ولكن من يقرأ سيرتها مع عليّ وآل عليّ ليدرك مدى انقباضها منهم ، وليس منعها دفن الحسن عند جده إلاّ بعض ذلك وإن ناقش الأفغاني في ذلك ولكن سيأتي تحقيقه في مورده.

وحسبنا شهادة ابن أخيها القاسم بن محمّد بن أبي بكر ـ وهو أحد فقهاء المدينة السبعة ـ قال : « كانت أم المؤمنين إذا تعودت خُلُقاً لم تحب أن تدعه »(5) . فهي قد تعوّدت أنقباضها من بني هاشم ولم تكتم بغضها لهم حتى البلد الّذي هم فيه تبغضه كما مرّ في المحاورة.

____________________

(1) عائشة والسياسة / 218.

(2) انظر طبقات ابن سعد 8 / 50 و 128.

(3) طبقات ابن سعد 1 / 279 تح ـ محمّد بن صايل السلمي.

(4) نفس المصدر 8 / 50 و 128.

(5) نفس المصدر 8 / 50.

٢٥٣

3 ـ ثمّ مع ابن عباس :

« إنّ في استعراض مواقفها المتشنجة مع ابن عباس ـ نجدها من قبل حرب الجمل كما نجدها عند الحرب وبعد الحرب ، ثمّ لم تقف عند ذلك الحد بل استمرت كذلك حتى وهي في النزع الأخير تلفظ أنفاسها لتفد على ربّها بما كسبت ، كما أنّ ابن عباس لم يكن يكنّ لها البغضاء ، بقدر ما كان شديداً في الحقّ عليها ومعها ، ولئن أعوزتنا الشواهد على ذلك في عهد الرسالة ، فإنها لن تعوزنا من خلال أحاديثه الّتي سمعها من النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ). وفيها إدانة لعائشة مثل خبر الحوأب الّذي مرّت الإشارة إليه ، ولا عبرة بإنكار الأفغاني رواية أبن عباس له ، بحجة واهية حيث قال : والثاني أن سند الذهبي في هذا الحديث ينتهي في احدى روايتيه ـ إلى ابن عباس. وابن عباس على عدالته ـ ممّن خبّ وأوضع في الحزبية السياسية ، فهو أكبر أنصار عليّ وألد خصوم عائشة في خلافها عليه ، فلعل هذا جعله ـ إن صحت نسبة الحديث إليه ـ يتسامح ويغض عمّا فيه لتأييد مذهبه السياسي؟ وإلاّ فإنّي اسأل : هل كان ابن عباس حاضراً قول النبيّ هذا وهو بين نسائه؟؟ إنّي ـ استناداً إلى سكوت الرواية عن ذلك من جهة ، وإلى ضرورة التصريح بذلك هنا من جهة ثانية ـ اقطع بالنفي ، وإنّ على المثبت أن يأتي بدليل ينص على أن ابن عباس كان حاضراً مجلس النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) مع نسائه!! ولا يغني ـ هنا خاصة ـ قولهم : « إن مراسيل الصحابة يحتج بها » لأنّ وجود ابن عباس هنا مع النساء في حديث خاص بهنّ ، غير مألوف ، فيحتاج إثباته إلى النص الصريح. هذا ولم أذكر ما في ذوقي الخاص لقاء هاتين السجعتين في رواية الزمخشري : ( ليت شعري أيتكن صاحبة الجمل الأدبب ، تسير حتى تنبحها كلاب الحوأب ) من بُعد عن البلاغة النبوية عند من أكثر إلفه لها.

٢٥٤

ولست أدري لم لا يطبّق أولئك الأفاضل قواعد المحدثين على المتن والسند معاً؟ ومهما يكن فقد بينت للقارئ ـ فيما تقدم ـ ماحداني على الشك وفيه بلاغ »(1) .

أقول : إنّ الأفغاني حاول جاهداً تكذيب الحديث برواية ابن عباس وعمدة حجته بأنّه ـ لو صح ـ فهو حديث بين نسائه ويقطع بنفي حضور ابن عباس ذلك المجلس ، ولعل الأفغاني لم يدرك علاقة ابن عباس بالرسول سوى القرابة والتقريب منه ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) له ، أنه كان يحضر معه في بعض بيوت أزواجه ويبيت عنده كما بات في بيت خالته ميمونة وقد مرّ في الجزء الأوّل شواهد ذلك فراجع ، وجاء في مسند أحمد عن عكرمة عن ابن عباس قال : « صليت إلى جنب النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وعائشة خلفنا تصلي معنا وأنا إلى جنب النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) أصلي معه »(2) .

وأمّا تكذيبه الحديث مطلقاً فقد كفانا في الرد عليه ابن بلده ناصر الدين الألباني(3) .

إنّ ابن عباس كان يتتبع جمع المعلومات الّتي فيها إدانة لعائشة ، فهل يشك الأفغاني في حديثه الّذي أخرجه البخاري في سؤاله من عمر عن المرأتين اللتين تظاهرا عليه فقال له : هما عائشة وحفصة ، وقد ذكرنا ذلك الموقف وما فيه في الجزء الثاني ، فراجع.

ولا شك أنّ عائشة كانت تبدر منها فلتات مناوئة لأهل البيت ومخالفة للحقائق ويتناقلها بعض السامعون إمّا لشكّه في صحتها أو لغرض آخر فيأتي ابن عباس فيسأله عنها فيصحح لهم المعلومة ، وقد مرّ بنا حديث أبي غطفان عن وفاة رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وأنّه سمع عروة يحدّث عن خالته عائشة أنّها تقول :

____________________

(1) عائشة والسياسة / 89 ـ 90.

(2) مسند أحمد 1 / 302 ط مؤسسة قرطبة بمصر.

(3) راجع كتاب سلسلة الأحاديث الصحيحة المجلد الأوّل / 767 ـ 777 وفي 772 تجد رد الألباني على الأفغاني في عدة مؤاخذات حرية بالمراجعة.

٢٥٥

مات بين سحري ونحري ، فقال له ابن عباس : أتعقل؟ وهي لهجة استفزاز وتنبيه على عظم الخطأ في المعلومة المتلقاة من عائشة ، ثمّ أتبع ذلك بالقسَمَ مؤكداً صحة ما لديه في ذلك ، وقد مرّ الحديث قريباً في مواقفها المتشنجة مع عليّ ، فراجع.

كما لاشك أنّ الحال تزايدت توتّراً مع تمادي الإيام ، وبلغت حد المكاشفة منذ يوم الصلصل ، وتفاقم الخطب في حرب الجمل ، وتفجّر البركان حتى كاد يبلغ حد الاقتتال بين مجموعتين من غلمان كلّ منهما حتى رَكبت عائشة على بغلة وخرجت فلقيها ابن أبي عتيق حفيد أخيها عبد الرحمن فقال لها : يا أمي جعلت فداك أين تريدين؟ قالت : بلغني أن غلماني وغلمان ابن عباس اقتتلوا فركبت لأصلح بينهم ، فقال : أعتق ما أملك ان لم ترجعي ، فقالت : ما حملك على هذا؟ قال : ما انتهى يوم الجمل حتى تأتينا بيوم البغلة. ( وفي رواية الجاحظ عن الشرقي بن القطامي قال : عزمت عليك إلاّ ما رجعت فما غسلنا أيدينا من يوم الجمل حتى نرجع إلى يوم البغلة )(1) .

____________________

(1) أنظر عائشة والسياسة / 247 نقلاً عن المراح في المزاح / 38 ، وانظر جمع الجواهر في الملح والنوادر / 4 ط عيسى البابي سنة 1372 تح ـ البيجاوي.

ذكر اليعقوبي في تاريخه 2 / 200 في وفاة الحسن بن علي : أن عائشة ركبت بغلة شهباء وقالت : بيتي لا آذن فيه لأحد ، فأتاها القاسم بن محمد بن أبي بكر فقال لها : يا عمّة ما غسلنا رؤوسنا من يوم الجمل الأحمر أتريدين أن يقال يوم البغلة الشهباء أهـ. وفي ذلك يقول القائل :

عائش ما نقـول في قتـالك

سلكت في مسالك الـمـهالـك

وحسبـك ما أخـرج البخاري

مـنالـصـحـيـحمـومـئـاً للـدار

قد قيل تبـت وعليّ غمضّا

فلم سجدت الشكر لما قبضا

وقد ركبت البغل في يوم الحسن

تـؤجّـجـيـن نـار هـاتـيك الفتن

٢٥٦

فبعد هذا كلّه لابدّ لنا من استذكار جميع تلك المواقف الّتي يستبين فيها ابن عباس بمنتهى اللين والتسامح مع البيان الهاديء الواضح ، بينما نرى من عائشة التجهم ونرى عندها انقباضا ونفوراً.

ربما تعداهما فكان تشنّجاً أظهر الشحناء منها علانية ، والآن فلنمرّ على تلك المواقف مرور الكرام لنعرف مَن كان منهما يريد الوئام والسلام ، ومن كان يريد الخصام ولو بحدّ الحسام. ومن هو أهدى سبيلاً؟

والمواقف هي كما يلي :

1 ـ موقف يوم الصلصل ، وقد ضمهما المكان ، فهي خرجت من المدينة إلى مكة مغاضبة لعثمان ومحرّضة عليه ، وابن عباس خرج أميراً على الموسم ليقيم للناس حجّهم ، فقالت له : « يا بن عباس أنشدك الله ـ فإنك قد أعطيت لساناً ازعيلا(1) ان تخذل عن هذا الرجل ، وأن تشكك فيه الناس فقد بانت لهم بصائرهم ، وأنهجت(2) ورفعت لهم المنار ، وتحلّبوا من البلدان لأمر قد حُمّ وقد رأيت طلحة بن عبيد الله قد اتخذ على بيوت الأموال والخزائن مفاتيح ، فإن يل يسر بسيرة ابن عمه أبي بكر.

فقال لها ابن عباس : يا أمه لو حدث بالرجل حَدَثٌ ما فزع الناس إلاّ إلى صاحبنا.

فقالت : أيهاً عنك إنّي لست اُريد مكابرتك ولا مجادلتك »(3) .

____________________

(1) الأزعيل : الذلق.

(2) أنهج الطريق : وضُح وبان.

(3) تاريخ الطبري 4 / 407 ط دار المعارف ، وانظر الفتوح لابن اعثم 2 / 226 ، وكتاب الجمل للشيخ المفيد / 61 تجد ذلك بتفاوت راجع الجزء الثاني من كتابنا هذا تجد الروايات كلها مذكورة.

٢٥٧

2 ـ موقف ثاني وهو قبل الحرب بالبصرة وقد أتاها هو وزيد بن صوحان أرسلهما الإمام إليها ، وقد مرّ ذكره في أوّل سفارات ابن عباس لحقن الدماء. فراجع تجد الرسالة المليئة بالعطف واللطف والنصيحة ، كما تجد الجواب المهزوز حين تقول لهما : « ما أنا برادّة عليكم شيئاً ، فإنّي أعلم أنّي لا طاقة لي بحجج عليّ ابن أبي طالب.

فقال لها ابن عباس : لا طاقة لكِ بحجج المخلوق فكيف طاقتكِ بحجج الخالق ».

3 ـ موقف آخر ثالث قبل الحرب وقد أتاها رسولاً من قبل الإمام بعد أن اجتمع بطلحة فلم يجد عنده خيراً. وكان معه كتاب من الإمام إليها ينصحها فيه ويخوّفها مغبّة العاقبة. وقد مرّ ذكر ذلك مفصلاً في السفارة الثانية فراجع تجد ابن عباس يبلّغها الرسالة ويقرأ عليها الكتاب ، وإذا به يسمع منها الغلظة والفظاظة : « يا ابن عباس ابن عمك يرى انّه قد تملّك البلاد ، لا والله ما بيده منها شيء إلاّ وبيدنا أكثر منه.

فقال لها ابن عباس : يا أمّاه إن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) له فضل وسابقة في الإسلام ، وعظم عناء.

قالت : ألا تذكر طلحة وعناه يوم أحد؟

فقال لها : والله ما نعلم أحداً أعظم عناءً من عليّ ( عليه السلام ).

قالت : أنت تقول هذا ومع عليّ أشباه كثيرة.

قال لها : الله الله في دماء المسلمين.

قالت : وأي دم يكون للمسلمين إلاّ أن يكون عليّ يقتل نفسه ومن معه.

قال ابن عباس : فتبسّمت ، فقالت : ممّا تضحك يا بن عباس؟

٢٥٨

فقال : والله معه قوم على بصيرة من أمرهم يبذلون مهجهم دونه.

قالت : حسبنا الله ونعم الوكيل ».

4 ـ موقف آخر رابع دخل عليها فذكّرها بحديث يوم الصلصل وأنّها السبب في قتل عثمان محذّراً لها سوء العواقب ، فقالت له : « ذاك المنطق الّذي تكلمت به يومئذ هو الّذي أخرجني ، لم أر لي توبة إلاّ الطلب بدم عثمان ورأيت أنّه قتل مظلوماً.

فقال لها ابن عباس : أنت قتلتيه بلسانكِ ، فأين تخرجين ، توبي وأنتِ في بيتكِ ، أو أرضي ولاة دم عثمان وولده.

قالت : دعنا من جدالك فلسنا من الباطل في شيء ».

5 ـ وموقف خامس أتاها وهي في الهودج وهو يحمل مصحفاً يدعوها ويدعوهم إلى ما فيه ، فردّته وقالت : « والله لا سمعت منك شيئاً ، ارجع إلى صاحبك فقل له ما بيننا وبينك إلاّ السيف. وصاح من حولها : ارجع يا بن عباس لا يسفك دمك ».

هذه هي المواقف الّتي سبقت المحاورة ، وقد رأينا لغة العطف واللطف في كلام ابن عباس ، وقرأنا لغة الشدة والعنف في كلام عائشة. فبعد هذا العَرض هل يستنكر من ابن عباس لو يرد على عائشة بنفس اللهجة الحادّة ، ولم لا؟ وها هي تستفزّه بكلماتها النابية ، وقد طفح كيلها ، فأبدت كامن صدرها يفيض حقداً وبغضاً. فلا لوم على ابن عباس إذا ما ردّ الحجر من مأتاه ، وأسكت النامّة وقد حلّت بسببها الطامة بالعامة.

٢٥٩

وإلى هنا فلنترك الأفغاني ونبعده قصياً ، بعد أن قرأناه نَسِيّاً وفَرِيّاً. ولنبصّر القارئ الآن بأن ابن عباس وعائشة عاشا بعد حرب الجمل متهاجرَيْن تقريباً ، وبقيا على حالهما كذلك ، حتى ماتت عائشة ، ولعله اشتدت المهاجرة والمخاصمة في عهد معاوية حين تناصرت هي وإياه على عداوة أهل البيت. وكان ابن عباس رجل الساحة المناصر لأهل البيت ، كما يظهر بوضوح من مواقفه مع الأمويين وشيعتهم. كما كانت عائشة تدعمهم فيما ترويه لهم من أحاديث ، والشواهد على ذلك متوفرة ، سيأتي بعضها في الحلقة الثالثة : تاريخه العلمي ( في الفقه والحديث والتفسير ) إن شاء الله تعالى فنعجّل منها واحداً :

أخرج الحافظ الكنجي الشافعي في كفاية الطالب وعنه الاربلي في كشف الغمة قال : « روى الكنجي بسنده المنتهى إلى أبي صالح قال ذكر عليّ بن أبي طالب ( عليه السلام ) عند عائشة وأبن عباس حاضر ، فقالت عائشة : كان من أكرم رجالنا على رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) فقال ابن عباس : وأي شيء يمنعه عن ذاك؟ اصطفاه الله لنصرة رسوله ، وارتضاه رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) لأخوّته ، واختاره لكريمته ، وجعله أبا ذريته ووصيّه من بعده ، فإن ابتغيتِ شرفاً فهو في أكرم منبت وأورق عود ، وإن اردتِ إسلاماً فأوفر بحظه وأجزل بنصيبه ، وإن أردتِ شجاعته فبهمة حرب وقاضية حتم ، يصافح السيوف أنساً ، لا يجد لوقعها حسّاً ، ولا ينهنه نعنعة ، ولا تقله الجموع ، الله ينجده ، وجبرئيل يرفده ، ودعوة الرسول تعضده ، أحدّ الناس لساناً ، وأظهرهم بياناً ، وأصدعهم بالصواب في أسرع جواب ، عظته أقلّ من عمله ، وعمله يعجز عنه أهل دهره ، فعليه رضوان الله ، وعلى مبغضيه لعائن الله »(1) .

____________________

(1) كشف الغمة 1 / 363 ، كما في البحار 40 / 51 ط الجديدة.

٢٦٠