موسوعة عبد الله بن عبّاس الجزء ٣

موسوعة عبد الله بن عبّاس0%

موسوعة عبد الله بن عبّاس مؤلف:
تصنيف: متون حديثية
الصفحات: 285

موسوعة عبد الله بن عبّاس

مؤلف: السيد حسن الموسوي الخرسان
تصنيف:

الصفحات: 285
المشاهدات: 49780
تحميل: 4057


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 285 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 49780 / تحميل: 4057
الحجم الحجم الحجم
موسوعة عبد الله بن عبّاس

موسوعة عبد الله بن عبّاس الجزء 3

مؤلف:
العربية

وقد بايع عليّ ثاني الخلفاء كما بايع أولهم كراهية الفتنة وإيثاراً للعافية ونصحاً للمسلمين وإنّما صبّر نفسه على مكروهها ونصح لعمر كما نصح لأبي بكر. فلمّا طعن عمر وجعل الخلافة في هؤلاء الستة من أصحاب الشورى لم يشك عليّ في أنّ قريشاً لا ترى رأيه ، ولا تؤمن له بحقه ، ورأى ألا يستكره الناس على ما لا يريدون ، ولو قد أراد أن يستكرههم لما وجد إلى ذلك سبيلاً ، فلم تكن له فئة ينصرونه ولم يكن يأوي إلى ركن شديد ، وإنّما كان نفر يسير من خيار المسلمين يرون رأيه ومن هؤلاء الناس عمّار بن ياسر والمقداد بن الأسود. وقد بايع عليّ عثمان كما بايع الشيخين وهو يرى أنه مغلوب على حقه ، ولم يقصّر في النصح للخليفة الثالث كما لم يقصّر في النصح للشيخين من قبله

فكان طبيعياً إذا حين قتل عثمان أن يفكّر عليّ في نفسه وفيم غُلبَ عليه من حقه. ولكن مع ذلك لم يطلب الخلافة ولم ينصب نفسه للبيعة إلاّ حين استكره على ذلك إستكراهاً ، وحين هدّده بعض الذين ثاروا بعثمان بأن يبدؤا به فيلحقوه بصاحبه المقتول. وحين فزع إليه المهاجرون والأنصار من أهل المدينة يُلحّون عليه في أن يتولّى أمور المسلمين ليخرجهم من هذه الفتنة المظلمة ، ثمّ هو حين قبل البيعة لم يُكره عليها أحداً من أصحاب النبيّ ، وإنّما قبل البيعة ممّن بايَعه وترك من لم يُرد أن يبايعه ، ترك سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر وأسامة ابن زيد ، وترك جماعة من الأنصار على رأسهم محمّد بن مسلمة ، ولم يستثن إلاّ هذين الرجلين : طلحة والزبير ، خاف منهما الفتنة لموقفهما من عثمان والثائرين به ، فرضي أن يستكرههما على البيعة فيما يقول أكثر المؤرخين ، وأكاد أعتقد أنا أنّهما لم يستكرهما كما زعما وكما زعم كثير من الرواة ، وإنّما أقبلا على البيعة راضيَين ثمّ بدا لهما بعد ذلك حين رأيا من الخليفة ما لم يكونا ينتظران ، كانا

٢١

يقدّران في أكبر الظن أن عليّاً محتاج إليهما أشدّ الاحتياج لأحدهما قوة في الكوفة ، ولأحدهما الآخر قوة في البصرة ، وقد شارك أهل الكوفة وأهل البصرة في الثورة مشاركة خطيرة ، وكان الناس يظنون أنهم إنما شاركوا في هذه الثورة عن تحريض ، أو على أقلّ تقدير عن رضى من طلحة والزبير اهـ »(1) .

ولم يكن طه حسين الوحيد في رأيه ذلك حول مبايعة الناس لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، بل كثيرٌ من كتّاب العصر يرون ذلك وهم تبعٌ لروايات المؤرخين. وإن تعرّضت لتزييف بعض الحقائق كمسألة استكراه طلحة والزبير على البيعة ، ولكن الحقّ لم يكن شيء من الإكراه لأيّ إنسان في مبايعة الإمام ، وإن ذكر طه حسين أسماء بعضهم فإنّي أذكر له آخرين أغفل ذكرهم. ولا يزيد ذكرهم سوى سلامة البيعة من الإكراه والوعيد.

قال الطبري في تاريخه في حديث عن سعد بن أبي وقاص قال : « قال طلحة : بايعت والسيف فوق رأسي فقال سعد : لا أدري والسيف على رأسه أم لا ، إلاّ أنّي أعلم أنّه بايع كارهاً ، قال : وبايع الناس عليّاً بالمدينة وتربّص سبعة نفر فلم يبايعوه منهم : سعد بن أبي وقاص ، ومنهم ابن عمر ، وصهيب وزيد بن ثابت ، ومحمّد بن مسلمة ، وسلمة بن وقش ، وأسامة بن زيد ، ولم يتخلّف أحد من الأنصار إلاّ بايع فيما نعلم »(2) .

وروى الطبري أيضاً عن محمّد بن الحنفية في حديث البيعة فقال : « وبايعت الأنصار عليّاً إلاّ نُفَيراً يسيراً ، فقال طلحة : ما لنا من هذا الأمر إلاّ كحسّة الكلب أنفه »(3) .

____________________

(1) عليّ وبنوه / 21 ط دار المعارف.

(2) تاريخ الطبري 4 / 431.

(3) نفس المصدر 4 / 429.

٢٢

وفي حديث عبد الله بن الحسن وردت تسمية أولئك النُفير اليسير فقال : « منهم حسّان بن ثابت ، وكعب بن مالك ومسلمة بن مخلد ، وأبو سعيد الخُدري ، ومحمّد بن مسلمة ، والنعمان بن بشير ، وزيد بن ثابت ، ورافع بن خديج وفضالة ابن عبيد ، وكعب بن عجرة ، كانوا عثمانية.

فقال له رجل : كيف أبى هؤلاء بيعة عليّ؟ وكانوا عثمانية ، قال : أمّا حسان فكان شاعراً لا يبالي ما يصنع ، وأمّا زيد بن ثابت فولاه عثمان الديوان وبيت المال ، فلمّا حصر عثمان قال : يا معشر الأنصار كونوا أنصاراً لله مرتين ، فقال أبو أيوب : ما تنصره إلاّ أنه اكثر لك من العضدان(1) فأما كعب بن مالك فاستعمله على صدقة مزينة وترك ما أخذ منهم له »(2) .

وفي حديث الزهري عنه الطبري أيضاً قال : « هرب قوم من المدينة إلى الشام ولم يبايعوا عليّاً ، ولم يبايعه قدامة بن مظعون ، وعبد الله بن سلام ، والمغيرة ابن شعبة »(3) .

فهذه أسماء المتخلّفين عن مبايعة الإمام ولم يذكر أنّه أكره أحداً منهم على بيعته. وكيف يستكره أحداً وهو يريدها بيعة صحيحة شرعية ، لذلك ردّ الثوار الذين أتوه أوّل مرة ، وردّهم وغيرهم مراراً حتى قالوا كان يلوذ بحيطان المدينة ، فإذا لقوه باعدهم وتبرأ منهم ، ويدخل داره ويغلق عليه بابه.

يقول محمّد بن الحنفية في حديثه : « فأتاه أصحاب رسول الله صلّى الله عليه ( وآله ) سلّم فقالوا : إنّ هذا الرجل قد قُتل ، ولابدّ للناس من إمام ، ولا نجد

____________________

(1) العضدان : جمع عضد ، وهي النخلة لها جذع يتناول منه المناول.

(2) تاريخ الطبري 4 / 429 ـ 430 ط دار المعارف.

(3) نفس المصدر 4 / 430.

٢٣

اليوم أحداً أحق بهذا الأمر منك ، لا أقدَم سابقة ، ولا أقربَ من رسول الله صلّى الله عليه ( وآله ) وسلّم.

فقال : لا تفعلوا ، فإني أكون وزيراً خير من أن أكون أميراً ، فقالوا : لا والله ما نحن بفاعلين حتى نبايعك قال : ففي المسجد ، فإن بيعتي لا تكون خفياً ، ولا تكون إلاّ عن رضا المسلمين.

قال سالم بن أبي الجعد ـ الراوي حديث ابن الحنفية ـ فقال عبد الله بن عباس : فلقد كرهت أن يأتي المسجد مخافة أن يُشغّب عليه ، وأبى هو إلاّ المسجد ، فلمّا دخل دخل المهاجرون والأنصار فبايعوه ثمّ بايعه الناس »(1) .

وفي رواية أبي مخنف عن ابن عباس قال : « لمّا دخل عليّ ( عليه السلام ) المسجد وجاء الناس ليبايعوه خفت أن يتكلّم بعض أهل الشنآن لعليّ ( عليه السلام ) ممّن قتل أباه أو أخاه أو ذا قرابة في حياة رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) فيزهد عليّ في الأمر ويتركه ، فكنت أرصد ذلك وأتخوّفه ، فلم يتكلم احد حتى بايعه الناس كلهم راضين مسلّمين غير مكرَهين »(2) .

قال سيديو المستشرق الفرنسي في كتابه ( تاريخ العرب العام ) : « فلم يعارض أحد في اختياره للخلافة ، وعليّ هو من تعلم حرّية ضمير وحضور المجالس المدنية مع ميله إلى القيام بشؤون حيلته المنزلية الهادئة جمع زوج فاطمة في شخصه حقوق الوراثة وحقوق الإنتخاب ، ووجب على كلّ واحد أن ينحني أمام صاحب هذا المجد العظيم الخالص اهـ »(3) .

____________________

(1) تاريخ الطبري 4 / 427.

(2) شرح النهج لابن أبي الحديد 1 / 341.

(3) تاريخ العرب العام ترجمة عادل زعيتر / 127 ط عيسى البابي الحلبي سنة 1367 هـ.

٢٤

قال ابن حزم في جوامع السيرة : « وتأخر عن بيعته قوم من الصحابة بغير عذر شرعي إذ لا شك في إمامته »(1) .

هكذا كانت مبايعة الناس للإمام ( عليه السلام ) بيعة صحيحة شرعية من غير كره ولا إجبار ، ومن دون أي تهديد أو وعيد ، ولم يحدث في تاريخ المسلمين بيعة مثلها لا قبلُ ولا بعدُ سوى بيعة الناس لولده الإمام الحسن ( عليه السلام ) فقد كانت أيضاً عن رضا المسلمين الذين اندفعوا إليها بمجرد دعوة عبد الله بن عباس حبر الأمة الّذي قام بين يديه فدعاهم إليها فاستجابوا كما سوف يأتي الحديث عنها مفصلاً.

وقد نقل المؤرخ الهندي الثقة السيد أمير عليّ عن المؤرخ الفرنسي سيديو إنّه قال : « يخيّل للمرء حينما بويع الإمام عليّ بن أبي طالب أن الكلّ سيطأطئ هامته أمام هذه العظمة المتلألئة النقية ، غير أنه قد كان قدّر غير ذلك »(2) .

وربما خفي على سيديو ومَن على شاكلته أن يدركوا طبيعة المجتمع المدني يومئذ وما فيه من انقسامات ، وزاد الشرخ عمقاً وجود الثوار من الأمصار ، والجميع كانوا ينقمون سيرة عثمان وسيرة عمّاله ، لذلك بادر أبو الحسن ( عليه السلام ) المسلمين بخطبته الّتي تعتبر بحق البيان الخليفي الّذي يلبي طموحات المجتمع الإسلامي عدا شريحة المنتفعين بسياسة عثمان فقال في ثاني يوم بيعته : ( ألا إن كلّ قطيعة أقطعها عثمان ، وكلّ مال أعطاه من مال الله فهو مردود في بيت المال ، فان الحقّ القديم لا يبطله شيء ، ولو وجدته قد تزوّج به النساء ، وفرّق في البلدان لرددته إلى حاله ، فإن في العدل سعة ومن ضاق عنه الحقّ فالجور عنه أضيق )(3) .

____________________

(1) جوامع السيرة / 355 ط دار المعارف.

(2) مختصر تاريخ العرب / 44.

(3) راجع مصادر نهج البلاغة 1 / 295 ـ 296 ط الأعلمي بيروت سنة 1395 هـ.

٢٥

وهذه الخطبة رواها الكلبي مرفوعة عن أبي صالح عن ابن عباس ( رضي الله عنه )(1) .

قال الكلبي : « ثمّ أمر ( عليه السلام ) بكلّ سلاح وجد لعثمان في داره ممّا تقوّى به على المسلمين فقبض ، وأمر بقبض نجائب كانت في داره من إبل الصدقة فقبضت ، وأمر بقبض سيفه ودرعه. وأمر أن لا يعرض لسلاح وُجد له لم يقاتل به المسلمين ، وبالكف عن جميع أمواله الّتي وجدت في داره ، وغير داره وأمر أن ترتجع الأموال الّتي أجاز بها عثمان حيث أصيبت أو أصيب أصحابها.

فبلغ ذلك عمرو بن العاص وكان بأيلة من أرض الشام أتاها حيث وثب الناس على عثمان فنزلها ، فكتب إلى معاوية : ما كنت صانعاً فاصنع إذ اقشرك ابن أبي طالب من كلّ ما تملكه كما تقشر عن العصا لحاها »(2) .

وبهذه الخطبة وما اتخذه بعدها من إجراء حاسم ، أوضح الرؤية للمسلمين كحاكم عادل ، يلزمه إقامة الحكم على شريعة من الأمر وفق كتاب الله وسنة نبيّه ، كما أعلن قولاً وعملاً ضرب أصحاب المصالح على حساب المسلمين الذين استثمروا صلاتهم بعثمان نسباً أو سبباً ، فأثروا على حساب الأمة ، وحققوا المكاسب ممّا لم يحل كسبه وجلّ خطبه.

إذن لا محيص لهم إمّا الإستسلام وهذا ما يقشرهم قشر العصا من اللحا ـ كما قال عمرو بن العاص ـ وهذا ما لا يريدونه ، كيف يتخلَّونَ عن ممتلكات وإقطاعات وما اكتسبوه في عهد عثمان؟ وإما العناد ، إذن فليسدروا غياً في التخلف عن البيعة ، ثمّ التمرّد على الشرعية ، ثمّ العناد وتهييج العباد بالإفساد ، وهذا ما حدث حتى قامت بسببهم الحروب في البصرة ثمّ في صفين وأخيراً في النهروان ، وأزهقت نفوس لولاهم لما كانت تراق فيها الدماء.

____________________

(1) شرح النهج لابن أبي الحديد 1 / 90 ط مصر الأولى.

(2) نفس المصدر.

٢٦

موقف الإمام مع المتخلفين :

وحسبنا خطبته سلام الله عليه لمّا تخلّف عن بيعته عبد الله بن عمر وسعد بن أبي وقاص ومحمّد بن مسلمة وحسان بن ثابت وأسامة بن زيد على ما رواه الشعبي ـ وهو غير متهم عليهم ـ قال : « لمّا اعتزل سعد ومن سمّينا أمير المؤمنين وتوقفوا عن بيعته : حمد الله وأثنى عليه ثمّ قال : ( أيّها الناس إنكم بايعتموني على ما بويع عليه مَن كان قبلي ، وانّما الخيار للناس قبل أن يبايعوا فإذا بايعوا فلا خيار لهم ، وإنّ على الإمام الإستقامة وعلى الرعية التسليم ، وهذه بيعة عامة مَن رغب عنها رغب عن دين الإسلام ، واتّبع غير سبيل أهله ، ولم تكن بيعتكم إياي فلتة ، وليس أمري وأمركم واحداً ، إني أريدكم لله وانتم تريدونني لأنفسكم.

أيّها الناس أعينوني على أنفسكم ، وأيم الله لأنصفنّ المظلوم من ظالمه ، ولأقودنّ الظالم بخزامته حتى أورده منهل الحقّ وإن كان كارهاً ) »(1) .

وزاد المفيد قوله : ( وقد بلغني عن سعد وابن سلمة وأسامة وعبد الله وحسان ابن ثابت أموراً كرهتها والحقّ بيني وبينهم )(2) .

قال المسعودي : « وقعد عن بيعته جماعة عثمانية لم يروا إلاّ الخروج عن الأمر ، منهم : سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر(3) ـ وبايع يزيد بعد ذلك

____________________

(1) مصادر نهج البلاغة 2 / 305 ـ 306 ط الثانية بيروت.

(2) الإرشاد / 130 ط الحيدرية سنة 1381 هـ.

(3) من غرائب العجائب أن يعتذر علماء التبرير عن ابن عمر ، وأغرب ما رأيت اعتذار ابن عبد البر في الاستيعاب في ترجمته قال : ( وكان رحمه الله لورعه أشكلت عليه حروب عليّ وقعد عنه ). وبهذا الاعتذار التافه يستغفل المسلمين لتبرير تخلف ابن عمر عن بيعة أميرالمؤمنين عليه السلام ، وكأن السذاجة والفجاجة غلبت على الرجل الّذي يعتبر حجة في فنه ( الحديث والرجال والفقه ) فقال الّذي قاله من دون التفات إلى عذره في التعليل العليل ، إن قعود ابن عمر عن بيعة الإمام كان قبل الحروب ، فكيف صار السبب قبل

٢٧

والحجاج لعبد الملك بن مروان ـ ومنهم قدامة بن مظعون ، وأهبان بن صيفي ، ومحمّد بن مسلمة حليف بني عبد الأشهل ، وزيد بن ثابت ، ورافع بن خديج ، ونعمان بن بشير ، وفضالة بن عبيد ، وكعب بن عجرة ، ومسلمة بن خالد في آخرين ممّن لم نذكرهم من العثمانية من الأنصار وغيرهم من بني أمية وسواهم ».

وقال المسعودي أيضاً : « وأتاه جماعة ممّن تخلّف عن بيعته من بني أمية منهم : سعيد بن العاص ومروان بن الحكم والوليد بن عُقبة بن أبي معيط ، فجرى بينه وبينهم خطب طويل (؟).

وقال له الوليد : إنا لم نتخلّف عنك رغبة عن بيعتك ، ولكنا قوم وَترَنا الناس ، وخفنا على نفوسنا ، فعذرنا فيما نقول واضح ، أمّا أنا فقتلت أبي صبراً ، وضربتني حداً.

وقال سعيد بن العاص كلاماً كثيراً (؟) وقال له الوليد : أمّا سعيد فقتلت أباه ، وأهنت مثواه ، وأمّا مروان فإنك شتمت أباه وعبت عثمان في ضمّه إياه ».

ثمّ قال المسعودي : « وقد ذكر أبو محنف لوط بن يحيى أنّ حسان بن ثابت وكعب بن مالك والنعمان بن بشير قبل نفوذه بالقميص أتوا عليّاً في آخرين من العثمانية ، فقال كعب بن مالك : يا أمير المؤمنين ليس مسيئاً من أعتب ، وخير كفء ما محاه عذر في كلام كثير (؟). ثمّ بايع وبايع من ذكرنا جميعاً »(1) .

____________________

المسبّب؟! وأي ربط بين البيعة وبين الحروب؟ وكثير ممّن بايع ثمّ لم يشارك في الحروب. وما بال ابن عمر لم يستشكل في بيعة يزيد وبيعة عبد الملك مع تلك الحروب الّتي ألحقت بالأمة فجائع وفظائع ، فأين غاب عنه ورعه المزعوم عند ابن عبد البر؟ وندم ابن عمر بعد ذلك أن لا يكون قاتل الناكثين والقاسطين والمارقين يأبى على ابن عبد البر ما اعتذر به ، وما ذلك إلاّ من زلل الأهواء وخطل الآراء.

(1) مروج الذهب 2 / 361 تح ـ عبد الحميد ، و 2 / 4 ط البهية سنة 1346 هـ.

٢٨

أقول : ممّا يثير الدهشة أن نجد الفجوة البيّنة في كلام المسعودي أشرت إليها بعلامات الأستفهام ، فهل هو الّذي تكتم على بقية ما جرى بين الإمام وبين أمية فقال : فجرى بينه وبينهم خطب طويل (؟) ماذا كان ذلك الخطب الطويل؟ ولماذا لم يذكره؟ ثمّ ماذا قال سعيد بن العاص من الكلام الكثير (؟).

وأخيراً ماذاكان بقية كلام كعب بن مالك في كلام كثير (؟).

إنّها بليّة التاريخ حين تُكتم الحقائق وتكُمُّ الأفواه.

ولئن كتم المسعودي أو بعض رواة كتابه ما مرّ من كتمان ، فقد وجدنا بعض ذلك قد رواه مؤرخ أقدم منه هو ابن اعثم الكوفي في كتابه الفتوح(1) ومع ذلك فقد بقيت فجوات بيّنة فيما ذكر ، شعراً ونثراً ، فمن شاء الاستزادة فليراجع الفتوح.

كما أنّ اليعقوبي ذكر في تاريخه ما مر من كلام الوليد مع الإمام ومنه : « فتبايعنا على أن تضع عنّا ما أصبنا ، وتعفي لنا عما في أيدينا ، وتقتل قتلة صاحبنا.

فغضب عليّ ( عليه السلام ) وقال : أمّا ما ذكرت من وتري اياكم فالحق وتركم ، وأمّا وضعي عنكم عمّا في أيديكم فليس لي أن أضع حق الله ، وأمّا إعفائي عمّا في أيديكم فما كان لله وللمسلمين فالعدل يسعكم.

وأمّا قتلي قتلة عثمان فلو لزمني قتلهم اليوم لزمني قتالهم غداً ، ولكن لكم أن أحملكم على كتاب الله وسنّة نبيّه ، فمن ضاق عليه الحقّ فالباطل عليه أضيق ، وإن شئتم فالحقوا بملاحقكم.

فقال مروان : بل نبايعك ونقيم معك فترى ونرى »(2) .

____________________

(1) الفتوح 2 / 259 ط دار الندوة.

(2) تاريخ اليعقوبي 2 / 154 ط النجف.

٢٩

قال أبو عمر في الاستيعاب في ترجمته : « أجتمع على بيعته المهاجرون والأنصار ، وتخلّف عن بيعته نفر منهم فلم يُهجهم ولم يكرههم ، وسئل عنهم فقال : أولئك قوم قعدوا عن الحقّ ولم يقوموا مع الباطل.

وفي رواية أخرى : أولئك قوم خذلوا الحقّ ولم ينصروا الباطل.

ثمّ قال : وتخلّف أيضاً عن بيعته معاوية ومن معه في جماعة أهل الشام »(1) .

حبر الأمة عند الإمام في مشورة المغيرة :

لقد مرّ بنا في رحلة العودة أن ابن عباس ورد المدينة بعد مقتل عثمان بخمسة أيام وقبل بيعة الإمام ، ولمّا كان قتل عثمان يوم 18 ذي الحجة فيكون ورود ابن عباس إلى المدينة يوم 23 ، ولمّا كانت بيعة الإمام يوم الجمعة لخمس بقين من ذي الحجة ، فيعني انّ ابن عباس حضر جانباً من المداولات حول مبايعة الإمام. وهذا ما تقدم في رحلة العودة.

لكن الطبري أورد لنا حديثاً بسنده عن أبي هلال قال : « قال ابن عباس : قدمت المدينة من مكة بعد قتل عثمان ( رضي الله عنه ) بخمسة أيام ، فجئت عليّاً أدخل عليه فقيل لي عنده المغيرة بن شعبة ، فجلست بالباب ساعة ، فخرج المغيرة فسلّم عليَّ فقال : متى قدمت؟ فقلت الساعة ، فدخلت على عليّ فسلّمت عليه ، فقال لي : لقيتَ الزبير وطلحة؟ قال : قلت : لقيتهما بالنواصف ، قال : ومن معهما؟ قلت : أبو سعيد بن الحارث بن هشام في فئة من قريش ، فقال عليّ : أما إنّهم لن يدَعَوا أن يخرجوا يقولان : نطلب بدم عثمان ، والله نعلم أنّهم قتلة عثمان.

قال ابن عباس : يا أمير المؤمنين أخبرني عن شأن المغيرة ولم خلا بك؟

____________________

(1) الاستيعاب 3 / 55 بها متن مش الاصابة ط مصطفى محمد بمصر 1358 هـ.

٣٠

قال : جاءني بعد مقتل عثمان بيومين فقال : أخلني ففعلت ، فقال : انّ النصح رخيص وأنت بقية الناس وإنّي لك ناصح ، وإني أشير عليك بردّ عمّال عثمان عامك هذا ، فاكتب إليهم بإثباتهم على أعمالهم ، فإذا بايعوا لك واطمأنّ الأمر لك عزلتَ من أحببتَ وأقررتَ من أحببتَ ، فقلت : والله لا أدهّن في ديني ، ولا أعطي الدنيّ في أمري.

قال : فإن كنتَ قد أبيت عليَّ فانزع مَن شئت وأترك معاوية ، فإنّ لمعاوية جرأة ، وهو في أهل الشام يُسمع منه ، ولك حجة في إثباته ، وكان عمر بن الخطاب قد ولاّه الشام كلّها ، فقلت : لا والله لا أستعمل معاوية يومين أبداً ، فخرج من عندي على ما أشار به ، ثمّ عاد فقال لي : إني أشرت عليك بما أشرتُ به فأبيتَ عليَّ ، ثمّ نظرتُ في الأمر فإذا أنت مصيب ، لا ينبغي لك أن تأخذ أمرك بخدعة ، ولا يكون في أمرك دلسة.

قال : فقال ابن عباس : فقلت لعليّ : أمّا أوّل ما أشار به عليك فقد نصحك ، وأمّا الآخر فغشّك ، وأنا أشير عليك بأن تثبت معاوية ، فإن بايع لك فعليَّ أن أقلعه من منزله.

قال عليّ : لا والله ، لا أعطيه إلاّ السيف ، قال : ثمّ تمثّل بهذا البيت :

ما ميتة إن متّها غيرَ عاجز

بعارٍ إذا ما غالت النفس غولُها

فقلت : يا أمير المؤمنين ، أنت رجل شجاع لست بإرب الحرب ، أما سمعت رسول الله صلّى الله عليه ( وآله ) وسلّم يقول : ( الحرب خدعة )؟ فقال عليّ : بلى.

فقال ابن عباس : أما والله لئن أطعتني لأصدُرنَّ بهم بعد وِرد ، ولأتركنّهم ينظرون في دُبُر الأمور لا يعرفون ما كان وجهها ، في غير نقصان عليك ولا إثم

٣١

لك ، فقال : يا بن عباس لستُ من هنيئاتك وهنيّات معاوية في شيء ، تشير عليَّ وأرى ، فإذا عصيتُك فأطعني. قال : فقلت : أفعل ، إنّ أيسر ما لك عندي الطاعة »(1) .

فهذا الخبر يوحي بأن بيعة الإمام قد تمت قبل وصول ابن عباس إلى المدينة ، كما يوحي بأنها ـ البيعة ـ كانت بعد مقتل عثمان بيوم ، إذ كان مجيء المغيرة إلى الإمام بعد مقتل عثمان بيومين ، فلو لم تكن البيعة قد تمت لما كان معنى لكلام المغيرة معه في شأن عمّال عثمان ، كما ذكر خروج طلحة والزبير وملاقاة ابن عباس لهما بالنواصف (؟) فهذه الأمور تحملنا على عدم التصديق بالخبر ، ثمّ ليس كبير أثر لتاريخ الوصول في مجرى الأحداث ، بقدر ما للوصول من أثر في سرعة المشاورات والمداولات حول خطّة الإمام في الحكم ، وسماعه الرأي الآخر المخالف ، ولئن تضاربت الرواة في التحديد الزماني فإنّها قد اتفقت على اللقاء المكاني ، فقد ذكرت أنّه التقى المغيرة بباب الإمام أو عنده.

ثمّ إنّ ما دار بين الإمام وبين ابن عباس حول ما أتى به المغيرة من رأي في المرتين حول عمّال عثمان يجعل لنا حق النظر فيما أشار به ابن عباس من تصويب لبعض الرأي.

ولكن قبل ذلك علينا أن نتذكّر ما رواه هو بنفسه ـ وقد مرّ ـ من قول عمر له : « يا بن عباس ، ما يمنع قومكم منكم وأنتم أهل البيت خاصة؟ قلت : لا أدري. قال : لكني أدري ، إنّكم فضلتموهم بالنبوة ، فقالوا : إن فضلوا بالخلافة مع النبوة لم يبقوا لنا شيئاً ، وان أفضل النصيبين بأيديكم ، بل ما أخالها إلاّ مجتمعة لكم ، وإن نزلت على رغم أنف قريش »(2) .

____________________

(1) تاريخ الطبري 5 / 44 ـ 441.

(2) العقد الفريد 4 / 280.

٣٢

وقوله الآخر : « أمّا أنّه سيليها بعد هياط ومياط »(1) .

وهذا ما كان يعلمه المغيرة أيضاً من رأي عمر ، فقد روى حديث اجتماع نفر من الصحابة في دار طلحة جاء فيه قال : « إنّي لعند عمر بن الخطاب ، ليس عنده أحد غيري ، إذ أتاه آت فقال : هل لك يا أمير المؤمنين في نفر من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه ( وآله ) وسلّم يزعمون أن الّذي فعل أبو بكر في نفسه وفيك لم يكن له ، وأنّه كان بغير مشورة ولا مؤامرة ، وقالوا : تعالوا نتعاهد أن لا نعود لمثلها ، قال عمر : وأين هم؟ قال : في دار طلحة ، فخرج نحوهم وخرجت معه ، وما أعلمني يُبصرني من شدة الغضب ، فلمّا رأوه كرهوه وظنوا الّذي جاء له ، فوقف عليهم ، وقال : أنتم القائلون ما قلتم ، والله لن تتحابّوا حتى يتحابّ الأربعة : الإنسان والشيطان يغويه وهو يلعنه ، والنار والماء يطفئها وهي تحرقه ، ولم يأنُ لكم بعد ، وقد آن ميعادكم ميعاد الشيخ متى هو خارج.

قال : فتفرقوا فسلك كلّ واحد منهم طريقاً.

قال المغيرة : ثمّ قال لي ادرك ابن أبي طالب فاحبسه عليَّ ، فقلت : لا يفعل أمير المؤمنين وهو معدّ ـ أي غضبان ـ فقال : أدركه وإلا قلت لك يا بن الدبّاغة ، قال : فأدركته ، فقلت له قف مكانك لإمامك واحلم فانه سلطان وسيندم وتندم ، قال : فأقبل عمر فقال : والله ما خرج هذا الأمر إلاّ من تحت يدك.

قال عليّ : اتق الله أن لا تكون الّذي نطيعك فنفتنك ، قال : ونحب أن تكون هو؟ قال : لا ، ولكننا نذكّرك الّذي نسيت ، فالتفتَ اليّ عمر فقال : انصرف فقد سمعتَ منا عند الغضب ما كفاك فتنحّيت قريباً ، وما وقفتُ إلاّ خشية أن يكون

____________________

(1) شرح النهج لابن أبي الحديد 3 / 115.

٣٣

بينهما شيء فأكون قريباً ، فتكلما كلاماً غير غضبانين ولا راضيَين ، ثمّ رأيتهما يضحكان وتفرّقا.

وجاءني عمر ، فمشيت معه وقلت : يغفر الله لك أغضبتَ؟ قال : فأشار إلى عليَّ وقال : أما والله لولا دعابة فيه ما شككت في ولايته ، وإن نزلت على رغم أنف قريش »(1) .

فهذان الخبران يدلاّن على سماع كلّ من ابن عباس والمغيرة قول عمر بأن الخلافة سوف تصل إلى الإمام وإن نزلت على رغم أنف قريش ، وها هي الآن فقد وصلت ، وهي كذلك كانت على رغم أنف قريش ، وكان المفروض أن تكون أحب إليهم من خلافة غيره ، لأنّها لم تكن بيعة إكراه ، فلماذا المراغمة؟! ـ لأنّ عليّاً ( عليه السلام ) لا تأخذه في الله لومة لائم ، ولأنّه ( عليه السلام ) كان واضحاً وصريحاً ـ وقد مرّت بنا خطبته فور تسلّمه السلطة وتخلف من تخلّف.

إذن فماذا تعني مشورة المغيرة من دون أن يستشار؟

لقد تضاربت آراء الباحثين حول قصة دخول المغيرة بن شعبة ، فهم بين من رآها مكيدة أراد أن يستعلم بها رأي الإمام في عمّال عثمان ، وبين من رآها نصيحة أراد أن يتقرّب بها إلى قلب الإمام الّذي أصبح وشيكاً ليرجمنّه بأحجاره للحدّ الّذي بجنبه(2) .

____________________

(1) العقد الفريد 4 / 281 ـ 282.

(2) قال أبو جعفر الإسكافي : وكان المغيرة بن شعبة يلعن عليّاً ( عليه السلام ) لعناً صريحاً على منبر الكوفة وكان بلغه عن عليّ ( عليه السلام ) في أيام عمر انه قال : لئن رأيت المغيرة لأرجمنّه باحجاره ، يعني واقعة الزنا بالمرأة الّتي شهد عليه فيها أبو بكرة ، ونكل زياد عن الشهادة ، فكان يبغضه لذاك ولغيره من أحوال اجتمعت في نفسه ( شرح النهج لابن أبي الحديد 1 / 360 ط الأولى بمصر ).

٣٤

« ومهما يكن من اختلاف فليس من شك في أن عليّاً لم يكن يستطيع أن يستبقي عمّال عثمان ، كان دينه يمنعه من ذلك ، لأنه طالما لام عثمان على تولية هؤلاء العمّال ، وطالما أنكر هؤلاء العمال سيرتهم في الناس ، فلم يكن يستطيع أن يطالب بعزلهم أمس ويثبتهم على عملهم اليوم ، وتمنعه السياسة من هذا ، فهؤلاء الثائرون ومن الذين شبّوا نار الفتنة وقتلوا عثمان لم يكونوا يكتفون بتغيير الخليفة ، وإنّما كانوا يريدون تغيير السياسة كلها وتغيير العمال قبل كلّ شيء »(1) .

قال السيد أمير علي معلّقاً على كلمة المؤرخ الفرنسي سيديو والّتي مرت في مبايعة الناس للإمام : « فلقد أحاط به في بادئ الأمر أعداء بني أمية ، ولكنه لم يحتط للدسائس ، وأبى أن يقرّ عمال عثمان مدفوعاً بشرف الغاية الّتي كانت من أبرز مميّزاته ، وبرغم النصائح الّتي أسديت إليه لمسايرة الظروف ، فقد أنتزع الأملاك الّتي أقطعها عثمان لأتباعه من بيت المال ، وقسم الخراج طبقاً للقواعد الّتي سنّها عمر ، فجلبت عليه هذه الإجراءات الحازمة سخط من أثروا في العهد

____________________

وقد روى أبو الفرج في كتابه الأغاني 14 / 142 قال قال عليّ بن أبي طالب لئن أخذت المغيرة لأتبعنه أحجاره.

وحديث زنا المغيرة ثابتٌ ومشهور ، فمن شاء الوقوف عليه وكيف درأ عمر الحدّ عنه فليراجع الأستيعاب في تراجم زياد ، ونافع ، وابي بكرة ، والمغيرة 1 / 568 و 3 / 389 و 544 و 4 / 23 على التعاقب ، وليراجع الإصابة 3 / 452 و 544 ، وتاريخ الطبري 4 / 207 ط الحسينية ، وتاريخ ابن الأثير حوادث سنة 17 ، وكذا تاريخ أبي الفداء ، وأسد الغابة في تراجم السابقين في الاستيعاب ، ومستدرك الحاكم 3 / 448 وتلخيصه بهامشه للذهبي ، وطبقات الشافعية 2 / 209 ط مصر سنة 1324 هـ ، ومنتخب كنز العمال بهامش مسند أحمد 2 / 413 ، وفتوح البلدان للبلاذري / 352 ، والأخبار الطوال للدينوري / 113 ، ووفيات الأعيان في ترجمة يزيد بن زياد بن مفرغ 2 / 455 ط حجرية بايران ، وشرح النهج لابن أبي الحديد 3 / 159 ـ 162 ، والبداية والنهاية 7 / 81 وغيرها وغيرها.

(1) عليّ وبنوه لطه حسين / 24 ـ 25.

٣٥

السابق ، وقد تنازل بعض العمال عن مناصبهم دون مقاومة ، بينما رفض آخرون النزول على أمر الخليفة الجديد ، ومن بينهم معاوية بن أبي سفيان »(1) .

وفي كلامه أكثر من ملاحظة أهمها تقسيمه الخراج بالتساوي وليس طبقاً لما سنّه عمر من التفاضل!

والآن إلى الحوار الّذي جرى بين الإمام وبين ابن عباس حول مجيء المغيرة برأييه في مرتين وما نسب إلى ابن عباس من رأي في ذلك :

قال المسعودي في مروج الذهب : « وأتى المغيرة بن شعبة عليّاً فقال له : إنّ لك حق الطاعة والنصيحة ، وإنّ الرأي اليوم تجوز به ما في غد ، وانّ المضاع اليوم تضيع به ما في غد ، أقرر معاوية على عمله ، وأقرر ابن عامر على عمله ، وأقرر العمال على أعمالهم ، حتى إذا أتتك طاعتهم وطاعة الجنود استبدلت أو تركت. قال : حتى أنظر ، فخرج من عنده وعاد إليه من الغد ، فقال : إني أشرت عليك بالأمس برأي وتعقبته برأي ، وإنّما الرأي أن تعاجلهم بالنزع ، فتعرف السامع من غيره وتستقبل أمرك ، ثمّ خرج من عنده ، فتلقاه ابن عباس خارجاً وهو داخل ، فلمّا انتهى إلى عليّ قال : رأيت المغيرة خارجاً من عندك فيم جاءك؟ قال : جاءني أمس بكيت وكيت ، وجاءني اليوم بذيت وذيت. فقال : أمّا أمس فقد نصحك ، وأمّا اليوم فقد غشك قال : فما الرأي؟ قال : كان الرأي أن تخرج حين قتل عثمان أو قبل ذلك ، فتأتي مكة فتدخل دارك فتغلق عليك بابك ، فإن كانت العرب مائلة مضطرة في أثرك لا تجد غيرك ، فأمّا اليوم فإن بني أمية سيحسنون الطلب بأن يلزموك شعبة من هذا الأمر ، ويشبهون فيك على الناس.

____________________

(1) مختصر تاريخ العرب / 44.

٣٦

وقال المغيرة : نصحته فلم يقبل فغششته ، وذكر أنّه قال : والله ما نصحته قبلها ولا أنصحه بعدها »(1) .

ثمّ ذكر المسعودي ما وجده في وجه آخر وهو ما ذكره الطبري من حديث أبي هلال وقد مرّ آنفاً.

ويعتقد البعض أن مجيء المغيرة إلى الإمام كان دسيسة أموية يستطلع رأيه فيهم بطريقة أنيقة ، وقد فهم كلّ ما يود فهمه بالأخص فيما يتعلق بمعاوية ، وربما شهد لهذا أنّ كلامه عن معاوية في شقه الأخير لا يشبه توجيه النظر ، بل الدفاع.

وتأمل قوله : « ولك في إثباته حجة فقد كان عمر ولاه الشام كلها »! وهل الخليفة في حاجة إلى حجة من عمل غيره في تثبيت عامل أو عزله؟! أو ليس هذا هو حجة الدفاع بعينه.

ثمّ إنّ في رواية أخرى عند الطبري نقرأ لغة المساومة من المغيرة ، فهو يقول للإمام كما روى الطبري بسنده عن ابن عباس : « ...فقلت : ماذا قال لك هذا؟ فقال : قال لي قبل مرّته هذه : أرسل إلى عبد الله بن عامر وإلى معاوية وإلى عثمان بعهودهم تُقرّهم على أعمالهم ويبايعون لك الناس ، فإنهم يهدّئون البلاد ، ويسكّنون الناس ، فأبيت ذلك عليه يومئذ ، وقلت : والله لو كان ساعة من نهار لاجتهدت فيها رأيي ، ولا ولّيتُ هؤلاء ولا مثلهم يُولّى.

قال : ثمّ انصرف من عندي وأنا أعرف فيه انه يرى أني مخطيء ، ثمّ عاد إليّ الآن فقال : إنّي أشرت عليك أوّل مرّة بالّذي أشرت عليك وخالفتني فيه ، ثمّ

____________________

(1) مروج الذهب 2 / 363.

٣٧

رأيت بعد ذلك رأياً ، وأنا أرى أن تصنع الّذي رأيتَ فتنزعهم وتستعين بمن تثق به ، فقد كفى الله ، وهم أهون شوكة »(1) .

فأنظر إلى قوله : « فإنّهم يهدئون البلاد ويسكّنون الناس »! فهو محام دفاع ، وهو مساوم عن الجماعة العثمانية وهو وهو

ولننظر إلى ما قال ابن عباس : « فقلت لعليّ : أمّا المرة الأولى فقد نصحك ، وأمّا المرة الآخرة فقد غشّك.

قال له عليّ : ولم نصحني؟ قال ابن عباس : لأنك تعلم أنّ معاوية وأصحابه أهل دنيا ، فمتى تثبّتهم لا يبالوا بمن ولي هذا الأمر ، ومتى تعزلهم يقولوا : أخَذَ هذا الأمر بغير شورى ، وهو قتل صاحبنا ، ويؤلّبون عليك فينتقض عليك أهل الشام وأهل العراق ، مع إنّي لا آمن طلحة والزبير أن يكرّا عليك.

فقال عليّ : أمّا ما ذكرت من إقرارهم ، فوالله ما أشك أن ذلك خيرٌ في عاجل الدنيا لإصلاحها ، وأمّا الّذي يلزمني من الحقّ والمعرفة بعمّال عثمان ، فوالله لا أولّي منهم أحداً أبداً ، فإن أقبلوا فذلك خير لهم ، وإن أدبروا بذلت لهم السيف.

قال ابن عباس : فأطعني وادخل دارك ، والحقّ بمالك بينبع ، وأغلق بابك عليك ، فإنّ العرب تجول جولة وتضطرب ولا تجد غيرك ، فإنك والله لئن نهضت مع هؤلاء اليوم ليحملنّك الناس دم عثمان غداً.

فأبى عليّ ، فقال لابن عباس سر إلى الشام فقد وليتكها ، فقال ابن عباس : ما هذا برأي ، معاوية رجل من بني أمية وهو ابن عم عثمان وعامله على الشام ، ولست آمن أن يضرب عنقي لعثمان ، أو أدنى ما هو صانع أن يحبسني فيتحكّم عليّ.

____________________

(1) تاريخ الطبري 5 / 439 ط دار المعارف.

٣٨

فقال له عليّ : ولم؟ قال : لقرابة ما بيني وبينك ، وإنّ كلّ ما حُمل عليك حُمل عليَّ ، ولكن اكتب إلى معاوية فمنِّه وعِده ، فأبى عليّ وقال : والله لا كان هذا أبداً اهـ »(1) .

وقد وردت رواية أخرى نحواً ممّا مر ، لا تختلف في جوهرها عما سبق ، كما لا أهمية كبيرة لما أخرجه الحافظ أبو حاتم حبّان البستي ( ت 354 ) في كتابه ( روضة العقلاء ونزهة الفضلاء ) بسنده عن عبد الرحمن بن القاسم التيمي قال : « لمّا قدم عليّ الكوفة لقيه المغيرة بن شعبة فقال له : إني أستشير عليك برأي فأقبله ، قال : هات ، قال : أقر معاوية على الشام يسمح لك طاعته ، فإن أهل الشام قد ذاقوه فأستعذبوه ، ووليهم عشرين سنة لم يعتبوا عليه في عرض ولا مال ، فقال : والله لو سألني قرية ما وليته إياها. قال فقال المغيرة : أراه سيلي أرضين وقريات »(2) .

فهذا الّذي أخرجه ابن حبّان مضافاً إلى انقطاع في سنده ، فهو مخالف لجميع ما مر ذكره نقلاً عن مصادر موثوقة ، وكان أصحابها أقدم زمناً منه ، كابن قتيبة ( ت 276 ) والبلاذري ( ت 279 ) والطبري ( ت310 ) وابن عبد ربه الأندلسي ( ت 328 ) والمسعودي ( ت 342 ).

وليس من الأهمية البالغة تحقيق أيّ الروايات هي الأصح ، ما دامت جميعاً تتفق في أصل القضية. وإنما المهمّ أن نعرف مدى صواب الرأي في مشورة

____________________

(1) تاريخ الطبري 4 / 439 ـ 440.

(2) روضة العقلاْء ونزهة الفضلاء / 195 بتحقيق وتصحيح محمّد محي الدين عبد الحميد ومحمّد عبد الرزاق حمزة المدرس بالمسجد الحرام ومحمّد حامد الفقي رئيس جماعة أنصار السنّة المحمّدية ط مطبعة السنّة المحمّدية بمصر سنة 1368 هـ ومما يؤخذ على المحققين عدم انتباههم إلى ما في ذلك من مخالفة تاريخية صريحة.

٣٩

المغيرة والأهم معرفة الصواب في رأي ابن عباس. فهل كان صواب رأي عند المغيرة؟ أو تصويب رأي من ابن عباس؟

أمّا بالنسبة إلى رأي المغيرة أوّل مرّة : فلا شكّ في أنّه كان لصالح الأمويين وليس لصالح الإمام كما مرّ ، فإنّ الإمام لو أثبتهم لثوّر على نفسه البلاد الّتي كانوا عليها ، لأنّهم كانوا سبب النقمة على عثمان ، والإمام يعلم ذلك وهو الّذي كان ينعى سلوكهم على عثمان ، فكيف يسعه أن يبقيهم في مراكزهم ، هذا من الجانب السياسي فضلاً عن الجانب الديني الّذي يوجب عزلهم لفسقهم وظلمهم.

وقد قال للمغيرة : ( ويحك يا مغيرة والله ما منعني من ذلك إلاّ قول الله تعالى لنبيّه محمّد صلّى الله عليه ( وآله ) وسلّم :( وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا ) (1) والله لا يراني الله تعالى وأنا استعمل معاوية على شيء من أعمال المسلمين أبداً ، ولكني أدعوه إلى ما نحن فيه ، فإن هو أجاب إلى ذلك أصاب رشده ، وإلاّ حاكمته إلى الله ( عزّ وجلّ )(2) .

وروى ابن قتيبة في الإمامة والسياسة موقفاً يكشف حقيقة المغيرة وسوء نيته منذ أوّل يوم بيعة الإمام جاء فيه : « فقال له عليّ : هل لك يا مغيرة في الله؟ قال : فأين هو يا أمير المؤمنين؟ قال : تأخذ سيفك فتدخل معنا في هذا الأمر فتدرك مَن سبقك ، وتسبق مَن معك ، فإني أرى أموراً لابدّ للسيوف أن تشحذ لها وتقطف الرؤس بها.

فقال المغيرة : إنّي والله يا أمير المؤمنين ما رأيت عثمان مصيباً ، ولا قتله صواباً ، وإنّها لظُلمة تتلوها ظلمات ، فأريد يا أمير المؤمنين إن أذنتَ لي أن أضع

____________________

(1) الكهف / 15.

(2) الفتوح لابن أعثم 2 / 267.

٤٠