موسوعة عبد الله بن عبّاس الجزء ٤

موسوعة عبد الله بن عبّاس15%

موسوعة عبد الله بن عبّاس مؤلف:
تصنيف: متون حديثية
الصفحات: 381

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 381 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 70603 / تحميل: 5105
الحجم الحجم الحجم
موسوعة عبد الله بن عبّاس

موسوعة عبد الله بن عبّاس الجزء ٤

مؤلف:
العربية

١
٢

٣
٤

٥
٦

تقديم

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

وبه نستعين

الحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على محمّد وآله الطيبين الطاهرين ، ورضي الله عن الصحابة المرضيين المهتدين ، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين ، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين ، وبعد :

فقد سايرنا في الأجزاء الثلاثة من الحلقة الاُولى من موسوعة (عبد الله بن عباس حبر الاُمة وترجمان القرآن) ، شطراً كبيراً من حياته ، وقرأنا شيئاً كثيراً من صفاته وسماته ، والآن نحن على أبواب عهد جديد من فصول سيرته ، نبدأ الحديث فيه من ولايته على البصرة بعد انتهاء مأساتها ، إذ وضعت الحرب أوزارها ، وكانت أوّل حرب ضروس بين أهل القبلة ، وقد قرأنا كيف كانت سيرة الإمام أميرالمؤمنين (عليه السلام) مع أولئك المحاربين ، ولولا تلك السيرة المثلى ، لما عرف الفقهاء أحكام المحاربين من أهل القبلة ، إذ يقتل المقاتلة ، ولا تُسبى النساء ولا الذراري ، وليس من غنائم إلاّ ما حوته حومة الحرب ، ثمّ الناس آمنون ، كما مرّت الإشارة إلى ذلك.

٧

ولمّا كان الإمام (عليه السلام) من عزمه الرحيل عن البصرة وقاصداً إلى الكوفة ، فلابدّ له من تعيين والي عليها من أصحاب الكفاءات ، مثل باقي ولاته ، لينعم المسلمون وغيرهم من أهل البصرة في ظل ولايته بالأمن والطمأنينة والرخاء.

وكان المرشح الأوّل والأمثل هو عبد الله بن عباس رحمه الله.

فلنقرأ ماذا عن ولايته على البصرة ، إذ هي الثغر الّذي تتبعه ولايات كور فارس والأهواز شمالاً ، وولايات الساحل العربي حت الزارة وخليج عُمان وما بعدها شرقاً ، سوى ما في الجنوب من قبائل في البوادي حتي نجد ـ وما والاهاز فهي ـ البصرة ـ صنو الكوفة أهمية ، وهما معاً العرفان النابضان في حياة الخلافة الإسلامية ، لأهميتهما موقعاً حيث الشرف الإسلامي بجميع ولاياته وأمصاره تابع لهما.

فالآن إلى قراءة تاريخ ابن عباس في أيام ولايته على البصرة :

٨

حبر الأمة وولايته على البصرة

٩
١٠

ولايته على البصرة :

قبل التحدّث عن تلك الولاية ، لابدّ لنا أن نتعرف ـ ولو بايجاز ـ جوانب تلك الولاية ، بدءاً من بلد الولاية من خلال معرفة طبيعته الجغرافية والسكّانية وسعتها الإدارية ، ثمّ معرفة مهمة الوالي من خلال واجباته ومدى صلاحياته. وأخيراً : لماذا تم إختيار ابن عباس بالذات دون غيره؟ وهذه المحاور الثلاثة سوف تعرّفنا البصرة بنية وملامح وحدوداً ، كما تعرّفنا أهميّة اختيار الإمام الشخص المناسب في الموقع المناسب في الظرف المناسب.

والآن فإلى :

المحور الأوّل :

وهو معرفة طبيعة البصرة من خلال موقعها الجغرافي ، ومن خلال التركيبة السكانية فيها ، وبالتالي معرفة سعتها الإدارية.

أمّا عن موقعها الجغرافي فهي تقع موقعاً وسطاً تلتقي عنده الطرق البرية والبحرية الّتي تربط الحجاز جنوباً ببلاد الخليج شرقاً وحتى بلاد خراسان وما والاها. كما تتصل من خلال تلك الطرق بالكوفة شمالاً وبالشام غرباً ، وذلك الموقع هيأ لها جوّ التلاقح الفكري بين مختلف الأجناس الّتي كانت فيها أو الّتي تمرّ بها.

١١

وأمّا عن التركيبة السكانية فيها ، فقد كانت خليطاً من العرب والأنباط والفرس ـ وقد عرفوا بالأساورة ـ والهنود والزنج والزطّ ـ وهم من الهند أو السند ومن فصيلتهم السبابجة ـ الذين كانوا يتولون حراسة السجون وبيت المال. وقد قتل منهم أربعمائة ظلماً وعدواناً ، قتلهم جيش الناكثين بقيادة عائشة وطلحة والزبير ، وذلك يوم الجمل الأصغر.

ثمّ إنّ العرب أنفسهم كانوا قبائل مختلفة متفاوتة في الطباع ، ففيهم الحملان وداعة ، ومنهم القساة الجفاة كالضباع والسباع.

فبلد تمازجت فيه حضارات مدنية أعجمية قبل دخول حضارة الإسلام العربية ، لابدّ أن تتصادم فيه الرغبات والميول وتتعدد فيه المناحي حسب الأهواء ، ولو رجعنا إلى ما ذكره الجغرافيون والمؤرخون من خطط سكانية في تلك الأيام ، لوجدنا بعض الخطط تضم قبائل مضرية وأخرى ربعية وثالثة قحطانية ، ومع كلٍ خليط من غير العرب كالموالي يشاركون في العمل والسكن كما يشاركون في الجهاد وأخذ العطاء. ولم يعرف خلافٌ أوقع شرخاً كبيراً بين القبائل العربية كما أوقعته حرب الجمل ، فقد كانت لها مخلفات مريعة وفظيعة ، فعاشت البصرة بعد يوم الجمل في جوّ قلق واضطراب. ولم لا تكون كذلك وهي تعيش مخلّفات حرب ظالمة أودت بحياة اكثر من عشرين الف قتيل في يوم واحد!

إذن ليس من السهل ولا بالمستطاع لأيّ والٍ أن يمحو أثر ذلك من النفوس بجرّة من القلم ، لتستقر له البلاد بين عشية وضحاها. ومهما تمكّن من محو الفوارق الجنسية ، فلن يتمكن من توحيد الأهواء النفسية. لذلك فلا مناص من

١٢

مواجهة صعوبات في الاستقرار السياسي خاصة ، مضافاً إلى النوازع العصبية الداخلية كالنفرة بين المضرية والرَبعيَة والقحطانية ، وهذه كلها عوامل مثيرة للقلق في الحياة الإجتماعية.

وأمّا عن سعتها الإدارية ، فحسبك أن تعرف أنّ الأقطار الشرقية التابعة لها تبدأ من كور الأهواز وتنتهي حيث وصل الفتح الإسلامي في بلاد خراسان وما والاها. وتشمل كثيراً من بلاد فارس ما بين العراقين. مضافاً إلى المقاطعات التابعة لها في العراق.

وإلى القارئ كشفاً بأسماء تلك البلدان التابعة في حكومتها إلى إيالة البصرة :

١ ـ كور دجلة ـ ويشتمل هذا القطر على المقاطعات التالية ـ : الأبّلة ـ فرات البصرة ـ ميسان.

٢ ـ الأهواز ـ ويشتمل هذا القطر على : مناذر ـ سرّق ـ الأهواز ـ السوس ـ جنديسابور ـ رامهرمز.

٣ ـ فارس ـ ويشتمل هذا القطر على : أرد شيرخرّة ـ سابور ـ اصطخر ـ دارا بجرد ـ توج ـ فساو دارا بجرد.

٤ ـ سجستان ـ بما يشتمل عليه القطر من توابع وقصبات.

٥ ـ كرمان ـ كسابقه.

٦ ـ ثغر الهند ـ وما فيه من بلاد افتتحها المسلمون.

٧ ـ اصفهان ـ وما يتبعها من القصبات.

١٣

٨ ـ خراسان ـ ويشتمل قطرها على : مرو ـ أبرشهر ـ مرو الروذ ـ الطالقان ـ فارياب ـ هراة ـ بادغيس ـ جوشنج.

٩ ـ البحرين وملحقاتها من الجزر.

١٠ ـ اليمامة وما يتبعها من منازل الأعراب(١) .

كلّ هذه المقاطعات بما فيها من بلدان وقصبات ومنازل البادية كلها تابعة لولاية البصرة ، يراجع ولاتها وحكامها والي البصرة ، وإليه يحملون ما يجتمع عندهم من الخراج ، وهو الّذي يتولى نصب وعزل الأمراء فيها ، وله حق النظر في أعمالهم ومحاسبتهم. هذا كله من جهة سعتها الإدارية ، أمّا عن شؤون البلاد الداخلية فهذا ما نقرؤه في :

المحور الثاني :

وللتعرف على شؤون البلاد الداخلية علينا أن نعرف واجبات الوالي ومدى صلاحياته ، فإنّ تلك الشؤون داخلة فيها. وهذا يتم من خلال الإلمام بالنقطة التالية لمعنى الإمارة :

قال الماوردي الشافعي في الأحكام السلطانية : « وإذا قلد الخليفة أميراً على أقليم أو بلد كانت إمارته على ضربين : عامة وخاصة ، فأمّا العامة فعلى ضربين : إمارة استكفاء بعقد عن اختيار ، وإمارة استيلاء بعقد عن اضطرار ، فأمّا إمارة الإستكفاء الّتي تنعقد عن اختياره فتشتمل على عمل محدود ونظر معهود ، والتقليد فيها أن يفوّض إليه الخليفة إمارة بلد أو أقليم ولاية على جميع أهله

____________

(١) فارسي نامه ناصري / ٦ ط ايران ، التنظيمات الإجتماعية والإقتصادية في البصرة للدكتور صالح أحمد العلي ّ / ٣٠٠ ـ ٣٠٩ ط المعارف بغداد سنة ١٩٥٣.

١٤

ونظراً في المعهود من سائر أعماله فيصير عام النظر فيما كان محدوداً من عمل ومعهوداً من نظر ، فيشتمل نظره فيه على سبعة أمور :

أحدها : النظر في تدبير الجيوش وترتيبهم في النواحي وتقدير أرزاقهم إلاّ أن يكون الخليفة قدّرها فيذرها عليهم.

والثاني : النظر في الأحكام وتقليد القضاة والحكام.

والثالث : جباية الخراج وقبض الصدقات وتقليد العمال فيهما ، وتفريق ما استحق منهما.

والرابع : حماية الدين والذبّ عن الحريم ، ومراعات الدين من تغيير أو تبديل.

والخامس : إقامة الحدود في حق الله وحقوق الآدميين.

والسادس : الإمامة في الجمع والجماعات حتى يؤمّ بها أو يستخلف عليها.

والسابع : تسيير الحجيج من عمله ومن سلكه من غير أهله ، حتى يتوجهوا معانين عليه. فإن كان هذا الأقليم ثغراً متاخماً للعدو اقترن بها.

والثامن : وهو جهاد من يليه من الأعداء وقسّم غنائمهم في المقاتلة وأخذ خمسها لأهل الخمس. وتعتبر في هذه الإمارة الشروط المعتبرة في وزارة التفويض »(١) .

« وتلك الشروط هي شروط الإمامة إلاّ النسب وحده ويحتاج فيها إلى شرط زائد على شروط الإمامة وهو أن يكون من أهل الكفاية فيما وكّل إليه من أمري الحرب والخراج له خبرة بهما ومعرفة بتفصيلهما »(٢) .

____________

(١) الأحكام السلطانية للماوردي الشافعي / ٢٧ ـ ٢٨ ط المحمودية بمصر بلد ـ ، وقارن الأحكام السلطانية لأبي يعلى الحنبلي / ١٧ ـ ١٨ تح ـ حامد الفقي.

(٢) نفس المصدر / ٢٠.

١٥

وستأتي شواهد على ما قام به ابن عباس أيام إمارته بالبصرة في مهام الأعمال كتولية القضاء وديوان الخراج وبيت المال وشؤون الأمن إلى غير ذلك ممّا سيوافينا الحديث عنها فيما نقرأ من تاريخ حياته في أيام ولايته.

المحور الثالث :

لماذا تم اختيار ابن عباس بالذات دون غيره؟ وهل أثار النقمة؟

والجواب على السؤال الأوّل : هو أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كما في حديث ابن عباس قال : (من استعمل عاملاً من المسلمين وهو يعلم أنّ فيهم أولى بذلك منه وأعلم بكتاب الله وسنة نبيّه فقد خان الله ورسوله وجميع المسلمين)(١) .

وهذا الحديث يجعلنا على يقين بأنّ الإمام لم يجاوزه في اختيار ولاته وعماله فهو الّذي كان على وتيرة النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في اتباع سنته.

وأمّا الجواب على السؤال الثاني : هو أنّ مسألة اختيار الولاة منذ عهد عثمان كانت تعيش في أذهان المسلمين عقدة مستعصية ولدت النقد له والنقمة عليه ، إذ كانت وقفاً على الأقرباء والأنسباء ، ولم تزل بعدُ نفوس المسلمين في تخوّف من أن تعود الكرّة في عهد الإمام كما كانت في عهد عثمان.

ولا شك أنّ الإمام كان يدرك ما في نفوس المسلمين من تخوّف ، ولمّا كان بصيراً بأصحابه الذين لهم قابليات الولاية حسب الكفاءة والمؤهلات ، فهو سيختار منهم مَن لا تأخذه في تعيينه لومة لائم ، فذلك هو الإجراء الملائم

____________

(١) أنظر تفسير المنار ٥ / ٢١٥ ـ ٢١٦ باختصار نقلاً عن صحيح مسلم وأبي داود.

١٦

وسلوكية الإمام وسياسته. ولو استعرضنا الذين ولاّهم بالمدينة إبّان حكمه ، لوجدنا الأبعدين منهم أكثر من الأقربين وأنه لم يكن ليولي ذوي الأرحام على حساب القربى وهو يعلم نقمة المسلمين.

ولو عدنا نستذكر حديث أوّل والٍ أراده ولم يتمّ له الأمر ، لوجدناه أراد تولية عبد الله بن عباس على الشام ، ومعلوم أن ابن عباس هو ابن عمه ، ونسخة مصغرة عنه ـ لو صح التعبير ـ فلنقرأ ما رواه الطبري في ذلك في حديث مشورة المغيرة وابن عباس وقد مرّ ، وقد جاء فيه : « فقال لابن عباس : سر إلى الشام فقد وليتكها ، فقال ابن عباس : ما هذا برأي ، معاوية رجل من بني أمية وهو ابن عم عثمان وعامله على الشام ، ولست آمن من أن يضرب عنقي ، أو أدنى ما هو صانع أن يحبسني فيتحكم عليّ. فقال عليّ : ولم؟ قال : لقرابة ما بيني وبينك ، وان كلّ ما حُمل عليك حُمل عليّ ، ولكن اكتب إلى معاوية فمنّه وعِده ، فأبى عليّ وقال : والله لا كان هذا أبداً »(١) .

إذن كلّ ما حُمل على الإمام حُمل على ابن عباس ، للقرابة الّتي بينهما. ومن الطبيعي هكذا محاولة لا تثير لغطاً ولا تساؤلاً أو نقمة بين المسلمين ، لأنها حديث خاص بين الإمام وبين ابن عمه ، ولم يتسرب إلى الخارج إلاّ بعد حين ، فهم لم يعلموا به في حينه لنعرف مدى تأثيره في مجتمعهم.

لكن الّذي لا شك فيه أنّهم علموا بأسماء الولاة الذين أرسلهم إلى الأقطار بعد تولّيه الحكم ، وهم على ما في الطبري من حديث سيف (؟) في حوادث سنة٣٦ هـ : « بعث عليّ عمّاله على الأمصار فبعث عثمان بن حنيف على البصرة ،

____________

(١) تاريخ الطبري ٤ / ٤٤٠ ، وطبقات ابن سعد ١ / ١٧٣ تح ـ السُلمي.

١٧

وعمارة بن شهاب على الكوفة وكانت له هجرة ، وعبيد الله بن عباس على اليمن ، وقيس بن سعد على مصر وسهل بن حنيف على الشام وقد عاد إثنان منهم سهل بن حنيف وعمارة بن شهاب لمقاومة ردّتهما »(١) .

فهذه أسماء خمسة من العمال لم يكن بينهم هاشمي من ذوي القربى إلاّ عبيد الله بن عباس ، فهو واحد من خمسة ، وهذا لا يثير تساؤلاً فضلاً عن نقمته. ثمّ ذكر الطبري من حديث الزهري : « فبلغ عليّاً مسيرهم ـ يعني الناكثين ـ فأمّر على المدينة سهل بن حنيف »(٢) .

وذكر ابن الأثير في أسد الغابة في ترجمة قثم : « ولمّا ولي عليّ بن أبي طالب الخلافة استعمل قثم بن العباس على مكة فلم يزل عليها حتى قتل عليّ قاله خليفة. وقال الزبير : استعمله عليّ على المدينة »(٣) .

وأحسب أنّ قول خليفة هو الأصح لأنّا وجدنا في نهج البلاغة كتابين ذكرهما الشريف الرضي بعنوان الأوّل : ومن كتاب إلى قثم بن العباس وهو عامله على مكة ، أقول : وفي هذا الكتاب يحذّره من جواسيس معاوية في عمله(٤) . والثاني : من كتاب إلى قثم بن العباس وهو عامله بمكة ، أقول : وفيه يأمره بإقامة الحج وينهاه عن الاحتجاب ، ويحظر على أهل مكة أخذ أجرة للسكنى من الحجاج(٥) .

____________

(١) نفس المصدر / ٤٤٢.

(٢) نفس المصدر / ٤٥٢.

(٣) اُسد الغابة ٣ / ١٩٧ ط افست إسلامية.

(٤) شرح نهج البلاغة لمحمد عبده ٣ / ٦٥.

(٥) نفس المصدر / ١٤٠.

١٨

فهذان الكتابان خير دليل على خطأ الزبير بن بكار في زعمه تولية قثم على المدينة. نعم ذكر ابن قتيبة في الإمامة والسياسة فقال : « واستخلف على المدينة قثم بن العباس ـ وكان له فضل وعلم ـ وأمره أن يشخص إليه من أحبّ الشخوص ولا يحمل أحداً على ما يكره »(١) . فلعل هذا الاستخلاف في فترة معينة لأمر معيّن ، تخيّله الزبير ـ بن بكار ـ ولاية عامة ، مع أنّ الثابت ان الوالي كان سهل بن حنيف ، ويؤكد ذلك ما جرى للناكثين بالبصرة مع أخيه عثمان بن حنيف حين أرادوا قتله قال لهم : ما شئتم ، أمّا أنّ سهل بن حنيف وال على المدينة وإن قتلتموني انتصر(٢) .

والآن وبعد تولية قثم على مكة أصبح اثنان من ذوي القربى وليا لابن عمهما مكة واليمن ، ولم نسمع نفثة سخط ولا تأفف ناقم لولايتهما(٣) ، ولكن سنفاجيء القارئ برواية مجهولة الراوي تجعل من ولاية عبد الله بن عباس مثار نقمة وسخط ، وإثارة لغط استطال لسانه قائلاً : لماذا قتلنا الشيخ بالأمس. وتجعل

____________

(١) الإمامة والسياسة ١ / ٥٠.

(٢) نفس المصدر / ٤٧٤.

(٣) نسب الصولي شعراًً للمأمون العباسي ذكره في حديثه مع الراضي بالله العباسي ، بيّن فيه سبب إحسان المأمون إلى العلوية وهو قوله :

ألام على شكر الوصِيّ أبي الحسن

وذلك عندي من عجائب ذا الزمَن

خليفة خير الناس والأوّل الذي

أعان رسول الله في السرّ والعلَن

ولولاه ما عُدّت لهاشَم إمرة

وكانت على الأيام تُقصى وتُمتَهن

فولى بني العباس ما اختصّ غيرهم

ومن منه أولى بالتكرّم والمنن

فأوضح عبد الله بالبصرة الهدى

وفاض عبيد الله جوداً على اليَمن

وقسّم اعمال الخلافة بينَهم

فلا زلت مربوطاًً بذا الشكر مُرتَهن

مروج الذهب ٤ / ٣٣٤ تح ـ محي الدين ط التجارية سنة ٣٧٧ هـ.

١٩

الأشتر رفيق عبد الله بن عباس في درب الكفاح والسلاح وكأنّه هو الناقم والساخط ، وتجعل الإمام في موقف استلطاف لامتصاص النقمة ، فلابدّ لنا من وقفة تنقيب عن صحة الراوية.

لماذا قتلنا الشيخ بالأمس؟

ذكر ابن أبي الحديد في شرح النهج في ترجمة مالك الأشتر فقال : « وكان فارساً شجاعاً رئيساً من أكابر الشيعة وعظمائها شديد التحقق بولاء أمير المؤمنين (عليه السلام) ونصره ، وقال فيه بعد موته : رحم الله مالكاً فلقد كان لي كما كنت لرسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ، ولمّا قنت عليّ (عليه السلام) على خمسة ولعنهم وهم معاوية وعمرو بن العاص وأبو الأعور السلمي وحبيب بن مسلمة وبسر بن أرطاة ، قنت معاوية على خمسة وهم عليّ والحسن والحسين (عليهم السلام) وعبد الله ابن العباس والأشتر ولعنهم.

وقد روي أنّه قال ـ لمّا ولّى عليّ (عليه السلام) بني العباس على الحجاز واليمن والعراق ـ : فلماذا قتلنا الشيخ بالأمس؟ وأنّ عليّاً (عليه السلام) لمّا بلغته هذه الكلمة أحضره ولاطفه واعتذر إليه وقال له : فهل وليتُ حسناً أو حسيناً أو أحداً من ولد جعفر أخي أو عقيلاً أو واحداً من ولده ، وإنّما وليت ولد عمي العباس لأنّي سمعت العباس يطلب من رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الإمارة مراراً فقال له رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : ياعم إنّ الإمارة إن طلبتها وُكلتَ إليها ، وإن طلبتك اُعنتَ عليها ، ورأيت بنيه في أيام عمر وعثمان يجدون في أنفسهم إن ولّي غيرهم من أبناء الطلقاء ولم يول أحداً منهم ، فأحببت أن أصل رحمهم وأزيل ما كان في أنفسهم ، وبعد

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

وهكذا نلاحظ كثيراً من الأدلة القرآنية التي تؤيد هذا الأمر. إذن ما ذهب إليه الإمامية صحيح ، لا يخالف القرآن كما إدعاه البعض.

وبعد هذا البيان والدراسة في بحث (الغيب) ، ندخل في دراسة القصة الغيبية.

ب ـ أقسام القصة الغيبية :

سبق أن قلنا أنّ هذا النوع من القصص تعد أحداثها بتفاصيلها مصدرها الوحي ، فهذه القصص من قبيل الغيب الذي كشفه الله عَزّ وجَلّ لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم ، وهي غيب سواء أكانت في الماضي أو المستقبل ، فعلى هذا يمكن تقسيم القصة الغيبية إلى ما يلي :

الأول ـ قصص الماضي :

يحتوي القرآن الكريم على كثير من علوم الغيب ، خصوصاً ما جرى على الأمم الماضية ، فعلى سبيل المثال ما جاء في قصة يوسف عليه السلام مع اخوته حيث أوحى الله سبحانه إلى يوسف في قوله تعالى :( لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَـٰذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ) [يوسف / ١٥]. ففي الآية غيب موحى إلى يوسف ، وكذلك غيب موحى إلى نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم بإخبار الوحي له بما حصل ليوسف عليه السلام وأكّد على ذلك في قوله تعالى :( ذَٰلِكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ ) [يوسف / ١٠٢]. إلى غير ذلك مما ذكره القرآن الكريم من أخبار الأمم الماضية ، فالقرآن ذكر تلك القصص على نحو الإختصار ، ثم جاء الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يوضحها ، فالملاحظ أنّ تلك القصص وما تضمنته من أحداث ليست في متناول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ولم تحدث أمامه ، كما أنّه لم يُنشئها ولم يأخذها عن طريق غيره

١٠١

من المؤرخين ، بل مصدره الوحي ، وأخذ عنه أهل بيته عليهم السلام. «وذكر العلامة الجليل الورع الثقة النبيل ، السيد هاشم البحراني في كتابه (مدينة المعاجز) أكثر من ستمائة رواية في إخبارات الأئمة الإثني عشر صلوات الله عليهم»(١٠٥) .

الثاني ـ قصص المستقبل :

يتناول هذا اللون من القصص أموراً مختلفة كلها تتحدث عن أمور غيبية خاصة تحدث في الواقع ، ولو تأملنا ما ذكر في القرآن الكريم ، وعلى لسان النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم ؛ لأمكن تقسيمه إلى ما يلي :

أولاً ـ أخبار تحققت في حياة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) :

رأى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في المنام ـ وكان ذلك في المدينة المنورة قبل أن يخرج إلى الحديبية ـ أنّ المسلمين دخلوا المسجد الحرام ، فأخبر بذلك أصحابه ففرحوا وحسبوا أنّهم داخلوا مكة عامهم هذا ، فلما إنصرفوا ولم يدخلوا مكة ؛ قال المنافقون : ما حلقنا ولا قصرنا ولا دخلنا المسجد الحرام. فأنزل الله هذه الآية :( لَّقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَٰلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا ) [الفتح / ٢٧]. وكان بين نزول الآية والدخول مدة سنة. وكان عام سبع للهجرة وتَمّ الفتح القريب من دونه ـ وهو صلح الحديبية ـ ، الذي كان مقدمة لفتح مكة سنة ثمان للهجرة.

ثانياً ـ أخبار تحققت بعد حياته :

وهذا ال نوع من القصص منه ما هو مشهور كأخبار آخر الزمان ، المسمى بـ(أحاديث الفتن والملاحم) ، ويندرج تحت هذا النوع كثير من الإخبارات ،

__________________

(١٠٥) ـ النمازي ، الشيخ علي الشاهرودي : مستدرك سفينة البحار ، ج ٨ / ٨٠.

١٠٢

كخبر الدابة التي تخرج للناس في آخر الزمان ، وقد جاء في القرآن الكريم خبرها في قوله تعالى :( وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ ) [النمل / ٨٢]. ومن أراد تفاصيل ذلك ؛ فليراجع كتب التفسير.

كما ورد على لسان النبي صلى الله عليه وآله وسلم عدة إخبارات غيبية ، من أهمها ما يحل على أهل بيته عليهم السلام كإخباره بمقتل سبطه الحسين عليه السلام في كربلاء ، وقد ذكر منها ابن الأثير في ترجمة أنس بن الحارث حيث قال : «روى حديثه أشعث بن سحيم ، عن أبيه عن أنّه سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول : (إنّ ابني هذا يقتل بأرض من أرض ال عراق ، فمن أدركه فلينصره) ، فقتل مع الحسين عليه السلام»(١٠٦) .

وأيضاً إخباره عن الإمام المهدي عليه السالم ، وقد ذكرها علماء المسلمين ، لا ينكر ذلك إلا مكابر لا قيمة لرأيه.

ثالثاً ـ أخبار البعث والنشور :

لعلّ من أهم القضايا التي واجه بها نبينا الأعظم عليه السلام مشركي قريش قضية البعث والنشور ، فقد أنكر المشركون هذا الأمر باصرار عنيف ، واستغربوا من ذلك أشد الإستغراب ، وقد سجل القرآن الكريم هذا الإنكار في أكثر من آية ، منها ما يلي :

قوله تعالى :( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَىٰ رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ * أَفْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَم بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ ) [سبأ / ٧ ـ ٨].

__________________

(١٠٦) ـ ابن الاثير ، علي بن محمد : أسد الغابة ، ج ١ / ١٢٣.

١٠٣

وقوله تعالى :( وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَٰلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ ) [الجاثية / ٢٤].

وقوله تعالى :( أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ *أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ *قُلْ نَعَمْ وَأَنتُمْ دَاخِرُونَ *فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ ) [الصافات / ١٦ ـ ١٩].

وإزاء هذا الإنكار لهذه القضية ، إستخدم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم القصة في عرض البعث واليوم الآخر ، وأكّد على ذلك بأن نَزّل المستقبل منزلة الحار ، فهذه القصص في الوقت الذي تحمل الرد على المنكرين ، فإنّها تُؤكِّد الإيمان بالبعث والنشور ، كما أنّ هناك عاملاً جوهرياً يضاف إلى وجود هذا النوع من قصص العالم الآخر ، ووراء كثرته وتكراره أنّ ذلك العالم هو محل العقاب والثواب ، وقضية العقاب والثواب أساسية يتمد عليها منهج التربية في الشريعة الإسلامية ، من أجل قيام الإنسان المسلم على مبادئ دينه والإلتزام بها ، حيث سيظل وازع الإحساس بالمسؤولية ، ـ عما يقول أو يفعل ـ مائلاً أمامه من خلال تصوره لحياة أخرى يؤمن بأنّه سيجازي فيها على سلوكه ، على الخير بالخير في الجنة والنعيم ، وعلى الشر بالشر في النار والعذاب ، كما في قوله تعالى :( فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ *وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ) [الزلزلة / ٧ ـ ٨].

١٠٤

٣ ـ القصة الخيالية

أ ـ الخرافية

ب ـ التمثيلية

ج ـ الخيال العلمي

١٠٥
١٠٦

٢ ـ القصة الخيالية :

هي حكايات يبتدعها خيال المؤلف ، قد تكون نثراً أو نظماً ، والروايات والقصص القصيرة ، هي من أشهر أشكال قصص الخيال رواجاً ، وسمات هذه القصص أنّها تحتوي على عناصر خيالية ، إما كلياً أو جزئياً ، وهذه العناصر تشمل الشخصيات والأوضاع المحيطة ، وفي بعض قصص الخيال تكون العناصر الخيالية واضحة ـ أي بعيدة عن الواقع ـ مثل القصة الإطارية ، وهي قصة تروي في إطارها مجموعة من الحكايات ، ومن أحسن الأمثلة عليها قصة شَهْرَيَار الملك وشَهْرَزَاد في كتاب (ألف ليلة وليلة) ، ومع ذلك ليس من الضروري أن تختلف كثيراً عن الواقع ؛ إذ أنّ كثيراً من نماذج قصص الخيال تمثل شخصيات قريبة من الواقع ، وتصف أوضاعاً واقعية ، وبعض القصص ترتكز على شخصيات وحوادث حقيقية ، وتدمج عادة العناصر الواقعية في قصص الخيال مع الأوضاع والشخصيات والحوادث الخيالية ، والغرض الرئيس لمعظم قصص الخيال هو التسلية ، إلا أنّ هناك بعض الأعمال الجادة من قصص الخيال التي تحفز العقل وتدعو إلى التفكير عن طريق إيجاد الشخصيات ، ووضعها في مواقف محددة ، وتأسيس وجهات النظر ، ويقوم مؤلفو قصص الخيال الجادة بتوضيح الأحكام المميزة بين الأشياء ، وهذه الأحكام تتناول المسائل الأخلاقية والفلسفية والنفسية والإجتماعية ، ولعلّ أهم ما يمكن دراسته من أقسامها هي التالي :

أ ـ الخرافية :

الخُرافَة : «الحديث المستملح من الكذب. وقالوا : حديث خرافة ، ذكر إبن الكلبي في قولهم حديث خرافة أنّ خرافة من بني عُذْرَة أو من جُهَيْنَة ، إختطفته الجن ، ثم رجع إلى قومه فكان يُحدث بأحاديث مما رأى يعجب منها

١٠٧

الناس ، فكذبوه فجرى على ألسن الناس»(١٠٧) . وعُرِّفت الخرافة أيضاً بـ«معتقد لا عقلاني أو ممارسة لا عقلانية. والخرافات قد تكون دينية ، وقد تكون ثقافية أو إجتماعية. فمن الخرافات الدينية إيمان بعض المشلولين أو المقعدين ، بقدرة قديس بعينه أو قديسة بعينها على شفائهم.

ومن الخرافات الثقافية أو الإجتماعية ، إيمان كثير من الناس بأنّ الخرزة الزرقاء تدفع الشر ، وبأنّ نعل الفرس مجلبة للخير»(١٠٨) وبعد هذا التعريف فالحكاية الخرافية : «قصة أو حكاية خيالية قصيرة ذات مغزى في معظم الحكايات الخرافية ، يمثل واحد أو أكثر من الشخصيات حيواناً أو نباتاً أو شيئاً يتكلم ويتصرف كمخلوق بشري ، ويمكن أن نُقص الحكاية الخرافية نثراً أو شعراً ، وفي عديد من الحكايات يمكن تلخيص المراد من القصة ، أو مغزاها في النهاية على شكل مثل شعبي»(١٠٩) .

وهذا النوع من القصة الخيالية لا قيمة له على المستوى الديني ، لا في القرآن الكريم ، ولا في السنة النبوية.

ب ـ التمثيلية :

لست بصدد دراسة القصة التمثيلية من جميع جوانبها ، وإنّما الهدف هو التعريف بها من بعض جوانبها ، في القرآن الكريم والسنة النبوية ، والذي يهمنا بحثه هو التالي :

__________________

(١٠٧) ـ ابن منظور ، محمد بن مكرم : لسان العرب ، ج ٩ / ٦٥ ـ ٦٦.

(١٠٨) ـ البعلبكي ، منير : موسوعة المورد العربية ، ج ١ / ٤٦١.

(١٠٩) ـ الموسوعة العربية العالمية ، ج ٩ / ٤٨١.

١٠٨

١ ـ التعريف بالمثل :

يطلق المثل على معانٍ ثلاثة ، هي كالتالي :

الأول ـ المثل السائر :

هو كلمة موجزة قيلت في مناسبة تناقلتها الأجيال بدون تبديل ، كقوله صلى الله عليه وآله وسلم : (إنّ من البيان لسحرا)(١١٠) ، قال الميداني : «يعني أنّ بعض البيان يعمل عمل السحر ، ومعنى السحر : إظهار الباطل في صورة الحق ، والبيان : إجتماع الفصاحة والبلاغة ، وذكاء القلب مع اللسَنِ ، وإنما شُبّه بالسحر ، لحدّة عمله في سامعه وسرعة قبول القلب له. يضرب في إستحسان المنطق ، وإيراد الحجة البالغة»(١١١) . والهدف منه مقصور على التطبيق.

الثاني ـ المثل القياسي :

ويقصد به البيانيون متشكل من أي وصف أو قصة أو تصوير رائع لتوضيح فكرة ، عن طريق تشبيه يسميه البلاغيون (التمثيل المركب) لتقريب أمر معقول من محسوس يجمع بذلك بين عمق الفكرة ، وجمال التصوير ولم يقصر على سماع أو نقل ، والإهتمام بصياغة الفكر فيه أكثر من إقتباس مثل سائر ، وحاصل القياسي : هو ما يخلقه المتمثل لغرض ينشده ، ومن نماذجه في القرآن الكريم ، قوله تعالى :( وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ) [النحل / ١١٢]. فالآية فيها إستعارة تمثيلية ؛ حيث أخذ اللباس في الجوع والخوف الدال على إستعمالها لمن

__________________

(١١٠) ـ الميداني ، احمد بن محمد النيسابوري : مجمع الأمثال ، ج ١ / ٧.

(١١١) ـ نفس المصدر.

١٠٩

كفر بأنعم الله تعالى ـ الأمن والصحة والكفاية في الرزق وغيرها من النعم التي لا تحصى ـ ، ولو إكتفى بالإذاقة لفات ذلك. وفي الأمثال النبوية قوله صلى الله عليه وآله وسلم : (أيها الناس إياكم وخضراء من الدِمَن. قيل يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : وما خضراء الدمن؟ قال : المرأة الحسناء في منبت السوء)(١١٢) .

قال الشريف الرضي : «... أنّه عليه الصلاة والسلام نهى عن نكاح المرأة على ظاهر الحسن ـ وهي منبت السوء ، أو في البيت السوء ـ ، فوجه المجاز في هذا القول ، أنّه عليه الصلاة والسلام ، شَبّه المرأة الحسناء بالروضة الخضرة لجمال ظاهرها ، وشبّه منبتها السوء بالدِمْنَة لقباحته ، والدِمْنَة هي : الأبعار المتجمعة تركبها السوافي ، ويعلوها الهابي ، فإذا أصابها المطر أنبتت نباتاً خضراء يروق منظره ويسوء مخبره ، فنهى عليه الصلاة والسلام عن نكاح المرأة إذا كانت مغموضة في نفسها ، أو مطعوناً عليها في نسبها ، لأنّ أعراق السوء تنزع إلى ولدها ، وتضرب في نسلها ، قال الشاعر :

وأدركنه خالاته فخذلنه

ألا إنّ عِرق السوء لا بدّ مدرك(١١٣)

وفي السيرة الحسينية ما جاء في خطبته في مكة المكرمة : «خُطّ الموت على ولد آدم مخط القلادة على جيد الفتاة ، وما أولهني إلى أسلافي إشتياق يعقوب إلى يوسف ، وخِيرَ لي مصرع أنا لاقيه ، فكأنّي بأوصالي تُقطعها عُسْلَان الفَلوات بين النَوَاوِيس وكربلا ، فيملأن مني أكراشاً جُوفَاً ، وأجْرُبَة سُغُبَاً»(١١٤) .

__________________

(١١٢) ـ الغروي ، الشيخ محمد : الأمثال النبوية ، ج ١ / ٢٧٢.

(١١٣) ـ الشريف الرضي ، محمد بن الحسين : المجازات النبوية / ٦٠ ـ ٦١.

(١١٤) ـ السماوي ، الشيخ محمد طاهر : إبصار العين في أنصار الحسين / ٦.

١١٠

إنّ بلاغة هذه الخطبة وعُلو مضمونها ، يوجب لنا الإطمئنان بصدورها عن سيد الشهداء عليه السلام ، كما أنّها على وجازتها تضمنت نهج الحسين عليه السلام وهدفه ، ونهايته ووصف مصرعه ومكانه ، والذي يهمنا بحثه ـ هنا ـ بيان بعض أوجهها البلاغية ، المتمثلة فيما يلي :

أولاً ـ عَبّر الحسين عليه السلام عن الموت الذي هو طبيعي للبشر بأنّه : (خط مخط القِلادة على جِيدْ الفَتاة). وهذا التعبير براعة إستهلال عجيبة المعنى ؛ حيث أنّ مخط القلادة يراد منه شيئين :

أ ـ إسم مكان : وهو موضع خط القلادة ـ وهي الجلد المستدير من الجيد ـ ، فكما أنّ ذلك الجلد لازم على الرقبة ، كذلك الموت على ولد آدم.

ب ـ إسم مصدر : والمراد به نفس الخط ، فيكون معنى ذلك : أنّ الموت دائرة لا يخرج ابن آدم عن وسطها ، كما أنّ القلادة دائرة لا يخرج الجيد منها حال تقليده. فإذا كان الموت لابد منه ؛ فليختر الإنسان أفضل ميتة ، وأعظمها شرفاً ونفعاً ، وإن أدّت إلى تقطيع أوصاله.

ثانياً ـ إختيار الحسين عليه السلام لنفسه الموتة الكريمة ، التي هي مرتبطة بأمر السماء التي تتم فيها شهادة الحسين وسعادته ، وسعادة من سار على نهجه ، لقد قضي الأمر وتمت الخيرة ، وكيفية القتلة ومكانها وعَبّر عن ذلك بقوله : (وخِير لي مصرع أنا لاقيه ، كأنّي بأوصالي تُقَطّعها عُسْلَان الفَلوات ، بين النَواوِيس وكربلاء).

فعسلان الفلوات : هي الذئاب ، ولعلّ الحسين عليه السلام يعني بها ـ مجازاً ـ الوحوش البشرية من أعدائه التي وَزّعت جسده الطاهر ، وتركته بالعراء وسلبته ووطأته بالخيول ، ثم تركته بلا مواراة ثلاثة أيام ، وقد عَبّر عن وحشيتهم بقوله

١١١

(فيملأن مني أكراشاً جُوْفَاً ـ أي واسعة ـ ، وأجربة سُغُباً ـ أي البطون الجائعة ـ ، وهذا تعبير عن شدتها وكثرة أكلها من دون محام ولا دافع عن الأعضاء المقطعة ، ويُؤَيّد هذا المعنى ما قاله لأصحابه لما نزل بَطْن العَقَبة : «ما أراني إلا مقتولاً ، فإنّي رأيت في المنام كلاباً تنهشني ، وأشدّها عليّ كلب أبقع»(١١٥) . أراد الحسين عليه السلام أن يُبيّن للمسلمين من خلال خطبته ، تلك الجريمة النكراء التي إقترفها الأمويون في حق البيت النبوي الطاهر ، ومدى اللثم والخسة في نفوس أعدائه ، حيث إمتدت تلك الجريمة ـ بعد تقطيع الحسين عليه السلام بالسيوف ، ووطئ جثته بالخيول ـ لتدخل الرعب والهلع في نفوس النساء والأطفال ، وتُعَرِّضَهم للعطش والحرق والسحق والأسر وضرب السياط ، وبهذا أراد الحسين عليه السلام أن يسجل على صفحات التاريخ ، صوراً من البطش والهمجية التي لا يرتكبها إلا الذئاب المفترسة والوحوش الضارية.

الثالث ـ مطلق ما يسمى بالمثل :

سواء فيه المثل السائر ، والقياسي والفرضي المعروف بالخياليات التي صنعت للإعتبار والموعظة ، كفرضيات كتاب (كليلة ودمنة) ، وكل وصف به نوع غرابة أو إعجاب زائد ، كقوله تعالى :( مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ .) [محمد / ١٥]. المستفاد من كلمات اللغويين أنّ المثل بمعنى التمثيل والتنظير ، وسمي المثل مثلاً لأنّه ماثل بخاطر الإنسان ؛ أي شاخص به. يقول الجوهري : «ومثلت له كذا تمثلاً إذا صَوّرت له مثاله

__________________

(١١٥) ـ المقرّم ، السيد عبد الرزاق الموسوي : مقتل الحسين / ١٨١.

١١٢

بالكتابة وغيرها»(١١٦) . فكأنّ مراد الجوهري الصورة بالكتابة والتمثال بخير الكتابة ؛ لأنّ غير الكتابة إما يكون وصفاً ؛ فهو أمر تخييلي محض ، وإما أن يكون عملاً يدوياً محسوساً فهو التمثال. فيكون الغاية من سوق المثل والتنظير له إقامة الحجة أو إظهار آية دالة على شيء ما. فالأسلوب في الآية عرضها مثول وانتصاب لحقيقتها أمام الناظر. ومن هذا الباب ما جاء عن الحسين عليه السلام في اليوم العاشر من المحرم ، حينما إستدعى ابن سعد ومَثّل له نهايته ، حيث قال له : «أي عمر ، أتزعم أنك تقتلني ويوليك الدّعي بلاد الرّي وجُورجَان ، والله لا تهنأ بذلك ، عهد معهود فاصنع ما أنت صانع ، فإنّك لا تفرح بعدي بدنيا ولا آخرة ، وكأنّي برأسك على قصبة يتراماه الصبيان بالكوفة ، ويتخذونه غرضاً بينهم ، فصرف بوجهه عنه مغضباً»(١١٧) .

وعند خروج الأكبر عليه السلام إلى الميدان ؛ صاح بعمر بن سعد : «مالك؟! قطع الله رحمك كما قطعت رحمي ، ولم تحفظ قرابتي من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسَلّط عليك من يذبحك على فراشك»(١١٨) .

٢ ـ أهمية المثل :

للمثل أهمية كبرى يمكن تلخيصها فيما يلي :

١ ـ إنّ أهمية الأمثال بيانية ، حيث لم يكن في كلام العرب أوجز منها ، ولا أشد إختصاراً. قال إبراهيم النظام : «إجتمع في المثل أربعة لا تجتمع في

__________________

(١١٦) ـ الجوهري ، إسماعيل بن حَمّاد : تاج اللغة وصحاح العربية ، ج ٥ / ١٨١٦.

(١١٧) ـ المقرّم ، عبد الرزاق : مقتل الحسين / ٢٣٥.

(١١٨) ـ نفس المصدر / ٢٥٧.

١١٣

غيره من الكلام : إيجاز اللفظ ، وإصابة المعنى ، وحسن التشبيه ، وجودة الكناية ، فهو نهاية البلاغة»(١١٩) .

٢ ـ إنّ المقصود من ضرب الأمثال ، أنّها تؤثر في القلوب ما لا يؤثره وصف الشيء في نفسه ؛ وذلك لأنّ الغرض في المثل أن تنفعل به النفوس ، وتؤمن به القلوب ، فإن كان مدحاً ؛ كان أبهى وأفخم وأنبل في النفوس ، وأعظم وأهز للعطف ، وأسرع للإلف ، وأذكر وأيسر على الألسن ، وأولى بأن تعتلقه القلوب وأجدر. وإن كان ذماً ؛ كان مَسّه أوجع ، ووقعه أشدّ ، وحَدّه أحد. ومن هذا ما ورد في الخطب الحسينية في الطريق وفي كربلاء. وكذلك ما ورد عن أهل بيته عليهم السلام أثناء الخطب في الكوفة ، ويمكن التركيز منها على ما يلي :

المثل في خطب الإمام الحسين (عليه السلام) :

قال عليه السلام لابن عباس : «والله لا يدعوني حتى يستخرجوا هذه العَلَقَة من جوفي ، فإذا فعلوا ذلك ؛ سَلّط الله عليهم من يذبهم ، حتى يكونوا أذلّ من فِرَام المرأة»(١٢٠) .

وقال أثناء طريقه إلى الكوفة : «إنّ هؤلاء أخافوني ـ وهذه كتب أهل الكوفة ـ وهم قاتليَّ ، فإذا فعلوا ذلك ولم يدعوا الله محرماً إلا انتهكوه ؛ بعث

__________________

(١١٩) ـ الغروي ، الشيخ محمد : الأمثال النبوية ، ج ١ / ١٠.

(١٢٠) ـ المقرّم ، السيد عبد الرزاق : مقتل الحسين / ٢٣٤.

١١٤

الله إليهم من يقتلهم ، وحتى يكونوا أذلّ من فِرَام الأمّة»(١٢١) . وخاطب الأعداء يوم عاشوراء بقوله : (يا عَبيد الأمّة)(١٢٢) تحقيراً لهم.

إيضاح أهم مفردات المثل الحسيني :

الفِرَام : ورد في كتب اللغة أنّ (الفِرَام) : دواء تُضيِّق به المرأة المسلك ، أو حب الزبيب تحتشى به لذلك ، وكانت في أحراح ثقيف سعة يتضيقن بعجم الزبيب. والفرامة : هي الخرقة تحتشي بها المرأة عند الحيض كالفِرَام ، وفيها يقول الشاعر :

وجَدْتُك فيها كأمِّ الغلام

متى ما تَجِدْ فَارِما تَفْترِم(١٢٣)

وأيضاً قال في (بَطْن العَقَبة) : «إنّهم لن يدعوني حتى يستخرجوا هذه العلقة من جَوفي ، فإذا فعلوا ذلك ؛ سَلّط الله عليهم من يذلهم ، حتى يكونوا أذلّ فرق الأمم»(١٢٤) .

وقال في (الرُهَيَمة) : «وطلبوا دمي فهربت ، وأيم الله ليقتلوني فيلبسهم الله ذِلّاً شاملاً ، وسيفاً قاطعاً ، ويسلط عليهم من يذلهم ، حتى يكونوا أذلّ من قوم سَبأ ؛ إذ ملكتهم إمرأة فحكمت في أموالهم ودمائهم»(١٢٥) . هذه بعض الأمثال الحسينية الواردة في خطبه عليه السلام.

__________________

(١٢١) ـ المصدر السابق / ١٧٥.

(١٢٢) ـ نفس املصدر / ١٦٨.

(١٢٣) ـ ابن منظور ، محمد بن مكرم : لسان العرب ، ج ١٢ / ٤٥١ ـ ٤٥٢.

(١٢٤) ـ المقرم ، السيد عبد الرزاق : مقتل الحسين / ١٨١.

(١٢٥) ـ نفس المصدر / ١٨٥.

١١٥

وإن كان وعظاً ؛ كان أشفى للصدر ، وأدعى للفكر ، وأبلغ في التنبيه والزجر ، ويبصر الغاية.

المثل في خطبة السيدة زينب (عليها السلام) في الكوفة :

ومما ورد في الخطبة الزينبية التي خطبتها في الكوفة ـ من الأمثال ما يلي : «الحمد لله ، والصلاة على أبي محمد وآله الطيبين الأخيار ، أما بعد يا أهل الكوفة ، يا أهل الخَتَل والغَدْر ، أتبكون؟! فلا رقأت الدمعة ، ولا هدأت الرنّه ، إنما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً ، تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم»(١٢٦) . تشير أم المصائب زينب عليها السلام إلى قوله تعالى :( وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَىٰ مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ) [النحل / ٩٢].

وبعد مراجعة كتب المفسرين حول هذه الآية ؛ نخرج بالنتيجة التالية :

أولاً ـ هذا مثل قرآني يشير إلى المرأة التي غزلت ثم نقضت غزلها من بعد إمرار وفَتلٍ للغزل ؛ وهي إمرأة حمقاء من قريش ، واسمها رَيطَة بنت عمرو ، بن كعب ، بن سعد ، بن تميم ، بن مُرّة ، وكانت تسمى خَرْقَاء مكة ، كانت تغزل مع جواريها إلى إنتصاف النهار ، ثم تأمرهن أن ينقضن ما غزلن ، ولا يزال ذلك دأبها.

ثانياً ـ هذا نهي من الله للمكلفين أن يتصفوا بالصفات المذكورة في الآية ، المندرجة تحت الألفاظ التالية :

__________________

(١٢٦) ـ المصدر السابق / ٣١١.

١١٦

١ ـ أنْكَاثاً : جمع نِكْث ، وكل شيء نقض بعد الفتل ؛ فهو أنكاث حبلاً كان أو غزلاً.

٢ ـ دَخَلاً : الدَخَل ، ما أدخل في الشيء على فساد ، فالمراد بالدخل وسيلته ، من تسمية السبب باسم المسبب ؛ أي وسيلة للغدر والخدعة والخيانة ؛ تطيبون بها نفوس الناس ثم تخونون وتدعونهم بنقضها. ومعنى ذلك : أنكم كمثلها ، إذا تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم فتؤدونها وتعقدونها ، ثم تخونون وتخدعون بنقضها ونكثلها ، والله ينهاكم عنه.

٣ ـ أرْبَى : أي أكثر عدداً ومنه أربا فلان للزيادة التي يزيدها على غريمة في رأس ماله. ومعنى ذلك لا ينقضوا العهد بسبب أن يكون قوم أكثر من قوم ؛ أي لا تنقضوا عهدكم ، متخذيها دغلاً وغدراً وخديعة ، لمداراتكم قوماً هم أكثر عدداً ممن عاهدتم له ، بل عليكم الوفاء والحفظ لما عاهدتم عليه. فالسيدة زينب عليها السلام تذكرهم وتوبخهم بالعهد والبيعة لسيد الشهداء عليه السلام التي نقضوها ، وشبهتهم بالمرأة التي نقضت غزلها من بعد قوة ، إلى أن قالت : «ألا وهل فيكم إلا الصَلَف النَطَف ، والعجب والكذب والشَنِف ، ومَلِق الإماء ؛ وغَمَز الأعداء؟!» وفي هذا المقطع عَبّرت عنهم بألفاظ تعيبهم وتكشفهم بها توبيخاً لهم (فالصَلَف) : الذي يمتدح بما ليس عنده. وفي حديث المؤمن : (لا عنف ولا صَلَف) ، يقال : سحاب صلف ، إذ كان قليل الماء ، كثير الرعد ، وفي المثل (رُبّ صَلَف تحت الرَاعِدَة) يضرب للرجل يتوعد ثم لا يقوم فيه»(١٢٧) .

__________________

(١٢٧) ـ الطريحي ، الشيخ فخر الدين : مجمع البحرين ، ج ٥ / ٨٢.

١١٧

(والنَطَفَ) : «القذف بالفجور ، أو الفساد ، أو الشر»(١٢٨) .

(والشنف) : المبغض(١٢٩) .

(ومَلِق الإماء) :

«المَلأِق : الضعيف. أو التودد والتذلل ، وإبداء ما باللسان من الإكرام والودّ ما ليس في القلب»(١٣٠) .

(وغَمَز الأعداء) :

«الغَمَز : الضعف والميل والعيب»(١٣١) ؛ أي أنتم ضعاف في عقولكم وعملكم بحيث إستزِهدكم الأعداء ، وسخروا بكم بإطاعتكم لهم. إلى أن قالت : «أو كَمَرْعَى على دِمّنَة ، أو كقَصّةٍ على مَلْحُودَة».

(الدِمنَة) :

«هي ما تُدمّنُه الإبل والغنم بأبوالها وأبعارها ؛ أي تلبّده في مرابضها ؛ فربما نبت الحسن النضير. ومنه الحديث : (فينبتون نبات الدِّمن في السيل) ، هكذا جاء في رواية بكسر الدال وسيكون يرعى البعير ؛ لسرعة ما ينبت فيه»(١٣٢) .

وقيل الدِّمنة : هي المنزل الذي ينزل فيه أخيار العرب وتحصل فيه بسبب نزولهم تغيّر في الأرض بسبب الأحداث الواقعة منهم ومن مواشيهم ، فإذا أمطرت أنبتت نبتاً حسناً شديد الخضرة والطراوة ؛ لكنّه مرعى وَبِيء للإبل

__________________

(١٢٨) ـ لويس ، معلوف : المنجد في اللغة / ٨١٦.

(١٢٩) ـ نفس المصدر / ٤٠٤.

(١٣٠) ـ نفس المصدر / ٧٧٤.

(١٣١) ـ نفس المصدر / ٥٥٩.

(١٣٢) ـ ابن الأثير ، المبارك بن محمد الجزري : نهاية في غريب الحديث ، ج ٢ / ١٣٤.

١١٨

مُضرّبها)(١٣٣) . ومن هذا ، ما ورد في الحديث النبوي (.. إياكم وخَضْرَاء الدِّمن ، وقيل يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : وما خضراء الدِّمن؟ قال : المرأة الحسناء في منبت السوء)(١٣٤) .

قال الشريف الرضي (ره) : «والقول الآخر : أن يكون عليه الصلاة والسلام ؛ إنّما نهى في الحقيقة عن تغارض النفاق وتعاير الأخلاق ، وأن يتلقى الرجل أخاه بالظاهر الجميل ، وينطوي عن الباطن الدميم ، أو يخدعه بحلاوة اللسان ، ومن خلفها مرارة الجنان ، وإلى هذا المعنى ذهب الشاعر في قوله :

وقد يَنْبُتُ المرْعَى على دِمَنِ الثّرَى

وتَبْقَى حَزَازَاتُ النفوس كما هِيَا

كأنه أراد ، إنا وإن لقيناكم بظاهر الطلاقة والبشر ، فإنّا نضمر لكم على باطن الغش والغمز ، ومثل هذا قول الآخر :

وفِينَا وإن قِيلَ إصْظَلحْنَا تَضَاغُنٌ

كما طرّ أوبارُ الجِرَابِ على النّشْرِ

وقال أهل العربية : النشر أن ينبت وبر البعير وتحته داء العرّ ؛ وهو الجرب فيرى كأن ظاهره سليم وباطنه سقيم»(١٣٥) ، وبعد هذا الإيضاح يظهر لنا مغزى ما يستفاد من كلام السيدة زينب عليها السلام ، حيث أنّ الغرض هو التعريف بأن الدِّمنَة وإن زها ظاهرها بالنبت ، إلا أنّه لا يفيد الحيوان قوة ؛ لأنّها مجمع الأوساخ والكشافات السامة القاتلة ، فنتاج الدِّمنة لا يكون طيباً ، وأهل الكوفة وإن زها

__________________

(١٣٣) ـ الطريحي ، الشيخ فخر الدين : مجمع البحرين ، ج ٦ / ٢٤٨.

(١٣٤) ـ الحر العاملي ، الشيخ محمد بن الحسن : وسائل الشيعة ، ج ٢٠ / ٣٥ (الباب ٧ من أبواب مقدمات النكاح ـ الحديث ٧).

(١٣٥) ـ الشريف الرضي ، محمد بن ابي احمد الحسين : المجازات النبوية / ٦١.

١١٩

ظاهرهم بالإسلام ؛ إلا أنّ الصدور إنطوت على قلوب مظلمة لا يصدر منها إلا بما يقوم به أهل الجاهلية والإلحاد»(١٣٦) .

(أو كقَصّةٍ على مَلْحُودة) :

«القَصّةُ والقِصّة والقَصُّ ، الجَصّ : لغة حجازية. وقيل : الحجارة من الجَصّ ، وقد قصّصَ داره ، أي جصّصَها. ومدينة مُقصّصَة : مطلية بالقصّ ، وكذلك قبر مُقصّصٌ ، والتقصيص : هو التجصيص ، وذلك أنّ الجَصّ يقال له ، القَصّة. يقال : قصصت البيت وغيره ؛ أي جصّصته. وفي حديث زينب (يا قَصّةٌ عُلى مَلحُودَةٍ) ؛ شبهت أجسادهم بالقبور المتخذة من الجصّ ، وأنفسهم بجيف الموتى التي تشتمل عليها القبور»(١٣٧) .

قال السيد المقرّم (ره) : «والذي أراه ، أنّ النكتة في هذه الإستعارة ، أنّ القصّة بلغة الحجاز الجصّ ، والملحودة ؛ القبر لكونه ذا لحد ، فكان القبر يتزين ظاهره ببياض الجصّ ، ولكن داخله جيفة قذرة ، وأهل الكوفة وإن تزين ظاهرهم بالإسلام ، إلا أنّ قلوبهم كجيف الموتى ؛ بسبب قيامهم بأعمال الجاهلية الوخيمة العاقبة من الغدر وعدم الثبات على المبادئ الصحيحة ؛ وقد إنفردت (متتمة الدعوة الحسينية) بهذه النكات البديعة ، التي لم بسبقها مهرة البلغاء إليها»(١٣٨) .

إلى أن قالت عليها السلام : (ولقد أتيتم بها خَرْقَاء ، شَوْهَاء كِطلَاعِ الأرض ، ومِلء السماء).

__________________

(١٣٦) ـ المقرم ، السيد عبد الرزاق : مقتل الحسين / ٣١١ (بتصرف).

(١٣٧) ـ ابن منظور ، محمد بن مكرم : لسان العرب ، ج ٧ / ٧٦ ـ ٧٧.

(١٣٨) ـ المقرم ، السيد عبد الرزاق : مقتل الحسين / ٣١٢.

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381