موسوعة عبد الله بن عبّاس الجزء ٤

موسوعة عبد الله بن عبّاس0%

موسوعة عبد الله بن عبّاس مؤلف:
تصنيف: متون حديثية
الصفحات: 381

موسوعة عبد الله بن عبّاس

مؤلف: السيد حسن الموسوي الخرسان
تصنيف:

الصفحات: 381
المشاهدات: 67358
تحميل: 4444


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 381 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 67358 / تحميل: 4444
الحجم الحجم الحجم
موسوعة عبد الله بن عبّاس

موسوعة عبد الله بن عبّاس الجزء 4

مؤلف:
العربية

فقال الأشعث : والله لأن يحكما ببعض ما نكره وأحدهما من اليمن أحبّ الينا من أن يكون ما نحب وهما مضريان.

فقال عليّ (رضي الله عنه) : وقد أبيتم إلاّ أبا موسى؟

قالوا : نعم.

قال : فاصنعوا ما أردتم ، اللّهمّ إنّي أبرأ اليك من صنيعهم »(1) .

وفي مناقب ابن شهر اشوب : « قال الأعمش : حدّثني من رأى عليّاً (عليه السلام) يوم صفين يصفق بيديه ويقول : يا عجباً أعصى ويطاع معاوية؟ وقال : قد أبيتم إلاّ أبا موسى قالوا : نعم قال : فاصنعوا ما بدا لكم ، اللّهمّ إنّي أبرأ إليك من صنيعهم »(2) .

3 ـ روى البلاذري عن المدائني بسنده عن علقمة بن قيس قال : « قلت لعليّ : أتقاضي معاوية على أن يحكم حكمان؟

فقال : ما أصنع أنا مضطهد »(3) .

4 ـ روى البلاذري عن المدائني بسنده عن داود بن الحصين قال : « قيل لابن عباس : ما دعا عليّاً إلى الحكمين؟

فقال : انّ أهل العراق ملّوا السيف ، وجزعوا منه جزعاً لم يجزعه أهل الشام ، واختلفوا بينهم ، فخاف عليّ لمّا رأى من وهنهم أن ينكشفوا منه ويتفرّقوا عنه ، فمال إلى القضية مع انّه أخذ بكتاب الله حين أمر بالحكمين في الصيد والشقاق ، ولو كان معه من يصبر على السيف لكان الفتح قريباً »(4) .

____________

(1) الفتوح 4 / 1 ـ 4.

(2) مناقب ابن شهر آشوب 2 / 365 ط الحيدرية.

(3) أنساب الأشراف (ترجمة الإمام) 2 / 337.

(4) نفس المصدر 2 / 337.

١٤١

وإلى هنا فقد لاحظنا اتفاق المؤرخين الأوائل لحديث مأساة التحكيم على الدور الفاعل والمؤثر للأشعث بن قيس ونشاطه المحموم هو والقرّاء معه في ترجيح كفّة معاوية على كفّة عليّ ، بدءاً من رفع المصاحف وانتهاءً بسكوت الإمام على مضض لما يريدون ، حتى أنّ بعض المؤرخين نمّ على نفسه في حديثه عن تلك المأساة باقتضابه بعد حديثهما.

ولقد مرت بنا كلمة اليعقوبي : « فتنازع الأشتر والأشعث في هذا كلاماً عظيماً حتى كاد أن يكون الحرب بينهم ».

ومرّ بنا قول المسعودي : « وجرى له ـ للإمام ـ مع القوم خطب طويل قد أتينا ببعضه ».

فيا ترى ما ذلك الخطب الطويل؟ ولماذا كتمه المسعودي؟

ومهما يكن فإنّ الإمام ـ كما مرّ ـ كان مضطهداً ، وكما قال ابن عباس : « فخاف أن ينكشفوا منه ويتفرقوا عنه ولو كان معه من يصبر على السيف لكان الفتح قريباً ».

5 ـ قال نصر : « وذكروا أنّ ابن الكوّاء قام إلى عليّ فقال : هذا عبد الله بن قيس وافد أهل اليمن إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ، وصاحب مقاسم أبي بكر ، وعامل عمر ، وقد رضي به القوم ، وعرضنا على القوم عبد الله بن عباس فزعموا أنّه قريب القرابة منك ظَنون في أمرك اهـ »(1) .

ولم يذكر لنا نصر ما ردّ به الإمام على ابن الكوّاء؟ إلاّ أنّه قال : « فبلغ ذلك أهلَ الشام ، فبعث أيمن بن خُريم الأسدي ـ وهو معتزل لمعاوية ـ هذه الأبيات ، وكان هواه أن يكون هذا الأمر لأهل العراق فقال :

____________

(1) وقعة صفين / 575 ط مصر سنة 1365.

١٤٢

لو كان للقوم رأي يعصمون به

من الضَلال رموكم بابن عباس

لله درّ أبيه أيُّماً رجلٍ

ما مثله لفصال الخطب في الناس

لكن رموكم بشيخ من ذوي يمن

لم يدر ما ضرب أخماس لأسداس

إن يخل عمروٌ به يقذفه في لجج

يهوي به النجم تيساً بين أتياس

أبلغ لديك عليّاً غير عائبه

قول امرئ لا يرى بالحق من بأس

ما الأشعري بمأمون أبا حسن

فاعلم هديت وليس العجز كالرأس

فاصدم بصاحبك الأدنى زعيمهم

انّ ابن عمك عباس هو الآسي(1)

قال : فلمّا بلغ الناس قول أيمن طارت أهواء قوم من أولياء عليّ (عليه السلام) وشيعته إلى عبد الله بن عباس وأبت القرّاء إلاّ أبا موسى »(2) .

ومهما قيل من شعر أو نثر في تجدّد الوعي ويقظة الضمير عند البعض من أولياء الإمام وشيعته حتى طارت أهواؤهم إلى ابن عباس ، فإن القرّاء والأشعث ابن قيس أبوا إلاّ أبا موسى الأشعري وهذا الإصرار في تحكيمه هو جزء من المؤامرة الّتي أشار إليها طه حسين كما تقدم.

وإنّها لمحنة الإمام ، وإنّها لمحنة أولياء الإمام ، وكيف لا تكون المحنة ، والأشعث بن قيس ذي السابقة السيئة في الإسلام يملي إرادته بكل صَلَف وتكون له الكلمة النافذة. ويُعصى الإمام وهو الخليفة وأمير المؤمنين ، إنّها لقاصمة الظهر. ولله صبر الإمام ومَن معه على تلك المحنة.

____________

(1) لقد ورد البيتان الأولان في الأخبار الطوال للدينوري / 193 ، ومروج الذهب 2 / 410 ، وكذا في البدء والتاريخ 2 / 221 إلاّ انّه لم يسم القائل ، وفي سمط النجوم العوالي للعصامي المكي 2 / 459 نسب الشعر لخزيمة بن مالك الأسدي.

(2) وقعة صفين / 576.

١٤٣

ولتنوير القارئ بشيء من سابقتي الرجلين الأشعث وأبي موسى نذكرهما بما قيل فيهما بشهادة سادة الصحابة :

أمّا الأشعث فقد كان ذا سابقة سيئة في الإسلام ، فقد أسلم أيام النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ثمّ ارتدّ بعد وفاته ، وألّب قومه حتى ورّطهم الحرب ، ثمّ أسلمهم وأسرع إلى المدينة إلى أبي بكر ليعصم دمه بالتوبة ، ولم يكتف حتى أصهر إلى أبي بكر على اخته أم فروة ، وخمل أيام عمر إلاّ أنّ عثمان في أيامه ولاه اذربيجان ، ولمّا تولى الإمام الخلافة عزله لخيانته ، وقد وصفه (عليه السلام) وصفاً رائعاً ودقيقاً فقال : (أمّا هذا الأعور ـ يعني الأشعث ـ فإنّ الله لم يرفع شرفاً إلاّ حسده ، ولا أظهر فضلاً إلاّ عابه ، وهو يمنّي نفسه ويخدعها ، يخاف ويرجو فهو بينهما لا يثق بواحد منهما ، وقد منّ الله عليه بأن جعله جباناً ، ولو كان شجاعاً لقتله الحقّ)(1) .

قال ابن أبي الحديد : « كلّ فساد كان في خلافة عليّ (عليه السلام) ، وكلّ اضطراب حدث فأصله الأشعث ، ولولا محاقة أمير المؤمنين (عليه السلام) في معنى الحكومة في هذه المرّة لم يكن حرب النهروان ، ولكان أمير المؤمنين (عليه السلام) ينهض بهم إلى معاوية ويملك الشام ، فإنّه صلوات الله عليه حاول أن يسلك معهم مسلك التعريض والمواربة ، وفي المثل النبوي صلوات الله على قائله : الحرب خدعة ، وذاك إنّهم قالوا له تب إلى الله ممّا فعلت كما تبنا ننهض معك إلى حرب أهل الشام ، فقال لهم كلمة مجملة مرسلة يقولها الأنبياء والمعصومون وهي قوله : استغفر الله من كلّ ذنب ، فرضوا بها وعدّوها إجابة لهم إلى سؤالهم ، وصفت له (عليه السلام) نيّاتهم واستخلص بها ضمائرهم من غير أن تتضمن تلك الكلمة اعترافاً

____________

(1) أنظر شرح النهج لابن أبي الحديد 4 / 545 في الحكم المنثورة برقم 478.

١٤٤

بكفر أو ذنب ، فلم يتركه الأشعث وجاء إليه مستفسراً وكاشفاً عن الحال وهاتكاً ستر التورية والكناية ، ومخرجاً لها من مظلة الإجمال وستر الحيلة إلى تفسيرها بما يفسد التدبير ويوغر الصدور إلى المقال »(1) .

وهكذا الدول الّتي تظهر فيها إمارات الانقضاء والزوال يتاح لها أمثال الأشعث من أولى الفساد في الأرض( سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا ) (2) .

أقول : ومن قرأ مثلثات أبي بكر عند موته يجد ندمه على عدم قتله الأشعث يوم أتي به أسيراً. فقد قال : « وأمّا الثلاث الّتي تركتهن فوددت أنّي كنت فعلتهنّ فوددت أنّي يوم أتيت بالأشعث بن قيس أسيراً كنت ضربت عنقه ولم أستحيه ، فإنّه تخيّل إليَّ أنّه لا يرى شرّاً إلاّ أعان عليه »(3) .

فمثل هكذا إنسان حسود وحقود وتافه تكون له الكلمة النافذة ، إنّها لإحدى الكبر!

وأمّا أبو موسى الأشعري فهو أخزى ، فقد كان من المنافقين الذين لعنهم الله ورسوله بشهادة الصحابيين الجليلين عمّار بن ياسر وحذيفة بن اليمان الّذي كان عارفاً بالمنافقين وقد أسرّ إليه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أمرهم وأعلمه أسماءهم.

أمّا شهادة عمّار بن ياسر : فقد أخرج ابن عدي في الكامل وابن عساكر في التاريخ عن أبي نجا حكيم قال : « كنت جالساً مع عمّار فجاء أبو موسى فقال : ما

____________

(1) نفس المصدر 1 / 216 ط مصر (الأولى).

(2) الاحزاب / 62.

(3) راجع تاريخ الطبري 4 / 52 ط الحسينية ، ومروج الذهب 1 / 408 تح ـ محمّد محي الدين ، والإمامة والسياسة لابن قتيبة 1 / 19 ط سنة 328 ، والعقد الفريد 3 / 68.

١٤٥

لي ولك؟ ألستُ أخاك؟ قال : ما أدري ولكن سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يلعنك ليلة الجبل.

قال : انّه استغفر لي. قال عمّار : قد شهدت اللعن فلم أشهد الاستغفار »(1) .

وأمّا شهادة حذيفة : فقد ذكر ابن عبد البر في الاستيعاب في ترجمة أبي موسى قال : « فلمّا قتل عثمان عزله عليّ (عليه السلام) عنها ـ الكوفة ـ فلم يزل واجداً لذلك على عليّ (عليه السلام) حتى جاء منه ما قال حذيفة فيه ، فقد روى حذيفة فيه كلاماً كرهت ذكره والله يغفر له اهـ »(2) ـ قال ابن أبي الحديد بعد نقل ذلك : « قلت : الكلام الّذي أشار إليه أبو عمر ابن عبد البرّ ولم يذكره قوله فيه وقد ذكر عنده بالدين : أمّا أنتم فتقولون ذلك ، وأمّا أنا فأشهد أنّه عدوّ لله ولرسوله وحربٌ لهما في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار. وكان حذيفة عارفاً بالمنافقين أسرّ إليه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أمرهم وأعلمه أسماءهم »(3) .

وذكر الفسوي في المعرفة والتاريخ : « حدّثني ابن نمير قال حدّثني أبي عن الأعمش عن شقيق قال : كنا مع حذيفة جلوساً فدخل عبد الله (يعني ابن مسعود)

____________

(1) أنظر كنز العمال 16 / 219 ط حيدر آباد الثانية ، ومنتخب كنز العمال بهامش مسند أحمد 5 / 234.

(2) نقلاً عن شرح الصمدية 3 / 288 وما في الاستيعاب بهامش الإصابة 4 / 174 ط مصفى محمّد بمصر : (فلم يزل على الكوفة حتى قتل عثمان ثمّّ كان منه الصفين وفي التحكيم ما كان ، وكان منحرفاً عن علي رضي الله عنه لأنّه عزله ولم يستعمله ، وغلبه أهل اليمن في إرساله في التحكيم فلم يجزه ، وكان لحذيفة قبل ذلك فيه كلام رحمة الله عليهم أجمعين).

(3) شرح النهج لابن أبي الحديد 3 / 288.

١٤٦

وأبو موسى (يعني الأشعري) المسجد فقال (حذيفة) : أحدهما منافق ثمّ قال : إن أشبه الناس هدياً ودلاًّ وسناً برسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عبد الله اهـ »(1) .

فهذا نص له قيمته الدلالية في أنّ أبا موسى هو المنافق الّذي أشار إليه حذيفة بقوله : أحدهما منافق.

وقال ابن أبي الحديد : « وروى أنّ عمّاراً سئل عن أبي موسى فقال : لقد سمعت فيه من حذيفة قولاً عظيماً سمعته يقول : صاحب البرنس الأسود ، ثمّ كلح كلوحاً ، علمت منه انّه كان ليلة العقبة بين ذلك الرهط »(2) .

فبعد هذا العرض الموجز تبيّن للقارئ أنّ الأشعث وأبا موسى لم يكونا من الصحابة المؤمنين الذين امتحن الله قلوبهم للإيمان ، بل كانا من المنافقين الذين لعنهم الله ورسوله.

وحسبنا بما قدمنا دلالة لمن يريد أن يتعرّف دخيلة الرجلين الأشعث وأبا موسى تحت المجهر ، ولعل من السخرية بعقول الناس أن يكون أبو موسى هو الراوي لقول الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يكون في هذه الأمة حكَمان ضالان ضالٍ من تبعهما ، فقال له سويد بن غفلة : يا أبا موسى انظر لا تكن أحدهما.

ثمّ ينبري علماء التبرير لتضعيف الحديث حفاظاً على أبي موسى(3) . ثمّ هم يروون : كان أبو موسى يحدّث قبل وقعة صفين ويقول : انّ الفتن لم تزل في بني اسرائيل ترفعهم وتخفضهم حتى بعثوا الحكمينَ يحكمان بحكم لا يرضى به من

____________

(1) المعرفة والتاريخ 2 / 771.

(2) شرح النهج لابن أبي الحديد 3 / 288.

(3) مجمع الزوائد 7 / 245 ـ 246 ط القدسي قال الهيثمي رواه الطبري وقال : هذا عندي باطل لأن جعفر بن عليّ شيخ مجهول لا يُعرف؟ قلت ـ والقائل هو الهيثمي ـ إنّما ضعفه من عليّ بن عابس الأسدي فإنه متروك.

١٤٧

اتبّعهما ، وانّ هذه الأمة لا تزال بها الفتن ترفعها وتخفضها حتى يبعثوا حكمينَ يحكمان بما لا يرضى به من اتبعهما.

فقال له سويد بن غفلة : إياك إن ادركتَ ذلك الزمان أن تكون أحد الحكمينَ.

قال : أنا؟! قال : نعم أنت.

قال : فكان يخلع قميصه ويقول : لا جعل الله لي إذاً في السماء مَصعَداً ، ولا في الأرض مَقعَداً.

فلقيه سويد بن غفلة بعد ذلك فقال : يا أبا موسى أتذكر مقالتك؟ قال : سل ربّك العافية(1) .

وهنا أيضاً ينبري علماء التبرير بالتزوير فيرووا لنا حديث سويد بن غفلة أنّه قال : « إنّي لأمشي مع عليّ بشط الفرات فقال : قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إنّ بني اسرائيل اختلفوا فلم يزل اختلافهم بينهم حتى بعثوا حكَمَينَ فضلاّ وأضلاّ ، وإنّ هذه الأمة ستختلف فلا يزال اختلافهم بينهم حتى يبعثوا حكمَينَ فيَضِلاّن ويُضِلاّن من اتبعهما ». وهذا قد رواه البيهقي في الدلائل وحكاه عنه ابن كثير ولم يرق له ذلك فتعقّبه بقوله : « فإنّه حديث منكر ، ورفعه موضوع والله أعلم. إذ لو كان هذا معلوماً عند عليّ لم يوافق على تحكيم الحكمين حتى لا يكون سبباً لإضلال الناس ، كما نطق به هذا الحديث ، وآفة هذا الحديث هو زكريا بن يحيى وهو الكندي الحميري الأعمى قال ابن معين : ليس بشيء »(2) .

____________

(1) مروج الذهب 2 / 403 ، ومناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب 2 / 363 ط الحيدرية نقلاً عن ابن مردويه.

(2) البداية والنهاية 7 / 283 ـ 284.

١٤٨

أرأيت كيف كان دفاع ابن كثير المستميت حفاظاً على كرامة الحكَمين (؟). وتلبيساً منه على القارئ باسم الدفاع عن أمير المؤمنين (عليه السلام).

وما أدري كيف يكون دفاعه عمّا رواه ياقوت؟!

قال ياقوت في معجمه : « وقرأت في كتاب الخوارج قال : حدّثنا محمّد بن قلابة بن إسماعيل عن محمّد بن زياد قال حدّثنا محمّد بن عون قال حدّثنا عبد الله بن عيسى بن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال : مررت مع أبي موسى بدومة الجندل فقال : حدّثني حبيبي أنّه حكَمَ في بني إسرائيل في هذا الموضع حَكَمان بالجور ، وأنّه يحكم في أمتي في هذا المكان حكَمان بالجور. قال : فما ذهبت إلاّ أيام حتى حكم هو وعمرو بن العاص بما حَكَما. قال : فلقيته فقلت له : يا أبا موسى قد حدّثتني عن رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم بما حدّثتني؟ فقال : والله المستعان »(1) .

6 ـ روى المدائني في كتاب صفين قال : « لمّا أجمع أهل العراق على طلب أبي موسى وأحضروه للتحكيم على كُره من عليّ (عليه السلام) أتاه عبد الله بن العباس وعنده وجوه الناس وأشرافهم. فقال له : يا أبا موسى إن الناس لم يرضوا بك ولم يجتمعوا عليك لفضل لا تشارك فيه ، وما أكثر أشباهك من المهاجرين والأنصار والمتقدمين قبلك ، ولكن أهل العراق أبوا إلاّ أن يكون الحَكَم يمانياً ، ورأوا أنّ معظم أهل الشام يمان ، وأيم الله إنّي لأظن ذلك شرّاً لك ولنا ، فإنّه قد ضُمّ اليك داهية العرب ، وليس في معاوية خلّة يستحق بها الخلافة ، فإن تقذف بحقك على باطله تدرك حاجتك منه ، وإن يطمع باطله في حقك يدرك حاجته منك. واعلم

____________

(1) معجم البلدان 2 / 488 ـ 489.

١٤٩

يا أبا موسى إن معاوية طليق الإسلام ، وأنّ أباه رأس الأحزاب ، وأنّه يدعي الخلافة من غير مشورة ولا بيعة ، فإن زعم لك انّ عمر وعثمان استعملاه ، فلقد صدق استعمله عمر وهو الوالي عليه ، بمنزلة الطبيب يحميه ما يشتهي ويوجره ما يكره ، ثمّ استعمله عثمان برأي عمر ، وما أكثر ما استعملا ممّن لم يدع الخلافة.

واعلم أنّ لعمرو مع كلّ شيء يسرّك خبأ يسؤك ، ومهما نسيت فلا تنس أنّ عليّاً بايعه القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان ، وانّها بيعة هدىً ، وانّه لم يقاتل إلاّ العاصين والناكثين.

فقال أبو موسى : رحمك الله والله ما لي إمام غير عليّ ، وإنّي لواقف عندما أرى ، وانّ حقّ الله أحبّ إليَّ من رضا معاوية وأهل الشام ، وما أنت وأنا إلاّ بالله »(1) .

قال ابن أبي الحديد : وروى في الموفقيات أيضاً الخبر الّذي رواه المدائني وقد ذكرناه آنفاً من كلام ابن عباس لأبي موسى وقوله : انّ الناس لم يرضوا بك لفضل عندك لم تشارك فيه ، وذكر في آخره : فقال بعض شعراء قريش :

والله ما كلّم الأقوام من بشر

بعد الوصي عليّ كابن عباس

أوصى ابن قيس بأمر فيه عصمته

لو كان فيها أبو موسى من الناس

إنّي أخاف عليه مكرَ صاحبه

أرجو رجاء مخوف شيب بالياس(2)

7 ـ قال المسعودي في مروج الذهب : « ولمّا وقع التحكيم تباغض القوم جميعاً ، وأقبل بعضهم يتبرأ من بعض ، يتبرأ الأخ من أخيه ، والابن من أبيه ، وأمر

____________

(1) أنظر شرح النهج لابن أبي الحديد 1 / 195.

(2) نفس المصدر 1 / 201.

١٥٠

عليّ بالرحيل ، لعلمه باختلاف الكلمة ، وتفاوت الرأي ، وعدم النظام لأمورهم ، وما لحقه من الخلاف منهم ، وكثر التحكيم في جيش أهل العراق ، وتضارب القوم بالمقارع ونعال السيوف ، وتسابّوا ، ولام كلّ فريق منهم الآخر في رأيه »(1) .

8 ـ قال أبو مخنف : « حدّثني إسماعيل بن يزيد عن حُميد بن مسلم عن جندب بن عبد الله ، إنّ عليّاً قال للناس يوم صفين : لقد فعلتم فعلةً ضعضعت قوةً ، وأسقطت مُنّة ، وأوهنت وأورثت وَهناً وذلة ، ولما كنتم الأعلين ، وخاف عدوكم الاجتياح ، واستحرّ بهم القتل ووجدوا ألم الجراح ، رفعوا المصاحف ، ودعوكم إلى ما فيها ليفثئوكم عنهم ، ويقطعوا الحرب فيما بينكم وبينهم ، ويتربصوا بكم ريب المنون خديعة ومكيدة ، فأعطيتموهم ما قد سألوا ، وأبيتم إلاّ أن تُدهِنوا وتجوزّوا ، وأيم الله ما أظنكم بعدها توافقون رَشَدا ، ولا تصيبون باب حزم »(2) .

9 ـ عن أبي الودّاك قال : « لمّا تداعى الناس إلى الصلح بعد رفع المصاحف قال عليّ : إنّما فعلتُ ما فعلت لمّا بدا فيكم الخورَ والفَشَل ـ والضعف ـ »(3) .

10 ـ أخرج ابن أبي شيبة في المصنف(4) وعنه في كنز العمال(5) وأنساب الأشراف(6) عن عبد الله بن الحسن قال : « قال عليّ للحكمينَ : على أن تحكما بما في كتاب الله ، وكتاب الله كله لي ، فإن لم تحكما بما في كتاب الله فلا حكومة لكما ».

____________

(1) مروج الذهب 2 / 405.

(2) أنظر تاريخ الطبري 5 / 56 دار المعارف.

(3) أنظر وقعة صفين / 596.

(4) المصنف 15 / 294 ط باكستان (إدارة القرآن).

(5) كنز العمال 11 / 308 ط حيدر آباد الثانية.

(6) أنساب الأشراف 2 / 338 تح ـ المحمودي.

١٥١

وفي حديث آخر عن جعفر قال : « قال عليّ : أن تحكما بما في كتاب الله فتحييا ما أحيى القرآن ، وتميتا ما أمات القرآن ولا تزنيا »(1) .

11 ـ أخرج البلاذري في أنسابه بسنده عن الشعبي قال : « لمّا اجتمع عليّ ومعاوية على أن يحكّما رجلين اختلف الناس على عليّ فكان عظمهم وجمهورهم مقرّين بالتحكيم راضين به ، وكانت فرقة منهم ـ وهم زهاء أربعة آلاف من ذوي بصائرهم والعبّاد منهم ـ منكرة للحكومة ، وكانت فرقة منهم وهم قليل متوقفين. فأتت الفرقة المنكرة عليّاً فقالوا : عُد إلى الحرب ـ وكان عليّ يحبّ ذلك ـ فقال الذين رضوا بالتحكيم ، والله ما دعانا القوم إلاّ إلى حقّ وإنصاف وعدل ، وكان الأشعث بن قيس وأهل اليمن أشدهم مخالفة لمن دعا إلى الحرب ، فقال عليّ للذين دعوا إلى الحرب : يا قوم قد ترون خلاف أصحابكم وأنتم قليل في كثير ، ولئن عدتم إلى الحرب ليكونّن هؤلاء أشدّ عليكم من أهل الشام ، فإذا اجتمعوا وأهل الشام عليكم أفنوكم ، والله ما رضيت ما كان ولا هويته ، ولكن ملتُ إلى الجمهور منكم خوفاً عليكم ثمّ أنشد :

وما أنا إلاّ من غزيّة إن غوت غويت وإن ترشد غزية أرشد

ففارقوه ، ومضى بعضهم إلى الكوفة قبل كتاب القضية ، وأقام الباقون على إنكارهم التحكيم ناقمين عليه يقولون : لعلّه يتوب ويراجع »(2) .

____________

(1) المصنف لابن أبي شيبة 15 / 294 نشر إدارة القرآن والعلوم الإسلامية كراتشي باكستان سنة 1406 هـ.

(2) أنساب الأشراف 2 / 338 تح ـ المحمودي.

١٥٢

12 ـ قال ابن البطريق في كتابه العمدة : « فلمّا حضروا لكتابة المقاضاة وكان عبد الله بن العباس (رضي الله عنه) كاتب أمير المؤمنين (عليه السلام) ، فلمّا كتب : هذا ما قاضى عليه أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب معاوية بن أبي سفيان.

قال له عمرو بن العاص : امح أمير المؤمنين فإنّا لا نعرفه ، فلو عرفنا انّه أمير المؤمنين لما نازعناه.

فقال أمير المؤمنين (عليه السلام) لابن عباس امحه. فقال ابن عباس : لا أمحوه ، فمحاه أمير المؤمنين (عليه السلام) بعد أن قال لعمرو بن العاص : يا بن النابغة ألا تعرف أنّي أمير المؤمنين. فقال ابن العاص : والله لا جمعني وإياك مجلس أبداً. فقال له أمير المؤمنين (عليه السلام) : أرجو أن يطهّر الله تعالى مجلسي منك ومن أمثالك »(1) .

وقد ذكر اليعقوبي في تاريخه : « وكتبوا كتابين بالقضية كتاباً من عليّ (عليه السلام) بخط كاتبه عبيد الله بن أبي رافع وكتاباً من معاوية بخط كاتبه عمر بن عبّاد الكناني ، واختصموا في تقديم عليّ أو تسمية عليّ بأمرة المؤمنين ، فقال أبو الأعور السلمي لا نقدّم عليّاً. وقال أصحاب عليّ : لا نغيّر اسمه ولا نكتب إلاّ بأمرة المؤمنين ، فتنازعوا على ذلك منازعة شديدة حتى تضاربوا بالأيدي. فقال الأشعث : أمحوا هذا الاسم. فقال له الأشتر : والله يا أعور لهممت أن أملأ سيفي منك ، فلقد قتلت قوماً ما هم بأشرّ منك ، وإني أعلم انك ما تحاول إلاّ الفتنة ، وما تدور إلاّ على الدنيا وإيثارها على الآخرة. فلمّا اختلفوا قال عليّ (عليه السلام) : الله أكبر قد كتب رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يوم الحديبية »(2) .

____________

(1) العمدة / 172 ط حجرية ، وقارن الدرجات الرفيعة / 117 ط الحيدرية سنة 1382 هـ ، ووقعة صفين / 508 ط الثانية بمصر 1382 هـ.

(2) تاريخ اليعقوبي 2 / 165 ط الغري قضية الكتاب.

١٥٣

وقال أيضاً : « وكتب كتاب القضية على الفريقين يرضون بذلك بما أوجبه كتاب الله ، واشترط على الحكمين في الكتابين أن يحكما بما في كتاب الله من فاتحته إلى خاتمته ، لا يتجاوزان ذلك ولا يحيدان عنه إلى هوى أو ادهّان ، وأخذ عليهما أغلظ العهود والمواثيق ، فإن هما جاوزا بالحكم كتاب الله من فاتحته إلى خاتمته فلا حكم لهما »(1) .

لقد صدقت نبوءة النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حين قال للإمام يوم صلح الحديبية حين أبى الإمام أن يمحو اسم رسول الله لأنّ سهيل بن عمرو لم يرض بذلك ، فمحاه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بيده وقال للإمام : (إنّك ستدعى إلى مثلها).

وصدق الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) حين قال : (إنّ ممّا عهد إليَّ النبيّ صلّى الله عليه (وآله) وسلّم أنّ الأمة ستغدر بي من بعده)(2) .

وأخيراً صدق ابن عباس في وصفه للإمام في محنة تلك الحرب الضروس الطاحنة وموقف الناس منه ، فقد سئل عن سبب قبوله التحكيم فأجاب بما ذكرناه من قبل وختم ذلك بقوله : (ولو كان معه من يصبر على السيف لكان الفتح قريباً).

والّذي يبدو لي ممّا تقدّم أنّ ابن عباس كان هو الّذي افتتح كتابة كتاب القضية ، ولمّا وقع الاختلاف حول كلمة (أمير المؤمنين) وأبى محوها فمحاها الإمام بيده كما ذكر ذلك ابن البطريق الحلي في العمدة كما مرّ ، تولى كتابة الكتاب لنسخة اهل العراق عبيد الله بن أبي رافع كاتب الإمام ، وتولى كتابة نسخة لأهل العراق كاتب معاوية عمير بن عبّاد الكناني كما مر عن اليعقوبي. ومهما

____________

(1) نفس المصدر / 166.

(2) أنظر كنز العمال 11 / 284 ط حيدرآباد الثانية ، نقلاً عن مصنف ابن أبي شيبة ومسند الحارث ومسند البزار ودلائل البيهقي وغيره.

١٥٤

يكن من أمر الكتابة والكتاب ، فقد تم الإتفاق على أن يوافي عليّ ومعاوية موضع الحكمين بدومة الجندل في شهر رمضان مع كلّ واحد منهما أربعمائة من أصحابه وأتباعه(1) .

واشترط على الحكمين أن يرفعا ما رفع القرآن ، ويخفضا ما خفض القرآن ، وأن يختارا لأمة محمّد صلّى الله عليه (وآله) وسلّم وأنّهما يجتمعان بدومة الجندل(2) فإن لم يجتمعا لذلك ، اجتمعا من العام المقبل بأذرح(3) .

قال أبو مخنف : « فكان الكتاب في صفر والأجل رمضان إلى ثمانية أشهر ، إلى أن يلتقي الحكمان ، ثمّ انّ الناس دفنوا قتلاهم ، وأمر عليّ الأعور ـ يعني الحارث ـ فنادى في الناس بالرحيل »(4) .

قال أبو مخنف : « حدثنا أبو جناب الكلبي عن عمارة بن ربيعة قال : خرجوا مع عليّ إلى صفّين وهم متوادون أحباء ، فرجعوا متباغضين أعداء ، ما برحوا من عسكرهم بصفين حتى فشا فيهم التحكيم ، ولقد اقبلوا يتدافعون الطريق كله ويتشاتمون ويضطربون بالسياط ، يقول الخوارج : يا أعداء الله دهنتم في أمر الله (عزّ وجلّ) وحكّمتم. وقال الآخرون : فارقتم إمامنا وفرّقتم جماعتنا ، فلمّا دخل عليّ الكوفة لم يدخلوا معه حتى أتوا حروراء(5) ، فنزل بها منهم اثنا عشر ألفاً ، ونادى

____________

(1) أنظر تاريخ الطبري 5 / 57.

(2) مكان وسط بين أهل الشام وأهل العراق إذ هي على عشر مراحل من الكوفة وكذلك من الشام (الأعلاق النفسية لابن رستة / 177).

(3) تاريخ الطبري 5 / 57.

(4) نفس المصدر 4 / 89.

(5) حروراء كجلولاء ، بالمد وقد تقصر قرية بالكوفة على ميلين منها ، نزل بها جماعة خالفوا عليّاً من الخوارج ، تاج العروس 3 / 137.

١٥٥

مناديهم : أنّ أمير القتال شبث بن ربعي التميمي ، وأمير الصلاة عبد الله بن الكوّاء اليشكري ، والأمر شورى بعد الفتح ، والبيعة لله (عزّ وجلّ) ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر »(1) .

والآن لنقرأ محاورات ابن عباس مع المحكَمة أوّلاً في حروراء ثمّ في الكوفة ، ونأتي على البقية في مواردها حسب ورودها تاريخياً مع الأحداث.

قال البلاذري في أنساب الأشراف وابن عساكر في تاريخه وغيرهما بالسند عن الزهري قال : « لمّا قدم عليّ بن أبي طالب إلى الكوفة من صفين ، خاصمت الحرورية عليّاً ستة أشهر ، وقالوا شككت في أمرك ، وحكّمت عدوك وطالت خصومتهم لعليّ فأرسل إليهم عليّ عبد الله بن عباس وصعصعة بن صوحان فدعوا هم إلى الجماعة وناشداهم »(2) .

محاورة ابن عباس مع المحكمة في حروراء :

قال ابن اعثم في الفتوح وغيره : « فبينا عليّ كرّم الله وجهه مقيم بالكوفة ينتظر انقضاء المدة الّتي كانت بينه وبين معاوية ثمّ يرجع إلى محاربة أهل الشام ، إذ تحركت طائفة من أصحابه في أربعة آلاف فارس ، وهم من النساك العبّاد أصحاب البرانس ، فخرجوا عن الكوفة وتحزّبوا وخالفوا عليّاً كرم الله وجهه ، وقالوا : لا حكم إلاّ لله ولا طاعة لمن عصى الله.

قال : وانحاز إليهم نيّف عن ثمانية آلاف رجل ممّن يرى رأيهم ، فصار القوم في اثني عشر ألفاً وساروا حتى نزلوا بحروراء ، وأمّروا عليهم عبد الله بن الكوّاء.

____________

(1) تاريخ الطبري 5 / 63.

(2) أنساب الأشراف 2 / 353 ، وتاريخ مدينة دمشق (ترجمة ابن الكواء).

١٥٦

قال : فدعا عليّ (رضي الله عنه) بعبد الله بن عباس فأرسله إليهم وقال : يا بن عباس امض إلى هؤلاء القوم فانظر ما هم عليه ولماذا اجتمعوا؟

[ وأوصاه بقوله : لا تخاصمهم بالقرآن فقال له ابن عباس : يا أمير المؤمنين فأنا أعلم بكتاب الله منهم ، في بيوتنا نزل.

قال : صدقت ، ولكن القرآن حمّال ذو وجوه تقول ويقولون ، ولكن حاججهم بالسنّة فإنّهم لن يجدوا عنها محيصاً(1) فخرج ابن عباس اليهم فحاججهم بالسنن فلم يبق بأيديهم حجة ](2) .

قال ابن اعثم في حديثه : فأقبل عليهم ابن عباس حتى إذا شرف عليهم ونظروا إليه ناداه بعضهم وقال : ويلك يا بن عباس أكفرت بربك كما كفر صاحبك عليّ بن أبي طالب؟

فقال ابن عباس : إنّي لا أستطيع أن أكلمكم كلكم ، ولكن انظروا أيكم أعلم بما يأتي ويذر فليخرج إليَّ حتى أكلّمه.

قال : فخرج إليه رجل منهم يقال له عتاب بن الأعور التغلبي ، حتى وقف قبالته ، وكأن القرآن إنّما كان ممثلاً بين عينيه ، فجعل يقول ويحتج ويتكلم بما يريد ، وابن عباس ساكت لا يكلمه بشيء ، حتى إذا فرغ من كلامه ، أقبل عليه ابن عباس فقال : إنّي أريد أن أضرب لك مثلاً ، فإن كنت عاقلاً فافهم. فقال الخارجي : قل ما بدا لك.

____________

(1) الإتقان للسيوطي 1 / 175 ، ولابن أبي الحديد المعتزلي في شرح هذه الوصية كلام بدأه بقوله : هذا الكلام لا نظير له في شرفه وعلو معناه

(2) الدر المنثور للسيوطي 1 / 15عن ابن سعد.

١٥٧

فقال له ابن عباس : خبّرني عن دار الإسلام هذه هل تعلم لمن هي؟ ومن بناها؟

فقال الخارجي : نعم ، هي لله (عزّ وجلّ) ، وهو الّذي بناها على أيدي أنبيائه وأهل طاعته ، ثمّ أمر من بعثه إليها من الأنبياء أن يأمروا الأمم أن لا يعبدوا إلاّ إياه ، فآمن قوم وكفر قوم ، وآخر من بعثه إليها من الأنبياء محمّداً صلّى الله عليه (وآله) وسلّم.

فقال ابن عباس : صدقت ، ولكن خبّرني عن محمّد حين بعث إلى دار الإسلام فبناها كما بناها غيره من الأنبياء ، هل أحكم عمارتها وبيّن حدودها ، وأوقف الأمة على سبلها وعملها ، وشرائع أحكامها ومعالم دينها؟

فقال الخارجي : نعم قد فعل محمّد ذلك.

قال ابن عباس : فخبّرني الآن عن محمّد هل بقي فيها أو رحل عنها؟

قال الخارجي : بل رحل عنها.

قال ابن عباس : فخبّرني رحل عنها وهي كاملة العمارة بيّنة الحدود؟ أم رحل عنها وهي خربة ولا عمران فيها؟

قال الخارجي : بل رحل عنها وهي كاملة العمارة بيّنة الحدود قائمة المنار.

قال ابن عباس : صدقت. الآن فخبّرني هل كان لمحمّد صلّى الله عليه (وآله) وسلّم أحد يقوم بعمارة هذه الدار من بعده أم لا؟

قال الخارجي : بلى قد كان له صحابة وأهل بيت ووصي وذريّته يقومون بعمارة هذه الدار من بعده.

قال ابن عباس : ففعلوا أم لم يفعلوا؟

١٥٨

قال الخارجي : بلى قد فعلوا وعمروا هذه الدار من بعده.

قال ابن عباس : فخبّرني الآن عن هذه الدار من بعده هل هي اليوم على ما تركها محمّد صلّى الله عليه (وآله) وسلّم من كمال عمارتها وقوام حدودها؟ أم هي خربة عاطلة الحدود؟

قال الخارجي : بل هي عاطلة الحدود خربة.

قال ابن عباس : أفذريّته وليت هذا الخراب أم أمته؟

قال : بل أمته.

قال ابن عباس : فأنت من الأمة أم من الذرية؟

قال : أنا من الأمة.

قال ابن عباس : يا عتاب فخبرني الآن عنك كيف ترجو النجاة من النار وأنت من أمة قد أخربت دار الله ودار رسوله ، وعطلت حدودها؟

فقال الخارجي : إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، ويحك يا بن عباس احتلت والله حتى أوقعتني في أمر عظيم وألزمتني الحجة حتى جعلتني ممّن أخرب دار الله. ولكن ويحك يابن عباس فكيف الحيلة في التخلص ممّا أنا فيه؟

قال ابن عباس : الحيلة في ذلك أن تسعى في عمارة ما أخربته الأمة من دار الإسلام.

قال : فدلني على السعي في ذلك.

قال ابن عباس : إنّ أوّل ما يجب عليك في ذلك أن تعلم من سعى في خراب هذه الدار فتعاديه ، وتعلم من يريد عمارتها فتواليه.

١٥٩

قال : صدقت يا بن عباس والله ما أعرف أحداً في هذا الوقت يحبّ عمارة دار الإسلام غير ابن عمك عليّ بن أبي طالب ، لولا أنّه حكّم عبد الله بن قيس في حقّ هو له.

قال ابن عباس : ويحك يا عتاب إنا وجدنا الحكومة في كتاب الله (عزّ وجلّ) انّه قال تعالى :( فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا ) (1) ، وقال تعالى :( يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ ) (2) .

قال : فصاحت الخوارج من كلّ ناحية وقالوا : فكأنّ عمرو بن العاص عندك من العدول؟ وأنت تعلم أنّه كان في الجاهلية رأساً وفي الإسلام ذَنباً ، وهو الأبتر بن الأبتر ، ممّن قاتل محمّداً صلّى الله عليه (وآله) وسلّم وفتن أمته من بعده.

فقال ابن عباس : يا هؤلاء إنّ عمرو بن العاص لم يكن حَكَماً (لنا) أفتحتجون به علينا؟ إنّما كان حَكَماً لمعاوية وقد أراد أمير المؤمنين عليّ (رضي الله عنه) أن يبعثني أنا فأكون له حَكَماً فأبيتم عليه وقلتم : قد رضينا بأبي موسى الأشعري ، وقد كان أبو موسى لعمري رضىً في نفسه وصحبته واسلامه وسابقته ، غير انّه خُدِع فقال ما قال ، وليس يلزمنا من خديعة عمرو بن العاص لأبي موسى ، فاتقوا ربّكم وارجعوا إلى ما كنتم عليه من طاعة أمير المؤمنين ، فإنّه وإن كان قاعداً عن طلب حقّه ، فإنّما ينتظر انقضاء المدة ثمّ يعود إلى محاربة القوم ، وليس عليّ (رضي الله عنه) ممّن يقعد عن حقّ جعله الله له.

____________

(1) النساء / 35.

(2) المائدة / 95.

١٦٠