موسوعة عبد الله بن عبّاس الجزء ٤

موسوعة عبد الله بن عبّاس0%

موسوعة عبد الله بن عبّاس مؤلف:
تصنيف: متون حديثية
الصفحات: 381

موسوعة عبد الله بن عبّاس

مؤلف: السيد حسن الموسوي الخرسان
تصنيف:

الصفحات: 381
المشاهدات: 67388
تحميل: 4444


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 381 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 67388 / تحميل: 4444
الحجم الحجم الحجم
موسوعة عبد الله بن عبّاس

موسوعة عبد الله بن عبّاس الجزء 4

مؤلف:
العربية

فقال ابن عباس لعليّ : أكفيك فارس بزياد ، فأمره عليّ أن يوجّهه إليها ، فقدم ابن عباس البصرة ، ووجّهه إلى فارس في جمع كثير فوطئ بهم أهل فارس فأدوا الخراج »(1) ، وسيأتي شيء من حديثه.

ومن خبر الشعبي هذا عرفنا زمن رجوع ابن عباس إلى البصرة ، وقد بقي بها يدبّر أمرها وأمر كور الأهواز الخمس التابعة لولايته. ولمّا حدثت مفارقة الخريّت كان هو بالبصرة.

ولعل من الغريب أن يصرّ بعض الباحثين على مفارقة ابن عباس عمله بالبصرة مغاضباً لإمامه مستندين إلى ما رأوا من روايات تشير إلى ذلك! وغفلوا عن عدم استقامتها مع ما يرويه التاريخ من أحداث وقعت بالبصرة بعد حرب النهروان كحادثة ابن الحضرمي وقد مرّت ، وكحادثة الخريت بن راشد الناجي وسيأتي ذكرها ، وغيرهما ممّا دل على أنّ ابن عباس كان لا يزال أميراً على البصرة.

ومن أولئك كان طه حسين حيث جعل من حادثة ابن الحضرمي حجة على مفارقة ابن عباس فقال : « وبعض المؤرخين يزعم أنّ هذه الأحداث حدثت حيث كان ابن عباس قد ذهب إلى الكوفة مواسياً لعليّ بعد مقتل محمّد بن أبي بكر ، واحتياز عمرو بن العاص لمصر ، وهذا كلام لا يستقيم. فلو قد كان ابن عباس عند عليّ لعاد إلى البصرة مُسرعاً حين بلغته هذه الأنباء ، ولما أقام عند عليّ ينتظر أن يغني عنه زياد وأعين بن ضبيعة وجارية بن قدامة اهـ »(2) .

____________

(1) تاريخ الطبري 5 / 122 ط دار المعارف.

(2) عليّ وبنوه / 164.

٢٦١

أقول : وهذا كلام لا يخلو من تجنّ على ابن عباس ، وقد بيّنت فيما مرّ الجواب على ذلك فراجع.

والآن إلى حديث مفارقة الخريّت في بني ناجية :

مفارقة الخريت بن راشد في بني ناجية :

روى الطبري بسنده عن أبي مخنف عن الحارث الأزدي عن عمه عبد الله ابن مُقَيم قال : « جاء الخريّت بن راشد إلى عليّ ـ وكان مع الخريّت ثلثمائة رجل من بني ناجية مقيمين مع عليّ بالكوفة ، قدموا معه من البصرة ، وكانوا قد خرجوا إليه يوم الجمل ، وشهدوا معه صفين والنهروان ـ فجاء إلى عليّ في ثلاثين راكباً من أصحابه يسير بينهم حتى قام بين يدي عليّ فقال له : والله لا أطيع أمرك ، ولا أصلّي خلفك ، وإنّي غداً لمفارقك ـ وذلك بعد تحكيم الحكمين ـ.

فقال له عليّ : ثكلتك أمك إذا تعصي ربّك ، وتنكث عهدك ، ولا تضرّ إلاّ نفسك ، خبّرني لم تفعل ذلك؟.

قال : لأنّك حكّمت في الكتاب ، وضعفت عن الحقّ إذ جدّ الجدّ ، وركنت إلى القوم الذين ظلموا أنفسهم ، فأنا عليك زارٍ ، وعليهم ناقم ، ولكم جميعاً مباين. فقال له عليّ : هلمّ أدارسك الكتاب ، وأناظرك في السنن ، وأفاتحك أموراً من الحقّ أنا أعلم بها منك ، فلعلك تعرف ما أنت له الآن منكر ، وتستبصر ما أنت عليه الآن جاهل.

قال : فإنّي عائد اليك.

قال : لا يستهويّنك الشيطان ، ولا يستخفنّك الجهل ، ووالله لئن استرشدتني واستنصحتني وقبلتَ مني لأهدينّك سبيل الرشاد.

٢٦٢

فخرج من عنده منصرفاً إلى أهله ، فعجلت في أثره مسرعاً ، وكان لي من بني عمه صديق ، فأردت أن ألقى ابن عمه ذلك فأعلمه بشأنه ، ويأمره بطاعة أمير المؤمنين ومناصحته ، ويخبره أنّ ذلك خير له في عاجل الدنيا وآجل الآخرة. فخرجت حتى انتهيت إلى منزله وقد سبقني ، فقمت عند باب داره. وفي داره رجال من أصحابه لم يكونوا شهدوا معه دخولَه على عليّ. قال : فوالله ما خرم شيئاً ممّا قال ، وممّا ردّ عليه ، ثمّ قال لهم : يا هؤلاء إنّي قد رأيت أن أفارق هذا الرجل ، وقد فارقته على أن أرجع إليه من غد ، ولا أراني إلاّ مفارقه من غد.

فقال له أكثر أصحابه : لا تفعل حتى تأتيه ، فإن أتاك بأمر تعرفه قبلتَ منه ، وإن كانت الأخرى فما أقدرك على فراقه.

فقال لهم : فنعم ما رأيتم ».

ثمّ ذكر الطبري مفارقته في أصحابه ، وبلغ الإمام ذلك : « فقال : قد فعلوها ، بعداً لهم كما بعدت ثمود ، أمّا لو قد أشرعت لهم الأسنة ، وصبّبت على هامهم السيوف لقد ندموا. إنّ الشيطان اليوم قد استهواهم وأضلّهم ، وهو غداً متبرئ منهم ومخلّ عنهم.

قال : فقام إليه زياد بن خصفة فقال : يا أمير المؤمنين ، إنّه لو لم يكن من مضرّة هؤلاء إلاّ فراقهم إيّانا لم يعظم فقدُهم فنأسى عليهم ، فإنّهم قلّما يزيدون في عددنا لو أقاموا معنا ، وقلّما ينقصون من عددنا بخروجهم عنا ، ولكنّا نخاف أن يفسدوا علينا جماعة كثيرة ممّن يقدمون عليه من أهل طاعتك ، فإذن لي في إتّباعهم حتى أردّهم عليك إن شاء الله.

٢٦٣

فقال له عليّ : وهل تدري أين توجه القوم؟ فقال : لا ، ولكني أخرج فأسأل واتّبع الأثر.

فقال له : أخرج رحمك الله حتى تنزل دير أبي موسى ، ثمّ لا تتوجه حتى يأتيك أمري ، فإنهم إن كانوا خرجوا ظاهرين للناس في جماعة ، فإنّ عمّالي ستكتب إليَّ بذلك ، وإن كانوا متفرقين مستخفين فذلك أخفى لهم. وسأكتب إلى عمّالي فيهم. فكتب نسخة واحدة فأخرجها إلى العمّال :

أمّا بعد ، فإنّ رجالاً خرجوا هُرّابا ونظنّهم وجّهوا نحو بلاد البصرة ، فسَل عنهم أهل بلادك واجعل عليهم العيون في كلّ ناحية من أرضك ، واكتب إليّ بما ينتهي إليك عنهم ، والسلام.

فخرج زياد بن خصفة وجمع أصحابه فخرجوا حتى نزل دير أبي موسى فأقام فيه بقية يومه ذلك ينتظر أمر أمير المؤمنين »(1) .

وروى أبو مخنف بسنده عن عبد الله بن وال التيمي : « انّ رسول قرظة بن كعب الأنصاري ورد على الإمام بكتاب منه فيه :

بسم الله الرحمن الرحيم ، أمّا بعد فإنّي أخبر أمير المؤمنين إنّ خيلاً مرّت بنا من قبل الكوفة متوجهة نحو نِفّر(2) وإنّ رجلاً من دهاقين أسفل الفرات قد صلّى يقال له زاذان فرّوخ أقبل من قبل أخواله بناحية نفرّ فعرضوا له فقالوا أمسلم أنت أم كافر؟ فقال : بل أنا مسلم ، قالوا فما قولك في عليّ؟ قال : أقول فيه خيراً ، أقول : إنّه أمير المؤمنين وسيّد البشر ، فقالوا له : كفرت يا عدوّ الله.

____________

(1) تاريخ الطبري 5 / 113 ط دار المعارف.

(2) نفّر : بلدة أو قرية من نواحي بابل ، وقيل من أعمال البصرة (مراصد الاطلاع).

٢٦٤

ثمّ حملت عليه عصابة منهم فقطّعوه ، ووجدوا معه رجلاً من أهل الذمة فقالوا : ما أنت؟ قال : رجل من أهل الذمة ، قالوا : أمّا هذا فلا سبيل عليه ، فأقبل إلينا ذلك الذمّي فأخبرنا هذا الخبر ، وقد سألت عنهم فلم يخبرني أحد عنهم بشيء ، فليكتب اليَّ أمير المؤمنين برأيه فيهم أنته إليه والسلام ».

وذكر أبو مخنف جواب الإمام وكتابه إلى زياد بن خصفة يأمره باتّباع إثرهم : « فسار زياد قاصداً نفّر فوصلها فلم يجدها ووجد خبرهم أنّهم ارتفعوا إلى جرجرايا(1) فتبعهم وسأل عنهم فقيل له إنّهم أخذوا نحو المذار(2) فلحقهم وأدركهم وقد مسّه وأصحابه التعب ، وأضناهم النصب وهم سغب(3) لغب(4) فلمّا رأوا الخريت ومن معه واقفوه وجرى بينهما كلام لاينهم فيه زياد وطلب منهم النزول ثمّ الاجتماع والتفاهم حول ما حملهم على المجيء به ، فقبل الخريّت ونزل الطرفان واستراح زياد وأصحابه ، ثمّ تم الاجتماع بينه وبين الخريّت ومع كلّ واحد منهما خمسة من أصحابه ، ولم يسفر الاجتماع إلاّ عن الحرب فقتل من أصحاب زياد إثنان هما مولاه سويد ورجل آخر ، بينما قتل خمسة من أصحاب الخريّت وفشا الجراح في الطرفين وحجز بينهما الليل ، وأدلج الخريّت بمن بقي معه فلمّا أصبح زياد فلم ير منهم أحداً ، سار يطلبهم وأتاه الخبر بأنّهم

____________

(1) جرجرايا : بفتح الجيمين وتسكين الراء الأولى وفتح الثانية ، بلد من أعمال النهروان الاسفل بين واسط وبغداد من الجانب الشرقي (مراصد الاطلاع).

(2) المذار : بالفتح وآخره راء بلدة في ميسان بين واسط والبصرة ، وهي قصبة ميسان بينها وبين البصرة نحو من أربعة أيام (نفس المصدر).

(3) سغب : سغبا وسغوبا جاع فهو ساغب وهم سُغَب ولا يكون السغب إلاّ الجوع مع التعب وربّما سمي العطش سغبا (المصباح المنير).

(4) لغب : لغبا ولغوبا تعب وأعيا (نفس المصدر).

٢٦٥

بلغوا الأهواز ونزلوا جانباً منه ، وتلاحق مع الخريت مَن كان على رأيه من أهل الكوفة نحو من مائتين ، فأتى زياد بن خصفة إلى البصرة ، وكان ابن عباس يومئذ بها ، فأخبره وكتب إلى الإمام بتفصيل ما جرى له ، فندب الإمام ألفين من أهل الكوفة مع معقل بن قيس ، وكتب إلى ابن عباس : (أمّا بعد فابعث رجلاً من قبلك صليباً شجاعاً معروفاً بالصلاح في ألفي رجل فليتبع معقلاً ، فإذا ببلاد البصرة فهو أمير أصحابه حتى يلقى معقلا ، فإذا لقي معقلاً فمعقل أمير الفريقين ، وليسمع من معقل وليُطعه ، ولا يخالفه ، ومر زياد بن خصفة فليُقبل ، فنعم المرء زياد ، ونعم القبيل قبيله والسلام).

فندب ابن عباس الناس مع خالد بن معدان الطائي ـ وكان من ذوي البأس والنجدة والحزم والرأي ـ وأوصاه بطاعة معقل إذا لقيه ، وأنّه الأمير عليه ، وخرج خالد ومعه ألفان من مقاتلة البصرة ، وأرسل ابن عباس بفيج(1) يشتد ليلحق معقل ومعه كتاب فيه :

أمّا بعد فإن أدركك رسولي بالمكان الّذي كنت فيه مقيماً ، أو أدركك وقد شخصت منه فلا تبرح المكان الّذي ينتهي فيه إليك رسولي واثبت فيه حتى يقدم عليك بعثنا الّذي وجّهناه اليك. فإنّي قد بعثت إليك خالد بن معدان الطائي ، وهو من أهل الإصلاح والدين والبأس والنجدة فاسمع منه واعرف ذلك والسلام.

فأدرك الفيج معقلاً وقد سار من الأهواز فلمّا قرأ الكتاب أقام حتى أتاه خالد ومن معه من مقاتلة البصرة ، فسار يتتبع آثار الخريّت فبلغه أنّه وأصحابه

____________

(1) الفيج : هو رسول السلطان يسعى على قدمه (المصباح المنير).

٢٦٦

يرتفعون نحو جبال رامهرمز(1) يريدون قلعة حصينة بها ، فخرج معقل في إثرهم ولحقهم وقد دنوا من الجبل ، فأوقع بهم وقعة انجلت عن قتل ثلثمائة من العلوج والاكراد الذين كانوا مع الخريت وجرح سبعين من قومه ومن غيرهم ، وهزيمته ومن بقي معه شر هزيمة حتى لحق بأسياف البحر ، وكان هناك جماعة من قومه ، وكتب معقل إلى الإمام يخبره بكل ما جرى فأتاه الجواب باتباع الخريّت وجماعته واستئصال شأفتهم.

فسار معقل يطلبه وقد بلغه انّه انتهى إلى أسياف البحر ، وقد ردّ قومه عن طاعة الإمام ، وأفسد مَن قِبَله من عبد القيس ومن والاهم من سائر العرب ، وكان قومه قد منعوا الصدقة عام صفين ومنعوها في ذلك العام أيضاً ، فكان عليهم عقالان ، فسار إليهم معقل في ذلك الجيش من أهل الكوفة وأهل البصرة ، فبلغ الخريّت خبره ، فأقبل على من كان معه وهم فرق أشتات في آرائهم ، منهم نصارى ، ومنهم كانوا نصارى وأسلموا ، ومنهم نصارى ارتدوا ، ومنهم خوارج محكمة ، وخوارج غير محكمة ، ومنهم عثمانية ، فأقبل على كلّ فرقة يوعدهم وإن حكم الإمام لضرب العنق ساعة يستمكن منهم ، ولمّا وصل معقل رفع راية أمان وقال من أتاها فهو آمن إلاّ الخريت وأصحابه الذين حاربونا وبدأونا أوّل مرة ، فانحاز إليها كثير ، وتفرق عن الخريت جلّ من كان معه من غير قومه ، ولم يبق معه غير قومه مسلموهم ونصاراهم ومانعة الصدقة منهم. فقاتلهم معقل فقتل الخريّت ومائة وسبعون من أصحابه ، وذهب الباقون يميناً وشمالاً ، فغنم معقل ما كان في رحالهم وسبى أناساً كانوا هناك ، فنظر فيمن كان مسلماً جدّد البيعة عليه

____________

(1) رامهرمز : مدينة مشهورة بنواحي خوزستان (مراصد الاطلاع).

٢٦٧

وخلّى سبيله ، ومن كان مرتداً عرض عليه الإسلام فمن أبى منهم قتله ، وأخذ من المسلمين عقالين صدقة عام صفين وذلك العام ، وساق السبي معه راجعاً نحو الكوفة ، فمرّ بمصقلة بن هبيرة الشيباني وكان عامل الإمام على اردشير خرّة(1) فاستغاث السبايا به ، فساوم معقلاً على شرائهم ، فاشتراهم وكانوا خمسمائة إنسان بألف ألف ، ودفعهم معقل إليه وقال له عجّل بالمال إلى أمير المؤمنين ، فقال : أنا باعث الآن بصدر ، ثمّ أبعث بصدر آخر كذلك حتى لا يبقى منه شيء إن شاء الله تعالى.

وعاد معقل بمن معه من أهل الكوفة إليها وأخبر الإمام بفعل مصقلة وأنه خلّى سبيل الأسارى ولم يسألهم أن يعينوه في فكاك أنفسهم بشيء ، فقال الإمام : ما أظن مصقلة إلاّ قد تحمّل حَمالة ، ولا أراكم إلاّ سترونه مبلّداً ـ المبلّد : ضعيف الرأي عاجز الهمّة ـ وكتب إليه يستعجله بإرسال المال ، وإلاّ يقدم عليه بنفسه. وعاد خالد بن معدان بمن معه من أهل البصرة اليها ، وبلغ ابن عباس خبر مصقلة ، ولما كان تابعاً في عمالته إلى ولاية البصرة بقي ينتظر إرسال المال ».

قال الطبري : « وكان عمّال البصرة يحملون ـ المال ـ من كور البصرة إلى ابن عباس ، ويكون ابن عباس هو الّذي يبعث به إلى عليّ.

وأتى مصقلة بنفسه يريد الإمام ، فنزل في طريقه بالبصرة فطالبه ابن عباس بالمال ، فقال له : نعم أنظرني أياماً ، ثمّ أتى الإمام بالكوفة فأقرّه أياماً ثمّ سأله المال

____________

(1) اردشير خرّة : من أجل كور فارس ومنها مدينة شيراز وجور وخبروميمند والخوار وسيراف وكازرونا وغيرها من اعيان مدن فارس وأكثرها ممتد على البحر قصبتها سيراف (مراصد الاطلاع).

٢٦٨

فأدّى منه مائتي ألف ، وعجز عن الباقي ففرّ هارباً إلى معاوية وبلغ الإمام ذلك فهدم داره وقال : (ما له برّحه الله فعل فعل السيّد ، وفرّ فرار العبيد ، وخان خيانة الفاجر ، أما والله لو أنّه أقام فعجز ما زدنا على حبسه ، فإن وجدنا له شيئاً أخذناه ، وإن لم نقدر على مال تركناه) »(1) .

وهنا لابدّ لي من وقفة مع الذين نقدوا سياسة الإمام في تلك الحالة. وإنّما هم على شاكلة مصقلة بن هبيرة الّذي كان يقول : « أما والله لو أنّ ابن هند أو ابن عفان لتركها لي.

ويقول لصديق له : ألم تر إلى ابن عفان حيث أطعم الأشعث من خراج أذربيجان مائة ألف في كلّ سنة. فقال له صاحبه وهو يحاوره : إنّ هذا لا يرى هذا الرأي ، لا والله ما هو بباذل شيئاً كنت أخذته »(2) .

قال الدكتور طه حسين : « وكان أمر مصقلة هذا من أوضح الأدلة وأقواها على طبيعة الطاعة الّتي كان كثيراً من أشراف أهل العراق يبذلونها لعليّ ، فقد التوى بدَينه ، وحُمل إلى ابن عباس ، فلمّا طالبه ابن عباس بأداء الدين قال : لو قد طلبت أكثر من هذا إلى ابن عفان ما منعني إياه

فلم تكن طاعة مصقلة إذا لعليّ طاعة الرجل الّذي يُصدر في كلّ ما يأتي عن معرفة الحقّ والإيمان به والقيام دونه والصبر على ما يكون من نتائج هذا كلّه ، وإنّما كانت طاعته طاعة رجل من الناس لخليفة من الخلفاء ، رجل يؤثر

____________

(1) تاريخ الطبري 6 / 65 ـ 75 ط الحسينية ، و 5 / 113 ـ 130 ط دار المعارف ، وشرح النهج لابن أبي الحديد 1 / 264 ـ 271 ط مصر الأولى.

(2) تاريخ الطبري 5 / 130 ط دار المعارف.

٢٦٩

العافية وينتهز الفرصة ويبتغي لنفسه الخير مهما يكن مصدره ، يعنيه أمر نفسه قبل أن يعنيه أي شيء آخر.

ولم يكن مصقلة فَذّا في ذلك ، وإنّما كان له أشباه من أشراف الناس فضلاً عن عامتهم في الكوفة والبصرة جميعاً ، فهو يشتري الأسرى ويعتقهم لا يبتغي ثواب الله ، ولا يبتغي حسن الأحدوثة ، وإنّما يستجيب للعصبية وحدها ، ويتخذ المكر بالسلطان وسيلة إلى إرضائها ، فإذا علم السلطان مكره وطالبه بالحقّ لم يصطبر له ، ولم يؤدّ منه ما لزمه ، وإنّما فرّ إلى الذين يحاربون الخليفة ، ويكيدون له ، فأصبح عدواً بعد ان كان وليّاً. ولم يكن لقاء معاوية له وترحيبه به وإيثاره إياه بالمعروف خيراً من التوائه هو بالدَين وفراره هو إلى الشام ، وإنّما كان كيداً من الكيد ، ومكراً من المكر ، ومكافأة على ما لا يحسُن أن يكافأ عليه المسلم الصدوق ، إنّما كان ذلك يحسُن لو قد فرّ إلى معاوية رجل من الروم ليكيد معه لقيصر ، ويُعينه على غزو العدو ، فأمّا أن يؤوي مَن كاد معه لإمامه لا بشيء ، ونكث عهده لا لشيء ، إلاّ لأنّه قد يعينه على إفساد أمر العراق ، فهذا هو الّذي يبيّن وجهاً خطيراً من وجوه السياسة الّتي أراد معاوية أن يقيم عليها أمر السلطان الجديد ، سياسة الدنيا بأعراضها وأغراضها ، وبمنافعها ومآربها ، وباهوائها وشهواتها »(1) .

وهنا يظهر الفرق واضحاً بين مذهب عليّ في السياسة الّتي تُخلص للدين ، ومذهب معاوية في السياسة الّتي تخلص للدنيا.

____________

(1) عليّ وبنوه / 127 ـ 128 ط دار المعارف.

٢٧٠

وقال : « ومضى امتحان عليّ على هذا النحو المرّ ، خيانةً من الوليّ وكيداً من العدو ، وهو بين ذلك كله مصمّم على خطّته الواضحة ، لا يرضى الدنيّة من الأمر ، ولا يُدهن في دينه ، ولا يتحوّل عن سياسته الصريحة قليلاً ولا كثيراً ، والمحن تتابع عليه ويقفو بعضها إثر بعض ، وهو ماضٍ في طريقه لا ينحرف عنه إلى يمين أو إلى شمال ، يبلغ منه الغيظ أقصاه ، ويضيق بحياته أشد الضيق ، فلا يزيد على أن يجمجم ويُظهر غيظه دون أن يَلفته شيء من ذلك عمّا صمّم عليه »(1) .

بوائق معاوية :

لم يدع معاوية فرصة تمرّ به دون أن ينتهزها للكيد للإمام (عليه السلام) ، من غارات على أطراف البلاد الّتي تتبع الإمام في حكومته ، فشاع الخوف والرعب في نفوس الناس من جراء تلك الغارات ، وقد ذكر المؤرخون كثيراً منها ، وجمع منها بعضهم ما سمى بها كتاب الغارات وذلك هو محمّد بن إبراهيم الثقفي المتوفى سنة 283 هـ ، ولم يقصر عنه ابن أعثم المتوفى سنة 314 هـ في كتابه الفتوح في ذكرها وكذلك الطبري المتوفى سنة 310 هـ.

فذكروا أنّ معاوية وجّه النعمان بن بشير سنة تسع وثلاثين إلى عين التمر في ألفي رجل فأغاروا عليها ، وكان بها مالك بن كعب مسلحة للإمام في مائة رجل فكتب مالك إلى عليّ يخبره بأمر النعمان ومن معه ، فخطب عليّ الناس وأمرهم بالخروج فتثاقلوا ، وواقع مالك النعمان ، والنعمان في ألفي رجل ومالك في مائة رجل ، وأمر مالك أصحابه أن يجعلوا جُدُر القرية في ظهورهم. وكتب

____________

(1) نفس المصدر / 129.

٢٧١

إلى مخنف بن سُليم يسأله أنّ يمدّه ـ وهو قريب منه ـ ووجه ابنه عبد الرحمن في خمسين رجلاً فانتهوا إلى مالك وأصحابه وقد كسّروا جفون سيوفهم ، واقتتلوا أشد قتال ، واستقتلوا ، فلمّا رآهم أهل الشام ظنوا أنّ لهم مدداً فانهزموا عند المساء ، وتبعهم مالك فقتل منهم ثلاثة

وبلغ الخبر إلى الإمام فاستنهض الناس فتثاقلوا ، فخطبهم وقال : (يا أهل الكوفة كلما سمعتم بمنسرٍ من مناسر أهل الشام أظلكم وأغلق بابه ، انحجر كلّ امرئ منكم في بيته انحجار الضبّ في جحره والضبع في وجارها ، المغرور من غررتموه ، ولمن فاز بكم فاز بالسهم الأخيب ، لا أحرارٌ عند النداء ، ولا اخوان ثقة عند النجاء ، إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، ماذا مُنيت به منكم ، عميٌ لا تبصرون ، وبكمٌ لا تنطقون ، وصمٌ لا تستمعون ، إنّا لله وإنّا إليه راجعون)(1) .

وإلى القارئ عرضاً سريعاً بأسماء من بعثهم معاوية في تلك الغارات انتقاءً من الجزء الرابع من كتاب الفتوح لابن أعثم ط دار الندوة الجديدة. بيروت :

1 ـ غارة الضحاك بن قيس الفهري : نزل الثعلبية ثمّ سار إلى القطقطانة وهي على بعدٍ قريب من الكوفة.

فأرسل الإمام حجر بن عدي في ألف فارس فطاردهم وأدركهم في بلاد كلب فقاتلهم فقتل من أهل الكوفة ومن أهل الشام سبعة ورجع الضحاك إلى معاوية مفلولاً مهزوماً(2) .

____________

(1) تاريخ الطبري 5 / 133 ـ 134 ط دار المعارف باقتضاب.

(2) الفتوح 4 / 37 ـ 38.

٢٧٢

2 ـ تسيير يزيد بن شجرة الرهاوي في ثلاثة آلاف إلى مكة المكرمة ، ليطردوا لي الإمام ـ وهو يومئذ قثم بن العباس ـ فدخلها الرهاوي وكادت الفتنة أن تقع لولا رعاية قثم لحرمة البيت الحرام وتوسط أبي سعيد الخدري في أن يقيم الحج للناس شيبة بن عثمان العبدري واستنجد قثم بالإمام فأرسل الإمام (1700) رجلاً من فرسان العرب فيهم الريان بن ضمرة بن هوذة الحنفي وأبا الطفيل عامر بن واثلة فخرجوا من الكوفة أوّل ذي الحجة وقد فات الوقت ، فأدركوا الرهاوي قافلاً في وادي القرى فاصابوا عشرة من الشاميين فأسروهم وعادوا إلى الإمام فأمر بحبسهم وقال : لنا في يد معاوية أسارى فإذا أطلقهم أطلقنا نحن هؤلاء إن شاء الله تعالى(1) .

3 ـ غارة الحارث بن نمير التنوخي في الف على بلاد الجزيرة فأغاروا على قوم من بني تغلب ممّن كانوا في طاعة الإمام فأسروا منهم ثمانية وانصرفوا راجعين ، فكتب الإمام إلى معاوية في شأن الأسارى ، وتمّ إطلاق الأسارى من الطرفين(2) .

4 ـ غارة سفيان بن عوف الغامدي على أراضي العراق فبلغوا هيت والأنبار ، فبلغ الإمام ذلك وهمّ أن يسير إليهم بنفسه ثمّ سيّر إليهم خيلاً بقيادة سعيد بن قيس الهمداني ، وسار فلم يلحق به(3) .

5 ـ غارة عبد الرحمن بن أشيم على بلاد الجزيرة ، فصدّه شبيب بن عامر ـ وكان مقيماً بنصيبين في ستمائة رجل ـ وكميل بن زياد ـ وكان مقيماً في هيت

____________

(1) نفس المصدر 4 / 38 ـ 45.

(2) نفس المصدر 4 / 45 ـ 47.

(3) نفس المصدر 4 / 47 ـ 50.

٢٧٣

في أربعمائة رجل ـ ووقعت الهزيمة في أهل الشام فقتل منهم بشر كثير ، وقُتل من أصحاب شبيب أربعة ومن أصحاب كميل اثنان(1) .

6 ـ غارة بسر بن أبي أرطأة على الحجاز واليمن وأوصاه معاوية : واقتل كلّ من نابذك حتى تدخل أرض اليمن. فأتى المدينة فقتل بها خلقاً كثيراً وأمر بدور من الأنصار فحرقت وهدمت.

وسار إلى مكة فخافه أهلها فخرجوا هاربين. وسار إلى الطائف فلم يؤذ أهلها لشفاعة المغيرة بن شعبة ، ولكنه أرسل إلى تبالة ـ وهي قرية ـ بها يومئذ قوم من شيعة الإمام فأمر بقتلهم جميعاً.

ثمّ سار إلى نجران فقتل من كان من شيعة الإمام ، وسار إلى بلاد همدان وبها قوم من أرحب من شيعة الإمام فقتلهم عن آخرهم.

وسار إلى صنعاء وقد خرج منها عبيد الله بن العباس ـ وهو الوالي ـ هارباً واستخلف عمرو بن اراكه فقتله بسر صبرا وقتل كلّ من كان شيعة للإمام حتى لم يبق منهم أحداً ـ وفي الطبري : « ولقي بسر ثقل عبيد الله بن عباس وفيه ابنان له صغيران فذبحهما ، وقد قال بعض الناس انّه وجد ابني عبد الله بن عباس عند رجل من كنانة من أهل البادية ، فلمّا أراد قتلهما قال الكناني : علام تقتل هذين ولا ذنب لهما ، فإن كنت قاتلهما فاقتلني قال : افعل فبدأ بالكناني فقتله ثمّ قتلهما »(2) ـ وفي قتلهما قالت أمهما أم حكيم بنت قارظ اشجى رثاء فقالت :

____________

(1) نفس المصدر 4 / 50.

(2) الطبري 5 / 140.

٢٧٤

ها من أحسّ بابنيّ اللذَين هما

كالدرّتين تشظّى عنهما الصدف

ها من أحسّ بابنَي اللذَين هما

سمعي وقلبي فقلبي اليوم مزدهف

ها من أحسّ بابنَي اللذَين هما

مخ العظام فمخّي اليوم مختطف

نبئت بسراً وما صدّقت ما زعموا

من قولهم ومن الإفك الّذي اقترفوا

أنحى على ودجي ابنيّ مرهفة

مشحوذة وكذاك الإفك يُقترف

حتى لقيت رجالاً من أرومته

شمّ الأنوف لهم في قومهم شرف

فالآن ألعن بسراً حق لعنته

هذا لعمر أبي بسر هو السرف

من دلّ والهةً حرّى مدّلهةً

على صبيَين ضلاّ إذ غدا السلف

وكان اسم أحدهما عبد الرحمن والآخر قثم(1) .

ولأمهما فيهما أشعار كثيرة(2) قال ابن الأثير(3) : وهي أبيات مشهورة.

روى الذهبي : « إنّ معاوية لمّا بويع وبلغه قتال عليّ أهل النهر كاتب وجوه مَن معه مثل الأشعث ، ومنّاهم وبذل لهم حتى مالوا إلى معاوية ، وتثاقلوا عن المسير مع عليّ فكان يقول فلا يلتفت إلى قوله ، وكان معاوية يقول : لقد حاربت عليّاً بعد صفين بغير جيش ولا عتاد »(4) .

وهكذا حارب معاوية الإمام في بلاده التابعة لحكمه ، حتى بان الخلل في الأطراف الشرقية منها ، فقد أراد أهل فارس وكرمان أن يكسروا الخراج وطمعوا

____________

(1) الفتوح 4 / 59.

(2) دائرة المعارف للبستاني 1 / 383 ط بيروت.

(3) تاريخ ابن الأثير 3 / 167.

(4) سير أعلام النبلاء 44 / 302 ط دار الفكر بيروت (ترجمة معاوية).

٢٧٥

فيه ، وتجاوزوا ذلك إلى طرد سهل بن حنيف الأنصاري وكان عامل الإمام بفارس استضعافاً منهم له ، وبلغ ذلك الإمام فساءه الخبر ، وشاور أصحابه ومنهم ابن عباس فقال : أكفيك فارس ، وأرسل زياد ابن أبيه ومعه من الجند ما استطاع به أن يخضع تلك البلاد وضبطها حتى قال قائلهم : ما رأينا سيرة أشبه بسيرة كسرى أنو شروان من سيرة هذا العربي.

وبقي عاملاً على فارس بقية خلافة الإمام وأيام خلافة الإمام الحسن السبط ، واحتال عليه معاوية بعدُ حتى استلحقه ، فصار عدواً بعد أن كان ولياً ، كالّذي آتيناه آياتنا فاستهوته الشياطين فأنسلخ منها فأصبح من الغاوين.

وصار ابن عباس بعد ذلك إذا خرج إلى الكوفة استخلف على البصرة أبا الأسود الدؤلي.

ابن عباس في الكوفة :

لقد مرّت بنا بعض النصوص لها دلالتها على مدى ما اعتورت الإمام من محنٍ داخلية وخارجية حين صار أعداؤه يكيدونه بها ، وصار هو يتميّز غيظاً ، ويتفجر غضباً ، فهو حين يخطب ـ ولا أبلغ منه خطيب ـ لا يلفي السامع المجيب ، ولمّا استنهضهم وجدهم ثقالاً ، هم سمّاعون للكذب ، صمٌّ بكمٌ عن مواعظه ، فزاد ذلك في ألمه وبرمه ، وبلغ الحزن منه مبلغه. ومما جاوز الحد في ذلك دخول (عمرو بن الحمق وحجر بن عدي وحبّة العَرني والحارث الأعور وعبد الله بن سبأ على أمير المؤمنين (عليه السلام) بعدما افتتحت مصر وهو مغموم حزين فقالوا له بيّن لنا ما قولك في أبي بكر وعمر؟ فقال لهم عليّ (عليه السلام) : وهل فرغتم لهذا؟ وهذه مصر قد افتتحت وشيعتي بها قد قتلت. أنا مخرج إليكم كتاباً أخبركم فيه عمّا

٢٧٦

سألتم ، وأسألكم أن تحفظوا من حقي ما ضيّعتم ، فاقروؤه على شيعتي وكونوا على الحقّ أعواناً).

ثمّ ذكر الرواة نسخة الكتاب ، وأحسب أنّ أقدم نص في ذلك هو رواية ابن قتيبة المتوفى سنة 270 هـ في الإمامة والسياسة(1) ، ومن بعده رواية إبراهيم بن محمّد الثقفي المتوفى سنة 283 هـ في الغارات(2) ، وقد ذكر الشريف الرضي بعض الفقرات بعنوان (ومن خطبة له : أنّ الله بعث محمّداً (صلّى الله عليه وآله وسلّم » وفقرات أخر متفرقة ، وذكر الكتاب أيضاً ابن جرير الطبري الإمامي في المسترشد(3) .

فمن شاء الكتاب فليرجع إلى المصادر المذكورة فإنّه يفيض ألما ويتفجّر سأماً وبرما ، ولا شك أنّ ذلك الحال والمقال كلّه كان يبلغ ابن عباس وهو بالبصرة من خلال مراسلات الإمام إليه ورسله ، فضلاً عمّا يتحدث به الناس ويتناقلونه من أخبار تخاذل المجتمع الكوفي ، ومن الطبيعي كان لذلك تأثيره على المجتمع البصري الّذي لم يكن هو الآخر أحسن حالاً من المجتمع الكوفي إن لم يكن أسوأ لتركيبته السكانية ، واتساع رقعة ولاياته التابعة لإمارته ، وقد قرأنا أخبار ما جرى في بعض الولايات التابعة للبصرة في حكومتها نحو ما مرّ عن فارس وكور الأهواز ، وخبر الخريّت بن راشد في سيف البحر من أطراف رامهرمز ، وعامل أردشير خرّة. إلى غير ذلك ممّا لم نذكره ممّا دل على عُنف الزلزال الّذي بدأ يهزّ المجتمع الإسلامي الّذي يحكمه الإمام ، وينخر بنية المجتمع في البصرة والكوفة بل واليمن وغيرها على حدٍّ سواء.

____________

(1) الإمامة والسياسة 1 / 129 ـ 133 ط سنة 1328 بمصر.

(2) الغارات 1 / 302 ـ 322 تح ـ السيّد جلال الدين الحسيني (محدّث).

(3) المسترشد / 95 ـ 103 ط الحيدرية مع زيادات.

٢٧٧

وكان والحال هذه لابدّ لابن عباس من الذهاب إلى الكوفة بين فترة وأخرى ما وسعه ذلك ، لمواساة الإمام والتخفيف عنه بعض حزنه ، وقد مرّ بنا حضوره بعد مقتل محمّد بن أبي بكر (رحمه الله) ليعزي الإمام بمقتل محمّد ، فقتله كان الفادحة العظمى الّتي سلبت مصر من حكومة الإمام ، وجريمة شنعاء ارتكبها ابن العاص وجنده في قتله.

ولما لم تكن لدينا تواريخ محدّدة باليوم والشهر لذلك الحضور ولا غيره ممّا يشابهه ، فصرنا نستعين في التحديد التقريبي بنصوص الوثائق الّتي يرد فيها ما يشير إجمالاً إلى حَدَث معيّن. ونحن من خلال تلك النصوص نستشفّ تاريخ الحضور.

ولدينا الآن نصّان لهما أهميتهما القصوى في تصوير الحزن الّذي أحاط بالإمام من ست جهاته ـ كما يقال في المثل ـ وهما متشابهان شبهاً كثيراً في المضمون ممّا جعلنا نذكرهما كصنوين. مضافاً إلى الزمان والمكان فكلّ منهما حَدَثَ في الكوفة ، وكلّ منهما يرويه ابن عباس رواية حضور ولا يخفى أنّ عنصر المشاهدة أكثر ضبطاً للخصوصيات ويمتاز بها الراوي على غيره من رواة السماع.

كما أنّ كلاً منهما فيه لابن عباس أثر ذاتي يعكس مشاركته للإمام في أحزانه بوجدانه.

كما نرى فيهما الإمام يفضي إليه بما يعتلج بصدره ممّا لحقه من ظلم الأمة له وهضمها لحقوقه ، ومن غريب الصدف أن نجدهما معاً ينتهيان بمفاجأة تعرض فينهي الإمام كلامه عندها.

٢٧٨

فما هما النصّان؟

إنّهما الخطبة الشقشقية وصنوها ، ولا مشاحة في الاصطلاح لو سمينا النص الثاني بذلك لما مرّ من أوجه الشبه بينهما.

والآن إلى قراءة عابرة لهما :

أوّلاً : الخطبة الشقشقية :

ولمّا كانت شهرتها وفيما كتب عنها ما يغني عن الإفاضة في أدلة إثباتها(1) فلا نطيل الوقوف عند ذلك. إلاّ أنّا لا مناص لنا من التنبيه على أمور اقتضى المقام ذكرها :

1 ـ إنّ المصادر الّتي روت الخطبة كلها تقريباً روت النص عن ابن عباس ، اللّهمّ إلاّ ما وجدناه في سند واحد عند الشيخ الطوسي تنتهي روايته إلى الإمام الباقر (عليه السلام) ، فقد روى الخطبة عن ابن عباس كما رواها عن أبيه عن جده ـ يعني الإمام الحسين (عليه السلام).

2 ـ ممّا يثير الغرابة والتساؤل ، كيف تكون خطبة على المنبر يسمعها من حضر ، ولا شك بأنهم كانوا كثيرين وإن لم نعلم عددهم بالضبط ، فلا تشتهر روايتها إلاّ عن ابن عباس فلماذا لم يروها الآخرون؟

ثمّ ما بال الرواة عن ابن عباس لهذه الخطبة لم نعرف منهم إلاّ الإمام الباقر الطاهر (عليه السلام) ، وإلا عطاء بن أبي رباح وعكرمة الخارجي الخاسر مع كثرة الذين يروون عنه؟

____________

(1) راجع مصادر نهج البلاغة للمرحوم السيّد عبد الزهراء الخطيب 1 / 309 ـ 324 ط الأعلمي ـ بيروت.

٢٧٩

والّذي يدفع الإستغراب ويُقنع السائل بالجواب ، هو أنّ الخطبة تناول فيها الإمام حكومة الخالفين قبله ، وندّد بهم حتى وصف كلاً منهم بأوصاف لم تدع مجالاً للشك في أنهم تآمروا على استبعاده عن حقه المشروع ، ولمّا شاعت ووصلت أنباؤها حتى الشام ، اتخذها معاوية وحزبه ذريعة للتنديد بالإمام ـ كما سيأتي ذلك في حديثنا عن الصنو ـ ولما ولي معاوية بعد ذلك متغلباً على الأمة ومنع الناس من التحدّث بفضائل الإمام ، وأمر بإشاعة احاديث موضوعة في فضائل الصحابة ، كان من الطبيعي أن ينال التعتيم الإعلامي تلك الخطبة ، فلا يجسر أحد على روايتها ، اللّهمّ إلاّ الإمام الحسين الّذي رواها عنه ابنه الإمام السجاد ، وعنه ولده الإمام الباقر (عليهم السلام) ، وإلاّ ابن عباس الّذي كان معلناً بمر الحقّ في مجابهة معاوية وسلطانه ـ كما ستأتي الشواهد على ذلك في الحديث عن أيام معاوية ـ وفي صفحة احتجاجاته.

لذلك قلّت الرواية عنه إلاّ من طريق ثلاثة فحسب ، هم الإمام الباقر (عليه السلام) ، وعطاء وعكرمة ولما كان الثالث هو مولى ابن عباس ، فلعل روايته عنه ورواية عطاء كانتا حين سماعهما منه وهو يحدّث بها الإمام الباقر (عليه السلام) ، لذلك قلّ رواتها عنه ، وكانت سلسلة الرواة عن عكرمة تنتهي إلى أصحاب الإمام الباقر (عليه السلام) ، فقد رواها عنه أبان بن تغلب وعليّ بن خزيمة ـ كما في أسانيد الصدوق ـ فذلك يقرّب صحة ما احتملناه في سماع عكرمة لها ، لذلك لم يتطرّق الريب إليه في روايته للخطبة على أنّه خارجي.

3 ـ ورد في إرشاد الشيخ المفيد وشرح النهج للقطب الراوندي أنّ الخطبة كانت بالرحبة ، ويبدو أنّ المكان كان منتدى القوم وقد ورد ذكر الرحبة في

٢٨٠