موسوعة عبد الله بن عبّاس الجزء ٤

موسوعة عبد الله بن عبّاس0%

موسوعة عبد الله بن عبّاس مؤلف:
تصنيف: متون حديثية
الصفحات: 381

موسوعة عبد الله بن عبّاس

مؤلف: السيد حسن الموسوي الخرسان
تصنيف:

الصفحات: 381
المشاهدات: 67378
تحميل: 4444


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 381 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 67378 / تحميل: 4444
الحجم الحجم الحجم
موسوعة عبد الله بن عبّاس

موسوعة عبد الله بن عبّاس الجزء 4

مؤلف:
العربية

حديث المناشدة الّذي استنشد فيه الإمام من سمع حديث الغدير فشهد أقوام وأبلس آخرون كان منهم أنس بن مالك وزيد بن أرقم فدعا عليهما فبرص أنس وعمي زيد. والرحبة المشار إليها إنّما هي رحبة الجامع بالكوفة وهي الفناء الّذي أمامه. وليس في تعيين ذلك المكان كبير شأن لولا ما وجدته في تذكرة الخواص لسبط ابن الجوزي وهو يذكر الخطبة فقال : « خطبة أخرى ، وتعرف بالشقشقية ذكر بعضها صاحب نهج البلاغة وأخلّ بالبعض وقد أتيت بها مستوفاة. أخبرنا بها شيخنا أبو القاسم النفيس الأنباري بإسناده عن ابن عباس قال : لمّا بويع أمير المؤمنين بالخلافة ناداه رجل من الصف وهو على المنبر ما الّذي أبطأ بك إلى الآن؟ فقال : بديهاً : والله لقد تقمصها »(1) .

وهذا أمر منه غريب فإنّ بيعة الإمام كانت بالمدينة ، والخطبة تناولت ذكر الناكثين والقاسطين والمارقين فكيف يصح ما ذكره السبط؟ ولو أنّه ذكر لنا تمام سند شيخه النفيس لكان أولى.

والآن إلى رواية النص بأسانيد المشايخ الأعلام الثلاثة : الصدوق ، والطوسي ، والقطب الراوندي.

فقد رواه الصدوق فقال : « حدّثنا محمّد بن إبراهيم بن إسحاق الطالقاني (رضي الله عنه) قال : حدّثنا عبد العزيز بن يحيى الجلودي قال : حدّثنا أبو عبد الله أحمد بن عمّار ابن خالد ، قال : حدّثنا يحيى بن عبد الحميد الحمّاني ، قال : حدّثنا عيسى بن راشد ، عن عليّ بن خزيمة عن عكرمة عن ابن عباس »(2) .

____________

(1) تذكرة الخواص / 73 ط حجرية.

(2) معاني الأخبار / 343 ط الحيدرية بتقديمنا ، وعلل الشرائع 1 / 205 ط مكتبة الرضي بقم.

٢٨١

ثمّ قال الصدوق : « وحدّثنا محمّد بن عليّ بن ماجيلويه عن عمه محمّد بن أبي القاسم عن أحمد بن أبي عبد الله البرقي عن أبيه عن ابن أبي عمير عن أبان ابن تغلب عن عكرمة عن ابن عباس ».

ورواه الطوسي فقال : « وبهذا الإسناد أخبرنا الحفّار قال حدّثنا أبو القاسم الدعبلي قال : حدّثنا أبي قال : حدّثني أخي دعبل ، قال : حدّثنا محمّد بن سلامة الشامي عن زرارة بن أعين عن أبي جعفر محمّد بن عليّ (عليه السلام) عن ابن عباس.

ثمّ قال الطوسي : وعن محمّد عن أبيه عن جده »(1) .

ورواه القطب الراوندي فقال : « وأمّا الرواية للخطبة فعن الشيخ أبي نصر الحسن بن محمّد بن إبراهيم ابن البونارتي عن الحاجب أبي الوفا محمّد بن بديع وأبي الحسين أحمد بن عبد الرحمن الذكواني عن الحافظ أبي بكر بن مردويه الاصبهاني عن سليمان بن أحمد الطبراني ، أخبرنا أحمد بن عليّ الأبّار أخبرنا إسحاق بن سعيد أبو سلمة الدمشقي أخبرنا خليد بن دعلج عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس »(2) .

(النص) برواية الصدوق المتوفى سنة 381 في كتابيه وهما أقدم مصدر وصل إلينا. وإليك لفظه :

« عن ابن عباس قال : ذكرت الخلافة عند أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) فقال : (أمّا والله لقد تقمصها ابن أبي قحافة أخو تيم وانّه ليعلم أنّ محلي منها محل القطب من الرحى ، ينحدر عني السيل ، ولا يرقى إليّ الطير ،

____________

(1) الأمالي 1 / 382 مط النعمان في النجف.

(2) منهاج البراعة 1 / 131 ـ 133 ط قم منشورات مكتبة السيّد المرعشي.

٢٨٢

فسدلت دونها ثوباً ، وطويت عنها كشحا ، وطفقت أرتأي بين أن أصول بيد جذّاء ، أو أصبر على طخية عمياء ، يشيب فيها الصغير ، ويهرم فيها الكبير ، ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربّه ، فرأيت أن الصبر على هاتا أحجى ، فصبرت وفي العين قذى ، وفي الحلق شجى ، أرى تراثي نهبا ، حتى إذا مضى لسبيله ، فأدلى بها لأخي عديّ بعده ، فيا عجباً بينما هو يستقيلها في حياته ، إذ عقدها الآخر بعد وفاته ، فصيّرها في حوزة خشناء ، يخشن مسّها ، ويغلظ كلمها ، ويكثر العثار فيها والاعتذار منها ، فصاحبها كراكب الصعبة ، إن عنف بها حزن ، وإن أسلس بها غسق ، فمني الناس بتلوّن واعتراض وبلوى ، وهو مع هن وهن. فصبرت على طول المدة ، وشدة المحنة ، حتى إذا مضى لسبيله جعلها في جماعة زعم أنّي منهم ، فيا لله وللشورى! متى اعترض الريب فيَّ مع الأوّل منهم ، حتى صرت أقرن إلى هذه النظائر؟ فمال رجل لضغنه ، وأصغى الآخر لصهره ، وقام ثالث القوم نافجاً حضنيه بين نثيله ومعتلفه ، وقام معه بنو أبيه يخضمون مال الله خضم الإبل نبت الربيع ، حتى أجهز عليه عمله ، وكبت به مطيته ، فما راعني إلاّ والناس إليَّ كعرف الضبع قد انثالوا عليَّ من كلّ جانب ، حتى لقد وطئ الحسنان ، وشُقّ عطفاي ، حتى إذا نهضت بالأمر نكثت طائفة ، وفسقت أخرى ، ومرق آخرون كأنّهم لم يسمعوا الله تبارك وتعالى يقول :( تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ) (1) بلى والله لقد سمعوها ووعوها ، لكنهم أحلولت الدنيا في أعينهم ، وراقهم زبرجها ، أما والّذي فلق الحبّة وبرأ النسمة لولا

____________

(1) القصص / 83.

٢٨٣

حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر ، وما أخذ الله على العلماء ألاّ يقرّوا على كظّة ظالم ، ولا سغب مظلوم ، لألقيت حبلها على غاربها ، ولسقيت آخرها بكأس أولها ، ولألفيتم دنياكم هذه عندي أزهد من عفطة عنز).

قال ـ ابن عباس : وناوله رجل من أهل السواد كتاباً فقطع كلامه وتناول الكتاب. فقلت : يا أمير المؤمنين لو اطّردت مقالتك إلى حيث بلغت ، فقال : هيهات هيهات يا بن عباس ، تلك شقشقة هدرت ثمّ قرّت.

قال ابن عباس : فما أسفي على كلام قط كأسفي على كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) إذ لم يبلغ به حيث أراد ».

مطايبة ابن الخشاب لابن عباس :

قال ابن أبي الحديد بعد ذكره الخطبة : « حدثني شيخي أبو الخير مصدّق ابن شبيب الواسطي(1) في سنة ثلاث وستمائة قال : قرأت على الشيخ أبي محمّد عبد الله بن أحمد المعروف بابن الخشاب(2) هذه الخطبة فلمّا انتهيت إلى هذا الموضع ـ يعني قول ابن عباس : ما أسفت الخ ـ قال لي : لو سمعت ابن عباس يقول هذا لقلت له : وهل بقي في نفس ابن عمك أمر لم يبلغه في هذه الخطبة لتتأسف أن لا يكون بلغ من كلامه ما أراد؟ والله ما رجع عن الأولين ولا عن

____________

(1) بغدادي المولد والوفاة ، كان أعلم معاصريه بالعربية ، وعالم بعلوم الدين وله المام بالفلسفة والحساب والهندسة وقف كتبه على أهل العلم قبل وفاته ، توفي سنة 567 هـ (أعيان الشيعة 38 / 94 وروضات الجنات 5 / 22 والأعلام للزركلي 4 / 67).

(2) اللغوي النحوي الأديب المفسر الشاعر صاحب تاريخ مواليد ووفيات أهل بيت النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ، كان من تلامذة الجواليقي وابن الشجري. وكان خطه في نهاية الحسن توفى ببغداد سنة 567 ودفن بقرب قبر بشر الحافي) الكنى والألقاب 1 / 272 ط الحيدرية سنة 1376 هـ).

٢٨٤

الآخرين ، ولا بقي في نفسه أحد لم يذكره إلاّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم). قال مصدق : وكان ابن الخشاب صاحب دعابة وهزل ، قال : أتقول إنّها منحولة؟

فقال : لا والله ، وإنّي لأعلم أنّها كلامه كما أعلم أنّك مصدّق.

فقلت له : إنّ كثيراً من الناس يقولون : إنّها من كلام الرضي (رحمه الله) تعالى.

فقال : أنّى للرضي ولغير الرضي هذا النَفَس وهذا الأسلوب ، فقد وقفنا على رسائل الرضي وعرفنا طريقته وفنّه في الكلام المنثور ، وما يقع في هذا الكلام في خل ولا خمر. ثمّ قال : والله لقد وقفت على هذه الخطبة في كتب صنفت قبل أن يخلق الرضي بمائتي سنة ، ولقد وجدتها مسطورة بخطوط أعرفها ، وأعرف خطوط مَن هو من العلماء وأهل الأدب ، قبل أن يخلق النقيب أبو أحمد والد الرضي ».

وعقب ابن أبي الحديد على ذلك بقوله : « قلت : وقد وجدت أنا كثيراً من هذه الخطبة في تصانيف شيخنا أبي القاسم البلخي إمام البغداديين من المعتزلة. وكان في دولة المقتدر قبل أن يخلق الرضي بمدة طويلة

ووجدت كثيراً منها في كتاب أبي جعفر بن قبة أحد متكلمي الإمامية وهو الكتاب المشهور المعروف بكتاب (الإنصاف) وكان أبو جعفر هذا من تلامذة الشيخ أبي القاسم البلخي (رحمه الله) تعالى ، ومات في ذلك العصر قبل أن يكون الرضي (رحمه الله) موجودا ً »(1) .

والآن إلى النص الثاني وهو الّذي سميته :

____________

(1) شرح النهج لابن أبي الحديد 1 / 69.

٢٨٥

ثانياً : الصنو :

لقد تيقظت في نفس الإمام ذكريات مريرة ، فصار يستعرض صفحات من تاريخه البعيد والقريب ، وفي استعادته ذكرياته الماضيات عاف النوم واستولى عليه الأرق ، وهذا ما رواه السيّد ابن طاووس المتوفى سنة 664 في كتاب اليقين(1) ورواه المجلسي في البحار(2) وقد رمز له بعلامة (شف) ويعني ذلك الرمز كتاب (كشف اليقين للعلامة الحلي 726 هـ) وقد بحثت في نسخته المطبوعة قديماً على الحجر وحديثاً فلم أقف عليه ، ولعل في المطبوع سقط لم يتنبّه له الطابعون ، أو أنّ سهواً من النساخ وقع في الرمز. ومهما يكن فأنا أنقله عن السيّد ابن طاووس كما ذكره.

قال (فيما ذكره) : « عن أحمد بن محمّد الطبري المعروف بالخليلي(3) المقدّم ذكره من كتابه المشار إليه من تسمية مولانا عليّ (عليه السلام) أمير المؤمنين في حياة النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأمره بالتسليم عليه بذلك فقال : أخبرنا أحمد بن محمّد بن ثعلبة الحماني قال حدّثنا مخول بن إبراهيم النهدي قال حدّثنا عمرو بن شمر عن جابر عن أبي جعفر محمّد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب (عليهم السلام) قال : قال ابن عباس : كنت أتتبع غضب أمير المؤمنين (عليه السلام) إذا ذكر شيئاً أو هاجه خبر ، فلمّا كان ذات يوم كتب إليه بعض شيعته من الشام يذكر في كتابه أنّ معاوية

____________

(1) اليقين في إمرة أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) الباب / 122 ط الحيدرية سنة 369.

(2) بحار الأنوار 8 / 261 ط حجرية الكمباني.

(3) ويقال له غلام خليل أبو عبد الله محدث سكن بغداد وحدث بها من تصانيفه : الوصول إلى معرفة الأصول ، الكشف وفضائل أمير المؤمنين (عليه السلام) توفى سنة 275 هـ (أعيان الشيعة 9 / 455).

٢٨٦

وعمرو بن العاص وعتبة بن أبي سفيان والوليد بن عقبة ومروان اجتمعوا عند معاوية فذكروا أمير المؤمنين فعابوه وألقوا في أفواه الناس أنّه ينتقص أصحاب رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ، ويذكر كلّ واحد منهم ما هو أهله ، وذلك لمّا أمر أصحابه بالانتظار له بالنخيلة فدخلوا الكوفة وتركوه ، فغلظ ذلك عليه. وجاء هذا الخبر ، فأتيت بابه في الليل ، فقلت يا قنبر أيّ شيء خبر أمير المؤمنين؟ قال : هو نائم ، فسمع كلامه فقال : مَن هذا؟ فقال : ابن عباس يا أمير المؤمنين. قال : ادخل ، فدخلت فإذا هو قاعد ناحية عن فراشه في ثوب جالس كهيئة المهموم. فقلت : ما لك يا أمير المؤمنين الليلة؟

فقال : ويحك يا بن عباس وكيف تنفس المصدر عينا قلبٍ مشغول؟

يا بن عباس مَلِكُ جوارحك قلبُك ، فإذا أرهبه أمرٌ طار النوم عنه ، ها أنذا كما ترى من أوّل الليل اعتراني الفكر والسهر لما تقدم من نقض عهد أوّل هذه الأمة ، المقدّر عليها نقض عهدها ، إنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أمر من أمر من أصحابه بالسلام عليَّ في حياته بإمرة المؤمنين ، فكنت أوكد أن أكون كذلك بعد وفاته. يا بن عباس أنا أولى الناس بالناس بعده ولكن أمور اجتمعت على رغبة الناس في الدنيا وأمرها ونهيها وصرف قلوب أهلها عني ، وأصل ذلك ما قال الله تعالى في كتابه :( أم يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إبراهيم الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا) (1) فلو لم يكن ثواب ولا عقاب ، لكان بتبليغ الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فرضٌ على الناس اتباعه ، والله (عزّ وجلّ) يقول :( وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا

____________

(1) النساء / 54.

٢٨٧

نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) (1) أتراهم نُهوا عني فأطاعوه ، والّذي فلق الحبّة وبرأ النسمة ، وغدا بروح أبي القاسم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى الجنّة لقد قرنت برسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حيث يقول (عزّ وجلّ) :( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) (2) .

ولقد طال ـ يا بن عباس ـ فكري وهمّي وتجرّعي غصة لأمر ورود أقوام على معاصي الله ، وحاجتهم إليّ في حكم الحلال والحرام ، حتى إذا أتاهم أمن الدنيا أظهروا الغنى عني ، كأن لم يسمعوا الله (عزّ وجلّ) يقول :( وَلَوْ رَدُّوهُ إلى الرَّسُولِ وَإلى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ) (3) الآية ، ولقد علموا أنّهم احتاجوا إليَّ ولقد غنيت عنهم( أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ) (4) فمضى من مضى قالٍ عليَّ بضغن القلوب ، وأورثها الحقد عليَّ ، وما ذاك إلاّ من أجل طاعته في قتل الأقارب مشركين ، فامتلأ غيظاً واعتراضاً ، ولو صبروا في ذات الله لكان خيراً لهم ، قال الله (عزّ وجلّ) :( لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ) (5) الآية ، فأبطنوا مَن ترك الرضا بأمر الله ما أورثهم النفاق ، وألزمهم بقلة الرضا الشقاق ، وقال الله (عزّ وجلّ) :( فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا ) (6) .

فالآن يا بن عباس قرنت بابن آكلة الأكباد وعمرو وعتبة والوليد ومروان وأتباعهم وصار معهم في حديث ، فمتى اختلج في صدري وألقي في رُوعي أنّ

____________

(1) الحشر / 7.

(2) الأحزاب / 33.

(3) النساء / 83.

(4) محمّد / 24.

(5) المجادلة / 22.

(6) مريم / 84.

٢٨٨

الأمر ينقاد إلى دنيا يكون هؤلاء فيها روساء يطاعون ، فهم في ذكر أولياء الرحمان يثلبونهم ويرمونهم بعظائم الأمور من إفكٍ مختلق ، وحقدٍ قد سبق ، وقد علم المستحفظون ممّن بقي من أصحاب رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أنّ عامة أعدائي ممّن أجاب الشيطان عليَّ ، وزهّد الناس فيَّ ، وأطاع هواه فيما يضره في آخرته وبالله (عزّ وجلّ) الغنى وهو الموفق للرشاد والسداد.

يا بن عباس ويل لمن ظلمني ودفع حقي ، وأذهب عني عظيم منزلتي ، أين كانوا أولئك وأنا أصلي مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) صغيراً لم يكتب عليّ صلاة ، وهم عبدة الأوثان وعصاة الرحمن ، ولهم توقد النيران ، فلمّا قرب إصعار الخدود وإتعاس الجدود أسلموا كرهاً ، وأبطنوا طمعاً في أن يطفئوا نور الله ، وتربّصوا انقضاء أمر الرسول وفناء مدته ، لما أطمعوا أنفسهم في قتله ، ومشورتهم في دار ندوتهم. قال الله (عزّ وجلّ) :( وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ) (1) ، وقال :( يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ) (2) .

يا بن عباس ندبهم رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في حياته بوحي من الله يأمرهم بموالاتي ، فحمل القوم ما حملهم ممّا حقد على أبينا آدم من حسد اللعين له ، فخرج من روح الله ورضوانه ، وألزم اللعنة لحسده لولي الله. وما ذاك بضارّي إن شاء الله شيئاً.

يا بن عباس أراد كلّ أمرئ أن يكون رأساً مطاعاً تميل إليه الدنيا وإلى أقاربه ، فحمله هواه ولذة دنياه ، واتباع الناس إليه ، أن نوزعت ما جُعل لي ، ولولا

____________

(1) آل عمران / 54.

(2) التوبة / 32.

٢٨٩

اتقائي على الثقل الأصغر أن ينبذ فتنقطع شجرة العلم وزهرة الدنيا وحبل الله المتين ، وحصنه الأمين ، ولد رسول ربّ العالمين ، لكان طلب الموت والخروج إلى الله (عزّ وجلّ) ألذّ عندي من شربة ظمآن ونوم وسنان ، ولكني صبرت وفي الصدر بلابل ، وفي النفس وساوس ، فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون ، ولقديماً ظلم الأنبياء ، وقتل الأولياء قديماً في الأمم الماضية والقرون الخالية( فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِه ) (1) ، وبالله أحلف يا بن عباس إنّه كما فتح بنا يختم بنا وما أقول لك إلاّ حقاً.

يا بن عباس إنّ الظلم يتسق لهذه الأمة ويطول ويظهر الفسق وتعلو كلمة الظالمين ، ولقد أخذ الله على أولياء الدين ألاّ يقارّوا أعداءه ، بذلك أمر الله في كتابه على لسان الصادق رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقال :( وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ) (2) الآية.

يا بن عباس ذهب الأنبياء فلا ترى نبياً ، والأوصياء ورثتهم ، عنهم أخذوا علم الكتاب وتحقيق الأسباب قال الله (عزّ وجلّ) :( وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ ) (3) فلا يزال الرسول باقياً ما نفذت أحكامه وعمل بسنته ، وداروا حول أمره ونهيه.

وبالله أحلف يا بن عباس لقد نُبذ الكتاب ، وترك قول الرسول إلاّ ما لا يطيقون تركه من حلال وحرام ، ولم يصبروا على كلّ أمر بينهم( وَتِلْكَ الأَمْثَالُ

____________

(1) التوبة / 24.

(2) المائدة / 2.

(3) التوبة / 24.

٢٩٠

نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاّ الْعَالِمُونَ ) (1) ،( أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ ) (2) فبيننا وبينهم المرجع إلى الله( وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ ) (3) .

يا بن عباس عامل الله في سره وعلانيته تكن من الفائزين ، ودع من اتّبع هواه وكان أمره فُرطا ، وبحسب معاوية ما عمل وما يعمل به مَن بعده ، وليمدّه ابن العاص في غيّه فكأنّ عمره قد انقضى ، وكيده قد هوى( وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ ) (4) .

وأذّن المؤذّن فقال : الصلاة يا بن عباس لا تفت ، استغفر الله لي ولك وحسبنا الله ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة إلاّ بالله العليّ العظيم.

قال ابن عباس : فغمّني انقطاع الليل وتلهفت على ذهابه »(5) .

وإذا قارنا هذا النص بما مرّ من نص الشقشقية وجدنا وجه الشبه كبيراً وكثيراً كما قلنا آنفاً. فبداية كبداية ونهاية كنهاية ، وما بين البداية والنهاية نفثات أحزان وأشجان متشابهة وحتى أسف ابن عباس في آخر الشقشقية يقابله تلهّف في آخر صنوها.

وإذا رجعنا إلى النصين نتعامل معهما كوثائق تاريخية تستشفّ منهما تحديد البُعد الزماني للحَدَث ، وأنّهما معاً كانا بعد واقعة النهروان. ففي النص

____________

(1) آل عمران / 101.

(2) العنكبوت / 43.

(3) المؤمنون / 115.

(4) الشعراء / 227.

(5) كتاب اليقين في أمرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام الباب / 42 ط الحيدرية سنة 1369 هـ.

٢٩١

الأوّل نجد قوله (عليه السلام) : (ومرقت أخرى) والمارقة هم الخوارج الذين قتلهم بالنهروان.

وفي النص الثاني قرأنا في مقدمته قول ابن عباس « وذلك لمّا أمر أصحابه بالانتظار له بالنخيلة ، فدخلوا الكوفة وتركوه فغلظ ذلك عليه » وهذا إنّما كان بعد رجوعهم من النهروان وأرادهم (عليه السلام) على الخروج إلى أهل الشام إلاّ أنّ الأشعث الغادر الفاجر أبى عليه ذلك.

كما انّا عرفنا لولا حضور ابن عباس في كلا الموقفين وروايته لهما ، لضاعت تلك النفثات الحارة الساعرة تحت وطأة الجليد الأموي الّذي جمّد الأفكار وكمّ الأفواه.

ومن خلالهما أيضاً أدركنا عمق الصلة بين الإمام ومأمومه ، وأنّ لابن عباس مكانة عند الإمام سمت به إلى أوج الثقة فصار يبثّه شجونه وشؤونه. كما عرفنا صدق الموالاة والمواساة من ابن عباس المأموم لإمامه المهضوم المظلوم.

وثمة موقف آخر وليس أخيراً لابن عباس حضر فيه إلى الكوفة ، ربّما أتحد مع أحد الموقفين السابقين زماناً ، وربّما غايرهما.

ومهما كان زمانه ، فإنّ أهميته البالغة خير شاهد على تبديد الضبابية الحالكة الّتي أحاطت بابن عباس من أجل تهمة خيانة بيت مال البصرة. ولما كنت قد جعلت الحلقة الرابعة من الموسوعة لبحث جميع ما وقفت عليه من شوائب ونوائب لحقت به وسميتها (ابن عباس في الميزان) فلا أفيض هنا بالحديث عنها ، ولكني أذكر إجمالاً بعض النصوص لاقتضاء المقام ذكرها :

٢٩٢

فأقول : لقد مرّت بنا في البحث عن حياته بالبصرة وذكر نشاطه الإداري والسياسي ، بعض كتب الإمام إليه ، وكان منها كتاب ذكرت له أكثر من صورة ، وأكثرت من ذكر مصادره حتى جازت الثلاثين ، ولم يكن ذلك مني عبثاً ولا ترفاً ولا سرفاً وإنّما لغرض تسديد موقفي إزاء تلك التهمة ، فإنّ لذلك الكتاب في نفس ابن عباس أثر بالغ عبّر عنه بقوله : « ما انتفعت بكلام أحد مثل ما انتفعت بكلام أحد بعد رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم كانتفاعي بكلام كتب به أمير المؤمنين كتب إليَّ » :

« سلام عليك أمّا بعد : فإنّ المرء يسوؤه فوت ما لم يكن ليدركه ، ويسره درك ما لم يكن ليفوته ، فليكن سرورك بما نلت من امر آخرتك ، وليكن أسفك على ما فاتك منها ، وما فاتك من الدنيا فلا تأسفنّ عليه ، وليكن همك فيما بعد الموت ».

وهذا ما رواه سبط ابن الجوزي بإسناد ينتهي إلى المأمون العباسي وهو يرويه عن آبائه الخالفين عن ابن عباس. وعقب السبط عليه بقوله : « وقد روى السدي هذا عن أشياخه وقال عقيبه : كان الشيطان قد نزغ بين ابن عباس وبين عليّ (عليه السلام) مدة ثمّ عاد الأمر إلى موالاته »(1) . ثمّ ذكر المراسلات الّتي خبط فيها الكثيرون ممّا سنذكرها في الحلقة الرابعة إن شاء الله.

ولعل هذا الّذي أشار إليه السدي إنّما أراد ما ذكره اليعقوبي في تاريخه ، فقد قال : « وكتب أبو الأسود الدؤلي ـ وكان خليفة عبد الله بن عباس بالبصرة ـ إلى عليّ (عليه السلام) يعلمه أنّ عبد الله أخذ من بيت المال عشرة الاف درهم ، فكتب

____________

(1) تذكرة الخواص / 89 ط حجرية سنة 1285 هـ.

٢٩٣

إليه يأمره بردّها فامتنع فكتب يقسم له بالله ليردّنها ، فلمّا ردّها عبد الله بن عباس أو ردّ أكثرها كتب إليه (عليه السلام) : أمّا بعد فإنّ المرء يسرّه درك ما لم يكن ليفوته ، ويسوؤه فوت ما لم يكن ليدركه ، فما أتاك من الدنيا فلا تكثر به فرحاً ، وما فاتك منها فلا تكثر عليه جزعاً ، واجعل همّك لما بعد الموت والسلام »(1) .

وأخيراً بعد ما ذكرناه من أمر الكتاب فلنقرأ ما وجدناه يتضمن حضوره بالكوفة ، وقد أتى بما عليه من المال :

روى الطبرسي في مكارم الأخلاق خبراً له اتساق واتفاق مع ما مرّ : « عن عبد الله بن عباس لمّا رجع من البصرة وحمل المال ودخل الكوفة ، وجد أمير المؤمنين (عليه السلام) قائماً في السوق وهو ينادي بنفسه : معاشر الناس من أصبناه بعد يومنا هذا يبيع الجرّي والطافي والمارماهي علوناه بدرّتنا هذه ـ وكان يقال لدرّته السبتية ـ.

قال ابن عباس : فسلّمت عليه فردّ عليَّ السلام ثمّ قال : يا بن عباس ما فعل المال؟

فقلت : ها هو يا أمير المؤمنين ، وحملته إليه ، فقرّبني ورحّب بي ، ثمّ أتاه منادٍ ومعه سيفه ينادي عليه بسبعة دراهم. فقال : لو كان لي في بيت مال المسلمين ثمن سواك أراك ما بعته ، فباعه واشترى قميصاً بأربعة دراهم ، وتصدّق بدرهمين ، وأضافني بدرهم ثلاثة أيام »(2) .

____________

(1) تاريخ اليعقوبي 2 / 181 ط النجف.

(2) مكارم الأخلاق (آداب اللباس ـ ترقيع الثياب) / 130 ط حجرية سنة 1376 و / 48 ط مصر سنة 1369 و / 112 ط الحيدرية بتقديمنا سنة 1391 هـ.

٢٩٤

فهذا الخبر يتسق مضموناً مع ما مرّ ، فثمة مال أخذه ابن عباس ، وثمة مطالبة به ، وثمة تسليم آنيّ ، ثمّ من بعده تقريب وترحيب ، وأخيراً ضيافة ثلاثة أيام بدرهم.

ثمّ إنّ الخبر بكل مفرداته يتفق مع سيرة إمام عادل شديد في مراقبة ومحاسبة عمّاله القريب منهم والبعيد كلّهم سواسية أمام العدالة. ومع الأسف لم يفصح الخبر عن وجه الأخذ بأيّ اعتبار كان ، فهل كان له على وجه الحقّ الشرعي فيما يراه؟ أو كان على سبيل القرض؟ ومهما كان وجه ذلك فقد ردّه فرضي عنه الإمام : فرواية اليعقوبي أولى بالقبول لأنّها ملتصقة بالمقبول وهو المعقول وهي أنسب بواقع الحدث كما حدث وتلمسنا صحتها بخبر مكارم الأخلاق ، فهو رصين ومقبول أيضاً. كما إنّ الخبر أيضاً أوضح سيرة ذلك الإمام العادل في مراقبة ومعاقبة أصحاب المكاسب المحرّمة حتى الصيّادين فكان ينادي بنفسه. وأوضح جانباً من ورعه عن تناول ما يحتاج من بيت مال المسلمين ، ولو كان له فيه ثمن سواك من أراك لما باع سيفه. ثمّ ها هو قد باعه بسبعة دراهم فأين صرفها؟ اشترى قميصاً بأربعة دراهم ، وتصدّق بدرهمين وأضاف ابن عمه بدرهم ثلاثة أيام فدتك النفوس يا إمام العدالة في الأرض.

وثمة آخر موقف فيه حضور لابن عباس في الكوفة نجد في أخباره دلالات تبعد عنه الشكوك كما تدل على حسن السلوك. وهو آخر حضور له ، ولعله أطول مكثاً في زمانه من غيره ، فقد كان ذلك في شهر رمضان سنة 40 من الهجرة ، وهو الشهر الّذي استشهد فيه الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام).

٢٩٥

وهذا الحضور أعتبره معبّراً أكثر منه حضوراً عابراً وليس كالمواقف السابقة على ما مرّ فيها من ايجابيات مؤثرة ومعبّرة ، فقد كان فيه ما يلي :

1 ـ كان الإمام (عليه السلام) يتناول عشاءه عنده مرة في إحدى ليال ثلاث أو أربع من شهر رمضان وأقدم من رواه لنا البسوي المتوفى سنة 277 هـ ، كما روى ذلك أيضاً ثلاثة من الأحناف. وهم المؤيد الخوارزمي في مناقبه ، وشيخ الإسلام الجويني في فرائد السمطين ، وجمال الدين الزرندي في نظم درر السمطين ، ورواه من الشافعية ابن عساكر في تاريخه ـ ترجمة الإمام ـ ، ورواه من الزيدية محمّد بن سليمان الكوفي في كتابه مناقب أمير المؤمنين(1) .

ومن أصحابنا الشيخ المفيد في إرشاده وكلّ هؤلاء يروونه عن أبي نعيم الفضل بن دكين عن عبد الجبار بن العباس الهمداني عن عثمان بن المغيرة وسيأتي مزيد بيان عن هذه الحضور في الحلقة الرابعة (ابن عباس في الميزان) إن شاء الله تعالى.

2 ـ ولادة ابنه عليّ بالكوفة في شهر رمضان قبل مقتل الإمام (عليه السلام) بيوم أو ليلة ، وهذا أمر ذكره جملة من المؤرخين في ترجمته.

فقد ذكر ابن سعد في الطبقات فقال : « ولد ليلة قتل عليّ بن أبي طالب رحمة الله عليه في شهر رمضان سنة أربعين فسُمّي باسمه وكنيته أبي الحسن ، فقال له عبد الملك بن مروان لا والله لا احتمل لك الاسم والكنية جميعاً فغيّر أحدهما ، فغيّر كنيته فغيّرها أبا محمّد. وحكى ذلك غير واحد نقلاً عنه وعن

____________

(1) مناقب أمير المؤمنين عليّ 2 / 71.

٢٩٦

غيره ، وعقّب ابن خلكان على قول عبد الملك بقوله : وإنّما قال له عبد الملك هذه المقالة لبغضه في عليّ بن أبي طالب (رضي الله عنه) ، فكره أن يسمع اسمه وكنيته »(1) .

وأحسب أنّ المبرّد المتوفى سنة 285 هـ هو أقدم من وصلت روايته في ذلك إلينا مستوفية للزمان والمكان ، وإلى القارئ ما ذكره في كتابه الكامل :

قال : « يروى عن عليّ بن أبي طالب رحمة الله عليه انّه افتقد عبد الله بن العباس (رحمه الله) في وقت صلاة الظهر فقال لأصحابه : ما بال أبي العباس لم يحضر؟ فقالوا : ولد له مولود ، فلمّا صلّى عليّ (رحمه الله) قال : أمضوا بنا إليه ، فأتاه فهنأه فقال : شكرت الواهب وبورك لك في الموهوب ما سميته؟ قال : أو يجوز لي أن أسمّيه حتى تسمّيه! فأمر به فأخرج إليه فأخذه وحنّكه ودعا له ، ثمّ ردّه إليه وقال : خذه إليك أبا الأملاك ، قد سميته عليّاً وكنيته أبا الحسن.

قال المبرّد : فلمّا قام معاوية قال لابن عباس : ليس لكم اسمه وكنيته ، وقد كنّيته أبا محمّد فجرت عليه »(2) .

قال ابن أبي الحديد : « فإنّ عليّ بن عبد الله لمّا ولد أخرجه أبوه عبد الله إلى عليّ (عليه السلام) فأخذه وتفل في فيه وحنّكه بتمرة قد لاكها ودفعه إليه وقال خذ اليك أبا الأملاك »(3) .

هكذا الرواية الصحيحة وهي الّتي ذكرها أبو العباس المبرّد في كتاب الكامل

____________

(1) طبقات ابن سعد 5 / 229 ط أفست ليدن.

(2) الكامل 2 / 217 مطبعة نهضة مصر.

(3) شرح النهج لابن أبي الحديد 2 / 176 ط مصر الأولى.

٢٩٧

وسيأتي أيضاً مزيد تحقيق حول ذلك في الحلقة الرابعة (ابن عباس في الميزان) إن شاء الله تعالى.

ورحم الله المعري حيث يقول :

وقد سمّاه سيده عليّاً

وذلك من علوّ القدر فال(1)

مأساة الشهادة :

لقد كان الإمام (عليه السلام) منتظراً للشهادة ، بل ومنتجزاً لها فيقول : (متى يبعث أشقاها) لشدة ما كان يجده من خلافات مجتمعة ، وما يجده في نفسه من ظلم لحقه من بعد الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وحتى يومه ، فهو لئن جاهد الكفار والمشركين أيام الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) على تنزيل القرآن حتى دخلوا في دين الله ، فقد صار يجاهد المسلمين من بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) على تأويل القرآن ، حيث ذهبت بهم منازعُهم إلى مُنازعته ، حتى تفلّتوا من أحكام الدين على غير هدى ، فصار يدعو لنفسه وعليهم فيقول : (ما يحبس أشقاكم أن يجيء فيقتلني ، اللّهمّ إني قد سئمتهم وسئموني ، فأرحني منهم وأرحهم مني)(2) . وقد مرّت بنا شواهد على ذلك في حديثه مع ابن عباس في الشقشقية وفي صنوها.

واستجيبت دعوته فقتل غيلة بضربة غادرة آثمة من سيف آثم كفور ، فأورث قتلُه (عليه السلام) المسلمين ذلاً شاملاً ، كما أورث آله وذويه حزناً دائماً.

يقول جورج جرداق : « وقال القدر كلمته الغادرة فأتاه ابن ملجم بسيف مسموم يضرب رأسه الضربة الّتي قال فيها الخبيث إنّها لو كانت بأهل مصر جميعاً لأتت عليهم

____________

(1) الغيث المسجم 1 / 120.

(2) أنساب الأشراف 24 / 501 تح ـ المحمودي بيروت.

٢٩٨

وحلّت على ابن ملجم لعنة الله ولعنة اللاعنين ومن وُلدوا ومَن ماتوا ومَن قال لهم الله كونوا فكانوا. لعنةٌ تجفّف النبع ، وتخضم الزرع ، وتحرق النبت في الأرض وهو وسيم ، وجعل الله زفير جهنم وشهيقها في أصول تكوينه ، وأهلكه ألف شيطان كبّوه على وجهه في سواء الجحيم وفيها لفح وفيها أفواه من اللهب ذات أجيج وذات صفير اهـ »(1) .

نعم لقد قضى الإمام شهيد عظمته والصلاة بين شفتيه كما يقول ذلك مسيحي آخر. حتى قالت من كانت أشد الناس شماتة بشهادته وهي عائشة الّتي لمّا بلغها الخبر وتمثلت بقول البارقي :

فألقت عصاها واستقر بها النوي

كما قرّ عيناً بالإياب المسافر

فقد روى عنها أبو عمر انّها قالت : « فلتصنع العرب ما شاءت فليس أحدٌ ينهاها »(2) .

وهذه كلمة لها مغزاها ، أيان مرساها ، وقد صدقت في مأتاها.

أمّا عظم المأساة في جنبات الصدور فقد فجّرت مصيبته البكاء والرثاء في ذويه ومواليه.

وكان ابن عباس أحد أولئك الذين أشعلهم الحزن أواراً فأرسل دمعه مدراراً ، وأشفع دمعه بكلماته الّتي سالت مع دموعه وهي على وجازتها معربة عن مدى حزنه ، وبأبيات من نظمه ، وهي على قلتها تفيض بعاطفته ، ويشعر القارئ لها بأنّ صاحبها لمتاعٌ أشدّ التياع ، لما فيها من حرارة وافتجاع.

____________

(1) الإمام عليّ صوت العدالة الإنسانية ـ عليّ وعصره ـ 4 / 1003.

(2) الاستيعاب بهامش الاصابة 3 / 57 و 218.

٢٩٩

وإلى القارئ ما قام به ابن عباس بعد شهادة الإمام (عليه السلام) :

1 ـ مشاركته في تغسيل الإمام (عليه السلام) :

قال أبو الفرج : « حدّثني أحمد بن عيسى حدّثنا الحسن (الحسين خ ل) ابن نصر قال : حدّثنا زيد بن المعدّل عن يحيى بن شعيب عن أبي مخنف عن فضيل بن خديج عن الأسود الكندي والأجلح قالا : توفي أمير المؤمنين عليّ ـ (عليه السلام) ـ وولي غسله ابنه الحسن بن عليّ وعبد الله بن العباس وكفّن في ثلاثة أثواب ليس فيها قميص ، وصلّى عليه ابنه الحسن ، وكبر عليه خمس تكبيرات »(1) .

2 ـ تأبين ورثاء :

أ ـ روى ابن شهر اشوب قال : « الزعفراني عن المزني عن الشافعي عن مالك عن سمي عن أبي صالح قال : لمّا قتل عليّ بن أبي طالب قال ابن عباس : هذا اليوم نقص الفقه والعلم من أرض المدينة.

ثمّ قال : انّ نقصان الأرض نقصان علمائها وخيار أهلها ، إنّ الله لا يقبض هذا العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور الرجال ، ولكنه يقبض العلم بقبض العلماء ، حتى إذا لم يبق عالم ، اتخذ الناس رؤساءَ جهّالاً فيُسألوا فيفتوا بغير علم فيَضِلّوا وأضلوا »(2) .

____________

(1) مقاتل الطالبيين / 41 ط مصر ، ورواه يحيى بن الحسين الهاروني في أمإليه / 85 ط بيروت سنة 1395 هـ.

(2) مناقب ابن شهرآشوب 3 / 92 ط الحيدرية ، ورواه المجلسي في البحار 9 / 743 ط تبريز على الحجر.

٣٠٠