موسوعة عبد الله بن عبّاس الجزء ٤

موسوعة عبد الله بن عبّاس10%

موسوعة عبد الله بن عبّاس مؤلف:
تصنيف: متون حديثية
الصفحات: 381

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 381 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 71378 / تحميل: 5348
الحجم الحجم الحجم
موسوعة عبد الله بن عبّاس

موسوعة عبد الله بن عبّاس الجزء ٤

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

ب ـ ذكر ابن أبي الحديد في ذكر مقتل الإمام (عليه السلام) وموضع قبره وما قيل فيه من الأشعار فقال : « وقال عبد الله بن العباس بن عبد المطلب :

وهزّ عليّ بالعراقين لحية

مصيبتها جلّت على كلّ مسلم

وقال سيأتيها من الله نازل

ويخضبها أشقى البريّة بالدم

فعاجله بالسيف شلّت يمينُه

لشؤم قطام عند ذاك ابن ملجم

فيا ضربة من خاسر ضلّ سعيه

تبوّأ منها مقعداً في جهنم

ففاز أمير المؤمنين بحظّه

وإن طرقت إحدى الليالي بمعظم

ألا إنّما الدنيا بلاء وفتنة

حلاوتها شيبت بصاب وعلقم »(١)

٣ ـ حزن وبكاء :

أ ـ روى فرات بن إبراهيم ـ من علماء القرنين الثالث والرابع ـ في تفسيره قال : « حدّثنا عليّ بن محمّد بن مخلد الجعفي معنعناً عن سليمان بن يسار قال : رأيت ابن عباس لمّا توفي أمير المؤمنين بالكوفة وقد قعد في المسجد محتبياً ووضع مرفقه على ركبته ، وأسند به تحت خده وقال :

يا أيها الناس إنّي قائل فأسمعوا من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ، سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقول : إذا مات عليّ وأخرج من الدنيا ظهرت في الدنيا خصال لا خير فيها ، فقلت وما هي يا رسول الله؟

____________

(١) شرح النهج لابن أبي الحديد ٢ / ٤٦ ط مصر الأولى ، وذكر ابن عبد البر في الاستيعاب ٢ / ٤٧٢ ط حيدر اباد هذه الأبيات منسوبة إلى بكر بن حماد التاهرني ، ولعله استشهد بها فظنت أنها له والله أعلم.

٣٠١

فقال : تقل الأمانة ، وتكثر الخيانة ، حتى يركب الرجل الفاحشة وأصحابه ينظرون إليه ، والله لتضايق الدنيا بعده بنكبة ، وإن الأرض لا تخلو مني ما دام عليّ حياً في الدنيا بقية من بعدي ، عليّ في الدنيا عوض مني بعدي ، عليّ كجلدي ، عليّ كلحمي ، عليّ (كـ) عظمي ، عليّ كدمي ، عليّ (كـ) عروقي ، عليّ أخي ووصيي في أهلي وخليفتي في قومي ، ومنجز عداتي ، وقاضي ديني ، وقد صحبني عليّ في ملمّات أمري ، وقاتل معي أحزاب الكفار ، وشاهدني في الوحي ، يأكل معي طعام الأبرار ، وصافحه جبرئيل مراراً نهاراً جهاراً ، وقبّل جبرئيل خدّ عليّ اليسار ، وشهد جبرئيل وأشهدني أنّ عليّاً من الطيبين الأخيار ، وأنا أشهدكم معاشر الناس لا تتساءلون من علم أمركم ما دام عليّ فيكم ، فإذا فقدتموه فعند ذلك تقوم الآية :( لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ ) (١) »(٢) .

وأخيراً ابيضت عيناه من الحزن :

قال الله سبحانه وتعالى حكاية عن حال نبيّه يعقوب حين فقد ولده( وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْن ) (٣) قال المفسّرون : وإنّما ابيضّت عيناه من البكاء وسبب البكاء هو الحزن. ولا شك أنّ البكاء كما أنّه خير وسيلة لتخفيف الضغط النفسي الّذي يكابده المرء عند ملمّات النوازل ، فهو يأتي على بصر الإنسان

____________

(١) تفسير فرات / ٥٤ ط الحيدرية و / ١٥٤ ١٩٢ ـ ١٩٨ ، ورواه المجلسي في البحار ٩ / ٧٦٤ ط تبريز على الحجر.

(٢) الأنفال / ٤٢.

(٣) يوسف / ٨٤.

٣٠٢

فيفقده ، ومع ذلك ففيه تخفيف اللوعة بنزول الدمعة ، ولعل قول ذي الرمة خير معبّر في تصوير تلك الحال :

خليلي عوجا من صدور

الرواحل بجهور حزوى وابكيا في المنازل

لعل انحدار الدمع يعقب راحة

من الوجد أو يشفي نجيّ البلابل

ولقد ذكر في كتب السيرة أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بكى عند فقده أحبته ، وآخرهم ابنه إبراهيم فقال : (إنّ العين تدمع والقلب يحزن ولا نقول ما لا يرضي الرب وإنا بك يا إبراهيم لمحزونون)(١) .

وكلّما عظمت الرزية وجلت المصيبة عظم الحزن بها ، واشتد الوجد بصاحبها ، ومهما بلغ في إيمانه مقاماً رفيعاً لتستولي عليه أحزانه ، فيفزع إلى البكاء ليخفّف من غلواء المصاب ، فان في إفاضة الكئيب لدمعته ما يذهب من لوعته ، وفي ارساله لعبرته ما يعينه على سلوته ، وهذا ممّا لا شك فيه ، لكن ليس انسكاب الدموع يذهب ما في نفس المفجوع ، فلئن سكنت النفس آناً ما إلى رشدها ، وتأسى صاحبها بالصبر على عظيم فقدها ، إلاّ أنّ الذكرى تؤجج جذوة الحزن ، فمتى استثيرت ثارت ، فتحول الحزن إلى بركان يثور ، وعندما يلحّ الواجد الفاقد الحزين بالبكاء وتبيضّ عيناه من الحزن فيفقد بصره ، كما مرّ في أمر يعقوب (عليه السلام). وكان ابن عباس مثله في هذا الباب فيما يروي الرواة ، قال سفيان ابن عيينة : « كانوا يروون أنّ ابن عباس إنّما ذهب بصره لكثرة البكاء على عليّ ابن أبي طالب (عليه السلام) »(٢) .

____________

(١) السيرة الحلبية وسيرة زيني دحلان وغيرهما.

(٢) تيسير المطالب في امالي الإمام أبي طالب يحيى بن الحسين الهاروني المتوفى سنة ٤٢٤ هـ ط بيروت سنة ١٣٩٥ هـ.

٣٠٣

وذكر ذلك السيّد ابن طاووس نقلاً عن النقاش في المجلد الأوّل من تفسيره ، فقد رواه بإسناده عن الكلبي قال : « وذهب بصر ابن عباس من كثرة بكائه على عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) »(١) .

ورواه النبهاني في الشرف المؤبد ونسبه إلى القيل(٢) ، وذكره البياضي في الصراط المستقيم(٣) ، وقال المسعودي : « وكان ـ ابن عباس ـ قد ذهب بصره لبكائه على عليّ والحسن والحسين »(٤) .

ويبدو أنّ بداية ضعف بصره وتقرّح جفونه كانت بعد مقتل الإمام (عليه السلام) ثمّ تزايد ذلك بمرور الزمان ، وكثرة ما أصابه من نوازل الحدثان فيفزع إلى البكاء ، وكاد أن يكفّ بصره تماماً قبل مقتل الحسين (عليه السلام) ، لكنه بعد مقتله وتزايد الحزن عليه فلم ترقأ له دمعة فَكُفّ بصره تماماً ، حتى كان أبو رجاء العطاردي يقول : « رأيت ابن عباس وأسفل من عينيه مثل الشراك البالي من البكاء »(٥) ، وقد حدّد عليّ بن أبي طلحة زمن العمى بقوله : « وكان أحسن عيناً قبل أن يكفّ بصره ، وكفّ قبل موته بست سنين أو نحوها »(٦) ، وهذا التحديد يتسق تقريباً مع ما مرّ عن المسعودي وقول السبط في تذكرته : « ولمّا قتل الحسين لم يزل ابن عباس

____________

(١) سعد السعود / ٢٨٥.

(٢) الشرف المؤبد / ٦٤ ط بيروت سنة ١٣٠٩ هـ.

(٣) الصراط المستقيم ١ / ١٤٤.

(٤) مروج الذهب ٣ / ١٠٨ تح ـ عبد الحميد ، وحكاه أيضاً السيّد المدني في الدرجات الرفيعة / ١٣٩ ط الحيدرية.

(٥) سير أعلام النبلاء ٤ / ٤٥٢ ط دار الفكر.

(٦) أنساب الأشراف ـ ترجمة ابن عباس ـ برقم ١٢٤مخطوطة بقلمي.

٣٠٤

يبكي عليه حتى ذهب بصره »(١) . وسيأتي أنّه لمّا كان يدخل على معاوية كان لا يستبين مكانه بل كان يستعين بقائده.

ومهما يكن تحديد الزمن إلاّ انّ بعض المناقبيين قد اتخذ من مسألة كفّ بصر ابن عباس ذريعة إلى مبتغاه ، فروى أنّ السبب كان رؤيته جبرئيل عند النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وقد مرّ في الجزء الأوّل تفنيد ذلك عند الكلام عن حياته في عهد الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فراجع.

ولم يقصّر عن هذا آخر حين قصّر بفهم ابن عباس وفقهه عن إدراك حكم تكليفه حين كفّ بصره وقد أتاه من عرض عليه إجراء عملية جراحية على أن يصلي سبعة أيام مستلقياً يؤمي ايماء ، فزعم الراوي أنّه أرسل إلى عائشة وأبي هريرة وغيرهما من أصحابه (؟) كلّ يقول : « أرأيت إن متّ في هذه السبع كيف تصنع بالصلاة؟ قال فترك عينه ولم يداوها »(٢) .

فبهذا الخبر أثبت الراوي جهل ابن عباس بوظيفته الشرعية فهو لا يعلم كيف يعمل وما هو حكم تكليفه؟ فاستفتى عائشة وأبا هريرة ، وبعض أصحابه (؟) ممّن لم يكشف الراوي عن هويّتهم المجهولة ، فأتته فتاواهم متفقة : « كلّ يقول : أرأيت إن متّ في هذه السبع كيف تصنع بالصلاة؟ ».

وما أدري كيف استساغ الراوي رواية ذلك وهو يروي بأنّ ابن عباس لو رضي باجراء العملية كان عليه أن يصلي مستلقياً إيماءً ، فهل مَن كان حكمه ذلك يقال له : كيف تصنع بالصلاة؟ فهل هو يترك الصلاة كلية؟ أم انّ فرضه وحكمه

____________

(١) تذكرة الخواص / ٩٠ ط حجرية سنة ١٢٨٥ هـ.

(٢) مستدرك الحاكم ٣ / ٥٤٥ وتلخيص المستدرك للذهبي بهامشه.

٣٠٥

في تكليفه انتقل من الصلاة قائماً إلى الصلاة مستلقياً مؤدياً للركوع والسجود وباقي أفعاله بالإيماء؟ ومهما يكن فقد أورد راويه هذا الخبر وأورده مخرّجه بسنده توثيقاً له مدلّلين على احتياج ابن عباس إلى عائشة وأبي هريرة وبعض أصحابه (؟) ليعرّفوه حكمه لو فعل ما أشار عليه به الجرّاح.

ألا على العقول العفا تلك الّتي تصدّق بذلك ، فأين أثر دعاء النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) له بأن يفقهه في الدين ويعلمه الحكمة وهم يروونه؟ ثمّ ألم تكن عائشة هي الّتي شهدت له في سنة ٣٥ هـ حين ولي أمر الموسم بأنّه أعلم الناس بالحج ، وهو الّذي كان عمر يستفتيه ويقول له غص يا غواص وقد مرّ ذلك كلّه ، وقال عنه طاووس : « رأيت سبعين من أصحاب رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إذا تدارأوا صاروا إلى قول ابن عباس »(١) ، وفي لفظ البغوي عنه : « أدركت خمسين أو سبعين من الصحابة إذا سئلوا عن شيء فخالفوا ابن عباس لا يقومون حتى يقولوا هو كما قلت أو صدقت »(٢) .

وقال عليّ بن المديني : « لم يكن في أصحاب رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أحد له أصحاب يقومون بقوله في الفقه إلاّ ثلاثة وعدّ ابن عباس منهم »(٣) .

وأخيراً لقد مرّ بنا في أعقاب حرب الجمل في مواقف متشنجة شواهد على ما كان بين عائشة وابن عباس من نفور لم تحتمله الصدور حتى بدا فوق السطور. فكيف نصدّق الرواة في استفتائه منها؟

____________

(١) الإصابة ترجمة ابن عباس.

(٢) المصدر السابق نفسه.

(٣) تهذيب الأسماء واللغات للنووي ١ / ٢٧٤ ط المنيرية.

٣٠٦

وقد جعله أبو حامد الغزالي في كتاب كشف علوم الآخرة من أوائل من يعطي الله اجورهم ، لأنّهم فقدوا أبصارهم في الدنيا وحكى ذلك عنه القرطبي(١) . وما أدري كيف استساغ القرطبي حكاية ذلك وهو من الغيب الّذي لم يأت فيه حديث من معصوم.

والآن وقد شارفنا على الإنتهاء من القسم الأوّل من الفصل الأوّل فيما يتعلق بتاريخ ابن عباس حبر الأمة (رحمه الله) في فترة خلافة الإمام (عليه السلام) ، أرى لزاماً عليَّ أن أذكر بعض الروايات الّتي تزيّد فيها الرواة ، فألحق بها من الهناة والقذاة ، ما شوّه صفحة ابن عباس ببعض السيئات.

روايات تافهة :

لقد وردت بعض الروايات الّتي لم تسلم سنداً حتى تستحق الوقوف عندها كثيراً ، تدين ابن عباس في إعلانه مخالفته لإمامه في أحكام فقهية ، أو إجراءات قضائية ، أو آراء سياسية ، فكيف يمكن تصديق الرواة في ذلك ، وهو الّذي كان يقول : « إذا حدّثنا الثقة بفتيا عن عليّ لم نتجاوزها »(٢) وفي لفظ : « إذا حدّثنا ثقة عن عليّ بفتيا لا نعدوها »(٣) ، ثمّ هو القائل لخارجي سأله عن الإمام فأجابه حتى قال له : « أعليّ أعلم عندك أم أنا؟ فقال : لو كان عليّ أعلم عندي منك لما سألتك فغضب ابن عباس حتى اشتد غضبه ثمّ قال : ثكلتك أمك ، عليّ علّمني ، وكان علمه من رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ، ورسول الله علّمه الله من فوق عرشه ، فعلم النبيّ من الله ،

____________

(١) التذكرة / ٢٧٣ ط دار المنار سنة ١٤١٨.

(٢) طبقات ابن سعد ٢ق٢ / ١٠٠ ط ليدن ، والاستيعاب ٣ / ٣٩.

(٣) سير أعلام النبلاء للذهبي ٢ / ٦٢٨ ط دار الفكر ، وتاريخ الخلفاء للسيوطي / ١٧١.

٣٠٧

وعلم عليّ من النبيّ ، وعلمي من علم عليّ ، وعلم أصحاب محمّد كلّهم في علم عليّ كالقطرة الواحدة في سبعة أبحر »(١) .

لذلك فأنا لا أكاد أصدّق الرواة الذين رووا لنا : « انّ ابن عباس أتي إليه بكتاب فيه قضاء عليّ (عليه السلام) فمحاه إلاّ قدر ذراع »(٢) .

كيف وهو الّذي كان مجداً في اتباع سنّة الإمام وهديه حتى في أحرج الأوقات الّتي مرّت به في عهد معاوية.

فقد روى النسائي في سننه ، والبيهقي في سننه الكبرى عن سعيد بن جبير قال : « كان ابن عباس بعرفة فقال : يا سعيد ما لي لا أسمع الناس يلبّون؟ فقلت : يخافون معاوية ، فخرج ابن عباس من فسطاطه فقال : لبّيك اللّهمّ لبّيك وان رغم أنف معاوية ، اللّهمّ العنهم فقد تركوا السنّة من بغض عليّ »(٣) .

وقال السندي في تعليقه على سنن النسائي : « من بغض عليّ » أي لأجل بغضه ، أي وهو كان يتقيّد بالسنن فهؤلاء تركوها بغضاً له.

وسيأتي مزيد بيان وايضاح في آرائه الفقهية.

وقد مرّ بنا في حياته بالبصرة في توجيهه العلمي والديني ما يصلح أن يكون شاهداً على مدى التوافق بين ابن عباس وإمامه فتياً وعملاً ، وحسبك مراجعة مسألة تعريفه بالبصرة وقد مرّ بحثها مفصّلاً فراجع.

ومسألة بعث الهدي من مكانه ويبقى محرماً حتى يذبح.

____________

(١) أمالي الطوسي / ٧ ط حجرية ١ / ١١ مط النعمان ، وعنه في بحار الأنوار ٨ / ٤٦٥ ط حجرية.

(٢) مقدمة صحيح مسلم ١ / ١١.

(٣) سنن النسائي ـ المجتبى ـ ٥ / ٢٥٣ ، والسنن الكبرى ٥ / ١١٣.

٣٠٨

أمّا الآن فأشير إلى ورود بعض الروايات الّتي وصفتها بالتفاهة لعدم سلامة أسانيدها ، ولا متونها من المناقشة وهي في المسائل التالية :

١ ـ مسألة تحريق الغلاة ـ الزط ـ بالبصرة بعد حرب الجمل.

٢ ـ مسألة تحريق الزنادقة بالكوفة بعد حرب الخوارج ، وهاتان المسألتان مختلفتان زماناً ومكاناً ورواة وقد خفى أمرهما على بعض الباحثين فتخيّلهما مسألة واحدة ، فالأولى كانت بالبصرة والثانية بالكوفة ، والأولى بعد واقعة الجمل ، والثانية في أواخر خلافة الإمام (عليه السلام) والأولى يرويها أنس بن مالك والثانية يرويها عكرمة.

قال طه حسين في الفتنة الكبرى : « وقد روى المؤرخون أنّ أناساً من أهل الكوفة ارتدوا فقتلهم ثمّ حرقهم بالنار ، وقد ليمَ في ذلك من ابن عباس. وأظن أنّ هذه القصة هي الّتي غلا خصوم الشيعة فيها فزعموا أنّ هؤلاء الناس ألّهوا عليّاً.

ولكن المؤرخين والثقاة منهم خاصة ، يقفون من هذه القصة موقفَين : فمنهم من يرويها في غير تفصيل كما رويتها ، ومن هؤلاء البلاذري. ومنهم من لا يرويها ولا يشير اليها كالطبري ومن تبعه من المؤرخين.

وإنّما يُكثر في هذه القصة أصحاب الملل والمخاصمون للشيعة. وما أرى إلاّ أنّ القوم يتكثرون فيها ويحمّلونها أكثر ممّا تحتمل كما فعلوا في أمر ابن السوداء اهـ »(١) .

قال شيخنا المفيد قدس الله روحه ـ تعقيباً على مسألة التحريق ونقد ابن عباس وندم الإمام على احراقهم ـ : « وهذا من أظرف شيء سمع وأعجبه ، وذلك

____________

(١) الفتنة الكبرى (عليّ وبنوه) ٢ / ١٦٦ ط دار المعارف.

٣٠٩

أنّ ابن عباس أحد تلامذته والآخذين العلم عنه ، وهو الّذي يقول : كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يجلس بيننا كأحدنا ويداعبنا ويباسطنا ، ويقول : والله ما ملأت طرفي منه قط هيبة له ، فكيف يجوز مِن مثل مَن وصفناه التقدّم على أمير المؤمنين في الفتيا وإظهار الخلاف عليه في الدين ، لا سيما في الحال الّتي هو مظهر له فيه الإتباع والتعظيم والتبجيل ، وكيف ندم على احراقهم ، وقد أحرق في آخر زمانه (عليه السلام) الأحد عشر الذين ادعوا فيه الربوبية ، أفتراه ندم على ندمه الأوّل؟ كلا ، ولكن الناصبة تتعلق بالهباء المنثور »(١) .

وقال ابن أبي الحديد : « وهل أخذ عبد الله بن عباس الفقه والتفسير إلاّ عنه (عليه السلام) »(٢) .

ومهما يكن أمر هؤلاء وأمر أولئك فسوف نبحث المسألة من الناحية الفقهية في (الحلقة الثالثة) إن شاء الله تعالى في بحث : (مسألة التحريق بين التشريع والتطبيق).

٣ ـ مسألة نكاح المتعة.

٤ ـ مسألة لحوم الحمر الإنسية(٣) .

٥ ـ مسألة الصرف الّتي شُنّع عليه فيها كثيراً حتى قالوا انّه رجع عنها وتاب قبل موته بثلاثة أيام.

إلى غير ذلك ممّا سنتعرّض له في (الحلقة الثالثة) في آرائه الفقهية إن شاء الله تعالى.

____________

(١) الدرجات الرفيعة للمدني / ١١٧.

(٢) نفس المصدر / ١١٨.

(٣) سير أعلام النبلاء للذهبي ٢ / ٦٢٨ ط دار الفكر ، وتاريخ الخلفاء للسيوطي / ١٧١.

٣١٠

أمّا عن الروايات الّتي ذكرت له مخالفات في آرائه السياسية : فأول حادث وحديث هو ما مرّت الإشارة إليه في أوّل خلافة الإمام (عليه السلام) في قضية مشورة المغيرة ، ورأي ابن عباس فيها ، واتخذها الكتّاب المحدثون سنداً في تجنّيهم على الإمام في سياسته حتى أشاعوا بين قرّائهم نفثاتهم فشل تلك السياسة حتى جرت عليه خوض الحروب ، فرأيت لزاماً عليّ أن أذكر بعض آراء الذين أنصفوا أنفسهم وأنصفوا قرّاءهم حين وعوا حقيقة الإمام وحقيقة سياسته ، وفنّدوا تلك المفاهيم الخاطئة ، فإلى قراءة في ذلك.

مفاهيم خاطئة عن سياسة الإمام!

لك الله يا أبا الحسن كم تجنّى عليك المسلمون قديماً وحديثاً ، ولئن كان سيفك أزهق الكفار والمشركين فأورثك عداوة أبنائهم من الأولين ، فما بال الآخرين ثارت بلابل أشجانهم وأحزانهم فسفّت أحلامهم وأقلامهم فتجنّوا عليك بأنك رجل حرب وشجاع ، وليس رجل دولة وقيادة ، واتخذوا من سياستك الّتي هي جزء من دينك ، ومن صرامتك وصراحتك ، ذريعة للتطاول عليك. فجعلوا من مشورة المغيرة بن شعبة شاهداً ، ومن رأي ابن عباس عاضداً. حين أعرضت عنهما عامداً ، فيما عرضاه من إبقاء عمّال عثمان عاماً واحداً ، فأبيتَ أن تتخذ المضلّين عضدا ، حتى رووا أنّ ابن عباس قال لك في مشورته ما لا يكاد أن يُصدّق!

فقد روى الطبري وغيره عنه قوله : « أنت رجل شجاع لست بأرب الحرب ، أما سمعت رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم يقول : (الحرب خدعة) فقلت : بلى ، فقال ابن عباس : أما والله لئن أطعتني لأصدرنّ بهم بعد وِرد ، ولأتركنّهم

٣١١

ينظرون في دُبر الأمور لا يعرفون ما كان وجهها ، في غير نقصان عليك ولا أثم لك » وقد مرّ ذكرنا له.

فيا لله هل أنّ ابن عباس كان أبصر بصواب الرأي منك؟ انّها لإحدى الكُبر.

فابن عباس هو القائل عنك للمغيرة : « كان والله أمير المؤمنين (عليه السلام) أعرف بوجوه الرأي ومعاقد الحزم وتصريف الأمور من أن يقبل مشورتك فيما نهى الله عنه وعنّف عليه ـ إلى آخر ما قال » وقد تقدم منا ذكره.

فهل يصح أن نقبل ما رواه الرواة وفي النفس من رواياتهم ما يبعث على الاشمئزاز؟!

وهذا الموقف زلّت فيه أقدام وأقلام فتجنّى غير واحد على الإمام ، حتى بلغت القحة ببعض المستشرقين ـ مثل نيكلسون ـ أن يقول : « كان عليّ يعوزه حزم الحاكم ودهاؤه برغم ما كان يمتاز به من الفضائل الكثيرة ، فقد كان نشيطاً ذكياً بعيد النظر ، بطلاً في الحرب ، مشيراً حكيماً وفياً ، شريف الخصومة ، نبغ في الشعر والبلاغة ، واشتهرت أشعاره وخطبه في الشرق الإسلامي وكانت تنقصه الحنكة السياسية وعدم التردد في اختيار الوسائل أياً كانت لتثبيت مركزه ، ومن ثمّ تغلّب عليه منافسوه الذين عرفوا أوّل الأمر أنّ الحرب خدعة ، والذين كانوا لا يتورعون عن ارتكاب أيّ جرم يبلغ بهم الغاية ويكفل لهم النصر »(١) .

والعجب كلّ العجب أن يكون قد تبنى هذا الرأي أخوان مسلمان مصريان هما الدكتور حسن إبراهيم حسن وأخوه الدكتور عليّ إبراهيم حسن في كتابهما

____________

(١) أنظر تاريخ الإسلام السياسي والديني والثقافي والاجتماعي ١ / ٢٩٤ ط مكتبة النهضة بمصر سنة ١٩٥٣.

٣١٢

النظم الإسلامية ، فقد قالا : « أراد عليّ أن يحكم وفق التقاليد الّتي سادت زمن النبيّ وأبي بكر وعمر ، مع أنّ الأحوال كانت تستلزم شيئاً من السياسة والدهاء ، فقد بادر بعزل ولاة عثمان ولم يصغ لنصيحة بعض الصحابة له بابقائهم حتى تهدأ الحالة وتستقر الأمور ممّا حدا بالاستاذ نيكلسون إلى القول بأنّه كان ينقصه حزم الحاكم ودهاؤه وتعوزه الحنكة السياسية »(١) .

وهذا منهما يقضي العجب! كيف كتبا ذلك؟

ومهما أغضينا عن الكاتب المسيحي نيكلسون لأنّه على أسوأ الظنون يريد الوقيعة بالإسلام ورجالاته ، وعلى أحسن الظنون فهو بعيد عن الإسلام ولا يعرف أحكام الإسلام ، وما الّذي توجبه على خليفة المسلمين من إقامة صرح حكمه على الحقّ والعدل لا على المخادعة والمواربة ، فإنّا لا نعذر الأخوين المسلمين ، فلديهما من عدة الثقافة ما أتاح لهما التأليف في النظم الإسلامية ، ولا شك أنهما اطّلعا على كثير من المصادر الّتي أوضحت السبب في انتهاج الإمام لتلك السياسة ، وأخص بالذكر الدكتور حسن إبراهيم حسن فقد ذكر في مصادر كتابه تاريخ الإسلام السياسي كتاب شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ، وفي هذا الكتاب ما يدفع زلة الأقلام ويبين عذر الإمام ، وإلى القارئ نبذة منه ممّا قال : « وأمّا قول ابن عباس له (عليه السلام) : ولّه شهراً واعزله دهراً ، وما أشار به المغيرة بن شعبة فإنّهما قالا ما توهّماه ، وما غلب على ظنونهما وخطر بقلوبهما. وعليّ (عليه السلام) كان أعلم بحاله مع معاوية وأنها لا تقبل العلاج والتدبير ، وكيف يخطر ببال عارف

____________

(١) النظم الإسلامية / ٢٣ ط الثانية.

٣١٣

بحال معاوية ونكره ودهائه وما كان في نفسه من عليّ (عليه السلام) من قتل عثمان ومن قبل قتل عثمان انّه يقبل إقرار عليّ (عليه السلام) له على الشام وينخدع بذلك ويبايع ويعطي صفقة يمينه ، إنّ معاوية لأدهى من أن يكاد بذلك. وإن عليّاً (عليه السلام) لأعرف بمعاوية ممّن ظن أنّه لو استماله بإقراره ليبايع له ، ولم يكن عند عليّ (عليه السلام) دواء لهذا المرض إلاّ السيف ، لأن الحال إليه كانت تؤل لا محالة فجعل الآخر أوّلاً »(١) .

وليتني كنت أدري كيف استساغ الأخوان أن يتبعا أستاذهما نيكلسون في وصفه الإمام بعدم الحزم والدهاء!! ألم يقرأوا ردّ الإمام على المغيرة وعلى ابن عباس في عدم جواز إبقاء عمال عثمان ومعاوية خاصة في مناصبهم؟ ألم يكن عزلهم واستبدالهم بمن هو أنقى وأتقى هو عين الحزم؟ ولو كان رضي بما أشار عليه المشيران ، لانتقضت عليه العرب كلها ، ولأعادوها جذعة ثمّ ساروا إليه فقتلوه كما قتل عثمان.

أليس من الدهاء السياسي فضلاً عن الواجب الديني تطهير الجهاز في مناصب الدولة من عناصر الفساد؟ هل من الدهاء أن يكون ولاة الخليفة اليوم هم الولاة بالأمس ، وهم الذين حكموا البلاد فأكثروا فيها الفساد ، فصب الناس عليهم وعلى خليفتهم سوط النقمة حتى أدى ذلك إلى قتله؟

ولم يكن الاخوان واستاذهما بدعاً. فقد كان لهم أشباه وأشباه. قال الدكتور أحمد شلبي : « ويوشك المؤرخون والمستشرقون أن يجمعوا على لوم عليّ على هذا العمل ـ عزل الولاة واسترداد القطائع ـ وهم جميعاً تقريباً يصرّحون

____________

(١) شرح النهج لابن أبي الحديد ٢ / ٥٧٩ ـ ٥٨٤.

٣١٤

أنّ التوفيق أخطأ عليّاً ، وأن ذلك لم يكن من الحكمة. والّذي اعتقده أنّ ذلك الحكم على عليّ مبالغ فيه ، وانّه من الأقوال الّتي تشاع فيأخذها الناس دون دراسة وبغير تمحيص ، وللتدليل على ذلك نسأل الأسئلة التالية :

١ ـ هل كان من الممكن أن يحتج عليّ على الولاة الظالمين وأن يطلب من عثمان عزلهم حتى إذا تولى هو الخلافة تركهم؟

٢ ـ وهل كان من الممكن أن يثور على القطائع الّتي أعطيت ظلماً لأقارب الخليفة حتى إذا تولى هو الخلافة أقرّها؟

٣ ـ وهل كان التمرّد الّذي عاناه ناشئاً عن عزل الولاة واسترداد القطائع؟ وإذا كان كذلك فلماذا تمرّد طلحة والزبير(١) وشنّا على عليّ حرب الجمل؟

٤ ـ وهل يتخيّل المؤرخون أنّ معاوية كان سيبايع عليّاً ويسير في ركابه لو لم يُعزل؟

٥ ـ وأخيراً هل يمكن أن نطلب من عليّ أن يكون شخصاً آخر غير عليّ.

إن مطالبة عليّ بترك والٍ ظالم في الولاية ، أو الإغضاء عن مال أخذ من بيت مال المسلمين من دون حقّ هو بمثابة أن نطلب من الأسد أن يصبح هراً وهيهات أن يكون ذلك.

لعل من الأفضل للمؤرخين أن يقولوا : إنّ ذلك الوقت لم يكن الوقت الملائم لعليّ ليصبح خليفة ، وكان من الخير للمسلمين أن يتولى الخلافة في ذلك الوقت شخص آخر غير عليّ(٢) شخص يستطيع أن يدور وأن يداهن ، شخص لم

____________

(١) ونضيف نحن اليهما عائشة لماذا خرجت؟

(٢) أنظر تاريخ الطبري ٣ / ٤٥٩.

٣١٥

يشترك في الأحداث السابقة ، او اشترك فيها بنصيب ضئيل ، ولكن يجب ألاّ ننسى أنّ أيّة محاولة لتولية شخص غير عليّ حينذاك كان لابدّ من فشلها ، فتولية عليّ كانت قد أصبحت أمراً طبيعياً كما سبق القول.

والخلاصة أنّ تولية عليّ كانت طبيعية ، وأنّ سلوكه كان طبيعياً ، وأنّ التمرّد الّذي واجهه عليّ كان طبيعياً أيضاً وكان نتيجة لسير الأحداث وكان صراعاً على السلطة وإن اتُخذ من أسبابه قتل عثمان ، أو المطالبة بثاره ، أو عزل الولاة ، او استرداد ما سُلب من بيت المال.

ويقول محمّد بن سيرين : ما علمتُ أنّ عليّاً أتّهم في دم عثمان حتى بويع ، فلمّا بويع اتهمه الناس(١) »(٢) .

وأخيراً لقد تبيّن للقارئ مدى الجناية الّتي لحقت بالإمام نتيجة سياسته الحكيمة ، فظن من لا حريجة له في الدين أنّ الخلاف الّذي نشب في أيام خلافته ، لأنّه لم يأخذ بنصائح المغيرة وابن عباس ، وقد بيّنا ما يتعلق بابن عباس وشككنا في صدق الرواة فيما هو الثابت الصحيح عنه.

وأمّا المغيرة كيف يتوقع من الإمام أن يقبل بمشورته ، وهو الّذي كان يعرفه بدءاً وختاماً ، كفراً وإسلاماً ، حرباً وسلاماً؟!

هلم فلنقرأ ما رواه إبراهيم بن محمّد الثقفي في كتابه الغارات عن أبي صادق عن جندب بن عبد الله قال : « ذكر المغيرة بن شعبة عند عليّ (عليه السلام) وجَدّه مع معاوية. قال : وما المغيرة؟ إنّما كان إسلامه لفجرة وغدرة غدرها بنفر من

____________

(١) العقد الفريد لابن عبد ربه ٤ / ٣٠٥.

(٢) التاريخ الإسلامي ١ / ٣٣٥ ـ ٣٣٧ ط الخامسة / ١٩٧٠.

٣١٦

قومه ، فتك بهم وركبها منهم ، فهرب منهم فأتى النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كالعائذ بالإسلام ، والله ما رأى أحد عليه منذ ادعى الإسلام خضوعاً وخشوعاً.

ألا وانّه كان من ثقيف فراعنة قبل يوم القيامة يجانبون الحقّ ويسعرون نيران الحرب ويوازرون الظالمين ، ألا إنّ ثقيفاً قَومٌ غُدر لا يوفون بعهد ، يبغضون العرب كأنّهم ليسوا منهم ، ولربّ صالح قد كان فيهم ، فمنهم عروة بن مسعود وأبو عبيد بن مسعود المستشهد يوم قسّ الناطف ، وإنّ الصالح في ثقيف لغريب »(١) .

ولا تزال تعيش الفكرة الخاطئة في كثير من الأدمغة الّتي ترى الميكافلية السبيل الأقوى إلى بلوغ الغاية ، ولا تنظر إلى السبيل الأقوم ، حتى كانوا يرون في بلوغ معاوية إلى سدة الحكم حجة لهم. وانّه كان داهية ولم يكن الإمام كذلك ، وقد فاتهم قد يرى الحوّل القلّب وجه الحيلة ولكن دونها حاجز من تقوى الله. وللردّ على هؤلاء فلنقرأ أوّلاً : ما قاله أمير المؤمنين (عليه السلام) : « والله ما معاوية بأدهى مني ولكنه يغدُر ويفجُر ، ولولا كراهية الغدر لكنت من أدهى العرب ، ولكن كلّ

____________

(١) شرح النهج لابن أبي الحديد ١ / ٣٦٣ ـ ٣٦٤ ط مصر الأولى ، وكتاب الغارات / ٥١٦ تحقيق السيّد جلال الدين الحسيني ، وغدرة المغيرة وفجرته ، ذكرها من المؤرخين ابن هشام في سيرته عند صلح الحديبية ٢ / ٣١٣ ط مصر سنة ١٣٧٥ ، وذكرها ابن جرير الطبري في تاريخه في حوادث السنة السادسة ١ / ١٥٣٧ ط أوربا. والواقدي في المغازي تحت عنوان : غزوة الحديبية ٢ / ٥٩٥ وهو أوسع من ذكر ذلك. وابن الأثير ٢ / ٧٦ وغيرهم وملخصها بلفظ ابن هشام : فقال عروة : من هذا يا محمّد؟ قال : هذا ابن أخيك المغيرة بن شعبة قال : أي غَدر وهل غسلت سوأتك إلاّ بالأمس؟ قال ابن هشام : أراد عروة بقوله هذا أن المغيرة بن شعبة قبل إسلامه قتل ثلاثة عشر رجلاً من بني مالك من ثقيف ، فتهايج الحيّان من ثقيف بنو مالك رهط المقتولين ، والأحلاف رهط المغيرة فودى عروة المقتولين ثلاث عشرة دية وأصلح ذلك الأمر.

٣١٧

غدرة فجرة ، ولكلّ فجرة كفرة ، ولكلّ غادر لواء يُعرف به يوم القيامة ، والله ما أُستغفل بالمكيدة ، ولا أُستغمز بالشديدة »(١) .

ولنذكر في هذا المقام ما حكاه ابن أبي الحديد عن أبي عثمان ـ الجاحظ ـ قال أبو عثمان : « وربّما رأيت بعض من يظن بنفسه العقل والتحصيل والفهم والتمييز ، وهو من العامة ، ويظن أنّه من الخاصة ، يزعم ان معاوية كان أبعد غوراً ، وأصح فكراً وأجود رويّة ، وأبعد غاية ، وأدّق مَسلكاً ، وليس الأمر كذلك ، وسأومي إليك بجملة تعرف بها موضع غلطه ، والمكان الّذي دخل عليه الخطأ مِن قبله.

كان عليّ (عليه السلام) لا يستعمل في حربه إلاّ ما وافق الكتاب والسنّة ، وكان معاوية يستعمل خلاف الكتاب والسنّة كما يستعمل الكتاب والسنّة ، ويستعمل جميع المكايد حلالها وحرامها ، ويسير في الحرب بسيرة ملك الهند إذا لاقى كسرى ، وخاقان إذا لاقى رتبيل ، وعليّ (عليه السلام) يقول : لا تبدؤهم بالقتال حتى يبدؤوكم ولا تتبعوا مُدبراً ، ولا تجهزوا على جريح ولا تفتحوا باباً مغلقاً. هذه سيرته في ذي الكلاع وفي أبي الأعور السُلمي وفي عمرو بن العاص وحبيب بن مسلمة وفي جميع الرؤساء كسيرته في الحاشية والحشو والأتباع والسفلة ، وأصحاب الحروب ان قدروا على البيات بيتوا ، وان قدروا على رضخ الجميع بالجندل وهم نيام فعلوا ، وإن أمكن ذلك في طرفة عين لم يؤخروه إلى ساعة ،

____________

(١) شرح النهج لابن أبي الحديد ٢ / ٥٧٢ ، وشرح محمّد عبده ٢ / ٢٠٦ وجاء في حديث ابن أبي شيبة في كتاب الجمل من مصنفه ١٥ / ٢٥١ ط باكستان قول كليب الجرمي وقد دخل على أمير المؤمنين (عليه السلام) بذي قار فقال : قدمت على أدهى العرب ـ يعني علياً ـ وقد أخرج الطبري الحديث بكامله وفيه شهادة الجرمي بأن علياً من أدهى العرب ـ راجع ٤ / ٤٩١.

٣١٨

وإن كان الحرق أعجل من الغرق لم يقتصروا على الغرق ولم يؤخروا الحرق إلى وقت الغرق

فمن اقتصر ـ حفظك الله ـ من التدبير على ما في الكتاب والسنّة كان قد منع نفسه الطويل العريض من التدبير وما لا يتناهى من المكايد ، والكذب ـ حفظك الله ـ أكثر من الصدق ، والحرام أكثر عدداً من الحلال فعليّ (عليه السلام) كان ملجماً بالورع عن جميع القول إلاّ ما هو لله (عزّ وجلّ) رضاً ، فصار ممنوع اليدين من كلّ بطش إلاّ ما هو لله رضاً ولا يرى الرضا إلاّ فيما يرضاه الله ويحبه ، ولا يرى الرضا إلاّ فيما دلّ عليه الكتاب والسنّة ، دون ما يعوّل عليه أصحاب الدهاء والمكر والمكايد والآراء ، فلمّا أبصرت العوام كثرة نوادر معاوية في المكايد وكثرة غرائبه في الخداع ، وما اتفق له وتهيّأ على يده ولم يروا ذلك من عليّ (عليه السلام) ، ظنوا بقصر عقولهم وقلة علومهم ان ذلك من رجحان عند معاوية ونقصان عند عليّ (عليه السلام) »(١) .

وهذا الحال ذكره غير واحد من الكتاب المعاصرين.

منهم الكاتب أحمد عباس صالح ، قال في كتابه اليمين واليسار : « وكان عليّ بن أبي طالب يمثل في نظر غالبية المسلمين الرجل الوحيد الأقرب إلى روح الإسلام وأصوله الصحيحة ، ولكنه في نفس الوقت يمثل السياسي المتشدد أو على الأصح الأكثر تشدداً من عمر بن الخطاب نفسه ، وهو الأمر الّذي جعل الكثيرين من القادة والطامحين والمستفيدين ينظرون إلى تولية عليّ بن أبي طالب نظرة حذر وتردّد. وأصحاب المصالح لم يستطيعوا أن يحتملوا عمر ، ابن

____________

(١) شرح النهج لابن أبي الحديد ٢ / ٥٧٧ ط مصر الأولى.

٣١٩

الخطاب ، فأولى بهم أن يتخوفوا من عليّ وأن يعملوا جهدهم ألاّ يصل إلى الخلافة »(١) .

ومنهم الدكتور هشام جعيّط (تونسي) ، قال في كتابه الفتنة ما يلي : « هناك في التراث التاريخي العربي ميل شديد إلى إظهار عليّ على أنّه سياسي رديء ، وحتى كأنه رجل محدود(٢) وفي المقابل هناك ميل إلى اعتبار معاوية ذا حسّ سياسي عميق. وليس في ذلك فقط انعكاس لواقع ، أو على العكس ، تعبير عن شبكة رقيقة من الروايات المعادية لعليّ ، بل هناك أيضاً الميل الغالب على العقل البشري لرفض الكمال وإلى مساواة اللعبة ، وإلى تمييز مجالات الأنشطة ، فبما ان التقوى هي نصيب عليّ ، فعندئذ تكون السياسة نصيب معاوية.

وحتى أننا نلاحظ في الموروث التاريخي المؤيد لعليّ إلى حد كبير ، نزوعاً غامضاً إلى التشديد على دهاء معاوية ، يكون في آنٍ عبقرية استراتيجية ومكر يستحق الإعجاب والإدانة.

في الواقع ليست الاُمور بهذه البساطة : فقد كان عليّ سياسياً اكثر ممّا يُعتقد ، وكان معاوية استراتيجياً أقل كياسة ، وكان بالأخص أقل مكراً ممّا جرت العادة على وصفه.

وبعد يبقى صحيحاً أنّ عليّاً كان بوجه خاص قد عرف تجربة المرحلة التاريخية النبوية المحصورة في المجال الحجازي والعربي على الأكثر ، وأنه لم

____________

(١) اليمين واليسار في الإسلام / ٩٧ ـ ٩٨ ط المؤسسة العربية للدراسات والنشر سنة ١٩٧٢.

(٢) هذه روايات من أصل أموي وأما من أصل عباسي. راجع مثلاً الطبري ٤ / ٤٣٩ حيث يبرز الواقدي على المسرح علياً وابن عباس ، علياً والمغيرة بن شعبة ، وحيث يبدو عليّ مفتقراً إلى الحسّ السياسي بالمقارنة مع الرجلين.

٣٢٠

يُرَد له ، أو أنّه هو ذاته لم يُرِد إقحام نفسه في مغامرة الفتح ، وبالتالي توسيع آفاقه ، بينما كان معاوية قد وجد نفسه طيلة / 20 سنة مشاركاً في تنظيم الامبراطورية وإدارتها »(1) .

ومنهم الشيخ العلائلي ، في كتابه القيم سموّ المعنى في سموّ الذات ، وقد بحث (أسباب فشل سياسة عليّ (عليه السلام) ونجاح السياسة المعادية) كما عنون ذلك ، فقال : « والحقّ أنا إذا درسنا سياسة عليّ (عليه السلام) وسياسة معاوية ، على مناهج علوم النفس والسياسة والاجتماع والقانون ، رأينا عمق سياسة عليّ ونفوذها ورجاحة خططه ، ونرى أيضاً كيف يبني ويهدم تبعاً لنظر دقيق وتفكير موفّق ، وانما جاء فشلها من نواح :

(1) انّ التربية الدينية لم تشمل العرب على وجه صحيح ، ولم يعن الخلفاء بنشرها على الطريقة الوجدانية الّتي اختمرت في نفس أبي ذر (رضي الله عنه) فقام ينشرها مجتهداً ثمّ ذكر أسباب ذلك التخلف في الشعور الديني عند العرب ثمّ قال : إذاً فقد كان أخذ عليّ (عليه السلام) لهؤلاء بالسياسة الدينية الصارمة وهم على غير استعداد لها سبباً من أسباب الفشل.

(2) سياسة عليّ (عليه السلام) القانونية ، فقد كان يلتمس لكل اجراآته وجوهاً من القانون أي دينية ، ويجتهد في ايضاحها قبل أن يقوم بحركة ما ، ولا شك في أنّ طبيعة القانون غير طبيعة الظروف المفاجآت هذا سبب ثان للفشل ، بينما كانت

____________

(1) الفتنة / 186 ، جدليّة الدين والسياسة في الإسلام المبكر ـ ترجمة خليل أحمد خليل استإذ المعرفة والفلسفة ـ الجامعة اللبنانية بمراجعة المؤلف. ط دار الطليعة للطباعة والنشر بيروت ط الثالثة سنة 1995.

٣٢١

سياسة معاوية لا تتقيد بحدود ولا بأوضاع ، وإنّما تركب كلّ صعب وذلول في سبيل أغراضها ، وكذلك كانت سياسة مستشاره عمرو

هذا ميزان نستطيع أن نزن به سياسة عليّ (عليه السلام) ومعاوية ، فقد كان عليّ محافظاً دينياً لا يمكنه أن يحمل الناس إلاّ على قانونه الخاص الّذي يسيطر عليه ، ولا يتحلل من أسره ، ولذلك هو يلتمس لنفسه شواهد من القانون تبرّر عمله ، فإن لم يجدها أحجم إحجام المذعور ، ومن ثمّ لا يعطي أذنه لأي ناصح مهما علم صدقه وصدق رأيه ما دام لا يتفق مع الدين (القانون الّذي يحترمه عليّ (عليه السلام) ويعمل به).

بينما كان معاوية متحللاً من هذا القيد ، فلم تكن سياسته قانونية بل سياسة ظرفية ، ومن ثمّ كانت قمينة بالنجاح وجديرة بأن لا تفشل.

(3) روح العراق الّتي كانت قَبَليّة في ذلك العهد على شكل وبيل فظيع ، إذ كان يجمع أقواماً من قبائل شتى وجهات مختلفة تقوم في مجموعها على التقليد البدوي القديم الّذي لم يؤثر فيه الإسلام شيئاً ، لأنّه لم يهاجمه في محل العقيدة ومكان الضمير ، وإنّما هاجمه في الأعمال الظاهرة والشكل الصوري فقط وبهذا أعلل كلّ الإضطرابات الّتي ثارت في محيط العرب ، وأبرزها إكراه خليفة كعليّ (عليه السلام) لقبول التحكيم وتهديده بأن يفعل به كما فعل بعثمان (رضي الله عنه) ولقد قال عليّ كرّم الله وجهه في كلمة له : (لا رأي لمن لا يطاع)

(4) من القضايا الثابتة أنّ البدوي يؤخذ بالاحتكام والخوف والسيطرة ، وبعث الرعب في نفسه والتظاهر عليه بالقوة

هذه أسباب اجتمعت على فشل سياسة عليّ.

٣٢٢

وقال : إنّ المقدرة السياسية لا تقاس بمقدار النجاح بل بمقدار ما تكون مقدماتها التعليلية صحيحة ، لأنّ الفشل كثيراً ما يكون نتيجة مفاجأة لم تكن في الحسبان كما وقع لعليّ (عليه السلام) بالفعل في حركة الخوارج ، ولولاها لكان نجاحها مضموناً أو محتوماً »(1) .

ومنهم الدكتور طه حسين ، يقول في كتابه علي وبنوه في حديثه عن فرار مصقلة بن هبيرة إلى معاوية : « يظهر الفرق واضحاً بين مذهب عليّ في السياسة الّتي تخلص للدين ، ومذهب معاوية في السياسة الّتي تخلص للدنيا »(2) .

وقال : « وهذه السيرة الّتي سارها عليّ في عمّاله هي نفس السيرة الّتي سارها في الناس ، فلم يكن يُطمع الناس في نفسه ، ولم يكن يوئيسهم منها ، وإنّما كان يدنو منهم أشد الدنوّ ما استقاموا على الطريق وأدّوا الحقّ ، فإن انحرفوا عن الجادة أو التووا ببعض ما يجب عليهم بَعُد عنهم أشدّ البعد ، وأجرى فيهم حكم الله غير مصطنع هوادة أو رفقاً »(3) .

وقال أيضاً : « فقل إذاَ في غير تردّد : انّ أوّل الظروف الّتي كانت تقتضي أن يخفق عليّ في سياسته هو ضعف سلطان الدين على نفوس المحدثين من المسلمين ، وتغلّب سلطان الدنيا على هذه النفوس »(4) .

وقال : « كان عليّ يدبّر خلافة ، وكان معاوية يدبّر ملكاً وكان عصر الخلافة قد انقضى وكان عصر الملك قد أظلّ »(5) .

____________

(1) سمو المعنى في سمو الذات / 49 مط عيسى البابي الحلبي وشركاه بمصر سنة 1358.

(2) عليّ وبنوه / 128 ط دار المعارف.

(3) نفس المصدر / 166.

(4) المصدر السابق / 177.

(5) نفس المصدر / 181.

٣٢٣

ومنهم الاستاذ عباس محمود العقاد ، يقول في كتابه عبقرية الإمام : « فالسياسة الّتي اتبعها الإمام هي السياسة الّتي كانت مقيّضة له مفتوحة بين يديه ، وهي السياسة الّتي لم يكن له محيد عنها ، ولم يكن له أمل في النجاح إن حاد عنها إلى غيرها

ومهما يكن من حكم الناقدين في سياسة الإمام فمن الجَور الشديد أن يُطالب بدفع شيء لا سبيل إلى دفعه ، وأن يحاسب على مصير الخلافة وهي منتهية لا محالة إلى ما انتهت إليه

ومن الجور الشديد أن يلقى عليه اللوم لأنّه باء بشهادة الخلافة ولابدّ لها من شهيد.

وقد تجمعت له أعباء النقائض والمفارقات الّتي نشأت من قبله ، ولم يكد يسلم منها خليفة من الخلفاء بعد النبيّ صلوات الله عليه

وقد نُقدت سياسة عليّ لفوات الخلافة منه قبل البيعة ، كما نُقدت سياسته لفوات الخلافة منه بعد البيعة ، واحصى عليه بعض المؤرخين أنّه تأخر نيّفاً وعشرين سنة فلم يخلف النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ولم يخلف أبا بكر ، ولم يخلف عمر كأنّه كان مستطيعاً أن يخلف أحداً منهم بعمل من جهده وسعي من تدبيره ، فأعياه السعي والتدبير »(1) .

ثمّ ساق العقاد ما براه بمنظوره الخاص من أسباب العوائق الّتي حالت بين الإمام وبين الخلافة قبل وصولها إليه ، فذكر جملة منها ما صح وفيها ما لا يصح ، غير انّه ختم كلامه فقال : « وكلّ سياسة له لم تكن لتحيد به عن الخاتمة

____________

(1) عبقرية الإمام / 773 العبقريات الإسلامية.

٣٢٤

المحتومة أقل محيد. وكلّ ما كان من تدبير الحوادث أو من تدبيره فهو على هذا الملتقى الّذي يتلاحق عنده الاسراع والإبطاء ـ إلى أن قال ـ : وتقضي بنا هذه التقديرات جميعاً إلى نتيجة واضحة نلخصها في كلمات وجيزة ونعتقد أنها أعدل الأقوال في وصف تلك السياسة الّتي كثرت مطارح النقد والدفاع.

فسياسة عليّ لم تورّطه في غلطات كان يسهل عليه اجتنابها باتباع سياسة أخرى. وهي كذلك لم تبلغه مآرب مستعصية ، كان يعز عليه بلوغها في موضعه الّذي وضع فيه وعلى مجراه الّذي جرى عليه.

فليست هي علة فشل منتزع ، ولا علة نجاح منتزع ، أو هي لا تستدعي الفشل من حيث لم يخلق ، ولا تستدعي النجاح من حيث لم يسلس له قياد

ورأينا في سياسته فهماً وعلماً ، ولكننا لم نر فيها الحيلة العملية الّتي هي إلى الغريزة أقرب منها إلى الذكاء

فكان نعم الخليفة ، لو صادف أوان الخلافة

وكان نعم الملك لو جاء بعد توطيد المُلك واستغنائه عن المساومة والإسفاف. ولكنه لم يأت في أوان الخلافة ولا في أوان مُلك مُوطّد ، فحمل أعباء النقيضين وأخفق حيث ينبغي أن يخفق أو حيث يعييه أن ينجح ، وتلك آية الشهيد »(1) .

وقال العقاد أيضاً : « ثمّ يفترق الناس في رأيه إلى رأيين وإن لم يكونوا من الشانئين المتحزبّين ، فيقول أناس إنّه كان على قسط وافر من الفهم والمشورة ، ولكنه عند العمل لا يرى ما تقضي به الساعة الحازبة ، ولا ينتفع بما يراه ، ويقول أناس : بل

____________

(1) نفس المصدر / 773.

٣٢٥

هو الاضطرار والتحرّج يقيدانه ولا يقيّدان أعداءه ، وإنّهم لدونه في الفطنة والسداد وهو (رضي الله عنه) قد اعتذر لنفسه بمشابه من هذا العذر حين قال : (والله ما معاوية بأدهى مني ، ولكنه يغدر ويفجر ، ولولا كراهية الغدر لكنت من أدهى العرب) »(1) .

ومنهم عبد الوهاب النجار ، قال في كتابه تاريخ الخلفاء : « إننا إذا نظرنا إلى عليّ من جانب الدين وحب الحقّ والزهد في الدنيا والإعراض عن زخارفها وزينتها وجدناه يمشي في صف أبي بكر وعمر لا يتخلف عنهما قيد خطوة.

وإذا نظرنا من جهة الفقه في أحكام الدين والعلم بجزئيات فروع الشريعة وجدناه يسبقهما. أمّا من حيث تدبير الملك وسياسة الرعية ومقاربة العامة ، والتنبّه لدقائق السياسة والأخذ على شكائم القوم والإحاطة بأحوالهم ، فإنّه يتأخر عن الرجلين في هذا المقام. مع سعة درايته وقوة عارضته ، لأنّ الأقوال في السياسة وحسن الملكة والإعراب عن دقائق ذلك شيء ، وإفاضة ذلك على الرعية وبسط النفوذ على الكافة وإخضاعهم للإرادة شيء آخر.

وقد يمر بنا شيء من ذلك ومن تعليل عدم نجاحه في جمع كلمة الأمة. والسرّ في ذلك سوء الأحوال الّتي تولى فيها. وعندي أنّ الوقت لو صفا لعليّ (رضي الله عنه) وواتته المقادير باستتباب الراحة واجتماع الكلمة ، لأذاق الأمة حلاوة العدل ، وحملهم على الجادة وسار بهم في طريق الفتوح ، وبسط نفوذ الإسلام وإعزاز كلمته بما لم يدع مقالاً لقائل ، ولله في خلقه شؤون.

ويكفي من ينظر في أمر عليّ أنّه لم يوجد عنده من المال سوى سبعمائة درهم كان أرصدها لشراء خادم له لم يكن عنده سواها ، وفي رعيته من يملك

____________

(1) نفس المصدر / 699 مجموعة العبقريات الإسلامية.

٣٢٦

عشرات الآلاف ومئات الآلاف ، ولم يكن مترفهاً في معيشته ولا متوسعاً كما كان معاوية أو عثمان ، بل كان من طراز أبي بكر وعمر »(1) .

أقول : ومهما كانت آراء من سبق من الباحثين متفاوتة في تقييمهم لسياسة الإمام (عليه السلام) ، لكنها متفقة على أنّه (عليه السلام) كان المصيب في عزله ونصبه ، وسلمه وحربه ، متبعاً أمر ربّه ، لذلك لم تكن الخلافة عنده تساوي شسع نعل إلاّ أن يقيم حقاً أو يدفع باطلاً.

وقد قال أحمد بن حنبل ـ إمام الحنابلة ـ : « إنّ عليّاً ما زانته الخلافة ولكن هو زانها ».

وتعقّبه ابن الجوزي بعد أن حكى ذلك عنه بقوله :

مـا زانـه المـلـك إذ حـواه

بـل كـلّ شـيء بـه يـزان

جـرى فـفات الملوك سبقاً

فـلـيـس قُـدّامـه عـنـان

نـالـت يـداه ذُرى مـعـالٍ

يـعجز عن مثلها العيان(2)

وقد أدرك ذلك في الإمام (عليه السلام) حتى غير المسلمين ، وحسبنا نموذجاً واحداً هو جورج جرداق ، فقد قال : « لقد كان عليّ من المهارة والمقدرة على الدهاء بحيث لم يكن غيره من مهرة العرب ودهاتهم ، وكان من بُعد الغَور وعمق النظر في أمور السياسة والقتال ، ومن سَبر النفوس وإدراك الدخائل ، ومن معرفة النتائج قبل الوصول إليها ، والبصر بأهواء الرجال ومطامعهم وأساليبهم في الحيلة ، بحيث لم يكن معاوية بن أبي سفيان ولا عمرو بن العاص ولا غيرهما من أهل الدهاء

____________

(1) تاريخ الخلفاء / 474 ط السلفية بمصر.

(2) التبصرة 2 / 243 ط عيسى البابي الحلبي سنة 1390 تح ـ د. مصطفى عبد الواحد.

٣٢٧

والحيلة. ولكنه كان يزدري الحيلة الملتوية ، ويمقت ما يسميه الناس استغلال الفرصة إذا كان فيه ما يخجل الخُلق. وكان يرفع نفسه عن المكر والكيد ، ولو جاءاه بالنصر ، ويأبى إلاّ الصراحة والصدق ، أو ليس هو القائل بصدد ما شاع في زمانه عن دهاء معاوية ، وقعوده هو عن مثل هذا الدهاء ـ (والله ما معاوية بأدهى مني ، ولكنه يغدر ويفجر ، ولولا كراهية الغدر لكنت أدهى العرب) ـ.

وقد أشبعنا هذه الناحية درساً مباشراً أو غير مباشراً فما بنا حاجة للعودة إليها الآن ، وإنّما نذكرها بمعرض الحديث عن حادثتي صفين ـ يعني استيلاء الإمام على الماء بعد ان أجلى جند معاوية عنه ثمّ أباحه لهم ، ويعني تمكنّه من قتل عمرو بن العاص ثمّ عفته عنه لأنّه شغر برجله وأبدى عورته ـ لنرى إلى أيّ حد يعجز بعض خصومه وبعض محبيه عن إدراك شخصيته إدراكاً صحيحاً شاملاً ، فإذا بأولئك يتهمّونه بالتقصير في الميدان السياسي ، وإذا بهؤلاء يأسفون لفرصتين لم يستغلهما في الميدان الحربي ، وكلّهم مخطئ بمقياس الشخصية العلوية ، لأنّ مفاهيم السياسة وقواعد الحرب عند الإمام نابعة من معين واحد لا يتجزأ ولا يتقطع ، هو الشخصية العلوية ، أو قل : الروح العلوية الّتي يُصدّق بعضها بعضاً ، وتستند مآتيها الواحد إلى الآخر ، ولا مقياس لديها أجلّ وأعظم من الوجدان السليم والخلق الكريم اللذين يكمنان عنده وراء كلّ قاعدة وكلّ شريعة.

ثمّ إنّ قولاً غير هذا نرى من الخير أن نثبته في هذا المقام. تحدّث إليَّ مرة صديق أديب يُعنى بشؤون الإسلام قال : وكأنه ينزع عن ألسنة سائر القائلين : لن تقنعني بأنّ عليّاً كان خبيراً بأحوال السياسة وأمور الرجال ، وبأنّه كان من الموهبة

٣٢٨

السياسية بحيث تقول فسألته قائلاً : لنفرض أنّ الصدفة لم تسق عبد الرحمن بن ملجم إلى قتل عليّ ، أو لنفرض أنّ الصدفة شاءت أن يكون إلى جانب عليّ صبيحة مقتله رهط من أنصاره فوقوه الضربة الغادرة فنجا ، ثمّ عاد ثانية لتأديب معاوية تنفيذاً لما كان عازماً عليه ، وانتصر على جند الشام في معركة السيف كما كان مرجّحاً أن يكون! أو لنفرض إن حيلة التحكيم في موقعة صفين لم تجز على قسم من جيش عليّ ، فتابعوا القتال وقبضوا على معاوية وعمرو بن العاص ، وانتهى أمر الموقعة كما انتهى أمر موقعة الجمل!

أقول : لنفرض كلّ هذا أو شيئاً من هذا ، وأنّ عليّاً انتصر أخيراً على معاوية كما انتصر على طلحة والزبير ـ وهو إن لم ينتصر فعلى الصدفة والقدر تقع المسؤولية ـ فماذا كنت تقول في سياسة عليّ عند ذاك؟! وأي مطعن في كفاءاته كنت ترى؟!

أما كنت تقول مع القائلين : إنّ عليّاً جمع إلى البلاغة والحكمة وشرف النفس وصفاء الوجدان ، دهاءً فوق دهاء معاوية في السياسة ، وطاقة فوق طاقة عمرو بن العاص في مواجهة الأحداث ومعالجة المعضلات له.

وما يقال في شأن عليّ بهذا الصدد يقال في شأنه يوم أخذ عليه الآخذون عزل معاوية عن الولاية ، وعزل غيره من الولاة الذين شاءت الصدف وأحوال العصر وسياسة عثمان وأوضاع الناس أن تمدهم بأسلحة لا شأن في مقارعتها للخُلق السليم والإدراك العظيم والكفاءة الخالصة. لقد تعوّد الناس وفيهم الدارسون والمؤرخون أن ينساقوا في تيار المألوف من النظر في الأمور والحكم عليها. وفي مقدّمة هذا المألوف أن تقاس كفاءات الرجال في الصراع بمقياس الانتصار والإنكسار ، دونما نظر إلى الأسلوب المتّبع في إدراك النصر ، ودونما

٣٢٩

نظر إلى احتمالات كثيرة يتعلّق بعضها بالأخلاق إذ تنحدر أو تعلو ، ويرتبط بعضها بالصدف والتقادير الّتي لابدّ في دفعها لمنكسر ، ولابدّ في إعدادها وإنزالها منزلة السلاح القادر القاهر لمنتصر أو لذي دهاء.

وعلى كلّ حال فهؤلاء يريدون من عليّ أن يوارب في السياسة ، وأن يستغل الظرف في القتال ويأبى هو ذلك.

إنّهم يريدونه أن يكون معاوية بن أبي سفيان ، وهو عليّ بن أبي طالب؟ اهـ. »(1) .

وفي هذا التصوير والتقدير الّذي رآه جرداق فقد شاركه في التصوير قبله السيّد قطب في كتابه العدالة الاجتماعية في الإسلام فقال : « والذين يروون في معاوية دهاء وبراعة لا يرونهما في عليّ ، ويعزون إليهما غلبة معاوية في النهاية إنّما يخطئون في تقدير الظروف ، كما يخطئون فهم عليّ وواجبه ، لقد كان واجب عليّ الأوّل والأخير أن يردّ للتقاليد الإسلامية قوتّها ، وأن يردّ إلى الدين روحه ، وأن يجلو الغاشية الّتي غشت هذا الروح على أيدي أمية في كبرة عثمان ووهنه ، ولو جارى معاوية في إقصاء العنصر الأخلاقي من حسابه لسقطت مهمته ، ولمّا كان لظفره بالخلافة خالصة من قيمة في حياة هذا الدين ، فما جدوى استبدال معاوية بمعاوية!؟ إن عليّاً إما أن يكون عليّاً أو فلتذهب الخلافة عنه ، بل فلتذهب حياته معها ، وهذا هو الفهم الصحيح الّذي لم يغب عنه ـ كرّم الله وجهه ـ وهو يقول : (والله ما معاوية بأدهى مني ، ولكنه يغدر ويفجر ، ولولا كراهية الغدر لكنت من أدهى الناس) اهـ »(2) .

____________

(1) الإمام عليّ صوت العدالة الإنسانية (عليّ وعصره) 4 / 987 ط بيروت.

(2) العدالة الإجتماعية في الإسلام / 197 ـ 198 ط 4 سنة 1373 بمصر.

٣٣٠

بداية عهد الخلافة الجديدة :

استقبل ابن عباس عهد الخلافة الجديدة بإيمانه الراسخ بأحقيتها الشرعية ، فعليه أن يستلهم بعبقريته ما يستوحيه منها فيما يجب عليه القيام به أزاء الخلافة الجديدة ، وما يلزمه من العمل في سبيل إرساء دعائمها ، فهو في سنّه الّذي تجاوز بداية الكهولة حتى كان هو أكبر الهاشميين الّذين معه في الكوفة سنّاً ، وهو في علمه أوسعهم ـ بعد الحسنين ـ علماً وفهماً ، وهو في تجاربه أيضاً أكثر تجربة ، فمن جميع ذلك له رصيدٌ يؤهله أن يكون هو صاحب الرأي والكلمة في تلك الساعة.

وهكذا كان ، فقد قال الرواة : لمّا توفي الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) وجهزه أولاده وآله ومنهم ابن عباس ، حتى رووا أنّه شارك الحسنين في تغسيله كما في رواية أبي مخنف عند أبي الفرج في المقاتل(1) ، ورواية الهاروني في تيسير المطالب عن الأسود الكندي والأجلح قالا في حديثهما : « وولي غسله ابنه الحسن بن عليّ (عليه السلام) وعبد الله بن العباس »(2) .

وقال الرواة : حمله بنوه وآله إلى مثواه الأخير حيث أمرهم بدفنه فيه في النجف ـ الغري ـ وذلك في جوف الليل الغابر(3) ، وعادوا إلى الكوفة قبل أن ينبلج عمود الصبح ، فدخلوا دار الإمام ، وما من شك أنّهم تداولوا الحديث حول مواجهة الموقف مع الناس الّذين يترقبون ما يأتيهم من وراء رتاج الباب ، ولابدّ

____________

(1) مقاتل الطالبين / 41 تح ـ السيّد أحمد صقر ط مصر سنة 1368 هـ.

(2) تيسير المطالب في أمالي أبي طالب الهاروني المتوفى سنة 454 / 85 ط بيروت سنة 139.

(3) أنظر الفتوح لابن أعثم 4 / 145 ط حيدر آباد.

٣٣١

لمن في الدار من التفكير في كيفية أخذ البيعة للإمام الحسن (عليه السلام) ، من الناس ، وهم هم أنفسهم في الأمس القريب في مواقفهم المتخاذلة مع الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) حتى ملّهم وتبرّم بهم ومنهم ، ودعا لنفسه وعليهم أن يريحه الله منهم ، فاستجاب له دعاءه.

وما من شك أيضاً أنّ الناس الّذين اجتمعوا في المسجد في حالة انتظار وترقّب ، وهم على وجل ممّا تحمله معها أيامهم المقبلة من عاديات معاوية الّذي يتربص بهم ويتحيّن الفرصة ، وقد وافته ، وبالأمس القريب كانت غاراته تترى على أطراف بلادهم ، مضافاً إلى ما له في الكوفة من أناس ـ ولنسميهم طابوره الخامس ان صح التعبير ـ سوف يستغلون الفراغ الّذي خلّفه غياب الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) ، إذن فلابدّ من سدّ هذا الفراغ بقيام إمام من بعده ، يسدّد شؤونهم ، ويلوذون به في ملمّاتهم ، وإلاّ فسيكونون عرضة للضياع وانتهاش الضِباع.

وبين خضم المداولات في الدار والتكهنات خارج الدار ، تبدّى الصبح لذي عينين ، كما بدت طلعة الكهل الوقور وقد جلّله الحزن ليطالع الناس بموقف إعلام بصيغة استعلام ، واعلان بلغة استفهام ، فمن ذا هو؟ وماذا قال؟

إعلام واستعلام :

كان ذلك الرجل الثاكل الحزين الّذي بدّد سأم التربّص والترقب لدى الناس ، هو عبد الله بن عباس.

ومن هو أولى منه في تلك الساعة الحرجة فهو مع حزنه البالغ المشوب بالحذر من المفاجأة ، عليه أن يلج الرتاج ويفتح المغلق في صدور الناس ، وعليه أن يهيء الجو المكفهرّ بالحزن لاستقبال بيعة جديدة ، وعليه أن يدعو بدون

٣٣٢

ترهيب أو ترغيب ، وعليه أن يخبر ولكنه بلغة المستخبر ، فهو معلن ولكنه بلهجة مستفهم ، لذلك خرج إلى الناس وهم في تطلّع إلى ما يقول ، وهو أيضاً في تطلّع إلى ما في النوايا ، يريد أن يستطلع الآراء ليعرف الخبايا في مدى الإستجابة والاستعداد لقبول البيعة الجديدة ، وذلك قبل أن يعلمهم بالإمام الجديد فقال للناس بصوته الجهوري الموروث : « إنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) توفي وقد ترك خَلَفاً ، فإن أحببتم خرج إليكم ، وإن كرهتم فلا أحد على أحد » ، فبكى الناس وقالوا : بل يخرج إلينا.

ولا شك أنّ المقام كان يستدعي أكثر من هذا الكلام ، ويتضح ذلك ممّا جاء في رواية البلاذري : قال : « وخرج عبيد الله (كذا) بن العباس بن عبد المطلب إلى الناس بعد وفاة عليّ ودفنه فقال : إنّ أمير المؤمنين (رحمه الله) تعالى قد توفي براً تقيا ، عدلاً مرضياً ، أحيى سنة نبيّه وابن عمه وقضى بالحق في أمته وقد ترك خَلَفاً رضيّاً ، مباركاً حليماً ، فإن أحببتم خرج إليكم فبايعتموه ، وإن كرهتم ذلك فليس أحد على أحد. فبكى الناس : وقالوا : يخرج مطاعاً عزيزا »(1) .

لغة تنبئك عمّا تكنّه نفس القائل من حنكة ودربة ودهاء ، كما أنّ جواب الناس بلغة البكاء ، تنبئك عمّا تكنّه نفوس السامعين من الحب والولاء ، وما في دخيلتها من عاطفة ورثاء ، ولا يمنع ذلك من وجود مراض النفوس بينهم ممّن يسرّون حسواً في ارتغاء.

والآن نحن أزاء هذا الموقف في حدود ما قرأناه في الخبر فهل نجد تطوراً في المبدأ الثابت لابن عباس والمعلن في مسألة الإمامة والإمام ، فبعد

____________

(1) أنساب الأشراف 3 / 28 تح ـ المحمودي ط بيروت.

٣٣٣

أن كان هو النص والوصاية من السابق إلى اللاحق ـ كما هو مبدأ أئمّة أهل البيت (عليهم السلام)؟ فما باله الآن يقول للناس : إن أحببتم وإن كرهتم وكأنّه ترك النص والتزم الدعوة إلى الشورى والاختيار؟ وهذا ما كان يرفضه هو وجميع أهل البيت من قبل ، وقد ردّه هو بكلّ قوة منذ أيام الخالفين الّذين ابتدعوه. وفي محاوراته مع عمر في أيامه ما يكفي لإثبات مبدأ النص ورفضه مبدأ الإختيار.

أليس هو الرادّ على عمر قوله : « كرهت قريش أن تجتمع لكم النبوة والخلافة ، فتجحفوا الناس جحفا ، فنظرت قريش لأنفسها فاختارت فأصابت ووُفقت »؟

فرد عليه ابن عباس بقوله : أمّا قولك إنّ قريشاً كرهت فإنّ الله تعالى قال لقوم :( ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ ) (1) ، وأمّا قولك : إنّا كنا نجحف ، فلو جحفنا بالخلافة جحفنا بالقرابة ، ولكنا قوم أخلاقنا مشتقة من أخلاق رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الّذي قال الله تعالى :( وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) (2) ، وقال له :( وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ ) (3) ، وأمّا قولك : فإنّ قريشاً اختارت فأصابت ووُفقت ، فإنّ الله يقول :( وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَة ) (4) ، وقد علمت يا أمير المؤمنين أنّ الله اختار من خلقه لذلك من اختار ، فلو نظرت قريش من حيث نظر الله لها ،

____________

(1) محمّد / 9.

(2) القلم / 2.

(3) الشعراء / 215.

(4) القصص / 68.

٣٣٤

واختارت لأنفسها من حيث اختار الله لها لكان الصواب بيدها غير مردود ولا محسود ولوُفقّت وأصابت(1) .

أليس هذا هو المبدأ الثابت والمعلن من رأي ابن عباس؟ إذن فما الّذي يعنيه بقوله : إن أحببتم وإن كرهتم ...؟

إنّه فيما أرى الاستكشاف للخبايا ، والاستعلام للنوايا الّتي انطوت في نفوس ذلك المجتمع المتمزّق المتفرّق ، الّذي يضم أنماطاً شتى ، فمن أقصى اليمين المؤمن المتماسك أمثال حجر بن عدي وعدي بن حاتم وقيس بن سعد بن عبادة وسعيد بن قيس الهمداني وآخرين وقليل ما هم. إلى أقصى اليسار المناوئ كشبث بن ربعي وابن الكواء وبقية الخوارج الّذين ما زالت غدرتهم واضحة ، وما بين أولئك وهؤلاء أنماط منافقون متربصون كالأشعث بن قيس وجرير بن عبد الله وآخرين أضرابهما ، وسوى هؤلاء من المتخاذلين ممّن لم يتخلّفوا عن وصفهم بما قال الله تعالى :( وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُون ) (2) ، وأعطف عليهم عشائر الّذين انتقل ولاؤهم إلى معاوية حين فارقوا الإمام كمصقلة بن هبيرة وأمثاله ، ولم يكن لتخفى على ابن عباس دخائل تلك النفوس المراض الّذين كانوا يكاتبون معاوية سراً في أمورهم واتخذوا عنده الأيادي منذ أيام الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام).

وكيف يخفى عليه ذلك ، وهو بالأمس القريب مقيم بين ظهرانيهم يسمع كلام الإمام يخطب فيهم ويذكر فيه أيام معاوية لهم ومن تلاه من يزيد ومروان

____________

(1) لقد تقدم في الجزء الثاني فراجع.

(2) البقرة / 14.

٣٣٥

وبنيه ، وذكر الحجاج وما يسومهم من العذاب ، فارتفع الضجيج وكثر البكاء والشهيق ، فقام قائم من الناس فقال : يا أمير المؤمنين لقد وصفت أموراً عظيمة الله إنّ ذلك لكائن؟

فقال عليّ : والله إنّ ذلك لكائن ما كذبت ولا كُذبت.

فقال آخرون : متى يكون ذلك يا أمير المؤمنين؟

قال : إذا خضبت هذه من هذه ، ووضع إحدى يديه على لحيته والأخرى على رأسه فأكثر الناس من البكاء ، فقال : لا تبكوا في وقتكم هذا فستبكون بعدي طويلاً.

فكاتب أكثر أهل الكوفة معاوية سراً في أمورهم واتخذوا عنده الأيادي ، فوالله ما مضت إلاّ أيام قلائل حتى كان ذلك(1) .

فكلّ أولئك الحضور بدءاً بالمتماسك أو المتمسك بولائه إلى المجاهر بعدائه وما بينهما من تفاوت الدرجات كانت شرائح المجتمع الكوفي الّذي واجهه ابن عباس بخطابه مستعلماً نواياه ، ولمّا بكى الناس علم ابن عباس أنّ ذلك البكاء عاطفة ورثاء ، ومع ذلك فقد استروح من تلك العاطفة روح استجابة ، ولم تخل من بارقة أمل ورجاء ، والأمل دائماً يعمر القلوب المؤمنة بصحة القضية الّتي تؤمن بها وتدعو إليها ، ويشدّ من عزيمتها. لذلك عاد إلى الدار وأخبر الإمام الحسن (عليه السلام) بما قاله للناس وبما قالوه له. فخرج الإمام وعليه ثياب سود ـ كما يقول المدائني في روايته(2) .

____________

(1) أنظر مروج الذهب 2 / 430 ط السعادة تح ـ محمّد محي الدين عبد الحميد.

(2) أنظر شرح النهج لابن أبي الحديد 4 / 8 ط الأولى.

٣٣٦

خطبة ودعوة للبيعة :

ذكر الشيخ المفيد وأبو الفرج(1) والأربلي(2) وغيرهم واللفظ للأول ، قال : « وروى أبو مخنف لوط بن يحيى قال حدثني أشعث بن سوار عن أبي إسحاق السبيعي وغيره قالوا : خطب الحسن بن عليّ (عليه السلام) في صبيحة الليلة الّتي قبض فيها أمير المؤمنين (عليه السلام) ، فحمد الله وأثنى عليه وصلّى على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ثمّ قال : لقد قبض هذه الليلة رجل لم يسبقه الأولون بعمل ، ولا يدركه الآخرون بعمل ، لقد كان يجاهد مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فيقيه بنفسه ، وكان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يوجّهه برايته فيكتنفه جبرئيل عن يمينه وميكائيل عن شماله ، ولا يرجع حتى يفتح الله على يديه ، ولقد توفي (عليه السلام) في الليلة الّتي عُرج فيها بعيسى بن مريم (عليه السلام) ، وفيها قبض يوشع بن نون وصيّ موسى (عليه السلام) ، وما خلّف صفراء ولا بيضاء إلاّ سبعمائة درهم فضلت من عطائه ، أراد أن يبتاع بها خادماً لأهله. ثمّ خنقته العبرة فبكى وبكى الناس معه ، ثمّ قال : أيّها الناس من عرفني فقد عرفني ، ومن لم يعرفني (فأنا الحسن بن محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم »(3) أنا ابن البشير ، أنا ابن النذير ، أنا ابن الداعي إلى الله بإذنه ، أنا ابن السراج المنير ، أنا من أهل البيت الّذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا ، أنا من أهل بيت افترض الله مودتهم في كتابه فقال تعالى :( قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا ) (4) فالحسنة مودّتنا أهل البيت. ثمّ جلس.

____________

(1) مقاتل الطالبيين / 32 ـ 33 ط الحيدرية.

(2) كشف الغمة 1 / 505 ط منشورات مكتبة الرضي بقم.

(3) كذا في مقاتل الطالبين.

(4) الشورى / 23.

٣٣٧

فقام عبد الله بن العباس (رحمه الله) بين يديه فقال : معاشر الناس هذا ابن بنت نبيكم ووصيّ إمامكم فبايعوه. فاستجاب له الناس وقالوا : ما أحبّه إلينا وأوجب حقه علينا ، وبادروا إلى البيعة له بالخلافة. ثمّ نزل عن المنبر وذلك في يوم الجمعة الواحد والعشرين من شهر رمضان سنة أربعين من الهجرة ، فرتّب العمّال ، وأمّر الأمراء ، وأنفذ عبد الله بن العباس إلى البصرة »(1) .

وقبل الإسترسال في بقية الحديث لابدّ لنا من وقفة تصحيح وتوضيح تفرضها طبيعة البحث والتحقيق في المقام. الأمر الّذي فات بعض الباحثين من المحدثين فلم يتبيّنه ، فجرى مع بعض المصادر من دون أن ينعم النظر في المفارقات الّتي تضمّها تلك المصادر.

وبيان ذلك : إنّه يوجد فيها استبدال الأدوار في مواقف الأخوين عبد الله وعبيد الله ابني العباس بن عبد المطلب ، نتيجة لتشابه الاسمين خطاً ، ممّا أوقع في الوهم خطأ أولئك المحدثين من الباحثين ، ولم يكن ذلك من الرواة بل هو من النسّاخ. وجرى الباحث على ذلك فنسب ما هو لعبد الله إلى أخيه عبيد الله ، وبالعكس أيضاً ، وزاد الأمر إبهاماً أنّهما معاً كانا بالكوفة يومئذ ، ولكلٍ منهما ذكر في خلافة الإمام الحسن (عليه السلام) وله دور فاعل ، فوقع الإلتباس في :

1 ـ مَن هو من ابني عباس الّذي خرج إلى الناس أوّلاً قبل خروج الإمام الحسن (عليه السلام)؟

____________

(1) الإرشاد / 188 ط الحيدرية.

٣٣٨

2 ـ ومَن هو منهما الّذي قام بين يدي الإمام الحسن (عليه السلام) ودعا الناس إلى مبايعته؟

3 ـ ومَن هو منهما الّذي أنفذه الإمام الحسن (عليه السلام) إلى البصرة؟

4 ـ ومَن هو منهما الّذي أرسله الإمام الحسن (عليه السلام) قائداً على مقدمة عسكره؟

5 ـ ومَن هو منهما الّذي كتب إلى الإمام الحسن (عليه السلام) مشيراً عليه في شأن مداراة الناس وما ينبغي له؟

مسائل بعضها آخذ ببعضها الآخر ، وللجواب عليها فلنقرأ ما رواه أشهر المؤرخين الأوائل في هذا المقام وهو : أبو مخنف الّذي اعتمد روايته في المقام كلٌّ من البلاذري 279 هـ ، وأبو الفرج الاصفهاني 356 هـ ، والشيخ المفيد 413 هـ ، وابن أبي الحديد 655 هـ ، لنرى التفاوت في كتبهم ، وإن دلّ ذلك على شيء فإنّما يدل على وهم النساخ الأوائل وسرى ذلك في كتب المصادر.

أقول : فلقد روى البلاذري في أنسابه بسنده عن أبي مخنف باسناده عن صالح بن كيسان : « وخرج عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب إلى الناس بعد وفاة عليّ ودفنه فقال إن أمير المؤمنين رحمه الله تعالى قد توفي وقد ترك خلفاً رضياً حليماً ، فإن أحببتم خرج إليكم فبايعتموه وان كرهتم ذلك فليس أحد على أحد (كذا) فبكى الناس وقالوا : يخرج مطاعاً عزيزاً. فخرج الحسن فخطبهم فبكى الناس ثمّ بايعوه »(1) .

____________

(1) أنساب الأشراف 3 / 27 ـ 28 تح ـ المحمودي.

٣٣٩

وروى أبو الفرج في مقاتل الطالبين : « قال أبو مخنف عن رجاله ، ثمّ قام ابن عباس بين يديه ، فدعا الناس إلى بيعته فاستجابوا له »(1) .

وذكر الشيخ المفيد في الإرشاد فقال : « وروى أبو مخنف لوط بن يحيى خطب الحسن بن عليّ (عليهما السلام) في صبيحة الليلة الّتي قبض فيها أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) ثمّ جلس فقام عبد الله بن العباس (رحمه الله) بين يديه وأنفذ عبد الله بن العباس إلى البصرة »(2) .

وروى ابن أبي الحديد في شرحه خطبة الإمام الحسن (عليه السلام) نقلاً عن أبي الفرج ثمّ قال : « قال أبو الفرج : فلمّا انتهى إلى هذا الموضع من الخطبة قام عبيد الله بن العباس بين يديه فدعا الناس إلى بيعته فاستجابوا »(3) هكذا في طبعة دار الكتب العربية بمصر (الاولى) ، ولكن في الطبعة الحديثة : « قام عبد الله بن عباس »(4) بدل عبيد الله ، فدل ذلك على أنّ الخبر في جميع مصادره برواية أبي مخنف ورد فيه ذكر عبد الله بن العباس والّذي ورد فيه اسم عبيد الله إنّما هو من سهو النساخ كما مرّ عن كتاب ابن أبي الحديد.

ويؤكد ذلك ما رواه المدائني وعنه ابن أبي الحديد أيضاً فقد قال : « قال المدائني : ولمّا توفي عليّ (عليه السلام) خرج عبد الله بن العباس بن عبد المطلب إلى الناس فقال : ان أمير المؤمنين (عليه السلام) توفي وقد ترك خلفاً فبكى الناس وقالوا : بل يخرج إلينا ، فخرج الحسن (عليه السلام) فخطبهم فبايعه الناس »(5) .

____________

(1) مقاتل الطالبيين / 33 ط الحيدرية و / 52 ط مصر تح ـ السيّد أحمد صقر.

(2) الإرشاد / 168 ط حجرية سنة 1320 هـ ، و 192ط حجرية ثانية سنة 1308 هـ ، و 188ط الحيدرية.

(3) شرح النهج لابن أبي الحديد 4 / 11 ط مصر الأولى.

(4) نفس المصدر 16 / 30 تح محمّد أبو الفضل براهيم.

(5) شرح النهج لابن أبي الحديد 16 / 22 ط محققة.

٣٤٠

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381