موسوعة عبد الله بن عبّاس الجزء ٥

موسوعة عبد الله بن عبّاس0%

موسوعة عبد الله بن عبّاس مؤلف:
تصنيف: متون حديثية
الصفحات: 520

موسوعة عبد الله بن عبّاس

مؤلف: السيد حسن الموسوي الخرسان
تصنيف:

الصفحات: 520
المشاهدات: 101832
تحميل: 4147


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 520 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 101832 / تحميل: 4147
الحجم الحجم الحجم
موسوعة عبد الله بن عبّاس

موسوعة عبد الله بن عبّاس الجزء 5

مؤلف:
العربية

وقتل عمرو بن الحمق الخزاعي وحمل إليه رأسه وهو أوّل رأس طيف به في الإسلام من بلد إلى بلد وقد حبس زوجته ، ومعاوية هو أوّل من حبس النساء بجرائر الرجال(1) .

وقد سرى مفهوم كلمة ابن عباس عند الناس وصدى نبوءته حتى قال أبو إسحاق السبيعي وقد سئل متى ذلّ الناس؟ فقال : « حين مات الحسن ، وادعي زياد ، وقتل حجر بن عدي »(2) ، وقال ابن الأثير وكان الناس يقولون : « أوّل ذل دخل الكوفة موت الحسن بن عليّ وقتل حجر بن عدي ودعوة زياد »(3) ، وحتى روى ابن أبي الحديد عن الإمام الباقر ( عليه السلام ) وهو يستعرض ظلم قريش لأهل البيت ـ إلى أن قال ـ : « وكان عظم ذلك وكبره زمن معاوية بعد موت الحسن ( عليه السلام ) فقتلت شيعتنا بكلّ بلدة ، وقطّعت الأيدي والأرجل على الظنة ، وكان من يُذكر بحبنا والانقطاع إلينا سجن أو نهب ماله أو هدمت داره »(4) .

وروى أيضاً عن المدائني في كتاب الأحداث قوله في استعراض محدثات معاوية في وضع الأحاديث المكذوبة في فضائل الصحابة ، ثمّ نسخته إلى جميع البلدان بنسخة واحدة : « اُنظروا إلى من أقامت عليه البينة انّه يحب عليّاً وأهل بيته فامحوه من الديوان وأسقطوا عطاءه ورزقه ، وشفع ذلك بنسخة أخرى : من اتهمتموه بموالاة هؤلاء القوم فنكلوا به واهدموا داره ، قال المدائني : فلم يكن البلاء أشد ولا أكثر منه بالعراق ولا سيما بالكوفة فلم يزل كذلك حتى مات

____________________

(1) نفس المصدر.

(2) شرح النهج لابن أبي الحديد 4 / 18 ط مصر الأولى نقلاً عن أبي الفرج.

(3) الكامل في التاريخ 3 / 209 ط بولاق.

(4) شرح النهج لابن أبي الحديد 3 / 15.

١٤١

الحسن بن عليّ ( عليه السلام ) فازداد البلاء والفتنة فلم يبق أحد من هذا القبيل إلاّ وهو خائف على دمه أو طريد في الأرض »(1) .

ماذا كان موقف ابن عباس من السلطة بعد موت الحسن :

والآن فلننظر إلى حال ابن عباس من بعد موت الإمام الحسن ( عليه السلام ) ، وهو الّذي قد استشعر دخول الذل على العرب بموته فماذا لحقه من هوان وهو من سادة العرب؟ وماذا كان موقف معاوية منه في تلك الفترة؟

روى ابن قتيبة في الإمامة والسياسة : « لم يلبث معاوية بعد وفاة الحسن ( رحمه الله ) إلاّ يسيراً حتى بايع ليزيد بالشام وكتب ببيعته إلى الآفاق ، وكان عامله على المدينة مروان بن الحكم فكتب إليه يذكر الّذي قضى الله به على لسانه من بيعة يزيد (؟؟؟) ويأمره بجمع من قبله من قريش وغيرهم من أهل المدينة ثمّ يبايعوا ليزيد.

فلمّا قرأ مروان كتاب معاوية أبى من ذلك وأبته قريش وكتب إلى معاوية في ذلك ، قال فعزله وولى سعيد بن العاص. وكتب إليه في ذلك وان يكتب إليه بمن يسارع ومن لم يسارع. فلمّا أتاه الكتاب دعا الناس إلى البيعة وأظهر الغلظة وأخذهم بالعزم والشدة ، وسطا بكلّ من أبطأ عن ذلك.

قال : فأبطأ الناس عنها إلاّ اليسير لا سيما بني هاشم فإنّه لم يجبه منهم أحد

فكتب سعيد إلى معاوية يعلمه بتباطوء الناس عن البيعة لا سيما أهل البيت من بني هاشم فإنّه لم يجبني منهم أحد ، وبلغني عنهم ما أكره فكتب معاوية

____________________

(1) نفس المصدر 3 / 16.

١٤٢

إلى عبد الله بن عباس وإلى عبد الله بن الزبير وإلى عبد الله بن جعفر وإلى الحسين بن عليّ ( رضي الله عنهم ) كتباً وأمر سعيد بن العاص أن يوصلها إليهم ويبعث بجواباتها

وكتب إلى ابن عباس : أمّا بعد فقد بلغني إبطاؤك عن البيعة ليزيد بن أمير المؤمنين ، وإنّي لو قتلتك بعثمان لكان ذلك إليَّ ، لأنّك ممّن ألّب عليه وأجلب ، وما معك من أمان فتطمئن به ، ولا عهد فتسكن إليه ، فإذا أتاك كتابي هذا فاخرج إلى المسجد ، والعن قتلة عثمان وبايع عاملي ، فقد أعذر من أنذر ، وأنت بنفسك أبصر والسلام »(1) .

قال ابن قتيبة في الإمامة والسياسة : « فكان أوّل من أجابه عبد الله بن عباس فكتب إليه : أمّا بعد فقد جاءني كتابك وفهمت ما ذكرت ، وأن ليس معي منك أمان ، وانّه والله ما منك يطلب الأمان يا معاوية ، وإنّما يطلب الأمان من الله رب العالمين ، وأمّا قولك في قتلي ، فوالله لو فعلت للقيت الله ومحمّداً صلّى الله عليه ( وآله ) وسلّم خصمك ، فما أخاله أفلح ولا أنجح من كان رسول الله خصمه ، وأمّا ما ذكرت من أنّي ممّن ألّب على عثمان وأجلب ، فذلك أمر غبت عنه ، ولو حضرته ما نسبت إليَّ شيئاً من التأليب عليه ، وأيم الله ما أرى أحداً غضب لعثمان غضبي ، ولا أعظم أحد قتله إعظامي ، ولو شهدته لنصرته أو أموت دونه ، ولقد قلت وتمنيت يوم قتل عثمان ليت الّذي قتل عثمان لقيني فقتله معه ولا أبقى بعده ، وأمّا قولك لي العن قتلة عثمان ، فلعثمان ولد وخاصة وقرابة هم أحق بلعنهم مني ، فإن شاؤا أن يلعنوا فليلعنوا ، وإن شاؤا أن يمسكوا فليمسكوا والسلام »(2) .

____________________

(1) الإمامة والسياسة 1 / 145 ـ 147 ط سنة 1328.

(2) نفس المصدر 1 / 148.

١٤٣

والّذي يلفت النظر أنّ معاوية ما زالت حجته المزعومة لاستباحة دماء بني هاشم هي قتل عثمان ، وكأنهم هم الّذين قتلوه ، مع أنّهم أبعد الناس عن تلك التهمة وهم براء منها براءة الذئب من دم ابن يعقوب ، لكن معاوية لا يمنعه من الافتراء مانع ، فليس له من الدين وازع ، وقد مرّ أن كتب لابن عباس يوم كان في البصرة كتاباً ضمّنه نفس تلك التهمة ، وردّ عليه ابن عباس بجواب مرّ ذكره وقد رد التهمة عليه ، أمّا جوابه في هذه المرة فلا يخلو من ملاحظة تجعلنا في شك ممّا تزيّد فيه الرواة. في غضبه لعثمان غضباً لم يغضبه لأحد إلى آخر ما فيه من دسّ. تفضحه مواقفه في الجمل وصفين ضد المطالبين بدم عثمان فيما يزعمون ، ثمّ محاوراته مع معاوية وعمرو بن العاص وقد مرت بما فيها في جرأة وشجاعة فراجع.

معاوية في المدينة :

لمّا فشل ولاة معاوية ـ مروان وسعيد بن العاص ـ في حمل الناس بالمدينة على بيعة يزيد ، رغم الترهيب والترغيب ، والّذي أقلق معاوية امتناع النفر الّذين ينظر الناس إليهم على أنّهم أهل الحل والعقد ، وهم أولى بالبيعة لهم من يزيد. وفي مقدمتهم بنو هاشم ورأسهم الإمام الحسين ( عليه السلام ) ثمّ العبادلة وفي مقدمتهم عبد الله بن عباس ، ولمّا وافته جوابات الكتب تحمل النذير بخلاف مستطير ، قرّر أن يذهب بنفسه إلى المدينة ، ويأخذ البيعة لابنه قهراً وقسراً ، ويبدو من حديث ابن قتيبة وابن أعثم إنّه هيأ الأجواء لاستقباله عن طريق واليه ورجاله ، قال :

« فقدم معاوية المدينة حاجاً فلمّا أن دنا من المدينة خرج إليه الناس يتلقونه ما بين راكب وماشي

قال : حتى إذا كان بالجرف ـ موضع على ثلاثة أميال من المدينة نحو الشام ـ لقيه الحسين بن عليّ وعبد الله بن عباس.

١٤٤

فقال معاوية : مرحباً بابن بنت رسول الله وابن صنو نبيّه ، ثمّ انحرف إلى الناس فقال : هذان شيخا بني عبد مناف ، وأقبل عليهما بوجهه وحديثه ، فرحّب وقرّب ، فجعل يواجه هذا مرّة ويضاحك هذا أخرى ، حتى ورد المدينة ، فلمّا خالطها لقيته المشاة والنساء والصبيان يسلّمون عليه ويسايرونه إلى أن نزل. فانصرفا عنه ، فمال الحسين إلى منزله ومضى ابن عباس إلى المسجد فدخله »(1) . هذا ما رواه ابن قتيبة.

إلاّ أنّ ابن الأثير قال : « سار ـ معاوية ـ إلى الحجاز في ألف فارس ، فلمّا دنا من المدينة لقيه الحسين بن عليّ أوّل الناس فلمّا نظر إليه قال : لا مرحباً ولا أهلاً ، بدنة يترقرق دمها والله مهريقه. قال : مهلاً فإني والله لست بأهل لهذه المقالة ، قال : بلى ولشرّ منها.

ولقيه ابن الزبير فقال : لا مرحباً ولا أهلاً ، خبّ ضبّ تلعة ، يدخل رأسه ويضرب بذنبه ، ويوشك والله أن يؤخذ بذنبه ويدقّ ظهره ، نحيّاه عني ، فضُرب وجه راحلته.

ثمّ لقيه عبد الرحمن بن أبي بكر فقال له معاوية : لا أهلاً ولا مرحباً شيخ قد خرف وذهب عقله ثمّ أمر فضرب وجه راحلته. ثمّ فعل بابن عمر نحو ذلك ، فاقبلوا معه لا يلتفت إليهم حتى دخل المدينة ، فحضروا بابه فلم يؤذن لهم على منازلهم ولم يروا منه ما يحبّون فخرجوا إلى مكة فأقاموا بها ثمّ ذكر خطبة معاوية يتهدد الممتنع عن البيعة وخصوصاً أولئك النفر بالقتل بما فيهم الحسين ، وذكر دخوله على عائشة وجرى ذكر امتناع أولئك النفر وتهديده بقتلهم فقالت له : فارفق بهم فإنهم يصيرون إلى ما تحب إن شاء الله »(2) .

____________________

(1) نفس المصدر.

(2) الكامل في التاريخ 3 / 216 ـ 217 ط بولاق.

١٤٥

وهذا الّذي ذكره ابن الأثير لعلّه أشبه بسيرة معاوية الرعناء في تلك الفترة ، وقد ذكر ابن كثير أيضاً في تاريخه في حوادث سنة 56 أخذ البيعة ليزيد فقال : « فبايع له الناس في الأقاليم إلاّ عبد الرحمن بن أبي بكر وعبد الله بن عمر والحسين بن عليّ وعبد الله بن الزبير وابن عباس ، فركب معاوية إلى مكة معتمراً ، فلمّا اجتاز بالمدينة ـ مرجعه من مكة ـ استدعى كلّ واحد من هؤلاء الخمسة فأوعده وتهدده بانفراده »(1) .

وأحسب أنّ ما ذكره ابن الأثير وابن كثير أخذاه من الطبري بصورة مخففة »(2) ، ففي تاريخه ذكر امتناع النفر الخمسة ، ثمّ ذكر كلام معاوية مع كلّ واحد من الأربعة على انفراد ، قال : ولم يذكر ابن عباس ، وهذا ممّا يلفت النظر لماذا لم يذكره؟ وهل ساءت العلاقة لحد القطيعة ، أم أنّه رضي بالبيعة فلم يرسل عليه فيتهدده؟ أم أنّ معاوية أراد أن لا يقطع الشعرة بحد الشفرة؟ لابدّ لنا من البحث في ذلك.

لعمر الله إنّها لذرية الرسول وأحد أصحاب الكساء ومن البيت المطهر :

ذكر ابن قتيبة في الإمامة والسياسة كلام معاوية مع النفر مهدداً ومتوعداً بالقتل كما مرّ ، ثمّ قال : « فلمّا كان صبيحة اليوم الثاني أمر بفراش فوضع له وسوّيت مقاعد الخاصة حوله وتلقاءه من أهله ، ثمّ خرج وعليه حلة يمانية وعمامة دكناء وقد أسبل طرفها بين كتفيه ، وقد تغلّف وتعطّر فقعد على سريره ، وأجلس كتّابه منه بحيث يسمعون ما يأمر به ، وأمر حاجبه أن لا يأذن لأحد من

____________________

(1) البداية والنهاية 8 / 79.

(2) تاريخ الطبري 5 / 303 ـ 304 ط محققة.

١٤٦

الناس وإن قرب ، ثمّ أرسل إلى الحسين بن عليّ وعبد الله بن عباس ، فسبق ابن عباس ، فلمّا دخل وسلّم عليه أقعده في الفراش على يساره فحادثه مليّاً.

ثمّ قال : يا بن عباس لقد وفّر الله حظكم من مجاورة هذا القبر الشريف ودار الرسول ( عليه السلام ).

فقال ابن عباس : نعم أصلح الله أمير المؤمنين وحظنا من القناعة بالبعض والتجافي عن الكلّ ، أوفر.

فجعل معاوية يحدثه ويحيد به عن طريق المجادلة ، ويعدل إلى ذكر الأعمال على اختلاف الغرائز والطباع. حتى أقبل الحسين بن عليّ ، فلمّا رآه معاوية جمع له وسادة كانت على يمينه ، فدخل الحسين وسلّم فأشار إليه فأجلسه عن يمينه مكان الوسادة ، فسأله معاوية عن حال بني أخيه الحسن وأسنانهم فأخبره ثمّ سكت. قال : ثمّ ابتدأ معاوية فقال : فالحمد لله وليّ النعم ومنزل النقم ، وأشهد أن لا إله إلاّ الله المتعالي عمّا يقول الملحدون علواً كبيراً ، وأن محمداً عبده المختص المبعوث إلى الجن والإنس كافة لينذرهم بقرآن لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، تنزيل من حكيم حميد ، فأدى عن الله وصدع بأمره ، وصبر على الأذى في جنبه ، حتى أوضح دين الله وأعزّ أولياءه ، وقمع المشركين وظهر أمر الله وهم كارهون ، فمضى صلوات الله عليه وقد ترك من الدنيا ما بُذل له ، واختار منها الترك لما سخّر له ، زهادة واختياراً لله وأنفة واقتداراً على الصبر ، بغياً لما يدوم ويبقى ، فهذه صفة الرسول ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، ثمّ خلفه رجلان محفوظان وثالث مشكوك ، وبين ذلك خوض طال ما عالجناه مشاهدة ومكافحة ومعاينة وسماعاً ، وما أعلم منه فوق ما تعلمان. وقد كان من أمر يزيد ما سبقتم إليه وإلى تجويزه ، وقد علم ما أحاول به من أمر الرعية من سد الخلل ولمّ الصدع بولاية يزيد بما

١٤٧

أيقظ العين وأحمد الفعل ، هذا معناي في يزيد ، وفيكما فضل القرابة ، وحظوة العلم ، وكمال المرؤة ، وقد أصبت من ذلك في يزيد على المناظرة والمقابلة ما أعياني مثله عندكما وعند غيركما ، مع علمه بالسنة وقراءة القرآن ، والحلم الّذي يرجح بالصم الصلاب ، وقد علمتما أنّ الرسول المحفوظ بعصمة الرسالة قدّم على الصدّيق والفاروق ومن دونهما من أكابر الصحابة وأوائل المهاجرين يوم غزوة السلاسل من لم يقارب القوم ، ولم يعاندهم برتبة في قرابة موصولة ولا سنة مذكورة ، فقادهم الرجل بأمره ، وجمع بهم صلاتهم وحفظ عليهم فيأهم ، وقال ولم يقل معه ، وفي رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) أسوة حسنة ، فمهلاً بني عبد المطلب فإنّا وأنتم شعباً نفع وجد ، وما زلت أرجو الإنصاف في اجتماعكما ، فما يقول القائل إلاّ بفضل قولكما ، فردّا على ذي رحم مستعتب ما يحمد به البصيرة في عتابكما ، وأستغفر الله لي ولكما.

قال : فتيسّر ابن عباس للكلام ونصب يده للمخاطبة ، فأشار إليه الحسين وقال : على رسلك ، فأنا المراد ونصيبي في التهمة أوفر ، فأمسك ابن عباس ، فقام الحسين فحمد الله وصلّى على الرسول ثمّ قال : أمّا بعد يا معاوية فلن يؤدي القائل وان أطنب في صفة الرسول ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) من جميع جزءاً ، وقد فهمت ما لبّست به الخلف بعد رسول الله من ايجاز الصفة ، والتنكّب عن استبلاغ البيعة ، وهيهات هيهات يا معاوية فضح الصبح فحمة الدجى ، وبهرت الشمس أنوار السُرج ، ولقد فضّلت حتى أفرطت ، واستأثرت حتى أجحفت ، ومنعت حتى بخلت ، وجرت حتى جاوزت ، ما بذلت لذي حقّ من أتم حقّه بنصيب ، حتى أخذ الشيطان حظه الأوفر ، ونصيبه الأكمل ، وفهمت ما ذكرته عن يزيد من اكتماله وسياسته لأمة محمّد ، تريد أن توهم الناس في يزيد ، كأنك تصف محجوباً ، أو تنعت غائباً ، أو

١٤٨

تخبر عمّا كان احتويته بعلم خاص ، وقد دلّ يزيد من نفسه على موقع رأيه ، فخذ ليزيد فيما أخذ به من استقرائه الكلاب المهارشة عند التحارش ، والحمام السّبق لأترابهن ، والقينات ذوات المعازف ، وضروب الملاهي ، تجده ناصراً ، ودع عنك ما تحاول ، فما أغناك أن تلقى الله بوزر هذا الخلق بأكثر ممّا أنت لاقيه ، فوالله ما برحت تقدم باطلاً في جور ، وحنقاً في ظلم ، حتى ملأت الأسقية ، وما بينك وبين الموت إلاّ غمضة ، فتقدم على عمل محفوظ في يوم مشهود ولات حين مناص ، ورأيتك عرّضت بنا هذا الأمر ، ومنعتنا عن آبائنا تراثنا ، ولقد لعمر الله أورثنا الرسول ( عليه السلام ) ولادة ، وجئت لنا بها ما حججتم به القائم عند موت الرسول فاذعن للحجة بذلك ، وردّه الإيمان إلى النَصَف ، فركبتم الأعاليل وفعلتم الأفاعيل ، وقلتم كان ويكون ، حتى أتاك الأمر يا معاوية من طريق كان قصدها لغيرك ، فهناك فاعتبروا يا أولي الأبصار. وذكرت قيادة الرجل القوم بعهد رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وتأميره له ، وقد كان ذلك ، ولعمرو بن العاص فضيلة بصحبة الرسول وبيعته له ، وما صار لعمرو يومئذ حتى أنف القوم أمرته ، وكرهوا تقديمه ، وعدّوا عليه أفعاله ، فقال ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : لا جرم معشر المهاجرين لا يعمل عليكم بعد اليوم غيري. فكيف يحتج بالمنسوخ من فعل الرسول في أوكد الأحوال وأولاها بالمجتمع عليه من الصواب؟ أم كيف صاحبت بصاحب تابعاً ، وحولك من يؤمن في صحبته ، ويعتمد في دينه وقرابته ، وتتخطاهم إلى مسرف مفتون ، تريد أن تلبس الناس شبهة يسعد بها الباقي في دنيا ، وتشقى بها في آخرتك ، وإنّ هذا لهو الخسران المبين وأستغفر الله لي ولكم.

قال : نظر معاوية إلى ابن عباس فقال : ما هذا يا بن عباس ولما عندك أدهى وأمرّ.

١٤٩

فقال ابن عباس : لعمر الله إنها لذرية الرسول وأحد أصحاب الكساء ومن البيت المطهر ، فاله عمّا تريد فإن لك في الناس مقنعاً حتى يحكم الله بأمره وهو خير الحاكمين.

فقال معاوية : أعود الحلم التحلم ، وخيره التحلم عن الأهل انصرفا في حفظ الله »(1) .

وعيد وتهديد لمن لم يبايع يزيد :

روى ابن أعثم الكوفي ( ت 314 هـ ) في الفتوح قال :

« وخرج معاوية من منزله إلى المسجد الأعظم فصعد المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثمّ ذكر ابنه يزيد في خطبته وقال : من أحق بالخلافة من ابني يزيد في فضله وهديه ومذهبه وموضعه من قريش؟ والله اني لأرى قوماً يعيبونه ، وما أظنهم بمقلعين ولا منتهين حتى يصيبهم مني بوائق تجتث أصولهم ، فليربع أولئك على ضلعهم من قبل أن تصيبهم مني فاقرة لا يقومون لها ، فقد أنذرت إن نفع الإنذار ، وبينت إن نفع البيان ، ثمّ جعل يتمثل بهذه الأبيات ويقول :

قد كنتُ حذّرتك آل المصطلق

وقلت يا عامر ذرني وانطلق

إنّك إن كلفتني ما لم أطق

ساءك ما سرّك مني من خُلق

دونك ما استسقيته فاحس وذق

قال : ثمّ ذكر عبد الرحمن بن أبي بكر وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير والحسين بن عليّ وقال : والله لئن لم يبايعوا ليزيد لأفعلن ولأفعلن ثمّ ذكر اجتماعه مع عائشة وما جرى بينهما ممّا لا يعنينا ذكره

____________________

(1) الإمامة والسياسة 1 / 152.

١٥٠

قال : وأرسل معاوية إلى عبد الرحمن بن أبي بكر وابن عمر وابن الزبير فأخبر أنّهم قد مضوا إلى مكة ـ وذكر غيره انّ الحسين أيضاً ممّن خرج إلى مكة ـ قال ابن اعثم : فسكت ساعة يفكر في أمرهم ، ثمّ أرسل إلى عبد الله بن عباس فدعاه ، فلمّا دخل عليه قرّب مجلسه ثمّ قال : يا بن عباس أنتم بنو هاشم وأنتم أحق الناس بنا ، وأولاهم بمودتنا ، لأننا بنو عبد مناف ، وإنّما باعد بيننا وبينكم هذا الملك ، وقد كان هذا الأمر في تيم وعدي فلم تعترضوا عليهم ، ولم تظهروا لهم من المباعدة ثمّ قتل عثمان بين أظهركم فلم تغيّروا ، ثمّ وليت هذا الأمر فوالله لقد قرّبتكم وأعطيتكم ورفعت مقداركم ( أقداركم ) فما تزدادون مني إلاّ بُعداً ، وهذا الحسين بن عليّ قد بلغني عنه هنات غيرها خير له منها ، فاذكروا عليّ بن أبي طالب ومحاربته إياي ومعه المهاجرون والأنصار ، فأبى الله تبارك وتعالى إلاّ ما قد علمتم ، أفترجون بعد عليّ مثله؟ أم بعد الحسن مثله؟

قال : فقطع عليه ابن عباس الكلام ثمّ قال : صدقت يا معاوية نحن بنو عبد مناف ، وأنتم أحق الناس بمودتنا وأولاهم بنا ، وقد مضى أوّل الأمر بما فيه فأصلح آخره فإنّك صائر إلى ما تريد ، وأمّا ما ذكرت من عطيّتك علينا فلعمري ما عليك في جود من عيب.

وأمّا قولك : ذهب عليّ أفترجون مثله؟ فمهلاً يا معاوية رويداً لا تعجل ، فهذا الحسين بن عليّ وهو حيّ وهو ابن أبيه ، واحذر أن تؤذيه يا معاوية ، فيؤذيك أهل الأرض ، فليس على ظهرها اليوم ابن بنت نبيّ سواه.

فقال معاوية : إنّي قد قبلت منك يا بن عباس.

١٥١

قال : ثمّ رحل معاوية إلى مكة ورحل معه كافة أصحابه وعامة أهل المدينة وفيهم عبد الله بن عباس »(1) .

وأظن نحو إيهام في العبارة : ( ورحل معه كافة وفيهم عبد الله بن عباس ) إذ لا يعني أنّ عبد الله بن عباس ممّن خرج مع معاوية في ركابه كما قد يتوهم ذلك. بل كان خرج منفصلاً عن معاوية ، فقد كان له موكب كما كان لمعاوية موكب. فقد أخرج ابن عبد البر في الاستيعاب وابن حجر في الصواعق عن يزيد ابن الأصم قال : « خرج معاوية حاجاً معه ابن عباس ، فكان لمعاوية موكب ولابن عباس موكب ممّن يطلب العلم. فالمعيّة معه إنّما هي معيّة الطريق بدلالة تعدّد الموكبين ، كما أنّهما اجتمعا في الطواف ، فكان معاوية يستلم الأركان كلّها فأنكر عليه ابن عباس ذلك »(2) .

وحديثه كما رواه أحمد في مسنده بسنده عن مجاهد عن ابن عباس : « أنّه طاف مع معاوية بالبيت فجعل معاوية يستلم الأركان كلّها ، فقال له ابن عباس : لم تستلم هذين الركنين ، ولم يكن رسول الله صلّى الله عليه ( وآله ) وسلّم يستلمهما؟

فقال معاوية : ليس شيء من البيت مهجوراً ، فقال ابن عباس :( لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ) (3) فقال معاوية : صدقت.

قال شاكر : اسناده صحيح وروى الترمذي معناه مختصراً باسناد آخر عن ابن عباس »(4) .

____________________

(1) الفتوح لابن أعثم الكوفي 4 / 235 ـ 239.

(2) الاستيعاب 2 / 352 ، والصواعق المحرقة / 107.

(3) الأحزاب / 21.

(4) مسند أحمد 3 / 266 برقم 1877 تح ـ أحمد محمّد شاكر ، وأنظر صحيح الترمذي 2 / 92.

١٥٢

وقد تلاعبت الأهواء بهذا الخبر فقلبت المسألة وجعلت ابن عباس الفاعل ومعاوية هو المنكر ، وسيأتي مزيد بيان عن ذلك في الحلقة الثالثة إن شاء الله تعالى.

تضليل وأحابيل :

قال المؤرخون : « ولمّا قرب من مكة خرج الناس يستقبلونه وفيهم النفر الّذين توعّدهم وهدّد بقتلهم. فلمّا رأى الحسين قال : مرحباً بابن رسول الله وسيّد شباب المسلمين ، قربّوا لأبي عبد الله دابة ، وقال لعبد الله بن الزبير مرحباً بابن حواري رسول الله وابن عمته هاتوا له دابة ، وقال لابن عمر : مرحباً بصاحب رسول الله وابن الفاروق ، هاتوا له دابة ، وقال لعبد الرحمن بن أبي بكر : مرحباً بشيخ قريش وسيدها وابن الصدّيق هاتوا له دابة.

وجعلت ألطافه تدخل عليهم ظاهرة يراها الناس ، ويحسن إذنهم وشفاعتهم ، وحملهم على الدواب ، وخرج حتى أتى مكة فقضى حجه ، ولما أراد الشخوص أمر بأثقاله فقدّمت ، وأمر بالمنبر فقرّب من الكعبة ، ثمّ أرسل إلى النفر الخمسة وهم الحسين ابن عليّ وابن عباس وابن الزبير وابن عمر وابن أبي بكر فأحضرهم وقال لهم : قد علمتم نظري لكم وتعطفي عليكم ، وصلتي أرحامكم ، ويزيد أخوكم وابن عمكم ، وإنّما أردت أن أقدّمه باسم الخلافة وتكونوا أنتم تأمرون وتنهون. فسكتوا ، فقال : أجيبوا. فابتدر ابن الزبير فقال : نخيّرك بعدُ إحدى ثلاث أيها أخذت فهي لك رغبة وفيها خيار : إن شئت فاصنع فينا ما صنعه رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) قبضه الله ولم يستخلف أحداً ، فرأى المسلمون أن يستخلفوا أبا بكر فدع هذا الأمر حتى يختار الناس لأنفسهم.

١٥٣

وإن شئت فما صنع أبو بكر عهد إلى رجل من قاصية قريش وترك من ولده ومن رهطه الأدنين من كان لها أهلاً.

وإن شئت فما صنع عمر جعلها شورى في ستة نفر من قريش يختارون رجلاً منهم ، وترك ولده وأهل بيته ، وفيهم من لو وليها لكان لها أهلاً.

فقال معاوية : هل غير هذا. قال : لا. ثمّ قال للآخرين ما عندكم؟ قالوا نحن على ما قال ابن الزبير.

فقال معاوية : إنّي أتقدم اليكم وقد أعذر من أنذر ، إنّي قائم فقائل مقالة فأقسم بالله لئن رد عليَّ رجل منكم كلمة في مقامي هذا لا ترجع إليه كلمته حتى يضرب رأسه ، فلا ينظر امرؤ منكم إلاّ إلى نفسه ، ولا يبقي إلاّ عليها.

وأمر أن يقوم على رأس كلّ واحد منهم رجلان بسيفيهما ، فإن تكلم بكلمة يرد بهما عليه قوله قتلاه »(1) .

قال ابن قتيبة في الإمامة والسياسة : « وأمر معاوية من حرسه وشرطته قوماً أن يحضروا هؤلاء النفر الّذين أبوا البيعة وهم الحسين بن عليّ وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن عباس وعبد الرحمن بن أبي بكر وأوصاهم معاوية قال : إنّي خارج العشيّة إلى أهل الشام فأخبرهم أنّ هؤلاء النفر قد بايعوا وسلّموا ، فإن تكلم أحد منهم بكلام يصدقني أو يكذبني فيه فلا ينقضي كلامه حتى يطير رأسه ، فحذر القوم ذلك.

فلمّا كان العشي خرج معاوية وخرج معه هؤلاء النفر وهو يضاحكهم ويحدّثهم ، وقد ألبسهم الحلل ، فألبس ابن عمر حلة حمراء ، وألبس الحسين حلة

____________________

(1) الإمامة والسياسة 1 / 157.

١٥٤

صفراء ، وألبس عبد الله بن عباس حلة خضراء وألبس ابن الزبير حلة يمانية ـ ولم يذكر عن حلة ابن أبي بكر شيئاً ـ ثمّ خرج بينهم ، وأظهر لأهل الشام الرضا عنهم وأنّهم بايعوا فقال : يا أهل الشام إن هؤلاء النفر دعاهم أمير المؤمنين فوجدهم واصلين مطيعين وقد بايعوا وسلّموا. قال ذلك والقوم سكوت لم يتكلموا شيئاً حذر القتل ، فوثب أناس من أهل الشام فقالوا يا أمير المؤمنين إن كان رابك منهم ريب فخلّ بيننا وبينهم حتى نضرب أعناقهم ، فقال معاوية سبحان الله ما أحلّ دماء قريش عندكم ، يا أهل الشام لا أسمع لهم ذكراً بسوء ، فإنهم قد بايعوا وسلّموا وارتضوني فرضيت عنهم ( رضي الله عنهم ).

ثمّ ارتحل معاوية راجعاً وقد أعطى الناس أعطياتهم وأجزل العطاء ، وأخرج إلى كلّ قبيلة جوائزها وأعطياتها ، ولم يخرج لبني هاشم جائزة ولا عطاء ، وذلك فيما تخيّله سيحمل بني هاشم على الضغط على الحسين ( عليه السلام ) ليبايع ، ولكنه فشل في تصوره فقد خرج عبد الله بن عباس في أثره حتى لحقه بالروحاء ـ.

فجلس ببابه فجعل معاوية يقول مَن بالباب؟ فيقال عبد الله بن عباس ، فلم يأذن لأحد ، فلمّا استيقظ قال : من بالباب؟ فقيل عبد الله بن عباس ، فدعا بدابته فأدخلت إليه ثمّ خرج راكباً فوثب إليه عبد الله بن عباس فأخذ بلجام البغلة ثمّ قال : أين تذهب؟ قال إلى الشام قال : فأين جوائزنا كما أجزت غيرنا؟ فأومأ إليه معاوية فقال : والله ما لكم عندي جائزة ولا عطاء حتى يبايع صاحبكم.

١٥٥

قال ابن عباس : فقد أبى ابن الزبير فأخرجت جائزة بني أسد ، وأبى عبد الله ابن عمر فأخرجت جائزة بني عدي. فما لنا إن أبى صاحبنا وقد أبى صاحب غيرنا؟ فقال معاوية : لستم كغيركم لا والله لا أعطيكم درهماً حتى يبايع صاحبكم. فقال ابن عباس : أما والله لئن لم تفعل لألحقن بساحل من سواحل الشام ثمّ لأقولنّ ما تعلم ، والله لأتركنّهم عليك خوارج فقال معاوية : لا بل أعطيكم جوائزكم فبعث بها من الروحاء ومضى راجعاً إلى الشام »(1) وقد فشل في سياسته من الضغط على الحسين ( عليه السلام ) عن طريق منع الهاشميين جوائزهم ، ولم يزدهم إلاّ تضامناً مع الإمام الحسين ( عليه السلام ) في رفضهم بيعة يزيد وقد أخذها لهم ابن عباس لسانهم المعبّر عنهم وكبير شأنهم ، فأرغم معاوية على الإنصياع خاسئاً وهو حسير.

قال ابن أعثم في الفتوح ـ وقد ذكر نحو ما تقدم ـ ثمّ قال : « فتبسم معاوية وقال : بل تعطون وتكرمون وتزادون أبا محمّد. قال : ثمّ أمر معاوية لبني هاشم بجوائز سنية ، فكلٌ قبل جائزته إلاّ الحسين بن عليّ فإنّه لم يقبل من ذلك شيئاً »(2) .

والّذي يلفت النظر تكنية معاوية لابن عباس بأبي محمّد ، ولم يذكر ذلك أحد في كناه فقد كان يكنى أبا العباس باسم ابنه العباس وهو أكبر ولده(3) ، على انّه كان له ولد اسمه محمّد ذكره ابن الكلبي في جمهرة النسب وقال : « لا بقية له »(4) . فلعلّه كانت ولادته في تلك الأيام فكنّاه معاوية باسمه استلطافاً واستدراجاً والله العالم بحقائق الأمور.

____________________

(1) الإمامة والسياسة 1 / 157.

(2) الفتوح 4 / 244 ـ 245.

(3) مرّّ بالجزء الأوّل ما يتعلق بهذا فراجع.

(4) أنظر جمهرة النسب / 140.

١٥٦

سنّة كسرى وقيصر(1) :

إنّ للجاحظ رسالة في بني أمية مطبوعة وهي الرسالة الحادية عشرة : قال فيها ـ بعد استعراضه ما حدث للأمة منذ عهد الرسالة ـ : « إلى أن كان من اعتزال الحسن ( رضي الله عنه ) الحرب ، وتخليته الأمور عند انتشار أصحابه ، وما رأى من الخلل في عسكره فعندها استبد معاوية على الملك واستبد على بقية الشورى وعلى جماعة المسلمين من الأنصار والمهاجرين في العام الّذي سموه ( عام الجماعة ) وما كان عام جماعة ، بل كان عام فرقة قهر وجبرية وغلبة ، والعام الّذي تحوّلت فيه الامامة ملكاً كسروياً ، والخلافة منصباً قيصرياً ، ولم يعُد ذلك أجمع الضِلال والفسق ، ثمّ ما زالت معاصيه من جنس ما حكينا وعلى منازل ما رتبنا ، حتى ردّ قضية رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) رداً مكشوفاً ، وجحد حكمه جحداً ظاهراً في ولد الفراش وما يجب للعاهر مع اجماع الأمة على أنّ سميّة لم تكن لأبي سفيان فراشاً ، وانه إنما كان بها عاهراً ، فخرج بذلك من حكم الفجّار إلى حكم الكفار ، وليس قتل حجر بن عدي واطعام عمرو بن العاص خراج مصر وبيعة يزيد الخليع والاستئثار بالفيء واختيار الولاة على الهوى وتعطيل الحدود بالشفاعة والقرابة ، من جنس جحد الاحكام المنصوصة والشرائع المشهورة ، والسنن المنصوبة ، وسواء في باب ما يستحق من الكفّار جحد الكتاب وردّ السنّة إذا كانت السنّة في شهرة الكتاب وظهوره إلاّ انّ أحدهما أعظم ، وعقاب الآخرة عليها أشدّ ، فهذه أوّل كفرة كانت من الأمة ثمّ لم تكن إلاّ فيمن يدّعي إمامتها والخلافة عليها ، على أنّ كثيراً من أهل ذلك العصر قد كفروا بترك إكفاره ، وقد أربت عليهم نابتة عصرنا ومبتدعة

____________________

(1) ممّا ألحق جديداً بالكتاب.

١٥٧

دهرنا فقال : « لا تسبّوه فإن له صحبة ، وسبّ معاوية بدعة ، ومن يبغضه فقد خالف السنّة » فزعمت أنّ من السنّة ترك البراءة ممّن جحد السنة اهـ »(1) .

فهذا الجاحظ وهو المعروف بعثمانيته المتشدّدة جعل عام تولي معاوية الحكم ـ العام الّذي تحولت فيه الإمامة ملكاً كسروياً والخلافة منصباً قيصرياً ـ ولم يكن بدعاً في مقالته فقد سبقه عمر فكان إذا رأى معاوية قال : « هذا كسرى العرب »(2) ، ولحقه آخرون قالوا بذلك ونحوه. وقد مرت الإشارة إلى بعض ذلك ، إلاّ أنّ الّذي دعاني إلى إعادة التذكير به هو ما قرأت حديثاً في كتاب ( أباطيل يجب أن تمحى من التاريخ ) تأليف الدكتور إبراهيم عليّ شعوط الاستاذ بجامعة الأزهر.

وهذا الكتاب شأن سائر الكتب فيه الغث والسمين ، إلاّ أنّ الغث غلب طبعه حتى نخر العثُّجذعه ، ولست بصدد بيانه في المقام ، غير أنّي رأيت المؤلف في ازدواجية معاييره بالنسبة إلى المصادر التاريخية يتبّع الهوى ويقلّد محبّ الدين الخطيب في تعليقاته على كتاب العواصم من القواصم لابن العربي المالكي ، وحال الجميع يعرف من دفاعهم المستميت عن معاوية وبني أمية. وقد بلغت القحة بشعوط في الفصل الخامس انكاره لعن معاوية للإمام عليّ على منابر بني أمية فقال : « لم يصح أبداً عن معاوية ( رضي الله عنه ) انّه سبّ عليّاً كرّم الله وجهه أو لعنه مرة واحدة ، فضلاً عن التشهير به على المنابر »(3) ، وهذا من الغرابة بمكان!! فإنّ مسألة اللعن جازت الشهرة والتظافر إلى حد التواتر ، وما أكثر الشواهد المثبتة لذلك الحدث المهين المشين ، وقريباً مرّ بنا حديث ابن عباس مع معاوية في رفع الشتم

____________________

(1) راجع الرسالة الحادية عشرة في رسائل الجاحظ جمع السندوبي طبع مصر بمطبعة الرحمانية سنة 1352 هـ.

(2) تاريخ ابن كثير 8 / 125.

(3) أباطيل يجب أن تمحى من التاريخ / 214 ط السادسة 1408 هـ نشر المكتب الإسلامي.

١٥٨

من على منابر المسلمين فقال معاوية : هيهات يا بن عباس ، وقد مرّ نقله عن الموفقيات للزبير بن بكار والحدائق الوردية فراجع ( مع النصوص ) ، ثمّ حديث معاوية مع سعد بن أبي وقاص وقد طلب منه أن يسب أبا تراب فأبى ، حديث رواه مسلم(1) ، والترمذي(2) ، والحاكم(3) ، والطبري والمسعودي وغيرهم وغيرهم.

روى البلاذري في أنسابه : « خطب معاوية بالمدينة وذكر عليّاً فنال منه والحسن بن عليّ تحت المنبر فقال : يا أهل الشام إنّ معاوية يخدعكم بهذا الخاتم الّذي من كان في يده جازت كتبه في الآفاق »(4) .

وروى ابن حجر في الإصابة وابن الأثير في أسد الغابة عن شهر بن حوشب قال : « أقام فلان ـ يعني معاوية ـ خطباء يشتمون عليّاً »(5) .

وفي العقد الفريد وغيره : « انّ الأحنف قال لمعاوية وقد سمع خطيب أهل الشام يلعن عليّاً : إنّ هذا القائل لو يعلم أنّ رضاك في لعن المرسلين للعنهم »(6) .

وفي أنساب الأشراف : « وكتب معاوية إلى المغيرة : أظهر شتم عليّ وتنقصه »(7) .

وفيه أيضاً : « إنّ معاوية كان قد أوصاه حين أراد توليته قال : لا تكفكفن عن شتم عليّ وذمّه »(8) .

____________________

(1) صحيح مسلم 7 / 120 ط صبيح.

(2) سنن الترمذي 13 / 171.

(3) مستدرك الحاكم 3 / 109.

(4) أنساب الأشراف 1ق 4 / 113.

(5) الإصابة 1 / 77 ، وأسد الغابة 1 / 134.

(6) العقد الفريد 2 / 144.

(7) أنساب الأشراف ( بنو عبد شمس ) 1ق 4 / 23.

(8) نفس المصدر / 243 ، وأنظر كلٌّ من تاريخ الطبري 2 / 111 ـ 113 ، وتاريخ ابن الأثير 3 / 392 ـ 396.

١٥٩

وحديث المغيرة مع صعصعة بن صوحان كما في مسند أحمد ومستدرك الحاكم والأذكياء لابن الجوزي(1) ، وحديث رفع عمر بن عبد العزيز لسنّة السبّ ، كلّ ذلك ممّا ذاع وشاع ، ويجده من له أدنى اطلاع في المصادر التاريخية وغيرها(2) . وحديث شتم بسر للإمام عند معاوية وزيد بن عمر بن الخطاب جالس فعلاه بعصاً فشجّه لأنّه جده من قبل أمه أم كلثوم رواه الطبري وابن الأثير(3) ، وقد شتم بسر بن أبي أرطأة على منبر البصرة ثمّ قال : « نشدت الله رجلاً علم أني صادق إلاّ صدقني أو كاذب إلاّ كذبني ، فقال أبو بكرة : الله انّا لا نعلمك إلاّ كاذباً ، قال فأمر به فخنق »(4) ، وبنى زياد مساجد لشيعة بني أمية ومن يبغض عليّاً يسبّونه فيها ـ فمنها مسجد بني عدي ومسجد بني مجاشع ومسجد الأساورة ومسجد الحُدان(5) ، وشتم كثير بن شهاب على منبر الري وكان يكثر ذلك(6) .

وشتم مروان بن الحكم على منبر رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وبحضور الحسن بن عليّ(7) . روى الذهبي في تاريخه : « كان مروان أميراً بالمدينة ست سنين فكان يسب عليّاً »(8) .

وشتم عمرو بن سعيد الأشدق وبالغ في الشتم فاصابته اللقوة(9) .

____________________

(1) مسند أحمد 1 / 188 ، ومستدرك الحاكم 1 / 385 ، والأذكياء لابن الجوزي.

(2) راجع تاريخ اليعقوبي 3 / 48 ، والمسعودي 2 / 167 ، وابن الأثير 7 / 17 ، وتاريخ السيوطي / 161.

(3) رواه الطبري 5 / 335 ، وابن الأثير 3 / 5 ط بولاق.

(4) تاريخ الطبري 6 / 96.

(5) أنساب الأشراف 1ق 4 / 232.

(6) الكامل لابن الأثير 3 / 179.

(7) تاريخ الخلفاء للسيوطي / 127.

(8) تاريخ الإسلام للذهبي 2 / 288 ط القدسي.

(9) إرشاد الساري 4 / 368 ، وتحفة الباري الأنصاري بذيل الإرشاد.

١٦٠