موسوعة عبد الله بن عبّاس الجزء ٥

موسوعة عبد الله بن عبّاس0%

موسوعة عبد الله بن عبّاس مؤلف:
تصنيف: متون حديثية
الصفحات: 520

موسوعة عبد الله بن عبّاس

مؤلف: السيد حسن الموسوي الخرسان
تصنيف:

الصفحات: 520
المشاهدات: 101790
تحميل: 4147


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 520 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 101790 / تحميل: 4147
الحجم الحجم الحجم
موسوعة عبد الله بن عبّاس

موسوعة عبد الله بن عبّاس الجزء 5

مؤلف:
العربية

فإنّ ابن عباس روى أيضاً أنّ رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) قال : ( آفة الدين ثلاثة : فقيه فاجر ، وإمام جائر ، ومجتهد جاهل ) ، وفي قول ابن عباس ـ لو صح الخبر ـ دعه ، ما يدل على سخريته بمعاوية لمخالفته السنّة ، ولو لم يكن كذلك لأمره بالاقتداء به.

وتعقيباً منا على ما نسب إليه أيضاً من تبرير عمل معاوية بأنّه صحب رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، وهذه الشهادة أيضاً يبطلها تقسيم ابن عباس نفسه للصحابة ، فقد كان له رأي في تقسيمهم ، ذكرناه في الجزء الأوّل حيث قال : « ترك رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) الناس يوم توفي على أربع مراتب ( منازل ) » فراجع. ونضيف إليه هنا ما روي عنه في تقييمهم وقد قاله لمعاوية : « يا معاوية إنّ الله جل ثناؤه ، وتقدست أسماؤه ، خصّ نبيّه محمداً صلّى الله عليه ( وآله ) وسلّم بصحابة آثروه على الأنفس والأموال ، وبذلوا النفوس دونه في كلّ حال ، ووصفهم في كتابه فقال :( رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ) (1) الآية ، قاموا بمعالم الدين ، وناصحوا الاجتهاد للمسلمين ، حتى تهذّبت طرقه ، وقويت أسبابه ، وظهرت آلاءُ الله ، واستقرّ دينُه ، ووضحت أعلامه ، وأذلّ الله بهم الشرك ، وأزال رؤوسه ، ومحا دعائمه ، وصارت كلمة الله العليا ، وكلمة الّذين كفروا السفلى ، فصلوات الله ورحمته وبركاته على تلك النفوس الزاكية ، والأرواح الطاهرة العالية ، فقد كانوا في الحياة لله أولياء ، وكانوا بعد الموت أحياء ، وكانوا لعباد الله نصحاء ، رحلوا إلى الآخرة قبل أن يصلوا إليها ، وخرجوا من الدنيا وهم بعدُ فيها.

فقطع عليه معاوية الكلام وقال : إيها يا بن عباس حديثاً في غير هذا »(2) .

____________________

(1) الفتح / 29.

(2) مروج الذهب 3 / 61 ـ 62 ط عبد الحميد.

١٨١

وأخيراً نختم الكلام عن رأيه في الصحبة ومن يتشدّق بها انتماءً بما رواه البزار بسند صحيح عن ابن عباس قال : « يقول أحدهم أبي صحب رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وكان مع رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، ولَنعلٌ خَلِِقٌ خير من أبيه » ، قال الهيثمي : رواه البزار ورجاله رجال الصحيح(1) .

فهو لا يقيم الوزن لمجرد الصحبة العامة إذ ليس كلّ من رأى النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) أو صحبه يستحق شرف الصحبة ما لم يحسن الصحبة في حياة النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ويؤدي حقّ الصحبة بعد وفاته. فذلك هو الّذي يحظى بوصف الصحبة الحقيقية على ضوء ما ذكره ابن عباس أخذاً من التخصيص الشرعي الّذي استفاده من القرآن الكريم. أمّا الّذين أساؤا إلى النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) في الحياة ، ولم يحسنوا بعد الممات فهم في الدرك الأسفل من النار وإن شملهم الإطلاق اللغوي ، وضمّت تراجمهم معاجم الصحابة ، ويكفينا دليلاً أخبار الحوض الصحيحة الّتي تُخرج الكثير الكثير من حظيرة القدس وشرف الصحبة إلى مهاوي الحضيض في نار جهنم(2) .

فقد روى البخاري بسنده عن جبير بن نفير ـ في حديث مع المقداد بن عمرو قال فيه المقداد : « والله لقد حضر رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) أقوامٌ كبّهم الله على مناخرهم في جهنم( فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ ) (3) »(4) .

____________________

(1) مجمع الزوائد 1 / 113.

(2) لي رسالة في ذلك أسميتها ( قطف الروض من أحاديث الحوض ) جمعت فيها الأحاديث المتعلقة بذلك من الصحاح والمسانيد والسنن ، والتاريخ مع اعترافات خطيرة لأكابر الصحابة بأنهم أحدثوا بعد النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) أحداثاً يخشون منها ، المؤلف.

(3) الأعراف / 157.

(4) الأدب المفرد / 33 باب الولد قرة العين تح ـ محمّد فؤاد عبد الباقي ط السلفية سنة 1375 بمصر.

١٨٢

فهل كان ابن عباس يرى معاوية ممّن حظي بشرف الصحبة ، ومن حظي بهما فلا يُسأل عمّا فعل كما هو رأي علماء التبرير؟! اللّهمّ لا ، لأنّه قد لعنه في يوم عرفة على ملأ من المسلمين لأنّه ترك التلبية ، وهو بالأمس قد حاربه في صفين وهو لا يزال يروي فيه ما سمعه من النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) من لعنه والدعاء عليه. فكيف نصدّق برواية البخاري الّتي فيها أكثر من ملاحظة!

والأعجب عندي من ذلك رواية هذا الخبر عند الشافعي في مسنده فرواه بإسناده إلى كريب مولى ابن عباس : « أنّه رأى معاوية صلّى العشاء ثمّ أوتر بركعة واحدة لم يزد ، فأخبر ابن عباس ، فقال : أصاب ، وأي بنيّ ليس أحدٌ منا أعلم من معاوية ، هي واحدة أو خمس أو سبع أو أكثر اهـ »(1) !!

وهذه الشهادة بالأعلمية أفظع وأفضح المفتريات على ابن عباس ، فقد استعر أوار المزايدات المناقبية في هذا الخبر عند الشافعي ، ولست أدري كيف لم يذكرها ابن حجر وهو المتهالك على جمع الرمّ والطمّ لمعاوية؟ ولعله رآها فلم يعتن بها لوضوح كذبها. وما أدري ما جواب الشافعي والبخاري وأضرابهما ممّن روى المفتريات على ابن عباس في حقّ معاوية عمّا رواه ابن عباس من لعن النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) لمعاوية وعمرو بن العاص عندما سمعهما يغنّيان (؟)

فقد أخرج الطبراني في المعجم قال : « حدّثنا أحمد بن عليّ الجارودي الاصبهاني ، ثنا عبد الله بن سعيد الكندي ، ثنا عيسى بن سوادة النخعي عن ليث عن طاووس عن ابن عباس ( رضي الله عنه ) قال : سمع رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) صوت رجلين يغنّيان وهما يقولان :

ولا يزال حواريٌ يلوحُ عظامُه

زوى الحربُ عنه أن يُجَنَّ فيقبرا

____________________

(1) مسند الشافعي 1 / 108.

١٨٣

فسأل عنهما ، فقيل : معاوية وعمرو بن العاص ، فقال : ( اللّهمّ أركسهما في الفتنة رَكساً ودعّهما إلى النار دعّا ) »(1) . وهذا الحديث صريح في ذمّهما ولعنهما والدعاء عليهما وبالتالي فهما من أهل النار ، لأنّ دعاءه ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) مستجاب.

وقد أقلق هذا الحديث علماء التبرير ، ولهم حوله غمغمة وجعجعة من غير طحين ، فقد رواه غير ابن عباس جماعة منهم :

1 ـ أبو برزة الاسلمي وحديثه في مسند أحمد(2) ، ورواه نصر بن مزاحم في كتاب صفين(3) ، إلاّ أنّ الأوّل تستر على الاسمين بينما الثاني صرح بهما ، وفي مجمع الزوائد قال : رواه أحمد والبزار ، وأبو يعلى بنحوه ولم يخفى محاولته التستر على الرجلين ، فلم يصرّح باسميهما وقال : فلان وفلان(4) .

2 ـ المطلب بن ربيعة وحديثه رواه الطبراني في الأوسط وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد(5) ، وخدشه سنداً ولا ضير فله شواهد.

3 ـ صالح شقران مولى رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، فقد روى حديثه ابن قانع في معجمه ـ كما في لئالي السيوطي(6) بسنده عن سيف بن عمر ـ الكذّاب الوضّاع المتهم بالزندقة ـ ومع ذلك فقد تهلل وجه الراوي ـ السيوطي ـ لأنّ روايته كشفت الغمة

____________________

(1) المعجم الكبير 11 / 32 برقم 10970 ط الموصل.

(2) مسند أحمد 4 / 421 ط الأولى.

(3) كتاب صفين / 246 ط مصر سنة 1365 وقد عيّنا سنة الطبع ومكانه ، لأن يد الخيانة في طبعة بيروت بالمطبعة العباسية سنة 1340 حذفت هذا وما قبله وما بعده ما يقابل صفحتين ونصف ضمّت ستة أخبار في ذم معاوية كما أسقطوا الأسانيد في الكتاب ، وما درى الأغبياء ان ذلك لا يعني اخفاء الحقّ عن الباحثين ، فله مصادر أخرى لم تنلها أيديهم ، كما له شواهد ذكرناها في المتن.

(4) مجمع الزوائد 8 / 121.

(5) نفس المصدر.

(6) اللئالي المصنوعة للسيوطي 1 / 222 ط مصر الأولى سنة 1317.

١٨٤

عن علماء التبرير ، فجعلت الغناء والدعاء على عمرو بن رفاعة أحد المنافقين وكذلك معاوية بن رافع أحد المنافقين فقال السيوطي ـ مبتهجاً ـ وهذه الرواية أزالت الإشكال وبينت أنّ الوهم وقع في الحديث الأوّل في لفظة واحدة وهي قوله ابن العاصي وإنّما هو ابن رفاعة.

وهذا من أغرب الغرائب!! حيث أنّ ما ذكره بسنده إنّما هو عن سيف بن عمر ، وهذا هو نفسه قد طعن في روايته ، فقال في حديث غير هذا : « إنّه وضّاع » ، وقال في حديث آخر : « فيه ضعفاء أشدّهم سيف »(1) ، فكيف يزول الاشكال برواية من هو وضّاع وضعيف؟ مع أنّ نصر بن مزاحم المتوفى سنة 212 ذكر الإسمين من دون أي همهمة أو غمغمة. وهو أوثق رواية من سيف الوضّاع الّذي قال الحاكم فيه : « اتهم بالزندقة »(2) وهو في الرواية ساقط ، وقال البرقاني عن الدار قطني : « متروك »(3) ، وقال ابن حجر : « وقرأت بخط الذهبي مات سيف زمن الرشيد »(4) .

( أقول : ) فإن صح ذلك فهو معاصر لنصر ، ونصر أوثق منه ، قال ابن أبي الحديد فيه : « ثقة ثبت صحيح النقل غير منسوب إلى هوى ولا إدغال ، وهو من رجال أصحاب الحديث »(5) ، وذكره ابن حبان في الثقات(6) .

فهذه جملة من المفتريات على ابن عباس في فضل معاوية ذكرها ابن كثير وحكاها عن ابن عساكر ، وآخرها ممّا أخرجه البخاري في صحيحه ، وبيّنا ما في

____________________

(1) نفس المصدر 1 / 223.

(2) تهذيب التهذيب 4 / 296.

(3) نفس المصدر.

(4) نفس المصدر.

(5) شرح النهج لابن أبي الحديد 1 / 183.

(6) الثقات 5 / 549 ط دار الكتب العلمية.

١٨٥

تلك المفتريات من الآفات الّتي تسقطها عن الاعتبار ، وقد يعظم على بعضهم أن يكون البخاري يروي بعضها في فضل معاوية وإن عنون باب ذكر معاوية.

ولكن هلم الخطب فيما وجدناه وأعظم من تلك الطامات في صحيح مسلم ممّا مر ما افتري به على ابن عباس ، ما رواه في فضل أبي سفيان والد معاوية ، إنّها لأحدى الكُبر. فاقرأ وتدبّر ، ولا تأخذك بهرجة الألقاب ، والإطناب في مدح إنسان أو كتاب ، وكأنّ الصحاح فيها الكذب مباح.

أخرج مسلم في صحيحه : « حدّثني عباس بن عبد العظيم العنبري وأحمد ابن جعفر المعقري قالا : حدّثنا النضر ـ وهو ابن محمّد اليمامي ـ حدّثنا عكرمة حدّثنا أبو زميل حدّثني ابن عباس قال : كان المسلمون لا ينظرون إلى أبي سفيان ولا يقاعدونه فقال للنبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : يا نبيّ الله ثلاث أعطنيهنّ ، قال : نعم ، قال : عندي أحسن العرب وأجمله أم حبيبة بنت أبي سفيان أزوجها؟ قال : نعم ، قال : ومعاوية تجعله كاتباً بين يديك؟ قال : نعم ، قال : وتومّرني. حتى أقاتل الكفّار كما كنت أقاتل المسلمين؟ قال : نعم.

قال أبو زميل : ولولا أنّه طلب ذلك من النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ما أعطاه ذلك ، لأنّه لم يكن يُسأل شيئاً إلاّ قال : نعم اهـ »(1) .

ومن حقنا الكلام تعقيباً منا على ذلك من جهات :

أوّلاً : فلندع جانباً المغالاة في الصحيحين سواء كان صحيح البخاري الّذي قيل فيه إنّه أصح كتاب بعد كتاب الله ، ومن روى عنه البخاري فقد جاز القنطرة ، أو كان صحيح مسلم الّذي قيل فيه : ما تحت أديم السماء أصح من كتاب

____________________

(1) صحيح مسلم 7 / 171 كتاب فضائل الصحابة باب من فضائل أبي سفيان بن حرب ط محمّد عليّ صبيح بمصر.

١٨٦

مسلم(1) ، فجميع تلك من المزايدات الرخيصة ، ولكن هلمّ لنسأل مسلماً أو أي مسلم آخر هل قامت عند مسلم صاحب الصحيح الحجة بصحة هذا الخبر وهو الّذي يقول : « ما وضعت شيئاً في كتابي هذا المسند إلاّ بحجة ، وما أسقطت منه شيئاً إلاّ بحجة »(2) ؟

ثانياً : هل أنّ عنوان الباب الّذي ذكره ( باب من فضائل أبي سفيان ) يعني أنّ لأبي سفيان فضائل غير ما ذكره لمكان ( من ) التبعيضية ، وكلمة ( فضائل ) الّتي تعني الجمع؟ فهل هذا كان حقيقة أم على العين غشاوة؟

ثالثاً : هل كان يعرف زمن تلك الأحدوثة الكاذبة وأنّها لا بدّ أن تكون من بعد فتح مكة في السنة الثامنة من الهجرة الّتي أظهر فيها أبو سفيان كلمة الشهادتين بعد معاناته من صراع نفسيّ مرير؟ فكيف تصحّ وقد كان رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) تزوج بأم حبيبة بنت أبي سفيان في السنة السادسة من الهجرة أي قبل إسلام أبيها بسنتين؟ وهذا ما عليه اتفاق المؤرخين وأهل السير.

قال ابن الأثير في أسد الغابة : « لا اختلاف بين أهل السير في ذلك إلاّ ما وقع عند مسلم أنّ أبا سفيان لمّا أسلم طلب من رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) أن يزوجها أياها فأجابه إلى ذلك؟ وهو وهم من بعض الرواة »(3) .

وقال ابن عبد البر في الاستيعاب : « وقد ذكر الزبير في ذلك أخباراً كثيرة كلّها تشهد بتزويج النجاشي اياها بأرض الحبشة »(4) .

____________________

(1) تذكرة الحفاظ للذهبي 1 / 389 افست طبع حيدر اباد.

(2) نفس المصدر / 390.

(3) أسد الغابة ( ترجمة أم حبيبة ).

(4) الاستيعاب ( ترجمة رملة بنت صخر أم حبيبة ) 4 / 298 بهامش الإصابة.

١٨٧

وقال ابن حجر في الإصابة : « وتزوج النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ابنته أم حبيبة قبل أن يسلم ، وكانت أسلمت قديماً وهاجرت مع زوجها إلى الحبشة فمات هناك »(1) .

وقد تهالك ابن حجر في تبرير ما وقع عند مسلم حتى أنّه رد على ابن الأثير قوله : « وهو وهم من بعض الرواة » ، فقال : « وفي جزمه بكونه وهماً نظر ، فقد أجاب بعض الأئمّة باحتمال أن يكون أبو سفيان أراد تجديد العقد »(2) ؟!!

فاقرأ واضحك على ذقن ذلك البعض ، فأي تجديد عقد لنكاح صحيح وقع قبل عامين؟ وليتني أدري كيف سوّغ ابن حجر لنفسه أن يكتب ذلك وهو نفسه ذكر : « أنّه لا خلاف أنّه ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) دخل على أم حبيبة قبل إسلام أبي سفيان » ثمّ ساق عن ابن سعد قصة دخول أبي سفيان المدينة قبل إسلامه ، ليزيد في مدّة الهدنة ، فدخل على ابنته أم حبيبة فطوت فراش رسول الله دونه لئلا يجلس عليه فقال لها : يا بنيّة أرغبتِ بهذا الفراش عني أم بي عنه؟ قالت : بل هو فراش رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وأنت أمرؤ نجس مشرك ، فقال : لقد أصابكِ بعدي شرّ »(3) .

وبعد هذا العرض السريع لملابسات رواية مسلم هل علينا إثم لو رددناها وقلنا لا تصح نسبتها إلى ابن عباس فإنّه أوعى وأورع من أن يروي ما لا يصح؟

وقد أدرك شرّاح صحيح مسلم ما في هذه الرواية من هنات وقذاة فأربكهم إيرادها في الصحيح ، وهم لا يريدون أن ينزلوه من برجه العاجي ويجعلوه كسائر الكتب لداته يؤخذ منه ويترك. كما لم يمكنهم أن يمروا على الرواية بسلام ويعني ذلك تصديقهم لما هو بيّن الإفتراء ، فخاضوا مخاضاً عسيراً

____________________

(1) الإصابة ( ترجمة أبي سفيان صخر بن حرب ) 2 / 172.

(2) نفس المصدر 4 / 299.

(3) نفس المصدر.

١٨٨

وبالتالي تمخض الجبل عن فارة ، واعترفوا بغرابته ومخالفته لما هو ثابت قطعاً. وعلى سبيل المثال نورد بعض أقوالهم :

1 ـ قال النووي ـ وهو أشهر من شرح صحيح مسلم وأكثرهم عناية واستيعاباً ـ : « واعلم أنّ هذا الحديث من الأحاديث المشهورة بالإشكال ، ووجه الاشكال : أنّ أبا سفيان إنّما أسلم يوم فتح مكة سنة ثمان من الهجرة ، وهذا مشهور لا خلاف فيه ، وكان النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) قد تزوج أم حبيبة قبل ذلك بزمان طويل.

قال أبو عبيدة وخليفة بن خياط وابن البرقي والجمهور : تزوجها سنة ست ، وقيل سنة سبع »(1) .

ثمّ حكى عن القاضي عياض وابن حزم :

2 ـ وقال القاضي ـ عياض ـ : « والّذي في مسلم هنا أنّه زوّجها أبو سفيان غريب جداً ، وخبرها مع أبي سفيان حين ورد المدينة في حال كفره مشهور ». ولم يزد القاضي على هذا(2) .

3 ـ وقال ابن حزم : « هذا الحديث وهم من بعض الرواة لأنّه لا خلاف بين الناس أنّ النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) تزوّج أم حبيبة قبل الفتح بدهر بأرض الحبشة وأبوها كافر » ، وفي رواية عن ابن حزم أيضاً أنّه قال : موضوع قال : والآفة فيه من عكرمة بن عمار الراوي عن أبي زميل(3) .

ثمّ حكى النووي عن أبي عمرو بن الصلاح حملته على ابن حزم تبريراً لصحة رواية مسلم ، وليس تبريره سوى مكابرة ومصادرة.

____________________

(1) شرح النووي على صحيح مسلم بهامش ارشاد الساري 9 / 397 ـ 398 ط دار الكتاب العربي بيروت.

(2) نفس المصدر.

(3) نفس المصدر.

١٨٩

4 ـ قال الآبي ألوشتابي المالكي : « هذا الّذي ذكره أبو زميل عن ابن عباس أنّه زوّجه إياها بعد إسلامه غريب جداً عند أهل السير ، فإنّ المعروف أنّه إنّما تزوّجها قبل الفتح »(1) .

5 ـ قال السنوسي الحسني نقلاً عن القرطبي في المفهم في شرح صحيح مسلم : « المتفق عليه عند أهل التاريخ أنّه إنّما تزوجها قبل الفتح وقبل إسلام أبيها ، وأنّ أبا سفيان قدم قبل الفتح طالباً تجديد العهد بينه وبين رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، وانّه دخل بيت أم حبيبة ابنته فأراد أن يجلس على بساط رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) فنزعته من تحته وقالت : إنّه بساط رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وأنت مشرك ، فقال : أي بنية قد أصابك بعدي شرّ ، ثمّ طلب من عليّ وفاطمة وغيرهما أن يكلموا النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) فأبوا فرجع إلى مكة غير حاصل له ما قصد ، وهذا كلّه معلوم لا شك فيه.

ثمّ ذكر حديث التزويج وختم كلامه بقوله : فيكون ما وقع في هذا الحديث من طلب أبي سفيان أن يزوّجها منه بعد إسلامه خطأ ووهماً ، وقد بحث النقّاد عمن وقع ذلك الوهم منه فوجدوه وقع من عكرمة بن عمار ، وقد ضعّف أحاديثه يحيى بن سعيد وابن حنبل ، ولذلك لم يخرّج عنه البخاري. وإنّما خرّج عنه مسلم ، لأنّه قد قال فيه يحيى بن سعيد هو ثقة.

قال بعضهم : وممّا يحقق الوهم فيه قول أبي سفيان : أريد أن تؤمرني فقال : نعم ، ولم يسمع قط أنّه أمّره إلى أن توفي. وكيف يخلف رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) الوعد ، هذا ممّا لا يجوز عليه »(2) .

____________________

(1) إكمال إكمال المعلم 6 / 34.

(2) مكمل إكمال الإكمال بهامش سابقه ط دار الكتب العلمية ، وقد ذكر الآبي عين ما ذكره الحسني عن القرطبي فراجع.

١٩٠

ثمّ حكى تأويل من صح عنده الحديث بما لا يستحق أن يذكر ، فهو تبرير من غير حجة.

ولنقف عند هذا الخبر من المفتريات على ابن عباس في فضائل معاوية وأبيه أبي سفيان ، وستأتي جملة وافرة من هذه الشاكلة في الحلقة الثالثة عند البحث عن أحاديثه ما صحّ وما لم يصح.

والّذي دعاني إلى تقديم هذه النماذج من الزبارج ما ساقه شعوط من شهادة ابن عباس المفتراة عليه ليبيض بها صحيفة معاوية ، وما درى أنّه سوّد صفحته وصحيفته.

ويبقى معاوية كما قال الدكتور سامي على النشار ـ وقد تقدم قوله ـ : « ومهما قيل في معاوية ومهما حاول علماء المذهب السلفي المتأخر وبعض أهل السنّة من وضعه في نسق صحابة رسول الله ، فإنّ الرجل لم يؤمن أبداً بالإسلام ، ولقد كان يطلق نفثاته على الإسلام كثيراً ولكنه لم يستطع أكثر من هذا » ، ولا نستكثر اذن قول ابن أبي الحديد : « ومعاوية عند أصحابنا مطعون في دينه ، منسوب إلى الإلحاد ، قد طعن فيه ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) »(1) .

شواهد كفر محمومة :

لقد كانت لمعاوية نفثات محمومة مسمومة ، شاهدة عليه بالكفر ، ولم يتجن التاريخ عليه حين روى بعضها :

فمنها : عن المغيرة بن شعبة ما سمعه منه ليلة فعاد مغتماً متبرماً متأففاً فسأله ابنه المطرف بن المغيرة عن سبب غمّه فقال : يا بني جئت من أكفر الناس

____________________

(1) شرح النهج لابن أبي الحديد 2 / 537 ط مصر الأولى.

١٩١

وأخبثهم ـ ثمّ حدثه بما سمعه من معاوية وكان في آخره قول معاوية : ـ وإنّ ابن أبي كبشة ليصاح به كلّ يوم خمس مرات ( أشهد أنّ محمّداً رسول الله ) فأيّ عمل يبقى؟ وأيّ ذكر يدوم بعد هذا لا أباً لك؟ لا والله إلاّ دفناً دفناً.

رواه الزبير بن بكارفي الموفقيات(1) ، والمسعودي في مروج الذهب(2) ، والإربلي في كشف الغمة(3) ، وابن أبي الحديد المعتزلي في شرحه(4) .

ـ وليس دونها كلمته الأخرى وقد سمع المؤذن يقول : أشهد أن محمداً رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، فقال : لله أبوك يا بن عبد الله لقد كنت عالي الهمة ما رضيت لنفسك ألا أن يُقرن اسمك باسم ربّ العالمين(5) .

ـ وثالثة الأثافي ما ذكره البلاذري في أنسابه بسنده : « قال معاوية : يا معشر بني أمية إن محمداً لم يدع من المجد شيئاً إلاّ حازه لأهله ، وقد أعنتم عليهم بخلتين : في ألسنتهم ذرَبَ وفي العرب أنَفُ وهم محدودون ثمّ جعل يوصيهم فيما يفعلون بما يبلغوا به مرادهم وعنادهم »(6) .

ـ وأنكى من ذلك كلّه : أنّ يهودياً تناول الرسول ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) فوصفه بالغدر بمحضره ـ واستغفر الله ـ فلم ينكر عليه!

روى البلاذري بسنده قال : « محمّد بن مسلمة الأنصاري عند معاوية قتل كعب بن الأشرف اليهودي ، فقال يهودي ( اسمه عند الواقدي / 192 ابن يمين

____________________

(1) الموفقيات / 576 ط أوقاف بغداد.

(2) مروج الذهب 4 / 40 في أواخر ترجمة المأمون العباسي.

(3) كشف الغمة 1 / 556.

(4) شرح النهج لابن أبي الحديد 2 / 176.

(5) نفس المصدر 2 / 537 و 10 / 101 ط محققة.

(6) أنساب الأشراف 1 / 51 ق 4 تح ـ احسان عباس.

١٩٢

النضري ) كان عند معاوية : غُدر به ، فقال محمّد : يا معاوية أتمسك عنه وقد نسب رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) إلى الغدر؟

فقال لليهودي : أخرج عنا ، وطلبه محمّد فلم يقدر عليه ، وقال لمعاوية : والله لا كلّمتك أبداً ، ولأقتلنّ اليهودي إن قدرت عليه »(1) .

وهذا ما ذكره أيضاً ابن تيمية في كتابه ( الصارم ) وسمى اليهودي ( بنيامين النضري )(2) .

ـ وقد تجاوز الحدّ حين سلّم عليه وفد أهل مصر بالرسالة فلم يردعهم ، فقد ذكر ابن جرير الطبري في تاريخه : « أنّ عمرو بن العاص وفد إلى معاوية ومعه أهل مصر فقال لهم عمرو : اُنظروا إذا دخلتم على ابن هند فلا تسلّموا عليه بالخلافة فإنّه أعظم لكم في عينه ، وصغّروه ما استطعتم ، فلمّا قدموا عليه ، قال معاوية لحجّابه : إنّي كأنّي أعرف ابن النابغة وقد صغّر أمري عند القوم ، فانظروا إذا دخل الوفد فتعتعوهم أشد تعتعة تقدرون عليها فلا يبلغني رجل منهم الا وقد همّته نفسه بالتلف ، فكان أوّل من دخل عليه رجل من أهل مصر يقال له ابن الخياط فدخل وقد تُعتع فقال : السلام عليك يا رسول الله ، فتتابع القوم على ذلك ، فلمّا خرجوا قال لهم عمرو : لعنكم الله ، نهيتكم أن تسلّموا عليه بالإمارة فسلّمتم عليه بالنبوة »(3) .

والخبر رواه البلاذري في الأنساب(4) ، ورواه ابن الأثير وابن كثير وفي الجميع تفاوت يسير.

____________________

(1) نفس المصدر 1 / 160.

(2) الصارم المسلول في كفر شاتم الرسول 2 / 285 ط الأولى دار ابن حزم بيروت سنة 1417 هـ.

(3) تاريخ الطبري 5 / 230 ـ 331 دار المعارف.

(4) أنساب الأشراف 1 / 31 ق 4.

١٩٣

( فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاّ الضَّلالُ ) (1) ،( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ ) (2) .

ـ أمّا عن تهكمه واستخفافه بالنبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، فحسبك ما رواه السيّد ابن عقيل في النصائح الكافية نقلاً عن كتاب المعمّرين لأبي حاتم السجستاني ـ وهذا ممّا ابتلعته بطون الآثام وهو بعض جنايات الأقلام فلم يذكر في المطبوع من كتاب المعمرين بتحقيق عبد المنعم عامر ط دار احياء الكتب العربية سنة 1961 وكم له من نظير ـ قال في أثناء محاورة ذكرها لمعاوية مع المعمّر أمد بن أبد الحضرمي قال : « قال معاوية : أرأيت هاشماً؟ قال : نعم والله طوالاً حسن الوجه ، يقال انّ بين عينيه بركة ، قال : فهل رأيت أمية؟ قال : نعم رأيته رجلاً قصيراً أعمى يقال انّ في وجهه لشراً أو شؤماً ، قال : أفرأيت محمداً؟ قال : ومن محمّد؟ قال : رسول الله ، قال : أفلا فخّمت كما فخّمه الله فقلت رسول الله؟ »(3) .

( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنْ الْمُجْرِمِينَ ) (4)

خاتمة السوء :

لقد طال الكلام حول أباطيل الدكتور إبراهيم عليّ شعوط الاستاذ بجامعة الأزهر فيما يتعلق بجملة مفتريات على ابن عباس ساقها شعوّط وقد تبع فيها ابن كثير وابن عبد ربه وأضرابهما ممّن زكموا بحب معاوية حتى غلب الزكام على

____________________

(1) يونس / 32.

(2) الأنعام / 93.

(3) النصائح الكافية / 118 ط الحيدرية.

(4) الفرقان / 31.

١٩٤

الأفهام( أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ) (1) .

والآن نختم الكلام مع شعوط بآخر ما في جعبته من افتراء على ابن عباس في حقّ معاوية وابنه يزيد :

فقد قال في كتابه : « وهذه شهادة أخرى لابن عباس ( رضي الله عنه ) في معاوية ، نقلها ابن عبد ربه فقال : سئل عبد الله بن عباس عن معاوية فقال : سما بشيء أسرّه ، واستظهر عليه بشيء أعلنه ، فحاول ما أسرّ بما أعلن فناله ، كان حلمه قاهراً لغضبه ، وجوده غالباً لمنعه ، يصل ولا يقطع ، ويجمع ولا يفرّق ، فاستقام له أمره ، وجرى إلى مدته. قيل : فأخبرنا عن ابنه؟ قال : كان في خير سبله ، وكان أبوه قد أحكمه ، وأمره ونهاه فتعلق بذلك ، وسلك طريقاً مذللاً له ( المختار من العقد الفريد ص2343 ط وزارة الثقافة والارشاد ، هامش الكتاب ) »(2) .

ويبدو أنّ شعوّط استروح الرجوع إلى المختار من العقد ـ وهو اختيار لجنة من علماء وأدباء مدرّسي مدرسة القضاء الشرعي ـ صحّحه وراجعه الاستاذ محمّد محمود ، هكذا كتب على ظهر الطبعة الثانية من الكتاب وقد طبعته المكتبة المحمودية التجارية بمصر سنة 1389 ، ولدى الرجوع إلى هذه الطبعة فلم أقف على النص في الكتاب ، ولعل تفاوت الطبعات نتيجة لتلاعب من لا حريجة له في الدين ، ومهما يكن فإنّ الرجوع إلى المصدر الثانوي الحديث مع وجود المصدر الأوّل القديم أمرٌ معيب لا يُغفر عند الباحثين. وقارنت بين النص في العقد الفريد ـ وهو في الجزء الرابع ص363 تح ـ أحمد أمين ورفيقيه ـ وبين ما نقله شعوّط

____________________

(1) الحج / 46.

(2) أضاليل يجب أن تمحى من التاريخ / 232.

١٩٥

فلم أجد فارقاً يذكر سوى قوله في يزيد : « كان في خير سبله » عند شعوط ، بينما الموجود في العقد الفريد : « كان في خير سبيله » وأخاله الصحيح ، ومع غض النظر عن هذه الملاحظات فإنّ النص مرسل لا يُعلم من رواه ، ولا من أين نقله ابن عبد ربه ، ولم أقف عليه عند غيره فيما بحثت. ولعل الباحث المتتبع يجده فيفيدنا مشكوراً.

وإذا تجاوزنا ذلك أيضاً والإشارة إلى ظاهر أثر الصنعة عليه فنقول : إنّ النص على فرض صحته ـ وأنّى ذلك ـ فليس فيه ما يدل على فضل معاوية وابنه يزيد من جديد ، فإنّ وصف معاوية بأنّه كان ويسرّ ويبطن خلاف ما يعلن ، ويعلن غير ما يبطن ، وبذلك بلغ مراده وأحكم قياده ، فهذا وصف له بالمكر والخديعة والنفاق ، فهو بالذم أظهر منه بالمدح لأنّ ذلك من صفات المنافقين الّذين ذمّهم الله سبحانه في كتابه بقوله( يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ) (1) .

وأمّا ما ورد من وصفه بالحلم والجود ، فأحسبه على أحسن تقدير من تزيد الرواة ، وعلى أسوء تقدير فمن غير المقبول والمعقول نسبته إلى ابن عباس للمجافاة والمنافاة مع طبيعته ، إذ كيف يمكن تصديق النص بأن ابن عباس وصف معاوية بالحلم وهو في محاوراته الّتي نيّفت على العشرين ، وهو في لقاءاته طيلة حكم معاوية لم تبدر منه يوماً بادرة رضى عليه ، ولم يقصر عن قولة حقّ يصك بها سمعه ، فيردُ معاوية أحياناً كثيرة بالتهديد والوعيد ، إلاّ انّه يصادف سيلاً يدمغه ، وحجة تقمعه ، فيتراجع مخذولاً ، فأين هو الحلم الّذي يصفه به ابن عباس فيما يزعمون؟ ألا يكفي موقف معاوية بالأمس بصفين وهو يريد قتل

____________________

(1) البقرة / 9.

١٩٦

الإمام وابن عمه وجميع من كانوا معه في نفي الحلم عنه؟ أليس ذلك الموقف كان حجة الأعمش وسفيان بن عيينة في نفي الحلم عنه؟ فهل كان ابن عباس دونهما فهماً وعلماً؟ ألم يقل معاوية : « ما أعد نفسي حليماً بعد قتلي حجراً واصحاب حجر »(1) ومعلوم تاريخياً أنّ قتل حجر كان سنة إحدى وخمسين من الهجرة ، وفحوى ما نسب إلى ابن عباس من الوصف كان بعد عشر سنين تقريباً وفي أيام يزيد بعد عهد معاوية الّذي هلك سنة 60 من الهجرة ، وتولى ابنه بعده ، وكم جرائم رآها وشتائم سمعها تبعد وصف الحلم عن معاوية.

وأمّا وصفه بالجود فيكفي في تكذيبه حوار ابن عباس معه وقد مرّ قريباً حيث لحقه إلى الروحاء ليأخذ عطاء بني هاشم وقد حرمهم معاوية لعدم مبايعة الإمام الحسين ( عليه السلام ) ليزيد ، فأخذه ابن عباس بعد تهديد ووعيد فراجع.

وأمّا نسبة وصف يزيد بأنّه كان في خير سبيله وكان أبوه قد أحكمه وأمره ونهاه فتعلق بذلك وسلك طريقاً مذللاً له فأحسن ما أراه لو صحت الأنباء هو حكاية واقع حال ، فقد وطأ له أبوه المسالك ، وذلّل المصاعب بارتكاب الموبقات والمهالك ، وتعجبني كلمة طه حسين فقد قال : « وكان يزيد فتى من فتيان قريش صاحب لهو وعبث ، محباً للصيد ، مسرفاً على نفسه في لذاته ، مستهتراً لا يتحفظ وكان ربّما أضاع الصلاة ، فأخذه أبوه بالحزم ، وأغزاه الروم ، وأمّره على الحج ، يمهد بهذا كلّه لتوليته العهد ، فلمّا رأى من سيرة يزيد ما أرضاه ، حزم أمره وأعلن تولية يزيد عهده ، وكتب في ذلك إلى الآفاق

وكذلك استقر في الإسلام لأوّل مرة هذا الملك الّذي يقوم على البأس والبطش والخوف ، والّذي يرثه الأبناء عن الآباء ، وأصبحت الأمة كأنها ملك

____________________

(1) تاريخ اليعقوبي 2 / 206 ط الغري.

١٩٧

لصاحب السلطان ينقله إلى من أحبّ من أبنائه ، كما ينقل إليه من سائل المال وجامده اهـ »(1) .

ثمّ كيف لنا أن نصدّق شعوّط عن ابن عبد ربه عن مرسل الأنباء بأنّ ابن عباس قال ذلك في معاوية وابنه ، ورأي ابن عباس في معاوية ومن يواليه من آله وبنيه ، وصحبه ومواليه ، معروف لا يقبل التأويل.

فهم عنده القاسطون(2) وقد قال الله تعالى :( وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا ) (3) ، وهم عنده من حزب إبليس(4) وقد قال الله تعالى :( وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ ) (5) ، وقال تعالى :( إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِير ) (6) ، وهم عنده من الكفّار(7) ، ولا أقول كفّار نعمة ، بل كفّار تنزيل وتأويل

____________________

(1) الفتنة الكبرى 2 / 247 ط دار المعارف.

(2) راجع محاورة الشامي مع ابن عباس في المصادر التالية : المحاسن والمساوي للبيهقي 1 / 30 ، وكتاب الهمة في اداب اتباع الأئمة للقاضي نعمان ن س ط القاهرة ، واليقين لابن طاووس / 106 و 129 ، وفضائل ابن شاذان / 106 ط حجرية ، والدر النظيم مخطوط ، ومصباح الأنوار مخطوط ، وقارن بحار الأنوار 8 / 464 و 5 / 294 ط حجرية ، وتمام المحاورة تأتي في الحلقة الثانية ان شاء الله.

(3) الجن / 15.

(4) راجع مستدرك الحاكم 3 / 149 فقد روى عن رواته عن ابن عباس قال قال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : ( النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق ، وأهل بيتي أمان لأمتي من الاختلاف ، فإذا خالفتها قبيلة من العرب اختلفوا فصاروا حزب إبليس ). قال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرّجاه.

أقول : ومخالفة معاوية وبني أمية لأهل بيته ظاهرة العيان ، غنية عن اقامة البرهان. وحسبك دليلاً على مدى بغضه انّه لم يطق سماع اسم عليّ وكنيته وقد قال لابن عباس في ابنه عليّ لك اسمه وقد كنيته أبا محمّد العقد الفريد 5 / 103.

(5) سبأ / 20.

(6) فاطر / 6.

(7) راجع كنز العمال 12 / 203 ط حيدر اباد الثانية فقد روى عن الدار قطني في الإفراد عن ابن عباس مرفوعاً عنه ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) قال : ( عليّ بن أبي طالب باب حطة من دخل منه كان

١٩٨

ـ قال الله تعالى :( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ ) (1) ، ومعلوم أنّ استلحاق زياد حكم بغير ما أنزل الله تعالى.

ومن شاء الاستزادة من معرفة رأي ابن عباس فليرجع إلى محاوراته ومراسلاته مع معاوية وأصحابه ، فسيجد الكثير الكثير ممّا يكذّب المفتريات عليه الّتي تشدّق بها شعوّط في أضاليله المضلِلة ، وقد بيّنا عوار المسندة منها والمرسلة( مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاّ كَذِبًا ) (2) ،( الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ) (3) ،( فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ ) (4) .

ابن عباس ومعاوية في أكذوبة شعر النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) :

وما دمنا بعدُ نعيش تاريخ ابن عباس أيام حكم معاوية ، وقد ذكرنا بعض ما افتراه الّذين لا يوقنون على ابن عباس ممّا ظنوه يرفع خسيسة معاوية ، ولو بالزور والبهتان ، عسى أن تنطلي تلك الأكاذيب على السذّج من الناس ، وقد غفلوا أنّ حبل الكذب قصير ، والباحث ناقدٌ بصير ، لا يغشّه التزوير والتحوير.

وإنّي لأعجب من أئمّة الحديث أصحاب الصحاح والسنن والمسانيد كيف تهالكوا في سبيل معاوية ليثبتوا له ما ظنّوه له فضيلة ، وقد مرّت بنا شواهد ذلك ،

____________________

مؤمناً ، ومن خرج منه كافراً ) ولا شك أن معاوية كان خارج ذلك الباب ، قال الله تعالى :( وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ * فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنْ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ) البقرة / 58 ـ 59.

(1) المائدة / 44.

(2) الكهف / 5.

(3) الكهف / 104.

(4) البقرة / 79.

١٩٩

أمّا الآن إلى أكذوبة افتراها معاوية نفسه ليزعم لنفسه نحو خدمة قام بها للنبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، فيتبجح بها على من لا دربة له بحقيقة الحال ، وبلغت القحة به أن استشهد عليها ، وبالأحرى طلب تصديق زعمه من ابن عم النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) عبد الله بن عباس ، ليكون ذلك له سنداً فيما افترى. ولكن باء بالفشل ، بل ساءه ما حصل ، حيث كشف ابن عباس حقيقة كان معاوية ينكرها وهي مسألة التمتع بالعمرة إلى الحج فألزمه بها لو صح زعمه. وإليك الحديث عن تلك الفرية :

أخرج البخاري ومسلم والنسائي وأبو داود وأحمد والروداني والبيهقي وغيرهم في دواوينهم الحديثية ، وكلّ منهم رواه أكثر من مرة وبأكثر من صورة ، حتى أنّ أحمد روى ذلك أكثر من عشر مرات ، وفي جل الصور يقتصرون على صدر الخبر ويحذفون ما قاله ابن عباس في آخره. لماذا؟ لأن ابن عباس الذكي الألمعي لم تخف عليه فرية معاوية ، فبدل أن ينتزع منه معاوية تصديقه ، بادره ابن عباس بدحض فريته ثمّ بإدانته.

فلنقرأ ذلك بلفظ مسلم في صحيحه قال ابن عباس : « قال لي معاوية أعلمتَ أني قصّرت من رأس رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) عند المروة بمشقص؟ فقلت : له لا أعلم هذا إلاّ حجة عليك »(1) .

فهذه رواية عند مسلم وإذا قارناها مع رواية عند النسائي نجد فرقاً واضحاً في جواب ابن عباس فقد روى النسائي بسنده : « قال معاوية لابن عباس : أعلمتَ أني قصَرت من رأس رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) عند المروة؟ قال : لا ، يقول ابن عباس : هذا معاوية ينهى الناس عن المتعة ، وقد تمتع النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) »(2) .

____________________

(1) صحيح مسلم 4 / 58 كتاب الحج ط صبيح بمصر.

(2) سنن النسائي 5 / 244 ـ 245.

٢٠٠