موسوعة عبد الله بن عبّاس الجزء ٥

موسوعة عبد الله بن عبّاس0%

موسوعة عبد الله بن عبّاس مؤلف:
تصنيف: متون حديثية
الصفحات: 520

موسوعة عبد الله بن عبّاس

مؤلف: السيد حسن الموسوي الخرسان
تصنيف:

الصفحات: 520
المشاهدات: 101817
تحميل: 4147


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 520 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 101817 / تحميل: 4147
الحجم الحجم الحجم
موسوعة عبد الله بن عبّاس

موسوعة عبد الله بن عبّاس الجزء 5

مؤلف:
العربية

6 ـ المنذري ( ت 656 هـ ) في كتابه الترغيب والترهيب(1) .

7 ـ ابن حجر العسقلاني ( ت 852 هـ ) في القول المسدد ، نقلاً عن البخاري في تاريخه والطبراني وأبي يعلى(2) ، وقد مرت بنا الإشارة إلى ما في تاريخ البخاري وفيه التصريح بأنّ ابن عباس بخّل ابن الزبير فلاحظ.

فهؤلاء الّذين لم يذكروا تبخيل ابن عباس لابن الزبير ، ولعلهم حفاظاً على كرامة الأصحاب!؟

أمّا الّذين وردت الكلمة محرفة أو مصحفة في تصانيفهم تحريفاً مهيناً أو تصحيفاً مشيناً فهم :

1 ـ البخاري في كتابه الأدب المفرد فقد ذكر الخبر بسنده إلى عبد الله بن مساور قال : « سمعت ابن عباس ( يخبر ) ابن الزبير يقول سمعت النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ».

فظننت لأول وهلة أنّ ذلك غلط مطبعي فات مصحح الكتاب تصحيحه ، لكني تيقنت أنّه تحريف متعمّد جرى لكلمة ( يبخّل ) حيث ورد كذلك في طبعتين من الكتاب(3) ، وأكّد صحة يقيني وروده كذلك في شرح كتاب الأدب المفرد(4) . وهذا تحريف مَهين فمن تولى كبر ذلك من النساخ أو الرواة عن البخاري ، لأنّ البخاري روى معنى كلمة عبد الله بن مساور بلفظ : « إنّ ابن عباس

____________________

(1) الترغيب والترهيب 3 / 243 نشر دار الكتب العلمية بيروت سنة 1417 و 5 / 42 ط السعادة بمصر سنة 1381 بتحـ محمّد محي الدين عبد الحميد.

(2) القول المسدد في الذب عن مسند أحمد / 21 ط مكتبة ابن تيمية بالقاهرة سنة 1401.

(3) وهما طبعة إسلامبول سنة 1309 ص 25 وطبعة مصرية محققة بتحـ محمّد فؤاد عبد الباقي فراجع ص 39 ط السلفية سنة 1375.

(4) الأدب المفرد المسمى بفضل الله الصمد لفضل الله الجيلاني 1 / 201 ط السلفية سنة 1378 هـ.

٣٠١

بخّل ابن الزبير » وقد مرّ ذكره في النمط الأوّل برقم 2 ، فراجع تجده ذكر ذلك في التاريخ الكبير.

2 ـ الطبراني ( ت 360 هـ ) ذكر الخبر في معجمه بسنده إلى عبد الله بن المساور ، قال : « سمعت ابن عباس ( وهو ينحل ) ابن الزبير »(1) .

فظننت أنّه تصحيف غير متعمد ، وأنّه غلط مطبعي ، فراجعت الطبعة الثانية من الكتاب وقد كتب عليها مزيدة ومنقحة(2) فوجدتها كذلك ، وازدادت حيرتي من محقق الكتاب الّذي نعت طبعته الثانية بمزيدة ومنقحة وهو لم يزد في المقام شيئاً ولم ينقح تلك الكلمة!! بل زاد الأمر إيهاماً وإبهاماً حيث ذكر في الهامش مصادر ذكر الخبر فقال : « ورواه البخاري في الأدب المفرد / 112 ، والحاكم 4 / 167 وصححه ، ووافقه الذهبي وابن أبي شيبة في كتاب الإيمان والخطيب في تاريخ بغداد ، وابن عساكر 9 / 136 / 2 ، والضياء في المختارة 62 / 192 / 1 ، وأبو يعلى 136 / 2 قال في المجمع 8 / 167 ورجاله ثقات ، وله شواهد أنظر سلسلة الصحيحة ( برقم 148 ) لشيخنا محمّد ناصر الدين الألباني ». انتهى ما ذكره السلفي.

وعندما راجعت سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني ، وجدت السلفي قد أخطأ في ذكر الرقم وصوابه ( 149 )(3) ، ووجدته قد أخذ المصادر حتى الضياء المختارة عن الألباني نقل المسطرة ـ كما يقولون ـ وليته ذكر بقية ما ذكره الألباني من كلام وتعقيب فهو قد ذكر الخبر عن الضياء المختارة

____________________

(1) المعجم الكبير / 12 ط الأولى بمطبعة الوطن العربي.

(2) المعجم الكبير 12 / 119 ط الثانية مطبعة الزهراء الموصل.

(3) انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة 1 / 229 ط الرابعة ط المكتب الإسلامي.

٣٠٢

( وفيه قال : سمعت ابن عباس ذكر ابن الزبير فبخّله ثمّ قال سمعت رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم » فذكر الحديث.

ولست بمتجنّ على السلفي في ذلك السطو على جهد الألباني ، لأنّه لو كان قد راجع بنفسه تلك المصادر الّتي ذكرها لوجد الحاكم والذهبي والخطيب قد ذكروا كلمة ( وهو يبخّل ) فزهٍ بهكذا تحقيق!!

3 ـ البيهقي ذكر الخبر في سننه ـ كما مر ـ وفيه ( وهو يبخّل ) لكن في كتابه شعب الإيمان اختلفت روايته ، ففي الجزء الثالث لم يذكر الكلمة(1) ، وفي الجزء الخامس : « قال لابن الزبير ( وهو يخبر ) ( وهو ينحار ) »(2) ، وفي الجزء السابع ( وهو ينحل )(3) ، فأي هاتيك هو الصحيح؟

ومن الطرافة ما ذكره في الجزء الخامس من تحقيق حول لفظي ( وهو يخبر ) ( وهو ينحار ) : فالأولى بسنده عن الدارمي والثانية بسنده عن الفريابي(4) ، فمن كان محتاطاً إلى هذا الحد في النقل في الفرق بين الروايتين ، لماذا لم يحقق لنا معنى ( وهو ينحار ) الّتي ذكرها؟

ثمّ ما باله ذكر الخبر هنا بسنده عن عبد الله بن المساور ، وفي الجزء السابع صار عبد الله بن أبي المساور؟(5) .

وما باله ذكر هناك كلمة ( وهو ينحل )؟ وما هو معناها؟ كلّ ذلك التحريف والتصحيف من التخريف ، وسرت عدواه إلى الخبر الّذي رواه بعد الخبر

____________________

(1) شعب الإيمان 3 / 225 تحـ محمّد السعيد بسيوني زغلول نشر دار الكتب العلمية بيروت.

(2) نفس المصدر 5 / 31.

(3) نفس المصدر 7 / 76.

(4) نفس المصدر 5 / 31.

(5) نفس المصدر 7 / 76.

٣٠٣

المذكور بسنده عن سعيد بن جبير عن ابن عباس : انّه دخل على ابن الزبير وأنا معه ، فقال ابن الزبير : أنت الّذي تنحلني وتدّنني فقال ابن عباس : نعم إنّ رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) فما هو معنى تنحلني وتدنني؟

هل تنحلني من النحلة بمعنى العطية؟ أو من تنحّله ادعاه لنفسه وهو لغيره؟ أو من نحله القول نسبه إليه؟

وهل تدنني من الدنو بمعنى القرب؟ أو من الدناوة بمعنى القرابة؟ أو من الدناءة بمعنى الحقارة؟ ومن الدنيّ كغنيّ الساقط الضعيف؟ أو من دنّى في الأمور تدنية تتبع صغيرها وكبيرها؟ كلّ ذلك لم يفصح عنه رواته.

مع أنّ خبر سعيد بن جبير الّذي رواه المسعودي وقد مرّ آنفاً وفيه قول ابن الزبير ( أنت الّذي تؤنبني وتبخلّني ) صريح صحيح ، وقد رواه محمّد بن نصر المروزي مسنداً في كتابه تعظيم قدر الصلاة(1) . فبعد هذا التصريح لا معنى للتحريف والتصحيف ، بل يعد ذلك من التزييف والتخريف.

4 ـ نور الدين الهيثمي ( ت 807 ) ذكر الخبر في مجمع الزوائد ، وقال : « رواه الطبراني وأبو يعلى ورجاله ثقات »(2) .

وهذا الرجل أكبر همه النظر في رجال الأسانيد ـ شأن قومه ـ دون إعارة المتون قليلاً من الإلتفات ، فما دام الرواة عنده ثقات ، فعلينا التسليم بما رووه وإن كان من الترهات؟!

ويبدو من المصحّفين أنّهم تبعوا مَن قبلهم في التعتيم على ما يخدش كرامة أحدٍ الصحابة مثل ابن الزبير المعيّر بالبخل ، وإن تمّ ذلك على إهدار

____________________

(1) راجع رقم / 3.

(2) مجمع الزوائد 8 / 167 ط القدسي سنة 1353.

٣٠٤

حقّ صحابي آخر له حقّ القرابة والصحابي مثل ابن عباس ، لتأنيبه ابن الزبير على بخله.

وعندي أنّ هؤلاء أشدّ بخلاً من ابن الزبير الّذي ضنّ بمال المسلمين عليهم ، فإنّهم بخلوا حتى برواية الحقيقة وكتموا الحقّ. فالله أولى بهم( فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ ) (1) .

ولم تكن هذه الوقفة الطويلة والجولة العريضة في تفتيش المصادر المعنيّة عن كلمة عبد الله بن المساور ـ أبي المساور ـ إنّه سمع ابن عباس وهو يبخّل ابن الزبير ، لاثبات بخل ابن الزبير ، فذلك معروف ومشهور لا مناقشة فيه ، وإنّما أردت تنوير القارئ عمّا يتخلل الكتب الحديثية من تحريف وتخريف ، كنّا نود أن لا نجد عليه شاهداً واحداً ، ولكنا وجدنا منها عليها شواهد ، وقد مرّت بنا الحقائق مكشوفة الغطاء ، تنبئ عن النُصب والعداء ، أعمت بصائر الرواة وأبصار النساخين والمصنّفين ، عن ذكر حقيقة بخل ابن الزبير ، وكأنّهم بفعلهم هذا محو سيئة بخل ابن الزبير من صحيفته ، وهم بفعلهم هذا سيلقون آثاماً.

وبالتالي تحذير القرّاء من اللهاث وراء أولئك الحفاظ الّذين أكبر همهم ذكر الاسناد وتصحيحه بتوثيق رجاله ، دون الالتفات إلى صحة ما يرونه ويروونه ، ولا يُخدعوا ببهرجة الألقاب الّتي منحوها لهم بغير حساب.

بواعث حسد ابن الزبير لابن عباس :

يقول علماء الأخلاق : إنّ دواعي الحسد سبعة :

الأوّل : خبث النفس وشحّها بالخير والعياذ بالله.

____________________

(1) البقرة / 79.

٣٠٥

الثاني : العداوة والبغضاء وهي أشد أسبابه.

الثالث : حب الرآسة وطلب المال والجاه والتفرّد بالثناء.

الرابع : الخوف من فوت المقاصد ، وهو يختص بالمتزاحمين المتنافسين في بلوغ غاية واحدة.

الخامس : التعزز بأن يثقل عليه أن يترفع عليه بعض أقرانه.

السادس : التكبر على الناس لأنّ طبعه يميل إلى الترفّع على بعض الناس فإذا أصابت النعمة ذلك البعض حسده.

السابع : التعجب بأن يكون المحسود في نظر الحاسد أقل شأناً منه ، فإذا علا نجمه حسده وتعجب من فوزه كحسد الأمم لانبيائهم.

وقد تجتمع كلّ هذه الأسباب أو أكثرها في شخص واحد ، فيعظم لذلك حسده ويمكن إرجاع بعض هذه الأسباب وتداخلها مع بعضها فيكون أهمها ثلاثة :

الأوّل : بغض المحسود فيأسى عليه الحاسد بفضيلة تظهر أو منقبة تشكر ، فيثير حسداً قد خامر بُغضاً ، وهذا النوع لا يكون عاماً وإن كان أضرّها ، لأنّه ليس يبغض كلّ الناس.

الثاني : أن تتجدد له نعمة أو يوفّق لعمل يُكسِبه حمداً يتفوّق به على الأقران ، فيثير ذلك حسد الحاسدين ، ولولا ما تجدد له لم يصبه الحسد ، وهذا أخص ممّا سبق إذ لا يكون إلاّ فيما بين الأقران.

الثالث : وهو أخبثها أن يكون الحاسد بخيلاً لا بما في يديه ، بل يشح حتى بالفضائل والنعم الّتي أنعم الله بها على عباده ، فهو ساخط على الله تعالى وعدو لنعمه ، وهذا أشد أنواع البخل وأخبث أنواع الحسد ، لأنّ البخيل يمنعك ما في

٣٠٦

يده وأمّا هذا فيريد منعك ما في يد الله تعالى. وفي هذا النمط ورد قوله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : ( إنّ لنعم الله أعداءً فقيل : ومن هم؟ قال الّذين يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله ).

فإن صادف الحاسد قدرة نزع إلى الشر والوقيعة بالمحسود ، وان صادف عجزاً كان في حرب نفسية داخلية لا تهدأ ثورتها ولا تسكن حرارتها حتى يحل البوار بمحسوده ، أو يبقى هو حرضاً أو يكون من الهالكين.

وإذا رجعنا نتصفح مواقف ابن الزبير العدائية السيئة مع بني هاشم عموماً وابن عباس خاصة ، نجده تقمص الدواعي الثلاث في حسده فهو يراهم تفوقواً عليه شرفاً في الجاهلية والإسلام ، ولم ينل ما ناله إلاّ بهم ، وهذا هو الداعي الأوّل من بواعث حسده ، وسيأتي في بعض محاورات ابن عباس معه ما يشير إلى هذا.

ثمّ هو يرى نعم الله سبحانه تتوالى عليهم كلّ حين فلم يخل بيتهم من رجال قصر عنهم شأوه ، فلا يسعه أن يطاولهم في منكب أو موكب ، وهذا هو الداعي الثاني من بواعث حسده أيضاً.

وثالثة الأثافي يراهم قد سبقوا بفضائلهم علماً وحلماً وكرماً وجوداً شأواً بعيداً يقصر عن بلوغ مداه بخله وجهله ، فهو يريد الوقيعة بهم حتى همّ بإحراقهم ، وهذا هو الثالث من أهم بواعث حسده أيضاً وأضرّها عليه.

ولابدّ لنا من ذكر بعض الشواهد على تلك الدواعي نتبيّن منها ما لحق بابن عباس من أذاه لأنّه المحسود الأوّل من بني هاشم.

الشاهد الأوّل :

رحم الله أبا تمام حيث يقول :

وإذا أراد الله نشر فضيلة

طويت أتاح لها لسان حسود

٣٠٧

لولا اشتعال النار فيما جاورت

ما كان يعرف طيب عرَف العود

لولا التخوف للعواقب لم يزل

للحاسد النعمى على المحسود

قال مؤرّج السدوسي المتوفى سنة 195 في كتابه حذف ـ أي قطع من طرفه ـ من نسب قريش نشرة صلاح الدين المنجّد : « وكان منادٍ يُنادي بمكة : من يريد العلم واللحم فليأت منزل عبد الله بن عباس »(1) .

ولقد روى ابن عبد البر في الاستيعاب(2) ، والبُرّي التلمساني في الجوهرة(3) ، والخرائطي في مكارم الأخلاق(4) ، وابن عساكر(5) ، وأبو الفرج في الأغاني(6) وغيرهم. قالوا :

« انّ عبد الله بن صفوان بن أمية ـ وهو من أخص أصحاب ابن الزبير ـ مرّ يوماً بدار عبد الله بن عباس ( رضي الله عنه ) فرأى فيها جماعة من طالبي الفقه ، ومرّ بدار أخيه فرأى فيها جماعة ينتابونها للطعام ، فدخل على ابن الزبير فعيّره وقال له : أصبحت والله كما قال الشاعر :

فإن تصبك من الأيام قارعة

لم نبك منك على دنيا ولا دين(7)

فتميّز غيظاً وغضباً وقال : وما ذاك يا أعرج؟

____________________

(1) نسب قريش / 8 نشرة صلاح الدين النجّد.

(2) الاستيعاب 1 / 373 ط حيدرأباد و 2 / 347 بهامش الإصابة ط مصطفى محمّد سنة 1358.

(3) الجوهرة 2 / 19.

(4) مكارم الأخلاق / 58 السلفية بمصر سنة 1350.

(5) أنظر تهذيب تاريخ ابن عساكر لابن بدران 7 / 202.

(6) الأغاني 15 / 151 ـ 152 ط دار الكتب المصرية.

(7) البيت لذي الأصبع العدواني وقصيدته مشهورة في المفضليات.

٣٠٨

قال : هذان ابنا عباس عبد الله يفقّه الناس ، وعبيد الله أخوه يطعم الناس ، فما أبقيا لك مكرمة.

فدعا صاحب شرطته عبد الله بن مطيع العدوي وقال له انطلق إلى ابني عباس فقل لهما : أعمدتما إلى راية ترابية(1) قد وضعها الله فنصبتماها ، بدّدا عني جمعكما ، واخرجا عني ومن انضوى إليكما من ضُلاّل أهل العراق ، وإلاّ فعلتُ وفعلتُ. فجاء ابن مطيع فبلّغ. فقال له عبد الله بن عباس : قل لابن الزبير يقول لك ابن عباس ثكلتك أمك ، والله ما يأتينا من الناس غير رجلين : رجل يطلب فقهاً ورجل يطلب فضلاً ، فأي هذين تمنع؟

وكان بالحضرة أبو الطفيل عامر بن واثلة الكناني فجعل يقول :

لا درَّ درُّ الليالي كيف تضحكنا

منها خطوبٌ أعاجيبٌ وتبكينا

ومثل ما تحدث الأيام من غيرٍ

في ابن الزبير عن الدنيا تسلّينا

كنا نجيء ابن عباس فيسمعنا

فقهاً ويكسبنا أجراً ويهدينا

ولا يزال عبيد اللّه مترعةٌ

جفانُه مطعما ضيفاً ومسكينا

فالبر والدين والدنيا بدارهما

ننال منها الّذي نبغي إذا شينا

إن النبيّ هو النور الّذي كشطت

به عمايات ماضينا وباقينا

ورهطه عصمة في ديننا ولهم

فضل علينا وحقّ واجب فينا

ففيم تمنعنا منهم وتمنعهم

عنا وتؤذيهم فينا وتؤذينا؟

ولستَ فاعلم بأولاهم به رحِماً

يا بن الزبير ولا أولى به دينا

لن يؤتي الله إنساناً ببغضهم

في الدين عزاً ولا في الأرض تمكينا »

____________________

(1) منسوبة إلى أبي تراب وهي كنية الإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ومن أحب كناه إليه لأن النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) كنّاه بها.

٣٠٩

الشاهد الثاني :

روى أبو الفرج في الأغاني بسنده عن العتبي ، قال : « قدم معن بن أوس مكة على ابن الزبير فأنزله دار الضيفان وكان ينزلها الغرباء وأبناء السبيل والضيفان ، فأقام يومه لم يطعم شيئاً ، حتى إذا كان الليل جاءهم ابن الزبير بتيس هرم هزيل فقال : كلوا من هذا ، وهم نيف وسبعون رجلاً ، فغضب معن وخرج من عنده فأتى عبد الله بن العباس فقراه وحمله وكساه ، ثمّ أتى عبد الله بن جعفر وحدّثه حديثه فأعطاه حتى أرضاه ، وأقام عنده ثلاثاً حتى رحل ، فقال يهجو ابن الزبير ويمدح ابن جعفر وابن عباس ( رضي الله عنه ) :

ظللنا بمتن الرياح غدية

إلى أن تعالى اليوم في شرّ محضر

لدى ابن الزبير حابسين بمنزل

من الخير والمعروف والرفد مقفر

رمانا أبو بكر وقد طال يومنا

بتيس من الشاه الحجازي أعفر

وقال اطعموا منه ونحن ثلاثة

وسبعون إنساناً فيا لؤم مخبر

فقلنا له لا تقرباً فأمامنا

جفان ابن عباس العلا وابن جعفر

وكن آمناً وارفق بتيسك فإنّه

له أعنزٌ ينزو عليها وأبشر »(1)

ولمعن بن أوس حديث مكارم من ابن عباس أنعم عليه فمدحه فيها.

فقد روى أبو الفرج بسنده عن عبد الله بن عليّ بن منجوف ، قال : « مرّ عبد الله بن العباس بن عبد المطلب بمعن بن أوس المزني وقد كفّ بصره فقال له يا معن كيف حالك؟ فقال له : ضعف بصري وكثر عيالي وغلبني الدَين ، قال : وكم

____________________

(1) الأغاني 10 / 157 ط الساسي.

٣١٠

دينك؟ قال : عشرة آلاف درهم فبعث بها إليه ، ثمّ مرّ به من الغد فقال له كيف أصبحت يا معن؟ فقال :

أخذت بعين المال لما نهكته

وبالدين حتى ما أكاد أدان

وحتى سألت القرض عند ذوي الغنى

وردّ فلان حاجتي وفلان

فقال له عبد الله : الله المستعان ، إنّا بعثنا إليك بالأمس لقمة فما لكتها حتى انتزعت من يدك ، فأي شيء للأهل والقرابة والجيران؟ وبعث إليه بعشرة آلاف درهم أخرى فقال معن يمدحه :

إنّك فرع من قريش وإنّما

تمجّ الندى منها البحور الفوارع(1)

ثووا قادة للناس بطحاء مِكة

لهم وسقايات الحجيج الدوافع

فلمّا دعوا للموت لم تبك منهم

على حادث الدهر العيون الدوامع »(2)

الشاهد الثالث :

روى المقريزي في كتابه المقفى عن ابن جريج ـ وهو عبد الملك قاضي مكة ـ قال : « قال لي ابن أبي مليكة ـ وهو عبد الله بن عبيد الله قاضي ابن الزبير ومؤذنه ـ جاء ابن الزبير مال أوّل ما جاءه ، فانطلق ابن عباس إليه ، وهو في قيقعان ـ جبل بمكة ـ فقال : انك قد دعوت الناس إلى ما قد علمت ، وقد جاءك مال وبالناس حاجة ، فقال ابن الزبير : وما أنت وهذا؟ إنك أعمى ، أعمى الله قلبك.

فقال ابن عباس : بل أعمى الله قلبك.

____________________

(1) قوله : إنك فرع الخ هو مخروم وروى وانك بالواو فلا خرم ، والفرع مستعار من فروع الشجرة وهي أغصانها ، والفوارع جمع فارع وهو العالي أ هـ من خزانة الأدب.

(2) الأغاني 10 / 157 ط الساسي.

٣١١

فقال ابن الزبير : والله ما أنت بفقيه.

قال ابن عباس : والله لأنا أفقه منك ومن أبيك.

فلمّا خرج قال لقائده : مَن عنده؟ قال : ابنته وامرأته.

قال : فهلاّ أخبرتني؟ فوالله لو علمتُ ما أسمعتهما شتمه.

قال ـ ابن أبي مليكة ـ ثمّ أرسل إليه ابن الزبير أبا قيس الزرقي بأنا لسنا أوّل ابني عم استبّا ، فاكفف عني وأكفّ عنك.

قال ابن عباس : إن كفّ كففت ، وإن أذاع أذعت »(1) .

ويبدو أنّ ابن الزبير لم يكفّ أذاه عن ابن عباس بل وعن سائر بني هاشم ، بل كان يتطاول لنُصبه فينال حتى من مقام الرسول ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) بما لا يليق بأيّ مسلم أن ينال ذلك. وقد مرت بنا كلمة ابن الزبير : ( إنّي لأكتم بغضكم أهل هذا البيت منذ أربعين سنة )( وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدا ) (2) لذلك كان ابن عباس يرد عليه.

وفي الشاهد التالي ما يدلنا على مدى التزام ابن عباس بالكفّ عن ابن الزبير ما وسعه ذلك ، إلاّ أنّ ابن الزبير كان يثير الفتنة ويستثير ابن عباس ، فيجيبه بما يسمه على الخرطوم حتى أمام أهله وصحبه ، فلنقرأ :

الشاهد الرابع :

ذكر ابن أبي الحديد في شرح النهج(3) ، وابن حجة الحموي في ثمرات الأوراق(4) ، والسيّد عليّ خان المدني في الدرجات الرفيعة فقال : « وروي ان عبد

____________________

(1) المقفى الكبير 4 / 504 ط دار الغرب الإسلامي.

(2) الأعراف / 58.

(3) شرح النهج 2 / 501 ط مصر الأولى.

(4) ثمرات الأوراق بهامش المستظرف 1 / 135.

٣١٢

الله بن الزبير تزوج امرأة من فزارة يقال لها أم عمرو بنت منظور فلمّا دخل بها وخلا بها قال لها : أتدرين من معك في حجلتك؟ قالت : نعم عبد الله بن الزبير بن العوام بن خويلد ، قال : ليس هذا أردت ، قالت : فأي شيء تريد؟

فقال : معك في حجلتك من أصبح الغداة في قريش بمنزلة الرأس في الجسد ، لا بل العينين من الرأس.

فقالت : أما والله لو أنّ بعض الهاشميين حضرك لكان خليقاً أن لا يقر لك بذلك.

فقال لها : إنّ الطعام والشراب عليَّ حرام حتى أحضرك الهاشميين وغيرهم ممّن لا يستطيع لذلك انكاراً.

قالت : إن أطعتني فلا تفعل ، وأنت أعلم بشأنك.

فخرج ابن الزبير إلى المسجد فإذا بحلقة فيها جماعة من قريش ، وفيها من بني هاشم عبد الله بن عباس وعبد الله بن نوفل بن الحرث ابن عبد المطلب ، فقال لهم : أحبّ ان تنطلقوا معي إلى منزلي في حاجة عرضت ، فقام القوم بأجمعهم حتى قاموا على باب منزله ، فقال ابن الزبير : يا هذه اطرحي عليك سترك ، وأذني للقوم يدخلوا ، ففعلت ، فلمّا أخذوا مجلسهم دعا ابن الزبير بالمائدة ، فأكل القوم جميعاً ، فلمّا فرغوا من الغذاء ، قال لهم : إنما جمعتكم لحديث أوردته على صاحبة هذا الستر ، فزعمت أن لو كان بعض الهاشميين حضرني ما أقرّ لي به ، وقد حضرتم أيها الملأ جميعاً ، وأنت يا بن عباس ما تقول؟ أخبرتها أنّ معها في خدرها من أصبح الغداة في قريش بمنزلة الرأس من الجسد ، لا بل العينين من الرأس ، فردّت عليّ ما قلت.

٣١٣

فقال له ابن عباس : أراك قصدت قصدي ، فإن شئت أن أقول قلت ، وإن شئت أن أكف كففت؟

فقال ابن الزبير : لا بل قل ، وما عسيت أن تقول ، ألست تعلم انّ أبي حواري رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، وأنّ أمي أسماء بنت صدّيق رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، وأنّ خديجة سيّدة نساء رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) عمتي ، وأنّ صفية عمة رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) جدتي ، وأنّ عائشة أم المؤمنين خالتي ، فهل تستطيع لهذا انكاراً يا بن عباس؟ فإن قدرت أن تنكر ذلك فافعل.

فقال ابن عباس : لقد ذكرت شرفاً شريفاً ، وفخراً فاخراً ، غير أنك بنا نلت هذا كلّه ، وأدركت سنامه وعلوه ، فأنت تفاخر مَن بفخره فخرت ، وتسامي مَن بفضله سموت.

فقال ابن الزبير : هلمّ أنافرك قبل أن يبعث محمّد ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ).

فقال ابن عباس : قد أنصف القارة من راماها ، أسألكم يا معشر الحضور أعبد المطلب كان أضخم في قريش أم خويلد؟

فقالوا : اللّهمّ بل عبد المطلب.

فقال : أسألكم بالله أهاشم كان أضخم في قريش أم أسد؟

فقالوا : اللّهمّ بل هاشم.

فقال : أسألكم بالله أعبد مناف كان أضخم في قريش أم عبد العزى؟

قالوا : اللّهمّ بل عبد مناف.

فأنشأ ابن عباس يقول :

تنافرني يا بن الزبير وقد قضى

عليك رسول الله لا قول هازل

فلو غيرنا يا بن الزبير فخرته

ولكنما فاخرت شمس الأصائل

٣١٤

قضى عليك رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) بقوله : ما افترقت فرقتان إلاّ كنت في خيرهما ، فقد فارقتنا من لدن قصي بن كلاب فنحن في فرقة الخير ، فإن قلت : لا ، كفرت ، وإن قلت : نعم ، قهرت ، فضحك بعض القوم.

فقال ابن الزبير : أما والله يا بن عباس لولا تحرّمك بطعامنا وكراهة الإخساس بالذين معك لأعرقت جبينك قبل أن تقوم من مجلسك هذا.

فقال ابن عباس : ولم؟ أفبالباطل ، فبالباطل لا يغلب الحقّ ، أم بالحقّ فالحقّ لا يخسّ بالذين معي ، ولا يعنيه عليَّ ولا عليك من معي.

فقالت المرأة من خلف الستر : أما والله لقد نهيته يا بن عباس عن هذا المجلس فأبى إلاّ ما ترى.

فقال ابن عباس : أيتها المرأة اقنعي ببعلك ، فما أعظم الخطر وأكرم الخبر.

ثمّ أخذ القوم بيد ابن عباس ( رحمه الله ) وقالوا : انهض أيها الرجل لقد فضحته في منزله غير مرة. فنهض ابن عباس ( رحمه الله ) وهو يقول شعراً :

ألا يا قومنا ارتحلوا وسيروا

فلو ترك القطا ليلاً لناما

فقال ابن الزبير : يا صاحب القطا ارجع واقبل عليَّ ، أما والله ما كنت لتدعني حتى أقول ، وأيم الله لقد عرف القوم أنّي سابق غير مسبوق ، وابي حواري وصدّيق ، يتبجح في الشرف الأنيق غير طليق ولا ابن طليق.

فقال ابن عباس : هذا الكلام مردود من امريء حسود فإن كنت سابقاً فبمن سبقت؟ وان كنت فاخراً فبمن فخرت؟ فإن كنت أدركت هذا الفخر بأسرتك دون أسرتنا فالفخر لك علينا ، وإن كنت أدركته بأسرتنا فالفخر لي عليك ، والكثكث في فمك ويديك.

٣١٥

وأمّا ما ذكرت من الطليق ، فوالله لقد ابتلي فصبر ، وأنعم عليه فشكر ، وإن كان لوفيّاً كريماً غير ناقض بيعة بعد توكيدها ، ولا مسلم كتيبة بعد التآمر عليها ، ولا بفرّار جبان.

فقال : أتعيّر الزبير بالجبن ، والله انك لتعلم منه خلاف تلك.

فقال ابن عباس : والله إنّي لا أعلم إلاّ أنّه قد فرّ وما كرّ ، وحارب فما قرّ ، وبايع فما برّ ، وأنكر الفضل ، ورام ما ليس له بأهل. وأنشأ ابن عباس ( رحمه الله ) يقول :

وما كان إلاّ كالهجين أمامه

عناقٌ فجاراه العناق فأجهدا

فأدرك منها بعض ما كان يرتجي

وقصّر عن جري الكرام مبلّدا

فقال عبد الله بن نوفل بن الحرث : ويلك يا بن الزبير أقمناه عنك فتأبى إلاّ منازعته ، فوالله لو نازعته من ساعتك هذه إلى انقضاء عمرك ما كنت إلاّ كالمزداد من الريح ، فقل إن شئت أو فدع.

فقال ابن الزبير : والله يا بني هاشم ما بقي إلاّ المحاربة والمضاربة بالسيوف.

فقال عبد الله بن نوفل بن الحرث : أما والله لقد جرّبت ذلك فوجدت غيّه وخيماً ، فإن شئت فعد حتى نعود.

وانصرف القوم وافتضح ابن الزبير »(1) .

الشاهد الخامس :

قال ابن أبي الحديد بعد ما سبق ذكره من مكاشفة ابن الزبير لبني هاشم بالعداوة وناصره على ذلك محمّد بن سعد بن أبي وقاص ، وأنكر عليه عبد الله بن صفوان بن أمية الجمحي قال :

____________________

(1) الدرجات الرفيعة / 132 ط الحيدرية.

٣١٦

« فبلغ الخبر عبد الله بن العباس ، فخرج مغضباً ومعه ابنه حتى أتى المسجد فقصد قصد المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ، وصلّى على رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ثمّ قال : أيها الناس إنّ ابن الزبير يزعم أن لا أوّل لرسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ولا آخر فيا عجباً كلَ العجَبَ لافترائه ولكذبه! والله إنّ أوّل من أخذ الإيلاف وحمى عيران قريش لَهاشم.

وإنّ أوّل من سقى بمكة عذبا وجعل باب الكعبة ذَهَبا لَعبد المطلب.

والله لقد نشأت ناشئتنا مع ناشئة قريش وإن كنا لقالتهم إذا قالوا ، وخطباءهم إذا خطبوا ، وما عُدّ مجد كمجد أولنا ، ولا كان في قريش مجدٌ لغيرنا ، لأنّها في كفر ماحق ، ودين فاسق ، وضلّة وضلالة ، في عشواء عمياء ، حتى اختار الله تعالى لها نوراً ، وبعث لها سراجاً ، فانتجبه طيّبا من طيّبين ، لا يسبّه بمسّبة ، ولا يبغي غائلة فكان أحدنا وولدنا وعمنا وابن عمنا ، ثمّ إنّ أسبق السابقين إليه منا وابن عمنا ، ثمّ تلاه في السَبق أهلنا ولحمتنا واحداً بعد واحد.

ثمّ إنّا لخير الناس بعده وأكرمهم أدباً ، وأشرفهم حسباً ، وأقربهم منه رحماً.

واعجباً كلّ العجب لابن الزبير! يعيب بني هاشم ، وإنّما شرف هو وأبوه وجده بمصاهرتهم ، أما والله إنّه لمصلوب قريش ، ومتى كان العوام بن خويلد يطمع في صفية بنت عبد المطلب؟؟

قيل للبغل : من أبوك يا بغل؟ فقال : خالي الفرس. ثمّ نزل »(1) .

وذكر المبرّد في الكامل آخر الخطبة فقال : « وقال عبد الله بن العباس في كلام يجيب به ابن الزبير : والله إنّه لمصلوب قريش(2) ومتى كان عوّام بن

____________________

(1) شرح النهج 4 / 489 ط مصر الأولى و 20 / 128 ط محققة.

(2) ان هذه الكلمة سبق أن قالها الإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في ابن الزبير كما مر ذكرها في مواقف ابن الزبير العدائية ، فلا غرابة لو قالها ابن عباس ، وهو قد سمعها من ابن عمه باب مدينة العلم ، وقد يستغربها من لا معرفة له بان الإمام كان عنده سبعون عهداً من

٣١٧

عَوّام يطمع في صفية بنت عبد المطلب؟ من أبوك يا بغل؟ فقال : خالي الفرس »(1) !

وأحسب وهماً وقع في ( عوام بن عوّام ) ، والصواب ( العوام بن خويلد ) كما مرّ في رواية ابن أبي الحديد.

الشاهد السادس :

روى المسعودي في مروج الذهب ، فقال : « حدّثنا ابن عمّار عن عليّ بن محمّد بن سليمان النوفلي قال : حدّثني ابن عائشة والعتبي جميعاً عن أبويهما وألفاظهما متقاربة قالا : خطب ابن الزبير فقال : ما بال أقوام يفتون في المتعة وينتقصون حواريّ الرسول وأم المؤمنين عائشة؟ ما بالهم أعمى الله قلوبهم كما أعمى أبصارهم ، يعرّض بابن عباس. فقال ابن عباس : يا غلام أصمدني صمده(2) فقال : يا بن الزبير :

قد أنصف القارة من راماها

إنا إذا ما فئة نلقاها

نرد أولاها على أخراها

أمّا قولك في المتعة فسل أمك تخبرك ، فإنّ أوّل متعة سطع مجمرها لمجمر سطع بين أمك وأبيك ، ـ يريد متعة الحج ـ وأمّا قولك : أم المؤمنين فبنا سُميّت أم المؤمنين ، وبنا ضُرب عليها الحجاب ، وأمّا قولك : حواريّ رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، فقد لقيتُ أباك في الزحف وأنا مع إمام هدى ، فإن يكن على ما أقول فقد كفر بقتالنا ،

____________________

النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) لم يعهدها إلى احد غيره كما يقول ابن عباس ، وكان ابن عباس عنده دقائق علم يخفيها عن غير أهلها وسيأتي المزيد في ذلك في الحلقة الثانية ان شاء الله تعالى.

(1) الكامل لابن الأثير 2 / 126 ط مكتبة نهضة مصر.

(2) أي أقصدني قصده ووجّهني نحوه.

٣١٨

وإن يكن على ما تقول فقد كفر بهربه عنّا ، فانقطع ابن الزبير ، ودخل على أمه أسماء فأخبرها فقالت : صدق ».

قال المسعودي : « وفي هذا الخبر زيادات من ذكر البردة والعوسجة وقد أتينا على الخبر بتمامه في كتابنا المترجم بكتاب ( الاستبصار ) وفي كتاب ( الصفوة ) وفي كتابنا المترجم بالكتاب ( الواجب في الفروض اللوازم ) »(1) .

أقول : لقد أخرج الخبر مسلم بسنده عن ابن شهاب ـ وهو الزهري ـ قال : « أخبرني عروة ابن الزبير أنّ عبد الله بن الزبير قام بمكة فقال : إنّ ناساً أعمى الله قلوبهم كما أعمى أبصارهم يفتون بالمتعة ـ يعرّض برجل فناداه فقال : إنك لجلفٌ جافٍ ، فلعمري لقد كانت المتعة تفعل على عهد إمام المتقين ـ يريد رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ـ.

فقال ابن الزبير : فجرّب بنفسك ، فوالله لئن فعلتها لأرجمنّك بأحجارك.

قال ابن شهاب : فأخبرني خالد بن المهاجر بن سيف الله أنّه بينا هو جالس عند رجل جاءه رجل فاستفتاه في المتعة فأمره بها فقال له ابن أبي عمرة الأنصاري مهلاً ، قال ما هي والله لقد فُعِلت في عهد امام المتقين »(2) .

أقول : لقد ذكر مسلم هذا الخبر وكنّى عن اسم المفتي بالمتعة ( رجل ) ، ولم يذكر بقية المسائل الّتي نقد فيها ابن الزبير ذلك الرجل ، وقد علّق شرّاح صحيحه وغيرهم على ذلك وأبانوا أنّ المراد برجل هو ابن عباس حتى قال ابن الهمام الحنفي في شرح الفتح : « ولا تردد عندنا في ان ابن عباس هو

____________________

(1) مروج الذهب 2 / 103 ط مصطفى محمّد و 3 / 89 تح ـ محمّد محي الدين عبد الحميد.

(2) صحيح مسلم 4 / 133 ط محمّد عليّ صبيح.

٣١٩

الرجل المعرّض به ، وكان قد كفّ بصره فلذا قال ابن الزبير كما أعمى أبصارهم »(1) .

وقد روى الحادثة أيضاً النسائي وغيره من أصحاب الحديث والفقه وسيأتي مزيد بحث عن ذلك في الحلقة الثانية حيث احتجاجاته على ابن الزبير ، وفي الحلقة الثالثة حيث نذكره فقهه وفتاواه الفقهية ، وفي الحلقة الرابعة ( ابن عباس في الميزان ) مع ذكر بقية المصادر التاريخية والأدبية الّتي روت الخبر بصورة أوفى ، وحسبنا الآن بهذا وكفى ، أن نذكر أبيات ايمن بن خريم في ذلك :

يا بن الزبير لقد لاقيت بائقة(2)

من البوائق فالطف لطف محتال

لاقيته هاشمياً طاب منبته

في مغرسيه كريم العم والخال

ما زال يقرع منك العظم مقتدراً

على الجواب بصوت مسمع عال

حتى رأيتك مثل الكلب منحجراً

خلف الغبيط(3) وكنت الباذخ العالي

إنّ ابن عباسٍ المعروف حكمته

خير الأنام له حال من الحال

عيّرته المتعة المتبوع سنّتها

وبالقتال وقد عيّرت بالمال

لما رماك على رسل بأسهمه

جرت عليك كسوف الحال والبال

فاحتزّ مقولك الأعلى بشفرته

حزاً وحيّاً(4) بلا قيل ولا قال

واعلم بأنّك إن عاودت غيبته

عادت عليك مخازٍ ذات أذيال(5)

____________________

(1) شرح الفتح 2 / 386.

(2) البائقة : النازلة وهي الداهية والشر الشديد ، وباقت الداهية إذا نزلت والجمع بوائق.

(3) الغبيط : الرّحل يشد عليه الهودج.

(4) الوحيّ : السريع.

(5) شرح النهج للمعتزلي 4 / 490 ط دار الكتب العربية بمصر.

٣٢٠