موسوعة عبد الله بن عبّاس الجزء ٥

موسوعة عبد الله بن عبّاس0%

موسوعة عبد الله بن عبّاس مؤلف:
تصنيف: متون حديثية
الصفحات: 520

موسوعة عبد الله بن عبّاس

مؤلف: السيد حسن الموسوي الخرسان
تصنيف:

الصفحات: 520
المشاهدات: 101875
تحميل: 4147


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 520 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 101875 / تحميل: 4147
الحجم الحجم الحجم
موسوعة عبد الله بن عبّاس

موسوعة عبد الله بن عبّاس الجزء 5

مؤلف:
العربية

تصاعد حمّى العداء عند ابن الزبير :

لقد تصاعدت حمّى الخلاف والعداء بين ابن الزبير وبين بني هاشم حين لم يبايعه منهم أحد إلاّ عبيد الله بن عليّ بن أبي طالب وعبد الله بن جعفر فقد بايعاه كما رواه البلاذري ، ولم يتركهم ابن الزبير بمعزل عنه ، إذ لم يقنعه أنّهم لم يبايعوا عبد الملك بن مروان ، وازداد حنقاً وغيظاً حين هتف المختار بالكوفة باسم محمّد بن الحنفية ، فصار يصب جام غضبه على ابن عباس وعلى ابن الحنفية ، لأنّهما الرأسان المنظوران يومئذ.

وليس من شك في معرفة الناس بامتناعهما عن مبايعته وتلك المعرفة تفسد عليه ما يرومه من تولي خلافة المسلمين ليدعى بأمير المؤمنين ، فصار يشتد عليهما ، ويشهّر بهما على المنبر بحضورهما وفي غيابهما ، وكان نصيب ابن عباس أوفى ، وقد مرّت بنا بعض الشواهد على ذلك ، ولأنه عكفت عليه الناس يمتارون من علمه ، فهو الوحيد الّذي كان يرد الناس منه على وادٍ رحب في شتى فنون المعارف ، وحتى الخوارج فقد كانوا يسألونه ويكاتبونه في معرفة الأحكام ، وستأتي في الحلقة الثالثة مسائل نافع بن الأزرق الخارجي في غريب القرآن كما ستأتي أيضاً مكاتبات نجدة بن عويمر ـ عامر ـ الخارجي في معرفة أحكام الخمس وأطفال المشركين وسهم النساء والمماليك في غنائم الحرب ، ولما كان للخوارج قوّة يخشاها ابن الزبير إذ كانوا معه في أيام يزيد بن معاوية ثمّ نبذوه لما رأوا حرصه على الإمارة ، فهو يخشى أن يدعوهم ابن عباس يوماً إلى الثورة عليه ، كما كان يخشى من محمّد بن الحنفية أن تتسع دعوة المختار إلى إمامته فينهض لقتاله ، وغاب عنه

٣٢١

أنّهما أتقى لله منه ، فلا يستحلان حرمة البلد الحرام والبيت الحرام ، وتحت وطأة ذلك الهاجس صار يتحسّس من التفاف الناس حولهما ويتوجّس منهما خيفة ، فيزداد في تنمّره كلما بلغه التقاء بعض عناصر المعارضة معهما حيث كان يتجسّس عليهما ، وما حديث ابن أبي مليكة في صحيح البخاري مع ابن عباس إلاّ بعض ذلك التجسس والتوجّس ، وللذهبي رأي في ذلك المنع مقاربٌ مع ما قلناه قال : ولأبي الطفيل الكناني حين منع ابن الزبير عبد الله بن عباس من الاجتماع بالناس كان يخافه.

وإنّما أخّر الناس عن بيعة ابن عباس ـ أن لو شاء الخلافة ـ ذهاب بصره(1) .

ثمّ ذكر أبيات أبي الطفيل وقد ذكرناها في الشاهد الأوّل.

فهذا الهاجس والتوجّس أقضّا مضجع ابن الزبير ، فاتخذ إجراءاته الصارمة ضدّ ابن عباس وابن الحنفية وبني هاشم بوحشية وعنف ، ممّا ذكر المؤرخون بعض جوانبه ، ولم تخف على أحد ، ومع ذلك نجد البخاري في صحيحه قد ذكر أربعة أخبار ثلاثة منها برواية ابن أبي مليكة تتعلق بابن عباس وابن الزبير ومساعيه المشبوهة في ذلك فلنقرأ :

ماذا عند البخاري؟

لقد عوّدنا البخاري على إيراد بعض الأحاديث في أبواب تغاير عناوينها فلا تمتُّ لها بصلة أو تمتّ على نحو ضعيف ، كالخيوط الشمسية أو نسج العنكبوت. ولست بصدد بيانها وما لا يستساغ معها إيرادها في أبواب لا تشملها ، لكني في المقام أرى لزاماً عليَّ ذكر ما أخرجه البخاري في صحيحه ( كتاب التفسير باب

____________________

(1) سير أعلام النبلاء 4 / 455 ط دار الفكر بيروت.

٣٢٢

125 ) في تفسير قوله تعالى :( ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ) (1) ، وبشرح فتح الباري لابن حجر(2) ، وبشرح إرشاد الساري للقسطلاني(3) ، فقد روى في هذا الباب أربعة أحاديث(4) ، ثلاث منها هي على الصحيح أخبار وليست بأحاديث لأنّها ليست مرفوعة نسوقها إلى القاريء كما هي قال :

1 ـ حدّثنا عبد الله بن محمّد حدّثنا حَبّان حدثّنا همّام حدّثنا ثابت حدّثنا أنس قال : حدّثني أبو بكر ( رضي الله عنه ) قال : كنت مع النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) في الغار فرأيت آثار المشركين ، قلت : يا رسول الله لو أنّ أحدهم رفع قدمه رآنا قال : ما ظنّك باثنين الله ثالثهما.

2 ـ حدّثنا عبد الله بن محمّد(5) حدّثنا ابن عيينة عن ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس ( رضي الله عنهما ) أنّه قال حين وقع بينه وبين ابن الزبير ، قلت أبوه الزبير وأمه أسماء وخالته عائشة وجده أبو بكر وجدته صفية. فقلت لسفيان إسناده؟ فقال : حدّثنا ، فشغله إنسان ولم يقل ابن جريج(6) .

____________________

(1) التوبة / 40.

(2) فتح الباري 9 / 395 ـ 399 ط مصطفى محمّد وأولاده بمصر سنة 1378 هـ.

(3) إرشاد الساري 7 / 149 ـ 150 ط أفست دار الكتاب العربي بيروت.

(4) صحيح البخاري ( كتاب التفسير 58 باب 125 ) 6 / 66 ـ 67 ط بولاق.

(5) كان يحيى بن معين سيء الرأي فيه هدى الساري 2 / 181.

(6) لقد روى خبر ابن أبي مليكة مسلم في صحيحه كما في هدى الساري لابن حجر 2 / 70 ط مصطفى البابي الحلبي ، والمقريزي في كتابه المقفى ( 4 / 504 ـ 505 ط دار الغرب الإسلامي ) كما رواه غيره وجميعهم عن ابن جريج عن ابن أبي مليكة. ولم يحدث بذلك غيره وكأنه لم يسمعه غيره من ابن عباس إذ لم يحضره من أولاده ومواليه وزائريه أحد؟ وكأنه كان معه في خلوة خاصة بابن أبي مليكة ، فهل يعقل ذلك؟ إن هذا الا اختلاق.

٣٢٣

3 ـ حدّثني عبد الله بن محمّد قال حدّثني يحيى بن معين حدّثنا حجاج(1) قال ابن جريج قال ابن أبي مليكة : وكان بينهما شيء فغدوت على ابن عباس فقلت : أتريد أن تقاتل ابن الزبير فتحلّ حرم الله؟! فقال : معاذ الله ، إنّ الله كتب ابن الزبير وبني أمية من المحلّين ، وإنّي والله لا أحلّه أبداً. قال : قال الناس بايع لابن الزبير فقلت : وأين بهذا الأمر عنه؟ أمّا أبوه فحواريّ النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) يريد الزبير ، وأمّا جده فصاحب الغار يريد أبا بكر ، واُمّه فذات النطاق يريد أسماء ، وأمّا خالته فأم المؤمنين يريد عائشة ، وأمّا عمته فزوج النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) يريد خديجة ، وأمّا عمة النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) فجدته يريد صفية ، ثمّ عفيف في الإسلام ، قارئ للقرآن ، والله إن وصلوني وصلوني من قريب ، وإن رَبّوني ربّني أكفاء كرام ، فآثر التويتات والأسامات والحَميدات ـ يريد أبطناً من بني أسد بني تويت وبني أسامة وبني أسد ـ إنّ ابن أبي العاص برز يمشي القدمّيه ـ يعني عبد الملك بن مروان ـ وإنّه لوى ذنبه ـ يعني ابن الزبير ـ.

4 ـ حدّثنا محمّد بن عبيد بن ميمون(2) حدّثنا عيسى بن يونس عن عمر بن سعيد قال أخبرني ابن أبي مليكة دخلنا على ابن عباس فقال : ألا تعجبون لابن الزبير قام في أمره هذا فقلت : لأحاسبنّ نفسي له ما حاسبتها لأبي بكر ولا لعمر ، ولَهما كانا أولى بكلّ خير منه. وقلت : ابن عمة النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، وابن الزبير وابن أبي

____________________

(1) ذكره ابن حجر في هدى الساري 2 / 157 ضمن الّذين تكلّموا فيهم بجرح من رجال البخاري وقال : ذكره أبو العرب الصقلي في الضعفاء بسبب انّه تغيّّر في آخر عمره واختلط لكن ما ضرّه الاختلاط ، فان إبراهيم الحربي حكى أن يحيى معين منع ابنه أن يدخل عليه بعد اختلاطه أحداً.

(2) من شيوخ أحمد بن حنبل قال : انّه كان صدوقا ولكن يعلى أخوه أثبت منه ، وقال في رواية أخرى : كان يخطئ ويصيب. وهذا على ما يختار أحمد يكون ساقط الحديث ( هدى الساري 2 / 209 ).

٣٢٤

بكر وابن اخي خديجة وابن اخت عائشة ، فإذا هو يتعلّى عني ولا يريد ذلك فقلت : ما كنت أظن أنّي أعرض هذا من نفسي فيدعه ، وما أراه يريد خيراً ، وإن كان لابدّ لأن يُربّني بنو عمي أحبّ إليّ من أن يُربّني غيرهم.

وحيث انتهينا من إيراد ما رواه البخاري فيما يتعلق بابن عباس مع ابن الزبير ، لابدّ وأن أدرك القارئ معنى ما سبق أن قلته من انّ البخاري يورد أحاديث ليس بينها وبين عنوان الباب صلة أو بصلة ضعيفة ، وفي المقام فجميع ما أورده ليس فيه شيء من تفسير الآية الكريمة الّتي جعلها عنواناً للباب ، ومع غض النظر عن هذا ، فليس فيها ما يمكن حمله ولو على بُعدٍ على آية الغار سوى الأوّل منها ، أمّا الثلاثة التالية فهي أجنبية ـ بتمام معنى الكلمة ـ عن تفسير الآية الكريمة. ولو تنزلنا عن ذلك أيضاً فليس فيها ذكر للغار إلاّ في ثانيهما في وصف أبي بكر ، وأين هذا من تفسير الآية الكريمة؟ ويبدو لي أنّ البخاري إنّما عقد الباب باسم الآية الكريمة إيهاماً للقارئ واستدراجاً له ، والحال إنّما حشر أخباراً مكذوبة على ابن عباس ـ على أسوء تقدير ـ أو مزيد فيها على أحسن تقدير ، لأنّ راوي الأخبار الثلاثة هو ابن أبي مليكة ، وهو متهمٌ في روايته في هذا المقام ، لأنّه كان مؤذناً لابن الزبير وقاضياً عنده ، وخبره بأسانيد البخاري إنّما هي بمثابة انتزاع شهادة من ابن عباس بحق ابن الزبير وأهليته للخلافة ، وجعل من مؤهلاته انّ أبا بكر صاحب الغار جدّه ، وما أدري كيف استساغ البخاري ايراد الخبر بأسانيده فجعله ثلاثة أخبار ، مع انها تستظهر البطلان سنداً كما تستبطن الكذب متناً. وحسبنا ما ذكر في أوّلهما من مطالبة الراوي عن ابن عيينة له بالاسناد ، ولا عجب فإنّ ابن عيينة كان

٣٢٥

من المدلسين(1) وقد اختلط في سنة 197 بشهادة القطان وقال : اشهدوا انّ سفيان بن عيينة اختلط سنة 197 فمن سمع منه في هذه السنة وبعدها فسماعه لا شيء(2) فما يدرينا أن يكون الخبر سُمع منه في فترة الاختلاط؟

وأمّا استبطانها الكذب فإنّ جميع ما رواه لابن أبي مليكة على لسان ابن عباس من المؤهلات فقد كانت موجودة فيه وفي محمّد بن الحنفية بصورة أتم وأكمل وأعلا وأجل ، فلماذا لم يدع الناس إلى نفسه أو إلى ابن عمه محمّد بن الحنفية؟ ما دامت المؤهلات لدى ابن الزبير هي شرف الانتساب إلى النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) عن طريق الرجال والنساء بينما كان ابن عباس ومحمّد بن الحنفية أقرب قربى وأشد لصوقاً بالنبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) لأنّهم من آله الّذين حرمت عليهم الصدقة ، ومن أهله الّذين وجبت على الناس مودتهم ، وهما في غنى عن نسبة الرجال والنساء المذكورين في خبر ابن أبي مليكة. وقد مرّت بنا شواهد قال فيها ابن عباس لابن الزبير أقوالاً تكذب خبر ابن أبي مليكة ، فقد نافره مرة أمام أهله وقد مر ذكر المنافرة في الشاهد الرابع ، وكذلك ما مرّ في بقية الشواهد وابن عباس في جميعها يقدح في ابن الزبير ويجرّده من كلّ شرف وفضيلة ، إلاّ شرف وفضيلة خؤلتهم لأبيه الزبير ، وقد سخر منه حين ضرب فيه المثل : قيل للبغل من أبوك فقال : خالي الفرس.

فكيف يمكن تصديق ابن أبي مليكة في زعمه أنّه سمع ابن عباس قال في ابن الزبير تلك المؤهلات؟ ونحن نعلم يقيناً رأي ابن عباس في مسألة

____________________

(1) أنظر طبقات المدلسين. وفي قبول الأخبار ومعرفة الرجال لأبي القاسم الكعبي 2 / 298 ذكر الكرابيسي انّه مدلس وفي الهامش حكى قول الذهبي فيه : انّه كان مشهوراً بالتدليس عمد إلى أحاديث رفعت إليه من حديث الزهري فيحذف اسم من حدّثه ويدلّسها ، إلاّ أنّه لا يدلس إلاّ عن ثقة.

(2) تهذيب التهذيب لابن حجر 4 / 120 ترجمة سفيان بن عيينة.

٣٢٦

الخلافة ، وأنها بالنص ، وليست بالمؤهلات الواهية الّتي ساقها ابن أبي مليكة. وذلك معلوم وثابت عنه منذ عهد عمر ، وقد مرّت بنا في الجزء الثاني بعض المحاورات بينه وبين عمر حول الخلافة ، حيث كان ابن عباس يرى النص وعمر يرى الاختيار فراجع. واذا أردنا أن لا نجشّم القارئ معاناة الرجوع إلى الجزء الثاني ، فسنختصر له الطريق ونبقى في المقام ، ونطلب منه إعادة قراءة صدر الخبر الثاني من اخبار ابن أبي مليكة ، وهو الثالث من أخبار البخاري ، فسيجد ابن عباس بصف ابن الزبير وبني أمية من المحلّين لحرمة البيت الحرام ، فكيف يكون قارئ القرآن محلاً لحرمة البيت الحرام أو ليس ذلك من التناقض الّذي لا يخفى على أحد؟

ثمّ ما بال ابن أبي مليكة لم يُحسن كذبته في حبكته حتى افتضح بحبقته ، حين ذكر بزعمه وصف ابن عباس لابن الزبير بقوله : « عفيف في الإسلام قارئ للقرآن » ، ثمّ أردف بلا فصل قوله : « والله إن وصلوني وصلوني من قرب ». مَن هم هؤلاء الّذين عناهم ابن عباس؟ والقارئ لا يجد الربط بين الوصف وما بعده ، إذ لم يتقدم ذكرهم ليصح إرجاع الضمائر إليهم.

وهذا ما أربك شراح الصحيح ، فذهبت بهم المذاهب مشرّقين ومغربين فقال ابن حجر في فتح الباري : « وظاهر هذا أنّ مراد ابن عباس بالمذكورين بنو أسد رهط ابن الزبير ، وكلام أبي مخنف الإخباري يدل على أنّه أراد بني أمية فالأوّل مجرّد احتمال ، والثاني من دون استدلال »(1) .

أمّا القسطلاني فهو أنبه في المقام حيث قال بعد قوله : قارئ القرآن : « زاد ابن أبي خيثمة في تاريخه هنا : وتركت بني عمي بني أمية ( والله إن وصلوني

____________________

(1) فتح الباري 8 / 247 ط دار المعرفة بيروت.

٣٢٧

وصلوني من قريب ) » ، ثمّ ذكر القربى النسبية المنافية نسبتهم إلى عبد مناف ، ثمّ قال : « وهذا شكر من ابن عباس لبني أمية وعتب على ابن الزبير »(1) .

وهكذا بقي بقية شراح البخاري في دوّامة لتوجيه ما رواه لهم البخاري بأسانيده عن ابن أبي مليكة ، وكأنّهم جميعاً جبنوا أو لم يمر ببالهم أن يقولوا ولو لمرة واحدة كلمة حقّ واحدة ، فإما أن يدينوا ابن عباس لأنّه لم يبايع لابن الزبير مع ما رواه عنه ابن أبي مليكة من دعوته الناس إلى مبايعة ابن الزبير ، أو يدينوا ابن أبي مليكة لأنّه روى لهم ما هو كذب ومتناقض ، ولكنهم أنّى لهم التناوش لا من قريب ولا من بعيد ، بل أحسبهم جميعاً على خلاف أهل الكهف رقود وهم أيقاظ ، ولكنهم إنما أعرضوا رعاية لمقام الصحبة ، وحفاظاً على مقامات الصحابة سواء المصلح منهم والمفسد وبالتالي حفاظاً على كتاب البخاري الّذي هو عندهم أصح كتاب بعد كتاب الله؟ ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله.

فبعد هذا كلّه كيف نصدق ابن أبي مليكة على ابن عباس الّذي لم يكن يرى لابن الزبير أيّ أهلية للحكم بل لا يرى له فضلاً ، ثمّ هو يقسم أنّه سيحاسب له نفسه كما حاسبها لأبي بكر وعمرو (؟) إن هذا إلاّ اختلاق ، وقد مرّ بنا بعض حديث عطية العوفي في مواقف ابن الزبير العدائية ، وسيأتي بتمامه ، وهو يدفع صدق خبر ابن أبي مليكة ، مضافاً إلى ذلك ما رواه ابن سعد في الطبقات(2) عن سُليم أبي عامر قال : فرأيت محمّد بن الحنفية محبوساً في زمزم والناس يمنعون من الدخول عليه ، فقلت والله لأدخلنّ عليه فدخلت فقلت : ما بالك وهذا الرجل؟ فقال : دعاني إلى البيعة فقلت : إنّما أنا من المسلمين فإذا اجتمعوا عليك فانا

____________________

(1) إرشاد الساري 7 / 150.

(2) الطبقات الكبرى ( ترجمة محمّد بن الحنفية ) 5 / 74 ط ليدن.

٣٢٨

كأحدهم ، فلم يرض بهذا مني ، فاذهب إلى ابن عباس فأقرئه مني السلام وقل : يقول لك ابن عمك ما ترى.

قال سُليم : فدخلت على ابن عباس وهو ذاهب البصر ، فقال : من أنت؟ فقلت : أنصاري ، فقال : رب أنصاري هو أشد علينا من عدونا ، فقلت : لا تخف أنا ممّن لك كلّه ، قال : هات فأخبرته بقول ابن الحنفية ، فقال : قل له لا تطعه ولا نعمة عين إلاّ ما قلتُ لا تزده عليه ، فرجعت إلى ابن الحنفية فأبلغته ما قال ابن عباس ، فهمّ ابن الحنفية أن يقدم إلى الكوفة.

وأخال أنّ ما رواه البلاذري من كلام ابن عباس مع ابن الزبير في إخراجه محمّد بن الحنفية ومن معه من مكة كان بعد حبسهم الأوّل في قبة زمزم وان ذكره البلاذري في تسييرهم إلى الطائف. ولنقرأ عن موقف ابن عباس مع ابن الزبير في حبسه لبني هاشم :

حبس ابن الزبير لبني هاشم :

قال ابن خلدون في تاريخه : « وقيل انّ ابن الزبير بعث إلى ابن عباس وابن الحنفية في البيعة ( فأبيا وقالا )(1) حتى يجتمع الناس على إمام ، فإن هذه فتنة ، فحبس ابن الحنفية في زمزم ، وضيّق على ابن عباس في منزله ، وأراد احراقهما ، فأرسل المختار جيشه كما تقدم ونفّس عنهما ، ولما قتل المختار قوي ابن الزبير عليهما ، فخرجا إلى الطائف »(2) .

وهذا من ابن خلدون نحو اقتضاب سار عليه غيره من المؤرخين أيضاً ، ولا حاجة بنا إلى مزيد من البحث فيه ، بعد أن عرفنا أنّ ابن الزبير حبس محمداً في

____________________

(1) سقط في المطبوعة يقتضيه المقام ويدل عليه ما في رواية ابن سعد التالية له.

(2) تاريخ ابن خلدون 3 / 64 ـ 65 ط دار الكتاب اللبناني.

٣٢٩

قبة زمزم ، أمّا ابن عباس فقد ضيّق عليه في منزله ، وهذا هو الحبس الأوّل وكان في سنة 64.

أمّا الحبس الثاني فكان سنة 67 وكان ابن عباس في جملة المحبوسين من بني هاشم ، فقال ابن أبي الحديد : « جمع عبد الله بن الزبير محمّد بن الحنفية وعبد الله بن عباس في سبعة عشر رجلاً من بني هاشم منهم الحسن ابن الحسن بن عليّ بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، وحصرهم في شعب بمكة يعرف بشعب عارم وقال : لا تمضي الجمعة حتى تبايعوا إلي أو أضرب أعناقكم وأحرّقكم بالنار ، ثمّ نهض إليهم قبل الجمعة يريد إحراقهم بالنار ، فالتزمه ابن مسور بن مخرمة الزهري ، وناشده الله أن يؤخرهم إلى يوم الجمعة ، فلمّا كان يوم الجمعة دعا محمّد بن الحنفية بغسول وثياب بيض ، فاغتسل وتلبّس وتحنّط ، لا يشك في القتل ، وقد بعث المختار بن أبي عبيد من الكوفة أبا عبد الله الجدلي في أربعة آلاف ، فلمّا نزلوا ذات عرق ، تعجّل منهم سبعون على رواحلهم حتى وافوا مكة صبيحة الجمعة ، ينادون يا محمّد يا محمّد! وقد شهروا السلاح حتى وافوا شعب عارم فاستخلصوا محمّد بن الحنفية ومن كان معه ، وبعث محمّد بن الحنفية الحسن بن الحسن ينادي : مَن كان يرى أنّ لله عليه حقاً فليشم سيفه ، فلا حاجة لي بأمر الناس ، إن أعطيتها عفواً قبلتها ، وان كرهوا لم نبتزهم أمرهم.

وفي شعب عارم وحصار ابن الحنفية فيه يقول كثير بن عبد الرحمن :

ومن ير هذا الشيخ بالخيف من منى

من الناس يعلم أنّه غير ظالم

سمّي النبي المصطفى وابن عمه

وحمّال أثقال وفكّاك غارم

تخبّر من لاقيت أنك عائذٌ

بل العائذ المحبوس في سجن عارم »(1)

____________________

(1) شرح النهج 20 / 123 تح ـ محمّد أبو الفضل إبراهيم.

٣٣٠

وروى ابن سعد بسنده عن عطية العوفي قال : « لمّا وقعت الفتنة بين عبد الله ابن الزبير وبين عبد الملك بن مروان ، ارتحل عبد الله بن عباس ومحمّد بن الحنفية بأولادهما ونسائهما حتى نزلوا مكة ، فبعث عبد الله بن الزبير اليهما تبايعان فأبيا وقالا : أنت وشأنك لا نعرض لك ولا لغيرك ، فأبى وألحّ عليهما إلحاحاً شديداً وقال لهما فيما يقول : والله لتبايُعنّ أو لأحرقنّكما بالنار ، فبعث أبا الطفيل عامر بن واثلة إلى شيعتهم بالكوفة وقالا : إنا لا نأمن هذا الرجل ، فمشوا في الناس ، فانتدب أربعة آلاف فحملوا السلاح حتى دخلوا مكة فكبّروا تكبيرة سمعها أهل مكة ، وابن الزبير في المسجد فانطلق هارباً حتى دخل دار الندوة ، ويقال : تعلّق بأستار الكعبة وقال : أنا عائذ الله.

قال : ثمّ ملنا إلى ابن عباس وابن الحنفية وأصحابهما وهم في دور قريب من المسجد قد جمع الحطب فأحاط بهم حتى بلغ رؤوس الجُدر ، لو أنّ ناراً تقع فيه ما رؤي منهم أحد حتى تقوم الساعة ، فأخّرناه عن الأبواب ، وقلنا لابن عباس : ذرنا نريح الناس منه ، فقال : لا هذا بلد حرام ، حرّمه الله ما أحلّه لأحد إلاّ للنبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ساعة ، فامنعونا وأجيرونا ، قال : فتحمّلوا وإن منادياً ينادي في الجبل : ما غنمت سرية بعد نبيّها ما غنمت هذه السرية ، وإن السرايا تغنم الذهب والفضة ، وإنّما غنمتم دماءنا ، فخرجوا بهم حتى أنزلوهم منى فأقاموا ما شاء الله ، ثمّ خرجوا بهم إلى الطائف »(1) .

وعندي هذا الإخراج هو الثاني ، وفيه كان كلام ابن عباس مع ابن الزبير فيما أرى ، فقد روى البلاذري في الأنساب : « قالوا : ولمّا أخرج عبد الله بن الزبير محمّد بن الحنفية عن مكة أغلظ له ابن عباس وقال له : أتخرج بني عبد المطلب عن حرم الله وهم أحق به منك؟! فقال : وأنت أيضاً فالحق به »(2) .

____________________

(1) الطبقات الكبرى ( ترجمة ابن عباس ) / 187 تح ـ السلمي.

(2) أنساب الأشراف ( ترجمة ابن عباس ) برقم / 122.

٣٣١

وقال ابن الأثير في تاريخه : « فلمّا استولى المختار على الكوفة وصارت الشيعة تدعو لابن الحنفية خاف ابن الزبير أن يتداعى الناس إلى الرضابه ، فألح عليه وعلى أصحابه في البيعة له ، فحبسهم بزمزم وتوعدهم بالقتل والاحراق وإعطاء الله عهداً إن لم يبايعوا أن ينفذ فيهم ما توعدهم به ، وضرب لهم في ذلك أجلاً ، فأشار بعض من كان مع ابن الحنفية عليه أن يبعث إلى المختار يعلمه حالهم ، فكتب إلى المختار بذلك وطلب منه النجدة ، فقرأ المختار الكتاب على الناس وقال : انّ هذا مهديكم وصريخ أهل بيت نبيّكم ، قد تركوه ومن معه محصوراً عليهم ، كما يحصر على الغنم ، ينتظرون القتل والتحريق في الليل والنهار ، لست أبا اسحق إن لم أنصرهم نصراً مؤزراً ، وإن لم أسرّب الخيل في إثر الخيل كالسيل يتلوه السيل : حتى يحل بابن الكاهلية الويل ـ يعني ابن الزبير وذلك ان أم خويلد أبي العوام زهرة بنت عمرو من بني كاهل بن اسد بن خزيمة ـ فبكى الناس ، وقالوا سرّحنا إليه وعجّل ، فوجّه أبا عبد الله الجدلي في سبعين راكباً من أهل القوّة ، ووجّه ظبيان بن عمارة أخا بني تميم ومعه أربعمائة ، وبعث معه لابن الحنفية أربعمائة ألف درهم ، وسيّر أبا المعمّر في مائة ، وهاني بن قيس في مائة ، وعمير بن طارق في أربعين ، ويونس بن عمران في أربعين ، فوصل أبو عبد الله الجدلي إلى ذات عرق فأقام بها حتى اتاه عمير ويونس في ثمانين راكباً ، فبلغوا مائة وخمسين رجلاً ، فسار بهم حتى دخلوا المسجد الحرام ومعهم الرايات وهم ينادون يا لثارات الحسين ، حتى انتهوا إلى زمزم ، وقد أعدّ ابن الزبير الحطب ليحرقهم ، وكان قد بقي من الأجل يومان ، فكسروا الباب ودخلوا على ابن الحنفية فقالوا : خل بيننا وبين عدو الله ابن الزبير ، فقال لهم اني لا أستحل القتال في الحرم.

٣٣٢

فقال ابن الزبير : واعجباً لهذه الخشبية ينعون الحسين كأني أنا قتلته ، والله لو قدرت على قتلته لقتلتهم ـ وإنّما قيل لهم خشبية لأنّهم دخلوا مكة وبأيديهم الخشب كراهة إشهار السيوف في الحرم ، وقيل : لأنّهم أخذوا الحطب الّذي أعدّه ابن الزبير ـ.

وقال ابن الزبير : أتحسبون أني أخلي سبيلهم دون أن يبايع ويبايعون؟ فقال الجدلي : أي ورب الركن والمقام لتخلّين سبيله أو لنجادلنّك بأسيافنا جدالاً لا يرتاب منه المبطلون ، فكف ابن الحنفية أصحابَه وحذّرهم الفتنة ، ثمّ قدم باقي الجند ومعهم المال حتى دخلوا المسجد الحرام ، فكبّروا وقالوا يا لثارات الحسين ، فخافهم ابن الزبير ، وخرج محمّد بن الحنفية ومن معه إلى شعب عليّ وهم يسبّون ابن الزبير ويستأذنون محمداً فيه ، فأبى عليهم ، فاجتمع مع محمّد في الشعب أربعة آلاف رجل فقسّم بينهم المال وعَزّوا وامتنعوا ، فلمّا قتل المختار تضعضعوا واحتاجوا ، ثمّ إن البلاد استوثقت لابن الزبير بعد قتل المختار ، فأرسل إلى ابن الحنفية أدخل في بيعتي وإلاّ نابذتك ، وكان رسوله عروة بن الزبير ، فقال ابن الحنفية : بؤساً لأخيك ما ألجّه فيما أسخط الله ، وأغفله عن ذات الله ، وقال لأصحابه : إنّ ابن الزبير يريد أن يثور بنا ، وقد أذنت لمن أحب الإنصراف عنا فإنّه لا ذمام عليه منا ولا لوم ، فإنّي مقيم حتى يفتح الله بيني وبين ابن الزبير وهو خير الفاتحين.

فقام إليه أبو عبد الله الجدلي وغيره فأعلموه أنّهم غير مفارقيه ، وبلغ خبره عبد الملك بن مروان فكتب إليه يعلمه انّه إن قدم عليه أحسن إليه ، وإنّه ينزل إلى الشام إن أراد حتى يستقيم أمر الناس ، فخرج ابن الحنفية وأصحابه إلى الشام ، وخرج معه كثيّر عزة وهو يقول شعراً :

٣٣٣

أنت الّذي نرضى به ونرتجي

هديت يا مهدينا ابن المهتدي

أنت إمام الحقّ لسنا نمتري

أنت ابن خير الناس من بعد النبي

يا بن علـيّ سـرو من مثـل علـيّ

فلمّا وصل مدين بلغه غدر عبد الملك بعمرو بن سعيد فندم على إتيانه وخافه ، فنزل أيلة ، وتحدث الناس بفضل محمّد وكثرة عبادته وزهده وحسن هديه ، فلمّا بلغ عبد الملك ندم على إذنه له في قدومه بلده ، فكتب إليه إنّه لا يكون في سلطاني من لم يبايعني.

فارتحل إلى مكة ونزل شعب أبي طالب ، فأرسل إليه ابن الزبير يأمره بالرحيل عنه ، وكتب إلى أخيه مصعب بن الزبير يأمره أن يسيّر نساء مَن مع ابن الحنفية ، فسيّر نساءً منهنّ امرأة أبي الطفيل عامر بن واثلة ، فجاءت حتى قدمت عليه فقال أبو الطفيل :

إن يـك سـيّرها مصعبٌ

فـإنّي إلـى مصعب متعِب

أقود الكتيبة مستـلئـمـاً

كأنّي أخـو عـزة أحـرب

وهي عدّة أبيات.

وألحّ ابن الزبير على ابن الحنفية بالانتقال إلى مكة ، فاستأذنه أصحابه في قتال ابن الزبير فلم يأذن لهم وقال : اللّهمّ ألبس ابن الزبير لباس الذل والخوف ، وسلّط عليه وعلى أشياعه من يسومهم الّذي يسوم الناس ، ثمّ سار إلى الطائف.

فدخل ابن عباس على ابن الزبير وأغلظ له فجرى بينهما كلام كرهنا ذكره (؟) وخرج ابن عباس أيضاً فلحق بالطائف »(1) .

وهذا هو الخروج الثاني إلى الطائف.

____________________

(1) الكامل في التاريخ 4 / 105 ط بولاق.

٣٣٤

كأسان أحلاهما مرّ :

لقد مرّ بنا ( أوّلاً ) ذكر خروج محمّد بن الحنفية إلى الشام بدعوة من عبد الملك بن مروان. وأنّه لمّا وصل مدين وبلغه غدر عبد الملك بعمرو بن سعيد ندم على إتيانه وخافه ، فنزل أيلة وقد ذكر جمال الدين بن يوسف الشامي من أعلام القرن السابع في كتابه ( الدر النظيم ) صورة كتاب من ابن عباس إلى عبد الملك بن مروان يوصيه بمحمّد بن الحنفية ورعاية حقه ، فقال :

« كتب عبد الله بن عباس إلى عبد الملك بن مروان لمّا عزم محمّد بن الحنفية على التوجه إلى بلاد الشام :

أمّا بعد فإنّه توجّه إلى بلادك رجل منّا ، لا يَبدأ بالسوء ، ولا يكافيء على الظلم ، ولا بعجول ولا بجهول ، سميع إلى الحقّ أصم عن الباطل ، ينوي العدل ، ويعاف الحيف ، ومعه نفر من أهل بيته وعدة رجال من شيعته ، لا يدخلون داراً إلاّ بإذن ، ولا يأكلون شيئاً إلاّ بثمن ، رهبان الليل ليوث بالنهار ، فاحفظنا فيهم رحمك الله ، فإنّ ابن الزبير قد نابذنا بالعداوة ونابذناه والسلام.

فأجابه عبد الملك بكتاب يقول فيه :

أمّا بعد فقد أتاني كتابك توصيني فيه بمن توجّه إلى ما قبلي من أهل بيتك ، فما أسرّني بصلة رحمك ، وحفظ وصيتك وكلما هويت من ذلك فمفعول ومتّبع ، فأنزل بي حوائجك رحمك الله كيف أحببت ، فلن أتحرج حاجة عرضت لك قبلي ، فإنّك قد أصبحت عظيم الحقّ عليَّ ، مكيناً لديّ ، وفقنا الله وإياك لأفضل الأمور ، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته »(1) .

____________________

(1) الدر النظيم في مناقب الأئمّة اللهاميم ج2 ( مخطوط بمكتبة السماوي ).

٣٣٥

فهذا الكتاب يكشف لنا عن عظيم بلوى ابن عباس ومحمّد بن الحنفية في تلك المحنة أيام ابن الزبير ، حتى استساغا على مضض وفضّلا تجرّع مرارة المصافاة مع عبد الملك على مجافاة ابن الزبير وهما كأسان أحلاهما مرّ.

ومرّ بنا ( ثانياً ) قول البلاذري في روايته : « ولمّا أخرج عبد الله بن الزبير محمّد بن الحنفية عن مكة أغلظ له ابن عباس وقال له : أتخرج بني عبد المطلب عن حرم الله وهم أحق به منك ».

وزاد ابن الأثير في روايته على ذلك التعتيم بما يثير التساؤل ، فقال : « فدخل ابن عباس على ابن الزبير وأغلظ له فجرى بينهما كلام كرهنا ذكره » (؟).

فليت شعري ما الّذي جرى من كلام استعظم ابن الأثير فكره ذكره (؟) إنّه التضبيب والتعتيم لإخفاء الحقائق ، وهذا ليس بمستساغ ولا بمقبول من مؤرخ ينبغي أن يستعمل عقله فيضعه فوق قلبه ، ويدرك عظم الأمانة الّتي تحمّل وزرها ، ألا ساء ما يفعلون وما يزرون وما يحكمون. ومهما كانت غلظة الكلام فلن تبلغ ما قرأناه وما سنقرؤه من محاورات جرت بينهما هي بالمحاربات الكلامية أشبه ، فثمة عتاب هو أقسى من عقاب ، وثمة جواب هو أفظع من سباب ، فلماذا الكراهة ، إنّها البلاهة!

ألم يقل ابن عباس لابن مطيع وقد أتاه من قبل ابن الزبير برسالة فيها تهديد ووعيد فقال له ابن عباس : « قل لابن الزبير يقول لك ابن عباس ثكلتك أمك »؟ وقد مرّ ذلك في الشاهد الأوّل فراجع.

ألم يقل لابن الزبير ـ كما في الشاهد الثالث وقد مرّ ـ بعد أن عيّره بالعمى فقال له : « بل أعمى الله قلبك ، وقال له : والله لأنا أفقه منك ومن أبيك »؟

٣٣٦

ألم يشبهه بالبغل حين ردّ على ابن الزبير ما قاله في رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وأهل بيته؟ راجع الشاهد الخامس.

ألم يقل لابن أبي مليكة ـ وهو قاضي ابن الزبير ومؤذنه ـ : « إنّ الله كتب بني أمية وابن الزبير محلّين »؟ وقد مرّ ذكر الخبر في ذلك.

ألم يقل لمن قال له : « إنّ ابن الزبير ينتقصك فقال : دُبى حجل(1) لو ذات سوار لطمتني(2) أما والله إنّي لأعرف دخلاًً ودُخيلاً »(3) .

فأيّ كلام أغلظ من هذا فكره ابن الأثير ذكره؟ ولن يبق الجواب مقبوراً في الصدور إلى يوم النشور ، ما دمنا نقرأ حواراً جرى بين ابن الزبير وبين ابن عباس بعد مقتل المختار.

فقد رواه البلاذري في أنسابه وباقتضاب : قالوا : « وقال عبد الله بن الزبير لابن عباس وأخبره بأمر المختار ، فرأى منه توجّعاً وإكباراً لقتله ، أتتوجع لابن أبي عبيد ، تكره أن تسمّيه كذّاباً؟ فقال له : ما جزاؤه ذلك منا ، قتل قتلتنا وطلب بدمائنا وشفى غليل صدورنا »(4) .

وإلى القارئ ما جرى بتفصيل أوفى ـ وهو الّذي أشار إليه ابن الأثير بقوله : « فدخل ابن عباس على ابن الزبير وأغلظ له فجرى بينهما كلام كرهنا ذكره » فلئن كره هو ذكره ، فإنّ الخوارزمي الحنفي المتوفى سنة 568 هـ لم يكره ذلك فقد أورده بنصه وفصه ـ

____________________

(1) الدبى : المشي رويداً والحجل هو نزو الغراب في مشيته يعني ان ابن الزبير نزا في مشيته نحو الخلافة.

(2) مثل يضرب ، الكريم يظلمه دنيء لئيم فلا يقدر على احتمال ظلمه ، ويعني أنّه لو ظلمني من هو كفؤ لي لهان عليّ ، ولكن ظلمني من هو دوني ودنيء.

(3) أنساب الأشراف ( ترجمة ابن عباس ) بخطي برقم / 79.

(4) أنساب الأشراف 5 / 265 ط أفست المثنى ببغداد ، وقارن ابن الأثير 4 / 117 ط بولاق.

٣٣٧

ابن الزبير يشتد على بني هاشم بعد مقتل المختار :

قال الخوارزمي في مقتل الحسين : « ثمّ بعث مصعب برأس المختار إلى عبد الله بن الزبير ، فأمر عبد الله برأس المختار فنصب بالأبطح ، وكان قبل ذلك أبى أن ينصب محمّد بن الحنفية رأس ابن زياد خارج الحرم. ثمّ أرسل عبد الله ابن الزبير إلى ابن عباس فقال له : يا بن عباس ان الله قد قتل المختار الكذاب. فقال ابن عباس : رحم الله المختار ، فقال : كأنّك لا تحب أن يقال الكذاب؟ قال : فإن المختار كان محباً لنا عارفاً بحقنا ، وإنّما خرج بسيفه طالباً لدمائنا ، وليس جزاؤه منّا أن نشتمه ونسمّيه كذّاباً ».

وقال : « وبقي عبد الله بن الزبير يجدّ في مناوأة محمّد بن الحنفية وابن عباس وبقية أهل البيت حتى حبسهما إذ لم يجيباه إلى البيعة ، وكان قبل ذلك حبس محمّد ابن الحنفية في قبة الشراب ، فعلم المختار بذلك فأرسل إليه أبا عبد الله الجدلي في جيش عظيم فخلّصه ، وتوعّد ابن الزبير إن أخافه ، فأمسك ابن الزبير إلى ان قتل المختار ، فعاد إلى ما كان عليه من العداوة ، حتى قال يوماً لابن عباس : انّه قد قتل المختار الكذاب الّذي كنتم تمدون أعينكم إلى نصرته.

فقال ابن عباس : دع عنك المختار ، فإنّه قد بقيت لك عقبة تأتيك من الشام ، فإذا قطعتها فأنت أنت ، وإلاّ فأنت أهون من كلب في درب الجامع. فغضب وقال : إنّي لم أعجب منك ، ولكن أعجب مني إذ أدعك تتكلم بين يدي بملء فمك ، فتبسم ابن عباس وقال : تكلمت والله بين يدي رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، وعند أبي بكر غلاماً ، وعند عمر وعثمان وعليّ رجلاً ، وكانوا يرونني أحق من نطق ، يسمعون رأيي ، ويقبلون مشورتي ، وهؤلاء الّذين ذكرتهم بعد رسول الله خير منك ومن

٣٣٨

أبيك ، فازداد غضبه وقال له : لقد علمتُ أنّك ما زلتَ لي ولأهل بيتي مبغضاً ، ولا زلتُ لكم يا بني هاشم منذ نشأت مبغضاً ، ولقد كتمتُ بغضكم أربعين سنة.

فقال ابن عباس له : فازدد في بغضنا فوالله ما نبالي أحببتنا أم أبغضتنا.

فقال ابن الزبير : أخرج عني فلا أراك بعد هذا تقربني.

فقال ابن عباس : أنا زاهد فيك من أن تراني عندك.

ثمّ عاد ابن الزبير فقال : دع عنك هذا وارجع إلى ابن عمك ـ يعني محمّد ابن عليّ ( عليه السلام ) ـ وقل له فليخرج من جواري ، لا يتربص فإني لا أظنه سالماً مني أو يصيبه ظُفر.

فقال ابن عباس : مهلاً يا بن الزبير فإنّ مع اليوم غداً.

فقال ابن الزبير : صدقت مع اليوم غد ، وليس يجب عليك أن تكلمني في رجل ضعيف سخيف ، ليس له قدم ولا أثر محمود.

قال فتنمّر ( فتميز ظ ) ابن عباس غضباً وقال : ليس على هذا صبر يا بن الزبير ، والله إنّ أباه لخير من أبيك ، وإن أسرته لخير من أسرتك ، وإنّه في نفسه لخير منك ، وبعد فرماه الله بك إن كان شراً منك في الدنيا والدين.

ثمّ نهض مغضباً وخرج وهو يقول : لأنملة من محمّد بن الحنفية أحبّ إليَّ من ابن الزبير وآل الزبير ، إنّه والله لأوفر منهم عقلاً ، وأفضل ديناً ، وأصدق حياءً ، وأشدّ ورعاً ».

قال الخوارزمي : « ثمّ خرج ابن الزبير في عدة من أصحابه ، وقام في الناس خطيباً فقال : أيها الناس إنّ فيكم رجلاً أعمى الله بصره ، يزري على عائشة أم المؤمنين ، ويعيب طلحة والزبير حواري رسول الله ـ يريد بذلك ابن عباس ـ وكان ابن عباس حاضراً في المسجد ، فلمّا سمعه وثب قائماً وقال : يا بن الزبير أمّا ما

٣٣٩

ذكرت من أم المؤمنين عائشة ، فإنّ أوّل من هتك حجابها أنت وأبوك وخالك طلحة ، وقد أمرها الله أن تقرّ في بيتها فلم تفعل ، فتجاوز الله عنها ورحمها ، وأمّا أنت وأبوك وخالك فقد لقيناكم يوم الجمل فإن كنا مؤمنين فقد كفرتم بقتالكم المؤمنين ، وإن كنّا كفاراً فقد كفرتم بفراركم من الزحف(1) .

فقال ابن الزبير : أخرج عني ولا تجاورني.

فقال ابن عباس : نعم والله لأخرجن خروج من يقلاك ويذمّك.

ثمّ قال ابن عباس : اللّهمّ إنّك قادر على خلقك ، قائم على كلّ نفس بما كسبت ، اللّهمّ إن هذا الرجل قد أبدى لنا العداوة والبغضاء ، اللّهمّ فارمه منك بحاصب ، وسلّط عليه من لا يرحمه »(2) .

فمن هذا النص الّذي رواه لنا الخوارزمي الحنفي يمكننا معرفة ما أعرض ابن الأثير وغيره عن ذكره واكتفى بالقول : « وأغلظ له فجرى بينهما كلام كرهنا ذكره » ، ومن هذا النص أيضاً عرفنا مبلغ الحقد المتأصل في نفسية ابن الزبير على ابن عباس والمتخوف من لذع لسانه ، وحجة بيانه ، حيث خرج في عدّة من أصحابه ولم يخرج وحده ، فقام في الناس خطيباً فذكر ابن عباس بما يهيج عليه العامة ، وتشويه صفحته لديهم ، كردة فعل غاضبة ، ناتجة عمّا أسمعه ابن عباس من قوارص كلمه وقوارع حججه ، ولكنه باء بالفشل حتى لم يستطع ابن الزبير أن يردّ عليه حججه ، فقال له اخرج عني ولا تجاورني.

____________________

(1) وقد لقن نافع بن الأزرق الخارجي هذه الحجة من ابن عباس ، فذكرها في كتابه إلى ابن الزبير ، وقد ذكره ابن عبد ربه في العقد الفريد 2 / 395 تح ـ أحمد أمين : وان القول فيك وفيهما لكما قال ابن عباس ( رحمه الله )

(2) مقتل الحسين ( عليه السلام ) 2 / 250 ـ 251 مط الزهراء في النجف الأشرف.

٣٤٠